الفرقاني
19-06-2005, 07:24 PM
التصوُّر المُبَكِّر وَالـفَـْتـوَى الاسْتباقيَّة -1-
18-6-2005
كثيرة هي النوازل والوقائع المتكررة والمتوقعة في واقع الأمة المعاصر، ولكننا من أسف نفتقد التصور المبكر المكيف لذاك الواقع شرعاً، ومن ثم نفتقد استباقية الفتوى فيما يغمرنا من نوازل، وما يلفنا من أحداث..لدينا تصورات.. ولكن يعوزها الشمول والتكامل. ونحمل أطروحات لا غبار عليها بالنظر إلى ذاتها.. ولكنها تفتقد التكييف الشرعي المراعي لواقع الحال، ذلك أن التصور الشرعي الكيفي الجامع -لذاك الواقع- غائب أصلاً، ومن ثم ننجرُ إلى طائفةًً من المثالب
بقلم محمد مصطفى المقرئ
كثيرة هي النوازل والوقائع المتكررة والمتوقعة في واقع الأمة المعاصر، ولكننا من أسف نفتقد التصور المبكر المكيف لذاك الواقع شرعاً، ومن ثم نفتقد استباقية الفتوى فيما يغمرنا من نوازل، وما يلفنا من أحداث..
لدينا تصورات.. ولكن يعوزها الشمول والتكامل. ونحمل أطروحات لا غبار عليها بالنظر إلى ذاتها.. ولكنها تفتقد التكييف الشرعي المراعي لواقع الحال، ذلك أن التصور الشرعي الكيفي الجامع -لذاك الواقع- غائب أصلاً، ومن ثم ننجرُ إلى طائفةًً من المثالب، أحصي منها ما يلي:
1-ارتجالية كثيرٍ من الفتاوى، واتسامها بالتعجل والتسرع، وقصور الاستقصاء الجامع لأبعاد وتفاصيل واقعة الحال.
والتعجل والتسرع مذموم كله سواء كان الإفتاء يقضي بالإقدام أو يقضي بالإحجام. كما أن الوسطية منزلة بين التشدد والتساهل. والحكمة هي التزام ما بين التهور والجبن.
2- انعدام التصور الشرعي المُرَسِم لكيفية التعامل مع النوازل وما يجب حيالها. وإن وجد فعلى نحو غير دقيق يفتقرٍ إلى الانضباط والوضوح.
3- إتاحة الفرصة لوقوع التضارب في الإفتاء، وتحير المكلفين بين المتعارض من الفتاوى، مما يشتت الجهود، ويوقع الإرباك، ويفتت الطاقات.. إلى غير ذلك من مساوئ الاختلاف على مستوى التعاطي العملي حيال وقائع الأحوال.
فكثير من الفتاوى تأتي منبتة عن الأحوال والملابسات ذات الصلة بالمحيط العام، أو ـ بعبارة أخرى ـ تصدر ناشزاً عن سياق ما يكتنفها من وقائع، مقطوعة عن منظومة إفتاء متناسقة، فهي غير مدرجة ضمن تصور جامع للواقع المعاش.
4- تضايق المساحة الزمنية المتاحة لتنضيج الوعي العام، وتقلص فرص الطرح الشرعي لتصوراتنا عن الواقع المعاش، والمعتبر في مثل هذا ليس مجرد التنظير والعرض، بل أن يُستوفى ذلك على نحو علمي فقهي منهجي، يرقى بقوة التعاطي مع التصور المطروح إلى مستوى الهدف، مكرساً -في ذات الوقت- لإجماع فعلي يضم أكبر عدد ممكن من علماء الأمة ومقدميها. وأيضاً مستقطباً حوله أكبر عدد ممكن من الناس.
5- غياب تصور جامع مقنع، يحظى بوزن مرجعي ثقيل، ما يحمل الكافة -أو جل الناس- على الإجلال والوثوق.. في مقابل اكتظاظ الساحة بكم هائل من التصورات والمناهج. وقد يكون من بين هذه المناهج والتصورات ما لو تكامل مع بعضه بعضاً لأنتج لنا التصور الجامع المأمول، أو ما يصلح أن يكون منطلقاً وركيزة لذاك التصور، غير أن الخلافات جعلتنا نتعامل مع مناهجنا باعتبارها خطوطاً متقاطعة متعارضة المسارات، فآثرنا التصادم والإقصاء على التكامل والالتقاء. بل بلغت حدة التعامل مع المنهج المخالف حدَّ معاداته كله بجميع مفرداته.
وقد يكون من أخطر دوافع تلك المواقف العدائية الحادة، انتماءات خاصة قائمة على مفهوم مغلوط لمعنى الولاء، ونظرة حزبية ضيقة أفضت إلى عصبية مقيتة.. (حمية الجاهلية).. عصبية تحمل أهلها على التحيز إلى توجهات الطائفة أو الجماعة أو الحزب وإن كانت خاطئة، ونبذ تصورات وأفكار الآخر وإن كانت صائبة!!
6- تهيب مخالفة الموروث الحزبي إلى غيره، وإن كان ذلك الغير أكثر نضجاً واكتمالاً، ولهذه العلة سببان:
الأول: نفسية الانبهار المفرط، وهي نفسية كفيلة بإخماد أي جذوة إبداع أو تجديد، مع ما يصاحبها من تهيب الجديد غير المألوف.
والثاني: غياب تصور جامع يحظى بوزن مرجعي ثقيل (كما ذكرت آنفاً)، أي ما يفوق -أو يكافئ- وزن مرجعيات المناهج المطروحة. فإن ذلك لو وجد لخفف من غلواء الولاءات الخاصة، ومن ثم يتأكد رجحان كفته عند المقارنة والاختيار.
7- وقد يؤدي هذا التهيب (تهيب الموروث الفكري للعمل الإسلامي) المتضخم إلى إيثار إبقاء جماعاتنا حبيسة تجارب تاريخية خاصة، بالتغاضي عن تغير المعطيات والملابسات الزمانية والمكانية، وبتجاهل سنن التطور والنمو، وبإهمال جوانب من المشهد العام والمحيط المتغير، وبنفي الآخر المتمثل في العناصر الملتحقة بالساحة مجدداً، والتي -لا ريب- تمثل جزءاً من طاقات الأمة، ربما يكون هو الأكبر أو الأعمق أثراً.. فبعضها يمثل طوراً من حركة التغيير نفسها، ويعبر عن مرحلة متقدمة من عمرها.
8- ترجيح التصورات والمناهج النظرية -أو الجوانب النظرية منها- على المناهج والتصورات العملية، وإن كانت تصوراتنا -نحن الإسلاميين- لا ينبغي أن تخلو من عمل، ولكنني أعني الجوانب العملية التي تمس عملية التغيير مساً مباشراً.. حتى إذا استفقنا من غفلة التقوقع في الأبراج العاجية.. جاءت محاولات النهوض بعد فوات الأوان، أو -كما يقال-: ((بعد خراب مالطة)) فلا ننتبه إلا وقد ضاعت الفرص السانحة، وتغيرت الأوضاع المثالية، وتبدلت الأحوال المواتية..
وعاجـز الرأي مضيـاع لفرصـته حتــى إذا فـات أمـرٌ عـاتـب القـدر
9- فقدان الأمة جهود طائفة مهمة من أبنائها، وهي طائفة ظننا بها أنْ لا تخالف ما نطمح أن تجمع عليه مرجعياتنا العلمية من تصور جامع، متى وجد هذ التصور، لأنها إنما توطن نفوس أتباعها على إجلال الدليل الصحيح، والتسليم للدلالة العلمية المؤصلة، ولا ريب أن سلفنا الصالح كانوا من التجاوب والتعاطي مع الواقع بمكان، بل كانوا في قلب أحداث الأمة المصيرية يوجهونها ويصنعونها، بل كانوا بعض وقودها الذي نضجت عليه مصالح الأمة وغاياتها.. فهلا وفرنا رؤية شمولية بقوة التأصيل الفقهي الذي كان لسلفنا؟ لعلنا إن فعلنا نستقطب جهود هذه الشريحة المهمة من جماعاتنا الإسلامية العاملة.
1- وأخيراً: يؤدي غياب التصور الجامع المأمول إلى توفير بيئة خلافية مفتتة القوى، متنازعة التوجهات، وتلك أجواء يتذرع به الأئمة المضلون إلى فتنة الناس، وتسهل على المفتين المفتونين مهمة الشغب على الفتاوى الشرعية الصائبة، إذ يبدو الحكم في كثير من القضايا -والحال كذلك- كأنه موضع خلاف وأخذ ورد، فإذا بقضايا شرعية قطعية، نصية أو إجماعية.. تستحيل وكأنها قابلة للاجتهاد، على الأقل في حس العوام، وأنصاف المتعلمين.. ناهيك عمن يصادف ذلك هوى في نفوسهم، أو يوافق مأرباً من مآربهم.
وخذ على ذلك مثلاً..
* بطلان شرعية الأنظمة المبدلة لشريعة الله، وإن صلى زعماؤها وصاموا وزعموا أنهم مسلمون. وأن بطلان ولاية من لا يقود الأمة بكتاب الله معلومة بالاضطرار من دين الإسلام، لا تتأثر بكون الحاكم مسلماً بالأصل، أو أن المساجد مفتحة الأبواب، والمآذن تصدح بالأذان يملأ الآفاق.. .. إلى آخر المظاهر الإسلامية التي -مهما كثرت- لا يمكن أن تجبر بطلان ولاية من لا يحكم بما أنزل الله.
ومثلاً آخر..
* بطلان شرعية الأنظمة التي ينصبها العدو الكافر، أو التي يُعَيِّنُها المحتلُ الغاصب، وأنه تحرم بيعتها، وتسقط طاعتها، ولا يحل الاعتراف بها أو إقرارها.. بل تجب مجاهدتها والعمل على إسقاطها، فهي والمحتل الغاصب في الحكم سواء.
وأنه مهما كان حجم المصالح التي يُروج بها لهؤلاء المعينين قصراً.. فإنها —أيضاً- مع افتراض تحققها لا تجبر بطلان ولايتهم، ولا تكفِرُ عن خيانتهم. وهي مصالحُ -على كلٍ- تأتي في إطار مقاصد العدو الغاصب، كجزء من المناورة أو الموازنة التي تصب في مصلحته مآلاً، والتي لا يمكن أبداً أن تكون في مصلحة الأمة. وتلك خطة استبعد منها الإسلام بالكلية، فأي مصلحة تلك التي تُعتبر إنْ فُقدَ الدين؟. وإننا لنقطع بأنه لا مصلحة يستتبعها إبعاد الدين.
ولقد دأب الاستعمار الحديث على إتباع هذا اللون من التغرير والمخاتلة، إذ يلتجئ إلى تولية حفنة من العملاء والخونة، ممن يحمل أسماء إسلامية وملامح "شرق أوسطية"، وما هم إلا مسخ من العدو عقولاً وقلوباً. وذلك لمآرب عدة: منها: تفادي الصدام المباشر مع الأمة إذ إن الاحتلال السافر من شأنه أن يستفز المشاعر الإسلامية والوطنية لدى الشعوب المستعمَرة، وهذا -بشهادة ما كرسته التجارب- يكلف المستعمر خسائر مادية وأدبية كبيرة. ومنها: تعيين سلطات محلية يسهل أن تُُضفى عليها صفة الشرعية، أو على الأقل يُتسنى بها التلبيس على الناس، ومن ثم إضعاف أثر وزخم الفتاوى المبطلة لمشروعيتها المنتحلة. ومنها: حرمان القوى الواعية من التلاحم مع القاعدة العريضة من الناس نتيجة هالات الغبش والتلبيس والتزييف التي تحيط بالسلطة الحاكمة، بما في ذلك ما يُستصدر من فتاوى رسمية تسوغ لقبولها وتسوق لمشروعيتها، حيث يُروج لها من خلال آلة إعلامية ضخمة لا تحظى الفتاوى الشرعية بمثلها أو قريب منها.
وفي هذا السياق نود أن ننبه إلى أن المستعمر يستعير اليوم من تاريخه بعض ما جربه من أساليب، ولكن مع تغيير في أسماء اللاعبين وعناصر اللعبة.. فكما سحب البساط —قديماً- من تحت أقدام الحركات الإسلامية والوطنية، حينما جاءنا بخديعة "الاستقلال" والثورات "الوطنية".. يريد اليوم أن يضرب الإسلام بالإسلام، ويسحب البساط مرة أخر من تحت أقدام الإسلاميين "المتشددين" بإفساح المجال أمام الإسلاميين "المعتدلين" !!
ونحن لا نطعن في نوايا جماعاتنا الإسلامية المعروفة، ولكن لا بد من التنبيه إلى أن تلك الخطة الاستعمارية الجديدة لن تكون إلا جزءاً من المناورة لضرب الإسلام كله، بعد أن تأكد لهم أن ديننا لا يتسنى ضربه إلا من الداخل. كما أنهم يمكن أن يأتوا بمن لا يعبر عن الإسلام الصحيح اللهم إلا من خلال لافتات الدعاية والتغرير.. أو بشيء قريب من المؤسسات الدينية الرسمية!!
ومثلاً آخر..
* حرمة معاونة الأنظمة العميلة (الاستعمارية بالوكالة)، ولو كان ذلك على سبيل الارتزاق، ناهيك عن معاونتها موالاة ونصرة وتأييداً ومحبة لإعلاء شأنها. وهو فعل معدود -في تكييفه الفقهي- جريمة عظمى، وخيانة للدين والأمة والوطن.
أقول: وربما تكون هذه القضايا واضحة في أذهان وتصورات طوائف من المتعلمين ومنتسبي العمل الإسلامي.. غير أن المعني بالتوعية في شؤوننا العقدية والمصيرية هم الكافة من عموم الأمة وقاعدتها، فضلاً عن نخبتها وقادتها. وذلك يستوجب —بالطبع- مضاعفة الجهود المبذولة، ويستدعي طرقاً متواصلاً لأجراس الإنذار المبكر، وعلى رأس ما يجب أن يضاعف من جهود: وضع التصورات الشرعية والتكييفات الفقهية الاستباقية التي تغطي قضايانا المصيرية المتوقعة، فضلاً عن الواقعة والمتكررة.
ومثلاً آخر..
* حرمة ممارسة التعذيب وانتهاك الحرمات نصرة لأنظمة ساقطة المشروعية، كونها مستبعدة للإسلام، أو خائنة للأمة، أو مُعَيَّنةً من قبل أعداء الدين والوطن.
نعم.. ثم فتاوى صدرت عن بعض أهل العلم تقضي بحرمة التعذيب، ولكن هل ينتهي الحكم -في ذلك- عند حد الحرمة فحسب إن مُورس عداوة للإسلام ونقمة من أهله (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [8]) (البروج). أو نصرة لأعداء الأمة وتنفيذاً لمخططاتهم. وإذا بلغ ذلك حد الكفر -وهو بالغه- أليس يجب الإفتاء بما يستوجبه العصيان من الاعتزال والهجر والمقاطعة لهؤلاء الجلادين، وما يستوجبه الكفر من ترك الصلاة عليهم إن ماتوا، وأن لا يدفنوا في مقابر المسلمين، وأنه تنقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، فلا يرثون ولا يُورثون، ويفرق بينهم وبين زوجاتهم؟ وبعض هذه الأحكام لا يتوقف على وجود سلطة تمضيه، بل بإمكان المسلمين إمضاؤه متى وجدت مرجعية جامعة متنفذة أدبياً.
فهل هذا العرض كافٍ كي ندرك خطورة توانينا في مجارات حادثات الزمان بما يوصفها شرعاً ويحدد الواجب تجاهها ديانة؟ وهل نعي الآن -لشواهد الحال حولنا- أن تراخيَنا في المعالجة الفقهية لقضايا الأمة تفريط مهول وتضييع مريع، أفضى بالناس إلى فوضى تشريعية عريضة الأبعاد، تعددت فيها مراجع الإفتاء وتعارضت في مواردها ومساراتها. ولا سيما وقد التحقت بجيوش المفتين رؤوس جهال تفتي بغير علم فضلت وأضلت، وأدمغة تفتي بالهوى وللشهوة فزاغت وأزاغت؟. وقد اندس في هذه الفوضى أبالسة مأجورون، ومن ورائهم جيوش من المفسدين يقعدون بالأمة كل مرصد، ومفارز من المتعالمين يكمنون لها بطرق الخير كلها، يريدون ليردوها عن الصلاح والطاعة، استناداً إلى فتاوى أهل الجهل والهوى، والتي ربما وجد العاميُّ فيها ما يخدر به "ضميره" ويسكن لوم نفسه، أو على الأقل ما يتقي به عتب الناس واذدراءهم ومقتهم.. هذا لمن بقي منهم على شيء من وازع الدين وحياء الإيمان؟
فما أشبه ثقافتنا الدينية -مع انعدام التصور الجامع لواقع الأمة، وما يصاحبه من فوضى الإفتاء والافتئات- ببيئة غدت مقوماتها (التي لم يتحفظ لها) عرضة للتآكل، بفعل عوامل التعرية وآثارها.. فكيف إذا كان التآكل قد نال من المقومات والقيم جميعاً؟
لقد تركنا الأمة بغير تحصين وتقوية لجهاز مناعتها، ومن ثم تآكل وعيها وضمر، أو فرغ وعبئ بثقافة الغير، فتنكرت طوائف منها لثقافتها وأصول نهضتها، والتي لولاها ما كانت لنا أمة أصلاً، والتاريخ يشهد.
هذا وإن وعي الأمة بأحكام ملتها وما يجب عليها حيال قضاياها -لا جرم- مطلوب ديني بحد ذاته، ومقصد من مقاصد الشريعة مستويٍ على رأس ثوابتها، وما كان كذلك لا يُعتذر عن فواته ولا يبرر التقصير فيه بوجه من الوجوه..
نعم.. قد يكون بالأمة عجزٌ يُقعدها عن امتثال بعض -أو جل- ما يجب عليها ديانة، غير أن ذلك لا يعفيها من وجوب استكمال قدراتها التي تؤهلها للامتثال، ولا يخلي مسؤوليتها في لزوم استمساكها بالاعتقاد والتصور الصحيحين. فإن الاعتقادَ شأنٌ قلبيٌ -كما أن العلم المجرد شأن ذهني- فلا وجهَ فيهما للاعتذار بالعجز، وعليه فلا أقل من أن يُعتقدَ الواجبُ واجباً والحرامُ حراماً والحلالُ حلالاً، والمشروع مشروعاً، وذلك أضعف الإيمان. ومن ثمَّ وجب على أهل العلم مطلق البيان، بقطع النظر عن إمكانية الامتثال.. قال تعالى: (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ[187]) (آل عمران).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْرَجُلٍ يَحْفَظُ عِلْمًا فَكَتَمَهُ إِلاَّأُتِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنَ النَّارِ " ([1]).
قال الخطابي: "هو في العلم الضروري، كما لو قال: علمني الإسلام، والصلاة، وقد حضر وقتها، وهو لا يحسنها، لا في نوافل العلم".
قلت: ولا ريب أن من العلم الضروري ما يتعلق بما يصان به الدين وتحفظ به البيضة من فرائض وواجبات وأحكام.
هذا من جهة.. ومن جهة أخرى: أن صحة الاعتقاد تُعَدُّ بحدِّها مؤهلاً للفعل من جهة الأصل عند استيفاء القدرة، فلا تبرح العقائد تشد المسلم إلى أصول الإيمان مهما كان حجم الهوة بينه وبين العمل، فكيف إذا توفرت العزائم على الفعل، لولا ما يحول دونها ودونه من عجز تترقب زواله، أو قهر ترجو دفعه؟.
ولذلك عُدَّ صادق النية في طلب الشهادة شهيداً.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سأل اللهَ الشهادة بصدق، بلَّغَهُ اللهُ منازلَ الشهداء، وإن مات على فراشه" ([2]).
وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: " إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم المرض" وفي رواية: " إلا شركوكم في الأجر" ([3]).
ومعلوم أن أولئك إنما عذروا لقيام العذر حقيقة لا توهما ولا تحايلاً، وأجِرُوا لصدق نيتهم وصحة عزيمتهم، وأنه لولا ما حبسهم ما قعدوا.. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ* [119] مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [12]) (التوبة).
وبين حال الصادق وحال الكاذب كما بين الصدق والكذب، وكما بين التقوى والفجور..
فمثل الأول: كمثل من قال الله تعالى فيهم: (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* [91] وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ[92] ) (التوبة).
ومثل الثاني: كمثل من قال الله تعالى فيهم: (وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً [72] وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً [73]) (النساء).
ثم عقب الله بعد ذكر هذا المثل بقوله: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [74]) (النساء).
فحفزهم للقتال في سبيله منبهاً لهم إلى ما تخلص به نياتهم وتصح به عزائمهم (يشرون الحياة الدنيا بالآخرة)، وصور ذلك صفة لهم ـ بالموصول وصلته ـ (الذين يشرون..)، ووعدهم بما فيه العوض عما ينفض الناس لأجله عن الجهاد (فسوف نؤتيه أجراً عظيماً). يتبع.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) رواه ابن ماجه في "سننه"، وهو حسن صحيح: كما قال الألباني، وانظر"التعليق الرغيب": (1/73)، و"تخريج العلم": (147/142)، نقلاً عن "صحيح سنن ابن ماجه" له: (24) باب من سئل عن علم فكتمه: (212).
(2) رواه مسلم، وانظر"مختصر مسلم": (178)، كما ذكره الألباني في"صحيح الجامع": (6176).
(3) رواه مسلم ـ كتاب الإمارة (48) باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر (ح/541).
18-6-2005
كثيرة هي النوازل والوقائع المتكررة والمتوقعة في واقع الأمة المعاصر، ولكننا من أسف نفتقد التصور المبكر المكيف لذاك الواقع شرعاً، ومن ثم نفتقد استباقية الفتوى فيما يغمرنا من نوازل، وما يلفنا من أحداث..لدينا تصورات.. ولكن يعوزها الشمول والتكامل. ونحمل أطروحات لا غبار عليها بالنظر إلى ذاتها.. ولكنها تفتقد التكييف الشرعي المراعي لواقع الحال، ذلك أن التصور الشرعي الكيفي الجامع -لذاك الواقع- غائب أصلاً، ومن ثم ننجرُ إلى طائفةًً من المثالب
بقلم محمد مصطفى المقرئ
كثيرة هي النوازل والوقائع المتكررة والمتوقعة في واقع الأمة المعاصر، ولكننا من أسف نفتقد التصور المبكر المكيف لذاك الواقع شرعاً، ومن ثم نفتقد استباقية الفتوى فيما يغمرنا من نوازل، وما يلفنا من أحداث..
لدينا تصورات.. ولكن يعوزها الشمول والتكامل. ونحمل أطروحات لا غبار عليها بالنظر إلى ذاتها.. ولكنها تفتقد التكييف الشرعي المراعي لواقع الحال، ذلك أن التصور الشرعي الكيفي الجامع -لذاك الواقع- غائب أصلاً، ومن ثم ننجرُ إلى طائفةًً من المثالب، أحصي منها ما يلي:
1-ارتجالية كثيرٍ من الفتاوى، واتسامها بالتعجل والتسرع، وقصور الاستقصاء الجامع لأبعاد وتفاصيل واقعة الحال.
والتعجل والتسرع مذموم كله سواء كان الإفتاء يقضي بالإقدام أو يقضي بالإحجام. كما أن الوسطية منزلة بين التشدد والتساهل. والحكمة هي التزام ما بين التهور والجبن.
2- انعدام التصور الشرعي المُرَسِم لكيفية التعامل مع النوازل وما يجب حيالها. وإن وجد فعلى نحو غير دقيق يفتقرٍ إلى الانضباط والوضوح.
3- إتاحة الفرصة لوقوع التضارب في الإفتاء، وتحير المكلفين بين المتعارض من الفتاوى، مما يشتت الجهود، ويوقع الإرباك، ويفتت الطاقات.. إلى غير ذلك من مساوئ الاختلاف على مستوى التعاطي العملي حيال وقائع الأحوال.
فكثير من الفتاوى تأتي منبتة عن الأحوال والملابسات ذات الصلة بالمحيط العام، أو ـ بعبارة أخرى ـ تصدر ناشزاً عن سياق ما يكتنفها من وقائع، مقطوعة عن منظومة إفتاء متناسقة، فهي غير مدرجة ضمن تصور جامع للواقع المعاش.
4- تضايق المساحة الزمنية المتاحة لتنضيج الوعي العام، وتقلص فرص الطرح الشرعي لتصوراتنا عن الواقع المعاش، والمعتبر في مثل هذا ليس مجرد التنظير والعرض، بل أن يُستوفى ذلك على نحو علمي فقهي منهجي، يرقى بقوة التعاطي مع التصور المطروح إلى مستوى الهدف، مكرساً -في ذات الوقت- لإجماع فعلي يضم أكبر عدد ممكن من علماء الأمة ومقدميها. وأيضاً مستقطباً حوله أكبر عدد ممكن من الناس.
5- غياب تصور جامع مقنع، يحظى بوزن مرجعي ثقيل، ما يحمل الكافة -أو جل الناس- على الإجلال والوثوق.. في مقابل اكتظاظ الساحة بكم هائل من التصورات والمناهج. وقد يكون من بين هذه المناهج والتصورات ما لو تكامل مع بعضه بعضاً لأنتج لنا التصور الجامع المأمول، أو ما يصلح أن يكون منطلقاً وركيزة لذاك التصور، غير أن الخلافات جعلتنا نتعامل مع مناهجنا باعتبارها خطوطاً متقاطعة متعارضة المسارات، فآثرنا التصادم والإقصاء على التكامل والالتقاء. بل بلغت حدة التعامل مع المنهج المخالف حدَّ معاداته كله بجميع مفرداته.
وقد يكون من أخطر دوافع تلك المواقف العدائية الحادة، انتماءات خاصة قائمة على مفهوم مغلوط لمعنى الولاء، ونظرة حزبية ضيقة أفضت إلى عصبية مقيتة.. (حمية الجاهلية).. عصبية تحمل أهلها على التحيز إلى توجهات الطائفة أو الجماعة أو الحزب وإن كانت خاطئة، ونبذ تصورات وأفكار الآخر وإن كانت صائبة!!
6- تهيب مخالفة الموروث الحزبي إلى غيره، وإن كان ذلك الغير أكثر نضجاً واكتمالاً، ولهذه العلة سببان:
الأول: نفسية الانبهار المفرط، وهي نفسية كفيلة بإخماد أي جذوة إبداع أو تجديد، مع ما يصاحبها من تهيب الجديد غير المألوف.
والثاني: غياب تصور جامع يحظى بوزن مرجعي ثقيل (كما ذكرت آنفاً)، أي ما يفوق -أو يكافئ- وزن مرجعيات المناهج المطروحة. فإن ذلك لو وجد لخفف من غلواء الولاءات الخاصة، ومن ثم يتأكد رجحان كفته عند المقارنة والاختيار.
7- وقد يؤدي هذا التهيب (تهيب الموروث الفكري للعمل الإسلامي) المتضخم إلى إيثار إبقاء جماعاتنا حبيسة تجارب تاريخية خاصة، بالتغاضي عن تغير المعطيات والملابسات الزمانية والمكانية، وبتجاهل سنن التطور والنمو، وبإهمال جوانب من المشهد العام والمحيط المتغير، وبنفي الآخر المتمثل في العناصر الملتحقة بالساحة مجدداً، والتي -لا ريب- تمثل جزءاً من طاقات الأمة، ربما يكون هو الأكبر أو الأعمق أثراً.. فبعضها يمثل طوراً من حركة التغيير نفسها، ويعبر عن مرحلة متقدمة من عمرها.
8- ترجيح التصورات والمناهج النظرية -أو الجوانب النظرية منها- على المناهج والتصورات العملية، وإن كانت تصوراتنا -نحن الإسلاميين- لا ينبغي أن تخلو من عمل، ولكنني أعني الجوانب العملية التي تمس عملية التغيير مساً مباشراً.. حتى إذا استفقنا من غفلة التقوقع في الأبراج العاجية.. جاءت محاولات النهوض بعد فوات الأوان، أو -كما يقال-: ((بعد خراب مالطة)) فلا ننتبه إلا وقد ضاعت الفرص السانحة، وتغيرت الأوضاع المثالية، وتبدلت الأحوال المواتية..
وعاجـز الرأي مضيـاع لفرصـته حتــى إذا فـات أمـرٌ عـاتـب القـدر
9- فقدان الأمة جهود طائفة مهمة من أبنائها، وهي طائفة ظننا بها أنْ لا تخالف ما نطمح أن تجمع عليه مرجعياتنا العلمية من تصور جامع، متى وجد هذ التصور، لأنها إنما توطن نفوس أتباعها على إجلال الدليل الصحيح، والتسليم للدلالة العلمية المؤصلة، ولا ريب أن سلفنا الصالح كانوا من التجاوب والتعاطي مع الواقع بمكان، بل كانوا في قلب أحداث الأمة المصيرية يوجهونها ويصنعونها، بل كانوا بعض وقودها الذي نضجت عليه مصالح الأمة وغاياتها.. فهلا وفرنا رؤية شمولية بقوة التأصيل الفقهي الذي كان لسلفنا؟ لعلنا إن فعلنا نستقطب جهود هذه الشريحة المهمة من جماعاتنا الإسلامية العاملة.
1- وأخيراً: يؤدي غياب التصور الجامع المأمول إلى توفير بيئة خلافية مفتتة القوى، متنازعة التوجهات، وتلك أجواء يتذرع به الأئمة المضلون إلى فتنة الناس، وتسهل على المفتين المفتونين مهمة الشغب على الفتاوى الشرعية الصائبة، إذ يبدو الحكم في كثير من القضايا -والحال كذلك- كأنه موضع خلاف وأخذ ورد، فإذا بقضايا شرعية قطعية، نصية أو إجماعية.. تستحيل وكأنها قابلة للاجتهاد، على الأقل في حس العوام، وأنصاف المتعلمين.. ناهيك عمن يصادف ذلك هوى في نفوسهم، أو يوافق مأرباً من مآربهم.
وخذ على ذلك مثلاً..
* بطلان شرعية الأنظمة المبدلة لشريعة الله، وإن صلى زعماؤها وصاموا وزعموا أنهم مسلمون. وأن بطلان ولاية من لا يقود الأمة بكتاب الله معلومة بالاضطرار من دين الإسلام، لا تتأثر بكون الحاكم مسلماً بالأصل، أو أن المساجد مفتحة الأبواب، والمآذن تصدح بالأذان يملأ الآفاق.. .. إلى آخر المظاهر الإسلامية التي -مهما كثرت- لا يمكن أن تجبر بطلان ولاية من لا يحكم بما أنزل الله.
ومثلاً آخر..
* بطلان شرعية الأنظمة التي ينصبها العدو الكافر، أو التي يُعَيِّنُها المحتلُ الغاصب، وأنه تحرم بيعتها، وتسقط طاعتها، ولا يحل الاعتراف بها أو إقرارها.. بل تجب مجاهدتها والعمل على إسقاطها، فهي والمحتل الغاصب في الحكم سواء.
وأنه مهما كان حجم المصالح التي يُروج بها لهؤلاء المعينين قصراً.. فإنها —أيضاً- مع افتراض تحققها لا تجبر بطلان ولايتهم، ولا تكفِرُ عن خيانتهم. وهي مصالحُ -على كلٍ- تأتي في إطار مقاصد العدو الغاصب، كجزء من المناورة أو الموازنة التي تصب في مصلحته مآلاً، والتي لا يمكن أبداً أن تكون في مصلحة الأمة. وتلك خطة استبعد منها الإسلام بالكلية، فأي مصلحة تلك التي تُعتبر إنْ فُقدَ الدين؟. وإننا لنقطع بأنه لا مصلحة يستتبعها إبعاد الدين.
ولقد دأب الاستعمار الحديث على إتباع هذا اللون من التغرير والمخاتلة، إذ يلتجئ إلى تولية حفنة من العملاء والخونة، ممن يحمل أسماء إسلامية وملامح "شرق أوسطية"، وما هم إلا مسخ من العدو عقولاً وقلوباً. وذلك لمآرب عدة: منها: تفادي الصدام المباشر مع الأمة إذ إن الاحتلال السافر من شأنه أن يستفز المشاعر الإسلامية والوطنية لدى الشعوب المستعمَرة، وهذا -بشهادة ما كرسته التجارب- يكلف المستعمر خسائر مادية وأدبية كبيرة. ومنها: تعيين سلطات محلية يسهل أن تُُضفى عليها صفة الشرعية، أو على الأقل يُتسنى بها التلبيس على الناس، ومن ثم إضعاف أثر وزخم الفتاوى المبطلة لمشروعيتها المنتحلة. ومنها: حرمان القوى الواعية من التلاحم مع القاعدة العريضة من الناس نتيجة هالات الغبش والتلبيس والتزييف التي تحيط بالسلطة الحاكمة، بما في ذلك ما يُستصدر من فتاوى رسمية تسوغ لقبولها وتسوق لمشروعيتها، حيث يُروج لها من خلال آلة إعلامية ضخمة لا تحظى الفتاوى الشرعية بمثلها أو قريب منها.
وفي هذا السياق نود أن ننبه إلى أن المستعمر يستعير اليوم من تاريخه بعض ما جربه من أساليب، ولكن مع تغيير في أسماء اللاعبين وعناصر اللعبة.. فكما سحب البساط —قديماً- من تحت أقدام الحركات الإسلامية والوطنية، حينما جاءنا بخديعة "الاستقلال" والثورات "الوطنية".. يريد اليوم أن يضرب الإسلام بالإسلام، ويسحب البساط مرة أخر من تحت أقدام الإسلاميين "المتشددين" بإفساح المجال أمام الإسلاميين "المعتدلين" !!
ونحن لا نطعن في نوايا جماعاتنا الإسلامية المعروفة، ولكن لا بد من التنبيه إلى أن تلك الخطة الاستعمارية الجديدة لن تكون إلا جزءاً من المناورة لضرب الإسلام كله، بعد أن تأكد لهم أن ديننا لا يتسنى ضربه إلا من الداخل. كما أنهم يمكن أن يأتوا بمن لا يعبر عن الإسلام الصحيح اللهم إلا من خلال لافتات الدعاية والتغرير.. أو بشيء قريب من المؤسسات الدينية الرسمية!!
ومثلاً آخر..
* حرمة معاونة الأنظمة العميلة (الاستعمارية بالوكالة)، ولو كان ذلك على سبيل الارتزاق، ناهيك عن معاونتها موالاة ونصرة وتأييداً ومحبة لإعلاء شأنها. وهو فعل معدود -في تكييفه الفقهي- جريمة عظمى، وخيانة للدين والأمة والوطن.
أقول: وربما تكون هذه القضايا واضحة في أذهان وتصورات طوائف من المتعلمين ومنتسبي العمل الإسلامي.. غير أن المعني بالتوعية في شؤوننا العقدية والمصيرية هم الكافة من عموم الأمة وقاعدتها، فضلاً عن نخبتها وقادتها. وذلك يستوجب —بالطبع- مضاعفة الجهود المبذولة، ويستدعي طرقاً متواصلاً لأجراس الإنذار المبكر، وعلى رأس ما يجب أن يضاعف من جهود: وضع التصورات الشرعية والتكييفات الفقهية الاستباقية التي تغطي قضايانا المصيرية المتوقعة، فضلاً عن الواقعة والمتكررة.
ومثلاً آخر..
* حرمة ممارسة التعذيب وانتهاك الحرمات نصرة لأنظمة ساقطة المشروعية، كونها مستبعدة للإسلام، أو خائنة للأمة، أو مُعَيَّنةً من قبل أعداء الدين والوطن.
نعم.. ثم فتاوى صدرت عن بعض أهل العلم تقضي بحرمة التعذيب، ولكن هل ينتهي الحكم -في ذلك- عند حد الحرمة فحسب إن مُورس عداوة للإسلام ونقمة من أهله (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [8]) (البروج). أو نصرة لأعداء الأمة وتنفيذاً لمخططاتهم. وإذا بلغ ذلك حد الكفر -وهو بالغه- أليس يجب الإفتاء بما يستوجبه العصيان من الاعتزال والهجر والمقاطعة لهؤلاء الجلادين، وما يستوجبه الكفر من ترك الصلاة عليهم إن ماتوا، وأن لا يدفنوا في مقابر المسلمين، وأنه تنقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، فلا يرثون ولا يُورثون، ويفرق بينهم وبين زوجاتهم؟ وبعض هذه الأحكام لا يتوقف على وجود سلطة تمضيه، بل بإمكان المسلمين إمضاؤه متى وجدت مرجعية جامعة متنفذة أدبياً.
فهل هذا العرض كافٍ كي ندرك خطورة توانينا في مجارات حادثات الزمان بما يوصفها شرعاً ويحدد الواجب تجاهها ديانة؟ وهل نعي الآن -لشواهد الحال حولنا- أن تراخيَنا في المعالجة الفقهية لقضايا الأمة تفريط مهول وتضييع مريع، أفضى بالناس إلى فوضى تشريعية عريضة الأبعاد، تعددت فيها مراجع الإفتاء وتعارضت في مواردها ومساراتها. ولا سيما وقد التحقت بجيوش المفتين رؤوس جهال تفتي بغير علم فضلت وأضلت، وأدمغة تفتي بالهوى وللشهوة فزاغت وأزاغت؟. وقد اندس في هذه الفوضى أبالسة مأجورون، ومن ورائهم جيوش من المفسدين يقعدون بالأمة كل مرصد، ومفارز من المتعالمين يكمنون لها بطرق الخير كلها، يريدون ليردوها عن الصلاح والطاعة، استناداً إلى فتاوى أهل الجهل والهوى، والتي ربما وجد العاميُّ فيها ما يخدر به "ضميره" ويسكن لوم نفسه، أو على الأقل ما يتقي به عتب الناس واذدراءهم ومقتهم.. هذا لمن بقي منهم على شيء من وازع الدين وحياء الإيمان؟
فما أشبه ثقافتنا الدينية -مع انعدام التصور الجامع لواقع الأمة، وما يصاحبه من فوضى الإفتاء والافتئات- ببيئة غدت مقوماتها (التي لم يتحفظ لها) عرضة للتآكل، بفعل عوامل التعرية وآثارها.. فكيف إذا كان التآكل قد نال من المقومات والقيم جميعاً؟
لقد تركنا الأمة بغير تحصين وتقوية لجهاز مناعتها، ومن ثم تآكل وعيها وضمر، أو فرغ وعبئ بثقافة الغير، فتنكرت طوائف منها لثقافتها وأصول نهضتها، والتي لولاها ما كانت لنا أمة أصلاً، والتاريخ يشهد.
هذا وإن وعي الأمة بأحكام ملتها وما يجب عليها حيال قضاياها -لا جرم- مطلوب ديني بحد ذاته، ومقصد من مقاصد الشريعة مستويٍ على رأس ثوابتها، وما كان كذلك لا يُعتذر عن فواته ولا يبرر التقصير فيه بوجه من الوجوه..
نعم.. قد يكون بالأمة عجزٌ يُقعدها عن امتثال بعض -أو جل- ما يجب عليها ديانة، غير أن ذلك لا يعفيها من وجوب استكمال قدراتها التي تؤهلها للامتثال، ولا يخلي مسؤوليتها في لزوم استمساكها بالاعتقاد والتصور الصحيحين. فإن الاعتقادَ شأنٌ قلبيٌ -كما أن العلم المجرد شأن ذهني- فلا وجهَ فيهما للاعتذار بالعجز، وعليه فلا أقل من أن يُعتقدَ الواجبُ واجباً والحرامُ حراماً والحلالُ حلالاً، والمشروع مشروعاً، وذلك أضعف الإيمان. ومن ثمَّ وجب على أهل العلم مطلق البيان، بقطع النظر عن إمكانية الامتثال.. قال تعالى: (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ[187]) (آل عمران).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْرَجُلٍ يَحْفَظُ عِلْمًا فَكَتَمَهُ إِلاَّأُتِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنَ النَّارِ " ([1]).
قال الخطابي: "هو في العلم الضروري، كما لو قال: علمني الإسلام، والصلاة، وقد حضر وقتها، وهو لا يحسنها، لا في نوافل العلم".
قلت: ولا ريب أن من العلم الضروري ما يتعلق بما يصان به الدين وتحفظ به البيضة من فرائض وواجبات وأحكام.
هذا من جهة.. ومن جهة أخرى: أن صحة الاعتقاد تُعَدُّ بحدِّها مؤهلاً للفعل من جهة الأصل عند استيفاء القدرة، فلا تبرح العقائد تشد المسلم إلى أصول الإيمان مهما كان حجم الهوة بينه وبين العمل، فكيف إذا توفرت العزائم على الفعل، لولا ما يحول دونها ودونه من عجز تترقب زواله، أو قهر ترجو دفعه؟.
ولذلك عُدَّ صادق النية في طلب الشهادة شهيداً.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سأل اللهَ الشهادة بصدق، بلَّغَهُ اللهُ منازلَ الشهداء، وإن مات على فراشه" ([2]).
وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: " إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم المرض" وفي رواية: " إلا شركوكم في الأجر" ([3]).
ومعلوم أن أولئك إنما عذروا لقيام العذر حقيقة لا توهما ولا تحايلاً، وأجِرُوا لصدق نيتهم وصحة عزيمتهم، وأنه لولا ما حبسهم ما قعدوا.. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ* [119] مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [12]) (التوبة).
وبين حال الصادق وحال الكاذب كما بين الصدق والكذب، وكما بين التقوى والفجور..
فمثل الأول: كمثل من قال الله تعالى فيهم: (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* [91] وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ[92] ) (التوبة).
ومثل الثاني: كمثل من قال الله تعالى فيهم: (وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً [72] وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً [73]) (النساء).
ثم عقب الله بعد ذكر هذا المثل بقوله: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [74]) (النساء).
فحفزهم للقتال في سبيله منبهاً لهم إلى ما تخلص به نياتهم وتصح به عزائمهم (يشرون الحياة الدنيا بالآخرة)، وصور ذلك صفة لهم ـ بالموصول وصلته ـ (الذين يشرون..)، ووعدهم بما فيه العوض عما ينفض الناس لأجله عن الجهاد (فسوف نؤتيه أجراً عظيماً). يتبع.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) رواه ابن ماجه في "سننه"، وهو حسن صحيح: كما قال الألباني، وانظر"التعليق الرغيب": (1/73)، و"تخريج العلم": (147/142)، نقلاً عن "صحيح سنن ابن ماجه" له: (24) باب من سئل عن علم فكتمه: (212).
(2) رواه مسلم، وانظر"مختصر مسلم": (178)، كما ذكره الألباني في"صحيح الجامع": (6176).
(3) رواه مسلم ـ كتاب الإمارة (48) باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر (ح/541).