المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قريباً منهم ، بعيداً عنهم... المقاومة في العراق



ali2004
05-05-2005, 03:41 PM
(الحلقة الاولى) بدأ الحسم

شبكة البصرة/ الاربعاء 25 ربيع الاول 1426 / 4 آيار 2005
بقلم : سميرة رجب

كيف يمكن أن تخطئ الدراسات الاستراتيجية السياسية والعسكرية الأمريكية في قراءتها للشأن العراقي فيما يتعلق بتبعات وعواقب احتلال العراق؟، وكيف يمكن للديمقراطيات العريقة أن تخطئ في فهم وتقدير دور الشعوب في الدفاع عن نفسها وسيادتها وأوطانها، ضد الاستعمار والاحتلال، في عصر ابتعد طويلاً عن كل أنواع الاحتلال والاستعمار المباشر! بدعوى التحرر والتنمية والعدالة والشرعية الدولية؟، وكيف يمكن أن يعتمد تحريك قطاعات الجيوش والعساكر في العالم لاستعمار الشعوب واحتلال الدول خارج مفاهيم العدالة والحضارة والإنسانية والشرائع والمواثيق الدولية، وعلى أسس هشة قائمة على أعمدة الكذب والزيف والتلفيق المتناهي في الابتذال والقصور الفكري والسياسي؟...

كل هذه الأسئلة تطرح نفسها على المأزق الأمريكي القائم في العراق، بعد مرور أكثر من عامين على الحرب والاحتلال الذي كلّف الولايات المتحدة الأمريكية حتى الآن اكثر من 300 مليار دولار، دون أن تتمكن من الاستفادة من النفط العراقي حتى في تغطية تكاليف جيوشها التي بدأت تعاني من تدني شديد في المعنويات، ومن الخسائر البشرية التي تقدّر بما يزيد على 23000 جريح بعاهات مستديمة وما يزيد على ثلث هذا العدد من القتلى، مما حدا بالبنتاجون للبحث عن السبل الكفيلة بتحقيق "انسحاب مشرف" من العراق كما جاء على لسان الرئيس جورج بوش، في إشارة واضحة إلى اللجوء للتفاوض مع المقاومة لوضع شروط الانسحاب والعلاقات.

منذ 1 مايو/أيار 2003، حين وقف الرئيس بوش على حاملة الطائرات الأمريكية ليعلن أمام جيوشه عن انتهاء الحرب في العراق، وحتى 9 أبريل/نيسان 2005، الذكرى الثانية للاحتلال، واجهت القوات الأمريكية حرب شرسة ضد الشعب العراقي المتمثل في المقاومة التي تمكنت قبل نهاية فترة العامين من تحطيم معنويات قوات الاحتلال بنسبة 73%، نتيجة معاناتها الشديدة في مواجهة الموت اليومي المترصد لها في كل بقاع أرض السواد. فيا ترى ما الذي دفع المارد الأمريكي للتورط في المستنقع العراقي والوصول إلى هذا الوضع الحرج!، هل هو قصور وضعف التقارير والدراسات الاستراتيجية العسكرية والسياسية الأمريكية التي لم تضع تقديراتها السليمة حول احتمال نشوء هذه المقاومة الشديدة ضد قوات الاحتلال في العراق، أم إن هناك أطراف كثيرة تعاونت لتوريط ذلك المارد الأمريكي بهدف تقزيمه والنيل منه... أم هو عدد كبير من التداخلات والتقاطعات المعقدة بين كلا السببين؟!!.

ولكن بكل تأكيد كان هناك خطأ رئيسي وجوهري في حسابات قيام هذه الحرب عند إعلان الغزو والمواجهة الأرضية في القتال بين القوات الأمريكية والشعب العراقي... كانت حسابات خاطئة جداً بدءاً بتقدير كم وحجم الثأر العراقي والعربي المتراكم في انتظار لحظة المواجهة ضد مَن عمل على قتل أكثر من مليون ونصف عراقي في ذلك الحصار الذي يُعرف بأنه أطول وأقسى وأذل حصار فرض على شعب في التاريخ، وانتهاءاً بتقدير طريقة وأسلوب المواجهة المتوحشة التي قتلت فيها القوات الأمريكية أكثر من مائة ألف عراقي (تقرير معهد هوبكنز للدراسات الاستراتيجية) أثناء الغزو الذي استمر 21 يوماً فقط، وما تخلل ذلك من تدمير كامل واستباحة للأرض العراقية وما ومن عليها.

تقول التقارير بأن القوات الأمريكية حفرت في الأيام الأولى من الاحتلال مئات المقابر الجماعية لدفن العراقيين، ففي مقابر بطول عشرات الأمتار في مطار بغداد الدولي رصت ست طوابق من الجثث بعد معركة المطار التي استمرت ثلاثة أيام، ودفنوا العراقيين بقبور حفروها في أرصفة الشوارع والحدائق والدوارات وحدائق المستشفيات، وحولوا بغداد إلى مقبرة جماعية... ليزج بعد ذلك بمن لم يُقتل من العراقيين في عشرات المعتقلات التي لا زالت منذ عامين تمارس فيها القوات الأمريكية أبشع أنواع التعذيب القذر والمتوحش... الخ، الخ.

بعد كل هذا، ومهما قيل ويقال عن أسباب وأهداف الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، وما يقال عن ما تكبدته الميزانية الأمريكية من تكاليف مادية وبشرية باهظة جداً، بل خرافية، في هذه الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين لتأمين وضمان بقاء واستمرار هذا الاحتلال ومصالحه وتحقيق أهدافه غير المعلنة في العراق، إلا إن مؤشرات كثيرة تؤكد بإن المقاومة العراقية بدأت بالوصول إلى أهدافها، إن هناك طاولة للمفاوضات قد نصبت بين الاحتلال الأمريكي والمقاومة العراقية ووضعت الشروط المبدئية عليها... ومؤشرات تؤكد بداية الدخول في مرحلة فرض انسحاب الاحتلال، لا بل يبدوا مؤكداً إن أطراف اللعبة الدولية التي ساهمت في دفع عجلة التوريط الأمريكية في العراق قد أصبحت مكشوفة في شكلها المعلن كحلفاء ألداء، وإن هناك مستويات جديدة من العلاقات قد تبدأ مع نهاية الاحتلال الأمريكي الصهيوني البريطاني للعراق... فما هي تلك المؤشرات؟!.

كان المؤشر المبدئي هو إعلان الرئيس بوش عن نية "الانسحاب المشرف" من العراق، ولتحقيق ذلك الانسحاب لقوات الاحتلال الأمريكي، هناك بالتأكيد شروط مبدئية وضعت أمام المحتلين، وكان يجب أن تعلن الإدارة الأمريكية عن تأييدها وتنفيذها، ويمكننا أن نؤكد إن إعلان جلال الطالباني عن إلغاء قانون الإعدام وعن عدم وجود أية نية لإعدام الرئيس صدام حسين، الذي جاء بعد زيارة رامسفيلد المفاجئة للعراق يعد أحد المؤشرات الرئيسية لشروط التفاوض، في الوقت الذي تصاعدت فيه الخلافات حول تشكيل الحكومة المزعومة مع تصاعد غير مسبوق لأعمال المقاومة التي استهدفت فيما استهدفت أياد علاوي في عمليتين مباشرتين، في الوقت الذي تم تراجع القوات التي حاصرت منطقة المدائن للإعلان عن رفض الاحتلال للدخول في حرب شبيهة بما حدث في الفلوجة.

كل الشواهد والمؤشرات تؤكد إن المقاومة تمكنت من الوصول إلى مرحلة الحسم، وإن الاحتلال الأمريكي بدأ باستشعار الخطر الذي وقع فيه، وإن هناك متطلبات لفتح آفاق جديدة تضمن تحقيق مكتسبات قد تخسرها الإدارة الأمريكية كلية عند الوصول إلى مرحلة الهزيمة المطلقة في فترة لاحقة... فإما "الانسحاب المشرف" وإما الهزيمة المطلقة على مستوى العراق والإقليم والمستوى الدولي.

(الحلقة الثانية) كيف بدأت المقاومة

"لقد استبيح العراق بشعارات كاذبة لتخليصه من النظام الديكتاتوري وإقامة الديمقراطية، بعد أن عجزت أمريكا عن إقناع العالم بامتلاكه لأسلحة الدمار الشامل"؛
"لقد استبيح العراق بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، فيما استُخدم ويُستخدم كل يوم أقسى أنواع العنف، والعين على نفطه، وموقعه، والقيمة الاستراتيجية لذلك"؛
"لقد أُعلن العراق بلداً محتلاً، وهو الاحتلال الثاني في منطقتنا، نحن نعرف جيداً المحتل الأول، ونعرف أيضاً أنه طالما قُتلنا بأسلحة المحتل الثاني"؛

"السؤال اليوم، هل سينتهي زمن تقديمنا، و تقديم أنفسنا كأضحية؟، الجواب يتوقف على أمور كثيرة، ليست المقاومة إلا واحد منها. وإن كانت المقاومة نفسها تحتاج إلى نقاش، إلا إنها على رأس الأولويات".

هذه الفقرات وضعت على الغلاف الداخلي لآخر مؤلفات الأديب الكبير عبدالرحمن منيف "العراق... هوامش من التاريخ والمقاومة"، الذي أصدره بُعَيْدَ احتلال العراق، وقُبَيْلَ رحيله إلى العالم الآخر بأشهر معدودة، والذي اعتبره محاولة لاستحضار محطات من تاريخ العراق "متأملاً هذا البلد العربي، الشديد الأهمية بموقعه وثرواته، وهو يتعرّض ربما لأقسى محنة في تاريخه"، محاولاً ترتيب بعض الأوراق خوفاً من أن "تخلط الأوراق، تمهيداً لكتابة تاريخ من نمط جديد، هو تاريخ المنتصر، وبالتالي تغييب وقائع واستحضار غيرها أو بدل عنها". لذلك وضع في كتابه هذا سرداً وثائقياً للتاريخ العراقي ومقاومته لكل أنواع الاستعمار والاحتلال والهيمنة في تاريخه الحديث، مستشهداً بوقائع تستحث الأجيال العربية للوقوف في وجه المحتل الغازي، ومستحضراً "القيم والمفاهيم التي قامت عليها المراحل السابقة" لتاريخ العراق والأمة العربية، بدءاً بالوطنية وانتهاء بالمقاومة المسلحة كأعلى مراتب إنكار الذات والتضحية بالنفس دفاعاً عن الوطن وكل المقدسات.

ضمن تلك القيم والمفاهيم الوطنية والإنسانية خرجت المقاومة في العراق لتفاجئ العالم بقوتها وشدتها وتطورها العملياتي السريع في مواجهة الإحتلال الأمريكي الصهيوني البريطاني الأكثر عنفاً ووحشيةً وشراسةً في التاريخ، وللتصدي للمحتلين الذين استهانوا بكل المبادئ الكونية والقيم الحضارية. خرجت المقاومة في العراق لتُكَذّب كل تلك المزاعم والإدعاءات التي خلقها المحتلون لإتمام جريمتهم، تلك المزاعم التي وضعتها الباحثة في الخارجية الأمريكية "راشيل برونسون" في دراسة نظرية بحتة، وبثتها مختلف وسائل الإعلام، مدّعية بإن احتلال العراق سوف يتم بدون دماء أو ضحايا، والحرب ستكون سريعة، تبدأ بالقصف الجوي لإضعاف النظام العراقي، ثم يبدأ الهجوم البري ويتوجه الجيش الإمريكي فوراً إلى منابع النفط لحصارها حفاظاً على سلامتها من الدمار، ثم سيهتم هذا الجيش الفاتح بتقديم المساعدات الطبية والصحية والبيئية والتعليمية والسياسية للشعب، الذي سيعيدون له كرامته التي أهانها النظام، وسيتحقق كل ذلك باستسلام الجيش العراقي ومساندته الأكيدة للقوات الأمريكية التي سوف يستقبلها العراقيون استقبال الأبطال الفاتحين بالورود والريحاين. هذا ما جاء في تقاريرهم قبل أشهر وأسابيع وأيام من الحرب التي بدأت في 19 مارس 2003 ولم تنته بعد، فحمام الدم لا زال مستمراً منذ أكثر من عامين، بأبشع وأقسى صوره، وبحسب كل الشرائع ستستمر حرب المقاومة حتى تحقيق أهدافها... فكيف بدأت تلك المقاومة؟! التي كثر الحديث حولها بأنها أسرع مقاومة نشأت ضد المحتلين في تاريخ كل المقاومات في العالم.

هناك من يؤرخ بداية المقاومة باليوم الأول من الحرب بأول معركة بدأت في أم قصر بتاريخ 21 مارس 2003، وهناك من يقول بأن الشرارة الأولى للمقاومة في العراق ضد الإحتلال الأمريكي بدأت بإنفجار أول سيارة ملغومة بالقرب من مدرعة برادلي في أحد شوارع بغداد بتاريخ 10 أبريل 2003، وقتل بها تيري دبليو. همنغواي Terry W. Hemingway، وهو مجند أمريكي من فرقة المشاة الثالثة برتبة رئيس عرفاء حسب البيان الصحفي لوزارة البنتاجون رقم 234/03 بتاريخ 12 أبريل 2003، وهناك من يؤرخ تلك البداية بتاريخ 9 أبريل 2003 أي اليوم الثاني من بدء الإحتلال... إلخ.

إلا إن الترتيب الفعلي لإنطلاقة المقاومة التي تم الاستعداد المؤسسي لها مسبقاً بما يُمكنها من الاستمرار وإذلال كل العقبات هو ما بدأ بكل تأكيد بعد دخول المحتلين إلى بغداد، أي بعد معركة المطار التي استمرت للفترة 4-6 أبريل 2003 وحُسِمَت باستعمال القوات الأمريكية للسلاح النووي التكتيكي، وبالتهديد الأمريكي بالإستعمال الموسع لذلك السلاح في كل بغداد، مما ترتب عليه صدور الأوامر لكل قطاعات القوات العراقية بالإنسحاب من المواجهة المباشرة، والتحول إلى حرب العصابات، أي إلى المقاومة المسلحة.

في 13 أبريل 2005 اجتمع الرئيس صدام حسين بالقياديين والمسؤولين العسكريين، وتم توزيع الأدوار والمهمات والمسؤوليات، وعلى إثر ذلك، بدأ أحدهم بتوحيد صفوف القوميين المتمثلين بالبعث والناصريين والقوميين العرب والمستقلين وآخرين، في تنظيم المقاومة وإطلاق عملياتها...

في اليوم التالي، أي بتاريخ 14 أبريل 2003 تم قصف فندق "شيراتون عشتار"، المطل على ساحة الفردوس في وسط بغداد، من "نادي العلوية" الذي يقع في نفس المنطقة... فكانت تلك العملية الرسمية الأولى للمقاومة... إلا إن المقاومة أخذت سمتها وهويتها المعلنة مع استشهاد أحدهم بعد المظاهرات الأولى التي ظهرت بالفلوجة.

خلال تلك الفترة كانت عمليات متفرقة قد بدأت بمناطق مختلفة في العراق بشكل عفوي بواسطة جماعات تفاجأت بالإحتلال، ودون تنسيق أو علاقة مسبقة بينها، فكانت الجماعات الإسلامية السلفية أو من يُدْعَوْن بـ"الوهابيين" من أوائل المجاهدين الذين كانوا شبه منظمين في ذلك الوقت... وتمكنوا، بعد ذلك، من استقطاب أعداد كبيرة لصفوفهم من داخل وخارج العراق للقيام بعمليات استشهادية مستمرة لم تتوقف حتى يومنا هذا.

أما أولى العناصر الشاحذة لهمّة القتال والمحرّكة باتجاه المقاومة ورفع المعنويات منذ اللحظات الأولى للإحتلال فهم المتطوعون العرب الذين دخلوا قبل وأثناء وبعد الغزو، وواصلوا القتال دون توقف فأعطوا للآخرين أصدق مثال وطني وقومي بالتضحية ونكران الذات في الدفاع عن العراق.

مع الإعلان العملياتي عن بدء المقاومة انضمت إليها مختلف تشكيلات قوات الجيش والمخابرات العراقية والقطاعات العلمية والهندسية وواصلت العمل والقتال منذ بدء الإحتلال في تجمعات وتشكيلات منظمة بدقة وإحكام متناهيين، مما يدل على إن التخطيط للمقاومة لم تكن وليدة الساعة بل كانت معدة ومدروسة سلفاً... وبعد تشكيل الجماعات بدأت عمليات التنسيق فيما بينها، مما ساعد على تطوير أدائها لتصبح قوة ضاربة تمكنت من تحطيم معنويات جيوش الإحتلال بإعتراف قادتهم.

مع تطور المقاومة تمكنت من استقطاب العلماء والمتخصصين في صناعة وتطوير الأسلحة بمختلف أنواعها، لتكوّن تشكيلات جديدة قادرة على تزويد المقاتلين بمتطلباتهم من الأسلحة المطلوبة لإضعاف أو تحييد سلاح العدو بشكل مستمر... فتطورت المقاومة في أدائها وخطت خطوات أوسع داخلياً بالتنسيق الكامل بين كل القوى الوطنية العراقية كالإسلاميين والبعثيين والقوميين والوطنيين المستقلين والماركسيين وغيرهم، تحت هدف واحد، وهو تحرير العراق من أقصاه إلى أقصاه.
هكذا، وباختصار شديد، بدأت المقاومة في العراق، لتُذهل العالم وتصبح محط آمال الشعوب المقهورة والمسلوبة الإرادة... إلا إن الأمانة التاريخية تلزمنا بالإعتراف بإن هذه المقاومة الجبارة ما كانت لتنشأ وتتطور خارج محيط الشعب العراقي المقاتل والمدَرّب والمتمكّن من استعمال السلاح والتصدي لأصعب الأزمات، دفاعاً عن الوطن والأمة، وهذا الواقع هو ما خلقه النظام العراقي عندما هيأ تشكيلات مختلفة من المقاتلين خارج إطار الجيش الرسمي، فظهرت تنظيمات فدائيي صدام والجيش الشعبي وغيرها لتضم كل أبناء العراق، وتم تدريب الأولاد بعمر 10 سنوات على السلاح، وتدريب النساء والفتيات على القتال، كل ذلك مدعوماً بالقيم والمفاهيم الوطنية الأصيلة والسامية.

(الحلقة الثالثة) شعلة أمل الأمة

على مدار التاريخ كان للعراق تأثير مباشر وعميق في كل المنطقة العربية، بدءاً بامتدادات الحضارات المتعاقبة التي سادت على أرضه منذ بدء الخليقة، انتهاءاً بزلزال الإحتلال والاستعمار الأمريكي الصهيوني البريطاني لهذه الأرض المتوغله في وجدان التاريخ الإنساني والعربي والإسلامي وفي وجدان كل العرب مع بداية الألفية الميلادية الثالثة، ومروراً بما تخلل كل تلك الفترات من صراعات وحروب ومؤامرات استهدفت كل حضاراته بهدف استعماره ونهب خيراته على مدار التاريخ، وما تخلله من فترات الإبداع والإشعاع بالعلوم الإنسانية والطبيعية المختلفة التي تميّز العراقيون بالسبق والفضل بها على كل العالم منذ أقدم العصور.

واستناداً لهذه الحقيقة التاريخية، كان للعراق خلال العقود الثلاثة الأخيرة أبلغ الأثر على الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، بما حققه من تقدّم علمي واقتصادي وثقافي وابداعي في سباقه مع الزمن للحاق بركب الحضارة المعاصرة في الانتاج الصناعي المرتبط بالثروة الاقتصادية كسبيل للقوة والاستقلال، مما جعل تفاعل وتأثير كارثة إحتلاله ضارباً ومزلزلاً للمشاعر العربية، بما لا يدع مجالاً للشك بإن تبعاته اللاحقة ستخلق واقعاً عربياً جديداً على مستوى الشعب العربي الذي لم يعد يتحمّل انكسارات أكثر إذلالاً من هذا الاحتلال، رغم محاولات الأنظمة العربية بتجاهل هذه المشاعر وقمع شعوبها المتفاعلة بعمق في الشأن العراقي… وخصوصاً بعدما أثبتت المقاومة في العراق إن البطولات العربية ضد الغزاة والمحتلين لازالت تحتفظ بذات العنفوان التاريخي الذي تميّز به العرب الأوائل، وإنه بمجرد الاصطدام بتحدي الغزو والاحتلال استرجعت الأمة، متمثلة بالعراق، كل تاريخها على مسرح الأحداث لتثبت للعالم بإن الشعب العربي لم يتأثر بأدوار أنظمته المستسلمة للمحتلين… وإذا كان هناك أية (إيجابية) يمكن أن تذكر لهذا الإحتلال فهو ما سيذكره التاريخ بإنه كان سبباً لجلاء ليل العرب وكسر قيودهم… فلقد آن لهذا الليل العربي الطويل أن ينجلي، ولهذا القيد أن ينكسر، فصدى انكسار الإحتلال سيتردد في كل العواصم والمدن العربية مدوياً من العراق الذي يعيش اليوم أحسن حالاته الوطنية التي لا يمكن إلا أن تكون درساً نضالياً بليغاً يقف له كل العالم أجلالاً.

ففي داخل العراق، ومن حيث لم يتوقعه الغزاة، حقق هذا الإحتلال القبيح أحد أهم أهداف العراق العربي الموحد، إذ شكّلت المقاومة وعاء اختلطت، ولا زالت تختلط، به الدماء العراقية بمختلف ألوانها الأثنية والدينية والمذهبية والمناطقية والسياسية، كما اختلطت به دماء العراقيين بدماء أخوتهم العرب الذين ما فتئوا يتوافدون على أرض العراق للجهاد، وسوف تتضاعف أعدادهم كلما طال أمد الإحتلال... وروت هذه الدماء كلها أرض العراق من شماله إلى جنوبه، وضمت هذه الأرض رفات الشهداء المجاهدين دون تمييز بين جنس ودين ومذهب، فتوحدت الأرواح والاجساد في فضاء تاريخي نادراً ما يتكرر إلا للأمم الحية والخالدة.

إنها صورة سيريالية، ولكنها حققت على أرض الواقع، الهدف العراقي الأسمى، وهو الوحدة الوطنية الكبرى، فتلاحمت فيها كل التيارات السياسية التي تمثل الشعب العراقي بتعدديته المتجانسة، فالتحم القوميون مع الماركسيون مع الإسلاميون، ليشكّلوا فصائل المقاومة بقوتها الضاربة والمستعصية على القوات الأمريكية... كما حققت هدف الوحدة القومية التي جمعت العرب بمختلف مشاربهم مع العراقيين في الجهاد ضد الاحتلال... فيا ترى هل هناك من قوة قادرة على فك هذا التلاحم وهذه الوحدة الاندماجية؟، أو حتى إيقاف نموهما وتطورهما المواكبان لصيرورة الحياة الطبيعية؟.

في معرض إجابته عن سؤال "إن كانت واشنطن تكسب الحرب على المقاومة؟"، قال دونالد رامسفيلد "من وجهة نظري أن الولايات المتحدة وقوات التحالف لن تكون هي الأداة القادرة على هزيمة المقاومة"... هذا ما صرّح به وزير دفاع المحتل والمخطط الأكبر لهذا الغزو والاحتلال، وذلك بعد عامين من بدئهما، وتحديداً في يوم الأربعاء 27 أبريل 2005... فإن كانت هزيمة المقاومة غير ممكنة وإن انتصارها محتوم ومؤكد، مهما طال أو قصر الأمد، فهل من الممكن فك ذلك التلاحم الوطني والقومي الذي حققته المقاومة؟...

وبالجانب الآخر، إن هذه المقاومة، بكل تجلياتها العظيمة، خلقت حالة من العنفوان الوطني والقومي في كل أرجاء الوطن العربي، فبينما تتفاعل أدوارها الوطنية في داخل العراق نحو الحسم بالنصر، هي تفرض ظلال مرجعيتها القومية على الشعب العربي بأكمله... وإن كان هناك من فئات عربية غير بصيرة لهذا الواقع العربي الجديد، لعدم امتلاكها لنعمة التبصّر، فإن القادم من التاريخ القريب سيثبت مدى تقوقع تلك الفئات في صومعات بعيدة عن واقع مجتمعاتهم... ومع رجوع أولئك المجاهدين العرب إلى أقطارهم، ستستمر شعلة المقاومة لتضيئ آمال الأمة بأكملها... وسيواصل المجاهدين رفضهم لكل أنواع السياسات العربية المذلة لكرامة الشعب العربي، وستقع الأنظمة العربية تحت المساءلة والمعارضة والمقاومة للنهوض بالأمة أو التنحي للمخلصين من أبنائها لإدارة شئونها التي هُتِكَت وابتُذِلَت...

هذه هي المقاومة التي بزغت في العراق... لتكون شعلة أمل الأمة... ولن تخبو شعلةً ولا أملاً؟... والتاريخ خير مُعَلّم ومُرشد...!!

(الحلقة الرابعة) تشكّل نموذجها الوحدوي
شبكة البصرة الخميس 26 ربيع الاول 1426 / 5 آيار 2005
بقلم : سميرة رجب

منذ رسمونا ووضعونا في حدود سايكس بيكو (1917) وحتى يومنا هذا أصبحنا أمة معتقلة بين أضلعها المستطيلة والمربعة وغير متساوية الأضلاع، ولأن "الزمن كفيل بتقليص الأخطاء"، حسب مفاهيم الغربيين، اعتمدوا أن يتحوّل هذا الوضع الشاذ إلى حقيقة وأمر واقع يقاس عليه الشأن العربي، فتحوّلت جريمة سايكس بيكو الاستعمارية إلى قاعدة وكل ما سواها شاذ وخطأ، يجب التنديد به وشن الحرب ضده. وهكذا أصبحت هذه الاشكال الهندسية سجوناً تقف الأنظمة العربية حراساً أمينين عليها، ومدافعين عنها، متزلفين لمتعهّدي سايكس بيكو الذين عملوا كل ما بوسعهم للإبقاء على هذه الحدود ورفع اسوارها عالياً على مدار قرن من الزمن "للحيلولة دون الوحدة العربية" كما جاء في وثائقهم، ففشلت كل محاولات الوحدة الثنائية والثلاثية والرباعية وحتى التعاونية لأنها لم تحصل على مباركة المستعمر ودعواته المخلصة. لكل ذلك، أصبح واضحاً وأكيداً، إن أي شكل أو نوع من أنواع الوحدة بين العرب لن يكتب له النجاح مالم يُفرض بواسطة الشعب العربي، رغماً عن متعهدي سايكس بيكو وحراسها الأمناء.

ضمن معادلة الوحدة، يمكننا أن نؤكد إن هذه الأمة لن تخرج من دائرة الهيمنة الاستعمارية الطامعة في نفوذ المنطقة وثرواتها ما لم يمتلك العرب إرادتهم بمفهوم هذا العصر، وهو مفهوم القوة الاقتصادية والسياسية إقليمياً أو دولياً، وهذه القوة لن يكتب لها النجاح والنمو ما لم تتخذ شكلها الوحدوي أو التكاملي العربي... وفي الطرف الآخر، لن يتحقق لهذه الأمة ما تنشده من الأمن والاستقرار الحقيقيين، والجالِبَيْن للحرية والديمقراطية التي تتطلّبَها التنمية الاقتصادية والسياسية والعلمية والاجتماعية، ما لم يتم ذلك على المستوى العربي الموحد أو المتكامل. وأهم ما يثبت صحة هذه القاعدة هو التجارب النهضوية العربية الفاشلة التي بدأت منذ عصر رواد النهضة العربية وحتى يومنا هذا الذي نعيشه في ظل إحتلالين ينخران في قلب الأمة، ونحن لازلنا نتساءل "لماذا تقدّمت الأمم وتخلّف العرب"، وكأننا لا نريد أن نعرف الإجابة الحقيقية التي هي بين أيدينا.

أما اليوم فهناك نموذجاً للوحدة العربية قد بدأ بالتشكّل في ظل احتلالٍ كان يراد له تحقيق المزيد من التفتيت والتمزق العربي الاسلامي. ففي العراق، الذي يعاني من ضيم الاحتلال وفجاجته، تلاحَمَ العراقيون بشتى تياراتهم السياسية والدينية والمذهبية والأثنية تحت مظلة المقاومة لتحقيق الانتصار على العدو، في فرصة تاريخية توفرت للعرب لإختصار الزمن، واللحاق بحضارة العصر المادية التي لا تعترف إلا بالقوة هوية للأمم المتحضرة.

وبالعراق في ظل الإحتلال أيضاً تشَكّل النموذج الوحدوي العربي بتلاحم المجاهدين العرب مع العراقيين في مقاومتهم لأعتى قوى العصر الاستعمارية... فإخترق العرب حدود سايكس بيكو وتحرروا من قيودها، في أصدق تعبير لهم برفض الإعتراف بكل أنواع الحدود في أرضهم العربية، فتدافعوا إلى العراق لمقاومة المحتلين تلبية لنداء قومي واسلامي لا يُرد، فبدأت نواة الوحدة العربية بالتشكّل بالمجاهدين والجهاد ضد بطش القوة العسكرية والاستعمارية الأمريكية دفاعاً عن مقدسات الأمة وأرضها وتاريخها.

لقد قلب هذا الاحتلال الموازين، فعمل من حيث لم يعلم على صهر نفوس العرب فحوّل ضعفهم إلى قوة، وخلق عوامل الانقلاب الروحي في المجتمعات العربية بشكل عام، واستعادت الأمة في العراق مواقف متكافئة مع الأمم المتقدمة في وحدتها بالنضال الشعبي من أجل الحرية والاستقلال والسيادة. وانطلاقاً من العراق يحقق العرب اليوم هدفهم ببناء الدولة العربية كما عمل الأوائل منهم...

وهناك سُطرَت صور الجهاد الحية التي تربط بين الحاضر والماضي العربي، في إشارة واضحة لدور الإحتلال وفضله بتحريك محرّكي العروبة والإسلام، لينقلب السحر على الساحر، فاستشهد المجاهدون العرب في العراق دفاعاً عن أرض الخلافة الإسلامية، ليعيدوا إلى الأذهان تلك الروابط القومية التي يرى العربي كل أرض العرب أرضه...

وهكذا، يقف العرب والعراقيون متراصين في العراق أمام جحافل الإحتلال، في صورة مشرقة للوحدة العربية المنشودة... ولتنطلق بعد ذلك مواكب الوحدة من العراق لبناء وحدة العرب العصرية...

(الحلقة الخامسة) ماذا يميز هذه المقاومة

(لا تَشْتَدّنّ عليكم فرّة بعدها كرّة، ولا جولة بعدها حملة، وأعطوا السيوف حقوقها، ووطَئوا للجُنُوبْ مصارعها، وأذْمُرُوا أنفسكم على الطعن الدّعسِي، والضرب الطّلحَفي، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، فوالذي فلق الحبة وبَرَأ النسَمَة ما أسلَموا ولكن استسلموا وأسرّوا الكُفْر، فلَمّا وجدوا أعواناً عليه أظهروه)
(نهج البلاغة، الجزء الثالث، "قول الإمام علي عليه السلام لأصحابه عند الحرب")

حظيت الحركات الوطنية والشعبية والمقاومات المسلحة والسلمية، التي نشأت قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، بإهتمام إعلامي وأدبي واسع، فكانت مادة ثرية للمتخصصين بها من الكتاب والصحفيين والروائيين الذين تناولوها، حسب أهميتها، بالطرح المباشر أيديولوجياً وتاريخياً وسيرة ومساراً، أو بالطرح الأدبي والروائي والتوثيقي والخيالي. وكان ذلك الأهتمام والدافع برصد تلك الحركات متزامناً مع المد الثوري، الذي وإن بدأ من بعد الحرب العالمية الأولى، إلا إنه إزداد زخماً وانتشاراً على مدار ثلاثة عقود منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية. ومع تحقيق تلك الثورات لأهدافها وانتصاراتها ونجاحاتها الباهرة حفرت في ذاكرة التاريخ دروساً إنسانية لا يمكن أن تُهمَل أو تُنسَى، فتحولت، مع الزمن، إلى علوم عسكرية وسياسية تُدَرّس في جامعات العالم.

اشتركت كل تلك الحركات الوطنية في سماتها الأساسية، التي تعد النواة الأساسية لانتصاراتها، والمتمثلة في المعايير والمفاهيم الروحية التي عملت كقوة دافعة ومحركة لكل الآلاف المؤلفة من العناصر البشرية التي انخرطت بها، وأهم تلك المعايير هو الإيمان الصادق والمخلص بالوطن وبمبادئ التضحية والكرامة الممزوجة بقيم القوة والشجاعة والحق ونكران الذات، وهي قيم ومبادئ يصعب على المجتمعات المادية أن تتفهم حقيقتها الجوهرية المعاكسة تماماً لأنانية المستعمر وهيمنته على الشعوب لنهب وسرقة ثرواتها. لذلك انتصرت تلك الثورات على أعدائها، فنجح "غاندي" بتحرير الهند، كما حرر "ديجول" فرنسا من الإحتلال النازي، وانتصر أبطال الجزائر على مستعمريهم الفرنسيين، ونجحت ثورة "جيفارا" في كوبا، كما قاد "ماو تسي تونع" ثورة الصين ومسيرتها الكبرى نحو النصر، وحقق المعلم الجنرال "جياب" والقائد المفكر "هو تشي منه" أكبر انتصارات القرن العشرين على كل القوات الأمريكية في فيتنام، ولا يذكر التاريخ، بشكل عام، هزيمة أية مقاومة وطنية مسلحة أمام أعدائها... ولكن هيهات أن يتعلّم من التاريخ من لا تاريخ له.
واليوم، ونحن في بدايات القرن الواحد والعشرين، يشاهد العالم كله المقاومة الوطنية في العراق وهي تقارع أكبر وأشرس قوة عسكرية على وجه الأرض، في حرب شرسة شنتها الولايات المتحدة على العراق لإحتلاله بهدف وحيد أوحد، وهو السيطرة على النفط العراقي والزحف باتجاه تأسيس الإمبراطورية الاستعمارية الأمريكية، فعاثت بأرض العراق قتلاً وفساداً وخراباً وتدميراً، وقضت على كل مؤسسات العراق ودولته، ظناً بأنها قادرة على إلغائه من الخريطة الجغرافية. وبعد مرور أكثر من عامين على هذه الحرب اكتشف المحتل بأن النزال بينه وبين المقاومة في العراق لم يسجل أي تقدّم إيجابي لصالحه، بل بالعكس، إذ استمر نزيفه البشري والمادي والمعنوي في تصاعد وأصبح فوق كل التوقعات، وإن كل يوم يمر عليه في العراق يقربه من هزيمة كارثية مؤكدة، كما جاء في تصريحات جنرالاته ومفكريه الاستراتيجيين... وصدقت المقاومة في توقعاتها بهزيمة الاحتلال، وكذبت المعاهد الاستراتيجية الأمريكية الكبرى التي لم تتمكن من قراءة التاريخ لمعرفة أسباب انتصار الشعوب دائماً على المعتدين عليها. فيا ترى كيف تمكنت هذه المقاومة من أن تكون بهذه القوة رغم كل الظروف الدولية المعاكسة لها، والتي اختلفت جذرياً عن الظروف التي نشأت بها المقاومات الوطنية السابقة؟!... نعم، ماذا يميّز المقاومة في العراق عن غيرها من المقاومات!؟، وما الذي يجعل هذه القوة، التي لا تقارن إمكانياتها المادية بإمكانيات المحتل الأمريكي الأكبر والأضخم تسليحاً وتدريباً وتحديثاً، قادرة على امتلاك قوة المواجهة الضاربة ووسائل النصر الأكيد؟!... علماً بأنها تواجه في العراق إحتلالين، وليس واحداً... فبجانب الإحتلال الأمريكي الصهيوني البريطاني المعلن، هناك احتلال إيراني غير معلن، بدأ يتغلغل في داخل المجتمع العراقي بمختلف الأساليب، بالإرهاب والعنف تارة، وبالترغيب والمراوغة تارة أخرى.

نسرد هنا بعض من تلك المميزات التي انفردت بها المقاومة في العراق عن غيرها من المقاومات الوطنية السابقة، ونترك البعض الآخر من مميزاتها إلى حين تسمح الظروف السياسية بذكرها...
كحقيقة باتت معروفة للعالم، تميّزت المقاومة في العراق بأنها تدار بواسطة قيادات الجيش والمخابرات العراقية، كقوى مدربة ومثقفة أحسن تدريب وتثقيف عسكري وإداري ووطني، كسابقة لم تتكرر مع المقاومات الأخرى، إذ عادة ما يَصِفْ الجيش مع الحكومة التي تحكم تحت حراب الإحتلال، وضد الثوار والمقاومين الوطنيين. ففي الحالة العراقية كانت ترتيبات تحوّل أجهزة الدولة العسكرية إلى حرب العصابات والشوارع قد أعدت مسبقاً لقناعة الأطراف العراقية كلها بإن الحرب النظامية في مواجهة أكبر قوة حربية في العالم لن تحقق النصر المطلوب، فكان لزاماً عليهم الاستعداد لأكثر أنواع حرب العصابات إحكاماً... وهذا ما بدأ منذ اللحظات الأولى من دخول القوات الغازية إلى بغداد.

والحقيقة الثانية التي تميّزت بها المقاومة في العراق هي سرعة انطلاق عملياتها التي بدأت في اليوم الثاني من الإحتلال، وترجع الأسباب أولاً: إلى أن كل الشعب العراقي مُدَرّ ب عسكرياً، بدءاً بأفراد الجيش وباقي التنظيمات العسكرية التابعة له، وانتهاءاً بالجيش الشعبي وجيش القدس وفدائيي صدام والتنظيمات النسائية وغيرهم من الشيوخ والأطفال العراقيين... وثانياً: إلى إنتقال كل قطاعات الجيش العراقي إلى المقاومة المسلحة منذ اليوم الأول.

لوجود المخططين الاستراتيجيين العراقيين، أصبحت الأهداف الاستراتيجية للإنتصار على العدو واضحة المعالم بالنسبة للمقاومة، فما كان من قيادتها العسكرية إلا وضع الاستراتيجيات العملياتية المطلوبة وإيجاد الوسائل والتجهيزات التي تؤدي للوصول إلى تلك الأهداف.

على عكس كل المقاومات الوطنية السابقة التي توزعت في ارتباطاتها بين معسكري الشرق والغرب في فترة الحرب الباردة، وحصلت على دعم ومساعدات مستمرة، لتمويل عملياتها، من تلك المعسكرات والجهات الدولية المتصارعة على مناطق النفوذ في العالم، على عكس كل ذلك، تتميّز المقاومة في العراق باعتمادها كلياً على نفسها وقدراتها وإمكانياتها الذاتية، بعيداً عن الأقطاب الدولية والقوى والأحزاب والتنظيمات الخارجية.

وكذلك على عكس كل المقاومات السابقة، لم تحصل المقاومة في العراق على أي دعم أو مساندة من الدول المجاورة لحدودها، بل يعمل الجيران كما يعمل الأشقاء العرب، على خنقها في تداعيات مختلفة.
المقاومة في العراق تتميّز على غيرها بأنها تمتلك جهاز كامل من علمائها في التصنيع العسكري، ممن لديهم القدرة على تغيير طبيعة السلاح وتطوير استخداماته باستغلال كل أنواع المواد وقطع الغيار المتوفرة في الوسط المحلي العراقي، إضافة إلى مخزون الأسلحة التي تم توزيعها على كل بيت وكل مناطق العراق.

بسبب التعتيم والتشويه الإعلامي التام على كل أخبار المقاومة في العراق، أصبحت تعتمد كل فصائلها على قوة ونوعية عملياتها كجهاز إعلامي ، وسواء تم التعتيم أو تسليط الأضواء عليها، فهذه العمليات كفيلة بإيصال صوتها ونشر أخبارها على مستوى العالم... في النهاية ستصل الرسالة المطلوبة للهدف المقصود.

عملت المقاومة في العراق على تكثيف عملياتها في وسط وشمال العراق، بسبب كثافة تواجد القوات المحتلة في هذه المناطق... ولكن أيضاً عملت وتعمل بدقة على تنفيذ عملياتها في الجنوب في مناطق تواجد القوات البريطانية التي لا تنتشر بين السكان كثيراً لذلك تقع تلك العمليات تحت التعتيم الإعلامي الكامل، كما شاركت المقاومة بقوة مع جيش مقتدى الصدر في النجف والكوفة والحلة عندما استهدف الأمريكان هذه المدن، مثلما قاتلوا في الفلوجة عندما فتحت القوات الأمريكية جبهة حرب فيها.

تمكنت المقاومة من القضاء على كل محاولات الحرب الأهلية التي حاول الإحتلال إشعالها في العراق، اعتماداً على ما يملكه الشعب العراقي من ثقافة سياسية ووعي وطني ينبذ كل الخلافات الدينية والطائفية والأثنية... وبهذا تمكنت المقاومة من فضح سياسات المحتل وكشف كل مؤامراته.

أن قوة ونجاح وتصاعد المقاومة في العراق في حربها ضد المحتلين هو نتيجة لوقوف الشعب العراقي بأكمله معها وتصديهم لحمايتها، وخاصة إن الأرض العراقية خالية من كل العوامل الطبيعية والجغرافية التي تعتمد عليها حرب العصابات مثل الغابات والسلاسل الجبلية الوعرة وغيرها، فساحتها هو الشارع العراقي وملاذها هو البيت والشعب العراقي بأكمله.

في جانب آخر فرضت الطبيعة الجغرافية في العراق على المقاومة نوعية عملياتها التي جعلت من أفراد المقاومة متواجدين في كل الشوارع والمناطق في شخصيات مختلفة لتنفيذ عملياتهم، مثل بائع السجائر، وبائع الصحف وبائع الخضار والجالسين على ناصية الشارع وفي المقاهي وغيرهم... فأصبح كل عراقي مشروع مقاومة يتوجس منه العدو، مما أدى إلى إنهيار كبير في معنويات قوات الإحتلال.

وأخيراً لابد أن يذكر لهذه المقاومة فضلها في خلق وحدة وطنية كبرى في العراق الحديث، بتوحيد صفوف كل التيارات السياسية الوطنية في مواجهتها للإحتلال...

وسوف يكشف التاريخ القريب كل مميزات هذه المقاومة التي لم نتمكن من رصدها أو ذكرها، والتي بانتصاراتها الحاسمة، قريباً سوف تغيّر "المعادلة الكونية" وتفتح آفاقاً استراتيجية جديدة أمام القوى والأقطاب الدولية من ناحية، والشعوب المضطهدة والغاضبة من ناحية أخرى،،، فأدعوا لها بالنصر...
--------------------
اللهم نصرك الذى وعدت