المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل تتساوى القراءة مع عدمها ؟



عبدالغفور الخطيب
08-05-2005, 11:20 PM
هل تتساوى القراءة مع عدمها ؟

في استطلاعات كثيرة تجريها الصحف ، يتفوق قراء الصفحات الرياضية على غيرهم . وأحيانا تجلس في مكان ما ، فيطرح ابن الخمسين طرحا يتحسر فيه على من أتى بعده من أجيال ، فيعدد الكتب التي قرأها وهو في مثل عمر فلان الجالس أثناء الحديث ، ثم يسرد كم كانت هي صعبة مسألة تحصيل ثمن كتاب ما وكم كان يجلس بالمكتبة الفلانية حتى يقرأ مجانا كتاب فلان . ويلتفت الى من هم في مثل عمر أولاده متباهيا أكثر مما هو متحسرا عليهم .

وتنظر بأعين الأولاد أو الشباب ، فتقرأ بعيونهم ، كلاما صامتا مفاده ، الى متى ستستمرون في حديثكم عنا بتلك اللهجة الفوقية ؟ وما هو الذي تحقق على أيديكم حتى تنظرون إلينا شزرا ؟ وهل ما تمر به الأمة إلا بما تراكم من لدنكم من دفقات هائلة من حديث ولغو ، لم تتقدم به قيد أنملة ، لا بل تراجعنا عن غيرنا ممن كانوا مثلنا يوم قدر لأجيالكم أن تقرر مسار الأمة . لماذا لا تدعونا نجرب تنشئة أنفسنا بعيدا عن إرادتكم المجربة .

و يتبادل الكهل الحديث مع مثيل له في العمر ، ان القراءة بمثابة من يأكل دهنا حرا ، لا يشعر أنه قد أخذ القوة منه فور أكله ، بل ستظهر فوائده في ساعات الشدة او الصبر على الصيام والكرب والسير الطويل ، فانه يتزود بما خزن من مواد حولت ( على طريقة كريب سايكل ) الى دهون ثم تتحول الى سكريات وطاقة . وكذلك هي القراءة تفيد صاحبها عندما يكون أمام موقف ما ، فانه يستعيد ما قرأ بلمح البصر ليسعفه في تحديد موقفه من قول أو عمل وفق قياس ما كان قد قرأ في أحد أيامه حول قضية مشابهة .

هناك شابان يجلسان وعيونهما تلتقي لتتحدث بصمت ، وكانا يقيسان الموقف ، هل يتدخلا بالنقاش ، أم ان قدرتهما اللغوية وحرج الموقف من أن يظهرا بموقف هو أقرب لعدم احترام من أكبر منهما ، فلم يحسما أمرهما في تلك المسألة . في حين كانا بودهما أن يقولا شيئا مغايرا .

لقد أنقذهما شابا يفوقهما بالعمر بعشر سنوات ، كان على قدر من الثقافة ووضعه كصهر لأحد المتحدثين ، وكونه صهر ناجح في عمله ، ان كل ذلك جعله قادرا على التدخل بأسلوب ظهر عليه التأثر بحياة الشباب و لهوه الرصين ! مع اعتبار نفسه أكثر اطلاعا وتأثيرا من المتحدثين . لقد تسائل وماذا يعني ان نكتب اذا لم يعد أحد يقرأ ؟ وماذا لو قرأنا ، ماذا نستفيد؟ وما الفرق أن تكون المعلومات في دماغ الإنسان أو تبقى في صفحات كتاب ؟ وما الفرق أن تكون بصفحات كتاب أو تخزن في الكمبيوتر ؟ إن فكرة القراءة لم تعد كما كانت .

كانا الشابان يستمعان باهتمام للحديث الأخير ، فقد أراحهما صاحبه بكلمات قد لا يستطيعان صياغتها بالطريقة التي صاغ بها حديثه . فقد سجل بحديثه نقطة انتصار ثلمت حدة اندفاع المتحدثين الأوليين .

هنا تدخل رجل عركته الحياة ، فقال حقا ما طرح فلان من تسلسل لفوائد القراءة وحقا ما طرح فلان من عدم وجود فوائد منها . فاذا سألتم كيف ، أقول ان من يقرأ من أجل القراءة فقط ، ينطبق عليه مثال الكتاب والكمبيوتر ، فانه يخزن معلومات عسى أن يحتاجها مستقبلا ، وقد يموت ولم يستخدم تلك المعلومات ، تماما كربة البيت التي تقرأ عشرات الكتب عن الطبخ ولم تقم في يوم من الأيام بعمل طبق (سلطة) من سيستفيد مما قرأت ؟ . ولكن بنفس الوقت ان من لا يقرأ نهائيا عن مسألة هو في حاجة لأن يقرأها ، فانه يصبح كالضرير الذي لا يعرف ملامح طريقه . فالمهندس يجب أن يكون على صلة بما يكتب في مجال عمله ولا يكتفي بما أكمل به مناهج الدراسة في الجامعة ، والطبيب والعسكري والسياسي وكل واحد من هؤلاء لا بد من ربط ما هو عليه بما يستجد من مواضيع تزيد وترمم معلوماته .

هنا أحس الشابان بانتكاسة جديدة ، ولكن المتحدث الأخير ، حاول ان يصالحهما ، دون أن يعلن ذلك ، بل من خلال حديثه لمن تحدث بالأول ، قائلا : لا نلوم الشباب و اعتزالهم القراءة كما كانت في أيامنا ، فعندما كنا بعمر الشباب لم يكن لنا وسيلة للتثقف إلا الكتاب ، ليكون زادنا في مجالسنا ، واليوم الوسائل كثرت ، وتناقل المعلومات يأتي بأكثر من طريق ، فلنراعي الطريقة التي يتثقف بها أبنائنا . ولينتبه أبنائنا بنفس الوقت أن الحياة بين الأجيال هي كسباق التتابع يجب أن يكون كل جيل متوافقا مع الجيل الذي قبله ، لا متخاصما معه بل مستعدا لأخذ الرسالة منه بحالة تأهب و تماهي مع انتهاء انطلاقته ، لتبقى الحياة باندفاعها تقر الجيد من القديم وتطور عليه دون تضاد ومعاندة .