محمد دغيدى
12-05-2005, 01:58 PM
القصة عجيبة, والآية عظيمة {ألر, تلك آيات الكتاب الحكيم, أكان للناس عجبا..} يونس
فما أمر هذا النبي "الآبق" الذي يرجع فيؤمن له "مائة ألف أو يزيدون", وهو الرقم الأعلى في القرآن؟.
وما علاقته بنوح, الصابر الماكث طويلا, الذي ما آمن معه إلا قليل؟.
ولماذا يضع الله قصة يونس في أول سور النبيين, وسورة نوح في آخر سور النبيين؟.
ولماذا يأبق هذا الى "الفلك المشحون", وينجو هذا في "الفلك المشحون"؟.
فماذا كانت يا ترى آيته, خاصة وهي المحاولة الثانية له في قومه, وهي بالعادة أضعف من الاولى؟.
وهل تكون فوق معجزة عيسى وموسى ورسول الله محمد عليهم الصلاة والسلام, وهم الذين لم يؤمن لهم كل أقوامهم؟.
{فأرسلناه إلى مائة ألف أويزيدون.. فآمنوا..}.
من يعرف الآية التي يؤمن عليها فوق المائة ألف؟!.
صلاح الدين إبراهيم أبو عرفة
هذا القصة القرآنية بحاجة إلى عميق نظر وكثير تدبر, كسائر قصص القرآن. ففيها من الأسئلة ما فيها, وفيها من عجيب أمر الله ما فيها, وفيها من الحكمة المخبوءة ما فيها, مثل ما توحيه هي من لحظات الظلمات التي لم يرها إلا الله, ولم ينبئ بها إلا الله..
وكما أشرنا وأثرنا من الأسئلة السابقة, فيظهر أن القصة "الآية", أو"الآية" القصة, لم تستوف حقها عند الناس, ولم ينزلوها منزلة المنزّل لها.. الحكيم!.
فكان السؤال المفروض الأول..
بماذا رجع "يونس" عليه السلام إلى قومه, حتى يؤمن له مائة ألف أو يزيدون؟!.
وأي آية هذه التي لم يأت بمثلها رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام, إذ لم يؤمن لرسول الله كل قومه حين دعاهم أكثر من عشرين عاما؟. وأي آية هذه التي تفوق للناظر شق القمر, وإحياء الموتى وخلق الطين طيرا, وشق البحر وناقة صالح؟!.
ما هذه الآية العظمى التي لم يصرح القرآن بها, ولماذا؟!.
وقد بات واضحا أن هذا لم يكن لنبي غير يونس, وأن ما جرى ليونس كان حجة بالغة, أهّلت ليونس أن "يستأنس" أول كتاب الله, فيكون صاحب أول سورة باسم نبي صراحة!.
لنبدأ تدبرنا بعون الله الآمر بالتدبر!.
أولا: نحن على عهدنا وركننا الشديد, ألا نؤمن لغير كتاب الله, وما "صحّ" من حديث المعصوم, محمد عليه الصلاة والسلام.
فما كان من كلام الناس, فهو كلام ورأي, يجوز فيه الخطأ, كما يجوز فيه الصواب, فلنا أن نمتحن قول علمائنا وأكابرنا على أنهم من "الناس", وعلى أنهم خير منا وأحب إلى الله, ولكن الله ورسوله خير لنا وأحب وأبقى.
فأيما قول عن يونس عليه السلام لم يقله النبي المعصوم, فليس بدين, فيما أيما قول "صحيح" للنبي المعصوم في يونس, فهو دين مفروض, وصواب لازم.
فهل صح في يونس عليه السلام من حديث النبي شيء؟.
نعم.. فقد صح فيه عليه السلام أكثر من حديث, ولكن...
لم يصح في قصته وما جرى له في الفلك وبطن الحوت من حديث النبي المعصوم شيء.. وسائر ما روي في يونس, إنما هو "نسج حكاية" من "الناس", الخطأ فيه أكثر من الصواب, والغث فيه أغلب من السمين. وإن ذكرته أمهات كتب التفسير, فكتاب الله ورسوله شيء, وكتب الناس شيء دونه.
هذا, عدا ما وافق فيه النبي صريح القرآن من نداء يونس في بطن الحوت, واستحباب النبي لهذا الدعاء والحض عليه بحديثه: "دعوة ذي النون إذ دعاه وهو في بطن الحوت: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}؛ فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط؛ إلا استجاب الله له" .
ماذا تقول التفاسير؟.
قبل أن ندخل كتب المفسرين, نذكّر القارئ, بأن يحتفظ معه بالميزان القويم الذي يفرق به بين الحق والباطل, وبين الخطأ والصواب, ألا وهو "ما صحّ عن رسول الله فهو حق, وما لم يصح فليس بشيء, حتى يأتي صاحبه ببينة من الله"!.
المفسرون, وباختصار, يقولون, وانتبه أن ما سيأتي هو "قول" المفسرين من الناس, وليس قول النبي عليه الصلاة والسلام, يقولون: إن يونس دعا قومه فلم يستجيبوا له, فأيس منهم ولم يصبر عليهم, فخرج من بينهم وفرّ من خدمة الله والرسالة, فأتى سفينة تحمل ناسا, فركب فيها, فهاجت بهم الريح, وماج بهم البحر, فاضطروا إلى إلقاء بعضهم في البحر, ليخف حمل السفينة, ولم يكن لهم سبيل إلى ذلك سوى الاستهام والاقتراع, فاستهموا, فوقع السهم على يونس, فأعادوا الاستهام, -لأجل منزلة يونس فيهم, فوقع السهم عليه مرة أخرى, وأخرى, حتى استسلموا لها وألقوه في البحر. فالتقمه الحوت, فأوحى الله إلى الحوت: لا تأكل له لحما ولا تهشم له عظما, فإن يونس ليس لك رزقا, وإنما بطنك تكون له سجنا.
ثم أدرك يونس ذنبه, فاستفغر, فألقاه الحوت بالعراء, وأنبت الله عليه شجرة من يقطين.
وكان من أمر قومه أن أدركوا بعد خروجه من بينهم أن العذاب نازل بهم لا محالة, فخرجوا يبكون, برجالهم ونسائهم وصبيانهم, وفرقوا بين الغنمة ووليدها والبقرة ووليدها ولبسو المسوح, وصاروا يجأرون؟!.
هذا هو مجمل ما في التفاسير, جزا الله علماءنا عنا كل خير بجهدهم.
فهل لنا أن "نراجع" أقوال المفسرين, أم هم معصومون كالنبي؟.
نعم.. إن لنا بذلك حقا, وهم أنفسهم من يعلّم الناس هذا الحق, فما هي اسألتنا أليهم؟.
أولا: من أين علموا أن السفينة اضطربت ولجّت في البحر؟, فلم يقل الله بهذا ولم يقله رسول الله, وهذا غيب لله, فمن أين قرأوه, ومن أين أتوا به؟.
ثانيا: من أين أتوا بمرات الاستهام الثلاث, فلعلها كانت مرة أو مرتين, أو فلتكن خمسة؟.
ثالثا: من قال: إن فعل "ساهم" لا يأتي في لسان العرب إلا للاقتراع؟, ألا يأتي أيضا بمعنى "شارك"؟. وهو "السهم", وهو شائع في "الحديث" ولسان العرب, فلماذا فرضنا المعنى الأول فقط؟. وما دليلنا على هذا الفرض؟.
رابعا: ما معنى "مدحضين"؟. وما استعمالاتها واستدلالاتها في اللسان؟, ومن قال إنها للإلقاء من شيء إلى شيء؟, وحتى إن كانت بمعنى "الدفع", فالتفاسير تقول: إن يونس خلع ثيابه وألقى بنفسه طواعية!. وانظر إلى هذه أيضا, من أين علموها, ولماذا يخلع ثيابه رجل يعلم أنه هالك, بل لعله ينجو, فهو أحوج إليها؟. كما أن لسان العرب لا يقول إن "الدحض" هو هذا, والقرآن لم يقل بهذا!.
خامسا: وهي القارعة القاصمة, فمن أين علموا أن الله أوحى إلى الحوت ألا تأكل له لحما ولا تهشم له عظما, و....؟!.
فهذا دين, ولا هزل فيه, ولا شأن فيه يعظم لغير الله ورسوله, وهذا حق, والله لا يستحيي من الحق. فإما أن يأتونا بسلطان من الله مكتوب فيه ما كتبوا, أو فهذا من القول على الله بغير علم, ولا ثالث لهما, ولا وحي بعد رسول الله, ومن تشدد لعالم أو لرأي يعلم الحق في سواه, فقد اتبع هواه بغير هدى من الله, ومن آثر خطأ العالم لمنزلته, على البينة والبرهان, فقد خالف وصية الله والنبيين {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ, قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}.
ماذا نريد أن نقول؟.
لنعتمد على تركة النبي الخالصة, ولنتدبرها كلمة كلمة, فمن أجل ذلك أنزله الله..
فقد ذكر الله يونس في القرآن في أكثر من موضع, وفصّل ذكره في الصافات وفي الأنبياء, وأكثرها التي في الصافات..
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ, إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ, فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ, فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ, فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ, لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ, فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ, وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ, وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ, فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}.
لا نريد أن ندخل الآن في ثنايا المراحل والمفاصل التي تنقّل يونس فيها, علما أنها هي مفتاح الفهم –من قول الله الخالص- لحكمته وآياته, فلا يليق بالله الحكيم أن نمرّ هكذا على أفعاله وأقواله التي تفيض حكمة وعلما واقتدارا.
كان الأجدر أن نعلم أن كل ما جرى ليونس, كان بتدبير الله واختياره المحكم, ابتداء من "الفلك المشحون", ثم "الاستهام والدحض", ثم "التقام الحوت", ثم "النبذ بالعراء", ثم "شجرة اليقطين", ثم نرى بعدها يونس رجلا صالحا للمهمة التي ستؤتي أكلها وتصير للناس آية {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
كان الأجدر أن نقف عند هذا المِفْصل العظيم, ذلك الذي يفرض نفسه بين يونس ونوح عليهما السلام, إذ "يصبر" نوح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما, فلا يؤمن معه إلا "قليل", ثم ينجيه الله في "الفلك المشحون"!.
وأما يونس "فلا يصبر" على قومه, فيأبق إلى "الفلك المشحون", فيرسل مرة أخرى فيؤمن له "مائة ألف أو يزيدون"!.
ثم يضع الله يونس في أول سور النبيين, ويضع نوحا في آخر سور النبيين!. السورة (10) ليونس, والسورة (71) لنوح.
ولا يذكر "الفلك المشحون" في القرآن إلا ليونس ونوح عليهما السلام!.
أهذا أولى بالبحث والسؤال, ام اختلاق الأقاويل؟!.
والله لا يستحيي من الحق.
كان النظر في "خالص القرآن" أجدر من اختلاق الأقاويل والأحداث, وإن كان قائلها علماؤنا وصالحونا, فالدين النصيحة, {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}؟. فلا خير فينا إن لم نقلها, ولا خير فيهم إن لم يسمعوها!.
نرجع إلى سؤالنا الأصل..
بماذا رجع "يونس" عليه السلام إلى قومه, حتى يؤمن له مائة ألف أو يزيدون؟!.
أولا: لننتبه إلى الرقم "مائة ألف أو يزيدون"!, ولننتبه أن هذا أعلى رقم في القرآن وأن القرآن لم يصرح بإحصاء الأمم, ولم يلتفت إلى كثرة المؤمنين أو قلتهم {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}, فلم التفت هنا إلى عدتهم وأحصاهم, ولمَ هذا التركيب "مائة ألف أو يزيدون", دون أن يصرّح الله كم هم المزيدون, بما يوحي أن "المائة ألف" هم المطلوبون في الحكمة, والآخرون "يزيدون"!. فما سيجري من "الآيات" و"الحكمة" يستلزم حدا أدنى بمائة ألف, يكونون حاضرين. فما يجري على أمة بـ"مائة ألف" يجري على ما فوقهم, ولا تنفرض الحكمة والآية إلا على "مائة ألف" أو يزيدون..
فماذا في "المائة ألف", وماذا يلزم منهم؟.
ثانيا: فلنسترجع أمرا مهما, وهو "إخفاق" يونس عليه السلام في المرة الأولى, بما يضعف من موقفه في المرة الثانية, فحين يرجع نبي سبق وأخفق مع قومه, فإن رجعته تكون أضعف موقفا وحضورا, فبماذا رجع النبي "المخفق" حتى خضع له كل قومه؟.
نبدأ بالجواب..
لنحدد قبلها دواعي الكفر وعدم الإيمان عند الناس, فالناس بين دواع ثلاثة تدعو صاحبها ألا يؤمن!.
وهذه الثلاث هي: الشك والجحود والتَبَع.
فالشاكّ تنفعه الآية الدامغة والحجة البالغة, حتى إذا ذهب شكه أو خفَت, تحرك للإيمان.
والجاحد لا تنفعه آية ولا ترده حجة مهما بلغت, {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}. و{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ}.
والتابع كالسفيه, ينتظر إيمان غيره, فلعله يتبع شاكا أو يتبع جاحدا, فإن آمن أحدهما آمن. فالأولان هما مربط البحث.
و"المائة ألف" هذا مرادها وهذا مستلزمها, فهو الحد الأدنى الذي يجمع كل مشارب الناس, واختلافاتهم وأهوائهم, ففي "المائة ألف" الشاك والجاحد والتابع السفيه, وفيهم العاقل المستبصر.
فلو فرضنا أن يونس عليه السلام رجع حين رجع بحجة بالغة وآية دامغة, لآمن له المستبصر والشاك, أما الجاحد فلن ينفعه شيء ولن يرده راد, ولا شك أن في "المائة ألف" منهم كثير. فماذا إذا, وما هذا الذي جرى على المشارب كلها, والأهواء كلها, فاستوى فيه المستبصر والشاك والجاحد؟.
لا بد أنها حالة ما, وظرف عام, جرى على قوم يونس جميعهم, أبطل للشاك شكه, وللجاحد جحوده, وصدّق للمستبصر ظنه!.
ولا بد أنه شيء غيرَ مألوف, كما أن الحدث غيرُ مألوف..
ولا بد أنها آية أوحالة مستثناة, -وسنثبت الاستثناء- فلم تكن لغير يونس, ولم تكن في غير قومه..
فما هي هذه الآية الكبرى التي غُمّت علينا, فلم نرها ولم نسمع بها؟.
أنها حالة واحدة عامة في الناس مشتَركة فيهم, تستوي النتيجة فيها عند كل من يوافيها, مهما كان شكه وجحوده وعناده..
فما هي هذه الحالة التي تبطل هذا كله؟!.
إنها الوفاة..
إنها الوفاة..!.
فيظهر مما تظاهرت عليه الأدلة والآيات –وسنسوق أدلتنا على هذا- يظهر أن قوم يونس جميعهم, "رأوا" الهلاك رأي العين, و"رأوا" الحق عين اليقين, ولا "يرى" هذا "الحق والعيان" إلا من وافى "الوفاة" وانقطع من الدنيا, كما يرى "المحتضر" الملائكة من حوله, وعندها ينفك الشاك عن شكه, والجاحد عن جحوده..
وليتنبه القارئ إلى الكلمات التي سطرّنا تحتها!.
ولكن, أليس قولنا هذا قول كسائر الأقوال؟, ألم نرفض قول القائلين بغير بينة ولا دليل؟.
إذا تلزمنا البينة ويلزمنا الدليل, فما دليلنا وما بينتنا؟!.
كما بدأنا عهدنا, أن لا نركن لغير الكتاب والحديث, فوجب أن نأتي بالبينة من الكتاب والحديث..
لنسأل أولا, وقبل أن نخوض في الدليل, هل اتفقنا حقا أن "الوفاة" سبب بالغ لانقطاع الشك وذهاب الجحود؟.
من منا لم يقرأ هذه الآية {واعبدْ رَّبك حتى يأتيَك اليقينُ}, فلم سمى الله الوفاة باليقين, أليس باليقين يبطل الشك؟, إذا فبالوفاة يبطل الشك.
ثم من لم يقرأ هذه الآية {لقدْ كنتَ في غفلةٍ منْ هذا فكشَفنا عنكَ غِطاءكَ فبصُرك اليومَ حديدٌ}, فعند الوفاة يتبين كل شيء على ما هو عليه, فلا شك ولا ضلال.
وإن بقي فينا من لا يقول بهذا, فليأتنا بخبر عن "كافر" صار بين يدي الله, وظل على كفره!.
فلماذا قلنا "الوفاة" ولم نقل "الموت"؟.
الوفاة بلا ريب, غير الموت, إذ ليس في القرآن مترادف أصلا, خاصة وأن الله يذكر الوفاة والموت في المحل الواحد, بما يمنع أن يكونا شيئا واحدا, من مثل {حتى إذا جاء أحدَكم الموتُ توفَّتهُ رُسُلُنا}. فالموت لغة وعقلا وقرآنا غير الوفاة.
فالوفاة فعل للملائكة بأمر الله, {قل يتوافاكم ملك الموت} أما الموت ففعل لله وحده, {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}, فالمميت إسم خاص متفرد لله, فإذا قضى الله على عبد الموت, توفته الرسل أجله ورزقه ليميته الله بأمره, كما في الحديث الصحيح: "اتقوا الله وأجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها".
والوفاة حالة تسبق الموت, فلا تموت نفس حتى تُتوفى. {ألله يتوفى الأنفس حين موتها}, فهما ظرفان متتابعان, فكل ميت متوفىً بالضرورة, وليس كل متوفٍ ميت بالضرورة, ويكفي أن نشير أن جمهور العلماء على أن الله توفى المسيح ولم يُمته!. {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}.
فالتوفي هو وجه للتمام والاكتمال, فمن اكتمل رزقه وأجله, فقد استوفى نصيبه من الدنيا, حتى يقضي الله عليه الموت. وللمسألة جذورها اللغوية المفصلة لمن شاء المزيد..
لنقرأ آية "يونس" العظيمة, قبل الدخول والتدبر..
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}..
إذا.. فقوم يونس "رأوا" الوفاة رأي الحق, حينما نزل بهم العذاب, فانقطعوا من الدنيا وغطائها وشواغلها وشهواتها وزينتها, وأيقنوا أنهم في قبضة الله, وأصبحوا حيث لا شك ولا جحود, وهي اللحظة التي ينقطع فيها العبد عن كل هذا, وهي الوفاة بعينها, كما في الحديث الصحيح: "إن العبد المؤمن إذا كان فى إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا، نزلت إليه الملائكة، كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه".
أين الدليل الصريح على ما نقول؟.
الملاحظ في سورة يونس, أن آية "شك" تسبق آية يونس ال(98) ببضع آيات, وهي {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}90, ثم تتلوها آية "شك" أخرى ببضع آيات {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.104
فانظر كيف يتوسط ذكر يونس وآية يونس "الشكين"!
فيخاطَب النبي عليه الصلاة والسلام خطاب الشاك, {فإن كنت في شك}, ثم تُذكر "آية يونس", ثم يخاطِب النبيُ نفسُه من كان شاكا, بما يفرض أنه صار من الموقنين, وأنه موقن من دينه لا شك عنده!.
فانظر كيف ينتقل النبي من الأولى إلى الثانية الموقنة, مرورا بآية يونس المذهبة للشك, الفارضة لليقين!.
ثم انظر إلى صفة الله العظمى الفارقة في آية "الشك" الأخيرة, وتدبر محلها وموقعها وسياقها..
{وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ..
الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}!.
الآن تتضح آية يونس ال(98)..
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}..
فقد جرت سنة الله أنه إذا أراد بقوم سوءا فلا مرد له, وأنه إذا قضى على أمة الهلاك فأنزله بهم, لم يرفعه عنهم أبدا حتى يهلكهم العذاب..
فاقرأوا إن شئتم هذه الآيات..
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ, فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}. ومثلها كثير, ولعل هذه أوضحها وأصرحها..
فالكافرون يؤمنون جميعا عندما يرون العذاب "المهلك", لما يعاينون من الحق واليقين, ولكن إيمانهم في حينها مردود لا يقبله الله, إذ هو إيمان المرغم المقهور.
فكيف نفهم آية يونس ال(98) إذاً, إذا كانت سنة الله ألا ينجي من لم يؤمن قبلها؟.
لنقرأ الآيتين (96, 97) التي تسبق آية يونس..
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ, وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ}, فلا يؤمنوا حتى يروا, ثم إذا آمنوا لم يقبل الله إيمانهم!.
ثم ارجع بضع آيات قبلها, وبثمان آيات فقط, لتر الدليل طافيا أمامك, كما طفا فرعون ببدنه بعد الهلاك..
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ, آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}..
فهذا هو فرعون, عيّنة الكفر المُثلى, ومثل الجحود والشك والعناد الأعلى, ها هو يؤمن ويسترحم ويترجى. فمتى كان هذا؟, كان عند الوفاة, والانقطاع من الملك والسلطان والغطاء الكذاب, والغفلة والعمى!.
فهل منا من سأل: لمَ يسوق الله هذه الآيات عن فرعون, بهذا الوصف المتفرد في القرآن, هنا بالذات, في سورة يونس, وقبل آية يونس, ثم يعقد السورة كلها على "يونس", وهو الذي لم يذكر فيها إلا بآية واحدة من تسع ومائة آية؟!.
ألعلها للإيحاء بما جرى لقوم يونس؟.
ولكن يبقى السؤال, ألم تكن سنة الله ألا ينجي من لم يؤمن قبل وقوع العذاب, تماما كما فعل بفرعون؟.
نعم.. والآية آية سنّة محكمة مفروضة {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ, فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}.
فما بال قوم يونس, ألا تجري عليهم سنّة الله كغيرهم؟!.
بلى, إنها كذلك.. سنّة الله في الناس..
إلا قوم يونس!!.
واقرأوا معنا وتدبروا..
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ, وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ, فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}..
فلولا كانت قرية آمنت -حين رأت العذاب- فنفعها إيمانها..
أي أنه يمتنع وجود قرية آمنت حينما رأت العذاب فنفعها إيمانها, لوجود سنّة الله في الهلاك, فـ"لولا" في لسان العرب, إداة امتناع لوجود, فامتنعت منفعة الإيمان بعد العيان, لوجود السنّة في الهلاك, إلا قوم يونس..
كل هذا كائن سنّة, إلا قوم يونس.. لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا..
ومن أجل ذلك ساق الله قصة فرعون المعاين المسترحم المردود.. مباشرة قبل قوم يونس..
ومن أجل ذلك وصف الله نفسه بعد ذكر قوم يونس, وصف قهر وتذكير.. {الله الذي يتوفاكم}..
إنها لحظة الحق والصدق, الذي ينقطع العبد فيها عن كل شيء, ويظلم أمامه كل شيء, فلا يرى إلا الله..
إنها كظلمات الحوت التي التقم يونس, فلم ير يونس لحظتها إلا الله, فرجع واستذكر, فنجاه الله من "الغم".. ذلك الغطاء الحاجب الذي يضبب علينا الرؤية والحق..
ولنا وقفة عند {فنجيناه من الغمّ}..
فما هو الغمّ؟.
الظاهر الأول أنه الحزن والكرب والهم..
ولكن دعونا نضعها في سياقها, ونجمع معانيها واحتمالاتها, ومواردها في الكتاب الأعظم, فما رسا وثبت فهو الحق.
فالعرب تقول: غمّ الشيء, أي غطّاه.
وأمْرٌ غُمة, أي أمر مبهم, ومنه آية نوح, في السورة التي نتدبرها {ثمَّ لا يكُن أمرُكُم عليكم غُمّةً}, وورود هذه الكلمة في حق النبييْن الذيْن عقدنا أول التوافق بينهما, وفي السورة نفسها, لأمر أهل للتدبر بذاته, خاصة وأن "الغم" الذي في حق نوح, يأتي بدلالة صريحة إلى ما سنذهب إليه, من دلالة "الإبهام" والتخليط.
كما وتقول العرب: غُمّ, إذا استعجم ولم يستبين. كالقول المغمغم.
فالآن ينادي يونس في "الظلمات" وهي أم "الغم" وانعدام الرؤية, كما في حديث المعصوم: "فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين", وهو ما يصيب الناس حين يُغمى عليهم, فلا يرون ولا يسمعون ولا يدركون. وهو أيضا من الحديث الصحيح: "فإن أغمى عليكم فأكملوا العدة".
ويظهر أن هذا "الغم" يصيب العبد عادة من "الظلم والعصيان", حيث تضطرب عليه نفسه وتتنازع بين فطرته, وأوامر الله له, وبين ظلمه وعصيانه.
وهذا هو منشأ "غمّ" يونس, حين عصى وخالف وظلم {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين, فاستجبنا له, فنجيناه من الغم}, وهذا هو أيضا منشأ "غم" موسى الذي نجاه الله منه, حين قتل القبطي وخالف وعصى وظلم {قال رب إني ظلمت نفسي}, {وقتلت نفسا فنجيناك من الغمّ}..
وهو نفسه منشأ غم المؤمنين في سورة آل عمران, بعدما {فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ...... فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحزَنُوا} , فهذا هو عين منشأ غم يونس, حين فشل وعصى وتنازعته نفسه, بين أمر الله وبين أمره من تلقاء نفسه, كما نهى الله نبيه محمدا في سورة "يونس" أن يأتي بشيء من تلقاء نفسه, مثلما فعل يونس من قبل فعصى وظلم.. {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً}..
فلم يعالج الله "الغم" بـ"الأمنة النعاس"?, إلا لما كان من الاضطراب والنزاع؟, فللاضطراب النعاس, وللنزاع الأمنة..
إذا, "الغم" إبهام واضطراب وذهاب بالرؤية, وارجعوا إلى الآية التي جمع الله فيها بين "المنازعة والرؤية والغم"..
{فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ...... فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ}.
والآن تتضح لنا مفاصل الحكمة وأركانها, من "الرؤية" التي بنينا عليها فهمنا وتدبرنا, ومن ضدها المتمثل في "الغم والظلمات", {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات}, فمن يرد الله أن يهديه, ينجّه من "الغم والظلمات", ثم إذا شاء أن يرفعه "أراه" فآمن, {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}!.
والآن تستبين لنا معاني هذا الاسم,"يونس"..
فما معناه في اللسان العربي أولا؟.
يونس, من أنس, ولا يبعد أن تهمز, فيقال: يؤنس, ويؤسف, من آنس وآسف. {وآسفى على يوسف}.
وآنس: رأى وأبصر واستعلم, كما في ذكر موسى, {آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا}, و{رأى نارا فقال لأهله امكثوا}..
فكما كانت "الرؤية" هي ركن الحكمة, وفصل خطابها, فقد هيأ الله لهذه الحكمة في الناس أمة ونبيا, وعقد لهذا النبي اسما عنوانا, لهذه الحكمة وركنها الأظهر, فسماه "يونس", كالذي آنس ورأى وعلم..
وانتبه إلى آخر سورة "القلم" سورة "نون", حيث يختمها الله على ذكر "يونس", ثم يذكر "الإبصار" مباشرة بعدها, {وإن يكاد الذين كفروا ليُزلقونك بأبصارهم}..
وكيف ربط بين الوفاة و{بصرك اليوم حديد}!.
وكيف تختم سورة الصافات, صاحبة التفصيل في يونس, كيف تختم على آيات "الإبصار", {وأبصِر فسوف يُبصِرون}!.
فأسماء الأنبياء, كما قلنا, أسماء توظيفية, من مثل ما شرحنا في نوح, ومحمد, وسليمان, ولقمان..
إذا..
إنها الحالة نفسها التي عاينها يونس النبي ورآها, ثم عاينها قومه من بعده, ألم يقل الله {للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}؟, فمن هذا الذي يلبث إلى يوم البعث, غير الميت؟!.
فرجع إلى مائة ألف, فآمنوا كما يؤمن الواحد من الناس..
إنها اللحظة التي يستوي فيها مائة ألف بواحد..
إنها لحظة لله الرب الحق..
باختصار..
فقد أجرى الله على قوم يونس "الوفاة" حين تلبّسهم العذاب, و"رأوه رأي العين" حتى صاروا جميعا في قبضة الله, فانقطعوا عن الدنيا وسكرتها و"غمها", فانكشف عنهم غطاء العمى وحُجُب الغفلة, فرأوا عين الحق, فآمنوا, فقبل الله إيمانهم -على غير مألوف- وردهم إلى حياتهم مرة أخرى..
وانتبهوا جيدا, كيف يصف الله نفسه بعد ذكر القصة ببضع آيات, وفي سورة يونس بالذات, بـ{الذي يتوفاكم}, فهل من متدبر!؟.
وهذا تماما مثلما جرى لفرعون في السورة نفسها, فآمن, وهو الجاحد الشاك العنيد, ولكن الله أجرى على فرعون السنة والمألوف فلم يقبل منه إيمانه.. وانتبوا أيضا, كيف ساق الله قصة فرعون بهذه الحيثيات التي لم يذكرها في سورة غير سورة يونس, ولم يشهد إيمان فرعون ساعتها إلا الله, فلم يذكرها الله قبل قصة قوم يونس بالذات, وفي سورة يونس بالذات, فهل من متدبر؟!.
فاشهدوا على "حالة" يؤمن بها من هو بكفر فرعون!, فإذا آمن فرعون, فمن لا يؤمن؟!
فلا جرم استبق الله ذكر قوم يونس بذكر فرعون, ثم أتبعها بالوصف الثقيل القاهر.. {الله الذي يتوفاكم}..
وهذا ليس ببعيد على الله, فكلنا نقرأ آية "البقرة" {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم}.
وقد يسأل سائل: لعلهم آمنوا بالتراخي, فلم يلزم ما نقول؟.
فنقول: آية الصافات تشير إلى الترتيب والتعقيب بحرف الفاء {فأرسلناه.. فآمنوا}, وآية سورة يونس, تشير إلى أنهم آمنوا من "رؤيتهم" العذاب, فكشفه الله, وهذا يفرض اللحظة الواحدة, وينفي التراخي..
وقد يسأل آخر: إنه ليس بالضرورة أن يكون المائة ألف هم قوم يونس انفسهم, بل قد يكونون قوما غيرهم؟
فنقول: الأصل هو ما نعلمه من أن قوم يونس لم يؤمنوا لدعوته, فخرج يونس من بينهم ولم يصبر عليهم, ثم علمنا أن قوم يونس آمنوا جميعا بنص الآية (98), فكيف نوفق بينهما؟ إلا أن يكون الذي أرسل إليهم يونس في المرتين هم أنفسهم, وهم قومه الذين رجع إليهم, إذ ليس عندنا خبر ثابت من إن يونس ارسل إلى غير قومه.
وحتى إن فرضنا جدلا أن المائة ألف هم قوم غير قومه, فيبقى البحث كما هو, (كيف يؤمن كل القوم)؟.
فيكون جوابنا, هو بحثا هذا..
ثم اقرأوا معنا هذه الآيات من سورة يونس, بعدما علمتم, عن الذي بين "يونس" و"الرؤية"..
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ{46}.
{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ{51}
{وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ{54}.
{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ{88}.
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ{90} آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ{91}.
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ{96} وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ{97} فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ{98}.
{وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}.
ولنا بإذن الله تتمة, عن مفاصل "الحكمة" في القصة.. عن "الفلك المشحون", وعن "الحوت", وعن "أبق ودحض ونبذ", وعن " المشحون والعراء", وعن "اليقطين", وعن "النون, وسورة نون القلم", وعن "سُقم يونس وسُقم إبراهيم في سورة الصافات...
وعن علاقة يونس بموسى, و"حوتهما", وعن "نون" يونس, وعن يوشع بن "نون" فتى موسى –كما في البخاري-, وعن "يونس" –بالمعنى الذي أشرنا إليه- و"استئناس" موسى, و"رؤيته" للنار, وعن "وفاة" فرعون موسى كقوم يونس و"إيمانه" عند "رؤية" العذاب, كما قصت سورة "يونس", وعن احتفاظ الله بنص "فنجيناه من الغم", و"فنجيناك من الغم" لموسى ويونس فقط ...
ولكن استمسكوا بالمفتاح الصحيح, بأن تعظموا الله وتوقروه, فلا تقبلوا أبدا أن يكون الله يقُص قصَصَ القُصاص, ويحكي حكايا الناس!.
{إنه لقرآن مجيد, في لوح محفوظ}..
{ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل},
أللهم إن كان حقا فأجرنا عليه, وإن كان باطلا فاعذرنا عليه.
فما أمر هذا النبي "الآبق" الذي يرجع فيؤمن له "مائة ألف أو يزيدون", وهو الرقم الأعلى في القرآن؟.
وما علاقته بنوح, الصابر الماكث طويلا, الذي ما آمن معه إلا قليل؟.
ولماذا يضع الله قصة يونس في أول سور النبيين, وسورة نوح في آخر سور النبيين؟.
ولماذا يأبق هذا الى "الفلك المشحون", وينجو هذا في "الفلك المشحون"؟.
فماذا كانت يا ترى آيته, خاصة وهي المحاولة الثانية له في قومه, وهي بالعادة أضعف من الاولى؟.
وهل تكون فوق معجزة عيسى وموسى ورسول الله محمد عليهم الصلاة والسلام, وهم الذين لم يؤمن لهم كل أقوامهم؟.
{فأرسلناه إلى مائة ألف أويزيدون.. فآمنوا..}.
من يعرف الآية التي يؤمن عليها فوق المائة ألف؟!.
صلاح الدين إبراهيم أبو عرفة
هذا القصة القرآنية بحاجة إلى عميق نظر وكثير تدبر, كسائر قصص القرآن. ففيها من الأسئلة ما فيها, وفيها من عجيب أمر الله ما فيها, وفيها من الحكمة المخبوءة ما فيها, مثل ما توحيه هي من لحظات الظلمات التي لم يرها إلا الله, ولم ينبئ بها إلا الله..
وكما أشرنا وأثرنا من الأسئلة السابقة, فيظهر أن القصة "الآية", أو"الآية" القصة, لم تستوف حقها عند الناس, ولم ينزلوها منزلة المنزّل لها.. الحكيم!.
فكان السؤال المفروض الأول..
بماذا رجع "يونس" عليه السلام إلى قومه, حتى يؤمن له مائة ألف أو يزيدون؟!.
وأي آية هذه التي لم يأت بمثلها رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام, إذ لم يؤمن لرسول الله كل قومه حين دعاهم أكثر من عشرين عاما؟. وأي آية هذه التي تفوق للناظر شق القمر, وإحياء الموتى وخلق الطين طيرا, وشق البحر وناقة صالح؟!.
ما هذه الآية العظمى التي لم يصرح القرآن بها, ولماذا؟!.
وقد بات واضحا أن هذا لم يكن لنبي غير يونس, وأن ما جرى ليونس كان حجة بالغة, أهّلت ليونس أن "يستأنس" أول كتاب الله, فيكون صاحب أول سورة باسم نبي صراحة!.
لنبدأ تدبرنا بعون الله الآمر بالتدبر!.
أولا: نحن على عهدنا وركننا الشديد, ألا نؤمن لغير كتاب الله, وما "صحّ" من حديث المعصوم, محمد عليه الصلاة والسلام.
فما كان من كلام الناس, فهو كلام ورأي, يجوز فيه الخطأ, كما يجوز فيه الصواب, فلنا أن نمتحن قول علمائنا وأكابرنا على أنهم من "الناس", وعلى أنهم خير منا وأحب إلى الله, ولكن الله ورسوله خير لنا وأحب وأبقى.
فأيما قول عن يونس عليه السلام لم يقله النبي المعصوم, فليس بدين, فيما أيما قول "صحيح" للنبي المعصوم في يونس, فهو دين مفروض, وصواب لازم.
فهل صح في يونس عليه السلام من حديث النبي شيء؟.
نعم.. فقد صح فيه عليه السلام أكثر من حديث, ولكن...
لم يصح في قصته وما جرى له في الفلك وبطن الحوت من حديث النبي المعصوم شيء.. وسائر ما روي في يونس, إنما هو "نسج حكاية" من "الناس", الخطأ فيه أكثر من الصواب, والغث فيه أغلب من السمين. وإن ذكرته أمهات كتب التفسير, فكتاب الله ورسوله شيء, وكتب الناس شيء دونه.
هذا, عدا ما وافق فيه النبي صريح القرآن من نداء يونس في بطن الحوت, واستحباب النبي لهذا الدعاء والحض عليه بحديثه: "دعوة ذي النون إذ دعاه وهو في بطن الحوت: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}؛ فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط؛ إلا استجاب الله له" .
ماذا تقول التفاسير؟.
قبل أن ندخل كتب المفسرين, نذكّر القارئ, بأن يحتفظ معه بالميزان القويم الذي يفرق به بين الحق والباطل, وبين الخطأ والصواب, ألا وهو "ما صحّ عن رسول الله فهو حق, وما لم يصح فليس بشيء, حتى يأتي صاحبه ببينة من الله"!.
المفسرون, وباختصار, يقولون, وانتبه أن ما سيأتي هو "قول" المفسرين من الناس, وليس قول النبي عليه الصلاة والسلام, يقولون: إن يونس دعا قومه فلم يستجيبوا له, فأيس منهم ولم يصبر عليهم, فخرج من بينهم وفرّ من خدمة الله والرسالة, فأتى سفينة تحمل ناسا, فركب فيها, فهاجت بهم الريح, وماج بهم البحر, فاضطروا إلى إلقاء بعضهم في البحر, ليخف حمل السفينة, ولم يكن لهم سبيل إلى ذلك سوى الاستهام والاقتراع, فاستهموا, فوقع السهم على يونس, فأعادوا الاستهام, -لأجل منزلة يونس فيهم, فوقع السهم عليه مرة أخرى, وأخرى, حتى استسلموا لها وألقوه في البحر. فالتقمه الحوت, فأوحى الله إلى الحوت: لا تأكل له لحما ولا تهشم له عظما, فإن يونس ليس لك رزقا, وإنما بطنك تكون له سجنا.
ثم أدرك يونس ذنبه, فاستفغر, فألقاه الحوت بالعراء, وأنبت الله عليه شجرة من يقطين.
وكان من أمر قومه أن أدركوا بعد خروجه من بينهم أن العذاب نازل بهم لا محالة, فخرجوا يبكون, برجالهم ونسائهم وصبيانهم, وفرقوا بين الغنمة ووليدها والبقرة ووليدها ولبسو المسوح, وصاروا يجأرون؟!.
هذا هو مجمل ما في التفاسير, جزا الله علماءنا عنا كل خير بجهدهم.
فهل لنا أن "نراجع" أقوال المفسرين, أم هم معصومون كالنبي؟.
نعم.. إن لنا بذلك حقا, وهم أنفسهم من يعلّم الناس هذا الحق, فما هي اسألتنا أليهم؟.
أولا: من أين علموا أن السفينة اضطربت ولجّت في البحر؟, فلم يقل الله بهذا ولم يقله رسول الله, وهذا غيب لله, فمن أين قرأوه, ومن أين أتوا به؟.
ثانيا: من أين أتوا بمرات الاستهام الثلاث, فلعلها كانت مرة أو مرتين, أو فلتكن خمسة؟.
ثالثا: من قال: إن فعل "ساهم" لا يأتي في لسان العرب إلا للاقتراع؟, ألا يأتي أيضا بمعنى "شارك"؟. وهو "السهم", وهو شائع في "الحديث" ولسان العرب, فلماذا فرضنا المعنى الأول فقط؟. وما دليلنا على هذا الفرض؟.
رابعا: ما معنى "مدحضين"؟. وما استعمالاتها واستدلالاتها في اللسان؟, ومن قال إنها للإلقاء من شيء إلى شيء؟, وحتى إن كانت بمعنى "الدفع", فالتفاسير تقول: إن يونس خلع ثيابه وألقى بنفسه طواعية!. وانظر إلى هذه أيضا, من أين علموها, ولماذا يخلع ثيابه رجل يعلم أنه هالك, بل لعله ينجو, فهو أحوج إليها؟. كما أن لسان العرب لا يقول إن "الدحض" هو هذا, والقرآن لم يقل بهذا!.
خامسا: وهي القارعة القاصمة, فمن أين علموا أن الله أوحى إلى الحوت ألا تأكل له لحما ولا تهشم له عظما, و....؟!.
فهذا دين, ولا هزل فيه, ولا شأن فيه يعظم لغير الله ورسوله, وهذا حق, والله لا يستحيي من الحق. فإما أن يأتونا بسلطان من الله مكتوب فيه ما كتبوا, أو فهذا من القول على الله بغير علم, ولا ثالث لهما, ولا وحي بعد رسول الله, ومن تشدد لعالم أو لرأي يعلم الحق في سواه, فقد اتبع هواه بغير هدى من الله, ومن آثر خطأ العالم لمنزلته, على البينة والبرهان, فقد خالف وصية الله والنبيين {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ, قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}.
ماذا نريد أن نقول؟.
لنعتمد على تركة النبي الخالصة, ولنتدبرها كلمة كلمة, فمن أجل ذلك أنزله الله..
فقد ذكر الله يونس في القرآن في أكثر من موضع, وفصّل ذكره في الصافات وفي الأنبياء, وأكثرها التي في الصافات..
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ, إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ, فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ, فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ, فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ, لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ, فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ, وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ, وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ, فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}.
لا نريد أن ندخل الآن في ثنايا المراحل والمفاصل التي تنقّل يونس فيها, علما أنها هي مفتاح الفهم –من قول الله الخالص- لحكمته وآياته, فلا يليق بالله الحكيم أن نمرّ هكذا على أفعاله وأقواله التي تفيض حكمة وعلما واقتدارا.
كان الأجدر أن نعلم أن كل ما جرى ليونس, كان بتدبير الله واختياره المحكم, ابتداء من "الفلك المشحون", ثم "الاستهام والدحض", ثم "التقام الحوت", ثم "النبذ بالعراء", ثم "شجرة اليقطين", ثم نرى بعدها يونس رجلا صالحا للمهمة التي ستؤتي أكلها وتصير للناس آية {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
كان الأجدر أن نقف عند هذا المِفْصل العظيم, ذلك الذي يفرض نفسه بين يونس ونوح عليهما السلام, إذ "يصبر" نوح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما, فلا يؤمن معه إلا "قليل", ثم ينجيه الله في "الفلك المشحون"!.
وأما يونس "فلا يصبر" على قومه, فيأبق إلى "الفلك المشحون", فيرسل مرة أخرى فيؤمن له "مائة ألف أو يزيدون"!.
ثم يضع الله يونس في أول سور النبيين, ويضع نوحا في آخر سور النبيين!. السورة (10) ليونس, والسورة (71) لنوح.
ولا يذكر "الفلك المشحون" في القرآن إلا ليونس ونوح عليهما السلام!.
أهذا أولى بالبحث والسؤال, ام اختلاق الأقاويل؟!.
والله لا يستحيي من الحق.
كان النظر في "خالص القرآن" أجدر من اختلاق الأقاويل والأحداث, وإن كان قائلها علماؤنا وصالحونا, فالدين النصيحة, {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}؟. فلا خير فينا إن لم نقلها, ولا خير فيهم إن لم يسمعوها!.
نرجع إلى سؤالنا الأصل..
بماذا رجع "يونس" عليه السلام إلى قومه, حتى يؤمن له مائة ألف أو يزيدون؟!.
أولا: لننتبه إلى الرقم "مائة ألف أو يزيدون"!, ولننتبه أن هذا أعلى رقم في القرآن وأن القرآن لم يصرح بإحصاء الأمم, ولم يلتفت إلى كثرة المؤمنين أو قلتهم {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}, فلم التفت هنا إلى عدتهم وأحصاهم, ولمَ هذا التركيب "مائة ألف أو يزيدون", دون أن يصرّح الله كم هم المزيدون, بما يوحي أن "المائة ألف" هم المطلوبون في الحكمة, والآخرون "يزيدون"!. فما سيجري من "الآيات" و"الحكمة" يستلزم حدا أدنى بمائة ألف, يكونون حاضرين. فما يجري على أمة بـ"مائة ألف" يجري على ما فوقهم, ولا تنفرض الحكمة والآية إلا على "مائة ألف" أو يزيدون..
فماذا في "المائة ألف", وماذا يلزم منهم؟.
ثانيا: فلنسترجع أمرا مهما, وهو "إخفاق" يونس عليه السلام في المرة الأولى, بما يضعف من موقفه في المرة الثانية, فحين يرجع نبي سبق وأخفق مع قومه, فإن رجعته تكون أضعف موقفا وحضورا, فبماذا رجع النبي "المخفق" حتى خضع له كل قومه؟.
نبدأ بالجواب..
لنحدد قبلها دواعي الكفر وعدم الإيمان عند الناس, فالناس بين دواع ثلاثة تدعو صاحبها ألا يؤمن!.
وهذه الثلاث هي: الشك والجحود والتَبَع.
فالشاكّ تنفعه الآية الدامغة والحجة البالغة, حتى إذا ذهب شكه أو خفَت, تحرك للإيمان.
والجاحد لا تنفعه آية ولا ترده حجة مهما بلغت, {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}. و{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ}.
والتابع كالسفيه, ينتظر إيمان غيره, فلعله يتبع شاكا أو يتبع جاحدا, فإن آمن أحدهما آمن. فالأولان هما مربط البحث.
و"المائة ألف" هذا مرادها وهذا مستلزمها, فهو الحد الأدنى الذي يجمع كل مشارب الناس, واختلافاتهم وأهوائهم, ففي "المائة ألف" الشاك والجاحد والتابع السفيه, وفيهم العاقل المستبصر.
فلو فرضنا أن يونس عليه السلام رجع حين رجع بحجة بالغة وآية دامغة, لآمن له المستبصر والشاك, أما الجاحد فلن ينفعه شيء ولن يرده راد, ولا شك أن في "المائة ألف" منهم كثير. فماذا إذا, وما هذا الذي جرى على المشارب كلها, والأهواء كلها, فاستوى فيه المستبصر والشاك والجاحد؟.
لا بد أنها حالة ما, وظرف عام, جرى على قوم يونس جميعهم, أبطل للشاك شكه, وللجاحد جحوده, وصدّق للمستبصر ظنه!.
ولا بد أنه شيء غيرَ مألوف, كما أن الحدث غيرُ مألوف..
ولا بد أنها آية أوحالة مستثناة, -وسنثبت الاستثناء- فلم تكن لغير يونس, ولم تكن في غير قومه..
فما هي هذه الآية الكبرى التي غُمّت علينا, فلم نرها ولم نسمع بها؟.
أنها حالة واحدة عامة في الناس مشتَركة فيهم, تستوي النتيجة فيها عند كل من يوافيها, مهما كان شكه وجحوده وعناده..
فما هي هذه الحالة التي تبطل هذا كله؟!.
إنها الوفاة..
إنها الوفاة..!.
فيظهر مما تظاهرت عليه الأدلة والآيات –وسنسوق أدلتنا على هذا- يظهر أن قوم يونس جميعهم, "رأوا" الهلاك رأي العين, و"رأوا" الحق عين اليقين, ولا "يرى" هذا "الحق والعيان" إلا من وافى "الوفاة" وانقطع من الدنيا, كما يرى "المحتضر" الملائكة من حوله, وعندها ينفك الشاك عن شكه, والجاحد عن جحوده..
وليتنبه القارئ إلى الكلمات التي سطرّنا تحتها!.
ولكن, أليس قولنا هذا قول كسائر الأقوال؟, ألم نرفض قول القائلين بغير بينة ولا دليل؟.
إذا تلزمنا البينة ويلزمنا الدليل, فما دليلنا وما بينتنا؟!.
كما بدأنا عهدنا, أن لا نركن لغير الكتاب والحديث, فوجب أن نأتي بالبينة من الكتاب والحديث..
لنسأل أولا, وقبل أن نخوض في الدليل, هل اتفقنا حقا أن "الوفاة" سبب بالغ لانقطاع الشك وذهاب الجحود؟.
من منا لم يقرأ هذه الآية {واعبدْ رَّبك حتى يأتيَك اليقينُ}, فلم سمى الله الوفاة باليقين, أليس باليقين يبطل الشك؟, إذا فبالوفاة يبطل الشك.
ثم من لم يقرأ هذه الآية {لقدْ كنتَ في غفلةٍ منْ هذا فكشَفنا عنكَ غِطاءكَ فبصُرك اليومَ حديدٌ}, فعند الوفاة يتبين كل شيء على ما هو عليه, فلا شك ولا ضلال.
وإن بقي فينا من لا يقول بهذا, فليأتنا بخبر عن "كافر" صار بين يدي الله, وظل على كفره!.
فلماذا قلنا "الوفاة" ولم نقل "الموت"؟.
الوفاة بلا ريب, غير الموت, إذ ليس في القرآن مترادف أصلا, خاصة وأن الله يذكر الوفاة والموت في المحل الواحد, بما يمنع أن يكونا شيئا واحدا, من مثل {حتى إذا جاء أحدَكم الموتُ توفَّتهُ رُسُلُنا}. فالموت لغة وعقلا وقرآنا غير الوفاة.
فالوفاة فعل للملائكة بأمر الله, {قل يتوافاكم ملك الموت} أما الموت ففعل لله وحده, {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}, فالمميت إسم خاص متفرد لله, فإذا قضى الله على عبد الموت, توفته الرسل أجله ورزقه ليميته الله بأمره, كما في الحديث الصحيح: "اتقوا الله وأجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها".
والوفاة حالة تسبق الموت, فلا تموت نفس حتى تُتوفى. {ألله يتوفى الأنفس حين موتها}, فهما ظرفان متتابعان, فكل ميت متوفىً بالضرورة, وليس كل متوفٍ ميت بالضرورة, ويكفي أن نشير أن جمهور العلماء على أن الله توفى المسيح ولم يُمته!. {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}.
فالتوفي هو وجه للتمام والاكتمال, فمن اكتمل رزقه وأجله, فقد استوفى نصيبه من الدنيا, حتى يقضي الله عليه الموت. وللمسألة جذورها اللغوية المفصلة لمن شاء المزيد..
لنقرأ آية "يونس" العظيمة, قبل الدخول والتدبر..
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}..
إذا.. فقوم يونس "رأوا" الوفاة رأي الحق, حينما نزل بهم العذاب, فانقطعوا من الدنيا وغطائها وشواغلها وشهواتها وزينتها, وأيقنوا أنهم في قبضة الله, وأصبحوا حيث لا شك ولا جحود, وهي اللحظة التي ينقطع فيها العبد عن كل هذا, وهي الوفاة بعينها, كما في الحديث الصحيح: "إن العبد المؤمن إذا كان فى إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا، نزلت إليه الملائكة، كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه".
أين الدليل الصريح على ما نقول؟.
الملاحظ في سورة يونس, أن آية "شك" تسبق آية يونس ال(98) ببضع آيات, وهي {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}90, ثم تتلوها آية "شك" أخرى ببضع آيات {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.104
فانظر كيف يتوسط ذكر يونس وآية يونس "الشكين"!
فيخاطَب النبي عليه الصلاة والسلام خطاب الشاك, {فإن كنت في شك}, ثم تُذكر "آية يونس", ثم يخاطِب النبيُ نفسُه من كان شاكا, بما يفرض أنه صار من الموقنين, وأنه موقن من دينه لا شك عنده!.
فانظر كيف ينتقل النبي من الأولى إلى الثانية الموقنة, مرورا بآية يونس المذهبة للشك, الفارضة لليقين!.
ثم انظر إلى صفة الله العظمى الفارقة في آية "الشك" الأخيرة, وتدبر محلها وموقعها وسياقها..
{وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ..
الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}!.
الآن تتضح آية يونس ال(98)..
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}..
فقد جرت سنة الله أنه إذا أراد بقوم سوءا فلا مرد له, وأنه إذا قضى على أمة الهلاك فأنزله بهم, لم يرفعه عنهم أبدا حتى يهلكهم العذاب..
فاقرأوا إن شئتم هذه الآيات..
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ, فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}. ومثلها كثير, ولعل هذه أوضحها وأصرحها..
فالكافرون يؤمنون جميعا عندما يرون العذاب "المهلك", لما يعاينون من الحق واليقين, ولكن إيمانهم في حينها مردود لا يقبله الله, إذ هو إيمان المرغم المقهور.
فكيف نفهم آية يونس ال(98) إذاً, إذا كانت سنة الله ألا ينجي من لم يؤمن قبلها؟.
لنقرأ الآيتين (96, 97) التي تسبق آية يونس..
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ, وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ}, فلا يؤمنوا حتى يروا, ثم إذا آمنوا لم يقبل الله إيمانهم!.
ثم ارجع بضع آيات قبلها, وبثمان آيات فقط, لتر الدليل طافيا أمامك, كما طفا فرعون ببدنه بعد الهلاك..
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ, آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}..
فهذا هو فرعون, عيّنة الكفر المُثلى, ومثل الجحود والشك والعناد الأعلى, ها هو يؤمن ويسترحم ويترجى. فمتى كان هذا؟, كان عند الوفاة, والانقطاع من الملك والسلطان والغطاء الكذاب, والغفلة والعمى!.
فهل منا من سأل: لمَ يسوق الله هذه الآيات عن فرعون, بهذا الوصف المتفرد في القرآن, هنا بالذات, في سورة يونس, وقبل آية يونس, ثم يعقد السورة كلها على "يونس", وهو الذي لم يذكر فيها إلا بآية واحدة من تسع ومائة آية؟!.
ألعلها للإيحاء بما جرى لقوم يونس؟.
ولكن يبقى السؤال, ألم تكن سنة الله ألا ينجي من لم يؤمن قبل وقوع العذاب, تماما كما فعل بفرعون؟.
نعم.. والآية آية سنّة محكمة مفروضة {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ, فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}.
فما بال قوم يونس, ألا تجري عليهم سنّة الله كغيرهم؟!.
بلى, إنها كذلك.. سنّة الله في الناس..
إلا قوم يونس!!.
واقرأوا معنا وتدبروا..
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ, وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ, فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}..
فلولا كانت قرية آمنت -حين رأت العذاب- فنفعها إيمانها..
أي أنه يمتنع وجود قرية آمنت حينما رأت العذاب فنفعها إيمانها, لوجود سنّة الله في الهلاك, فـ"لولا" في لسان العرب, إداة امتناع لوجود, فامتنعت منفعة الإيمان بعد العيان, لوجود السنّة في الهلاك, إلا قوم يونس..
كل هذا كائن سنّة, إلا قوم يونس.. لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا..
ومن أجل ذلك ساق الله قصة فرعون المعاين المسترحم المردود.. مباشرة قبل قوم يونس..
ومن أجل ذلك وصف الله نفسه بعد ذكر قوم يونس, وصف قهر وتذكير.. {الله الذي يتوفاكم}..
إنها لحظة الحق والصدق, الذي ينقطع العبد فيها عن كل شيء, ويظلم أمامه كل شيء, فلا يرى إلا الله..
إنها كظلمات الحوت التي التقم يونس, فلم ير يونس لحظتها إلا الله, فرجع واستذكر, فنجاه الله من "الغم".. ذلك الغطاء الحاجب الذي يضبب علينا الرؤية والحق..
ولنا وقفة عند {فنجيناه من الغمّ}..
فما هو الغمّ؟.
الظاهر الأول أنه الحزن والكرب والهم..
ولكن دعونا نضعها في سياقها, ونجمع معانيها واحتمالاتها, ومواردها في الكتاب الأعظم, فما رسا وثبت فهو الحق.
فالعرب تقول: غمّ الشيء, أي غطّاه.
وأمْرٌ غُمة, أي أمر مبهم, ومنه آية نوح, في السورة التي نتدبرها {ثمَّ لا يكُن أمرُكُم عليكم غُمّةً}, وورود هذه الكلمة في حق النبييْن الذيْن عقدنا أول التوافق بينهما, وفي السورة نفسها, لأمر أهل للتدبر بذاته, خاصة وأن "الغم" الذي في حق نوح, يأتي بدلالة صريحة إلى ما سنذهب إليه, من دلالة "الإبهام" والتخليط.
كما وتقول العرب: غُمّ, إذا استعجم ولم يستبين. كالقول المغمغم.
فالآن ينادي يونس في "الظلمات" وهي أم "الغم" وانعدام الرؤية, كما في حديث المعصوم: "فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين", وهو ما يصيب الناس حين يُغمى عليهم, فلا يرون ولا يسمعون ولا يدركون. وهو أيضا من الحديث الصحيح: "فإن أغمى عليكم فأكملوا العدة".
ويظهر أن هذا "الغم" يصيب العبد عادة من "الظلم والعصيان", حيث تضطرب عليه نفسه وتتنازع بين فطرته, وأوامر الله له, وبين ظلمه وعصيانه.
وهذا هو منشأ "غمّ" يونس, حين عصى وخالف وظلم {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين, فاستجبنا له, فنجيناه من الغم}, وهذا هو أيضا منشأ "غم" موسى الذي نجاه الله منه, حين قتل القبطي وخالف وعصى وظلم {قال رب إني ظلمت نفسي}, {وقتلت نفسا فنجيناك من الغمّ}..
وهو نفسه منشأ غم المؤمنين في سورة آل عمران, بعدما {فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ...... فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحزَنُوا} , فهذا هو عين منشأ غم يونس, حين فشل وعصى وتنازعته نفسه, بين أمر الله وبين أمره من تلقاء نفسه, كما نهى الله نبيه محمدا في سورة "يونس" أن يأتي بشيء من تلقاء نفسه, مثلما فعل يونس من قبل فعصى وظلم.. {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً}..
فلم يعالج الله "الغم" بـ"الأمنة النعاس"?, إلا لما كان من الاضطراب والنزاع؟, فللاضطراب النعاس, وللنزاع الأمنة..
إذا, "الغم" إبهام واضطراب وذهاب بالرؤية, وارجعوا إلى الآية التي جمع الله فيها بين "المنازعة والرؤية والغم"..
{فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ...... فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ}.
والآن تتضح لنا مفاصل الحكمة وأركانها, من "الرؤية" التي بنينا عليها فهمنا وتدبرنا, ومن ضدها المتمثل في "الغم والظلمات", {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات}, فمن يرد الله أن يهديه, ينجّه من "الغم والظلمات", ثم إذا شاء أن يرفعه "أراه" فآمن, {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}!.
والآن تستبين لنا معاني هذا الاسم,"يونس"..
فما معناه في اللسان العربي أولا؟.
يونس, من أنس, ولا يبعد أن تهمز, فيقال: يؤنس, ويؤسف, من آنس وآسف. {وآسفى على يوسف}.
وآنس: رأى وأبصر واستعلم, كما في ذكر موسى, {آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا}, و{رأى نارا فقال لأهله امكثوا}..
فكما كانت "الرؤية" هي ركن الحكمة, وفصل خطابها, فقد هيأ الله لهذه الحكمة في الناس أمة ونبيا, وعقد لهذا النبي اسما عنوانا, لهذه الحكمة وركنها الأظهر, فسماه "يونس", كالذي آنس ورأى وعلم..
وانتبه إلى آخر سورة "القلم" سورة "نون", حيث يختمها الله على ذكر "يونس", ثم يذكر "الإبصار" مباشرة بعدها, {وإن يكاد الذين كفروا ليُزلقونك بأبصارهم}..
وكيف ربط بين الوفاة و{بصرك اليوم حديد}!.
وكيف تختم سورة الصافات, صاحبة التفصيل في يونس, كيف تختم على آيات "الإبصار", {وأبصِر فسوف يُبصِرون}!.
فأسماء الأنبياء, كما قلنا, أسماء توظيفية, من مثل ما شرحنا في نوح, ومحمد, وسليمان, ولقمان..
إذا..
إنها الحالة نفسها التي عاينها يونس النبي ورآها, ثم عاينها قومه من بعده, ألم يقل الله {للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}؟, فمن هذا الذي يلبث إلى يوم البعث, غير الميت؟!.
فرجع إلى مائة ألف, فآمنوا كما يؤمن الواحد من الناس..
إنها اللحظة التي يستوي فيها مائة ألف بواحد..
إنها لحظة لله الرب الحق..
باختصار..
فقد أجرى الله على قوم يونس "الوفاة" حين تلبّسهم العذاب, و"رأوه رأي العين" حتى صاروا جميعا في قبضة الله, فانقطعوا عن الدنيا وسكرتها و"غمها", فانكشف عنهم غطاء العمى وحُجُب الغفلة, فرأوا عين الحق, فآمنوا, فقبل الله إيمانهم -على غير مألوف- وردهم إلى حياتهم مرة أخرى..
وانتبهوا جيدا, كيف يصف الله نفسه بعد ذكر القصة ببضع آيات, وفي سورة يونس بالذات, بـ{الذي يتوفاكم}, فهل من متدبر!؟.
وهذا تماما مثلما جرى لفرعون في السورة نفسها, فآمن, وهو الجاحد الشاك العنيد, ولكن الله أجرى على فرعون السنة والمألوف فلم يقبل منه إيمانه.. وانتبوا أيضا, كيف ساق الله قصة فرعون بهذه الحيثيات التي لم يذكرها في سورة غير سورة يونس, ولم يشهد إيمان فرعون ساعتها إلا الله, فلم يذكرها الله قبل قصة قوم يونس بالذات, وفي سورة يونس بالذات, فهل من متدبر؟!.
فاشهدوا على "حالة" يؤمن بها من هو بكفر فرعون!, فإذا آمن فرعون, فمن لا يؤمن؟!
فلا جرم استبق الله ذكر قوم يونس بذكر فرعون, ثم أتبعها بالوصف الثقيل القاهر.. {الله الذي يتوفاكم}..
وهذا ليس ببعيد على الله, فكلنا نقرأ آية "البقرة" {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم}.
وقد يسأل سائل: لعلهم آمنوا بالتراخي, فلم يلزم ما نقول؟.
فنقول: آية الصافات تشير إلى الترتيب والتعقيب بحرف الفاء {فأرسلناه.. فآمنوا}, وآية سورة يونس, تشير إلى أنهم آمنوا من "رؤيتهم" العذاب, فكشفه الله, وهذا يفرض اللحظة الواحدة, وينفي التراخي..
وقد يسأل آخر: إنه ليس بالضرورة أن يكون المائة ألف هم قوم يونس انفسهم, بل قد يكونون قوما غيرهم؟
فنقول: الأصل هو ما نعلمه من أن قوم يونس لم يؤمنوا لدعوته, فخرج يونس من بينهم ولم يصبر عليهم, ثم علمنا أن قوم يونس آمنوا جميعا بنص الآية (98), فكيف نوفق بينهما؟ إلا أن يكون الذي أرسل إليهم يونس في المرتين هم أنفسهم, وهم قومه الذين رجع إليهم, إذ ليس عندنا خبر ثابت من إن يونس ارسل إلى غير قومه.
وحتى إن فرضنا جدلا أن المائة ألف هم قوم غير قومه, فيبقى البحث كما هو, (كيف يؤمن كل القوم)؟.
فيكون جوابنا, هو بحثا هذا..
ثم اقرأوا معنا هذه الآيات من سورة يونس, بعدما علمتم, عن الذي بين "يونس" و"الرؤية"..
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ{46}.
{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ{51}
{وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ{54}.
{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ{88}.
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ{90} آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ{91}.
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ{96} وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ{97} فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ{98}.
{وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}.
ولنا بإذن الله تتمة, عن مفاصل "الحكمة" في القصة.. عن "الفلك المشحون", وعن "الحوت", وعن "أبق ودحض ونبذ", وعن " المشحون والعراء", وعن "اليقطين", وعن "النون, وسورة نون القلم", وعن "سُقم يونس وسُقم إبراهيم في سورة الصافات...
وعن علاقة يونس بموسى, و"حوتهما", وعن "نون" يونس, وعن يوشع بن "نون" فتى موسى –كما في البخاري-, وعن "يونس" –بالمعنى الذي أشرنا إليه- و"استئناس" موسى, و"رؤيته" للنار, وعن "وفاة" فرعون موسى كقوم يونس و"إيمانه" عند "رؤية" العذاب, كما قصت سورة "يونس", وعن احتفاظ الله بنص "فنجيناه من الغم", و"فنجيناك من الغم" لموسى ويونس فقط ...
ولكن استمسكوا بالمفتاح الصحيح, بأن تعظموا الله وتوقروه, فلا تقبلوا أبدا أن يكون الله يقُص قصَصَ القُصاص, ويحكي حكايا الناس!.
{إنه لقرآن مجيد, في لوح محفوظ}..
{ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل},
أللهم إن كان حقا فأجرنا عليه, وإن كان باطلا فاعذرنا عليه.