واصلوا الجهاد
24-05-2004, 07:52 PM
كتــب ترباني في منتدى القلعة : ــ
حين يتحول تمر العراق إلى جمر
حين يتحول تمر العراق إلى جمر
بغداد تنهض من جديد ... وترد اعتبارها واعتبارنا
دهش الكثيرون، وكثيرون أحبطوا، والغاضبون كانوا أكثر، عندما رأوا بغداد تسقط تحت نير الاحتلال الأمريكي في التاسع من إبريل (نيسان) الماضي، دون أن يروا العدو منتحراً عند أسوارها، أو مندحراً عن أبوابها، كما سمعوا وتوقعوا عندما كانت قوات الغزو تتقدم نحوها.
كان الغضب بحجم الآمال المعلقة على بغداد، بكل الماضي الذي رمزت له، وحاضر التحدي الذي تعيشه، والمستقبل الذي تعد به. فالمراهنون على صمود بغداد، تخيلوا هارون الرشيد، الذي كان يحج سنة ويغزو أخرى، وقد انتصب مدافعاً عن بغداد. والمأمون، ومعه كل علماء المعرفة الإنسانية وعلومهم التي انطلقت من بيت الحكمة لتعم الكون، وقد وقفت ترد الغزو الهمجي الذي جاء يكرر ما فعله بها من قبل أعداء الحضارة الإنسانية من المغول والتتار. رأوا المتنبي وقد اصطف خلفه كل شعراء العربية ممن أنشدوا في مربد البصرة على مرّ العصور، من الفرزدق وجرير وحتى أحدث شاعر عربي قرض الشعر، يرددون معه قوله المأثور:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم .
استدعوا حروف الأبجدية الأولى التي اخترعها السومريون في أرض الرافدين، وحروف العربية التي شهدت مجدها وتطورها في الأرض ذاتها، لتتشابك وتشكل سلسلة تحيط ببغداد، تحميها وتخنق كل من يقترب منها. تصوروا خالد والمثنى وسعد، وقد هبوا بفرسانهم يعيدون مجد القادسية واليرموك. وتخيلوا عليّاً ينهض من قبره ، متمنطقاً سيفه (ذا الفقار)، معتلياً منبره في الكوفة، مردداً فقرات من خطبه ، حاضاً المؤمنين على القتال. تعلقوا بصلاح الدين، ابن تكريت ، وهو يصرخ في العرب والمسلمين، داعياً لوحدتهم، وطالباً سيوفهم لا دعاءَهم فقط ليحمي بغداد من قانون الغاب الذي جاء ينشره "رامبو" الأمريكي الأحمق. وإلى نبوخذ نصر، ليحمي العراق من سبي أمريكي صهيوني جاء يحمل معاوله النارية ليقلب الأحداث، انتقاماً لثارات ما قبل الميلاد.
ولأن الرهان على بغداد كان بعمق هذا التاريخ، وبحجم ما زرعته فيهم دعوتها للجهاد من تحدٍ، وما أحيته فيهم من آمال بأن ساعة مواجهة التحالف الأمريكي الصهيوني قد اقتربت، بل حانت، وما أثاره فيهم من طموح مشروعها النهضوي الذي طرحته لمجد الأمة.. فإن أحداً لم يتوقف عند حجم الضربات التي كانت تتعرض لها بغداد، ولا نوعها الذي لم يستخدم في الحروب من قبل. ولم يتذكر أحد سنوات الحصار الثلاث عشرة التي تعرضت لها بغداد فأنهكتها، وحرمتها من أن توفر لنفسها الحد الأدنى من وسائل الدفاع الضرورية. وتناسى الكثيرون ظلم ذوي القربى لها، وتآمرهم ضدها، وتسخير أرضهم وبحارهم وسمائهم ليمر منها العدوان عليها، ولم يمهلها ـ حتى محبوها ـ الوقت الكافي لتلتقط أنفاسها، وتعيد ترتيب أوضاعها. فعتب عليها البعض، ولامها البعض الآخر، وسخر منها آخرون، هذا عدا الشامتين من العملاء والمتواطئين، والمتربصين، وعدا أجهزة الإعلام العربي الرسمي، وشبه الرسمي، وأجهزة الإعلام الغربي، التي وضعت نفسها بتصرف آلة العدوان الأمريكي، فساقت لبغداد كل ما ابتدعته آلتها الدعائية الجهنمية من تهم، ومبررات للعدوان، وحملت قيادتها مسؤولية كل ما جرى، وبثت من سموم الإحباط واليأس كل ما استطاعته قدرتها الإجرامية على الخلق أو الاختلاق.
ورغم أن بغداد لم تحدد زمنا لقبر الغزاة، أو دحرهم عند أسوارها، أو طردهم من أزقتها وشوارعها، وكل مدن العراق. ولم تعلن أنها قادرة على منع أكبر جيوش العالم، وأقواها عبر التاريخ، من اجتياح العراق، فقد كظمت غيظها، وتحملت عتب المحبين، ولوم اللائمين، وسفه الشامتين، وظلت وفية لوعدها، أمينة لعهدها، بأنها ستقاوم الغزاة، وستقبرهم، وستدحر بقاياهم، وستحرر أرض العراق من دنسهم. وهذا ما تفعله بغداد اليوم، ومعها كل مدن العراق ومحافظاته من الموصل في الشمال إلى البصرة في أقصى الجنوب. وهي بمقاومتها الشاملة، تصدق وعدها، ولا تخون تاريخها أو عهودها، ولا تخذل من راهنوا عليها. وتعيد الاعتبار لنفسها ولكل الجماهير الأمة التي تعلقت بها، وتوجه صفعة لكل الشامتين والخونة الذين تخلوا عن شرفهم الديني والوطني، وتعاونوا مع الاحتلال.
ولقد أذهل تصاعد المقاومة، واتساع ساحتها، ونوعية ضرباتها، جيوش الاحتلال وقادتها من جهة، والعملاء الذين تعاونوا معها أو استقدموها من جهة أخرى، لدرجة أنها باتت تثير الرعب فيهم، ويتخوفون من نتائجها. ففضلاً عن الانعكاسات التي تتركها في ساحة الرأي العام الأمريكي، بما يمكن أن يؤثر على مستقبل الرئيس الأمريكي جورج بوش وإدارته، فقد وصلت هذه التخوفات إلى الساحة الإسرائيلية. فبعض الأوساط الصحفية الصهيونية، داخل إسرائيل وخارجها باتت تتوقع في حال استمرار المقاومة العراقية وتصاعد وتيرتها، أن يحدث للأمريكان في العراق ما حدث للإسرائيليين في جنوب لبنان، وفي حرب الاستنزاف على جبهة قناة السويس أواخر الستينات، وما تحدثه المقاومة الاستشهادية الفلسطينية من تقويض لأركان الاحتلال الصهيوني. وتقارن هذه الأوساط الصهيونية بين عجز كل وسائل التكنولوجيا الإسرائيلية وأدوات قمعها عن توفير الأمن لجنودها ومواطنيها، وعجز الولايات المتحدة بكل ملياراتها، وأقمارها الصناعية، والمعدات التي لا تملكها أية دولة أخرى عن مواجهة المقاومة العراقية التي وضعت قوات الاحتلال الأمريكي في حالة دفاع، وفي حالة بحث عمن يحميها، سواءٌ باللجوء إلى الشرطة العراقية التي جندتها لهذا الغرض، أو بمحاولة استجداء دول العالم لإرسال بعض من جنودها ليتحملوا جزءً من تبعات حماية الجنود الأمريكيين في العراق. وتذهب الأوساط الإسرائيلية إلى القول: إنه لا يجوز لإسرائيل التفكير بإمكانية هزيمة أمريكية في العراق، وتطالب الإسرائيليين بأن يفعلوا كل ما هو مسموح وممكن لمساعدة الأمريكيين، لأن هزيمتهم في العراق ـ كما تقول هذه الأوساط ـ من شأنها أن يكون لها تأثيرات بعيدة الأثر على الشرق الأوسط، وعلى كفاح العالم في حربه ضدمايسمى "الإرهاب الإسلامي".
وأمام تصاعد المقاومة، توهمت دوائر الاحتلال الأمريكي والبريطاني، والأوساط المتعاونة معها أنها بإثارة الشكوك حول المقاومة يمكن أن تقلص من آثارها، أو تحرض الناس عليها وتصرفهم عنها، فحاولت أولاً : أن تطعن في شرعيتها متعامية عن حقائق التاريخ ومسلماته. فمقاومة الشعوب للاحتلال لا تنتظر موافقة المحتل أو إذنه حتى تصبح مشروعة. فهي تأخذ شرعيتها من انتمائها الديني والوطني ، وانتسابها لإرث تاريخي وحضاري لم يشرف به أي وطن أو أية أمة، ومن حق الدفاع عن النفس الذي شرعه دين الله ، وكذلك مواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان . وبالإضافة إلى ذلك، توجبها عليها أهداف الاحتلال الأمريكي الذي جاء لنهب ثروة العراق، والسيطرة على مقدرات شعبه، وتغيير هويته الدينية والوطنية ، وإلغاء دوره القيادي في المنطقة، وضرب مشروعه النهضوي، ومنع أي خطر قد يشكله على الكيان الصهيوني، من أجل إدامة احتلاله للأرض الفلسطينية . وتهديده للأرض العربية . وإقامة قواعد عسكرية أمريكية تهدد أمن الأمة ، كما تهدد دول الجوار الإقليمي .
وثانيا: سعت قوات الاحتلال وعملاؤها أن تلصق بالمقاومة تهمة الطائفية، مدعية أنها تنتشر فقط فيما اصطلحت على تسميته بالمثلث السني في الشمال والغرب والوسط . لكن اتساع رقعة المقاومة لتشمل كل أرض العراق، رد على هذه التهمة وأسقطها، وأثبت أن روح المقاومة هي في الأصل عربية إسلامية، وأن التنافس لا يكون إلا في التسابق على التضحية في سبيل الله . كما فضحت المقاومة بشموليتها، التقسيمات الطائفية والمذهبية ما تحاول سلطة الاحتلال فرضه على كل مؤسسات الحكم في العراق الذي لم يشهد عبر تاريخه الطويل مثل هذا التوزيع الطائفي والعرقي لإدارات الدولة العراقية، بحيث بات هذا الوضع يشكل أرضية لتقسيم العراق شعباً وأرضاً وفق هذه الأسس، بما يعنيه ذلك من إلغاء الهوية الدينية و العربية للعراق، وبما يهدد من امتداد أثاره لتشمل دولاً عربية أخرى مجاورة .
وثالثاً: ركزت إدارة الاحتلال وعملاؤها، على ربط المقاومة بالرئيس صدام حسين، و نظامه وجيشه ، توهماً منها أن ذلك يمكن أن يسيء للمقاومة، ويمكنه أن يضيف تهمة أخرى للرئيس صدام، ويعطي مبرراً جديداً لقوات الاحتلال بغزوها للعراق والبقاء فيه. وإذا صح أن كل هذه المقاومة الباسلة هي من صنع "الفلول" التي يقودها صدام حسين ـ ويبدو أن ذلك صحيح كما تؤكد كل المعطيات القادمة من العراق ـ فإن الإدارة الأمريكية تعترف مرغمة، ومن حيث لم تقصد ، أن النظام العراقي كان نظاماً وطنياً معادياً للاستعمار. فمقاومة الاستعمار، ورفض الاحتلال، هي أول سمة من سمات الوطنية، ومن لا يتحلى بها تنتفي عنه صفة الوطنية، وتلتصق به صفة الخيانة . وإذا كان الجيش العراقي ، قادراً على تمريغ أنف الولايات المتحدة في الوحل، وإغراق جنودها في هذا المستنقع الذي لا يعرفون كيف يخرجون منه، فليت كل جيوش العرب التي تستنزف مليارات الدولارات سنوياً في التسليح، على حساب قوت المواطنين العرب وتنميتهم وتطورهم، دون أن يستخدم هذا السلاح ـ حتى يصدأ ـ دفاعاً عن الأوطان، تتحول إلى فلول، إذا كان ذلك سيبث فيها الروح، ويحرك مشاعرها الوطنية القومية، ويثير فيها النخوة لنجدة اخوانها في فلسطين الذين يدمرهم الاحتلال الصهيوني . وليت كل الأحزاب العربية، من كان منها في السلطة أو خارجها، تتحول إلى فلول أيضاً، إذا كان ذلك سيخلصها من ترف السلطة وفسادها، ويحررها من خوفها، ويجعلها أكثر التصاقاً بالجماهير وتعبيراً عن إرادتها، فتنخرط معها في مقاومة الوجود الاستعماري، ونفوذه في كل أرجاء الأرض العربية، وتتمرد على حكامها الذين يشلون إرادتها وقدراتها.
وإذا كان صدام حسين قد تحول إلى مقاتل أو قائد في صفوف المقاومة، يعاني ما تعانيه من صعوبة الحركة والتخفي، وقسوة الحياة، فذلك شرف له، وتأكيد لمواقفه الدينية والوطنية المعادية للاستعمار . وهو بهذا الدور الذي يقوم به يعطي مصداقية لأقواله ونداءاته، ويتطهر من كل الأخطاء التي نسبت إليه . وحتى لو استشهد ـ وذلك وارد في أي لحظة طالما اختار هذا الطريق ـ فإنه يكون قد رسخ مفهوم المقاومة، وأسس قواعدها، وأعطى مفهوماً جديداً لمعنى القيادة، أساسه مواجهة المعتدين والمحتلين، وليس التمسك بالحكم تحت إمرة المحتلين .
ورابعاً : تنسب إدارة الاحتلال وعملاؤها جزء من المقاومة الباسلة في العراق إلى عناصر أجنبية (عربية وإسلامية) تسللت عبر الحدود، في محاولة لتحريض الشعب العراقي ضد المقاومة، وإقناعه بأن ما تقوم به قواتها من قتل وتدمير في العراق إنما يدخل في إطار حملتها لملاحقة (الإرهابيين) الأجانب القادمين عبر الحدود . كذلك تعتقد أن مثل هذه التهمة للمقاومة يمكن أن تبرر احتلالها للعراق، أو أن تحشد تأييداً دولياً لها.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية تخدع نفسها بمثل هذه الاتهامات، فهي لن تقنع أحداً. إذ طالما أعطت لنفسها الحق أن تستنجد بقوات من تسميهم دول التحالف لمساعدتها في بسط احتلالها، ولتخفيف الأعباء عن جنودها، فإن من الطبيعي، بل من الواجب أن يهب كل عربي وطني، وكل مؤمن، للمشاركة في الجهاد لتحرير عراق الحضارة العربية والإسلامية من الاحتلال الأجنبي.
ورغم كل المحاولات التي تقوم بها قوات الاحتلال لضرب المقاومة أو الإساءَة إليها، فإن هذه المقاومة تشتد وتتنوع وتتوسع مما أدى إلى إرباك قوات الاحتلال، وإرباك السياسة الأمريكية ذاتها، فكل المخارج التي تبحث عنها لتخليصها من ورطتها لم تجدها نفعاً، حتى الآن. فالقوات الحليفة التي نجحت في استدعائها للعراق باتت تتعرض لضربات دفعت حكوماتها للتفكير بسحبها، كما دفعت حكومات أخرى بالتوقف عن إرسال قواتها. وسعيها الآن للتعجيل ـ كما تقول ـ بنقل السلطة لعملائها في العراق، سيجعل المقاومة أكثر جرأة على هؤلاء العملاء. وبالتالي فإن مهمات قوات الاحتلال تزداد صعوبة. وليس هناك من مفر أمامها سوى أن ترحل.
وصدق عبد الرزاق عبد الواحد حين قال:
سلام على بغداد أدمنت همها
وأدمنتها جرحاً عن الذل يربأ
دلالة أن الأرض كل ذئابها
تعاوت على مجرى دماها وتخسأ
وها هي ذي شماء عصماء بَرّةٌ
وعنها يد الرحمن في الغيب تدرأ
يظل طهوراً كل جرح فتحتِه
عسى كل مظلوم به يتوضأ .
حين يتحول تمر العراق إلى جمر
حين يتحول تمر العراق إلى جمر
بغداد تنهض من جديد ... وترد اعتبارها واعتبارنا
دهش الكثيرون، وكثيرون أحبطوا، والغاضبون كانوا أكثر، عندما رأوا بغداد تسقط تحت نير الاحتلال الأمريكي في التاسع من إبريل (نيسان) الماضي، دون أن يروا العدو منتحراً عند أسوارها، أو مندحراً عن أبوابها، كما سمعوا وتوقعوا عندما كانت قوات الغزو تتقدم نحوها.
كان الغضب بحجم الآمال المعلقة على بغداد، بكل الماضي الذي رمزت له، وحاضر التحدي الذي تعيشه، والمستقبل الذي تعد به. فالمراهنون على صمود بغداد، تخيلوا هارون الرشيد، الذي كان يحج سنة ويغزو أخرى، وقد انتصب مدافعاً عن بغداد. والمأمون، ومعه كل علماء المعرفة الإنسانية وعلومهم التي انطلقت من بيت الحكمة لتعم الكون، وقد وقفت ترد الغزو الهمجي الذي جاء يكرر ما فعله بها من قبل أعداء الحضارة الإنسانية من المغول والتتار. رأوا المتنبي وقد اصطف خلفه كل شعراء العربية ممن أنشدوا في مربد البصرة على مرّ العصور، من الفرزدق وجرير وحتى أحدث شاعر عربي قرض الشعر، يرددون معه قوله المأثور:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم .
استدعوا حروف الأبجدية الأولى التي اخترعها السومريون في أرض الرافدين، وحروف العربية التي شهدت مجدها وتطورها في الأرض ذاتها، لتتشابك وتشكل سلسلة تحيط ببغداد، تحميها وتخنق كل من يقترب منها. تصوروا خالد والمثنى وسعد، وقد هبوا بفرسانهم يعيدون مجد القادسية واليرموك. وتخيلوا عليّاً ينهض من قبره ، متمنطقاً سيفه (ذا الفقار)، معتلياً منبره في الكوفة، مردداً فقرات من خطبه ، حاضاً المؤمنين على القتال. تعلقوا بصلاح الدين، ابن تكريت ، وهو يصرخ في العرب والمسلمين، داعياً لوحدتهم، وطالباً سيوفهم لا دعاءَهم فقط ليحمي بغداد من قانون الغاب الذي جاء ينشره "رامبو" الأمريكي الأحمق. وإلى نبوخذ نصر، ليحمي العراق من سبي أمريكي صهيوني جاء يحمل معاوله النارية ليقلب الأحداث، انتقاماً لثارات ما قبل الميلاد.
ولأن الرهان على بغداد كان بعمق هذا التاريخ، وبحجم ما زرعته فيهم دعوتها للجهاد من تحدٍ، وما أحيته فيهم من آمال بأن ساعة مواجهة التحالف الأمريكي الصهيوني قد اقتربت، بل حانت، وما أثاره فيهم من طموح مشروعها النهضوي الذي طرحته لمجد الأمة.. فإن أحداً لم يتوقف عند حجم الضربات التي كانت تتعرض لها بغداد، ولا نوعها الذي لم يستخدم في الحروب من قبل. ولم يتذكر أحد سنوات الحصار الثلاث عشرة التي تعرضت لها بغداد فأنهكتها، وحرمتها من أن توفر لنفسها الحد الأدنى من وسائل الدفاع الضرورية. وتناسى الكثيرون ظلم ذوي القربى لها، وتآمرهم ضدها، وتسخير أرضهم وبحارهم وسمائهم ليمر منها العدوان عليها، ولم يمهلها ـ حتى محبوها ـ الوقت الكافي لتلتقط أنفاسها، وتعيد ترتيب أوضاعها. فعتب عليها البعض، ولامها البعض الآخر، وسخر منها آخرون، هذا عدا الشامتين من العملاء والمتواطئين، والمتربصين، وعدا أجهزة الإعلام العربي الرسمي، وشبه الرسمي، وأجهزة الإعلام الغربي، التي وضعت نفسها بتصرف آلة العدوان الأمريكي، فساقت لبغداد كل ما ابتدعته آلتها الدعائية الجهنمية من تهم، ومبررات للعدوان، وحملت قيادتها مسؤولية كل ما جرى، وبثت من سموم الإحباط واليأس كل ما استطاعته قدرتها الإجرامية على الخلق أو الاختلاق.
ورغم أن بغداد لم تحدد زمنا لقبر الغزاة، أو دحرهم عند أسوارها، أو طردهم من أزقتها وشوارعها، وكل مدن العراق. ولم تعلن أنها قادرة على منع أكبر جيوش العالم، وأقواها عبر التاريخ، من اجتياح العراق، فقد كظمت غيظها، وتحملت عتب المحبين، ولوم اللائمين، وسفه الشامتين، وظلت وفية لوعدها، أمينة لعهدها، بأنها ستقاوم الغزاة، وستقبرهم، وستدحر بقاياهم، وستحرر أرض العراق من دنسهم. وهذا ما تفعله بغداد اليوم، ومعها كل مدن العراق ومحافظاته من الموصل في الشمال إلى البصرة في أقصى الجنوب. وهي بمقاومتها الشاملة، تصدق وعدها، ولا تخون تاريخها أو عهودها، ولا تخذل من راهنوا عليها. وتعيد الاعتبار لنفسها ولكل الجماهير الأمة التي تعلقت بها، وتوجه صفعة لكل الشامتين والخونة الذين تخلوا عن شرفهم الديني والوطني، وتعاونوا مع الاحتلال.
ولقد أذهل تصاعد المقاومة، واتساع ساحتها، ونوعية ضرباتها، جيوش الاحتلال وقادتها من جهة، والعملاء الذين تعاونوا معها أو استقدموها من جهة أخرى، لدرجة أنها باتت تثير الرعب فيهم، ويتخوفون من نتائجها. ففضلاً عن الانعكاسات التي تتركها في ساحة الرأي العام الأمريكي، بما يمكن أن يؤثر على مستقبل الرئيس الأمريكي جورج بوش وإدارته، فقد وصلت هذه التخوفات إلى الساحة الإسرائيلية. فبعض الأوساط الصحفية الصهيونية، داخل إسرائيل وخارجها باتت تتوقع في حال استمرار المقاومة العراقية وتصاعد وتيرتها، أن يحدث للأمريكان في العراق ما حدث للإسرائيليين في جنوب لبنان، وفي حرب الاستنزاف على جبهة قناة السويس أواخر الستينات، وما تحدثه المقاومة الاستشهادية الفلسطينية من تقويض لأركان الاحتلال الصهيوني. وتقارن هذه الأوساط الصهيونية بين عجز كل وسائل التكنولوجيا الإسرائيلية وأدوات قمعها عن توفير الأمن لجنودها ومواطنيها، وعجز الولايات المتحدة بكل ملياراتها، وأقمارها الصناعية، والمعدات التي لا تملكها أية دولة أخرى عن مواجهة المقاومة العراقية التي وضعت قوات الاحتلال الأمريكي في حالة دفاع، وفي حالة بحث عمن يحميها، سواءٌ باللجوء إلى الشرطة العراقية التي جندتها لهذا الغرض، أو بمحاولة استجداء دول العالم لإرسال بعض من جنودها ليتحملوا جزءً من تبعات حماية الجنود الأمريكيين في العراق. وتذهب الأوساط الإسرائيلية إلى القول: إنه لا يجوز لإسرائيل التفكير بإمكانية هزيمة أمريكية في العراق، وتطالب الإسرائيليين بأن يفعلوا كل ما هو مسموح وممكن لمساعدة الأمريكيين، لأن هزيمتهم في العراق ـ كما تقول هذه الأوساط ـ من شأنها أن يكون لها تأثيرات بعيدة الأثر على الشرق الأوسط، وعلى كفاح العالم في حربه ضدمايسمى "الإرهاب الإسلامي".
وأمام تصاعد المقاومة، توهمت دوائر الاحتلال الأمريكي والبريطاني، والأوساط المتعاونة معها أنها بإثارة الشكوك حول المقاومة يمكن أن تقلص من آثارها، أو تحرض الناس عليها وتصرفهم عنها، فحاولت أولاً : أن تطعن في شرعيتها متعامية عن حقائق التاريخ ومسلماته. فمقاومة الشعوب للاحتلال لا تنتظر موافقة المحتل أو إذنه حتى تصبح مشروعة. فهي تأخذ شرعيتها من انتمائها الديني والوطني ، وانتسابها لإرث تاريخي وحضاري لم يشرف به أي وطن أو أية أمة، ومن حق الدفاع عن النفس الذي شرعه دين الله ، وكذلك مواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان . وبالإضافة إلى ذلك، توجبها عليها أهداف الاحتلال الأمريكي الذي جاء لنهب ثروة العراق، والسيطرة على مقدرات شعبه، وتغيير هويته الدينية والوطنية ، وإلغاء دوره القيادي في المنطقة، وضرب مشروعه النهضوي، ومنع أي خطر قد يشكله على الكيان الصهيوني، من أجل إدامة احتلاله للأرض الفلسطينية . وتهديده للأرض العربية . وإقامة قواعد عسكرية أمريكية تهدد أمن الأمة ، كما تهدد دول الجوار الإقليمي .
وثانيا: سعت قوات الاحتلال وعملاؤها أن تلصق بالمقاومة تهمة الطائفية، مدعية أنها تنتشر فقط فيما اصطلحت على تسميته بالمثلث السني في الشمال والغرب والوسط . لكن اتساع رقعة المقاومة لتشمل كل أرض العراق، رد على هذه التهمة وأسقطها، وأثبت أن روح المقاومة هي في الأصل عربية إسلامية، وأن التنافس لا يكون إلا في التسابق على التضحية في سبيل الله . كما فضحت المقاومة بشموليتها، التقسيمات الطائفية والمذهبية ما تحاول سلطة الاحتلال فرضه على كل مؤسسات الحكم في العراق الذي لم يشهد عبر تاريخه الطويل مثل هذا التوزيع الطائفي والعرقي لإدارات الدولة العراقية، بحيث بات هذا الوضع يشكل أرضية لتقسيم العراق شعباً وأرضاً وفق هذه الأسس، بما يعنيه ذلك من إلغاء الهوية الدينية و العربية للعراق، وبما يهدد من امتداد أثاره لتشمل دولاً عربية أخرى مجاورة .
وثالثاً: ركزت إدارة الاحتلال وعملاؤها، على ربط المقاومة بالرئيس صدام حسين، و نظامه وجيشه ، توهماً منها أن ذلك يمكن أن يسيء للمقاومة، ويمكنه أن يضيف تهمة أخرى للرئيس صدام، ويعطي مبرراً جديداً لقوات الاحتلال بغزوها للعراق والبقاء فيه. وإذا صح أن كل هذه المقاومة الباسلة هي من صنع "الفلول" التي يقودها صدام حسين ـ ويبدو أن ذلك صحيح كما تؤكد كل المعطيات القادمة من العراق ـ فإن الإدارة الأمريكية تعترف مرغمة، ومن حيث لم تقصد ، أن النظام العراقي كان نظاماً وطنياً معادياً للاستعمار. فمقاومة الاستعمار، ورفض الاحتلال، هي أول سمة من سمات الوطنية، ومن لا يتحلى بها تنتفي عنه صفة الوطنية، وتلتصق به صفة الخيانة . وإذا كان الجيش العراقي ، قادراً على تمريغ أنف الولايات المتحدة في الوحل، وإغراق جنودها في هذا المستنقع الذي لا يعرفون كيف يخرجون منه، فليت كل جيوش العرب التي تستنزف مليارات الدولارات سنوياً في التسليح، على حساب قوت المواطنين العرب وتنميتهم وتطورهم، دون أن يستخدم هذا السلاح ـ حتى يصدأ ـ دفاعاً عن الأوطان، تتحول إلى فلول، إذا كان ذلك سيبث فيها الروح، ويحرك مشاعرها الوطنية القومية، ويثير فيها النخوة لنجدة اخوانها في فلسطين الذين يدمرهم الاحتلال الصهيوني . وليت كل الأحزاب العربية، من كان منها في السلطة أو خارجها، تتحول إلى فلول أيضاً، إذا كان ذلك سيخلصها من ترف السلطة وفسادها، ويحررها من خوفها، ويجعلها أكثر التصاقاً بالجماهير وتعبيراً عن إرادتها، فتنخرط معها في مقاومة الوجود الاستعماري، ونفوذه في كل أرجاء الأرض العربية، وتتمرد على حكامها الذين يشلون إرادتها وقدراتها.
وإذا كان صدام حسين قد تحول إلى مقاتل أو قائد في صفوف المقاومة، يعاني ما تعانيه من صعوبة الحركة والتخفي، وقسوة الحياة، فذلك شرف له، وتأكيد لمواقفه الدينية والوطنية المعادية للاستعمار . وهو بهذا الدور الذي يقوم به يعطي مصداقية لأقواله ونداءاته، ويتطهر من كل الأخطاء التي نسبت إليه . وحتى لو استشهد ـ وذلك وارد في أي لحظة طالما اختار هذا الطريق ـ فإنه يكون قد رسخ مفهوم المقاومة، وأسس قواعدها، وأعطى مفهوماً جديداً لمعنى القيادة، أساسه مواجهة المعتدين والمحتلين، وليس التمسك بالحكم تحت إمرة المحتلين .
ورابعاً : تنسب إدارة الاحتلال وعملاؤها جزء من المقاومة الباسلة في العراق إلى عناصر أجنبية (عربية وإسلامية) تسللت عبر الحدود، في محاولة لتحريض الشعب العراقي ضد المقاومة، وإقناعه بأن ما تقوم به قواتها من قتل وتدمير في العراق إنما يدخل في إطار حملتها لملاحقة (الإرهابيين) الأجانب القادمين عبر الحدود . كذلك تعتقد أن مثل هذه التهمة للمقاومة يمكن أن تبرر احتلالها للعراق، أو أن تحشد تأييداً دولياً لها.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية تخدع نفسها بمثل هذه الاتهامات، فهي لن تقنع أحداً. إذ طالما أعطت لنفسها الحق أن تستنجد بقوات من تسميهم دول التحالف لمساعدتها في بسط احتلالها، ولتخفيف الأعباء عن جنودها، فإن من الطبيعي، بل من الواجب أن يهب كل عربي وطني، وكل مؤمن، للمشاركة في الجهاد لتحرير عراق الحضارة العربية والإسلامية من الاحتلال الأجنبي.
ورغم كل المحاولات التي تقوم بها قوات الاحتلال لضرب المقاومة أو الإساءَة إليها، فإن هذه المقاومة تشتد وتتنوع وتتوسع مما أدى إلى إرباك قوات الاحتلال، وإرباك السياسة الأمريكية ذاتها، فكل المخارج التي تبحث عنها لتخليصها من ورطتها لم تجدها نفعاً، حتى الآن. فالقوات الحليفة التي نجحت في استدعائها للعراق باتت تتعرض لضربات دفعت حكوماتها للتفكير بسحبها، كما دفعت حكومات أخرى بالتوقف عن إرسال قواتها. وسعيها الآن للتعجيل ـ كما تقول ـ بنقل السلطة لعملائها في العراق، سيجعل المقاومة أكثر جرأة على هؤلاء العملاء. وبالتالي فإن مهمات قوات الاحتلال تزداد صعوبة. وليس هناك من مفر أمامها سوى أن ترحل.
وصدق عبد الرزاق عبد الواحد حين قال:
سلام على بغداد أدمنت همها
وأدمنتها جرحاً عن الذل يربأ
دلالة أن الأرض كل ذئابها
تعاوت على مجرى دماها وتخسأ
وها هي ذي شماء عصماء بَرّةٌ
وعنها يد الرحمن في الغيب تدرأ
يظل طهوراً كل جرح فتحتِه
عسى كل مظلوم به يتوضأ .