المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حصــــاد "المقاومــــة



bufaris
21-06-2005, 01:28 AM
"
د. أحمد يوسف أحمد - البيان الامارتية : : 2005-06-21 - 00:05:27






حصــــاد "المقاومــــة"

د. أحمد يوسف أحمد

شهدت الأيام القليلة الماضية تطورات بالغة الأهمية بشأن مستقبل العراق. مبعث أهمية هذه التطورات أنها مؤشرات لا يخطئها العقل على ضغوط متصاعدة على الإدارة الأميركية بشأن سياستها تجاه العراق. أشارت هذه التطورات من ناحية إلى إدراك متزايد من قبل الإدارة الأميركية لاستحالة تجاهل "رقم المقاومة" في المعادلة العراقية، ومن ناحية ثانية إلى ضغوط سياسية مؤسسية وشعبية على هذه الإدارة باتجاه الانسحاب من العراق.
في المجموعة الأولى من المؤشرات اعترف وزير الدفاع الأميركي بأن اتصالات موسعة جرت بين الحكومة العراقية و"المسلحين" لتحقيق الاستقرار، وأشار مسؤولون أميركيون إلى أن السلطات العراقية هي التي طرحت فكرة "العفو عن المسلحين" على البنتاجون في محاولة منها للقيام بدور رائد في تهدئة الأمور. وأياً كان الطرف المبادر بالاتصالات فإن الدلالة تبقى واحدة دون شك ألا وهي أن "المسلحين" قد أثبتوا وجودهم على الساحة.
في المجموعة الثانية من المؤشرات تبنى ستة من النواب الموزعين مناصفة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي مشروع قانون يتضمن إعلاناً رسمياً عن الانسحاب قبل 31 ديسمبر المقبل ثم البدء بسحب القوات الأميركية في موعد أقصاه أكتوبر2006 على أن يسبق الانسحاب تقديم جدول بأعداد المفقودين من الجيش الأميركي والمدنيين الأميركيين في العراق منذ بدء الحرب في مارس2003.

في اليوم التالي لتقديم مشروع القانون السابق تجمع أكثر من مئة من النواب عن الحزبين الديمقراطي والجمهوري أمام حديقة البيت الأبيض في محاولة لجذب الانتباه إلى مذكرة "داوننج ستريت" التي تؤكد أن إدارة الرئيس الأميركي قررت منذ البداية خوض الحرب ومن ثم بدأت في جمع الحجج والدعاوى باللعب بورقة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل لتبرير تغيير النظام العراقي. اتهم أحدهم (عضو الكونجرس الأميركي جون كونيزر) إدارة بوش بالخداع مبرراً ذلك بالقول "لقد أخبرونا بشيء في أميركا بينما كانوا يخططون للحرب في لندن". كان هدف المجتمعين هو جمع نصف مليون توقيع للمطالبة بإنهاء الحرب في العراق، ودعوة البيت الأبيض لتفسير ما جاء في تلك المذكرة، وتمكن النواب بالفعل من جمع 561 ألف توقيع على مذكرة المطالبة بالانسحاب.

أما ثالث الإرهاصات القوية على مؤشرات التحول التي تشهدها الساحة السياسية الأميركية بشأن العراق فهو المتصل بالشارع الأميركي الذي أفادت التقارير بأن حالة من التشاؤم تسوده حول الوضع في العراق وأن هذه الحالة هي الأسوأ منذ بداية الغزو، فمنذ أقل من أسبوع أجرى مركز "بيو" لدراسات الرأي العام استطلاعاً للرأي أشار إلى تزايد نسبة المؤيدين لسحب القوات الأميركية من العراق إلى 46% بعد أن كانت 42% في فبراير الماضي و36% في أكتوبر2004، وأشارت نتائج استطلاع آخر في التوقيت نفسه تقريباً أجرته قناة سي. بي. إس ونيويورك تايمز إلى أن 60% يعتقدون أن الأمور تسير نحو الأسوأ بالنسبة للولايات المتحدة في العراق، فيما اعتقد أكثر من نصف الذين استطلعت آراؤهم (51%) أنه ما كان ينبغي التورط في العراق أصلاً.

لا ينبغي للمرء أن يجهد نفسه كثيراً في محاولة تفسير هذه التحولات في الساحة السياسية الأميركية، ويكفي في هذا الصدد أن يشهد شاهد من أهلها هو عضو الكونجرس الأميركي الجمهوري والتر جونز الذي كان واحداً من الذين أيدوا قرار التدخل العسكري الأميركي في العراق دون غطاء دولي. يقول جونز رداً على من سألوه عن السبب في تغيير موقفه: "بعد 1700 قتيل و12 ألف جريح وإنفاق 200 مليار دولار نعتقد أن الوقت قد حان لمثل هذه المناظرة ومناقشة قرار الانسحاب". هكذا لخص الرجل في بساطة متناهية آلية عمل التحرر الوطني: رفع تكلفة الاحتلال إلى الحد الذي يضغط على العصب الحساس في دوائر صنع القرار في البلد القائم بالاحتلال في اتجاه إحداث تحولات سياسية معاكسة لفعل الاحتلال.

عادت بي الذاكرة إلى الوراء لأكثر من سنتين بقليل حين قدر لي أن أقرأ عدداً من الدراسات التي أعدتها مراكز بحثية أميركية رفيعة المستوى وقريبة من دوائر صنع القرار الأميركي عن مستقبل العراق بعد احتلاله ورأيت في هذه الدراسات كل التفاصيل التي يمكن أن تخطر على البال بخصوص إدارة العراق بعد "تحريره"، لكني حاولت عبثاً أن أجد حرفاً واحداً عن مقاومة محتملة ضد الاحتلال. كان الإدراك السائد هو أن القوات الأميركية الذاهبة إلى العراق سوف تحظى بشرعية كاملة من شعبه ومن ثم فحديث المقاومة غير وارد أصلاً.

مثل هذا العمى في الإدراك يكلفنا الكثير دون شك، فقد اقتضى الأمر أن يمر أكثر من سنتين كي يكتشف "والتر جونز" أنه خدع بينما كان الملايين من ساسة العالم ومثقفيه وجماهيره يدركون ما أدركه هو مؤخراً، منذ بدت ملامح الخطة الأميركية لغزو العراق. صحيح أن الرجوع إلى الحق فضيلة لكن الانحراف عنه كما هو واضح كل الوضوح في حالتنا باهظ التكلفة، وقد فات الرجل وهو يبرر التحول في موقفه أن يذكر - ولو من باب الإنسانية- أن عشرات الآلاف من العراقيين قد سقطوا ما بين قتيل وجريح من جراء السياسة الأميركية نفسها التي يطالب بحق الآن بتغييرها.

تأملت بعد ذلك فيما يجري على الساحة السياسية الأميركية بخصوص العراق فتفاقم الإحباط لدي بشأن موقف النظام العربي الرسمي الذي لم تعد دولة واحدة من دوله تتحدث عن ضرورة التواصل مع قوى المقاومة مع أن حضورها في العملية السياسية حتمي لوصولها إلى بر الأمان، ولم تعترض هذه الدول على إجراء الانتخابات في ظل الاحتلال مع أن دولاً أجنبية قد اعترضت، واكتفى بعضها بحديث عام عن ضرورة إشراك كافة الأطراف العراقية في العملية السياسية في إشارة لغياب السنة العرب عن الساحة. ولم تعد مصطلحات الاحتلال وانسحاب قواته مستخدمة في لغة الدبلوماسية العربية أساساً، بل على العكس لقد انبرى عدد من كبار المسؤولين العرب للحديث عن خطورة الانسحاب الأميركي من العراق وكأن أولئك الذين يطالبون بمثل هذا الانسحاب مجموعة من الحمقى يتصورون أن الانسحاب يعني فرار القوات الأميركية دون تخطيط أو تنظيم أو ضمانات. في هذا السياق الكئيب تأتي المطالبة ببدء الانسحاب ووضع جدول زمني له من أعضاء في الكونجرس الأميركي منهم من كان مؤيداً التدخل العسكري في العراق، فهل يمكن التحدث عن مؤشر أكثر إيلاماً لتردي أوضاع النظام العربي؟

ليس من المتوقع بطبيعة الحال أن "تستسلم" القوات الأميركية في العراق أو حكومته الحالية لمطالب "المقاومين" بل على العكس سوف تجعل إلقاءهم للسلاح بثمن بخس غايتها، وقد تنجح في خداع بعضهم لكن التيار الأصيل للمقاومة لا يمكن خداعه، وليس من المتوقع أيضاً أن يوافق الكونجرس الأميركي على مشروع القرار المذكور لكن الضغوط ستتصاعد داخله بالتدريج وكذلك في أوساط الرأي العام باتجاه إجراء تغيير لابد منه على السياسة الأميركية في العراق والأهم من ذلك كله هو الإشارات التي ترسلها الساحة السياسية الأميركية الآن بخصوص الوضع في العراق. وسوف تكون لهذه الإشارات بكل تأكيد تأثيراتها بالغة الإيجابية على معسكر المقاومة، وسوف تكون لها أيضاً بلا ريب تداعياتها بالغة السلبية على معنويات المساندين للاحتلال أو المترددين الخائفين داخل العراق وخارجه. فهل يمكن للنظام العربي الرسمي أن يمسك بهذه الفرصة ويراجع سياساته بشأن العراق قبل فوات الأوان؟ أم أن الإصرار على أن نكون ملكيين أكثر من الملك سوف يبقى خيارنا الاستراتيجي الوحيد؟.