kimo17
29-06-2005, 10:15 AM
المقاومة .. إرادة وإدارة
منقول عن " الكفاح الشعبي"
بقلم: د . محمد عيّاش الكبيسي
تنطلق المقاومة الشعبية بإرادة ذاتية تهدف الى طرد المحتل واستعادة السيادة والكرامة , إلا أنها غالبا ما تتخذ واحدا من النمطين الآتيين :
الأول : مقاومة شعبية منظمة تنتج عن قرار سياسي واضح تتبناه قيادة فردية أو جماعية , وهذا النمط يحتاج الى وقت ليس بالقصير لبناء هيكل المقاومة التنظيمي وتوزيع الأدوار والمهام ثم عملية التنفيذ والتوسع , ومع الإيجابيات الكبيرة لهذا النمط من حيث متانة البناء الداخلي والاستغلال الأفضل للطاقات والإمكانيات إلا أنه يمنح الفرصة الكافية للمحتل لبناء قواعده وتجنيد عملائه , وهذا النمط يتشكل عادة إما في حالة ضعف الوعي الشعبي وبالتالي ضعف ردة فعله على الاحتلال مما يستدعي من الصفوة الواعية أن تقود المقاومة وعيا وتخطيطا وتنفيذا , وإما أن تكون هنالك حالات من الفشل للمقاومة العفوية ومع مرور الزمن تظهر قيادات تحاول أن تستوعب التجارب الماضية لتقوم بتنظيم مقاومة جديدة على أسس متينة من الوعي والتنظيم , وربما هذا ما يفسر لنا تأخر انطلاقة حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين ثم ظهورها بهذا الشكل الباهر.
الثاني : مقاومة شعبية عفوية تنطلق فور تعرض البلد للاحتلال تستند الى وعي عام بأهداف المحتل الحقيقية مع ثقة عالية بالإمكانات والقدرات الذاتية , وهذا ما حصل اليوم في العراق حيث اختفى الفاصل الزمني أو يكاد بين بداية الاحتلال وبداية المقاومة ! وهذا النمط بالطبع لا يحتاج الى من يصنع فيه ( إرادة المقاومة) كما هو الحال في النمط الأول , ولكنه بحاجة الى حد الضرورة الى القيادة أو البرنامج القادر على (إدارة المقاومة), حيث أن هذا النمط يتكون في العادة من مجاميع محلية صغيرة في كل مدينة أو قرية أو منطقة وتنطلق بقرارات شخصية كردة فعل طبيعية على الاحتلال , ومن أهم إيجابيات هذا النمط :
1- عدم إعطاء فرصة للمحتل لالتقاط أنفاسه وترتيب أوراقه وتجنيد عملائه , وفي هذا الوضع تكون المقاومة قد كسبت ثقلا كبيرا في توازن القوى يتمثل بالمعرفة الدقيقة بأرض المعركة ومحيطها في مقابل الجهل والتخبط الذي يسيطر على قرارات المحتل وتحركاته الميدانية الثقيلة مما قد يصيبه بنوع من الدوار ثم السقوط في المستنقع المهلك وهذا ما بدأت مؤشراته تتضح في الساحة العراقية وباعترافات صريحة من رموز البيت الأبيض .
2- سرعة المقاومة في السيطرة على مخازن الأسلحة , فبعد انهيار الجيش في ميدان المواجهة المكشوفة وهذا أمر طبيعي نتيجة للاختلال الكبير في ميزان القوى كان يمكن لقوات الاحتلال أن تستولي على كل تلك الأسلحة أو تدمرها لو أتيحت لها الفرصة وهذا ما بدأت به بالفعل في بعض المناطق , إلا أن سرعة تحرك المقاومة حال دون ذلك , وفي حالة مثل العراق كان من الممكن أن لا تكون هناك أي مقاومة لو أتيحت الفرصة للأمريكان لتدمير أسلحة الجيش العراقي حيث لن تجرؤ أي دولة في العالم أن توفر السلاح للمقاومة العراقية لا سيما والعالم يعيش اليوم عصر القطب الأوحد أو عصر( الإمبراطورية الشريرة الوحيدة ) , لقد كنت أسمع بعض الفتاوى والنصائح الغريبة للشعب العراقي ومقاومته الإسلامية الوطنية التي تدعوهم الى التريث ومنح الفرصة للمحتل !!ولكن اتضح لكل مراقب أن المقاومة كانت أوعى من هؤلاء الناصحين , وهذا من توفيق الله ورعايته لهذه المقاومة المباركة وفي كل فصل من فصولها .
3- إن الانطلاقة الشعبية العفوية وتشكيل المجاميع الصغيرة وبقيادات ميدانية محلية وبأسماء متعددة ومتنوعة جعل من هذه المقاومة تستعصي على الاختراق ! وربما لو كانت المقاومة بقيادة مركزية واحدة لاختلف الأمر لا سيما أن المحتل يمتلك من وسائل الاتصال والاختراق والتجنيد الشيء الذي لا قبل للمقاومة ولا لأي دولة في العالم به , ومن الغريب أيضا أن نسمع من بعض المثقفين وحتى من بعض الوعاظ والمفتين من ينتقد المقاومة العراقية لعدم قدرتها على تشكيل أو إظهار قيادتها المركزية الموحدة !!وسمعت من بعضهم من يشكك بشرعية المقاومة في حال عدم معرفة القائد !! ولكن هؤلاء أنفسهم ربما يلومون المجاهدين الفلسطينيين على ظهور قياداتهم وكشف أسماء الإستشهاديين من كتائبهم لأنهم يصبحون عرضة لحملات الانتقام والتصفية !! إن المقاومة هنا أو هناك عليها أن لا تلتفت كثيرا لمثل هذه الانتقادات أو( النصائح) فالذي في الميدان أعرف بكثير بمتطلبات الميدان من جموع المتفرجين .
إن المقاومة العراقية التي تميزت عن باقي المقاومات بسرعتها وعفويتها مما أعانها على حرق كثير من المراحل في غضون السنتين الماضيتين من عمرها لمطالبة اليوم أن تخطو الخطوات الأوسع التي تتناسب مع طول المسافة التي قطعتها ما بين نقطة الانطلاق الى الهدف المنشود حيث دخلت المقاومة في مرحلة متطورة تتطلب قدرا كبيرا من (الإدارة الواعية) إضافة الى ( الإرادة الدافعة) , ومن أهم معالم هذه المرحلة :
1- الاعتراف الضمني من قبل العدو بوجود مقاومة وطنية حقيقية , فبعد أن كانت نغمة ( محاربة الإرهاب )هي النغمة الوحيدة التي يعزف عليها المحتل صرنا نسمع الى جانبها مصطلحات أخرى سواءا من الإدارة الأمريكية نفسها أو من بعض الذين جاءوا مع أو خلف الدبابات الأمريكية !! بل صرنا نسمع عن لقاءات ومفاوضات مع ممثلين عن المقاومة !!وهذه حتى إن لم تكن دقيقة فإن تسريبها وترويجها يمهد الرأي العام الأمريكي والعالمي لتقبل حالة جديدة قد تكون المخلص الوحيد للغزاة من ورطتهم التاريخية الكبيرة .
2- لما كانت هيئة علماء المسلمين تطالب بجدولة الانسحاب كحق عراقي مشروع وكشرط منطقي للمشاركة في العملية السياسية كان بعض الأطراف في الداخل والخارج يرون أن هذا المطلب غير واقعي وغير قابل للتنفيذ في ظل العنجهية الأمريكية وتفردها بأسباب القوة!! لكن هذا المطلب بدأ يتسرب عبر وسائل الإعلام المختلفة من داخل أروقة البيت الأبيض !! وهنالك تصريحات عن انسحابات جزئية مطلع السنة القادمة .
3- لوحظ في الآونة الأخيرة اعترافات أمريكية ببعض خسائرها البشرية ما بين أربعة الى سبعة جنود قتلى في اليوم الواحد وهذا وإن كان أقل من الرقم الحقيقي بكثير لكنه نسبيا يعد تطورا ربما يفسر عن رغبة الإدارة الأمريكية لتقديم مبررات متدرجة لإعلان الانسحاب وفشل الحملة الصليبية الجديدة !!لا سيما أن هذه الاعترافات قد تزامنت مع تقارير أمريكية تقول إن الأمريكان تعرضوا خلال السنتين الماضيتين الى أكثر من سبع وعشرين ألف عملية مما خلف سبعة عشر ألف معاق وأكثر من ألف وسبعمائة قتيل ومع أن هذه أيضا لا تعبر عن الأرقام الحقيقية لكنها تصب في المغزى نفسه.
إن هذه المؤشرات تدل بوضوح على أن الصراع قد دخل مرحلة جديدة , وأن المقاومة قد تمكنت من قطع أشواط واسعة في هذا الصراع في فترة زمنية قياسية , كما أن المقاومة تمكنت لحد الآن أن تكيف وتطور نفسها مع التطورات الميدانية المتسارعة حيث خاضت أكثر من معركة كبرى في الفلوجة والقائم وتعاملت بشكل أسطوري مع الحشود الضخمة فيما سمي بعملية البرق والرمح وغيرهما , ومعنى هذا أن المقاومة قد انتقلت فعلا الى مستوى عال من التنظيم والتنسيق وتوزيع الأدوار والمهام إذ لا يمكن لفصائل ومجاميع منفصلة أن تدير كل هذه المعارك التاريخية الكبيرة , وهذا ما أقلق الغزاة وجعلهم يفكرون جديا بالبحث عن مخرج ما , إلا أن المراحل التي بدأت تنضج بسرعة قياسية تحتم على المقاومة بأن تسارع في خطوات مدروسة لتوحيد صفوفها واختيار قيادتها وانبثاق مشروعها السياسي الموحد تحقيقا لقوله تعالى : ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) الصف/4 , وتجنبا لما حذرنا الله منه بقوله : ( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) الأنفال/46 , وإذا كان التوحد واجبا فإن مقدمات هذا التوحد وممهداته واجبة أيضا لأنه ( ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب ) والتوحد لا يكون بقرار عاطفي أو بمجرد استشعار الخوف والخطر بل لا بد من الاتفاق على بنود واضحة تشكل المرجعية الشرعية والثقافية والقضائية لكافة المجاهدين على اختلاف عناوينهم ومناطقهم واتجاهاتهم , ومن هذه البنود التي من الممكن أن تكون مادة أولية للدراسة والتشاور :
1- الشعب العراقي شعب مسلم والمقاومة لا يمكن إلا أن تمثل هوية هذا الشعب وبالتالي فالتأكيد على إسلامية المقاومة يشكل القاعدة الأولى التي تلتقي عليها كل فصائل المقاومة , وإن نسيان شيء ما من ثوابت الإسلام يشكل خطرا على وحدة المقاومة ومستقبلها , فالله سبحانه يقول ( فنسوا حظا مما ذكّروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) المائدة /14 , وإسلامية المقاومة لا تعني هضم أصحاب الديانات الأخرى حقوقهم , فحق المواطنة مكفول لهم ولا يصح بالمقابل أن تطالب أي أقلية في العالم بمحو هوية الدولة التي تعيش فيها , ومعنى إسلامية المقاومة أيضا لا يعني حرمان الأقليات الأخرى من حق الدفاع عن بلدهم ومقاومة الغزاة الأجانب فهذا واجب وطني وهم شركاء مهمون في هذا الوطن .
2- إن الخلاف في وجهات النظر وارد جدا فيما هو دون القطعيات والثوابت , والقطعيات لا تحدد على أساس الرؤية الداخلية لكل اتجاه أو مجموعة , فكل ما اختلف فيه الفقهاء المعتبرون والمفسّرون والمحدّثون يصنف ضمن دائرة الاجتهاد سواءا كانت نتيجة هذا الاجتهاد صوابا أم خطأ , والأصل في ذلك حسن الظن بالمسلمين لا سيما أننا رأينا في تأريخنا الطويل كيف أن الله نصر المسلمين بقيادة المعتصم ثم نصرهم بقيادة الملك المظفر وبدعم الامام ابن تيمية والامام العز ابن عبد السلام ,ثم نصرهم بقيادة صلاح الدين الأيوبي , ولم يكن هؤلاء ينتسبون إلى مذهب أو توجه واحد , ثم جاء محمد الفاتح الذي فتح الله على يديه القسطنطينية تحقيقا لبشارة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال ( لتفتحنّ القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش )المستدرك على الصحيحين /4/ 468 ومحمد الفاتح كان حنفيا وصوفيا ولم يكن كالمعتصم وابن تيمية من حيث التوجه المذهبي , لكن هؤلاء جميعهم كانوا مسلمين مجتهدين قد يصيبون في مسألة ويخطئون في أخرى وليس من شروط النصر أن يكون المجاهد معصوما من الخطأ في الاجتهاد إذا سلمت القطعيات والثوابت الشرعية . 3 – إن حسن الظن بالمجاهدين واجب شرعي , وتتبع الزلات والسقطات لا يجوز فليس العصمة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام , وفي الحالة التي نعيشها اليوم مع ضعف التوعية الشرعية وانتشار الجهل والفساد لا بد أن نتلطف بالأمة فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من لعن شارب الخمر وقال(لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ) صحيح البخاري 6/2489 فإذا كان شارب الخمر من الممكن أن يكون محبا لله ورسوله فكيف بالمسلم الذي يضحي بدمه وماله ووقته ؟! وفي حال العدوان الكافر الأجنبي يتعين الحفاظ على المسلمين من الفتنة والضياع بل والتعاون مع المخطئين والمذنبين منهم , يقول شيخ الاسلام ابن تيمية ( ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة القتال مع كل بر وفاجر ..لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار أو مع عسكر كثير الفجور فإنه لا بد من أحد أمرين إما ترك الغزو معهم فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضررا في الدين والدنيا ..) مجموع الفتاوى 28/506 ولا شك أن ابن تيمة أفتى بذلك عن علم بالنص وعلم بالواقع وهنا يتحدث رحمه الله عن أيام التتار , وما أشبه الليلة بالبارحة مع الفارق أننا والحمد لله نرى غالب المجاهدين ملتزمين بأصول الشرع مبتعدين عن الكبائر في الأقل وإذا كان هناك بعض الزلات في الرأي أو السلوك فهذا يبقى أقل بكثير من الصورة التي يتحدث عنها ابن تيمية .
4- الهدف الذي يجمع كل فصائل المقاومة بل كل مكونات الشعب العراقي هو طرد المحتل وانتزاع السيادة الكاملة , وبقدر وضوح هذا الهدف تتضح قدرة المقاومة على لمّ شملها وتوحيد صفها أما المنافسات الحزبية والمذهبية في ظل الاحتلال فإنه قطعا لا يصب إلا في خدمة المحتل , وبعد خروج المحتل لا بأس بالمنافسة على أساس البرامج والكفاءات وليس بالاحتراب الداخلي , وأمامنا تجارب من المنافسات المسلحة في بلاد إسلامية عزيزة أدّت إلى ضياع البلاد وخضوعها تحت الاحتلال الأجنبي المباشر وبذلك ذهبت دماء الشهداء وجهاد المجاهدين في فوضى لها أول وليس لها آخر , وهذا ما نجزم أن المجاهدين في العراق قد استوعبوا منه الدرس الكافي والمؤشرات الميدانية كلها بهذا الاتجاه .
5- إن المقاومة ينبغي أن تلتف حول قيادة من أهل البلد ,وليس ذلك لأننا نفرق بين العراقي وغيره إسلاميا فقد يكون المسلم البعيد هو أقرب الى الله وأكرم ولكن هذا شيء والواقع الذي نعيش فيه اليوم شيء آخر , والقائد في الاسلام لا تعينه السماء ولا تفرضه على الناس وإنما الأمر شورى ( وأمرهم شورى بينهم )الشورى /38 وينظر فيه مصالح العباد والبلاد , وقطعا ليس هناك أي مصلحة اليوم من إبراز قيادات لا يعرفها أغلب الناس , وربما يرى المحتل في إبراز هذه القيادات في المقاومة العراقية متنفسا له لتمرير الكثير من مقولاته المغلوطة ومنها : أن الشعب العراقي يرحب بالغزاة والمقاومة لا تمثل إرادة الشعب العراقي وإنما تمثل إرادات وافدة من خارج الحدود .
6- لا يجوز لأي مجموعة أن تعتقد أنها هي جماعة المسلمين مهما كان جهادها وإخلاصها ولكنها جماعة من المسلمين , وهذا تنبني عليه أمور شرعية كثيرة في البيعة والإمرة والطاعة والتعامل مع بقية المجموعات , فالبيعة على الجهاد في مجموعة معينة ومكان معين شيء والبيعة على إمامة جماعة المسلمين شيء آخر , ومع عدم وجود إمام متفق عليه فلا بد من التعاون بين كل المجموعات والتناصح والتشاور وحسن الظن لأنه ليس لأحدها حجة أو سلطان على الآخر وبعد ذلك من الممكن أن تلتحم هذه المجموعات في إطار الجماعة الواحدة التي التي أمرنا الاسلام بها .
د. محمد عياش الكبيسي
منقول عن " الكفاح الشعبي"
بقلم: د . محمد عيّاش الكبيسي
تنطلق المقاومة الشعبية بإرادة ذاتية تهدف الى طرد المحتل واستعادة السيادة والكرامة , إلا أنها غالبا ما تتخذ واحدا من النمطين الآتيين :
الأول : مقاومة شعبية منظمة تنتج عن قرار سياسي واضح تتبناه قيادة فردية أو جماعية , وهذا النمط يحتاج الى وقت ليس بالقصير لبناء هيكل المقاومة التنظيمي وتوزيع الأدوار والمهام ثم عملية التنفيذ والتوسع , ومع الإيجابيات الكبيرة لهذا النمط من حيث متانة البناء الداخلي والاستغلال الأفضل للطاقات والإمكانيات إلا أنه يمنح الفرصة الكافية للمحتل لبناء قواعده وتجنيد عملائه , وهذا النمط يتشكل عادة إما في حالة ضعف الوعي الشعبي وبالتالي ضعف ردة فعله على الاحتلال مما يستدعي من الصفوة الواعية أن تقود المقاومة وعيا وتخطيطا وتنفيذا , وإما أن تكون هنالك حالات من الفشل للمقاومة العفوية ومع مرور الزمن تظهر قيادات تحاول أن تستوعب التجارب الماضية لتقوم بتنظيم مقاومة جديدة على أسس متينة من الوعي والتنظيم , وربما هذا ما يفسر لنا تأخر انطلاقة حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين ثم ظهورها بهذا الشكل الباهر.
الثاني : مقاومة شعبية عفوية تنطلق فور تعرض البلد للاحتلال تستند الى وعي عام بأهداف المحتل الحقيقية مع ثقة عالية بالإمكانات والقدرات الذاتية , وهذا ما حصل اليوم في العراق حيث اختفى الفاصل الزمني أو يكاد بين بداية الاحتلال وبداية المقاومة ! وهذا النمط بالطبع لا يحتاج الى من يصنع فيه ( إرادة المقاومة) كما هو الحال في النمط الأول , ولكنه بحاجة الى حد الضرورة الى القيادة أو البرنامج القادر على (إدارة المقاومة), حيث أن هذا النمط يتكون في العادة من مجاميع محلية صغيرة في كل مدينة أو قرية أو منطقة وتنطلق بقرارات شخصية كردة فعل طبيعية على الاحتلال , ومن أهم إيجابيات هذا النمط :
1- عدم إعطاء فرصة للمحتل لالتقاط أنفاسه وترتيب أوراقه وتجنيد عملائه , وفي هذا الوضع تكون المقاومة قد كسبت ثقلا كبيرا في توازن القوى يتمثل بالمعرفة الدقيقة بأرض المعركة ومحيطها في مقابل الجهل والتخبط الذي يسيطر على قرارات المحتل وتحركاته الميدانية الثقيلة مما قد يصيبه بنوع من الدوار ثم السقوط في المستنقع المهلك وهذا ما بدأت مؤشراته تتضح في الساحة العراقية وباعترافات صريحة من رموز البيت الأبيض .
2- سرعة المقاومة في السيطرة على مخازن الأسلحة , فبعد انهيار الجيش في ميدان المواجهة المكشوفة وهذا أمر طبيعي نتيجة للاختلال الكبير في ميزان القوى كان يمكن لقوات الاحتلال أن تستولي على كل تلك الأسلحة أو تدمرها لو أتيحت لها الفرصة وهذا ما بدأت به بالفعل في بعض المناطق , إلا أن سرعة تحرك المقاومة حال دون ذلك , وفي حالة مثل العراق كان من الممكن أن لا تكون هناك أي مقاومة لو أتيحت الفرصة للأمريكان لتدمير أسلحة الجيش العراقي حيث لن تجرؤ أي دولة في العالم أن توفر السلاح للمقاومة العراقية لا سيما والعالم يعيش اليوم عصر القطب الأوحد أو عصر( الإمبراطورية الشريرة الوحيدة ) , لقد كنت أسمع بعض الفتاوى والنصائح الغريبة للشعب العراقي ومقاومته الإسلامية الوطنية التي تدعوهم الى التريث ومنح الفرصة للمحتل !!ولكن اتضح لكل مراقب أن المقاومة كانت أوعى من هؤلاء الناصحين , وهذا من توفيق الله ورعايته لهذه المقاومة المباركة وفي كل فصل من فصولها .
3- إن الانطلاقة الشعبية العفوية وتشكيل المجاميع الصغيرة وبقيادات ميدانية محلية وبأسماء متعددة ومتنوعة جعل من هذه المقاومة تستعصي على الاختراق ! وربما لو كانت المقاومة بقيادة مركزية واحدة لاختلف الأمر لا سيما أن المحتل يمتلك من وسائل الاتصال والاختراق والتجنيد الشيء الذي لا قبل للمقاومة ولا لأي دولة في العالم به , ومن الغريب أيضا أن نسمع من بعض المثقفين وحتى من بعض الوعاظ والمفتين من ينتقد المقاومة العراقية لعدم قدرتها على تشكيل أو إظهار قيادتها المركزية الموحدة !!وسمعت من بعضهم من يشكك بشرعية المقاومة في حال عدم معرفة القائد !! ولكن هؤلاء أنفسهم ربما يلومون المجاهدين الفلسطينيين على ظهور قياداتهم وكشف أسماء الإستشهاديين من كتائبهم لأنهم يصبحون عرضة لحملات الانتقام والتصفية !! إن المقاومة هنا أو هناك عليها أن لا تلتفت كثيرا لمثل هذه الانتقادات أو( النصائح) فالذي في الميدان أعرف بكثير بمتطلبات الميدان من جموع المتفرجين .
إن المقاومة العراقية التي تميزت عن باقي المقاومات بسرعتها وعفويتها مما أعانها على حرق كثير من المراحل في غضون السنتين الماضيتين من عمرها لمطالبة اليوم أن تخطو الخطوات الأوسع التي تتناسب مع طول المسافة التي قطعتها ما بين نقطة الانطلاق الى الهدف المنشود حيث دخلت المقاومة في مرحلة متطورة تتطلب قدرا كبيرا من (الإدارة الواعية) إضافة الى ( الإرادة الدافعة) , ومن أهم معالم هذه المرحلة :
1- الاعتراف الضمني من قبل العدو بوجود مقاومة وطنية حقيقية , فبعد أن كانت نغمة ( محاربة الإرهاب )هي النغمة الوحيدة التي يعزف عليها المحتل صرنا نسمع الى جانبها مصطلحات أخرى سواءا من الإدارة الأمريكية نفسها أو من بعض الذين جاءوا مع أو خلف الدبابات الأمريكية !! بل صرنا نسمع عن لقاءات ومفاوضات مع ممثلين عن المقاومة !!وهذه حتى إن لم تكن دقيقة فإن تسريبها وترويجها يمهد الرأي العام الأمريكي والعالمي لتقبل حالة جديدة قد تكون المخلص الوحيد للغزاة من ورطتهم التاريخية الكبيرة .
2- لما كانت هيئة علماء المسلمين تطالب بجدولة الانسحاب كحق عراقي مشروع وكشرط منطقي للمشاركة في العملية السياسية كان بعض الأطراف في الداخل والخارج يرون أن هذا المطلب غير واقعي وغير قابل للتنفيذ في ظل العنجهية الأمريكية وتفردها بأسباب القوة!! لكن هذا المطلب بدأ يتسرب عبر وسائل الإعلام المختلفة من داخل أروقة البيت الأبيض !! وهنالك تصريحات عن انسحابات جزئية مطلع السنة القادمة .
3- لوحظ في الآونة الأخيرة اعترافات أمريكية ببعض خسائرها البشرية ما بين أربعة الى سبعة جنود قتلى في اليوم الواحد وهذا وإن كان أقل من الرقم الحقيقي بكثير لكنه نسبيا يعد تطورا ربما يفسر عن رغبة الإدارة الأمريكية لتقديم مبررات متدرجة لإعلان الانسحاب وفشل الحملة الصليبية الجديدة !!لا سيما أن هذه الاعترافات قد تزامنت مع تقارير أمريكية تقول إن الأمريكان تعرضوا خلال السنتين الماضيتين الى أكثر من سبع وعشرين ألف عملية مما خلف سبعة عشر ألف معاق وأكثر من ألف وسبعمائة قتيل ومع أن هذه أيضا لا تعبر عن الأرقام الحقيقية لكنها تصب في المغزى نفسه.
إن هذه المؤشرات تدل بوضوح على أن الصراع قد دخل مرحلة جديدة , وأن المقاومة قد تمكنت من قطع أشواط واسعة في هذا الصراع في فترة زمنية قياسية , كما أن المقاومة تمكنت لحد الآن أن تكيف وتطور نفسها مع التطورات الميدانية المتسارعة حيث خاضت أكثر من معركة كبرى في الفلوجة والقائم وتعاملت بشكل أسطوري مع الحشود الضخمة فيما سمي بعملية البرق والرمح وغيرهما , ومعنى هذا أن المقاومة قد انتقلت فعلا الى مستوى عال من التنظيم والتنسيق وتوزيع الأدوار والمهام إذ لا يمكن لفصائل ومجاميع منفصلة أن تدير كل هذه المعارك التاريخية الكبيرة , وهذا ما أقلق الغزاة وجعلهم يفكرون جديا بالبحث عن مخرج ما , إلا أن المراحل التي بدأت تنضج بسرعة قياسية تحتم على المقاومة بأن تسارع في خطوات مدروسة لتوحيد صفوفها واختيار قيادتها وانبثاق مشروعها السياسي الموحد تحقيقا لقوله تعالى : ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) الصف/4 , وتجنبا لما حذرنا الله منه بقوله : ( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) الأنفال/46 , وإذا كان التوحد واجبا فإن مقدمات هذا التوحد وممهداته واجبة أيضا لأنه ( ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب ) والتوحد لا يكون بقرار عاطفي أو بمجرد استشعار الخوف والخطر بل لا بد من الاتفاق على بنود واضحة تشكل المرجعية الشرعية والثقافية والقضائية لكافة المجاهدين على اختلاف عناوينهم ومناطقهم واتجاهاتهم , ومن هذه البنود التي من الممكن أن تكون مادة أولية للدراسة والتشاور :
1- الشعب العراقي شعب مسلم والمقاومة لا يمكن إلا أن تمثل هوية هذا الشعب وبالتالي فالتأكيد على إسلامية المقاومة يشكل القاعدة الأولى التي تلتقي عليها كل فصائل المقاومة , وإن نسيان شيء ما من ثوابت الإسلام يشكل خطرا على وحدة المقاومة ومستقبلها , فالله سبحانه يقول ( فنسوا حظا مما ذكّروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) المائدة /14 , وإسلامية المقاومة لا تعني هضم أصحاب الديانات الأخرى حقوقهم , فحق المواطنة مكفول لهم ولا يصح بالمقابل أن تطالب أي أقلية في العالم بمحو هوية الدولة التي تعيش فيها , ومعنى إسلامية المقاومة أيضا لا يعني حرمان الأقليات الأخرى من حق الدفاع عن بلدهم ومقاومة الغزاة الأجانب فهذا واجب وطني وهم شركاء مهمون في هذا الوطن .
2- إن الخلاف في وجهات النظر وارد جدا فيما هو دون القطعيات والثوابت , والقطعيات لا تحدد على أساس الرؤية الداخلية لكل اتجاه أو مجموعة , فكل ما اختلف فيه الفقهاء المعتبرون والمفسّرون والمحدّثون يصنف ضمن دائرة الاجتهاد سواءا كانت نتيجة هذا الاجتهاد صوابا أم خطأ , والأصل في ذلك حسن الظن بالمسلمين لا سيما أننا رأينا في تأريخنا الطويل كيف أن الله نصر المسلمين بقيادة المعتصم ثم نصرهم بقيادة الملك المظفر وبدعم الامام ابن تيمية والامام العز ابن عبد السلام ,ثم نصرهم بقيادة صلاح الدين الأيوبي , ولم يكن هؤلاء ينتسبون إلى مذهب أو توجه واحد , ثم جاء محمد الفاتح الذي فتح الله على يديه القسطنطينية تحقيقا لبشارة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال ( لتفتحنّ القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش )المستدرك على الصحيحين /4/ 468 ومحمد الفاتح كان حنفيا وصوفيا ولم يكن كالمعتصم وابن تيمية من حيث التوجه المذهبي , لكن هؤلاء جميعهم كانوا مسلمين مجتهدين قد يصيبون في مسألة ويخطئون في أخرى وليس من شروط النصر أن يكون المجاهد معصوما من الخطأ في الاجتهاد إذا سلمت القطعيات والثوابت الشرعية . 3 – إن حسن الظن بالمجاهدين واجب شرعي , وتتبع الزلات والسقطات لا يجوز فليس العصمة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام , وفي الحالة التي نعيشها اليوم مع ضعف التوعية الشرعية وانتشار الجهل والفساد لا بد أن نتلطف بالأمة فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من لعن شارب الخمر وقال(لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ) صحيح البخاري 6/2489 فإذا كان شارب الخمر من الممكن أن يكون محبا لله ورسوله فكيف بالمسلم الذي يضحي بدمه وماله ووقته ؟! وفي حال العدوان الكافر الأجنبي يتعين الحفاظ على المسلمين من الفتنة والضياع بل والتعاون مع المخطئين والمذنبين منهم , يقول شيخ الاسلام ابن تيمية ( ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة القتال مع كل بر وفاجر ..لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار أو مع عسكر كثير الفجور فإنه لا بد من أحد أمرين إما ترك الغزو معهم فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضررا في الدين والدنيا ..) مجموع الفتاوى 28/506 ولا شك أن ابن تيمة أفتى بذلك عن علم بالنص وعلم بالواقع وهنا يتحدث رحمه الله عن أيام التتار , وما أشبه الليلة بالبارحة مع الفارق أننا والحمد لله نرى غالب المجاهدين ملتزمين بأصول الشرع مبتعدين عن الكبائر في الأقل وإذا كان هناك بعض الزلات في الرأي أو السلوك فهذا يبقى أقل بكثير من الصورة التي يتحدث عنها ابن تيمية .
4- الهدف الذي يجمع كل فصائل المقاومة بل كل مكونات الشعب العراقي هو طرد المحتل وانتزاع السيادة الكاملة , وبقدر وضوح هذا الهدف تتضح قدرة المقاومة على لمّ شملها وتوحيد صفها أما المنافسات الحزبية والمذهبية في ظل الاحتلال فإنه قطعا لا يصب إلا في خدمة المحتل , وبعد خروج المحتل لا بأس بالمنافسة على أساس البرامج والكفاءات وليس بالاحتراب الداخلي , وأمامنا تجارب من المنافسات المسلحة في بلاد إسلامية عزيزة أدّت إلى ضياع البلاد وخضوعها تحت الاحتلال الأجنبي المباشر وبذلك ذهبت دماء الشهداء وجهاد المجاهدين في فوضى لها أول وليس لها آخر , وهذا ما نجزم أن المجاهدين في العراق قد استوعبوا منه الدرس الكافي والمؤشرات الميدانية كلها بهذا الاتجاه .
5- إن المقاومة ينبغي أن تلتف حول قيادة من أهل البلد ,وليس ذلك لأننا نفرق بين العراقي وغيره إسلاميا فقد يكون المسلم البعيد هو أقرب الى الله وأكرم ولكن هذا شيء والواقع الذي نعيش فيه اليوم شيء آخر , والقائد في الاسلام لا تعينه السماء ولا تفرضه على الناس وإنما الأمر شورى ( وأمرهم شورى بينهم )الشورى /38 وينظر فيه مصالح العباد والبلاد , وقطعا ليس هناك أي مصلحة اليوم من إبراز قيادات لا يعرفها أغلب الناس , وربما يرى المحتل في إبراز هذه القيادات في المقاومة العراقية متنفسا له لتمرير الكثير من مقولاته المغلوطة ومنها : أن الشعب العراقي يرحب بالغزاة والمقاومة لا تمثل إرادة الشعب العراقي وإنما تمثل إرادات وافدة من خارج الحدود .
6- لا يجوز لأي مجموعة أن تعتقد أنها هي جماعة المسلمين مهما كان جهادها وإخلاصها ولكنها جماعة من المسلمين , وهذا تنبني عليه أمور شرعية كثيرة في البيعة والإمرة والطاعة والتعامل مع بقية المجموعات , فالبيعة على الجهاد في مجموعة معينة ومكان معين شيء والبيعة على إمامة جماعة المسلمين شيء آخر , ومع عدم وجود إمام متفق عليه فلا بد من التعاون بين كل المجموعات والتناصح والتشاور وحسن الظن لأنه ليس لأحدها حجة أو سلطان على الآخر وبعد ذلك من الممكن أن تلتحم هذه المجموعات في إطار الجماعة الواحدة التي التي أمرنا الاسلام بها .
د. محمد عياش الكبيسي