المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أيديولوجية العنف ووهم بناء القوات العراقية...



الفرقاني
20-06-2005, 08:25 PM
أيديولوجية العنف ووهم بناء القوات العراقية
19-6-2005

إن نموذج العلاقات القائمة داخل هذه الوحدة بين الجنود العراقيين والضباط الأمريكان هو ذات النموذج الذي يجري على أرض الواقع بين الولايات المتحدة والحكومة العراقية، نموذج قائم على الرشوة، والرغبة المتسلطة من جانب الولايات المتحدة في قيام الحكومة العراقية بتمثيل بعض الأدوار الهامشية لصالح قوات الاحتلال.
بقلم عبدالله صالح

قليلة هي التقارير الأمريكية التي تقدم صورة حقيقية للأحداث الجارية في العراق، وتوضح حجم المأزق الذي تواجهه القوات الأمريكية هناك..ومع ذلك فالتقرير الذي نشرته الواشنطون بوست منذ أيام بعنوان: "إعادة بناء القوات العراقية: المهمة المستحيلة"..هذا التقرير كان مختلفا تماما، حيث تضمن تجربة شخصية قام خلالها مراسل الصحيفة "ستيف فينارو" بقضاء عدّة أيّام داخل إحدى وحدات الجيش العراقي التي يتم تدريبها بواسطة القوات الأمريكية في بغداد، لتتولى بعد ذلك مهام الدفاع والأمن، وقد أجرى مراسل الصحيفة بعض المقابلات الخاصة مع عدد من الجنود العراقيين، عبروا خلالها عن رؤيتهم للدور الذي تقوم به القوات الأمريكية، ومستقبل الوجود الأمريكي في العراق.


تقرير "الواشنطون بوست" بدأ بأغنية يرددها عدد من الجنود العراقيين بعيداً عن آذان القادة الأمريكيين، كلماتها تعبر عن حنين الجنود إلى عهد صدام وشعورهم بالمهانة من بعده، لدرجة أنهم تمنوا لو كانوا قد ماتوا قبل أن يروا مثل هذا اليوم الذي يتحكم فيه الأمريكان في مصيرهم.


الإعلام الأمريكي يتحدث كثيراً عن المقاومة العراقية وفصائلها وقدراتها العسكرية، لكن أحداً لم يتحدث قبل ذلك عن أن القوات العراقية التي يجري تدريبها أمريكيا، تتوق لعودة صدام إلى الحكم، بعد أن فشلت القوات الأمريكية في الحفاظ على الأمن والاستقرار، لدرجة أن يصف تقرير "الواشنطن بوست" الولايات المتحدة بأنها لا تقوم بتدريب القوات العراقية، ولكنها في الحقيقة تتولى تدريب رجال المقاومة القادمة.


الجنود العراقيين أخبروا مراسل الصحيفة الأمريكية أنهم لا يعتزمون البقاء في الجيش العراقي الموالي لواشنطن كثيراً، وأن معظمهم يفكر في التقاعد أو الهروب، والأسباب بسيطة..أحد الجنود أشار إلى بيوت العراقيين المدمرة وقال: ترى من تسبب في كل هذه الفظائع..إذا سألت أي عراقي سيقول لك "هم السبب"، ويشير الجندي إلى بعض الجنود الأمريكيين الذين يقودون إحدى المركبات.


العراقيّون قبلوا التجنيد في الجيش الجديد فقط من أجل المرتب الذي تمنحه لهم الولايات المتحدة، والذي يبلغ نحو 34 دولار في الشّهر، وهو مبلغ يحسد عليه هؤلاء الجنود، في ظل الأوضاع المعيشية القاسية التي يعيشها الشعب العراقي، لكنهم في مقابل ذلك خسروا احترامهم لأنفسهم.أحد الجنود تحدث لمراسل "الواشنطون بوست"، وقال وهو يعتصر ألماً: "بعد أن نترك الجيش جميعاً، فإن الله سيرزقنا ولن نموت جوعاً..لكننا سنعيش باحترام"! .


قد يزعم البعض أن مراسل الصحيفة قد اختار، سواء عمداً أو مصادفة، وحدة عسكرية متمردة من بين الوحدات التي يتم تدريبها أمريكياً، ولكن الجنود العراقيين في هذه الوحدات يتم اختيارهم بعناية من قبل قادة الجيش الأمريكي بعد إجراء عدة اختبارات عليهم، للتأكد من صلاحيتهم للمهمة التي يجري إعدادهم لها في أعقاب الحادث الذي تعرضت له تلك الوحدة العسكرية منذ أيام، على يد أربعة من رجال المقاومة، والذي نتج عنه مقتل وإصابة عدد من الجنود الأمريكان، قام الضابط الأمريكي "ريك ماكفيرن" الذي يقود الوحدة بتوبيخ الجنود العراقيين واتهمهم بأنهم جبناء. واستطرد ماكفيرن قائلاً: "الجنود الأمريكيون يصارعون الموت هاهنا منذ عامين من أجل أن تحصلوا أنتم على حريتكم ..يجب أن تكون لديكم أيضاً الرغبة في الموت من أجل الحرية". كلمات القائد الأمريكي لم تكن تعني الكثير بالنسبة للجنود العراقيين، فهم يعرفون جيداً أن الأمريكان لم يأتوا لكي يمنحوا العراقيين حريتهم، وأن تعاونهم مع قوات الاحتلال لن يحقق لهم الديمقراطية المنشودة..


الجنود العراقيون الذين يكرهون الاحتلال الأمريكي ليسوا جبناء إذا رفضوا التصدي لرجال المقاومة، بل على العكس فهم يرون أن من الشجاعة مساعدتهم في مهمتهم، وأنهم ربما كانوا يحتاجون لمزيد من الشجاعة لرفض الأموال التي يحصلون عليها من الأمريكان نظير تظاهرهم بمواجهة أعمال المقاومة العراقية التي يتعاطفون معها. أحد الجنود العراقيين، ويدعى عمار مهنى، أكد أن أكثر اللحظات التي عر فيها أنه جبان عندما تحدث الضابط الأمريكي ووصف زملاءه بالجبن ولم يستطع أن يرد عليه.عمار أضاف قائلاً: "إننا لا نريد تحمل المسئوليات والمهام الأمنية نيابة عن قوات الاحتلال، وفي ظل التدهور الأمني الحالي، فإننا لن نكون جاهزين لتحمل المسئولية ولو بعد ألف عام".


إن نموذج العلاقات القائمة داخل هذه الوحدة بين الجنود العراقيين والضباط الأمريكان هو ذات النموذج الذي يجري على أرض الواقع بين الولايات المتحدة والحكومة العراقية، نموذج قائم على الرشوة، والرغبة المتسلطة من جانب الولايات المتحدة في قيام الحكومة العراقية بتمثيل بعض الأدوار الهامشية لصالح قوات الاحتلال.


وفي ظل هذه المسرحية محددة الأدوار، فإن العبارات التي تطلقها الولايات المتحدة مثل السيادة العراقية، الحرية، الانتخابات، الأمن، الديمقراطية، الشجاعة أو الجبن، على حد سواء، كلها كلمات جوفاء تستخدم لغرض إيقاع المتحدث في شرك الخداع، لأن منطق الحرب على العراق ذاته تأسس على الخداع والزيف.


الاحتلال الأمريكي للعراق لم يتسبب فقط في ذلك الدمار الهائل للبنية الأساسية العراقية، وسقوط آلاف القتلى، واحتجاز الآلاف في السجون، فالأخطر من ذلك كله هو تكبيل العقل البشري في أيديولوجيّة مدعومة بالعنف، تبرر اللجوء إلى القتل والتدمير في العراق بالرغبة في تحقيق الحرية والديمقراطية، تماماً مثلما فعل القادة السوفييت في روسيا، حينما برروا استخدامهم للعنف ضد الشعب السوفيتي لعدة عقود بأن هذه المراحل كانت ضرورية من أجل تحقيق المستقبل المشرق للشيوعية لكن ما تحقق في الواقع كان بعيداً عن أحلام الجماهير، وفي النهاية قادت كل المراحل إلى انهيار الإمبراطورية الشيوعية بأكملها.


عندما يصبح العقل أسيراً لهذه الأيديولوجية، تتحول كل مشاهد العنف والفوضى في العراق إلى مجرد عيوب بسيطة في لوحة جميلة للمستقبل المشرق، الذي يتحقق فيه حلم الحرية والديمقراطية للعراقيين وتتجسد من خلاله طموحات السيادة والهيمنة الأمريكية على العالم، وتصبح هجمات رجال المقاومة وسقوط آلاف القتلى بمثابة خطوات ضرورية لتحقيق الإصلاح في الشرق الأوسط، وربما للعالم بأسره على الطريقة الأمريكية.