المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التصوُّر المُبَكِّر وَالـفَـْتـوَى الاسْتباقيَّة -1-



الفرقاني
19-06-2005, 07:24 PM
التصوُّر المُبَكِّر وَالـفَـْتـوَى الاسْتباقيَّة -1-
18-6-2005

كثيرة هي النوازل والوقائع المتكررة والمتوقعة في واقع الأمة المعاصر، ولكننا من أسف نفتقد التصور المبكر المكيف لذاك الواقع شرعاً، ومن ثم نفتقد استباقية الفتوى فيما يغمرنا من نوازل، وما يلفنا من أحداث..لدينا تصورات.. ولكن يعوزها الشمول والتكامل. ونحمل أطروحات لا غبار عليها بالنظر إلى ذاتها.. ولكنها تفتقد التكييف الشرعي المراعي لواقع الحال، ذلك أن التصور الشرعي الكيفي الجامع -لذاك الواقع- غائب أصلاً، ومن ثم ننجرُ إلى طائفةًً من المثالب

بقلم محمد مصطفى المقرئ



كثيرة هي النوازل والوقائع المتكررة والمتوقعة في واقع الأمة المعاصر، ولكننا من أسف نفتقد التصور المبكر المكيف لذاك الواقع شرعاً، ومن ثم نفتقد استباقية الفتوى فيما يغمرنا من نوازل، وما يلفنا من أحداث..


لدينا تصورات.. ولكن يعوزها الشمول والتكامل. ونحمل أطروحات لا غبار عليها بالنظر إلى ذاتها.. ولكنها تفتقد التكييف الشرعي المراعي لواقع الحال، ذلك أن التصور الشرعي الكيفي الجامع -لذاك الواقع- غائب أصلاً، ومن ثم ننجرُ إلى طائفةًً من المثالب، أحصي منها ما يلي:


1-ارتجالية كثيرٍ من الفتاوى، واتسامها بالتعجل والتسرع، وقصور الاستقصاء الجامع لأبعاد وتفاصيل واقعة الحال.


والتعجل والتسرع مذموم كله سواء كان الإفتاء يقضي بالإقدام أو يقضي بالإحجام. كما أن الوسطية منزلة بين التشدد والتساهل. والحكمة هي التزام ما بين التهور والجبن.


2- انعدام التصور الشرعي المُرَسِم لكيفية التعامل مع النوازل وما يجب حيالها. وإن وجد فعلى نحو غير دقيق يفتقرٍ إلى الانضباط والوضوح.


3- إتاحة الفرصة لوقوع التضارب في الإفتاء، وتحير المكلفين بين المتعارض من الفتاوى، مما يشتت الجهود، ويوقع الإرباك، ويفتت الطاقات.. إلى غير ذلك من مساوئ الاختلاف على مستوى التعاطي العملي حيال وقائع الأحوال.


فكثير من الفتاوى تأتي منبتة عن الأحوال والملابسات ذات الصلة بالمحيط العام، أو ـ بعبارة أخرى ـ تصدر ناشزاً عن سياق ما يكتنفها من وقائع، مقطوعة عن منظومة إفتاء متناسقة، فهي غير مدرجة ضمن تصور جامع للواقع المعاش.


4- تضايق المساحة الزمنية المتاحة لتنضيج الوعي العام، وتقلص فرص الطرح الشرعي لتصوراتنا عن الواقع المعاش، والمعتبر في مثل هذا ليس مجرد التنظير والعرض، بل أن يُستوفى ذلك على نحو علمي فقهي منهجي، يرقى بقوة التعاطي مع التصور المطروح إلى مستوى الهدف، مكرساً -في ذات الوقت- لإجماع فعلي يضم أكبر عدد ممكن من علماء الأمة ومقدميها. وأيضاً مستقطباً حوله أكبر عدد ممكن من الناس.


5- غياب تصور جامع مقنع، يحظى بوزن مرجعي ثقيل، ما يحمل الكافة -أو جل الناس- على الإجلال والوثوق.. في مقابل اكتظاظ الساحة بكم هائل من التصورات والمناهج. وقد يكون من بين هذه المناهج والتصورات ما لو تكامل مع بعضه بعضاً لأنتج لنا التصور الجامع المأمول، أو ما يصلح أن يكون منطلقاً وركيزة لذاك التصور، غير أن الخلافات جعلتنا نتعامل مع مناهجنا باعتبارها خطوطاً متقاطعة متعارضة المسارات، فآثرنا التصادم والإقصاء على التكامل والالتقاء. بل بلغت حدة التعامل مع المنهج المخالف حدَّ معاداته كله بجميع مفرداته.


وقد يكون من أخطر دوافع تلك المواقف العدائية الحادة، انتماءات خاصة قائمة على مفهوم مغلوط لمعنى الولاء، ونظرة حزبية ضيقة أفضت إلى عصبية مقيتة.. (حمية الجاهلية).. عصبية تحمل أهلها على التحيز إلى توجهات الطائفة أو الجماعة أو الحزب وإن كانت خاطئة، ونبذ تصورات وأفكار الآخر وإن كانت صائبة!!


6- تهيب مخالفة الموروث الحزبي إلى غيره، وإن كان ذلك الغير أكثر نضجاً واكتمالاً، ولهذه العلة سببان:


الأول: نفسية الانبهار المفرط، وهي نفسية كفيلة بإخماد أي جذوة إبداع أو تجديد، مع ما يصاحبها من تهيب الجديد غير المألوف.


والثاني: غياب تصور جامع يحظى بوزن مرجعي ثقيل (كما ذكرت آنفاً)، أي ما يفوق -أو يكافئ- وزن مرجعيات المناهج المطروحة. فإن ذلك لو وجد لخفف من غلواء الولاءات الخاصة، ومن ثم يتأكد رجحان كفته عند المقارنة والاختيار.


7- وقد يؤدي هذا التهيب (تهيب الموروث الفكري للعمل الإسلامي) المتضخم إلى إيثار إبقاء جماعاتنا حبيسة تجارب تاريخية خاصة، بالتغاضي عن تغير المعطيات والملابسات الزمانية والمكانية، وبتجاهل سنن التطور والنمو، وبإهمال جوانب من المشهد العام والمحيط المتغير، وبنفي الآخر المتمثل في العناصر الملتحقة بالساحة مجدداً، والتي -لا ريب- تمثل جزءاً من طاقات الأمة، ربما يكون هو الأكبر أو الأعمق أثراً.. فبعضها يمثل طوراً من حركة التغيير نفسها، ويعبر عن مرحلة متقدمة من عمرها.


8- ترجيح التصورات والمناهج النظرية -أو الجوانب النظرية منها- على المناهج والتصورات العملية، وإن كانت تصوراتنا -نحن الإسلاميين- لا ينبغي أن تخلو من عمل، ولكنني أعني الجوانب العملية التي تمس عملية التغيير مساً مباشراً.. حتى إذا استفقنا من غفلة التقوقع في الأبراج العاجية.. جاءت محاولات النهوض بعد فوات الأوان، أو -كما يقال-: ((بعد خراب مالطة)) فلا ننتبه إلا وقد ضاعت الفرص السانحة، وتغيرت الأوضاع المثالية، وتبدلت الأحوال المواتية..


وعاجـز الرأي مضيـاع لفرصـته حتــى إذا فـات أمـرٌ عـاتـب القـدر


9- فقدان الأمة جهود طائفة مهمة من أبنائها، وهي طائفة ظننا بها أنْ لا تخالف ما نطمح أن تجمع عليه مرجعياتنا العلمية من تصور جامع، متى وجد هذ التصور، لأنها إنما توطن نفوس أتباعها على إجلال الدليل الصحيح، والتسليم للدلالة العلمية المؤصلة، ولا ريب أن سلفنا الصالح كانوا من التجاوب والتعاطي مع الواقع بمكان، بل كانوا في قلب أحداث الأمة المصيرية يوجهونها ويصنعونها، بل كانوا بعض وقودها الذي نضجت عليه مصالح الأمة وغاياتها.. فهلا وفرنا رؤية شمولية بقوة التأصيل الفقهي الذي كان لسلفنا؟ لعلنا إن فعلنا نستقطب جهود هذه الشريحة المهمة من جماعاتنا الإسلامية العاملة.


1- وأخيراً: يؤدي غياب التصور الجامع المأمول إلى توفير بيئة خلافية مفتتة القوى، متنازعة التوجهات، وتلك أجواء يتذرع به الأئمة المضلون إلى فتنة الناس، وتسهل على المفتين المفتونين مهمة الشغب على الفتاوى الشرعية الصائبة، إذ يبدو الحكم في كثير من القضايا -والحال كذلك- كأنه موضع خلاف وأخذ ورد، فإذا بقضايا شرعية قطعية، نصية أو إجماعية.. تستحيل وكأنها قابلة للاجتهاد، على الأقل في حس العوام، وأنصاف المتعلمين.. ناهيك عمن يصادف ذلك هوى في نفوسهم، أو يوافق مأرباً من مآربهم.


وخذ على ذلك مثلاً..


* بطلان شرعية الأنظمة المبدلة لشريعة الله، وإن صلى زعماؤها وصاموا وزعموا أنهم مسلمون. وأن بطلان ولاية من لا يقود الأمة بكتاب الله معلومة بالاضطرار من دين الإسلام، لا تتأثر بكون الحاكم مسلماً بالأصل، أو أن المساجد مفتحة الأبواب، والمآذن تصدح بالأذان يملأ الآفاق.. .. إلى آخر المظاهر الإسلامية التي -مهما كثرت- لا يمكن أن تجبر بطلان ولاية من لا يحكم بما أنزل الله.


ومثلاً آخر..


* بطلان شرعية الأنظمة التي ينصبها العدو الكافر، أو التي يُعَيِّنُها المحتلُ الغاصب، وأنه تحرم بيعتها، وتسقط طاعتها، ولا يحل الاعتراف بها أو إقرارها.. بل تجب مجاهدتها والعمل على إسقاطها، فهي والمحتل الغاصب في الحكم سواء.


وأنه مهما كان حجم المصالح التي يُروج بها لهؤلاء المعينين قصراً.. فإنها —أيضاً- مع افتراض تحققها لا تجبر بطلان ولايتهم، ولا تكفِرُ عن خيانتهم. وهي مصالحُ -على كلٍ- تأتي في إطار مقاصد العدو الغاصب، كجزء من المناورة أو الموازنة التي تصب في مصلحته مآلاً، والتي لا يمكن أبداً أن تكون في مصلحة الأمة. وتلك خطة استبعد منها الإسلام بالكلية، فأي مصلحة تلك التي تُعتبر إنْ فُقدَ الدين؟. وإننا لنقطع بأنه لا مصلحة يستتبعها إبعاد الدين.


ولقد دأب الاستعمار الحديث على إتباع هذا اللون من التغرير والمخاتلة، إذ يلتجئ إلى تولية حفنة من العملاء والخونة، ممن يحمل أسماء إسلامية وملامح "شرق أوسطية"، وما هم إلا مسخ من العدو عقولاً وقلوباً. وذلك لمآرب عدة: منها: تفادي الصدام المباشر مع الأمة إذ إن الاحتلال السافر من شأنه أن يستفز المشاعر الإسلامية والوطنية لدى الشعوب المستعمَرة، وهذا -بشهادة ما كرسته التجارب- يكلف المستعمر خسائر مادية وأدبية كبيرة. ومنها: تعيين سلطات محلية يسهل أن تُُضفى عليها صفة الشرعية، أو على الأقل يُتسنى بها التلبيس على الناس، ومن ثم إضعاف أثر وزخم الفتاوى المبطلة لمشروعيتها المنتحلة. ومنها: حرمان القوى الواعية من التلاحم مع القاعدة العريضة من الناس نتيجة هالات الغبش والتلبيس والتزييف التي تحيط بالسلطة الحاكمة، بما في ذلك ما يُستصدر من فتاوى رسمية تسوغ لقبولها وتسوق لمشروعيتها، حيث يُروج لها من خلال آلة إعلامية ضخمة لا تحظى الفتاوى الشرعية بمثلها أو قريب منها.


وفي هذا السياق نود أن ننبه إلى أن المستعمر يستعير اليوم من تاريخه بعض ما جربه من أساليب، ولكن مع تغيير في أسماء اللاعبين وعناصر اللعبة.. فكما سحب البساط —قديماً- من تحت أقدام الحركات الإسلامية والوطنية، حينما جاءنا بخديعة "الاستقلال" والثورات "الوطنية".. يريد اليوم أن يضرب الإسلام بالإسلام، ويسحب البساط مرة أخر من تحت أقدام الإسلاميين "المتشددين" بإفساح المجال أمام الإسلاميين "المعتدلين" !!


ونحن لا نطعن في نوايا جماعاتنا الإسلامية المعروفة، ولكن لا بد من التنبيه إلى أن تلك الخطة الاستعمارية الجديدة لن تكون إلا جزءاً من المناورة لضرب الإسلام كله، بعد أن تأكد لهم أن ديننا لا يتسنى ضربه إلا من الداخل. كما أنهم يمكن أن يأتوا بمن لا يعبر عن الإسلام الصحيح اللهم إلا من خلال لافتات الدعاية والتغرير.. أو بشيء قريب من المؤسسات الدينية الرسمية!!


ومثلاً آخر..


* حرمة معاونة الأنظمة العميلة (الاستعمارية بالوكالة)، ولو كان ذلك على سبيل الارتزاق، ناهيك عن معاونتها موالاة ونصرة وتأييداً ومحبة لإعلاء شأنها. وهو فعل معدود -في تكييفه الفقهي- جريمة عظمى، وخيانة للدين والأمة والوطن.


أقول: وربما تكون هذه القضايا واضحة في أذهان وتصورات طوائف من المتعلمين ومنتسبي العمل الإسلامي.. غير أن المعني بالتوعية في شؤوننا العقدية والمصيرية هم الكافة من عموم الأمة وقاعدتها، فضلاً عن نخبتها وقادتها. وذلك يستوجب —بالطبع- مضاعفة الجهود المبذولة، ويستدعي طرقاً متواصلاً لأجراس الإنذار المبكر، وعلى رأس ما يجب أن يضاعف من جهود: وضع التصورات الشرعية والتكييفات الفقهية الاستباقية التي تغطي قضايانا المصيرية المتوقعة، فضلاً عن الواقعة والمتكررة.


ومثلاً آخر..


* حرمة ممارسة التعذيب وانتهاك الحرمات نصرة لأنظمة ساقطة المشروعية، كونها مستبعدة للإسلام، أو خائنة للأمة، أو مُعَيَّنةً من قبل أعداء الدين والوطن.


نعم.. ثم فتاوى صدرت عن بعض أهل العلم تقضي بحرمة التعذيب، ولكن هل ينتهي الحكم -في ذلك- عند حد الحرمة فحسب إن مُورس عداوة للإسلام ونقمة من أهله (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [8]) (البروج). أو نصرة لأعداء الأمة وتنفيذاً لمخططاتهم. وإذا بلغ ذلك حد الكفر -وهو بالغه- أليس يجب الإفتاء بما يستوجبه العصيان من الاعتزال والهجر والمقاطعة لهؤلاء الجلادين، وما يستوجبه الكفر من ترك الصلاة عليهم إن ماتوا، وأن لا يدفنوا في مقابر المسلمين، وأنه تنقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، فلا يرثون ولا يُورثون، ويفرق بينهم وبين زوجاتهم؟ وبعض هذه الأحكام لا يتوقف على وجود سلطة تمضيه، بل بإمكان المسلمين إمضاؤه متى وجدت مرجعية جامعة متنفذة أدبياً.


فهل هذا العرض كافٍ كي ندرك خطورة توانينا في مجارات حادثات الزمان بما يوصفها شرعاً ويحدد الواجب تجاهها ديانة؟ وهل نعي الآن -لشواهد الحال حولنا- أن تراخيَنا في المعالجة الفقهية لقضايا الأمة تفريط مهول وتضييع مريع، أفضى بالناس إلى فوضى تشريعية عريضة الأبعاد، تعددت فيها مراجع الإفتاء وتعارضت في مواردها ومساراتها. ولا سيما وقد التحقت بجيوش المفتين رؤوس جهال تفتي بغير علم فضلت وأضلت، وأدمغة تفتي بالهوى وللشهوة فزاغت وأزاغت؟. وقد اندس في هذه الفوضى أبالسة مأجورون، ومن ورائهم جيوش من المفسدين يقعدون بالأمة كل مرصد، ومفارز من المتعالمين يكمنون لها بطرق الخير كلها، يريدون ليردوها عن الصلاح والطاعة، استناداً إلى فتاوى أهل الجهل والهوى، والتي ربما وجد العاميُّ فيها ما يخدر به "ضميره" ويسكن لوم نفسه، أو على الأقل ما يتقي به عتب الناس واذدراءهم ومقتهم.. هذا لمن بقي منهم على شيء من وازع الدين وحياء الإيمان؟


فما أشبه ثقافتنا الدينية -مع انعدام التصور الجامع لواقع الأمة، وما يصاحبه من فوضى الإفتاء والافتئات- ببيئة غدت مقوماتها (التي لم يتحفظ لها) عرضة للتآكل، بفعل عوامل التعرية وآثارها.. فكيف إذا كان التآكل قد نال من المقومات والقيم جميعاً؟


لقد تركنا الأمة بغير تحصين وتقوية لجهاز مناعتها، ومن ثم تآكل وعيها وضمر، أو فرغ وعبئ بثقافة الغير، فتنكرت طوائف منها لثقافتها وأصول نهضتها، والتي لولاها ما كانت لنا أمة أصلاً، والتاريخ يشهد.


هذا وإن وعي الأمة بأحكام ملتها وما يجب عليها حيال قضاياها -لا جرم- مطلوب ديني بحد ذاته، ومقصد من مقاصد الشريعة مستويٍ على رأس ثوابتها، وما كان كذلك لا يُعتذر عن فواته ولا يبرر التقصير فيه بوجه من الوجوه..


نعم.. قد يكون بالأمة عجزٌ يُقعدها عن امتثال بعض -أو جل- ما يجب عليها ديانة، غير أن ذلك لا يعفيها من وجوب استكمال قدراتها التي تؤهلها للامتثال، ولا يخلي مسؤوليتها في لزوم استمساكها بالاعتقاد والتصور الصحيحين. فإن الاعتقادَ شأنٌ قلبيٌ -كما أن العلم المجرد شأن ذهني- فلا وجهَ فيهما للاعتذار بالعجز، وعليه فلا أقل من أن يُعتقدَ الواجبُ واجباً والحرامُ حراماً والحلالُ حلالاً، والمشروع مشروعاً، وذلك أضعف الإيمان. ومن ثمَّ وجب على أهل العلم مطلق البيان، بقطع النظر عن إمكانية الامتثال.. قال تعالى: (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ[187]) (آل عمران).


وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ‏"‏ مَا مِنْرَجُلٍ يَحْفَظُ عِلْمًا فَكَتَمَهُ إِلاَّأُتِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنَ النَّارِ ‏"‏ ‏([1]).


قال الخطابي: "هو في العلم الضروري، كما لو قال: علمني الإسلام، والصلاة، وقد حضر وقتها، وهو لا يحسنها، لا في نوافل العلم".


قلت: ولا ريب أن من العلم الضروري ما يتعلق بما يصان به الدين وتحفظ به البيضة من فرائض وواجبات وأحكام.


هذا من جهة.. ومن جهة أخرى: أن صحة الاعتقاد تُعَدُّ بحدِّها مؤهلاً للفعل من جهة الأصل عند استيفاء القدرة، فلا تبرح العقائد تشد المسلم إلى أصول الإيمان مهما كان حجم الهوة بينه وبين العمل، فكيف إذا توفرت العزائم على الفعل، لولا ما يحول دونها ودونه من عجز تترقب زواله، أو قهر ترجو دفعه؟.


ولذلك عُدَّ صادق النية في طلب الشهادة شهيداً.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سأل اللهَ الشهادة بصدق، بلَّغَهُ اللهُ منازلَ الشهداء، وإن مات على فراشه" ([2]).


وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: " إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم المرض" وفي رواية: " إلا شركوكم في الأجر" ([3]).


ومعلوم أن أولئك إنما عذروا لقيام العذر حقيقة لا توهما ولا تحايلاً، وأجِرُوا لصدق نيتهم وصحة عزيمتهم، وأنه لولا ما حبسهم ما قعدوا.. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ* [119] مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [12]) (التوبة).


وبين حال الصادق وحال الكاذب كما بين الصدق والكذب، وكما بين التقوى والفجور..


فمثل الأول: كمثل من قال الله تعالى فيهم: (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* [91] وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ[92] ) (التوبة).


ومثل الثاني: كمثل من قال الله تعالى فيهم: (وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً [72] وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً [73]) (النساء).


ثم عقب الله بعد ذكر هذا المثل بقوله: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [74]) (النساء).


فحفزهم للقتال في سبيله منبهاً لهم إلى ما تخلص به نياتهم وتصح به عزائمهم (يشرون الحياة الدنيا بالآخرة)، وصور ذلك صفة لهم ـ بالموصول وصلته ـ (الذين يشرون..)، ووعدهم بما فيه العوض عما ينفض الناس لأجله عن الجهاد (فسوف نؤتيه أجراً عظيماً). يتبع.



--------------------------------------------------------------------------------



(1) رواه ابن ماجه في "سننه"، وهو حسن صحيح: كما قال الألباني، وانظر"التعليق الرغيب": (1/73)، و"تخريج العلم": (147/142)، نقلاً عن "صحيح سنن ابن ماجه" له: (24) باب من سئل عن علم فكتمه: (212).


(2) رواه مسلم، وانظر"مختصر مسلم": (178)، كما ذكره الألباني في"صحيح الجامع": (6176).


(3) رواه مسلم ـ كتاب الإمارة (48) باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر (ح/541).

الفرقاني
23-06-2005, 09:54 PM
التصوُّر المُبَكِّر وَالـفَـْتـوَى الاسْتباقيَّة 2-2


22-6-2005

إنه يتحتم على الأمة اليوم أن يكون لها تصور فقهي استباقي جامع، من ورائه هيئة علمية مستنفرة تتصدى لكل نازلة على الفور، وتحدد للأمة الوجهة الشرعية المقصودة علماً وعملاً. كي نتدارك الأزمات والنكسات في بداياتها، ونعالج الآفات والأدواء قبل استفحالها وقد قامت مجامع وتجمعات واتحادات في دول عدة، لكنها لم تأخذ هذه الصفة الجامعة، فإن الجامعية صفة متحتمة إن شئنا أن نجعل من تلكم الهيئة المنشودة مرجعية عامة ذات وزن
بقلم محمد مصطفى المقرئ
ولنعد إلى ما نحن فيه..


إن من شأن الفتوى النابعة من تصور استباقي جامع ما يلي:


1ـ لا ريب أن الأمة إن كان لديها تصور ومنهاج وغايات كبار حاضرة في وعيها.. عبأها ذلك لما تطمح إليه، وشحذ هممها أن تكون على مستوى طموحها، ما ينعكس ـ ولا ريب ـ على أهليتها فيدعمها ويرقيها، ويضاعف معطيات التوفيق لديها.. قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [7]) (محمد). وقال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [55]) (النور). وبين أن المعصية سبب رئيس في الهزيمة والخذلان فقال:(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[165]) (آل عمران). وعلى أساس من هذه القاعدة ندرك أن أهم معطيات النصر تتمثل في ابتغاء مراضي الله جل وعلا واتقاء مساخطه.


2ـ أسبقية التهيؤ والإعداد بمستوى يكافئ غايات التصور ومقاصده. ولقد تكون البدايات من الصفر، مروراً بمراحل التطور والنمو التي تحكم الأعمال كما تحكم الكائنات، ولا جرم أن التقيد بهذه المراحل لازم لا محالة.


فإذا صلحت البدايات صلحت النهايات.


وثمة أمور -من البدايات- لا تحفها مخاطرة أو مجازفة، فكثير من مكونات التأهيل ومفرداته لا تخرج عن أطر البناء الإيماني، والإعداد النفسي، والتهيؤ الذهني، أضف إلى ذلك ما يمنحه التصور المبكر الاستباقي من فرص الترقي بالوعي العام، وما يكرسه من استقرار في النظر الفقهي، وما يرسخه من معلوم ديني اضطراري لدى الكافة.


وإذا مضينا مع خط ما ضربناه من أمثلة فيما سبق -لأنه ألصق بالواقع على الأقل في المناطق الساخنة- نقول: قد يقع التكليف على نحو يشق على بعض الأنفس، وذلك لا يضر على شرطين: الأول: أن يغلب على الجماعة المسلمة الرضا والقبول والانقياد للتكليف وإن كان -يصدر عن البعض- على كره.. والثاني: أن تصح العزائم على امتثال غير المقدور متى أمكن، مع بذل الوسع في دفع العجز والعمل على الخروج من حال الضعف.


وقد تحقق الصحابة رضي الله عنهم بهذين الشرطين.. مع ما ألم بطائفة منهم من كراهية بعض التكليف (كره جبلة، لا كره تشريع) إذ لم يكن هو السائد فيهم.. قال تعالى: ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ[5] يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ[6] ) (الأنفال).


إذاً فبعض الأمة أو الجماعة -الذي لم يرتق إلى المستوى المروم- لا تأثير له في اكتمال صفات الطائفة المنصورة، إذ المعول على الوصف المهيمن، والاعتبار في الحكم للغالب.


وندرك أن غالب الأمة اليوم دون المستوى المروم بكثير.


ومما لا ريب فيه أن مراحل الاستضعاف والانكفاف لها آثارها السلبية على نفوس الناس واستعداداتهم، وهو ما ينبغي أن يراعى في تربية الأمم والجماعات، فإنه كلما طالت مراحل الاستضعاف تضاعفت هذه الآثار وتمكنت، وعلى الرغم من ذلك لا ينبغي أن تتجاهل تلك المراحل أو تُسقط من الحسبان، أو أن يختزل كَمُّها على حساب كَيْفِ المستضعفين، أو أن يتعجل تجاوزها ولو بالتعسف في تقدير العواقب والمآلات. لكنني أعني أن تختصر أزمنتها ما أمكن، أي بمضاعفة جهود التنضيج والإعداد في حدود ما لا يجلب انتكاسة أو يعجل بثمرة قبل أوانها، فالمستضعف ـ على وجه الخصوص ـ يجب أن يبقى ماسكاً بزمام المبادرة، فلا يستدرج ولا يجر لعمل لم يختر مكانه وزمانه ومعطياته.


وعلى أن لا تهدر الفرص المتاحة إلا درءاً لمفسدة حقيقية متوقعة، يعتبر ـ في تقديرها ـ بما يقابلها من مفسدة طول أمد القهر؛ فيرجح بينهما.


كما يجب أن يتزامن مع ذلك معالجة قريبة لهذه الآثار السلبية أو التقليل منها ما أمكن.


الآثار السلبية للاستضعاف على نفوس المستضعفين


أما ما أعنيه بآثار الاستضعاف السلبية على نفوس المستضعفين فمنها ما يلي:


أول الآثار:) الاستنامة إلى الركون والدعة، واستمراء القعود والانكفاف، ما يؤدي إلى إلف السلامة والعافية، وتهيب ما يتوقع منه الضر والأذى، واستصعاب التكاليف الجالبة للمشقات، بل واستصعاب كل تكليف يخرج عن المألوف المعتاد.. ولقد نبه الله تعالى إلى هذا في كتابه حيث قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [77]أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [78]) (النساء).


فلطبيعة المرحلة ـ وإن قصرت ـ تأثير على نفسية المعايش لها، فينبغي أن يقتصر على أقصرها مدة ما أمكن، على أن تستثمر جوانبها الإيجابية بأقصى مدى وأعمقه، فإن لكل مرحلة سماتها التي تسهم في صياغة شخصية المسلم وتعده بوجه من الوجوه.


مثلاً: في الآيات السابقة يورد السياق بعض صفات من ذكر الكلام على ألسنتهم.. بعد أن شخص دوافع ما قالوا.. (فلما كتب عليهم القتال) أي بعد أمد من الاقتصار على تكاليف لا يُخشى من ورائها ضر (إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) وهذه هي العلة الباطنة لإحجامهم ورجائهم التأجيل، الذي يقابله اليوم في واقعنا التسويف والمطل، (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب).. ثم يقرر القرآن وجه المداواة لهذا الداء.. (قل متاع الدنيا قليل) أليس هذا هو ما يشد الناس إلى خلف ويثبطهم عن الإقدام؟ كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [38]) (التوبة). وفي التشخيص النبوي ـ كما ورد في الحديث الصحيح ـ : " يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله! فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، وينزع الرعب من قلوب عدوكم؛ لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت " ([1]).


ثم يعقد في أذهانهم مقارنة بين ذلك الذي يرغبون فيه وما يرغبون عنه (والآخرة خير لمن اتقى) وتلك هي التجارة الرابحة يقيناً، فلا يخشى فيها خسارة أو غبناً، ولا يخاف ظلماً ولا هضما (ولا يظلمون فتيلاً).. حتى إذا استقر هذا المعنى في قلوبهم بعدما سلم في أذهانهم، يداوي جانباً آخر من الداء، ألا وهو كراهية الموت، ومظنة إمكان الفرار منه إن هم نكلوا عما عاهدوا الله عليه ـ مما أمروا به على خلاف ميلهم ـ (أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة).. وأن النفع والضر كليهما من عند الله، وعليه فإن امتثال التكليف إن جلب عليهم ضراً فإنما هو بتقدير الله عز وجل وحده.


وقد قرر القرآن حقيقة الموت وحتميته، وبين أنها سنة كونية جارية على الخلق كلهم، وإن تعددت أسبابها وتنوعت صورها، وذلك في مواضع منه، منها: ما جاء في سورة آل عمران: (وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [157] وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ[158]) (آل عمران).


وفي هاتين الآيتين نكتة دقيقة: وهي أن الله تعالى قدم ذكر القتل على الموت في الآية الأولى في سياق الحض على القتال في سبيله تعالى، لأن الغالب المظنون في ساحات الوغى هو القتل لا الموت المعتاد. ثم أطمعهم -لأجل ذلك- في جزاء القتال في سبيل الله، وفي الآية الثانية قدم ذكر الموت على القتل، إذ الغالب في الأحوال العادية الموت لا القتل. ثم بين أن المصير -في كلا الحالين- واحد (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون).


ثاني الآثار السلبية للاستضعاف: إن طول الأمد في الاستضعاف قد يودي بالمستضعف إلى أن يستمرئ الهوان، ويرتضي التبعية الذليلة للملأ المستكبرين، فلا يزال ذلك به، يسري في أوصاله، حتى يضعف ويستكين، ويصبح قبول الاستضعاف نابعاً من داخله، لا من مجرد الإذلال الذي يمارس عليه.


ومن قبل كتبت في ذلك فقلت:


قسَّمَ المنهجُ الربانيُّ المستضعفين إلى صنفين:


الصنف الأول: مستضعفون غير مستسلمين لقهر المستضعِفين، لا يهنون ولا يهونون، بل ويجتهدون للخروج من حالة العجز أو الضعف النازلة بهم، ويعملون على الخلاص من الطغاة وحزبهم وأوضاعهم.


وهؤلاء هم الذين وُعدوا من الله التمكين ولو بعد حين، قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ[5] وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ [6]) (القصص). وكما قال في الصحب الكرام ـ رضي الله عنهم ـ : (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[26]) (الأنفال) ، ومن لم يدرك ذلك (الوعد) منهم فهو مع من قال الله تعالى ـ فيهم ـ : (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169] فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [17]) (آل عمران)، وليس هذا الفضلُ قاصراً على من نال شرف الشهادة في سبيل الله وحسب، بل يدخل فيه كل من مات ماسكاً على منهج الإيمان، مخالفاً لمسلك أهل الطغيان، لعوم قول الله تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [139]) (آل عمران). ولقول الله تعالى: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ في سَبيل اللهِ أوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةً مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [157]) (آل عمران). ، ولقول الله تعالى: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرَاً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ [1]) (النساء). ، وسواء في ذلك من هاجر ببدنه منهم ومن لم يهاجر إلا بقلبه لمعنى شرعي صحيح، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه "([2]).. والمقصود: أن المستضعف الماسك على دينه، المنكر للقهر ما وسعه الإنكار، بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، مُحَدثاُ نفسه ببذلٍ أكثرَ وأعظمَ مما هو فيه؛ فهذا إن وَفَى على ذلك كان له أجرُ الشهيد وإن مات على فراشه.


ولا ريب أنه قد يعتري بعض المكلفين حالة من العجز لا يقدرون معها على الإنكار بالجارحة، فهؤلاء المعول في نجاتهم على حال قلوبهم وتركهم المتابعة للباطل، وذلك من جهات ثلاث:


1ـ أن لا تميل قلوبهم إلى أهل الباطل، وأن لا يتسرب إليها شيء من موافقتهم الباطنة، قال تعالى: ( لا يَتَخِذُ المُؤمِنُونَ الكَافِرينَ أوْلياءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنينَ وَمَنْ يَفعلْ ذلكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شيءٍ إِلا أَنْ تَتَقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ [28]) (آل عمران) ، ففي الآية تحذير من الميل القلبي حال المداراة والعمل بالتقية، لما قد تجر إليه المجاراة الظاهرة من الموافقة الباطنة.


2ـ والمستضعف قد يورثه واقع القهر المتمكن اللابث المزخرف.. الرضا بالباطل، إما بفعل طول الإلف والعادة دون إنكار ولا كره منه، حتى يعود قلبه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وإما بفعل المخالطة والمسايرة والمصانعة، والانجرار ـ ولو اضطراراً ـ إلى موافقتهم، فضلاً عن الفتنة بما هم عليه، ومن ثم تمنيه، وربما الحرص عليه. وقد رُويَ عن أبي جحيفة، قال: قال عليٌّ: إنَّ أولَ ما تغلبون عليه من الجهاد: الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فمن لم يعرف قلبه المنكر، نُكس فجعل أعلاه أسفله. وقال ابن مسعود: يوشك من عاش منكم أن يرى منكراً لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. وفي "سنن أبي داود" عن العرس بن عميرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا عُملت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها " ([3]).


3ـ متابعة أهل الحق لأهل الباطل، سواء واطئتها موافقة قلبية، أو كانت مجرد طلب لشهوة أو مصلحة دنيوية، وهذه لا مخرج منها إلا بأحد حالين: الإنكار لمن قدر عليه، أو الكره للمنكر لمن لم يقو على تغييره، وتلك أدنى مراتب الإنكار الواجب كما في حديث أم سلمة ـ عند مسلم وأبي داود ـ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ستكونُ أمراء فتَعْرفونَ وتُنكرون، فمَنْ كرهَ برئ ، ومن أنكر سلم، ولكنْ مَن رضِيَ وتابعَ لمْ يَبْرَأ" ([4]).


ثالث الآثار:) أن الأمة التي يطول عليها الأمد في الخنوع والاستكانة للطغاة تفقد القدرة على المقاومة شيئاً فشيئاً، إلى جانب أن لوثة الغطرسة والكبر والطغيان ـ التي تعاني آثارها ـ ما تلبث أن تصيب قطاعاً عريضاً منها، ثم يأخذ هذا الداء في الاستشراء ـ اتساعاً وإيغالاً في النفوس ـ كلما طال عليها الأمد، ما بقيت ترزح تحت وطأته.


فإن استقرار السلوك المنحرف وتمكنه وفرضه على مجتمع ما.. لا ريب يؤدي إلى استشرائه وتفشيه من الرأس إلى القواعد، إذ يتحول المجتمع ـ والحال كذلك ـ إلى بيئة حاضنة لذاك السلوك، وهو وإن كان يبدأ بفئة باغية قابضة على زمام الأمور، إلا أنه يتمدد ويتسع نطاقه، حتى يطبقه الناس في نطاقاتهم الخاصة كنوع من التنفيس، وربما كنوع من الشعور بالنقص، أو لمعنى الانتقام والقصاص لذواتهم ولو بممارسة الاستكبار والغطرسة والفرعنة على غير من مارسها عليهم، فيستضعفون بدورهم مستضعفين آخرين سواهم، أو اقتداء وتأسياً بالأنموذج المستعلي، وذلك تغذيه وتشجع عليه نفوس مريضة وأغراض دنيئة.. إنه نوع من قابلية المهزوم المستضعف لتلقي كل ما يملى عليه من المنتصر المستكبر ثقافة وفعلاً.


رابع الآثار:) ازدياد حجم الفساد، وشيوع المنكر، وتفشي الرذيلة.. .. ثم نلحظ ـ متأخرين أو متأخرين جداً ـ أن أنماطاً من أشد مظاهر الفساد سوءاً قد ضربت أطنابها في أعماق بيئتنا الأخلاقية.. حتى غدت تنخر في عظام قيمنا ومبادئنا وعقيدتنا.. وإذا الأمة غير مؤهلة لما يجب عليها، وما ينتظر منها.


إن التردي الأخلاقي والانحطاط النفسي خطان متوازيان يهويان بأهلهما إلى هوة اللا إنسانية، بينما كل منهما يشد على عضد الآخر.


وقد ربط القرآن بين استخفاف الطاغية بقومه وبين فسقهم الذي يغيبون به عن وعيهم؛ فقال تعالى ـ حكاية عن مَثَلِ الطغاة الأول (فرعون) وخُطَّتِهِ في استذلال قومه، واجتهاده في تهيئتهم للقبول بفساده والإعجاب بهوسه والإشادة بتهافت منطقه ـ : ( وَنَادى فِرْعَوْنُ في قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِِ أَلََيْسََ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهارُ تَجْري من تحتي أفلا تبصرون[51] أَمْ أَنا خَيْرٌ مِنْ هَذا الَّذي هُوَ مَهيِنٌ ولا يَكادُ يُبينُ[52] فلولا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ منْ ذَهّبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنيِنَ[53] فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين[54]) (الزخرف).. قال الحافظ ابن كثير: "أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له " ([5]) ، وقال القاسمي ـ في "التفسير" ـ : "أي فاستفزهم بهذه المغالطات، وحملهم على أن يخفوا له ويصدقوه" ([6]).. وكذلك يدرك الطغاة ـ دوماً ـ أن تفسيق الأمة، ودفعها إلى مهاوي الرذيلة؛ هو أقصر الطرق إلى استخفافها ورضاها الدنية في دينها ودنياها!!


من أجل ذلك ما فتئَ الغاوون من شياطين الإنس يشيعون الفاحشة في الذين آمنوا، ويروجون للرذائل والخطايا، ويزينون الفجور والمجون، وهم يجتهدون في هذا ويضاعفون منه كلما لحظوا في الناس عودة إلى الدين واستجابة لمحابِّ رب العالمين ( واللهُ يُريدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُريدُ الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمَاً [27]) (النساء).. حتى إذا صارت الأمة أشبه ما تكون بتلك الأمم المتمرغة في أوحال الإباحية والانحلال؛ قبضوا على ناصيتها وأحكموا قيادها وساقوها سوق القطعان..


والطغاة من جهتهم لا يألون جهداً في نشر الفساد وإشاعة الفاحشة بكل طاقاتهم وبتسخير جملة ما يحكمون من آليات ومؤسسات.


فبين الطغيان والفساد رباط وثيق لا يكاد ينفصم. وهذا ما يبصرنا بعداً آخر لمساوئ أزمنة القهر، غير الإذلال والظلم وإهدار إنسانية الإنسان. فإن طالت تلك الأزمنة تضاعفت آثارها اللا أخلاقية، وترسخت مظاهر ذلك في المجتمع حتى تصبح جزءاً من ثقافته.


وأشير —هنا- إلى أن ثمة أموراً تساهم في تسويغ الفساد بمختلف ظواهره المرضية، حتى تبدو تلك الظواهر في أنظار الناس وكأنها الأصل.. إلى أن تبلغ أن يتعاطوها باعتبارها طهراً ورقياً، ونبوغاً ونجومية.


منها: أن طول الأمد في الإقامة على المنكر يحيله -في حس فاعليه والساكتين عنه- معروفاً معتاداً متداولاً مذكوراً غيرَ منكور.. ولا يزال ذلك بهم حتى يؤثر في نظرتهم إليه، واعتقادهم فيه... فإذا الحلال حرام، والحرام حلال.


ومنها: غياب أو ضعف الفتاوى التي تنقض هذه الظواهر والأوضاع وتزدري بأهلها، وهذا -في بعض أسبابه- ناتج عن غياب التصور المعالج لمجمل الواقع وتفاصيله.


ومنها: استصدار التشريعات المبيحة للمنكرات، وصياغتها في قوانين سارية التنفيذ، وبرفقتها تشريعات أخرى تبيح المنكرات في حدود معينة، بقصد الالتفاف حول صريح تحريمها، وتفادياً للمصادمة المباشرة مع نصوص النهي الظاهرة المتواترة، ذراً للرماد في العيون، مع الإبقاء على أبواب تلك المنكرات مواربة من خلال تلك التقنينات، كقوانين العقوبات القاضية بتجريم ارتكاب الزنا والاتجار بالفاحشة وشرب الخمر وغيرها.. في أحوال استثنائية فقط!!!


ولسنا نستبعد وقوع الانحراف في أي مجتمع مهما بلغ طهره وسموه، ولكن أن يستحيل الانحراف -في أنظار الأمة- استقامة.. فذلك أخطر من الانحراف ذاته.. لأنه يحرف العقيدة ذاتها من جهة، ومن جهة أخرى يهيأ المجتمع لتقبل الانحراف دون إنكار، بل ويجرئ الناشئة والأغرار على مقارفته، ويقننه ويفلسفه، ومن ثم يشيعه في الناس بلا حدود.


وجميعنا يدرك أن اتساع مساحات ظواهر الفساد من شأنه أن يعرقل حركة التغيير ويصعب مهمتها، فالعلاقة بين هذه وتلك علاقة طردية، كما أن تطاول الزمن على الفساد يمنحه فرصة النمو والتكاثر. ومن ثم فإن غياب التصور الجامع يفوت فرصة معالجة هذه الظواهر بحسبها وفي حينها، أي بمجرد رصدها قبل استفحالها، وأيضا بمراعاة ما تتيحه طبيعة كل مرحلة تغييرية، وما تمليه حسابات المصالح الشرعية وتقدير العواقب.


أيها القارئ الكريم..


لقد قصدت إلى الاستطراد والتطويل في بيان آثار الاستضعاف كي ألفت النظر إلى خطورة طول أمده، ولنتنبه إلى ضرورة العمل على تقصير هذا الأمد ما أمكن.


إنه يتحتم على الأمة اليوم أن يكون لها تصور فقهي استباقي جامع، من ورائه هيئة علمية مستنفرة تتصدى لكل نازلة على الفور، وتحدد للأمة الوجهة الشرعية المقصودة علماً وعملاً. كي نتدارك الأزمات والنكسات في بداياتها، ونعالج الآفات والأدواء قبل استفحالها.


ولست أخال تلك المرجعية المأمولة قادرة على الاضطلاع بدورها وتحمل تلك المسؤولية حق حملها، وأداء الأمانة فيها حق الأداء، وتحقيق النجاحات المنشودة من وراء ذلك.. إلا بالمواصفات التالية:


- هيئة مستقلة عن الأحزاب والتنظيمات القائمة بقدر استقلالها عن الجهات الرسمية والحكومية، متحررة من سطوة الأنظمة الفاسدة وسياساتها العوجاء.


- تضم ثقات أهل العلم والنابغين من كل تخصص تستوجب مؤهلات التنظير الفقهي وجوده.


- تمثل مختلف أطياف الأمة في إطار أهل السنة والجماعة. على أن لا يستبعد من أهل العلم والفتيا من تستوفى فيه شروطها، مع وضع لائحة تأسيسية تحول دون تحويل مسارها الجماعي إلى رافد تيار بعينه.


- تتخذ قراراتها ومواقفها وتصدر فتاواها بناء على دراسات يتم تقويمها بإعمال مبدأ الشورى.


ويبقى المجال مفتوحاً أمام أهل العلم والفتوى كي يصبوا في دلاء هذا التصور الأمل ما ليس فيه.. مما يتم به المراد، وتتحقق به المقاصد على أحسن الوجوه.


ولقد قامت مجامع وتجمعات واتحادات في دول عدة، لكنها لم تأخذ هذه الصفة الجامعة، فإن الجامعية صفة متحتمة إن شئنا أن نجعل من تلكم الهيئة المنشودة مرجعية عامة ذات وزن موزون عند عموم الأمة، فيكون حقيق على الأمة أن تمنحها ثقتها وحق طاعتها، وهي ـ عندئذ ـ لا بد فاعلة إن شاء الله تعالى.


ويتوجب هاهنا سؤال:


كيف نشخص أسباب إحجام كثير من أهل العلم عن اللحاق بتلك التجمعات. وقبل أن نتعجل الإجابة يجب أن نؤكد على أن دوافع ذلك عند جل علمائنا لا تتعلق برهبة من الخلق أو رغبة فيما عندهم، ولكن يرجع إحجامهم إلى أسباب قائمة بالتجمعات المشار إليها ذاتها، والتي منها:


1- خصوصية تلك التجمعات واقتصارها على اتجاه بعينه، أو تغليبه فيها. وهذا أحد المظاهر الحتمية لعقلية التمحور حول الذات.


2 - قصور أهدافها وبرامجها ومنطلقات تأسيسها عن الغايات المأمولة، والتي على رأسها: إيجاد المرجعية الجامعة التي نحلم بها جميعاً.


3 - أسباب أخرى تتعلق بطبيعة تشكيل وتوجهات تلك التجمعات. لاعتبارات عقدية أو فكرية.


4 - باعتبار هذا المشروع جزءاً من الواقع أو أنه مستولد منه فلا جرم أنه يتأثر بالأجواء العامة التي تحكم العلاقات بين الجماعات القائمة، كضعف التواصل، والدفع بالاختلافات خارج إطار أدب الخلاف إلى حلبات التنازع والخصام، وإهمال بناء الثقة والمصداقية، وتناسي الفضل وهضم الحسنات، وشيوع معايير في التزكية والتقديم على أساس من الميول الحزبية والانتماءات الخاصة، لا على ما يقرره ميزان الشريعة من قواعد في التقويم والحكم على الناس. ويتصل بهذه النقطة: منح الأولوية المطلقة للميول الخاصة، فكراً ومنهجاً وتنظيماً وتطبيقاً، وتأبي البعض النزول على رأي المخالف، فضلاً عن عدم الاعتراف به وترك احترام رأيه أصلاً.


إن كثيراً من هذه الأدواء يكمن البرء منها في التقاء مقدمينا التقاء صفاء وصدق، التقاء منزهاً عن المناورات السياسية والحساسيات الحزبية، يضربون فيه المثل الرفيع ويقدمون من خلاله القدوة الحسنة في التعامل مع الآخر، وذلك جانب ينبغي أن يكون مرعياً ومدرجاً ضمن التصور الجامع المأمول، فإن من سمات هذا التصور الرئيسة: التعامل مع واقعنا باستيعاب وشمول.


أخي القارئ الكريم..


على الرغم من أنني حاولت ـ قدر الوسع ـ تقرير أهمية التصور المبكر والفتوى الاستباقية، وما يستوجبه ذلك من إيجاد مرجعية فقهية جامعة.. إلا أنني أقرر أيضاً أن مثل هذه القضايا الكبرى يتحتم معالجتها من قبل عموم علمائنا ومفكرينا، ليدلي كل ذي قدرة وأهلية برؤيته، كي يجتمع من دلائهم جميعاً ما يعبر عن أعرض قطاع ممكن من الأمة.


فلولا يكتبون..


--------------------------------------------------------------------------------



(4) رواه أحمد، وأبو داود، عن ثوبان، وانظر"صحيح الجامع": (ح/8183).


(5) صحيح: رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، والدارمي، وانظر"صحيح الجامع<: (6711).


(6) أبو داود برقم:(4345) ، والطبراني في "الكبير":(17/345).


(7) صحيح الجامع الصغير" برقم:(3618).


(8) "تفسير القرآن العظيم:(4/13) ط: دار الفكر ـ بيروت ـ بدون تاريخ.


(9) "محاسن التأويل:(8/346).