المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القرآن أم الماء



محمد دغيدى
12-05-2005, 01:45 PM
القرآن أم الماء؟!.


صلاح الدين ابراهيم أبو عرفة




هذا الكتاب -القرآن-, يحتفظ لنفسه بالقوامة والهداية, والإحاطة والتبيان, في العامّ والمفصل, في الحاضر, والمقبل وما انقضى من قبل.

ثم هو من الحاكمية والهيمنة بمكان عزيز {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}, وعلى سعة المكان وتطاول الزمان وتكاثر المحدثات, يتكفل هذا الكتاب, بعزة الله وقدرته, بالإحاطة والتبيان, {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء}. والآية بهذا النص, من المطلق الذي لا يقيد بغير دليل, فلا يحل لعبد ما أن يخصها بأمر ما.




يبقى السؤال العارض بعدها, كيف يبين القرآن الأشياء كلها, وليس فيه كيت وكيت؟!


الحق أن تضاؤل مدرِكات الإنسان من السمع والبصر والفؤاد, لا ترقى به لتدارك سعة الكتاب التي لا يعلمها إلا صاحب الكتاب لا إله إلا هو, فالأولى أدبا وقسطاً أن نقول: كيف يبين كل الأشياء, ونحن لا نرى فيه كيت وكيت, إذ العلة ابتداء في المتلقى لا في كلام الرب لا إله إلا هو. فكم من بينة نغفل عنها ويراها الأخرون {أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم}.




على هذا كله, يجد المشتغل بالكتاب, المحكم والمتشابه في الاحكام, ويجد فيه العبرة في القصص والأمثال, وفي القصص ما فيه من الهدى والتفصيل {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى, ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء}.




إذا أين يحتفظ القرآن بهذا التبيان وهذا التفصيل؟.


بظاهر النص الصريح, يحتفظ هذا الكتاب المجيد لنفسه بالقوامة والتقعيد, والتعريف والتحديد, والتيسير والتقريب, إن لم يكن بالصريح المحكم فبالمثل المقرب لعلهم يتذكرون, {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون, قرآنا عربيا غير ذي عوج}. {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل}.


فبالأمثال المضروبة والمصرفة يتفكر الناس ويتذكرون.




فإذا كان في هذا القرآن من كل مثل, فما مثل القرآن نفسه؟!.


بالتدبر والتذكر, نستطيع بإذن الله أن نهتدي إلى مَثل القرآن في القرآن.

وقبل أن نلج في الكتاب المجيد, نستفتح بحديث النبي المعصوم في الصحيح: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير..", فالمثل عند صاحب الوحي عليه الصلاة والسلام صراحة, هو الغيث الكثير, والقرآن على رأس العلم والهدى.


ثم آية سورة النحل {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون, والله أنزل من السماء ماء فأحيى به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون}. والمثلية واضحة جلية, أولاً في تتابع الآيتين وارتباطهما, ثم بدلالة الإحياء بعد الموت, {يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}, والقرآن على رأس الدعوة, ثم بخاتمة الآية {إن في ذلك لآية لقوم يسمعون}, فالماء وإنزاله وإحياء الارض, آية لقوم يبصرون, وإنما ذلك القرآن المقصود آية لقوم يسمعون. ثم بالإنزال الطاهر الظاهر لكل منهما.




وآية سورة الحديد, {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق, ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون, إعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها, قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون}.

فالإنزال في القرآن والماء شاهد حاضر, ثم مقابلة المتأخرين القاسية قلوبهم من ذكر الله, بالأرض التي تقسو وتيبس إذا طال عليها أمد الماء, ثم هي تحيى بعد موتها حال نزوله واشترابه, قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون.


ثم آيات سورة الفرقان, {وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا, لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيراً, ولقد صرفناه بينهم ليذّكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا, ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا, فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا}, فما هو الذي "صرفناه", القرآن أم الماء؟, "وجاهدهم به", بالقرآن أم بالماء؟, ثم ليأتنا أمضى الناس بصرا وبصيرة, ليرينا أين الحد الفاصل في الآيات بين الماء والقرآن, فما نقرأه في الآية للماء, نقرأه كذلك للقرآن.




وللعلم, فإن البشارة أكثر ما ذكرت في القرآن للماء وللقرآن نفسه, بما يصعب أحصاؤه لكثرته, ولكن لنقرأ آيات المرسلات, {والمرسلات عرفا, فالعاصفات عصفا, والناشرات نشرا, فالفارقات فرقا, فالملقيات ذكرا}, ولننظر كيف تبدأ الآيات بالرياح, وتنتهي بالذكر, علما أن كل الآيات التي تذكر بشارة الرياح {بشرا بين يدي رحمته} تُقرأ من المتواتر {نشرا}, كالناشرات نشرا, إذ تجوز للملائكة الحاملة للكتاب, كما تجوز للرياح الحاملة للسحب والماء.


فالمثل بات واضحا, القرآن مَثله مَثل الماء, فبقي بعدها شواهد المثل ودلالات التمثيل,

ومادة التشابه, من الحياة ابتداء, أو من بعد الموت والكفر, ثم حضور الماء واحتياجه في الناس, وتنزيله مرة بعد مرة, كلما يبست الارض أو كادت, غير أن القرآن ينزل مرة, ويذاكر مرة بعد مرة, ليصبح عند الذاكرين كأنه يتنزل لتوه, فتقشعر منه جلودهم, ثم تلين, كحالها في الماء والرياح.




إذا, هلا سألنا أنفسنا عن الفرق بين المثل المضروب والمثل المصرّف؟.

الحق أن التدبر في هذا الباب يفتح لنا برحمة الله أبوابا كثيرة, ويبني لنا قواعدا وأسسا ممتدة للتذكر والاستجماع والتوليف.


فعلى سعة دلالات مادة "ضرب" في اللغة, إلا أنها في جانب الامثال, محصورة متداركة, يكاد سياق النصوص فيها ينطق بدلالاتها ومراميها, فهي هناك حيث يُذكر المثل صراحة بوجهه, أو بالمِثلين, من مثل {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون, ورجلا سلما لرجل, هل يستويان مثلا}, و{ضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون}. فالمثل الصريح هو المثل المضروب.




إذا فما هو المثل المصرّف؟.

التصريف: من صرف, وهو من الإبعاد والنقل والتحريك, ومثلها تصريف أمور الناس, من نقل هذه لتلك, ومن أخذ هذه لهذا, وتدويرها وتدويلها, الى حيث يحسن مستقرها ويلزم انتقالها.

ومثل هذا ظاهر في القرآن, {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن}, {وإذا صرفت ابصارهم تلقاء أصحاب النار}, وأظهرها مثلا آية الكهف {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا, ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل}.


والامثال المصرفة على خلاف الامثال المضروبة, لا تراها تذكر صراحة, إنما تذكر الآيات تصريف الامثال وحسب, دون أن تذكر مثلا صريحا بعينه بجنب الآية المذكورة, ومثلها في القرآن قليل معدود.


وكما أشرنا إلى العلاقة اللازمة بين القرآن والماء تمثيلا وتوصيفا, فإنما صرّف الله -بتشديد الراء- في القرآن, الآيات والأمثال –والامثال من الآيات-, وصرّف الرياح, فالعلاقة المثلية ظاهرة مرة أخرى, فماذا نقرأ من هذا؟..


فتصريف الرياح أول التحريك في سبيل إنزال الماء, فتبدأ بالرياح المصرفة, ثم بالسحاب المزجى, أي المدفوع برفق, ثم التوليف بينه, ثم ركمه بعضه إلى بعض, فترى الودق يخرج من خلاله.

ولعل هذا تماما ما يجري في الآيات والأمثال المصرفة, حيث تنتشر الآيات والأمثال والإشارات في القرآن, كما تنتشر السحب المستثارة بالرياح التي تشبه بهبتها هبّة بصيرة المتذكر المتدبر, فيبدأ بإزجائها ولملمتها, ثم يؤلف بينها ثم يجعلها ركاما مجموعا, فترى البصائر والإنارات تخرج من خلالها, وليقرأ من شاء أن يقرأ آية النور {ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما, فترى الودق يخرج من خلاله}, ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.