IdiotKiller
26-05-2004, 01:22 PM
المفكرة الخفية لحرب الخليج
رؤية مطلع على العد العكسي للأزمة
بيار سالينجر
أريك لوران
هذا عرض للكتاب الخطير الذي يوضح الدور الحقيقي لبعض الزعماء العرب في حرب الخليج الثانية .سوف يتم عرضه على فصول متتالية:
الفصل الأول
(( سوف أنتقم ))
شهد الثامن من أغسطس 1988 نهاية الحرب العراقية الإيرانية ، لكن لم يخطر ببال أحد عندئذ بأن هذا التاريخ سوف يشكل بداية أزمة الخليج في عام 1990 ـ 1991 .
وكان قيام طهران أولاً باقتراح وقف لاطلاق النار كافياً لاعتبار العراق المنتصر في ذلك النزاع الذي امتد ثماني سنوات وحصد أرواح ما يقرب من مليون من البشر . والواقع أن العراق خرج من الحرب قوياً ولكن الحرب استنزفت موارده . وكان لا يزال أقوى دولة في المنطقة : 55 فرقة مقابل عشر فوق عام 1980؛ مليون جندي مدرب تدريباً جيداً ؛ 500 طائرة و5500 دبابة . لكن الكارثة المالية لم تكن تقل ضخامة . فعندما بدأت الحرب كانت لديه مدخرات قدرها ثلاثون بليوناً من الدولارات . وعندما انتهت كانت ديونه قد بلغت مئة بليون دولار . ولهذا السبب لم يترك صدام حسين مناسبة واحدة إلا واغتنمها ليقوم بابلاغ جميع زواره الأجانب الذين كان يستقبلهم في قصره الفخم وسط بغداد أنه كان خلال الأعوام الثمانية الماضية " الدرع الواقي للأخوة العرب من التهديد الفارسي " وأنه يتوقع أن تقوم " أكثر الأقطار العربية ثراء وهي السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت بالعون والمساعدة في تسديد كامل ديوننا " .
في التاسع من آب عام 1988 ، غداة وقف إطلاق النار بين العراق وإيران أخذت الكويت قراراً بزيادة انتاجها النفطي ، مخالفة بذلك الاتفاقات المعقودة في اطار منظمة الأوبيك . وقد تم التركيز الكويتي في تحقيق هذه الزيادة الانتاجية على آبار الرملية الواقعة في المنطقة الحدودية المتنازع عليها مع العراق والتي كانت موضوعاً في السابق لمناقشات دبلوماسية صاخبة .
واعتبر صدام حسين مبادرة الكويت إلى زيادة انتاجها من النفط استفزازاً وخيانة ومن شأنه أن يزيد أزمة زيادة الانتاج وانخفاض الأسعار حدة وأن يؤدي إلى انخفاض دخل العراق الذي يعتمد في 90 % من موارده على النفط بمقدار 7 بلايين دولار أو ما يساوي فوائد ديونه . وكان هذا بمثابة خنقه ببطء .
من ناحية أخرى لا يمكن تصور بلدين هما على طرفي نقيض كالعراق والكويت . ففي العراق تتركز السلطات في شخص حاكم مطلق التصرف يعيش هوس أحلام السلطة والقوة . وفي مواجهة العراق ، البلد المتقشف الذي يعد 18 مليوناً من البشر يعانون مختلف أشكال الحرمات ، تتربع إمارة الكويت على الثروة والوفرة حيث يتقاسم ما يوازي الألف من أفراد أسرة آل الصباح الحاكمة المناصب المختلفة إضافة إلى السلطة والأرباح وكأنهم أعضاء مجلس الإدارة في أي شركة من الشركات المزدهرة . أما الاستثمارات الكويتية في الخارج فكانت تتجاوز 100 مليار دولار وتؤمن للإمارة حوالي 6 مليارات من الدولارات سنوياً ، أي أكثر من عائدات البترول ذاتها . وكان على رأس المستفيدين من هذه العوائد 000 , 700 شخص يحملون الجنسية الكويتية . أمام غير الكويتيين من فلسطينيين وإيرانيين وباكستانيين وغيرهم البالغ عددهم حول 000 , 200 ,1 شخص والذين يديرون اقتصاد البلاد فلم يكن نصيبهم منها إلا فتات الموائد.
والمال في الغالب يجعل صاحبه متعجرفاً أعمى البصيرة . وهذا هو ما أصاب زعماء الكويت وجعل بالتالي وقوع المأساة أمراً حتمياً . لقد عجزوا عن قراءة النذر بوقوعها فكانت الحرب المأساوية .
وقبيل ظهر 12 فبراير عام 1990 يوم ذكرى مولد الرئيس أبراهام لنكولن وصل جون كيلي إلى بغداد . وكان في أواخر الأربعينات من عمره متوسط الطول شعره أسمر وتتميز حركاته بالهدوء والرزانة .وهو دبلوماسي محترف متخصص في الشؤون الأوروبية . ولم يحتل في الشرق الأوسط سوى منصب واحد وهو سفير بلاده في لبنان وكانت هذه هي زيارته الأولى للعراق وبوصفه مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط .
كان الطقس بارداً وسفيرة الولايات المتحدة في العراق إبريل غلاسبي تنتظره عند سلم الطائرة بصحبة اثنين من المسؤولين العراقيين . وكانت غلاسبي ذات الملامح البارزة والوجه الصارم قد انخرطت في السلك الدبلوماسي بعد تخرجها من جامعة جون هوبكنز وتتكلم العربية بطلاقة . واحتلت عدداً من المناصب وخصوصاً في تونس ودمشق قبل أن تتولى إدارة الشؤون الأردنية والسورية واللبنانية في وزارة الخارجية . وكانت عازبة وتعيش في بغداد مع أمها وكلبها ، ولم تكن حتى مجيء كيلي قد ظفرت بمقابلة خاصة مع صدام حسين .
كانت تقارير الإدارة الأميركية عن الزعيم العراقي تدور حول ثلاثة محاور رئيسية : أولا قدرته ورغبته في أن يصبح الزعيم الحقيقي للعالم العربي وثانياً إعجابه الشديد بجمال عبد الناصر وسحر زعامته وحبه في أن يكون مثله وثالثاً تقاربه مع الغرب . وكانت هذه النقطة الثالثة برأي كيلي ومستشاريه الأكثر أهمية . فعندما هاجمت القوات العراقية إيران عام 1980 كان النظام البعثي يعتبر من أقوى حلفاء موسكو في المنطقة . وبعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 رئس العراق جبهة الرفض التي استهدفت عزل القاهرة ومعاقبتها على تقاربها مع الدولة اليهودية . وفي ذلك الوقت كان العراق ملجأ لأكثر الجماعات الفلسطينية الإرهابية عنفا وفي مقدمتها أبو نضال ورجاله .
على أن العراق خرج من حرب السنوات الثمانية مع إيران أقرب إلى الغرب من أي وقت مضى . إذ كان اقتصاده أكثر ارتباطا بالأقطار الغربية منه بالاتحاد السوفييتي ، وفي ترسانة أسلحته من الغرب وخصوصاً من فرنسا لا تقل حجما عن الأسلحة السوفييتية . ودفع هذا كله الأميركيين إلى المجازفة بأموالهم في العراق بوصفه قوة ضخمة تعمل على الاستقرار في المنطقة .
استقبل صدام حسين جون كيلي بعد ظهر الثاني عشر من فبراير 1990 . وكانت المقابلة هي الأولى مع أحد الرسميين الأميركيين منذ زمن بعيد . وبادر المبعوث الأميركي مضيفة ، خلال تبادل التحيات ، بقوله : " انتم قوة اعتدال في المنطقة وتتمنى الولايات المتحدة إقامة أوثق العلاقات مع العراق " .
لقد سرّ صدام حسين بهذا الاطراء وغمره شعور بالفخر، كما قال لدى سماعه ذلك ، وقام بعد ساعات من المقابلة بنقل ما دار فيها إلى عدد من زعماء الدول العربية وكان أول من اتصل به هاتفياً هو الملك الأردني حسين .
وبهذا أبلغ كيلي الرسالة الأولى من سلسلة طويلة من الرسائل المبهمة والمتناقضة التي سوف تكون لها نتائج خطيرة .
وفي 15 فبراير وبعد المقابلة بثلاثة أيام بثت اذاعة " صوت أميركا " برنامجاً قالت إنه يعكس وجهة نظر الحكومة الأميركية وأهابت فيه بالرأي العام العالمي أن يتحرك ضد الدكتاتوريين الذين يحكمون في مختلف اقطار العالم . وذكرت العراق وأدانت صدام حسين بوصفه أسوأ دكتاتور في العالم . فغضب الرئيس العراقي غضباً شديداً . ولم ينفع معه الاعتذار الذي قدمته واشنطن عبر سفارتها في بغداد . ورفض قبول القول بأن إذاعة " صوت أميركا " قد تعبر عن رأي يخالف الرأي الرسمي ، وإذ جاء هذا الحادث بعد أطراء كيلي عليه مباشرة فقد اتخذه صدام دليلاً على أن الأميركيين يقومون بلعبة مزدوجة .
ومما رسّخ قناعته هذه ، قيام وزارة الخارجية الأميركية ، يوم 21 فبراير بنشر تقرير عن حقوق الإنسان خصّت العراق بعدد من صفحاته تجاوز 12 صفحة وصفت فيها الحكومة العراقية بأنها أسوأ منتهك لحقوق الإنسان ، وأشارت إلى ممارسة هذه الحكومة المتكررة للتعذيب والاعدامات السريعة دون محاكمة .
ولم يقف الأمر عند هذا الحد لأن لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس الأميركي أرادت ، بعد صدور هذا التقرير ، تبني قرار يدين " العراق لخرقه الفاضح لحقوق الإنسان " مما دفع بإدراة الرئيس بوش إلى الاحتجاج على هذه الخطوة والحؤول دون تبنيها من قبل مجلس النواب .
وكشفت جميع هذه الاشارات المتناقضة عن أن الادارة الأميركية لم تكن مهتمة اهتماماً جديا بما يحدث في الشرق الأوسط ، وأن العراق والمنطقة ليسا بين أولوياتها . فالرئيس بوش وزملاؤه ، وعلى الأخص جيمس بيكر وزير الخارجية كانوا يركزون اهتمامهم وطاقتهم في الحوار الأميركي السوفييتي وفي تفجر الديمقراطية الرائع في أوروبا الشرقية .
وفي 23 فبراير 1990 وصل صدام إلى عمان . وبقي مسار الرحلة وموعد الوصول سراً حتى اللحظة الأخيرة . فخوفاً من الاغتيال ركب طائرة خاصة بلا إشارات مميزة . أما الطائرة التي كان يستخدمها في الرحلات الرسمية فكانت قد هبطت في عمان قبل ساعات وعلى متنها زملاؤه وحرسه . وعندما استقبله الملك حسين كان يبدو قلقاً ومتوترا . وكان قد جاء إلى عمان للمشاركة في احتفالات الذكرى السنوية الأولى لمجلس التعاون العربي . وفي حين أن الملك حسين كان يعلق آمالاً كبيرة على المجلس الذي كان يضم العراق والأردن ومصر واليمن ، فان صدام حسين لم يكن يعيره اهتماما خاصاً . والواقع أن لم تثر أيضاً اهتمام العرب والصحفيين الأجانب في عمان . ومما يذكر أنه لم يكن بوسع أحد عندئذ أن يتنبأ بما سيقال في الاجتماع وخصوصاً وراء الكواليس .
وألقى صدام خطاباً شديد اللهجة تنبأ فيه بأن تراجع قوة موسكو سوف يطلق يد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط خلال السنوات الخمس القادمة على نطاق لم يسبق له مثيل . قال " ألا تقوم واشنطن الآن بمساعدة اليهود السوفييت على الهجرة إلى إسرائيل ؟ ألا تقوم كذلك بتسيير دورياتها في الخليج بالرغم من انتهاء الحرب العراقية الإيرانية ؟ " وقال صدام في خطابه الذي أذيع من عمان بأن دوافع أميركا واضحة . قال : " إن البلاد التي ستمارس أكبر نفوذ في المنطقة وتهيمن على الخليج وبتروله سوف توطد تفوقها كقوة عظمى لا تُنافس . وهذا يبرهن على أن أهل الخليج وسائر العرب الآخرين في غفلة عما يجري وأن المنطقة ستحكم وفقاً لمشيئة الولايات المتحدة . وستقوم هذه بتحديد سعر البترول بشكل يخدم مصالحها لا مصالح الآخرين ".
كانت رسالة صدام لزملائه واضحة وهي أن هيمنة العراق على الخليج لا هيمنة الولايات المتحدة هي التي تخدم مصالح العرب على أفضل وجه .
على أن ما قاله صدام أثار غضب الرئيس المصري حسني مبارك حليف أميركا الرئيسي في المنطقة . فالقاهرة كانت تتلقى سنوياً من واشنطن أكثر من ملياري دولار على شكل مساعدات .
واقترح صدام في خطابه أن تسحب أرصدة البترول المستثمرة في الغرب لتغيير السياسة الأميركية . وقال : " ليس هناك مكان بين العرب الأخيار للجبناء الذين يذهبون إلى أنه ينبغي أن يترك أمر اتخاذ القرارات لقوة عظمى هي الولايات المتحدة وأن على الجميع الرضوخ لها .
خرج مبارك ، الذي اعتبر هذه الكلمات هجوماً شخصيا عليه ، من القاعة ولحق به الوفد المصري . وقال الملك حسين الذي بدت على محياه علائم القلق كان قد تبعه بعد وقت قصير :
ـ لا يمكن السكوت على كلام كهذا . سوف أعود إلى مصر .
وفي محاولته تلطيف الأجواء ، اقترح الملك حسين تنظيم لقاء مع الرئيس العراقي لازالة سوء التفاهم . فرفض مبارك أول الأمر هذا الاقتراح بشدة ثم عاد واقتنع بالحجج التي قدمها الملك الأردني . وهكذا اجتمع الثلاثة مساء 24 في القصر الهاشمي حيث كان الملك حسين يقطن قبل مصرع زوجته الملكة عالية إثر حادث تحطم طائرة هليكوبتر . كان جو اللقاء متشنجاً شديد الوطأة . وبدل أن يحاول صدام حسين تهدئة الأمور أعلن مطالب محددة وتكلم بلهجة لا مجال للمسايرة فيها وأشار إلى 30 مليار دولار من الديون التي كانت العربية السعودية والكويت قد منحتها للعراق خلال الحرب مع إيران . وقال : " إذا لم يلغوا تلك الديون ويقدموا لي 30 مليار دولار إضافية سوف أقوم بالانتقام . "
ولما استبد الغضب بمبارك قال : " إن مطالبك غير معقولة . وسوف تخلق متاعب كثيرة . " ثم خرج من الاجتماع وعاد إلى القاهرة . فاضطر الملك حسين إلى الغاء اليوم الثاني من مناقشات المجلس .
على أن خطاب صدام أثار موجة عارمة من الاعجاب والاستحسان لكنه في الوقت ذاته أثار القلق وخصوصاً في الكويت والسعودية اللتين كانتا تخشيان قيام بغداد بهجوم مباغت بالصواريخ يتبعه اجتياح شامل أو القيام بسلسلة من الأعمال الارهابية تستهدف أفراداً من الأسرتين المالكتين .وفي الرياض ، بادر المسؤولون السعوديون إلى الإتصال بشعبة وكالة الاستخبارات المركزية فيها وأبلغوها تهديدات صدام حسين . وقامت هذه الشعبة ، بدورها ، بنقل المعلومات إلى مركز القيادة العامة في لا نغلي قرب واشنطن . ولكن لم يصدر أي رد فعل من الادارة الأميركية . وكانت النتيجة العملية الوحيدة هي قرار وكالة الاستخبارات المركزية بوضع العراق تحت الرقابة الدائمة وتكثيف عملية جمع المعلومات حوله . وقد واجهتها في تحركها هذا صعوبة الركون إلى مصادر معلومات جديرة بالثقة . لأن السيطرة التامة على قنوات السلطة في بغداد كافة كانت معقودة بحزم لصدام حسين ولأفراد أسرته عن طريق البوليس السري الذي يتمتع بحضور كثيف وفعالية كبيرة . وكان وليم كيسي مدير وكالة الاستخبارات المركزية في عهد ريغن قد اعترف بأنه ليس للوكالة عميل ماهر واحد في العراق وأن الوضع لا يزال على حاله .
وفي تلك الأثناء كانت العواصم العربية الرئيسية تتداول تقريراً سرياً حول الوضع الاقتصادي في العراق وضعه مصرفي من أصحاب النفوذ في الشرق الأوسط .
يستهل المصرفي تقريره بالتذكير بالفترة من 1972 إلى 1980 ـ أي السنة التي شهدت بداية الحرب ضد إيران ويشير إلى ارتفاع عائدات البترول العراقية فيها من مليار إلى 25 مليار دولار. ويضيف أن الوضع في بداية 1990 لم يكن يبشر بالخبر . ثم يقول :
" إن صورة السبعينات البراقة تلاشت وحل محلها وضع اقتصادي مظلم ، وخراب واسع في جميع أنحاء البلاد ، وضياع الأمل بالنسبة للأجيال القادمة .
ترى هل هناك ما يمكن عمله لتغيير هذا الواقع المؤلم ؟ يحزنني أن أقول إنه في ظل الحكومة الحاضرة لا بد وأن يسير الوضع من سيء إلى أسوأ . "
ثم يشير صاحب التقرير إلى أن تراكم الديون وعجز بغداد حتى عن دفع فوائدها " سوف يحمل الحكومة على انتهاج سياسة متهورة خطرة فتقبل على الاستدانه بفائدة تبلغ 30 % في السنة . ويكشف التقرير عن حقيقة تثير الدهشة وهي أن العراق كان في عام 1989 أكبر مستفيد في العالم من " برنامج المجتمع الأميركي لتقديم التسهيلات المالية " الذي يستهدف بيع المنتجات الزراعية الأميركية في الخارج .
ولعل أكثر فقرات التقرير أهمية هي الفقرة الأخيرة التي تنبأت بكثير من وضوح الرؤية بوقوع ما وقع بالفعل . فقالت " إن صدام حسين يدرك الآن تماماً حقيقة وضعه المالي " . فما هي الخيارات المتاحة له في العراق ذاته ؟ إنها محدودة جداً . لكن الكويت موجودة دائماً على بعد أمتار من حشود قواته المرابطة على شط العرب . والعراق بحاجة إلى منفذ إلى مياه الخليج المفتوحة .
وكانت هناك دلائل على المصاعب التي تواجهها بغداد في كثرة من مشروعاتها الطموحة والمتعثرة مثل بناء شبكة من الطرق تحت أرض بغداد ومن أكثر من 800 , 1 ميل من السكك الحديدية وبناء سدين مائيين الكترونيين .
* * *
وهناك مراقب آخر للخلافات المتفاقمة داخل " الأسرة العربية " التي كان صدام كثيراً ما يشير اليها في خطاباته وأحاديثه الخاصة وهو الملك حسين ، فخلال حكمه الذي امتد 37 عاما ولفت الأنظار بضعفه من ناحية وبقدرته على البقاء من الناحية الأخرى كان اكثر إحساساً من أي شخص غيره بالمؤشرات التي تنذر بالأزمات الوشيكة . كان يدرك أن تعرض المنطقة لهزة سياسية أخرى قد تعرض وجود بلاده ذاته للخطر . فالأردن الذي يضم ثلاثة ملايين من السكان ـ 60 % منهم من الفلسطينيين ـ ويفتقر إلى الموارد يمكن إزالته عن الخريطة بسهولة . وقال الملك حسين لأحد زائريه بصوت رزين لا أثر فيه للانفعال :
" إنني أشعر بتزايد التوتر على نحو شبيه بما حدث قبيل حرب عام 1967 . ولم أشعر خلال السنوات الأربعين الماضية بأن المنطقة بلغت مفترق الطرق الذي تشهده الآن " .
وكان الملك حسين يتحدث ووراءه صورة لصدام حسين .
كان الرئيس العراقي حليفا وفي الوقت ذاته مصدر قلق للملك حسين ، إذ كان شريكاً لا يمكن للأردن الضعيف أن يسيّره وزعيماً قد يزعزع توازن القوى الهش في المنطقة بطموحاته المعلنة.
وبعد فشل لقاء عمان في 24 فبراير اقترح الملك على الرئيس العراقي أن يقوم بنفسه بجولة تشمل دول الخليج في محاولة منه للسعي إلى اتفاق بين الكويت والعربية السعودية والعراق . وبالفعل قام في 26 فبراير برحلة استغرقت ثلاثة أيام وشملت مختلف عواصم المنطقة وأجرى خلالها محادثات مكثفة مع الزعماء الخليجيين ، ثم عاد إلى عمان في الأول من آذار منهوك القوى . وفي صباح الثالث من آذار اتصل به صدام حسين وقال . " الطائرة في طريقها إليك أنا في انتظارك ببغداد " .
اجتمع الرجلان أربع ساعات قدم خلالها الملك حسين تقريراً مفصلاً عن جولته ، وسرعان ما تبين ان المفاوضات وصلت إلى الطريق المسدود ، لأن الملك الهاشمي لم يتلق أي اشارة إيجابية من زعماء الخليج فيما يتعلق بأهداف صدام حسين الثلاثة : تسوية الخلافات الحدودية مع الكويت وبالأخص حقول الرملية الغنية التي تقع في المنطقة المتنازع عليها . الموافقة على تأجيره جزيرتي وربة وبوبيان اللتين تؤمنان له منفذاً على الخليج ، وتسوية مشكلة الديون المتراكمة على العراق خلال الحرب مع إيران .
وأبلغ الملك حسين الرئيس العراقي أن أمير دولة الكويت يرفض المفاوضات المباشرة حتى يعترف العراق رسمياً بسيادة واستقلال الكويت . ومن الجدير ذكره هنا ان حكومة بغداد كانت قد اعترفت عام 1963 باستقلال الكويت إلا أن مجلس الثورة لم يلبث أن الغى هذا القرار .
لم يظهر الغضب على وجه صدام حسين الذي كان جالساً على كنبة واسعة ومريحة ، يشعل بين الحين والآخر سيجارة ، ويتابع باهتمام شديد ما يقوله الملك الهاشمي كما لو كان يتوقع تلك النتيجة السلبية .
وعند نهاية الاجتماع عبر صدام عن جزيل شكره لزائره على الجهد الذي بذله ، وأبلغه أنه يأمل " مع الوقت أن تسود الحكمة والارادة الطيبة بالنسبة لهذا المسألة " ولم يكن من الأمور العادية صدور مثل هذه الكلمات الرصينة التي تغلب عليها روح التوفيق عن رجل عود زملاءه على الخوف من نوبات غضبه ( وكان حسني مبارك الذي لم يُخف نفوره من صدام قد وصفه أمام عدد من الزعماء العرب بأنه " مضطرب الشخصية " ) .
ولم تكد تمضي ثلاثة أيام على عودة الملك حسين حتى دعا صدام جميع أعضاء القيادة العليا إلى اجتماع سري وأمرهم بأن يضعوا الخطط لحشد القوات على الحدود مع الكويت .
وسرعان ما اشتد التوتر . وفقد الكويتيون بعد النظر الذي كانوا يتحلون به . فبالرغم من أن الفرق العراقية لم تكن قد تحركت بعد باتجاه الحدود فإن مسؤولاً كويتيا كبيراً أسر للأردنيين خلال مروره بعمان بأن " صدام حسين لا يريد الجزيرتين وحدهما بل الكويت برمتها "
الى اللقاء في الفصل الثاني
رؤية مطلع على العد العكسي للأزمة
بيار سالينجر
أريك لوران
هذا عرض للكتاب الخطير الذي يوضح الدور الحقيقي لبعض الزعماء العرب في حرب الخليج الثانية .سوف يتم عرضه على فصول متتالية:
الفصل الأول
(( سوف أنتقم ))
شهد الثامن من أغسطس 1988 نهاية الحرب العراقية الإيرانية ، لكن لم يخطر ببال أحد عندئذ بأن هذا التاريخ سوف يشكل بداية أزمة الخليج في عام 1990 ـ 1991 .
وكان قيام طهران أولاً باقتراح وقف لاطلاق النار كافياً لاعتبار العراق المنتصر في ذلك النزاع الذي امتد ثماني سنوات وحصد أرواح ما يقرب من مليون من البشر . والواقع أن العراق خرج من الحرب قوياً ولكن الحرب استنزفت موارده . وكان لا يزال أقوى دولة في المنطقة : 55 فرقة مقابل عشر فوق عام 1980؛ مليون جندي مدرب تدريباً جيداً ؛ 500 طائرة و5500 دبابة . لكن الكارثة المالية لم تكن تقل ضخامة . فعندما بدأت الحرب كانت لديه مدخرات قدرها ثلاثون بليوناً من الدولارات . وعندما انتهت كانت ديونه قد بلغت مئة بليون دولار . ولهذا السبب لم يترك صدام حسين مناسبة واحدة إلا واغتنمها ليقوم بابلاغ جميع زواره الأجانب الذين كان يستقبلهم في قصره الفخم وسط بغداد أنه كان خلال الأعوام الثمانية الماضية " الدرع الواقي للأخوة العرب من التهديد الفارسي " وأنه يتوقع أن تقوم " أكثر الأقطار العربية ثراء وهي السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت بالعون والمساعدة في تسديد كامل ديوننا " .
في التاسع من آب عام 1988 ، غداة وقف إطلاق النار بين العراق وإيران أخذت الكويت قراراً بزيادة انتاجها النفطي ، مخالفة بذلك الاتفاقات المعقودة في اطار منظمة الأوبيك . وقد تم التركيز الكويتي في تحقيق هذه الزيادة الانتاجية على آبار الرملية الواقعة في المنطقة الحدودية المتنازع عليها مع العراق والتي كانت موضوعاً في السابق لمناقشات دبلوماسية صاخبة .
واعتبر صدام حسين مبادرة الكويت إلى زيادة انتاجها من النفط استفزازاً وخيانة ومن شأنه أن يزيد أزمة زيادة الانتاج وانخفاض الأسعار حدة وأن يؤدي إلى انخفاض دخل العراق الذي يعتمد في 90 % من موارده على النفط بمقدار 7 بلايين دولار أو ما يساوي فوائد ديونه . وكان هذا بمثابة خنقه ببطء .
من ناحية أخرى لا يمكن تصور بلدين هما على طرفي نقيض كالعراق والكويت . ففي العراق تتركز السلطات في شخص حاكم مطلق التصرف يعيش هوس أحلام السلطة والقوة . وفي مواجهة العراق ، البلد المتقشف الذي يعد 18 مليوناً من البشر يعانون مختلف أشكال الحرمات ، تتربع إمارة الكويت على الثروة والوفرة حيث يتقاسم ما يوازي الألف من أفراد أسرة آل الصباح الحاكمة المناصب المختلفة إضافة إلى السلطة والأرباح وكأنهم أعضاء مجلس الإدارة في أي شركة من الشركات المزدهرة . أما الاستثمارات الكويتية في الخارج فكانت تتجاوز 100 مليار دولار وتؤمن للإمارة حوالي 6 مليارات من الدولارات سنوياً ، أي أكثر من عائدات البترول ذاتها . وكان على رأس المستفيدين من هذه العوائد 000 , 700 شخص يحملون الجنسية الكويتية . أمام غير الكويتيين من فلسطينيين وإيرانيين وباكستانيين وغيرهم البالغ عددهم حول 000 , 200 ,1 شخص والذين يديرون اقتصاد البلاد فلم يكن نصيبهم منها إلا فتات الموائد.
والمال في الغالب يجعل صاحبه متعجرفاً أعمى البصيرة . وهذا هو ما أصاب زعماء الكويت وجعل بالتالي وقوع المأساة أمراً حتمياً . لقد عجزوا عن قراءة النذر بوقوعها فكانت الحرب المأساوية .
وقبيل ظهر 12 فبراير عام 1990 يوم ذكرى مولد الرئيس أبراهام لنكولن وصل جون كيلي إلى بغداد . وكان في أواخر الأربعينات من عمره متوسط الطول شعره أسمر وتتميز حركاته بالهدوء والرزانة .وهو دبلوماسي محترف متخصص في الشؤون الأوروبية . ولم يحتل في الشرق الأوسط سوى منصب واحد وهو سفير بلاده في لبنان وكانت هذه هي زيارته الأولى للعراق وبوصفه مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط .
كان الطقس بارداً وسفيرة الولايات المتحدة في العراق إبريل غلاسبي تنتظره عند سلم الطائرة بصحبة اثنين من المسؤولين العراقيين . وكانت غلاسبي ذات الملامح البارزة والوجه الصارم قد انخرطت في السلك الدبلوماسي بعد تخرجها من جامعة جون هوبكنز وتتكلم العربية بطلاقة . واحتلت عدداً من المناصب وخصوصاً في تونس ودمشق قبل أن تتولى إدارة الشؤون الأردنية والسورية واللبنانية في وزارة الخارجية . وكانت عازبة وتعيش في بغداد مع أمها وكلبها ، ولم تكن حتى مجيء كيلي قد ظفرت بمقابلة خاصة مع صدام حسين .
كانت تقارير الإدارة الأميركية عن الزعيم العراقي تدور حول ثلاثة محاور رئيسية : أولا قدرته ورغبته في أن يصبح الزعيم الحقيقي للعالم العربي وثانياً إعجابه الشديد بجمال عبد الناصر وسحر زعامته وحبه في أن يكون مثله وثالثاً تقاربه مع الغرب . وكانت هذه النقطة الثالثة برأي كيلي ومستشاريه الأكثر أهمية . فعندما هاجمت القوات العراقية إيران عام 1980 كان النظام البعثي يعتبر من أقوى حلفاء موسكو في المنطقة . وبعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 رئس العراق جبهة الرفض التي استهدفت عزل القاهرة ومعاقبتها على تقاربها مع الدولة اليهودية . وفي ذلك الوقت كان العراق ملجأ لأكثر الجماعات الفلسطينية الإرهابية عنفا وفي مقدمتها أبو نضال ورجاله .
على أن العراق خرج من حرب السنوات الثمانية مع إيران أقرب إلى الغرب من أي وقت مضى . إذ كان اقتصاده أكثر ارتباطا بالأقطار الغربية منه بالاتحاد السوفييتي ، وفي ترسانة أسلحته من الغرب وخصوصاً من فرنسا لا تقل حجما عن الأسلحة السوفييتية . ودفع هذا كله الأميركيين إلى المجازفة بأموالهم في العراق بوصفه قوة ضخمة تعمل على الاستقرار في المنطقة .
استقبل صدام حسين جون كيلي بعد ظهر الثاني عشر من فبراير 1990 . وكانت المقابلة هي الأولى مع أحد الرسميين الأميركيين منذ زمن بعيد . وبادر المبعوث الأميركي مضيفة ، خلال تبادل التحيات ، بقوله : " انتم قوة اعتدال في المنطقة وتتمنى الولايات المتحدة إقامة أوثق العلاقات مع العراق " .
لقد سرّ صدام حسين بهذا الاطراء وغمره شعور بالفخر، كما قال لدى سماعه ذلك ، وقام بعد ساعات من المقابلة بنقل ما دار فيها إلى عدد من زعماء الدول العربية وكان أول من اتصل به هاتفياً هو الملك الأردني حسين .
وبهذا أبلغ كيلي الرسالة الأولى من سلسلة طويلة من الرسائل المبهمة والمتناقضة التي سوف تكون لها نتائج خطيرة .
وفي 15 فبراير وبعد المقابلة بثلاثة أيام بثت اذاعة " صوت أميركا " برنامجاً قالت إنه يعكس وجهة نظر الحكومة الأميركية وأهابت فيه بالرأي العام العالمي أن يتحرك ضد الدكتاتوريين الذين يحكمون في مختلف اقطار العالم . وذكرت العراق وأدانت صدام حسين بوصفه أسوأ دكتاتور في العالم . فغضب الرئيس العراقي غضباً شديداً . ولم ينفع معه الاعتذار الذي قدمته واشنطن عبر سفارتها في بغداد . ورفض قبول القول بأن إذاعة " صوت أميركا " قد تعبر عن رأي يخالف الرأي الرسمي ، وإذ جاء هذا الحادث بعد أطراء كيلي عليه مباشرة فقد اتخذه صدام دليلاً على أن الأميركيين يقومون بلعبة مزدوجة .
ومما رسّخ قناعته هذه ، قيام وزارة الخارجية الأميركية ، يوم 21 فبراير بنشر تقرير عن حقوق الإنسان خصّت العراق بعدد من صفحاته تجاوز 12 صفحة وصفت فيها الحكومة العراقية بأنها أسوأ منتهك لحقوق الإنسان ، وأشارت إلى ممارسة هذه الحكومة المتكررة للتعذيب والاعدامات السريعة دون محاكمة .
ولم يقف الأمر عند هذا الحد لأن لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس الأميركي أرادت ، بعد صدور هذا التقرير ، تبني قرار يدين " العراق لخرقه الفاضح لحقوق الإنسان " مما دفع بإدراة الرئيس بوش إلى الاحتجاج على هذه الخطوة والحؤول دون تبنيها من قبل مجلس النواب .
وكشفت جميع هذه الاشارات المتناقضة عن أن الادارة الأميركية لم تكن مهتمة اهتماماً جديا بما يحدث في الشرق الأوسط ، وأن العراق والمنطقة ليسا بين أولوياتها . فالرئيس بوش وزملاؤه ، وعلى الأخص جيمس بيكر وزير الخارجية كانوا يركزون اهتمامهم وطاقتهم في الحوار الأميركي السوفييتي وفي تفجر الديمقراطية الرائع في أوروبا الشرقية .
وفي 23 فبراير 1990 وصل صدام إلى عمان . وبقي مسار الرحلة وموعد الوصول سراً حتى اللحظة الأخيرة . فخوفاً من الاغتيال ركب طائرة خاصة بلا إشارات مميزة . أما الطائرة التي كان يستخدمها في الرحلات الرسمية فكانت قد هبطت في عمان قبل ساعات وعلى متنها زملاؤه وحرسه . وعندما استقبله الملك حسين كان يبدو قلقاً ومتوترا . وكان قد جاء إلى عمان للمشاركة في احتفالات الذكرى السنوية الأولى لمجلس التعاون العربي . وفي حين أن الملك حسين كان يعلق آمالاً كبيرة على المجلس الذي كان يضم العراق والأردن ومصر واليمن ، فان صدام حسين لم يكن يعيره اهتماما خاصاً . والواقع أن لم تثر أيضاً اهتمام العرب والصحفيين الأجانب في عمان . ومما يذكر أنه لم يكن بوسع أحد عندئذ أن يتنبأ بما سيقال في الاجتماع وخصوصاً وراء الكواليس .
وألقى صدام خطاباً شديد اللهجة تنبأ فيه بأن تراجع قوة موسكو سوف يطلق يد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط خلال السنوات الخمس القادمة على نطاق لم يسبق له مثيل . قال " ألا تقوم واشنطن الآن بمساعدة اليهود السوفييت على الهجرة إلى إسرائيل ؟ ألا تقوم كذلك بتسيير دورياتها في الخليج بالرغم من انتهاء الحرب العراقية الإيرانية ؟ " وقال صدام في خطابه الذي أذيع من عمان بأن دوافع أميركا واضحة . قال : " إن البلاد التي ستمارس أكبر نفوذ في المنطقة وتهيمن على الخليج وبتروله سوف توطد تفوقها كقوة عظمى لا تُنافس . وهذا يبرهن على أن أهل الخليج وسائر العرب الآخرين في غفلة عما يجري وأن المنطقة ستحكم وفقاً لمشيئة الولايات المتحدة . وستقوم هذه بتحديد سعر البترول بشكل يخدم مصالحها لا مصالح الآخرين ".
كانت رسالة صدام لزملائه واضحة وهي أن هيمنة العراق على الخليج لا هيمنة الولايات المتحدة هي التي تخدم مصالح العرب على أفضل وجه .
على أن ما قاله صدام أثار غضب الرئيس المصري حسني مبارك حليف أميركا الرئيسي في المنطقة . فالقاهرة كانت تتلقى سنوياً من واشنطن أكثر من ملياري دولار على شكل مساعدات .
واقترح صدام في خطابه أن تسحب أرصدة البترول المستثمرة في الغرب لتغيير السياسة الأميركية . وقال : " ليس هناك مكان بين العرب الأخيار للجبناء الذين يذهبون إلى أنه ينبغي أن يترك أمر اتخاذ القرارات لقوة عظمى هي الولايات المتحدة وأن على الجميع الرضوخ لها .
خرج مبارك ، الذي اعتبر هذه الكلمات هجوماً شخصيا عليه ، من القاعة ولحق به الوفد المصري . وقال الملك حسين الذي بدت على محياه علائم القلق كان قد تبعه بعد وقت قصير :
ـ لا يمكن السكوت على كلام كهذا . سوف أعود إلى مصر .
وفي محاولته تلطيف الأجواء ، اقترح الملك حسين تنظيم لقاء مع الرئيس العراقي لازالة سوء التفاهم . فرفض مبارك أول الأمر هذا الاقتراح بشدة ثم عاد واقتنع بالحجج التي قدمها الملك الأردني . وهكذا اجتمع الثلاثة مساء 24 في القصر الهاشمي حيث كان الملك حسين يقطن قبل مصرع زوجته الملكة عالية إثر حادث تحطم طائرة هليكوبتر . كان جو اللقاء متشنجاً شديد الوطأة . وبدل أن يحاول صدام حسين تهدئة الأمور أعلن مطالب محددة وتكلم بلهجة لا مجال للمسايرة فيها وأشار إلى 30 مليار دولار من الديون التي كانت العربية السعودية والكويت قد منحتها للعراق خلال الحرب مع إيران . وقال : " إذا لم يلغوا تلك الديون ويقدموا لي 30 مليار دولار إضافية سوف أقوم بالانتقام . "
ولما استبد الغضب بمبارك قال : " إن مطالبك غير معقولة . وسوف تخلق متاعب كثيرة . " ثم خرج من الاجتماع وعاد إلى القاهرة . فاضطر الملك حسين إلى الغاء اليوم الثاني من مناقشات المجلس .
على أن خطاب صدام أثار موجة عارمة من الاعجاب والاستحسان لكنه في الوقت ذاته أثار القلق وخصوصاً في الكويت والسعودية اللتين كانتا تخشيان قيام بغداد بهجوم مباغت بالصواريخ يتبعه اجتياح شامل أو القيام بسلسلة من الأعمال الارهابية تستهدف أفراداً من الأسرتين المالكتين .وفي الرياض ، بادر المسؤولون السعوديون إلى الإتصال بشعبة وكالة الاستخبارات المركزية فيها وأبلغوها تهديدات صدام حسين . وقامت هذه الشعبة ، بدورها ، بنقل المعلومات إلى مركز القيادة العامة في لا نغلي قرب واشنطن . ولكن لم يصدر أي رد فعل من الادارة الأميركية . وكانت النتيجة العملية الوحيدة هي قرار وكالة الاستخبارات المركزية بوضع العراق تحت الرقابة الدائمة وتكثيف عملية جمع المعلومات حوله . وقد واجهتها في تحركها هذا صعوبة الركون إلى مصادر معلومات جديرة بالثقة . لأن السيطرة التامة على قنوات السلطة في بغداد كافة كانت معقودة بحزم لصدام حسين ولأفراد أسرته عن طريق البوليس السري الذي يتمتع بحضور كثيف وفعالية كبيرة . وكان وليم كيسي مدير وكالة الاستخبارات المركزية في عهد ريغن قد اعترف بأنه ليس للوكالة عميل ماهر واحد في العراق وأن الوضع لا يزال على حاله .
وفي تلك الأثناء كانت العواصم العربية الرئيسية تتداول تقريراً سرياً حول الوضع الاقتصادي في العراق وضعه مصرفي من أصحاب النفوذ في الشرق الأوسط .
يستهل المصرفي تقريره بالتذكير بالفترة من 1972 إلى 1980 ـ أي السنة التي شهدت بداية الحرب ضد إيران ويشير إلى ارتفاع عائدات البترول العراقية فيها من مليار إلى 25 مليار دولار. ويضيف أن الوضع في بداية 1990 لم يكن يبشر بالخبر . ثم يقول :
" إن صورة السبعينات البراقة تلاشت وحل محلها وضع اقتصادي مظلم ، وخراب واسع في جميع أنحاء البلاد ، وضياع الأمل بالنسبة للأجيال القادمة .
ترى هل هناك ما يمكن عمله لتغيير هذا الواقع المؤلم ؟ يحزنني أن أقول إنه في ظل الحكومة الحاضرة لا بد وأن يسير الوضع من سيء إلى أسوأ . "
ثم يشير صاحب التقرير إلى أن تراكم الديون وعجز بغداد حتى عن دفع فوائدها " سوف يحمل الحكومة على انتهاج سياسة متهورة خطرة فتقبل على الاستدانه بفائدة تبلغ 30 % في السنة . ويكشف التقرير عن حقيقة تثير الدهشة وهي أن العراق كان في عام 1989 أكبر مستفيد في العالم من " برنامج المجتمع الأميركي لتقديم التسهيلات المالية " الذي يستهدف بيع المنتجات الزراعية الأميركية في الخارج .
ولعل أكثر فقرات التقرير أهمية هي الفقرة الأخيرة التي تنبأت بكثير من وضوح الرؤية بوقوع ما وقع بالفعل . فقالت " إن صدام حسين يدرك الآن تماماً حقيقة وضعه المالي " . فما هي الخيارات المتاحة له في العراق ذاته ؟ إنها محدودة جداً . لكن الكويت موجودة دائماً على بعد أمتار من حشود قواته المرابطة على شط العرب . والعراق بحاجة إلى منفذ إلى مياه الخليج المفتوحة .
وكانت هناك دلائل على المصاعب التي تواجهها بغداد في كثرة من مشروعاتها الطموحة والمتعثرة مثل بناء شبكة من الطرق تحت أرض بغداد ومن أكثر من 800 , 1 ميل من السكك الحديدية وبناء سدين مائيين الكترونيين .
* * *
وهناك مراقب آخر للخلافات المتفاقمة داخل " الأسرة العربية " التي كان صدام كثيراً ما يشير اليها في خطاباته وأحاديثه الخاصة وهو الملك حسين ، فخلال حكمه الذي امتد 37 عاما ولفت الأنظار بضعفه من ناحية وبقدرته على البقاء من الناحية الأخرى كان اكثر إحساساً من أي شخص غيره بالمؤشرات التي تنذر بالأزمات الوشيكة . كان يدرك أن تعرض المنطقة لهزة سياسية أخرى قد تعرض وجود بلاده ذاته للخطر . فالأردن الذي يضم ثلاثة ملايين من السكان ـ 60 % منهم من الفلسطينيين ـ ويفتقر إلى الموارد يمكن إزالته عن الخريطة بسهولة . وقال الملك حسين لأحد زائريه بصوت رزين لا أثر فيه للانفعال :
" إنني أشعر بتزايد التوتر على نحو شبيه بما حدث قبيل حرب عام 1967 . ولم أشعر خلال السنوات الأربعين الماضية بأن المنطقة بلغت مفترق الطرق الذي تشهده الآن " .
وكان الملك حسين يتحدث ووراءه صورة لصدام حسين .
كان الرئيس العراقي حليفا وفي الوقت ذاته مصدر قلق للملك حسين ، إذ كان شريكاً لا يمكن للأردن الضعيف أن يسيّره وزعيماً قد يزعزع توازن القوى الهش في المنطقة بطموحاته المعلنة.
وبعد فشل لقاء عمان في 24 فبراير اقترح الملك على الرئيس العراقي أن يقوم بنفسه بجولة تشمل دول الخليج في محاولة منه للسعي إلى اتفاق بين الكويت والعربية السعودية والعراق . وبالفعل قام في 26 فبراير برحلة استغرقت ثلاثة أيام وشملت مختلف عواصم المنطقة وأجرى خلالها محادثات مكثفة مع الزعماء الخليجيين ، ثم عاد إلى عمان في الأول من آذار منهوك القوى . وفي صباح الثالث من آذار اتصل به صدام حسين وقال . " الطائرة في طريقها إليك أنا في انتظارك ببغداد " .
اجتمع الرجلان أربع ساعات قدم خلالها الملك حسين تقريراً مفصلاً عن جولته ، وسرعان ما تبين ان المفاوضات وصلت إلى الطريق المسدود ، لأن الملك الهاشمي لم يتلق أي اشارة إيجابية من زعماء الخليج فيما يتعلق بأهداف صدام حسين الثلاثة : تسوية الخلافات الحدودية مع الكويت وبالأخص حقول الرملية الغنية التي تقع في المنطقة المتنازع عليها . الموافقة على تأجيره جزيرتي وربة وبوبيان اللتين تؤمنان له منفذاً على الخليج ، وتسوية مشكلة الديون المتراكمة على العراق خلال الحرب مع إيران .
وأبلغ الملك حسين الرئيس العراقي أن أمير دولة الكويت يرفض المفاوضات المباشرة حتى يعترف العراق رسمياً بسيادة واستقلال الكويت . ومن الجدير ذكره هنا ان حكومة بغداد كانت قد اعترفت عام 1963 باستقلال الكويت إلا أن مجلس الثورة لم يلبث أن الغى هذا القرار .
لم يظهر الغضب على وجه صدام حسين الذي كان جالساً على كنبة واسعة ومريحة ، يشعل بين الحين والآخر سيجارة ، ويتابع باهتمام شديد ما يقوله الملك الهاشمي كما لو كان يتوقع تلك النتيجة السلبية .
وعند نهاية الاجتماع عبر صدام عن جزيل شكره لزائره على الجهد الذي بذله ، وأبلغه أنه يأمل " مع الوقت أن تسود الحكمة والارادة الطيبة بالنسبة لهذا المسألة " ولم يكن من الأمور العادية صدور مثل هذه الكلمات الرصينة التي تغلب عليها روح التوفيق عن رجل عود زملاءه على الخوف من نوبات غضبه ( وكان حسني مبارك الذي لم يُخف نفوره من صدام قد وصفه أمام عدد من الزعماء العرب بأنه " مضطرب الشخصية " ) .
ولم تكد تمضي ثلاثة أيام على عودة الملك حسين حتى دعا صدام جميع أعضاء القيادة العليا إلى اجتماع سري وأمرهم بأن يضعوا الخطط لحشد القوات على الحدود مع الكويت .
وسرعان ما اشتد التوتر . وفقد الكويتيون بعد النظر الذي كانوا يتحلون به . فبالرغم من أن الفرق العراقية لم تكن قد تحركت بعد باتجاه الحدود فإن مسؤولاً كويتيا كبيراً أسر للأردنيين خلال مروره بعمان بأن " صدام حسين لا يريد الجزيرتين وحدهما بل الكويت برمتها "
الى اللقاء في الفصل الثاني