المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من كتاب الإنتصار لأهل الفلوجة والجهاد



شامل
27-03-2005, 04:37 PM
كتاب*

الإنتصار لأهل الفلوجة والجهاد

شبكة البصرة

تقديم عبد الله شمس الحق

لأبي عبد الله صلاح الدين بن محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ

الجزء الثاني

الظلمُ والخِذلانُ للمسلمين

نهى اللهُ تعالى عبادَه المسلمين أشدَ النهي، وحذرهم، وأوعدهم من ظلم الناس مطلقا، ومن الظلمِ والخذلان لإخوانهم المسلمين خاصة. فالله تعالى أرادهم وأمرهم أن يكونوا إخوةً متحابين متناصرين. فمحبةُ الله تعالى تقتضى من العبد المحبةَ لكل ما يحبه اللهُ تعالى، والرضا عن كل ما يرضاه.

والله يحب المؤمنين، ويرضى ويتولى المسلمين، فوجب على العبد المسلم أن يحب ما أحبه الله ويتولى من تولاه. وقد جاءت النصوص الصريحة من الكتاب والسنة الصحيحة، محرضة وآمرة بذلك، وناهية ومحذرة من ضده.



ظلمُ المسلمِ للمسلم، منه ما يلتحق بصغائر الذنوب، ومنه ما يلتحق بكبائر الذنوب، ومنه ما يُخرجُ من المِلة، ويوقع في الكفر والنفاق. وقد شدد الشارع الحكيم في حقوق الناس عموما، وحقوق المسلمين خصوصا، فحقوقُ العباد - كما قال أهلُ العلم - مبنيةٌ على المشاحَّة، وحقوقُ الله تعالى مبنيةٌ على المسامحة.

ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللّهَ قَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَـذَا، وَقَذَفَ هَـذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَـذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَـذَا، وَضَرَبَ هَـذَا. فَيُعْطَى هَـذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَـذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ. فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ. أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ. ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ).

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَن كانت لهُ مَظلمةٌ لأخيهِ مِن عِرضِه أو شيءٍ فليَتحلَّلْهُ منهُ اليومَ قبلَ أن لا يكونَ دينارٌ ولا دِرهمٌ، إن كانَ لهُ عملٌ صالِحٌ أُخِذَ منهُ بقدْرِ مَظلمتِه، وإن لم تكنْ لهُ حَسناتٌ أُخِذَ من سيِّئات صاحبِه فحُمِلَ عليه).

فكان ظلمُ العبدِ لنفسِه بظلمِه للعباد، أشدَ من ظلمه لنفسه، في تقصيره بحق الله تعالى - إلا الشرك بالله والتضييعَ للأركان - من جهة ما يترتب على هذا الظلم من الحساب والعقاب، لا من جهة قبح هذا الظلم وعظمته في نفسه. وأيُ ظلمٍ للمسلم أعظم ُ، من أن يُعينَ عليه مَن يفتنُه في دينه، ويستحلُ دمَه وماله وأرضه وعرضه.

اللهُ جلَّ جلالُه يقول في كتابه العزيز: {إَن الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً}. قرأها ابنُ عمر رضي الله عنهما فقال: فكيف إذا أُوذيَّ بالمعروف ، فذلك يُضاعفُ له العذاب. يريد كيف إذا أُذيَّ لفعله المعروف، وهل الجهاد إلا من أعظم المعروف، قال قتادةُ رحمه الله في قوله تعالى: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتانا وإثْما مُبيِنا} إياكم وأذى المؤمن، فإن الله يحوطه، ويغضب له.

وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ لظَّالِمُونَ}. قال ابن جرير في تفسيره: لا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ، فجعلَ اللامزَ أخاه لامزاً نفسه، لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضُهم لبعض من تحسين أمره، وطلب صلاحه، ومحبته الخير.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، وأعظمُ منهم من أراد وأحب أن يظهر الكفار على المسلمين، فيفتنوهم عن دينهم ويغلبوهم على ديارهم وأموالهم.

وقال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}. قال ابن كثير: وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهَا ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} الآية. وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} الآية، والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)، وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يزال المؤمن مُعنِقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلَّح). وفي حديث آخر (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم)، وفي الحديث الآخر (من أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله).



ومن الأحاديث الصحيحات التي تعظِّمُ حقَ المسلم على أخيه المسلم، وتنهى عن ظلمه وخذلانه، ما في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: (لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِـعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ. وَكُونُوا، عِبَادَ اللّهِ إِخْوَاناً. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ. لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى ههُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِىءٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِم. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ. دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ).

وفيه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ قَالَ: (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا).

وما في الصحيحين: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (سِبابُ المُسْلمِ فُسوقٌ وَقِتالُه ُكفْر). وفيهما عن نَافِعِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : (إذَا جَمَعَ اللّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَـذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ).

وفي صحيح البخاري: حدّثنا أبو اليمانِ أخبرَنا شُعيبٌ عنِ الزهري قال: حدثني عوفُ بن مالك بن الطفيل هو ابن الحارث وهو ابن أخي عائشةَ زوج النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمِّها أن عائشةَ حُدثت أن عبدَ اللّه بن الزبيرِ قال في بيعٍ أو عَطاءٍ أعطَتْهُ عائشة: واللّهِ لتنتهينَّ عائشةُ أو لأحجُرَنَّ عليها، فقالت: أهو قال هذا ؟ قالوا: نعم، قالت: هو للّه عليَّ نَذْرٌ أن لا أُكلمَ ابنَ الزبيرِ أبداً. فاستَشفعَ ابنُ الزبير إليها حين طالتِ الهجرة، فقالت: لا واللّهِ لا أُشفِّعُ فيه أبداً ولا أتحنَّثُ إلى نَذري. فلما طال ذلك على ابن الزبير كلمَ المِسْوَرَ بن مَخرمةَ وعبدِ الرحمن بنَ الأسودِ بن عبدِ يَغوثَ - وهما من بني زُهرةَ - وقال لهما: أنشدُكما بالله لما أدخلتماني على عائشة فإنها لا يحلُّ لها أَن تَنذرَ قَطيعتي. فأقبلَ به المِسورُ وعبدُ الرحمن مُشتملَين بأردِيَتهما حتى استأذنا على عائشةَ فقالا: السلامُ عليك ورحمة اللّه وبركاته، أندخُلُ ؟ قالت عائشة: ادخلوا. قالوا: كلنا ؟ قالت: نعم ادخُلوا كلُّكم - ولا تعلمُ أنَّ معهما ابنَ الزبير - فلما دَخلوا دخلَ ابن الزبير الحجابَ فاعتنقَ عائشةَ وطَفِقَ يُناشِدُها ويبكي، وطَفقَ المسوَرُ وعبدُ الرحمنُ يُناشدانها إلا ما كلمته وقبِلْت منه، ويقولان: إن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عما قد علمتِ من الهجرة، فإنه لا يَحل لمسلم أن يَهجُرَ أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ، فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفِقت تذكِّرُهما وتبكي وتقول: إني نذرتُ، والنَّذرُ شديد. فلم يَزالا بها حتى كلمت ابنَ الزبير. وأعتقَتْ في نَذرِها ذلك أربعينَ رقبةً. وكانت تذكرُ نَذرَها بعدَ ذلك فتبكي حتى تَبُلَّ دموعُها خِمارَها.

وفي الصحيحين: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ قَالَ: (لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ. يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هذَا وَيُعْرِضُ هذَا. وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ).

وروى أحمدُ وأبو داود عن أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَمنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ). وعن أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةَ فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ).

وفي الصحيحين: عَنْ عَبْدِ اللّهِ بن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ (إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ. حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ. فإنَّ ذلك يَحْزِنَهُ).

وفي صحيح البخاري: عن عبد الله بن عمرَ رضيَ الله عنهما (أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أيما رجلٍ قال لأخيه يا كافر فقد باءَ بها أحدُهما). وعند مسلم عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِيْنَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ (أَيُّمَا امْرىٍء قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ. فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا. إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ. وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ).

وفي الصحيحين: عن أَبي هُرَيْرَةَ َقَالَ: َقَالَ رَسُولُ اللّهِ (لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ. فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ. فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ)، وفي رواية عند مسلم عَنِ ابْنِ سِيرِينَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ. حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ).

وفي مسند الإمام أحمد، حدثنا عبد الله، ثنا أبي ، ثنا حسن بن موسى قال: ثنا زهير، ثنا عمارة بن غزّية، عن يحيى بن راشد قال: خرجنا حجاجاً عشرة من أهل الشام حتى أتيتنا مكة، فذكر الحديث قال: فأتيناه فخرج إلينا - يعني ابن عمر - فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ حَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ، وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَيْسَ بِالدينَارِ وَالدرْهَمِ، وَلكِنْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيئَاتِ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ سَقَاهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ، وَلَيْسَ بِخَارِجٍ).



وإن الطامةَ العظيمةَ، والهلاكَ المبين، أن يُظاهرَ ويعينَ المسلمُ الكافرَ على إخوانه المسلمين قولاً أو فعلا. وجمهورُ أهلِ العلم يحكُمون بكفرِ المظاهرِ، والمعينِ، للكفار على المسلمين، دون أن يشترطوا محبةَ قلبهِ للكفار، ولدينهم. وحكى الإجماعَ ابنُ حزم وابنُ باز وغيرُهم من العلماء.

قال ابن حزم - رحمه الله - في المحلى: ’ وصح أنَّ قول الله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}. إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط، وهذا حقٌ لا يختلف فيه اثنان من المسلمين‘. وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - في مجموع الفتاوى: ’ وقد أجمع علماء الإسلام على أنَّ من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم.‘

ووافق الإمامُ محمد بن عبد الوهاب الجمهورَ، فعدَّ مظاهرةَ الكفار، ومعاونتهم على المسلمين، من نواقض الإسلام. والتي لا يُعذر فيها خائفٌ ولا مستهزئٌ، إلا المُكره المطمئن قلبُه بالإيمان.

وأهل السنة والجماعة متفقون أن الإيمانَ قولٌ وعمل ونية. وكذلك الكفر يكون بالقول أو بالفعل أو بالاعتقاد. ويكون سببه التكذيبُ، أو الجحود، أو الكِبرُ، أو الإعراض، أو حُبُ الدنيا وتقديمُها على الآخرة. وليس كلُ حبٍ للدنيا كفرا، ولكنْ الحبُ الذي يصل بصاحبه لقولِ أو فعلِ الكفر. كمن سبَّ الدينَ، أو انتقص الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا اعتقادا ولكن لأجل مال يُعطاه.

قال تعالى: {مَن كَفَرَ بِللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِلإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ منَ للَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.

قال شيخ الاسلام: ’ ونحن والناس كلهم يرون خلقاً من الكفار يعرفون في الباطن أن دين الإسلام حق، ويذكرون ما يمنعهم من الإيمان، إما معاداة أهلهم وإما مال يحصل لهم من جهتهم يقطعونه عنهم، وإما خوفهم إذا آمنوا أن لا يكون لهم حرمة عند المسلمين كحرمتهم في دينهم، وأمثال ذلك من أغراضهم التي يبينون أنها المانعة لهم من الإيمان، مع علمهم بأن دين الإسلام حق، ودينهم باطل.

وهذا موجود في جميع الأمور التي هي حق، يوجد من يعرف بقلبه أنها حق وهو في الظاهر يجحد ذلك، ويعادي أهله لظنه أن ذلك يجلب له منفعة ويدفع عنه مضرة. قال تعالى: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـرِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَـدِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهُـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـنِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَـلُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَـسِرِينَ}.

والمفسرون متفقون على أنها نزلت بسبب قوم ممن كان يظهر الإسلام وفي قلبه مرض، خاف أن يُغْلَبَ أهلُ الإسلام، فيوالي الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم, لا لاعتقادهم أن محمداً كاذب، واليهود والنصارى صادقون، وأشهر القول في ذلك أن عبادة بن الصامت قال : يا رسول الله إن لي موالي من اليهود وإني أبرأ إلى الله من ولاية يهود. فقال عبد الله بن أبي: لكني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية يهود فنزلت هذه الآية:

وقال الإمام ابن القيم: ’ وقال: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَـرِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَـنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأَْمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}.

وتبين أن موالاة الكفار كانت سبب ارتدادهم على أدبارهم - ولهذا ذكر في سورة المائدة أئمة المرتدين عقب النهي عن موالاة الكفار قوله: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَـرَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ}.

وقطع الموالاة بين اليهود والنصارى وبين المؤمنين، وأخبر أنه من تولاهم فإنه منهم في حكمه المبين، فقال تعالى وهو أصدق القائلين: {ياَ أيهاَ الذينَ آمنوا لا تتخذُوا اليَهُودَ وَالنصارى أوْلياءَ، بَعْضهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْض، وَمَنْ يَتَولهمْ منْكمْ فإنهُ منْهمْ، إن الله لا يَهْدي الْقَوْمَ الظالِميَنَ}.

وأخبر عن حال متوليهم بما في قلبه من المرض المؤدي إلىِ فساد العقل والدين فقال: { فَتَرى اْلذينَ في قُلوبهمْ مَرَض يُسارِعُونَ فيهِمْ يَقولون نَخْشى أنْ تصيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسى الله أنْ يَأتِيَ بِالْفتحِ أوْ أمْر مِنْ عِنْدِهِ فيصبِحوا عَلى ما أسَرُّوا في أَنْفسِهِمْ نادمين}.

ثمِ أخبر عن حبوط أعمال متوليهم، ليكون المؤمن لذلك من الحذرين، فقال تعالى: {ويَقُولُ الذينَ آمنوا: أهَؤلاَء الذِينَ أقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أيْماَنِهِمْ إنهُمْ لَمَعَكُمْ، حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ فَأصْبَحُوا خاسِرِين}.

ونهى المؤمنين عن اتخاذ أعدائهم أولياء، وقد كفروا بالحق الذي جاءهم من ربهم، وأنهم لا يمتنعون من سوء ينالونهم به بأيديهم وألسنتهم إذا قدروا عليه، فقال تعالى: {ياَ أيهاَ الذينَ آمنوا لا تتخذُوا عَدُوَي وَعَدوكُمْ أوْلياءَ، تُلْقُونَ إلَيهمْ بالْمَوَدة وَقَدْ كَفَرُوا بما جاءَكمْ منَ الْحَق} إلَى قوله: {إنْ تَثْقَفُوهمْ يَكُونوا لَكُم أعداءَ، ويبسَطُوا إليكمْ أيديَهُمْ وَألْسِنَتهمْ بِالسّوَءِ، وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}.

وجعل سبحانه لعباده المسلمين أسوة حسنة في إمام الحنفاء ومن معه من المؤمنين، إذ تبرئوا ممن ليس علىِ دينهم امتثالاً لأمر اللّه، وإيثاراً لمرضاته وما عنده، فقال تعالى: {قَدْ كانتْ لَكُمْ أسْوَةٌ حسَنَةْ في إبرَاهيمِ والذين مَعَهُ إذ قالوا لقَوْمهمْ: إنا بُرَآءُ منكُمْ وَمما تعبدون من دونْ الله ، كَفَرْنا بكُم وبدَا بينَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَة وَالبغضاءُ أبَداً حتى تُؤمِنوا بِالله وحْدَه}.

وتبرأ سبحانه ممن اتخذ الكفارَ أولياء من دون المؤمنين، وحذرَهُ نفسه أشد التحذير، فقال: {لا يتخذ الْمُؤْمنُونَ الْكافرين أوْلياءَ منْ دون الْمُؤْمنُينَ، وَمنْ يَفْعَلْ ذلكَ فَلَيْسَ من اللّه في شيءٍ إلا أنْ تتقُوا مِنْهُم تُقاَةً، وَيحَذِرُكُمُ اللهَ نَفْسَهُ، وَإلى اللّه الْمَصِير}.‘



فالحاصل، أن مَنْ أعانَ الكفارَ طمعاً أو خوفا، فهو منهم، حكمُه حكمُهم، في الدنيا والآخرة، على القول الراجح الذي عليه الجمهور.
لكنْ الجزمُ بالإجماع يتعذر القول به لأن بعضاً من أهل العلم اشترط لتكفير المظاهر أن يجتمع مع مظاهرته ومعاونته محبته للكفار ولدينهم.

وقد أنكر الإمام أحمد الإجماع الذي هو عدم العلم بالمخالف. وقال شيخ الإسلام : ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيرا أو غالبا، فمن ذا الذي يحيط بأقوال المجتهدين.‘

وكذلك يمنعُ القطعَ والجزمَ بكفرِ المُظاهرِ، الاختلافُ في حد الإكراه، وما يُبيحه الإكراه. فالله تعالى قد عذر المُكرهَ بالإتفاق قال تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تُقاة}. قال ابن جرير: ’ لما تقدم الخطاب في قوله (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، كأنهم أخذوا بعمومه حتى أنكروا على من كان له عذر في ذلك فنزلت هذه الآية رخصة في ذلك، وهو كالآيات الصريحة في الزجر عن الكفر بعد الإيمان، ثم رخص فيه لمن أكره على ذلك.‘

وسيأتي - إن شاء الله تعالى - مزيدُ بحثٍ لهذه المسألة عند بحث شبهة الإكراه.

وخلاصةُ القول، أن ظاهرَ النصوص الكثيرة، والذي رجحه الجمهورُ، أن المظاهرةَ، والمعاونةَ، الصريحةَ للكفار على المسلمين، دُونَ إكراهٍ، كفرٌ، ونِفاقٌ، وردةٌ، عن الدين . أما كونُ هذا الفعل كبيرة وذنبا عظيما قبيحا، فأمرٌ مجمعٌ عليه. لو لم تدل عليه النصوص الكثيرة لدلَّ عليه العقل والفطر السليمة.
والواجبُ الحذر، وعدمُ المسارعة في تكفيرِ معينٍ أو جماعةٍ، لابست ووقعت في هذا الجُرم. وذلك لوجود شبهة الإكراه وإن كانت ضعيفة، ولعدم تحقق الإجماع الثابت بيقين.

في الصحيحين: عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ. فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا، أَصْلَحَكَ اللّهُ، بِحَدِيثٍ يَنْفَعُ اللّهُ بِهِ، سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ فَقَالَ: دَعَانَا رَسُولُ اللّهِ فَبَايَعْنَاهُ. فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا، أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا. وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ. قَالَ: (إلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ).

زاد الإمام أحمد: (وأَنْ نَقولَ بالحقِّ حيثُ ما كُنَّا لا نَخَافُ في اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ). وكذلك فعل - رحمه الله تعالى - فقال بالحق: أن القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوق. وتحمل لأجل الحق الضربَ، والسجنَ، والأذى، حمايةً للدين من التبديل والتحريف. ونهى الناس عن الخروج على الإمام القائل بخلق القرآن - الذي دعا لهذا الكفر وفتن الناس حتى يقولوه - لوجود الشبهة، وللمفاسد، والاختلاف، والاقتتال بين المسلمين، الذي يقع بسبب الخروج عليه.

قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا، ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه. فناظرهم وقال: عليكم الإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دمائكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريحَ برٌّ، ويُستراحَ من فاجر.

إستوثقوا في الجزء الثالث

البراءة من الكفار .. وبغضُهم لكفرِهم

شامل
27-03-2005, 05:33 PM
مقال مهم يستحق القراءة
جزى الله خيراً صاحب الكتاب والمقدم له .

عاشق بغداد
27-03-2005, 09:56 PM
بالفعل الموضوع يستحق القراءة والمتابعة

مع التحية والتقدير ،،،،

صدام العرب
28-03-2005, 09:56 PM
في انتظار الجزء الثالث

شامل
29-03-2005, 06:10 PM
هاك الجزء الأول والثالث والرابع .


تقديم كتاب*

الإنتصار لأهل الفلوجة والجهاد

شبكة البصرة

تقديم عبد الله شمس الحق

لأبي عبد الله صلاح الدين بن محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ

الى كل من أراد أن يعرف موقعه من المجاهدين الشرفاء .. الى الباحثين عن الصفاء والنقاء.. ويحبوا بالكتاب والسنة والأولياء والصالحين الأقتداء .. الى منْ أرادَ الله ُ له البصيرة فيما يشاء .. الى كل من أحب أن يكون نفرا ً في الجنة بعد دار الفناء .. ويكون مع غلبة البرض - أي القلة- .. ويستيقن أنه ليس من أهل حَرَض - أي الفساد- ويكون منْ بين الذين على دينه قبض .. الى كل من يعبد الله الذي يراه وهو لايراه !! الى كل منْ يتمكر ويتنكر (أن الجنة تحت ظلال السيوف) .. وظنّ أموال الدنيا ُتنجيه من علقم الحتوف .. الى من يبتغي رحمة الرب الرؤوف ..! الى من أراد أن يسمو بالطاعة في الجهاد لأوامر القهار .. وينجي نفسه من الشبهات و الشوائب والأكدار ..! يوم لاعذر له في إتباع تفسيرات وفتاوي مبنية على شُبهات وبدع الجهلاء .. والسفهاء .. ولمن تغلغلوا في صفوف المسلمين وهم يضمرون له العداء .. وعماد الدين (المحمدي) هذا ، في المقام البادئ - أقرأ .. أقرأ .. أقرأ حتى يَتعظمُ الأيمان بدين محمد في نفوس القراء .. ويكتشف الحق بالأدلة الناصعة .. والبراهين القاطعة ..! ويجازيه الله خير جزاء ..! نتقدم لكل هؤلاء .. بنوع من التقديم المتواضع لكتاب (أبي عبد الله صلاح الدين بن محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ) - المعنون (الإنتصار لأهل الفلوجة والجهاد) .. من على شبكة البصرة الغراء .. التي يعود اليها الفضل والأجر .. في أن يكون مثل هذا الكتاب بين يدي قرائها الأعزاء .. أما بعد ، وليس عيباً أن نُقّر الخشية في (عرض الكتاب) .. كما هو مألوف .. ومعروف .. فأرتأينا تقديمهُ للقارئ كما هو بحبره وكلماته وسطوره ولكن بأجزاء ..! إذ هذا ماجرى لنا من قبل مع (المارد القادم) - للأستاذ أمين الحوامدة - واليوم عادت خشيتنا تتكرر مع كتاب - أبي عبد الله صلاح الدين آل الشيخ ).. الذي أتقن تسبيله الينا برصانة لغة القرآن .. والسنة النبوية الشريفة لقطع أحابيل أحزاب الشيطان !! حتى مايلبث القارئ المتوغل بين سطوره ..! يجدهُ كالجسر المستقيم لمن أراد عبوره ..! والله ليشهد كل قارئ لهذا الكتاب .. كما نحن شهدنا بعد غوصنا في كل قلمس من عيالمه (أي كل بحر من بحوره والمقصود هنا موضوعات الكتاب) كم نحن مقصرين في إيتاء حق هذا الدين العظيم ..! إذ سيجد القارئ في (قلمس - التولي والمحبة للمسلمين ) درة الله حقاً معلقا ً على رقاب المسلمين في قوله تعالى - : {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَـئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. ووجدنا حديث الرسول - ص - في قوله - : (أفْضَلُ الأعْمَالِ الْحُبُّ فِي الله وَالْبُغْضُ فِي الله) كالسلطان الآمر للمؤمنين والمؤمنات بالجهاد .. يوم يشتد إنخداع (المسلمين) بمخادع الكفار..! ويستبدلون حب الله .. بحب ( ُملهيات الجوف - أي المعدة - ومسيلات اللعاب ومزركشات الثياب .. وكل ما يثير حب الدنيا .. وملذات الشيطان في سبيل النفس الأمارة بالسوء .. ومالذ لها وماطاب..!! وفي (قلمس- الظلم والخذلان للمسلمين) - وجدنا وعَدَ الله في قوله تعالى - {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} .. يالها من آية تثلج صدور المؤمنين .. في أن الله لايهمل تعذيب أولئك ( المتزندقين المتخندقين بين المسلمين بأسم الدين والخونة والعملاء ) في الدنيا قبل الآخرة ..! ولانعتقد أن المتغابي والمتجاهل عن المفاسد والفواحش التي دخلت ( عراق البلاد ) مع المحتل وُمسانديه .. سيكونوا معفيين عن السؤال والعذاب !! وهذا ما قدمه المؤلف( أبي عبد الله آل الشيخ) بين صفحات كتابه (الإنتصار لأهل الفلوجة والجهاد) .. ليكون كمركب النجاة لمن أراد النجاة..! أما من بين الأحاديث التي وردت في قلمس من هذا الكتاب (الجهادي) وجعلنا أن نقف بعين باكية .. هو ذاك الحديث المبجل لقدرالرسول - ص - العارف بوحي من الله .. في أن يأتي زمان اليوم على أمته.. كما هو في فلسطين وأفغانستان والعراق وسواها من بلاد المسلمين .. ويظهر من ُيعين الأعداء والكفارعلى قتل المسلمين وإستباحة الديار ..! فأنذرّ- ص- في الحديث المقصود : ((من أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله)) ..! بل وربي أن الساعة تجري بهم بعُجالة !! لكنهم لايشعرون ..! أو فيما قاله الرسول كذلك -: (لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ. فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ. فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ)، وفي رواية عند مسلم عَنِ ابْنِ سِيرِينَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَة ٍ، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ)...! أما في (قلمس البراءة والبغض للكفار) من الكتاب .. والله أرجوا المعذرة من القارئ .. في أن أكون مقدما ً لشئ من درر الله التي إستشهد بها (المؤلف) ليريح كل نفس مضطربة .. علقت بين العوالق .. وأبتعدت عن الحقائق .. لتحتسر بين الضوائق!! فإنني تارك تلك الدرر كما بينها الكاتب - المؤلف - ليراها القارئ بجمال (عنقود الكرم) الذي يتدلى كالثريا في مكانه .. لم يمسه أحد ليفرط بشئ من حباته.. وهو بحق الحق كذلك هو في رصانة صياغاته بين المبتدأ والخبر كالعنقود المتلازم بين كلماته وعباراته وصفحاته وموضوعاته !! فكيف لي أن أحشر نفسي بين النفائس الألهية وقواعد محكمة في العبر!! وبعد .. لقد جهد الكاتب بأيتاء المعنى في الكلمة.. ورسم صفاء العبارات .. ليطلق الأيمان والتقوى ليخترق الفؤاد.. كأنه منشدا ً داعيا ً القارئ المؤمن وشأنه يقول - هاهنا النور إن إبتغيته قربا ً للجهاد في نيل حب الله .. وهاهناك الظلمات إن إبتغيتها مأوىً لقضاء الدنيا بالملذات والشهوات..!! ومن أجل أن يقينا (أبي عبد الله) - صاحب العقل الوفور.. وبرعم من براعم الحق في شجرة علم الرسول الأنطماس والأنغماس .. في وحل الشبهات (شبهة الوفاء بالعهود والمواثيق ، شبهة قصة حاطب رضي الله عنه ، شبهة الإكراه ، شبهة الديمقراطية ، شبهة المصلحة والضرورة ، شبهة اشتراط الراية) ..! تلك الشبهات المبتدعة التي يجرجر بها الأدعياء لمداهنة الأعداء ..! والدين منها براء !! بينّ (أبوعبد الله آل الشيخ) بترتيب العقلاء .. العلماء .. ومافي ديننا من صفاء ونقاء .. أنها شبهات .. لصقت بالدين الحنيف لأسباب الدنيا ومطامع النفس وسبل الهوى وخدمة الأعداء ..! فلا مفر للعاقل من أن يدرك الصواب قبل فوات الآوان .. ومنْ يأبى أن يتفهم حقيقة الدين .. حقيقة موجبات القرآن .. حقيقة سنة نبينا خاتم الأديان .. حقيقة التفسير ورجاحة التأويل .. مات مصرا ً على الكبائر ..! فيسقط بفعلته من رحمة الرحمن .. لقوله تعالى : (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) .. ومابالك أيها المسلم ..! أن للجهاد ثلاثة ضروب -(*) مجاهدة العدو الظاهر .. ومجاهدة الشيطان .. ومجاهدة النفس ..! وثلاثتها تدخل في قوله تعالى ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) .. فأما الجهاد الأكبر عينه الرسول - ص- في مجاهدة النفس .. نعم ياعزيزي القارئ .. الجهاد الأكبر في مجاهدة النفس .. لأختفاء العدو وطول وسوسته !! وما مجاهدة العدو (الظاهر) كما وصفه وبينه الرسول - ص - إلا الجهاد الأصغر ..!! إذن الويل كل الويل من عذاب الجبار ذو البطش الشديد .. فأين المسلم من الجهاد الأكبر وهو يتثاقل و يتجاهل ويتناسى (الأصغر) مع عدو ظاهر أمامه يغزو بلاده ويستبيح ماله ونساءه ويشييع الفاحشة لطمس إسلامه..!!

(*) للمزيد عن هذا الموضوع راجع - الترمذي ( فضائل الجهاد) ، البيهقي( شعب الأيمان ) ، أبن أبي الدنيا ( محاسبة النفس) ، العلجوني ( كشف الخفاء) ، وآخرون !

أما بعد ، اليكم جميعا ً .. حان قراءة الكتاب .. ونسأل الله أن يجعله في نفوسنا فتحا ً جديدا ً لضروب الجهاد !!

الجزء الأول

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله وليِ المؤمنين، الناصرِ لجُندِه المجاهدين، الموفيِ بعهدهِ لعبادهِ الموقنين، المُنْزِلِ السكينةَ على عبادهِ المقاتلين، الممُددِ بالملائكةِ المُسَوِّمين، المستجيبِ لاستغاثةِ المستغيثين، الهازمِ للكفرةِ المتحزبين، القاصمِ لرقابِ الجبابرةِ المستكبرين، الفاضحِ للمنافقين المرجفين. ثم الصلاة والسلام على نبيه محمدٍ الهادى إلى النور المبين، والصراط المستقيم، المُرسَلِ رحمةً للعالمين، وبالكتاب الحكيم، ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، ومن الشرك والشك إلى التوحيد واليقين، أيده الله بنصره وبالمؤمنين، وألقى الرعب في قلب عدوه القريب والبعيد. جعل أمته خير أمة أخرجت للناس، تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، وتدعوهم إلى الخير والنعيم.

أمةٌ بُغضُها وعداوتُها وقتالُها في الله ولله ، تُجاهدُ مَنْ حادَّ وكفر باللهَ ، وكذب وعصى رسوله، مِن الذين سلكوا سُبلَ الشيطان وأعرضوا عن سبيل الرحمن. تصبر وتصابر لأجله ممتثلةً أمرَ ربها، مطيعةً أمرَ رسولها، وتحقيقاً للعبودية والاستسلام الواجب عليها لله تعالى، وجلباً للمصالحِ العظيمة، والآثار الحميدة، ودرءً للمفاسد الكبيرة، والآثار الوخيمة. أمةٌ محبتها وولائها، وبُغضها وبرائتها، تبعا لمحبة الله تعالى وبغضه. والله تعالى أخبر أنه يحب المؤمنين ويتولاهم، وأنه يبغض الكافرين ويبرأ منهم.

أفتستقيم وتصح المحبة لله تعالى والعبد يحب من عاداه ومن آذاه؟ قد كذَّبَ اللهُ هذه الدعوى وردها، قال تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَـئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

وفي صحيح البخاري عنْ أَنسٍ رضيَ اللّه تعالى عنه قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمان: أَنْ يَكونَ اللَّهُ ورسولُه أحبَّ إليهِ مِمَّا سِواهُما، وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلاّ لله، وأنْ يَكرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفرِ كما يكرَهُ أنْ يُقذَفَ في النَّار). وفي السُنن حدثنا مُسَدَّدٌ أخبرنا خَالِدُ بنُ عَبْدِ الله أخبرنا يَزِيدُ بنُ أبِي زِيَادٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ رَجُلٍ عنْ أبِي ذَرٍّ قالَ قالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أفْضَلُ الأعْمَالِ الْحُبُّ فِي الله وَالْبُغْضُ فِي الله). وروي عن البراء قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوْثَقُ عُرَى الإِسْلاَم الحُبُّ فِي اللَّهِ وَالبُغْضُ فِي اللَّهِ).

وقيل شعرا:

تَوَدُّ عدوي ثُـمَّ تَزْعُــمُ أَنني صَدِيقُكَ ليسَ النَوكُ عَنْكَ بِعازِبِ



فالحب في الله ، والبغض في الله، هو من الدين الذي أمر الله به، وهو التولي للمسلمين، والبراءةُ من الكافرين. محبةٌ وتولٍ لها ضوابطها وقواعدها، وبغضٌ وبراءةٌ له أصول وشروط ، تحقق العدل والخير وتمنع الظلم والشر. منَّ اللهُ تعالى على المسلمين فأصبحوا بنعمته إخوانا متحابين متعاونين، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وحذرنا الفتنة العظيمة في الأرض والفساد الكبير متى ما اختلفنا وتفرقنا وتحزبنا وتدابرنا، قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وقال تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}. وأخبرنا الله تعالى - وقوله الحق - أن الكفار بعضهم أولياء بعض في عدواتهم وحربهم للإسلام وأهله، وأنهم يودون لو نكفر كما كفروا، وأنهم لا يزالون يقاتلوننا حتى يردونا عن ديننا، وأنهم لا يرضون عنا حتى نكفرَ بالله تعالى ونتبعَ ملتَهم وباطلهم.

هذه حقائقٌ، لا يجوز للمسلم أن يشك فيها، أو يتردد في تصديقها والإيمان بها، لأن الله تعالى هو الذي أخبرنا بها، وأمرنا الإيمانَ والتصديق بها، ولا ينقض هذه الحقيقة الكلية العامة ما يُظهرُه بعضُهم من التعاطف مع المسلمين ، فكثيرٌ منه سببه عدم قناعتهم بأسلوب القتال والإعتداء طريقا لتغيير المسلمين لدينهم. وبعضهم مداهنة لمن داهنهم من المسلمين قال تعالى: {ودوا لو تُدهن فيُدهنون}

واليوم ونحن نرى ما أخبرنا به رسولُنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحقق ويُشاهد من تداعي الكفار على المسلمين تماما كما تتداعى الأكلة على قصعتها. روى أحمد وأبو داوود، عن ثَوْبَانَ قال قال رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُوشِكُ الأُمَمُ أنْ تَدَاعى عَليْكُم كَمَا تَدَاعى الأكَلَةُ إلَى قَصْعَتِهَا، فقالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قالَ: بَلْ أنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثُيرٌ، وَلَكِنَّكُم غُثَاءُ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ الله مِنْ صُدُورِ عَدُوكُمْ المَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ الله في قُلُوبِكُم الَوَهْنَ، فقالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله وَمَا الْوَهْنُ؟ قالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ).

حُبٌ للدنيا أشغلنا وعلقنا بها، حتى ألهت وأنست - وهي المنغصُ عيشُها، المُكدرُ نعيمُها، الفانيةُ حياتُها، الغَرورُ متاعُها – عن آخرةٍ خالدين فيها أبدا، إمَّا في جنةٍ لا يزول نعيمُها ولا تنقطع لذتُها، أو نارٍ لا يُقضى على أهلها ولا يُخففُ من عذابها. حُبٌ أضعف النفوس والقلوب، فتركت الجهاد والقتال، واشتغلت بالزرع والمال، وتفرقت واختلفت وتحاسدت، حتى أسلمَ البعضُ البعضَ الآخر للعدو الغاشم، عساه يرضى عنها فيكف بأسه وشره، ويُمْهِلُها قليلاً لتلهو مزيداً وتلعب.

عدوٌ ظالمٌ كافر، تسلط بسبب ذنوبنا علينا. فالمصيبة تصيبنا من الله بسبب كسبنا وتفريطنا، {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ}. عدوٌ لنْ يرضى عنا أفراداً ودولاً حتى نتبع ملته وفكره ومنهجه، أو ننسلخ من ديننا ونترك شريعتنا وملتنا. وهذه طامةٌ، القتلُ أهونُ منها، قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} ، الفتنة الكفر بالله، قال ابن جرير في تفسيره: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركا بالله من بعد إسلامه أشدّ عليه وأضرّ من أن يقتل مقيما على دينه متمسكا عليه محقّا فيه.

استولت الجيوش الكافرة النجسة على كثير من بلاد الإسلام، آخرها أفعانستان والعراق، تحت دعاوى باطلة ودعايات مضللة، يخفون وراءها الغلَ والحقد الذي ملأ قلوبَهم على هذا الدين العظيم. فأسرع إليهم المنافقون، والذين في قلوبهم مرضٌ، مصدقين ومروجين لكذبهم وإفكهم. فصاروا صفا معهم وجندا لهم، وجعلوا من جيوش الكفرة الملحدين مخلصةً للمسلمين، من ظلم الظالمين، وطغيان المتكبرين. فصدَقَ فيهم قول الشاعر:

والمُستَجيرُ بعمروٍ عند كُربتهِ ***** كالمُستجيرِ من الرمضاءِ بالنارِ



فراعني تصديقُ بعضِ المسلمين هذا الإفك المبين والمكر العظيم. فمكرُهم مكرٌ كبيرٌ، تزول من هوله الجبالُ الراسيات. قال تعالى: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}، وقال تعالى: {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً}.

بُطلان هذه الدعوى الكاذبة ظاهرٌ بينٌ للعقلاء والمؤمنين. لأنها تخالف وتناقض ما تدل عليه الآيات المحكمات، والسنن الصحيحات، من عداوة الكفار وبغضهم للمسلمين، وهذا كافٍ للمؤمنين. ثم لأنها تتعارض مع الحقائق والوقائع والآثار والنتائج التي سمعها وشاهدها الناسُ نتيجةً لهذه الحروب.

ومع ظهور زيف هذه الدعوى ، فقد انبرى فريقٌ يتظاهر بالعلم والدين ، بالدعوة الى خِذلان المسلمين، وتسليمِهم لظلمِ وفتنةِ الكفرةِ المُلحدين، فنهوا عن مناصرة المجاهدين ، وعن الذبِّ عن حرمات المسلمين، فقالوا لإخوانهم المجاهدين لو أطاعونا ما قتلوا وما ماتوا. وتجاوز آخرون، حتى تعدوا الخذلان إلى مظاهرة الكفار على المسلمين ، جهلا منهم وغرورا ، فثبطوا المجاهدين ، وأرجفوا بصفوف المقاتلين، فحرَّمُوا ما أوجبَهُ الله تعالى من جهاد الكفار، وأوجَبُوا ما حرَّمَهُ الله تعالى من التسليم والانقياد للكفرة والمنافقين المرتدين .

جمعَ هؤلاء المفتونون، لتبربر هذا الفعل القبيح، والجرم العظيم، ما ظنوه دليلا يستترون به من الفسق والظلم والكفر والنفاق. فلبسوا به على الناس بعد أن زخرفوه، وأعانهم على التضليل كثرةُ الدعايةِ والترديدِ والتزيين. فوجد قبولا وتصديقا عند بعض الناس لموافقته للهوى، وداعي السلامة مِن ما يوجبُه الجهادُ من التضحية وبذل النفس والمال.

فرأيت حقاً لازماً، لمن أوجبَ اللهُ تعالى عليَّ محبتَهم ونصرتهم، أن أكتب هذا الكتاب، فمهدت ببيان ما أوجبه الله تعالى للمسلمين من الولاية، وللكفار من البراءة. ثم شرعتُ بالردِ على شبهاتٍ ستٍ واهيات، هن شبهة الوفاء بالعهود والمواثيق، وقصة الصحابي حاطب رضي الله عنه، والإكراه، والديمقراطية، والمصلحة والضرورة, واشتراط الراية.

وهي حجج كما وصفها الشاعر:

حججٌ تهافت كالزجاجِ تخالهـُا حقاً وكلٌ كاسرٌ مكسورُ



وسميته، الانتصار لأهل الفلوجة والجهاد، لأن الفلوجة أصبحت علما ورمزا للعزة والجهاد، وأهلها أهلٌ لقول الشاعر:



سأَغسِلُ عَنِّي العارَ بالسيف جالباً *** عليَّ قضـاءَ اللهِ ما كان جَالبا

وأذْهَلُ عَنْ دارِي وأَجعَلُ هَدْمَها *** لِعِرْضِيَ مِنْ باقِي المَذَمَّةِ حَاجِبَا

ويَصْغُرُ في عَيْني تِلادِي إِذا انْثَنَتْ *** يمَينِي بإدْراكِ الذي كُنْتُ طَالِبَا

فإِنْ تَهدِمُـوا بالغَدْرِ دَارِي فإنها *** تُراثُ كَرِيمٍ لا يُبَالِي العَـوَاقِبَا

أَخِي عَزَماتٍ لا يُرِيدُ عَلَى الَّذي *** يَهِمُ بهِ مِنْ مَقْطَعِ الأَمْرِ صَاحِبَا



وقول الراجز:

لا جزعَ اليومَ على قُربِ الأجلْ *** الموتُ أحلى عندنا من العسلْ

والنصرُ في العراق نصرٌ على رأس الكفر وعاموده. وأردته مساهمةً أعتذر بها يوم ألقى ربي، ومناصرةً حسب جَهدي وحيلتي، لأخواني المجاهدين في سبيل الله تعالى، في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، وغيرها من البلاد، عسى الله تعالى أن يعفو ويصفح ويجزي ويرفع.

واللهَ أسألُ أن أكونَ بذلك نلت سهما مع المجاهدين، الذين يجاهدون لتكون كلمةُ اللهِ هي العليا، وكلمةُ الذين كفروا السُفلى، الذين رفعهم الله على القاعدين درجات.



التولي والمحبة للمسلمين

المؤمن أخٌ وولي للمؤمن ، لا يكمل إيمانُه حتى يحبَ لأخيه ما يحبُه لنفسه، والولي كما قال أهلُ العربية: الصديق والنصير، وهو التابع المحب. والولي ضد العدو، والوَلاية النُصرة، والموالاة المناصرة ضد المعاداة.

قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}.

فللمسلمِ حقٌ واجبٌ على أخيه المسلم، أن يتولاه وينصره ويحبه، وأن لا يخذله أو يظلمه أو يسلمه لعدوه. حقٌ أوجبه الله تعالى وفرضه وأكده، دلت عليه الآياتُ البينات، والسننُ الصحيحات، وامتثله المهاجرون والأنصار، حتى آثروا على أنفسِهم ولو كان بهم خصاصة. فكانوا جميعا متآلفين متحابين متعاونين متناصرين، فملكوا الدنيا، ونشروا الخير، ورفعوا كلمةَ الله ، حتى صارت هي العليا، وكلمةُ الذين كفروا السفلى.

فمن الآياتِ الكريمات الآمرة، والمقررة، والدالة، والموجهة، لهذا التآخي والتآلف والمحبة بين المسلمين:

قولُه تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.

وقوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي لأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .

وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

وقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانا}.

وقوله تعالى: {ياأَيُّهَا االَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.



ومن الأحاديثِ الصحيحات، والسننِ الهاديات، ما في الصحيحين:

عن أبي بُرْدَةَ عن أبي موسى رضيَ اللهُ عنه عنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (المؤمنُ للمؤمنِ كالبُنيانِ يشُدُّ بعضُهُ بعضاً، وشَبَّكَ بينَ أصابعِه).

وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ. إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).

وعن قَتادةَ عن أنَسٍ رضي اللَّهُ عنهُ عنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حتى يُحِبَّ لأًّخِيه ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).

وعنْ أبي قِلابَةَ عنْ أَنسٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمان: أَنْ يَكونَ اللَّهُ ورسولُه أحبَّ إليهِ مِمَّا سِواهُما، وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلاّ لله، وأنْ يَكرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفرِ كما يكرَهُ أنْ يُقذَفَ في النَّار).

وفي صحيح البخاري: عنِ ابنِ شِهابٍ أنَّ سالِماً أخبرَهُ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما أخبرَهُ أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (المسلمُ أخو المسلمِ لا يَظلمُه ولا يُسلِمُه، ومَن كان في حاجةِ أخيهِ كان الله في حاجتهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسلمٍ كُربَةً فرَّجَ الله عنهُ كُربةً من كُرباتِ يومِ القيامةِ، ومَن سَتَرَ مُسلِماً سَترَهُ اللهُ يومَ القيامة).

وفيه حدَّثَنا مُسدَّدٌ حدَّثَنا مُعتمِرٌ عن حُمَيدٍ عن أنسٍ رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (انصُرْ أخاكَ ظالِماً أو مَظلوماً، قالوا: يارسولَ الله، هذا ننصُرهُ مَظلوماً، فكيفَ ننصُرهُ ظالِماً؟ قال: تأخُذُ فوقَ يدَيهِ).

وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: (إِنَّ اللّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِي. الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي. يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي). وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا. وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَينَكُمْ).

وروى الترمذي - وقال حديث حسن صحيح - حَدَّثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بنُ هِشَامٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بنُ بُرْقَانَ أَخْبَرنَا حَبِيبُ بنُ أَبي مَرْزُوقٍ عن عَطَاءِ بنِ أَبي رَبَاحٍ، عن أَبي مُسْلِمٍ الْخَوْلاَنِيِّ، حدثني مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: (قال الله عَزَّ وَجَلَّ: المُتَحَابُّونَ في جَلاَلِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ).

وفي مسند الإمام أحمد حدّثنا عبد الله حدَّثني أبي حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري عن شهر بن حوشب حدثنا عبد الرحمن بن غنم أن أبا مالك الأشعري جمع قومه فعلمهم صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: ( احفظوا تكبيري وتعلّموا ركوعي وسجودي فإنها صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي كان يصلي لنا كذا الساعة من النهار، ثم إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قضى صلاته أقبل إلى الناس بوجهه فقال: )يا أَيُّها النَّاسُ اسْمَعُوا واعْقِلُوا، واعْلَمُوا أَنَّ لله عزّ وجلّ عِبَاداً لَيْسُوا انْبِيَاءَ ولا شُهَدَاء، يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ والشُّهَدَاءُ عَلى مَنَازِلِهِمْ وقُرْبِهِمْ مِنَ الله(. فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله! انعتهم لنا، فَسُّرَ وجُه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسؤال الأعرابي.

فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: )هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ ونَوَازِعِ القَبَائِلِ لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا في الله وتَصَافُوا، يَضَعُ الله لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُوراً، وثِيَابَهُمْ نُوراً، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ الله الذينَ لا خَوْفَ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون(.



جاء فضيل الى أبي إسحاق السبيعي بعدما كف بصره، فقال تعرفني؟ قال: فضيل؟ قال: نعم. فضمه الى صدره وقال إني والله أُحبك، ولولا الحياء لقبلتك، ثم قال حدثني أبو الأحوص عن عبد الله (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) نزلت في المتحابين.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ’ فإن المؤمنين أولياء الله، وبعضهم أولياء بعض، والكفار أعداء الله، وأعداء المؤمنين. وقد أوجب الموالاة بين المؤمنين، وبين أن ذلك من لوازم الإيمان، ونهى عن موالاة الكفارة، وبين أن ذلك منتف في حق المؤمنين، وبين حال المنافقين في موالاة الكافرين.‘

قال ابن المقفع: ’ إذا نابت أخاك إحدى النوائب من زوال نعمة، أو نُزولِ بليةٍ، فاعلم أنك قد أُبتليت معه، إما بالمواساة فتشاركه في البلية، وإما بالخذلان فتحتمل العار.‘

قال الشاعر:

إنَّ أخاكَ الصِدق مَنْ يَسْعَى مَعكْ *** ومَنْ يضُرُّ نفسَه لينفعَـكْ

ومَنْ إذا ريـبُ الزمـان صدَّعك *** شتتَ شملَ نفسَه ليجْمَعك

أطلعوا في الجزء الثاني
الظلم والخذلان للمسلمين

شامل
29-03-2005, 06:12 PM
كتاب

الإنتصار لأهل الفلوجة والجهاد

شبكة البصرة

تقديم عبد الله شمس الحق

لأبي عبد الله صلاح الدين بن محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ

الجزء الثالث

البراءةُ من الكفارِ وبغضُهم لكُفرِهم

البراءةُ هي التنـزهُ والتباعد والتخلص ، تقول العرب نحن منك البراء والخلاء. وتكون بمعنى الإعذار والإنذار، ومنه قوله تعالى: {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ}. وهذه البراءةُ والبغضُ الواجبُ على المسلم نحو الكافر، أمرٌ أوجبه اللهُ تعالى في كتابه وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وله ضوابطٌ وقواعدٌ تمنعه أن يكون ظلما وبغيا، وتجعله لمن تأمله رحمةً للكافرين. فبالجهاد دخلت أممٌ في الإسلام فنجوا بذلك من النار، وبالجهادِ تخلصت أممٌ من الظلم والطغيان، ومن التضليل والصد عن الحق، فوصلت إليهم الدعوةُ بينةً واضحة، فمن ضلَّ منهم من بعدُ, ضلَّ عن بينةٍ وعصبية وتقليد، ومن أهتدى منهم اهتدى باختياره ورضاه دون إكراه وإلزام.

وفي الأمر ببغضهم، وعدمِ إكرامِهم وتقريبهم وتصديرهم، مصلحةٌ للمسلم، بتحقيقه العبودية لله تعالى، فلا يجتمعُ في قلبه محبةُ الله تعالى ومحبة عدوه. وفيه أيضا لمَِن فقِهَ مقاصد الشارع مصلحةٌ للكافر، فيعرف ويعلم أن نقصَه وصغاره عند المسلمين سببُه كفرُه بالله العظيم، لا للونه ولا لجنسه ولا لشيء آخر. فيكون ذلك سبباً يحركه للسؤال والعلم والإيمان.

ولا يمنع هذا البغضُ الديني للكافر أن يجتمعَ معه البرُ والإحسان والعطف، إذا كان الكافرُ قريبا، أو زوجة، أو ذا وُدٍّ وإحسانٍ للمسلمين. فالكتابية العفيفة الحُرة تَحِلُ زوجةً للمسلم، ويكون بينهما المودة والرحمة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. فلها في قلب زوجها مودةٌ ورحمةٌ سببه الزواج، وبغضٌ وكُرهٌ للكفر والشرك الذي فيها. فإذا تعارض الأمران، قُدم البغض الديني على المحبة الدنيوية. قال ابن حجر في بلوغ المرام: ’ عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ، تَشْتِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَعُ فِيْهِ، فَيَنْهَاهَا، فَلاَ تَنْتَهِيْ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَخَذَ المِعْوَلَ، فَجَعَلَهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا، فَقَتَلَهَا، فَبَلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (أَلاَ اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرُوَاتُهْ ثِقَاتٌ.‘



قد دلَّ على وجوب هذه البراءة والعداوة، الآياتُ البينات، التي تأمر وتصف المؤمنين بذلك، وتحذرهم ضده من الموالاة لهم والمحبة والمظاهرة، وتنهاهم عن الطاعة والركون والمودة، وعن اتخاذهم بطانةً من دون المؤمنين، وتخوفُهم مغبَّةَ ذلك عليهم في الدنيا والآخرة، وتَسِمُ من فعله بالنفاق، وأنه معدودٌ من الكفار، وأنه ليس من الله في شيء.

منها قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ}.

وقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الأَْخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّـارُ مِنْ أَصْحَـابِ الْقُبُورِ}.

وقوله تعالى: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ أبَآءَكُمْ وَإِخْوَنَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَـنِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّـلِمُونَ}.

وقوله تعالى: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـبَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

وقوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأَْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيمَـنَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّـتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَـئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

وقوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً من دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}.

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ}.

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناًً}.



وآياتٌ تَسِمُ المنافقين وتصفهم بتولي ومحبةِ الكافرين، ومظاهرتهم على المسلمين. بغضا للدين والإسلام والمسلمين عند قوم، وهذا الكفر الصريح، والدرك الأسفل من النار. وخوفا ومحبة للدنيا عند آخرين، وحب الدنيا وتقديمها على الآخرة قد يُوصل صاحبَه إلى الكفر. قال تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى لآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.

فالكفرُ كفرٌ سببه الكِبرُ والعلو، ككفر أبليسَ وفرعونَ ومن شابههم. وكفرٌ سببه الجحود والتقليد والتعظيم للسادة والأباء، ككفر قريشٍ ومن شابههم. وكفرٌ سببه الإعراضُ والجهل، ككفر عبدةِ الأضرحة والقبور يسمعون القرآن والسنة والنذير من العلماء والدعاة، فيعرضون عن التعلم والتفقه والسؤال. وكفرٌ سببه تقديمُ الدنيا على الآخرة، فيعتقد أو يعمل أو يقول الكفر ليتزوج كافرةً أعجبته، أو ليكسب جاها ومالا.

قد ملكَ حُبُ الدنيا قلبَه، فكان إلاهه هواه. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}. وقال تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ}.

هذا الحبُ والاغترارُ بدار الغُرورِ، أنسى صاحبَه الآخرة، والجنة والنار، ككفر الذي آتاه اللهُ الآياتِ، والعلمَ، والبينات، فانسلخ منها واتبع الشيطان. قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}. قال ابن جرير في تفسيره: ’ عن ابن عباس قال: لما نزل موسى عليه السلام يعني بالجبارين ومن معه. أتاه - يعني بلعم - بنو عمه وقومه، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا. فادع الله أن يردَّ عنا موسى ومن معه قال: إني إن دعوت اللهَ أن يردَّ موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه اللهُ مما كان عليه، فذلك قوله: فانْسَلَخَ مِنْها فَأتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوِينَ ‘. وقال أيضا: ’ اختلف أهل التأويل فيه فقيل رجل من بني آسرائيل اسمه بلعم أو بلعام، وقيل هو أمية بن أبي الصلت‘.

ومنها قوله تعالى: {بَشرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً}.

وقوله تعالى: {يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ منكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ منْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِيأَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ}.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَـرِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَـنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأَْمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}.

وقوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً منْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِي وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَـكِنَّ كَثِيراً منْهُمْ فَاسِقُونَ}. قال مجاهد: يعني بذلك المنافقين، وقال غيره بني آسرائيل، والعبرةُ - كما قال أهل التفسير - بعموم اللفظ لا خصوص السبب. فلكلِ مَنْ أتصف بتولي الكافرين نصيبٌ من هذا الذم والوعيد.

قال ابن كثير: ’ وقوله: لبئس ما قدمت لهم أنفسهم، يعني بذلك موالاتهم للكافرين، وتركهم موالاة المؤمنين التي أعقبتهم نفاقاً في قلوبهم، وأسخطت الله عليهم سخطاً مستمراً إلى يوم معادهم، ولهذا قال: أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فسر بذلك ما ذمهم به، ثم أخبر أنهم وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَـالِدُونَ يعني يوم القيامة.‘

وفي قصة إبراهيمَ والذين معه - قيل هم أتباعه، وقيل هم الأنبياء، وكلاهما صحيحٌ - عبرةٌ وأسوة حسنة للمؤمنين، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ منْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً للَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. قال ابن كثير في تفسيره للآيات: ’يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، أي وأتباعه الذين آمنوا معه إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بَرَاء مّنكُمْ، أي تبرأنا منكم وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ، أي بدينكم وطريقكم وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً، يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم، مادمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد.

وقوله تعالى: إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأًّبِيهِ لأّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، أي لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا في استغفار إبراهيم لأبيه، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ويقولون إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}‘.

ولنا أيضا عبرةٌ وأسوةٌ حسنةٌ في أصحاب الكهف مع قومهم، وفي عبيدة بن الجراح مع أبيه، ومصعب بن عمير مع أخيه، وغيرهم كثير ممن نفى حبُ الله تعالى من قلوبهم حبَ وموادةَ من عادى الله وكفر به.



ومن المهم جدا في ختام هذا الفصل، التذكيرُ والتأكيدُ على أن هذه العداوةَ والبغضاء للكفار، يصاحبها العدلُ والإنصاف، والنُصحُ ومحبة الهداية والإيمان للناس أجمعين. والبرُ والإحسان لمن لم يحاربْ منهم ويظلم ويعتدي على الإسلام وأهله.

ففي الصحيح: عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (بينا رجلٌ يَمشي فاشتدّ عليه العَطَشُ، فنَزَلَ بِئراً فشَرِبَ منها، ثمّ خرَجَ فإذا هو بكَلْبٍ يَلْهَثُ يأكُلُ الثّرَى مِنَ العَطَشِ، فقال: لقد بَلَغَ هذا مِثْلُ الذي بَلَغَ بي. فمَلأَ خُفَّهُ ثمّ أمسَكَهُ بفيه، ثمّ رَقِيَ فسَقَى الكلْبَ، فشَكَرَ اللهُ لهُ فغَفَرَ له. قالوا: يارسول الله، وإنّ لنا في البهائِمِ أجْراً ؟ قال: في كلّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجر).

والمؤمن لا يظلم ولا يخون ولا يغدر، قال تعالى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. قال ابن جرير: ’ لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ من أهل مكة وَلم يُخْرِجوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أنْ تَبرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ، يقول: وتعدلوا فيهم بإحسانكم إليهم، وبرّكم بهم. واختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية، فقال بعضهم عُني بها: الذين كانوا آمنوا بمكة ولم يهاجروا، فأذن الله للمؤمنين ببرّهم والإحسان إليهم ... وقال آخرون: عُنِي بها من غير أهل مكة مَنْ لم يهاجر ... وقال آخرون: بل عُنِي بها من مشركي مكة من لم يقاتل المؤمنين، ولم يخرجوهم من ديارهم، قال: ونسخ الله ذلك بعدُ بالأمر بقتالهم ... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرُّوهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، إن الله عزَّ وجلَّ عمَّ بقوله الَّذِينَ لَمْ يُقاتلُوكُمْ فِي الدّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكمْ مِنْ دِيارِكُمْ جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصُصْ به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بِرَّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرَّم ولا منهى عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكُراع أو سلاح. قد بين صحة ما قلنا في ذلك، الخبر الذي ذكرناه عن ابن الزبير في قصة أسماء وأمها، وقوله: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ يقول: إن الله يحبّ المنصفين الذين ينصفون الناس، ويعطونهم الحقّ والعدل من أنفسهم، فيبرّون من برّهم، ويُحْسنون إلى من أحسن إليهم.‘

وقال القرطبي في تفسيره: ’ قال أكثر أهل التأويل: هي محكمة. واحتجوا: بأن أسماء بنت أبي بكر سألت النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل تَصلُ أمّها حين قدِمت عليها مشركة؟ قال: (نعم) خرَّجه البخاري ومسلم.‘

فالشارع الحكيم الرحيم يريد للناس الخير والهداية، والنجاة من الكفر والنار. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَينَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَففَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}.

يقول ابن كثير في تفسيره: ’ يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً، أي محبةً بعد البغضةِ, ومودة بعد النفرة، وأُلفةً بعد الفرقة وَاللَّهُ قَدِيرٌ، أي على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمتباينة والمختلفة فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة فتصبح مجتمعة متفقة.‘

وقال البخاري في صحيحه: ’ بابُ إِثمِ مَنْ قَتلَ مُعاهِداً بغير جُرمٍ‘. وذكر فيه حديث مجاهدٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو رضيَ اللهُ عنهما عنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (مَن قَتلَ مُعاهِداً لم يرحْ رائحةَ الجنة، وإِنَّ ريحَها توجَدُ من مَسيرةِ أربعين عاماً).

قال الفقيه شمس الدين ابن قدامة - رحمه الله تعالى - في كتابه الشرح الكبير: ’ أن الأمانَ إذا أُعطيَّ لأهل الحرب حَرُم قتْلُهم ومالهم والتعرُّضُ لهم، ويصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكرا كان أو أنثى حرا كان أو عبدا .. ولنا ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) رواه البخاري وروى فضيل بن يزيد الرقاشي قال جهز عمر بن الخطاب جيشا فكنت فيه فحضرنا موضعا فرأينا أنا سنفتحها اليوم وجعلنا نقبل ونروح فبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب فقال العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم رواه سعيد .. قالت عائشة إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز وعن أم هانىء أنها قالت يا رسول الله إني أجرت أحمائي وأغلقت عليهم وإن ابن أمي أراد قتلهم فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء إنما يجير على المسلمين أدناهم رواهما سعيد وأجارت زينب بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا العاص بن الربيع فأمضاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... قال: ومَنْ لَقِيَ عِلجاً فقال له قف أو ألق سلاحك فقد أمنه ... فصل: وإذا دخل حربي دار الإسلام بغير أمان نظرت فإن كان معه متاعٌ يبيعه في دار الإسلام وقد جرت العادة بدخولهم إلينا تجارا بغير أمان لم يُعرضْ لهم وقال أحمد إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم فيه تجارٌ مشركون من أرض العدو يريدون بلاد الإسلام لم يعرضوا لهم ولم يقاتلوهم وكل من دخل بلاد المسلمين من أهل الحرب بتجارة بويع ولم يسأل عن شيء ... ويصح أمان الإمام للأسير بعد الاستيلاء عليه لأن عمر رضي الله عنه لما قدم عليه بالهرمزان أسيرا قال لا بأس عليك ثم أراد قتله فقال له أنس قد أمنته فلا سبيل لك عليه وشهد الزبير بذلك فعدوه أمانا رواه سعيد ... ولا يجوز عقد الهدنة ولا الذمة إلا من الإمام أو نائبه لأنه عقد مع جملة الكفار وليس ذلك لغيره ولأنه يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة على ما قدمناه ولأن تجويزه لغير الإمام يتضمن تعطيل الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية وفيه افتيات على الإمام.

فإن هادنهم غيرُ الإمام أو نائبه، لم يصح، وإن دخل بعضهم دار الإسلام بهذا الصلح كان آمنا لأنه دخل معتقدا للأمان، ويُردُ إلى دار الحرب، ولا يقر في دار الإسلام، لأن الأمانَ لم يصح.‘

فانظر - رحمك الله تعالى - إلى هذا الاستدلال بالأدلة الصحيحة، والفقه والاستنباط السليم منها، وإلى النظر الدقيق في المصالح والمقاصد. لتعلم الإثمَ العظيمَ، والخطأَ البينَ، الذي وقع فيه من تعدى فظلم أو قتل الكافر المستأمن. فأساء إلى نفسه بارتكاب الكبيرة, وإلى خُلقه ومروءته بارتكابه الغدر والخيانة، وإلى مصالح المسلمين جميعا برأيه وتقديره.

فكما لا تفريطَ وتهاونَ في البراءة والعداوة، فكذلك لا إفراطَ وغلوَ فيها، يعارض ويصادم النصوص الصريحة الدالة على تحريم الغدر والخيانة وقتل المعاهد. ويسوق صاحبَه إلى معارضة المقاصد الشرعية والمصالح المعتبرة المرعية فيوقعه في الإثم والحرج.

تابعوا في الجزء الرابع

شبهة الوفاء بالمواثيق مع الكفار

شامل
29-03-2005, 06:15 PM
كتاب*

الإنتصار لأهل الفلوجة والجهاد

شبكة البصرة

تقديم عبد الله شمس الحق

لأبي عبد الله صلاح الدين بن محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ

الجزء الرابع

شبهة الوفاء بالمواثيق مع الكفار

هذه شبهةٌ أُسِستْ على التصحيح والرضا بميثاق باطل ظالم. فإن زعموه عقداً صحيحاً مُلزما، قيل فقد نقضوه هم ونكثوه، وخالفوا ما ألزموا به المسلمين ظُلما. فإن غالط بالباطل أحدٌ فقال ما نقضوه ولا نكثوه، قيل فقد وجب إذن نقضُه على المسلمين، بعد الذي فعلوه من احتلال البلاد واستحلال الدماء.

قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}. فهل هؤلاء الكفرة لم ينقصونا شيئا، هل يقوله عاقلٌ وهم لم يُبقوا شئيا إلا وقد فعلوه، من غزو وقتل ونهب وظلم. حتى حقَّ عليهم قوله تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ}.



فزعموا أنْ بيننا وبين الكفار عهود ومواثيق، فليس لنا أن نخلفها ونقطعها، والله تعالى يقول: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}. ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. فاستدلوا بهذه الآية الكريمة على أن الوفاء بالعهد للكفار يُوجبُ عدمَ مناصرة المسلمين المعتدى عليهم في العراق وأفغانستان وغيرها من البلاد. بل ذهب بعضهم يسوقها مستدلا بها في الاعتذار لمن ظاهر الكفار وأعانهم على المسلمين.

هذه هي شبهتهم التي استدلوا بها، وفرحوا بها وقعدوا، عن نُصرة المسلمين المستضعفين، الذين غزاهم الكفار في بلادهم فاستلبوها منهم، وسفكوا دماءهم، وهتكوا أعراضهم، واستلبوا أموالهم. ويسعون جاهدين ليولوا عليهم مَنْ يفتنهم عن دينهم، ويحكم فيهم بالكفر والطاغوت، ويظهر ببلادهم الكفر والشرك والفجور.

فسبحان الله كيف يُستدلُ بالآية الكريمة في مثل هذا الوضع والواقع والحال. وهل يستدل به إلا من كان في قلبه زيغٌ وهوىً وإيثارٌ للدنيا على الآخرة. أو من كان مصدقا للكذب والتضليل الذي تلقيه شياطين الإنس من الكفرة والمنافقين.



إن من التلبيس والتحريف الاستدلال بهذه الآية للتخذيل والنهي عن مناصرة المسلمين، أو الإرجاف والفتنة في صفوفهم بدعوتهم إلى ترك الجهاد والتسليم للكفار. أو التشكيك في صدقهم وقوتهم وصلاح دينهم، فهذا فعل المنافقين. قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. وقال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً}. وقال تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} . قال ابن جرير: ’لم يزيدوكم بخروجهم فيكم إلا فسادا وضرّا ولذلك ثبطتهم عن الخروج معكم ... يطلبون لكم ما تفتنون به عن مخرجكم في مغزاكم، بتثبيطهم إياكم عنه.‘



أما مَن استدل بالآية للقعود عن مناصرة المسلمين معتذرا بعهده معهم. فاستدلالٌ بعيدٌ كُلَّ البعدِ عن ما دلت الآية عليه، مخالفٌ لما اتفق عليه المفسرون في تفسيرهم لها، مجانبٌ لأصول الاستدلال الصحيح، والفقه والفهم السليم. فالذي يفهمه القارئ للآية من ظاهرها، والذي اتفق المفسرون عليه، أن الذين آمنوا وهاجروا - وهم المهاجرون - والذين آووا ونصروا - وهم الأنصار - بعضُهم لبعضٍ أولياءٌ في وجوب النُصرة والمظاهرة. والذين آمنوا ولم يهاجروا، وهم الأعراب الذين بقوا بباديتهم وبدار الحرب ، فهؤلاء الأعراب ، ومن في حكمهم ، ممن لم يهاجر من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، إن استنصروا المسلمين في قتال الكفار المعاهدين، فلا تجب نصرتهم.

ومن المعلوم أن الهجرة لا تكون إلا من بلد الكفر إلى بلد الإسلام. فهل المجاهدون اليوم في العراق أو فلسطين أو أفغانستان أو الشيشان، بلادهم بلاد كفر تجب الهجرة منها، فقصروا في ترك الهجرة حتى نُسقطَ حقهم في وجوبِ النُصرة لهم من بقية المسلمين ؟

وهل يقبلهم بلدٌ مسلم فينحازوا إليه ويقاتلوا منه ؟ أو يُهاجروا إليه حتى يسلموا من الفتنة في دينهم، ويحفظوا دمائهم وأعراضهم وأموالهم؟

وهذه أقوال أئمة التفسير أسوقها ليظهر شذوذ هذا القول وبعده عن الحق والصواب. قال ابن جرير: ’ يعني بقوله تعالى ذكره: والَّذِينَ آمَنُوا الذين صدقوا بالله ورسوله، ولَمْ يُهاجِرُوا قومهم الكفار، ولم يفارقوا دار الكفر إلى دار الإسلام. ما لَكُمْ أيها المؤمنون بالله ورسوله المهاجرون قومهم المشركين وأرضَ الحرب، مِنْ وَلايَتِهِمْ يعني: من نصرتهم وميراثهم، وقد ذكرت قول بعض من قال معنى الولاية هاهنا الميراث، وسأذكر إن شاء الله من حضرني ذكره بعد. مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا قومهم ودورهم من دار الحرب إلى دار الإسلام. وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ يقول: إن استنصركم هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا في الدين، يعني بأنهم من أهل دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين، فعليكم أيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار النصر، إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم ميثاق، يعني عهد قد وثق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه.‘

وقال القرطبي في تفسيره: ’ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ، يريد إن دعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من أرض الحرب، عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم. إلا أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليهم، ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدّته. قال ابن العربي: إلا أن يكونوا أسراء، مستضعفين، فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة، حتى لا تبقى منا عين تطرِف حتى تخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم. كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ما حلّ بالخلق في تركهم إخوانَهم في أسر العدوّ وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال والقدرة والعدد والقوّة والجَلَد ... ثم قال: إِلاَّ تَفْعَلُوهُ، وهو أن يتوَلّى المؤمنُ الكافرَ دون المؤمنين تَكُنْ فِتْنَةٌ، أي محنة بالحرب، وما انجرّ معها من الغارات والجلاء والأسر. والفسادُ الكبير ظهور الشرك.‘

وقال ابن كثير: ’ مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ، هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا، بل أقاموا في بواديهم، فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب، ولا في خمسها إلا ما حضروا فيه القتال.‘

وكذلك قاله الشوكاني، والبغوي، والثعالبي، والشوكاني، والشنقيطي، وغيرهم رحمهم الله تعالى.

هذا هو تفسير الآية الكريمة الذي أتفق عليه أئمة التفسير. فكيف ساغ لهؤلاء المتحذلقين أن ينزلوا أهل الجهاد في العراق وغيره منزلة من آمن ولم يهاجر ؟

لا أظنهم وهم يستدلون بالآية لترك المناصرة، بل وللتخذيل عنهم، وللمظاهرةِ عليهم، يجهلون ما أتفق عليه أئمة التفسير. ولكنْ هوىً وركونٌ إلى الأرض، وخوفٌ على دنياً تزول، أذهل عن الحق وصرف عنه.

وأهلُ العلم متفقون أن النُصرةَ واجبةٌ للمسلمين، متى لم تكن منهم كفاية وقوة على رد الكفار عن بلادهم. فالجهاد فرض عين على من نزل العدو ببلده. وفرضُ كفايةٍ على الآخرين، ينقلب ويصير فرضَ عينٍ عليهم إذا لم تحصل الكفاية والقوة والمنعة بأهل البلد حتى تتحقق الكفاية لهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجهاد وأنه يكون تارة طلبا، وتارة دفعا: ’يجب ابتداء ودفعاً. فإذا كان ابتداء، فهو فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين، وكان الفضل لمن قام به، كما قال الله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىا وَفَضَّلَ اللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً}.

فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين، فإنه يصير دفعه واجباً على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين، لاعانتهم، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـهَدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلـيَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ في الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. وكما أمر النبـي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنصر المسلم، وسواء كان الرجل من المرتزقة للقتال أو لم يكن.

وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب، كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد، كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو، الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج. بل ذم الذين يستأذنون النبـي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً}.

فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار، وذلك قتال اختيار : للزيادة في الدين وإعلائه، ولإرهاب العدو، كغزاة تبوك ونحوها.

وقال رحمه الله تعالى مبينا أن ترك المناصرة، والخوف من الكفار نوع من الشرك: ’ وكلما قوي التوحيد في قلب العبد قوي إيمانه وطمأنينته، وتوكله، ويقينه. والخوف الذي يحصل في قلوب الناس هو الشرك الذي في قلوبهم، قال الله تعالى: {سَنُلْقِى في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَـناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}. وكما قال الله جل جلاله في قصة الخليل عليه السلام: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}، إلى قوله: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ}.

وفي الحديث الصحيح، (تعس عبد الدينار! تعس عبد الدرهم! تعس عبد الخميصة! تعس عبد الخميلة! تعكس وانتكس! وإذا شيك فلا انتقش). فمن كان في قلبه رياسة لمخلوق ففيه من عبوديته بحسب ذلك. فلما خوفوا خليله بما يعبدونه ويشركون به - الشرك الأكبر كالعبادة - قال الخليل: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَْمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، يقول: إن تطيعوا غير الله، وتعبدون غيره، وتكلمون في دينه ما لم ينزل به سلطاناً، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ أي تشركون بالله ولا تخافونه وتخوفوني أنا بغير الله فمن ذا الذي يستحق الأمن إلى قوله: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ}، أي: هؤلاء الموحدون المخلصون، ولهذا قال الإمام أحمد لبعض الناس: لو صححت لم تخف أحداً.‘

فحبُ الدنيا والخوف عليها، يُضعفُ العبوديةَ الواجبة لله تعالى، ويصرفه عبودية للدنيا. ومقدار ما ينصرف من عبودية الله إلى عبودية الدنيا يتناسب مع مقدار هذه المحبة للدنيا ولزُخرفها في قلب العبد، حتى إذا غلبت جرت إلى الإثم، فإذا زادت أوقعت في الكبيرة ثم الشرك والكفر. قال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً}. قال قتادة: ’ من كانت الدنيا همّه وسَدَمَه وطلبته ونيته، عجَّل الله له فيها ما يشاء، ثم اضطّره إلى جهنم.‘

شبهة قصة الصحابي البدري حاطب بن أبي بلتعة

القصةُ المشهورة للصحابي البدري حاطبِ بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه، والتي نزل بسببها قولُ الحق تبارك وتعالى: {يأَيُّهَا لَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ}.

حُمِّلت القصةُ من أهل الأهواء ما لا تحتمله، ووضعت في غير موضعها، وقيس عليها ما لا يُشابهها ولا يُماثلُها. معرضين عن النصوص الصريحة الكثيرة التي تجعل المظاهرَ للكفار منهم، وأنه ليس من الله في شيء، وأنه من أهل النفاق ومرضى القلب. ومتغافلين عن ما خصَّ اللهُ به أهلَ بدرٍ من مغفرة الذنوب، وما خُصَّ حاطبٌ من تصديق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له حين اعتذر بعذره. بل تعدى بعضُهم فلم يكتفي بالاستدلالِ بها على عدم كفر المظاهر، بل للإعتذار للمظاهرِ والتهوينِ من قبيحِ صنيعِه.

هذه شبهتُهم أسوقها، ثم أبينُ - بعون الله تعالى - بطلانَ الاستدلالِ بها في الاعتذار لمن ظاهر الكفار بنفسه، أو ماله، أو قوله، مظاهرةً يتقوى بها الكفارُ، ويضعفُ بسببها أهلُ الإسلام. قالوا هذا الصحابي البدري حاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه، أفشى سرَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعث إلى أهل مكة يُنذرهم بعزم المسلمين على غزوهم. فكان بفعله مظاهراً للكفار على المسلمين، معيناً لهم عليهم، ومع هذا لم يكفره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل عذره وصفح عنه.

وقال لأصحابه لا تقولوا له إلا خيرا حينَ أعتذر حاطبٌ بأن ما فعله ليس رغبةً عن الإسلام، ولا رضاً بالكفر، ولكنْ أرادَ بذلك يداً عند الكفار يحمي به قرابتَه وأهله، من بطشهم وانتقامهم. فظاهرَهُم لحظٍ دنيوي، وقلبُه مطمئن بالإيمان. فكان فعلُه معصيةً وذنباً لا يصِلُ به إلى الكفر والارتداد. هذه شبهتُهم التي استدلوا بها على عدم كفر المظاهر, والمناصرِ, للكفار على المسلمين.

فشرطوا اقترانَ هذه المظاهرة والمناصرة بالمحبةِ للكفار ولدينهم، والرغبةِ في ظهورهم وعلوهم. فإن انتفت هذه المحبةُ، وكان القلبُ مطمئناً بالإيمان، والمحبةَ للمسلمين، والبغض للكافرين، أنتفى الحكم بكفر المظاهر. لأن المظاهرةَ لم تكن إلا لحظ دنيوي، رغبة أو خوفا من الكفار.

وقبلَ الشروعِ في الرد على هذه الشبهة، التي لبسوا بها على البعض. أبدأُ بالقول بوجوب التفريق بين أمورٍ ثلاثة، يحاولُ بعضُهم - قصدا أو خطأ - الجمعَ بينها فيحصل التشويشُ والتلبيس.

الأمر الأول : الاعتذارُ بهذه الشبهة لجواز المظاهرة. وهذا أمرٌ باطلٌ لم يقلْهُ أحدٌ من المسلمين. فمن المعلوم من الدين بالضرورة أن مظاهرةَ الكفارِ على المسلمين معصيةٌ وأثمٌ وذنبٌ عظيم. وهو محلُ إجماعٍ من علمائهم، واتفاقٍ من عامتهم. ولا يقول بجوازها إلا من ردَّ القرآنَ الكريم، والسنة الصحيحة، وإجماعَ المسلمين، وهذا كفرٌ وردةٌ عن دين الإسلام بالإتفاق.

فإذا كانت كذلك فلا تجوز الطاعةُ لأحدٍ – كائنا من كان - في ملابستِها والوقوع فيها. فالطاعةُ لا تكون إلا في المعروف، وفي ما ليس بمعصيةٍ لرب العالمين. روي البخاريُ في صحيحِه: حدَّثنا الأعمشُ حدَّثنا سعدُ بن عُبيدَةَ عن أبي عبد الرحمنِ عن عليّ رضيَ اللَّهُ عنه قال: (بَعَثَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيةً وأمَّرَ عليهم رجلاً من الأنصارِ وأمرَهم أن يُطيعوه، فغضبَ عليهم وقال: أليس قد أمرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تُطيعوني؟ قالوا: بلى قال: قد عزمتُ عليكم لما جمعتم حَطَباً وأوقَدْتم ناراً ثم دخلتم فيها. فجمعوا حطباً فأوقدوا ناراً، فلما همُّوا بالدخول فقاموا يَنظرُ بعضهم إِلى بعض فقال بعضهم: إنما تبِعنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِراراً من النار أفندخُلُها؟ فبينما هم كذلك إذ خَمَدَتِ النارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ فذُكرَ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لو دَخَلوها ما خَرجوا منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف).

وقد ذمَّ اللهُ تعالى في كتابهِ العزيز طاعةَ الأمراء والعلماء في معصية الله تعالى. وسمَّى هذه الطاعة عبوديةً من فاعلها لهؤلاء الأمراء والعلماء، فقال: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً من دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وفي مسند الإمام أحمدَ والترمذي: عن عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ قال: (أَتَيْتُ النَّبيَّ وَفي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فقال: يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ في سُورَةِ بَرَاءَةَ: اتَّخَذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله، قال: أمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئاً اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئاً حَرَّمُوهُ).

فإذا كانت هذه الطاعةُ عبادةً لهم من دون الله تعالى. وجب على كل مسلمٍ يخشى اللهَ تعالى، ويُقدمُ طاعتَه على طاعة المخلوق، عدمُ الرضا والقبولِ والفعلِ لهذه المعصية. وأَنْ يحذرَ أشدَّ الحذرِ من الوقوع في مظاهرة الكفار على المسلمين بقوله وكتابته وفعله وماله وقلبه. فإن الطاعة إنما تكون في المعروف. والنارٌ أهلُها أتباعٌ ومُتَبَعون، ولن يغنيَّ الذين استكبروا الذين استُضعفوا شيئا، بل يتبرئون منهم ويتنصلون. قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}. وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً منَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.



الأمر الثاني : الاعتذارُ بهذه الشبهة لدفع العقوبة الواجبة للمظاهر للكفار على المسلمين. فالذي يقاتلُ معهم في صفوفهم، أو يحميهم مِن المجاهدين، ويدفعُ عنهم، أو الذي يعينُهم ويمدهم بالسلاح والمال والرأي والطعام وكلِ ما فيه عونٌ لهم وإن قلَّ. كحال تلك الحكومات وجيوشها، التي نصَبَّها الكافرُ المحارب المحتل، ودربها وسلحها، لتعينه في قتال أهل الإسلام، وتمكن له في أرض المسلمين. وحال هؤلاء الذين باعوا دينَهم، وديار، ودماء، وأعراض المسلمين، من أجلِ مالٍ حرامٍ سُحتٍ، يأخذونه ليعملوا خدما وعونا وظهيرا للكفرة المعتدين.

يعتذرون لحُرمة دماءِ وأموالِ هؤلاء بهذه الشبهة. وهذا أمرٌ منكرٌ باطلٌ، فهم المعتدون الباغون، وهم الخائنون لله ولرسوله وللمؤمنين. حكمُهم حكمُ الكفار المحاربين، حكَمَ اللهُ تعالى عليهم أنهم منهم، وهو أحكمُ الحاكمين. فباتفاق واجماعِ المسلمين أن مَنْ ظاهرَهم وأعانَهم حلالُ الدم والمال. ذلك أنه هو الظالمُ الذي استحَلَّ دماءَ المسلمين المجاهدين وأموالهم وديارهم، ورضيَّ مختاراً أن يكون في صف الكفار تابعا لهم ممتثلا أمرهم ونهيهم. فحكمُه حكمُ الكافر المحارب، والمحاربُ حلالُ الدم والمال، فهو كذلك. وما ظلمهم المجاهدون، ولكنَّهُم هُمُ الظالمون.

قال تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ}. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي لأَرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً}. نزلت في قوم من المسلمين أُكرهوا على الخروج مع الكفار يوم بدر، فقُتل منهم مع الكفار، فتأسف المسلمون لذلك وأرادوا الاستغفارَ لهم، فنزلت الآيات تبين مآلهم ومصيرهم. وروى أهل التفسير عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يُكَثِّرون سواد المشركين على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي السهم فيُرْمَى به فيصيب أحدَهم فيقتله أو يُضرب فيُقتل، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}. فهؤلاء اليوم، الذين دخلوا مع الكفار طوعا دون إكراه في قتال المسلمين المجاهدين، أعظمُ أثماً وظلما، من أولئك المكرهين الذين نزلَ فيهم هذا الوعيدُ الشديد.

فالنصوصُ الصريحة، والإجماعُ المنعقد، كلُه دالٌ على أن المظاهرةَ للكفار على قتال المسلمين معصيةٌ وكبيرةٌ وإثمٌ عظيم. ذنبٌ يُبيحُ دمَ ومالَ وعِرضَ صاحِبِها. ذلك أنه خانَ اللهَ ورسوله والمؤمنين ، وسعى وشارك في قتل المسلمين، والتمكين للكفار المحاربين، بفعاله أو أمواله أو أقواله. وأن لا طاعةَ لأحدٍ في فعلها، إذ من المعلوم عند المسلمين، أن الطاعةَ تكون في المعروف، وأن لا طاعة لأحدٍ في معصية رب العالمين.



الأمر الثالث : الاعتذارُ بهذه الشبهة لدفعِ الحكم بكفر المظاهر مادام قلبُه مطمئناً بالإيمان. وهذا أمرٌ تحتملُه القصة، فلغير حاطب أن يقولَ كقوله، ويعتذرَ بمثلِ عذرهِ، لينتفي عنه الكفر. والذي عليه جمهورُ أهل العلم أن العذرَ خاصٌ بحاطب لا يتعداه لغيره. فالمظاهرُ الذي تحقَقَ له ما تحقق لحاطبٍ، من تصديق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له، وفضلِ حضورِ بدرٍ الكبري، يصحُ الاعتذارُ له. أما من لم يتحققْ له ذلك فحكمه ما حكمت به الآياتُ البينات من براءةِ الله تعالى منه، وأنه من جملةِ الكفار، وأنه ضلَّ سواءَ السبيل، إلا المُكرهَ وقلبُه مطمئنٌ بالإيمان.

ومن المعلوم أن تخصيصَ النص العام، وتقييدَ النص المطلق ، لا بُدَّ فيه من النص الصحيح من جهة الثبوت والدلالة، ليصح بذلك تخصيصه للعموم، وتقييده للإطلاق، والذي يظهرُ أن التخصيص الخاص بحاطب من هذا العموم لا يصحُ الاستدلالُ به للمظاهرين اليوم للكفار على المسلمين لأمرين:

الأول : خصوصيةُ حاطب وعدم مشابهتهم له، فما جاء هذا التخصيص لحاطب إلا لتزكية رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له، وتصديقه لقوله، ثم لكونه من أهل بدر، وهم لهم زيادة فضل على المسلمين لسابقتهم وجهادهم، فلا يتعداهم التخصيصُ إلى غيرهم من المسلمين، فمن تولَّى الكفار، فظاهرَهم وأعانهم على المسلمين طوعا دون إكراه، حُكِّمَ عليه بالردة والنفاق.

وبالنظر والتأمل والجمع بين الروايات التي نقلت القصة نرى أن حاطب حين فعل ما فعل، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: يا رسولَ اللَّهِ، قد خانَ اللَّه ورسولَه والمؤمنين، فدَعني فلأضرِب عُنُقَ هذا المنافق، فأعتذرَ حاطبٌ بعذره، أنه لم يبدل دينه ولا كفر بالله ورسوله، ولكن يريد له يدا عند الكفار يحمي به قرابته بمكة، فصدقه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانتفى عنه الحكم بالنفاق والارتداد. فعاد عمرُ وقال: قد خانَ اللَّه ورسولَه والمؤمنين، فدَعني فلأضرِب عُنُقَه، فإن انتفى عنه النفاقُ والارتداد فقد وقع في الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين، وهذا فعلٌ يُوجبُ قتلَه، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أليسَ من أهل بَدر؟ فلعلَّ اللَّهَ اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شِئتم فقد وَجَبَتْ لكُم الجنة - أو فقد غَفَرتُ لكم - فدمعَت عَينا عمر وقال: اللَّهُ ورسولهُ أعلم.

ففعلُه كان سبباً في حكم عمرَ عليه بالكفر والنفاق، لكنْ حصل لحاطبٍ التبرئةُ من الكفر والنفاق بتصديق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له. وحصلَ له حَقْنُ دمه والكفُ عنه لفضل أهل بدر، وسابقتهم، وعظيم هذه الحسنة التي تغلب وترجح على كل ذنب ومعصية - إلا الشرك وقد حفظهم الله منه - روي الترمذي في سننه حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، حدثنا اللَّيْثُ، عن أَبي الزُّبَيْرِ، عن جابِرٍ أَنَّ عَبْداً لِحَاطِبٍ بن أبي بلتعة، جَاءَ إلى رسولِ اللّهِ يَشْكُو حاطِباً، فقال: يا رسولَ اللّهِ لَيَدْخُلَنَّ حاطِبٌ النَّارَ، فقال رسول الله: (كَذَبْتَ، لا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْراً وَالْحُدَيْبِيَّةَ)، وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.

فالحاصل أن مَنْ تحققَ له ما تحقق لحاطب من تبرئة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له من النفاق، وكان من أهل بدر، صحَّ أن يُخصصَ من عموم الآيات الدالة على كفر ونفاق المظاهر.

فإن تنزلنا مع الخصم المخالف في وجود شبهة تمنع من تكفير المظاهر، وهي قول المظاهر بصحة إسلامه وبراءته من الكفر، كما قال حاطب، وأن الذي جَرهُ للمظاهرة الرغبةُ أو الرهبة من الكفار، فلا يصح أبداً القولُ بعصمة دمه وامتناع قتله، لأنه حتما ليس من أهل بدر.

يقول ابنُ القيم رحمه الله تعالى في الفوائد: ’ وتأمل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر وقد استأذنه في قتل حاطب فقال: (وما يدريك أن الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم). كيف تجده متضمناً لحكم القاعدة التي اختلف فيها أرباب الجدل والأصوليون، وهي أن التعليل بالمانع هل يفتقر إلى قيام المقتضى، فعلَّلَ النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عصمةَ دمه، شهوده بدراً دون الإسلام العام، فدلَّ على أن مقتضى قتله كان قد وُجِدَ وعارض سبب العصمة، وهو الجس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن عارض هذا المقتضى مانع منع من تأثيره وهو شهوده بدراً، وقد سبق من الله مغفرته لمن شهدها.‘

وهذا نقل للأحاديث التي قصت القصة, كما رواها أهل الحديث، روي البخاري في صحيحه: عن أبي عبد ِالرحمنِ السُّلَميِّ عن عليٍّ رضيَ اللَّهُ عنه قال: (بَعَثني رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا مَرْثَدٍ الغَنَويَّ والزبيرَ - وكلُّنا فارسٌ - قال: انطلِقوا حتى تأتوا رَوضةَ خاخ فإن بها امرأةً منَ المشركين معها كتابٌ من حاطِبِ بن أبي بِلْتعةَ إلى المشركين. فأدركناها تَسيرُ على بَعير لها حيثُ قال رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقلنا: الكتاب، فقالت: ما معنا كتاب، فأنخناها، فالتمسْنا فلم نَرَ كتاباً، فقلنا: ما كذبَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لتخرجِنَّ الكتابَ أو لنجرّدنَّكِ. فلما رأتِ الجِدَّ أهْوَت إلى حُجْزَتها، وهي محتجِزةٌ بكِساء. فأخرجَتهْ. فانطلَقنا بها إلى رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عمر: يا رسولَ اللَّهِ، قد خانَ اللَّه ورسولَه والمؤمنين، فدَعني فلأضرِب عنقَه. فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ما حَمَلَك على ما صنعتَ؟ قال حاطب: والَّلهِ ما بي أن لا أكونَ مؤمناً باللَّه ورسولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أردتُ أن يكونَ لي عندَ القوم يدٌ يَدفَعُ اللَّهُ بها عن أهلي ومالي، وليس أحدٌ من أصحابِكَ إلاَّ لهُ هناكَ من عَشيرتِه مَن يَدفَعُ اللَّهُ بهِ عن أهلهِ وماله. فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدقَ، ولا تَقولوا لهُ إلا خيراً . فقال عمرُ: إنهُ قد خانَ اللَّهَ ورسولَه والمؤمنين، فدَعني فلأضرِبْ عُنُقَه. فقال: أليسَ من أهل بَدر ؟ فقال: لعلَّ اللَّهَ اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شِئتم فقد وَجَبَتْ لكُم الجنة - أو فقد غَفَرتُ لكم - فدمعَت عَينا عمر وقال: اللَّهُ ورسولهُ أعلم).

وفي رواية فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ياحاطبُ ما حملكَ على ما صنعتَ ؟ قال: يا رسولَ الله، ما لي أن لا أكونَ مؤمناً بالله ورسولهِ، ولكني أَردتُ أن يكون لي عندَ القومَ يَدٌ يُدفعُ بها عن أهلي ومالي، وليس من أَصحابكَ أحدٌ إلا له هنالكَ من قومهِ من يَدفَعُ الله به عن أهله وماله. قال: صَدَق، لا تقولوا له إلا خيراً. قال فعادَ عمرُ فقال: يارسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، دعني فلأضربْ عنقه قال: أَوليس من أهل بَدر ؟ وما يَدريك لعلَّ الله اطلعَ عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة، فاغرورقت عيناه فقال: الله ورسوله أعلم).



والأمر الثاني: عدمُ التشابُهِ والتماثُلِ بين فعل حاطب ومظاهرته، ومظاهرة من أعان الكفار اليوم على المسلمين، فحاطبٌ كان يريد يدا عند الكفار يحمي بها قرابته وأهله بمكة من بطش وانتقام الكفار منهم، وهو يعلم أن الله ناصرٌ رسوله والمؤمنين على الكفار، وأن فعله لن يقوي الكفار، ولن يُضعفَ المسلمين، بل في رسالته لهم التخويف من جيش المسلمين.

ففي مسند الامام أحمد، حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا حُجَيْنُ ويونسُ قالا: ثنا الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة يذكر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد غزوهم، فدل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المرأة التي معها الكتاب فأرسل إليها، فأخذ كتابها من رأسها وقال: (يا حاطِبُ أَفَعَلْتَ ؟) قال: نعم أما إني لم أفعله غشاً لرسول الله. وقال يونس: غشاً يا رسول الله، ولا نفاقاً، قد علمت أن الله مظهرٌ رسولَه ومتمٌ له أمرَه، غير أني كنت عزيزاً بين ظهريهم، وكانت والدتي منهم فأردت أن أتخذ هذا عندهم، فقال له عمر: ألا أضرب رأس هذا ؟ قال: (أَتَقْتُلُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ الله عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اطَّلَعَ على أَهْلِ بَدْرٍ فقال: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ).

والمظاهرون اليوم يريدون ويسعون جاهدين، أنْ يحكُمَ بلادَ المسلمين مَن يُظْهِرُ ويدعو إلى الشرك والكفر والفساد، ومن يحكمُ بالطاغوت. فلا يُحقق ببلاد المسلمين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. هذا مع تسخيره لثروات المسلمين لمصالح الكفار، وامتثاله واتباعه لأمرهم ونهيهم.

فالذي فعله حاطبٌ ليس بمظاهرة ومناصرة للكفار على المسلمين، وإنما هو موادةٌ لهم واتخاذُ يدٍ عندهم، وإن كانت هذه الموادة نوعاً من التولي، إلا أنه تولي موادة، وليس تولي مظاهرة ومناصرة، وفرق بين المظاهرة التي يحصل بها تقويةُ الكفار وظهورُهم على المسلمين وبين الموادة التي لا يحصل منها ذلك. ويدل على ذلك أن الآيات التي نزلت في حاطب هي قوله تعالى {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّـكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ}.

وقد جاء في بعض الروايات الصحيحة قول حاطب: ’ وعلمت أن ذلك لا يضرك‘، لاطمئنانه بنصر الله لرسوله والذين آمنوا. قال الحافظُ في الفتح: ’ وَعُذرُ حَاطِبٍ مَا ذَكَرَهُ , فَإِنَّهُ صَنَعَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلاً أَنْ لا ضَرَر فِيهِ‘. وقال أيضا: ’ وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْل الْمَغَازِي وَهُوَ فِي تَفْسِير يَحْيَى بْن سَلام، أَنَّ لَفْظ الْكِتَاب: أَمَّا بَعْد يَا مَعْشَر قُرَيْش فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَكُمْ بِجَيْشٍ كَاللَّيْلِ , يَسِير كَالسَّيْلِ , فَوَاَللَّهِ لَوْ جَاءَكُمْ وَحْدَهُ لَنَصَرَهُ اللَّه وَأَنْجَزَ لَهُ وَعْده. فَانْظُرُوا لأَنْفُسِكُمْ وَالسَّلام، كَذَا حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ.‘

يقول شيخ الإسلام: ’ وقد تحصّل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانُه، ولا يكون به كافراً، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

تبينوا في الجزء الخامس

شبهة جواز المظاهرة للمُـكرَه

صدام العرب
30-03-2005, 09:58 PM
شكرا للنقل

شامل
02-04-2005, 01:36 PM
تأمر أخي صدام , وهذه بقية الأجزاء .

كتاب*

الإنتصار لأهل الفلوجة والجهاد

شبكة البصرة

تقديم عبد الله شمس الحق

لأبي عبد الله صلاح الدين بن محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ

الجزء الخامس

شبهة جواز المظاهرة للمُكرَه

زعمُوا أن الإكراهَ عُذرٌ يُبيحُ للمسلم المُكرَهِ، أن يُظاهرَ ويعينَ الكفارَ على المسلمين، إذا وقع عليه الإكراهُ من كافرٍ قادرٍ على إيقاع المكروه. فالله تعالى يقول: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَـانِ). وفي صحيح ابن حبان: عن ابنِ عباس أَنَّ رسولَ الله قال: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ والنِّسيانَ، وما استُكْرِهُوا عليهِ).

وهذه الدولُ الكافرةُ المتحالفة ضدَّ المسلمين، تملكُ من القوة والعِدةِ والسلاح، ما يُمَكنُها من إيقاع الأذى العظيم بالفرد، أو الدولة المسلمة الممتنعة عن مظاهرتهم على المسلمين. وفي ذلك ذهاب الدين والأنفس والديار والأموال.

هذه شبهةُ القوم التي استدلوا بها لتجويز مظاهرة الكفار على المسلمين، وإن ذهب الدينُ والأنفسُ والأموال والديار لهؤلاء المسلمين المُعْتدَى والمُظَاهرِ عليهم. وهذا استدلالٌ باطلٌ بينُ البطلان، فليست دماءُ وأموال وبلاد هذا المسلم المتولي المظاهر للكفار، بأولى بالحفظ والصيانة من دماء وأموال وديار المسلمِ المُظاهَرِ المعتدى عليه.

فالمُكره كما عرفه أهلُ العلم، هو من حُمِلَ على أمرٍ يكرهه ولا يرضاه مطلقا. ويكون للمُكرهِ حالان:

الأولى: مُكرهٌ ملجئٌ على أمرٍ لا حولَ ولا قُوةَ له فيه، ولا تتعلق به قُدرتُه واختيارُه، بلغ الإكراهُ حدَّ الإلجاء، فلا يصح ولا يمكن منه الترك. ومثاله مَنْ أُلقيَّ من شاهق على إنسان فقتله. فهذا لا خلاف في عدم تكليفه وصحةِ عُذره.

والثانية: مُكرهٌ غيرُ ملجئٍ، وهو مَن حُمِلَ على أمرٍ يكرهُهُ ولا يرضاه، ولكن له قدرةٌ واختيارٌ في الفعل أو الترك. وهذا الإكراهُ هو محلُ البحث، وفيه تفصيلٌ وتنوعٌ ومسائلٌ لا بُدَّ من مُراعاتِها والتدقيقِ فيها حتى يُبنى الحُكمُ الصحيحُ عليها.

المسألة الأولى: نوعُ الإكراه المبيح لملابسة الأمر المُكرَهِ عليه. ذكر أهل العلم أن الإكراهَ الذي قد يُعذرُ فيه المسلمُ هو الإكراهُ من قادر على تنفيذ وعيده بذهاب النفس أو تلف الأعضاء. وليس من ذلك التخويفُ، فالخوف ليس بعذر مبيح. قال تعالى: {إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}. وذمَّ الله المسارعين لطاعة الكفار خَشيةً منهم فقال تعالى:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}. قال ابن جرير: ’ فتأويل الكلام إذن: فترى يا محمدُ الذين في قلوبهم مرضٌ وشكُّ إيمانٍ بنبوّتك، وتصديق ما جئتهم به من عند ربك يُسارعون فيهم، يعني في اليهود والنصارى. ويعني بمسارعتهم فيه، مسارعتهم في موالاتهم ومصانعتهم. يقولون نخشى أن تُصيبنا دائرة، يقول هؤلاء المنافقون، إنما نسارع في موالاة هؤلاء اليهود والنصارى خوفا من دائرة تدور علينا من عدوّنا.‘

فالخوفُ ليس بعُذر ولا إكراه معتبر صحيح، ومثله الإكراهُ أو التخويفُ بذهابِ الحظوظِ الدنيوية. من المال، أو المنصب والجاه، ونحوها. فهذا كله ليس بعذر في طاعة المُكْرهِ بفعلِ المُكْرَهِ عليه.

المسألة الثانية: هل الإكراهُ الحقيقي عذرٌ صحيح للقول والفعل، أم للقول فقط؟ أي هل الإكراه عذرٌ لقول الكفر ولفعل الكفر، أم للقول فقط دون الفعل. اختلف أهلُ العلم في ذلك، والأكثر أنه عذر للقول فقط، فمن أُكرِه على قول الكفر أُبيحَ له بشرط طُمأنينة القلب بالإيمان. وإن أُكرِهَ على فعل الكفر مثل السجود للصنم فلا يجوز له ذلك، حتى وإن ذهبت نفسه، مستدلين لذلك بسبب نزول الآية الكريمة (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَـانِ). قال ابن كثير: ’ هو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه، مكرهاً لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله. وقد روى العوفي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء معتذراً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله هذه الآية. وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك، وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كيف تجد قلبك ؟) قال: مطمئناً بالإيمان. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن عادوا فعد). ورواه البيهقي بأبسط من ذلك، وفيه أنه سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك النبيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسولَ الله ما تُركتُ حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير، قال: (كيف تجد قلبك ؟) قال: مطمئناً بالإيمان، فقال: (إن عادوا فعد).‘

وذهب آخرون إلى أن المُكْرهَ معذورٌ في القول والفعل، ما كان الإكراهُ حقيقيا، والقلب مطمئنا بالإيمان، وهذا القول أرجح والله أعلم. فالله تعالى قال: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. فاطلق الكفر، والكفر يحصل بالاعتقاد وبالقول والفعل، والأول لا يُتصورُ فيه وقوع الإكراه، وأما القول والفعل فيُمكنُ الإكراهُ فيه، فيكون المُكرَهُ معذورا مادام قلبه مطمئنا بالإيمان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما إذا أكره الرجل على ذلك، بحيث لو لم يفعله لأفضى إلى ضربه أو حبسه، أو أخذ ماله أو قطع رزقه الذي يستحقه من بيت المال ونحو ذلك من الضرر، فإنه يجوز عند أكثر العلماء، فإن الإكراه عند أكثرهم يبيح الفعل المحرم كشرب الخمر ونحوه ، وهو المشهور عن أحمد وغيره ولكن عليه مع ذلك أن يكرهه بقلبه، ويحرص على الامتناع منه بحسب الإمكان، ومن علم الله منه الصدق أعانه الله تعالى، وقد يعافى ببركة صدقه من الأمر بذلك!. وذهب طائفة إلى أنه لا يبيح إلا الأقوال دون الأفعال : ويروى ذلك عن ابن عباس ونحوه، قالوا إنما التقية باللسان ، وهو الرواية الأخرى عن أحمد. وأما فعل ذلك لأجل فضول الرياسة والمال فلا، وإذا أكره على مثل ذلك ونوى بقلبه أن هذا الخضوع لله تعالى: كان حسناً، مثل أن يكره كلمة الكفر وينوي معنى جائزاً والله أعلم.‘

وقال الإمام القرطبي في تفسيره: الخامسة : ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول ، وأما في الفعل فلا رخصة فيه ، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه أو أكل ماله، أو الزنى وشرب الخمر وأكل الربا، يروى هذا عن الحسن البصريّ، رضي الله عنه. وهو قول الأوزاعيّ وسُحْنون من علمائنا. وقال محمد بن الحسن: إذا قيل للأسير أُسجد لهذا الصنم وإلا قتلتك. فقال : إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد ويكون نيته لله تعالى، وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه. والصحيح أنه يسجد وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ. ففي الصحيح عن ابن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلّي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. وفي رواية: ويُوتِر عليها، غير أنه لا يصلّى عليها المكتوبة. فإذا كان هذا مباحاً في السفر في حالة الأمن لتعب النزول عن الدابة للتنفل فكيف بهذا. واحتج من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود: ما من كلام يَدرأ عنّي سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلّماً به. فقصَر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يجعل الكلام مثالاً وهو يريد أن الفعل في حكمه. وقالت طائفةٌ: الإكراهُ في الفعل والقول سواءٌ، إذا أسرَّ الإيمانَ، روي ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم عن مالك أن مَنْ أُكرِهَ على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع .

المسألة الثالثة: باتفاقِ وإجماعِ أهل العلم، لا يجوزُ للمُكرَه أن يقتل نفسا معصومةً لاستنقاذ نفسه. فليست نفسُه بأولى من نفس غيره. فمن فعل أثم بفعله، واستحق العقوبة الشرعية الدنيوية المترتبة على فعله، واستحق الوعيدَ الأُخرويَ المتوعد به.

قال الإمام القرطبي في تفسيره: أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدامُ على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحلُّ له أن يَفْدِيَّ نفسَه بغيرِه، ويسألَ اللهَ العافيةَ في الدنيا والآخرة.‘

والصبرُ على الأذى - نُصرةً للدين، وغيضا للكفار والمنافقين، واحتسابا للأجر من رب العالمين - أفضلُ وأعظم درجة، في الغالب. قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}. وفي قراءةٍ: قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُون.

وفي صحيح ابن حبان: أخبرنا الفضلُ بنُ الحُبَابِ ، حَدَّثنا إبراهيمُ بنُ بَشَّار، حَدَّثنا سفيانُ، عن بيانِ بنِ بشر، عن قيسِ بنِ أبي حازم عن خبَّابِ بن الأرَتّ، قال: أَتَيْنا النبيَّ وهوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً في ظِلِّ الكَعْبَةِ وَقَد لَقِينا مِنَ المشركينَ شِدَّةً، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أَلا تَدْعُو اللَّهَ لنا، فَجَلَسَ مُغْضَباً مُحْمَرَّاً وَجْهُهُ، فقالَ: (إنَّ مَنْ كان قَبلَكُمْ ليُسْأَلُ الكلمةَ فما يُعطيها، فيُوضَعُ عليه المنشارُ، فَيُشَقَّ باثنينِ، ما يَصْرِفُهُ ذاكَ عن دينِهِ وإنْ كانَ أحدهُمْ ليُمْشَطُ ما دونَ عِظامِهِ من لَحْمٍ أو عصبٍ بأمشاطِ الحَديد، وما يَصْرِفُهُ ذاكَ عن دينِهِ، ولكنَّكُمْ تَعْجَلُونَ، ولَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هذا الأمْرَ حتى يَسِيرَ الراكبُ من صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إلا اللَّهَ والذئبَ على غَنَمِهِ).

قال البغوي في تفسيره: ’ وأجمع العلماءُ على أن مَنْ أُكرِهَ على كلمةِ الكفر، يجوز له أن يقولَ بلسانه، وإذا قال بلسانه غير معتقد لا يكون كفراً، وإن أبى أن يقوله حتى يقتلَ كان أفضل.

ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه: أنه أسرته الروم، فجاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي، فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرفة عين ما فعلت ، فقال: إذاً أقتلك، فقال: أنت وذاك، قال: فأمر به فصلب، وأمر الرماةَ فرموه قريباً من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأُنزِل، ثم أمر بقدر، وفي رواية ببقرة من نحاس فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرفع في البكرة ليلقى فيها، فبكى فطمع فيه ودعاه، فقال: إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تُلقى في هذه القدر الساعة في الله ، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفسٌ تُعذَّبُ هذا العذابَ في الله. وفي بعض الروايات أنه سجنه ومنع منه الطعام والشراب أياماً، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل ؟ فقال: أما إنه قد حلَّ لي، ولكن لم أكن لأشمتك بي، فقال له الملك: فقبل رأسي، وأنا أُطلقُك، فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ؟ قال: نعم، فقبل رأسَه، فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حقٌ على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما.

وخلاصةُ القول: أن الحكمَ بجواز استجابة المُكرَهِ للمُكرِه، وللأمر المُكرَهِ عليه، لا بُدَّ فيه من مراعاة أمور ثلاث، الأولى: قدرةُ المُكرِهِ على إيقاعِ الإكراه. الثانية: نوعُ الإكراه الذي سيوقعه المُكرِه. الثالثة: نوعُ الأمرِ الذي يطلبُ المُكرِهُ فعلَه.

فمن الإكراه ما يجوز فعلُه ولو كان الإكراهُ بالسوط والسوطين، ومنه ما لا يجوز ولو ذهبت الأنفسُ والأموال.

أيقنوا في الجزء السادس

شبهة الديمقراطية

شبكة البصرة

الاربعاء 19 صفر 1426 / 30 آذار 2005

شامل
02-04-2005, 01:40 PM
كتاب*

الإنتصار لأهل الفلوجة والجهاد

شبكة البصرة

تقديم عبد الله شمس الحق

لأبي عبد الله صلاح الدين بن محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ

الجزء السادس

شبهة الديمقراطية

الديمقراطيةُ، الدعوى التي أطلقتها أمريكا، وجعلت منها ذريعةً لحربها وغزوها لبلاد المسلمين. وأخفت خلفَها مقاصدها، وأهدافها الحقيقية، من هذه الحروب. فجعلت من دعوى تصدير الديمقراطية - بعد أن روجت لها بنفوذها السياسي والإعلامي والاقتصادي - وسيلةً لكسب التعاطف والتأييد لها من قبلِ شعبِها، وشعوبِ العالم، بل ومن قِبلِ شعوبِ تلك البلاد الاسلامية المنكوبة المحتلة.

فاستعانت بهذه الكذبة، دولٌ وحكوماتٌ، لتبرير تحالفها مع هذا العدوان والظلم أمام شعوبها. ودافعُهُ الحقيقيُ عند أغلبها الحقدُ والغل على الاسلام وأهله. والطمعُ والمشاركةُ في الغنيمة عند آخرين. والخوفُ من الضغوط الأمريكية العسكرية والاقتصادية والسياسية عند الباقين. فاستخفَوا جميعاً خلف هذه الكذبة الظاهرة، مظهرين الشفقة والإنسانية، مبطنين العداوة والهمجية.

وفَرِحَ بهذه الفِرْيةِ في ديار المسلمين ، مَنْ كان يستخفي بنفاقه ولا يبديه ، ومَنْ يبطنُ العقائدَ الباطلة المخالفة لما يقتضيه الاسلام من الاستسلام لأمر الله تعالى وأمر رسوله. مِنَ الذين يريدون لبلاد الاسلام أن تحيى حياةَ الغرب في كفره ومجونه وأخلاقه. وتعلق بها أيضا مَنْ أصابَ قلوبَهم الوهنُ والضعفُ والمرضُ لحبهم للدنيا وتعلقهم بها.

فرَوَجّوا جميعاً لهذه الدعوى ، ونافحوا عنها، وتعللوا بها، في اعانتهم وتعاونهم مع الكفرة المعتدين. فدعوا إلى التسليم والاستسلام والكف عن القتال والجهاد. وهؤلاء قومٌ يقلبون الأمورَ، ويخلطون الباطل بالحق، ويزخرفون القول، ويستغلون ما يقعُ ببلاد الإسلام من الظلم والتعدي والانحراف المخالف للإسلام، لترويج باطلهم ودعوتهم. تماما كما أخبر الله تعالى عنهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ}. وقال تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}.

فسموا جيوشَ الكفرة النجسة جيوشَ تحريرٍ وحرية. وجيوشَ المرتدين والخونة جيوشَ الوطن وشُرَطَه. وسموا المجاهدين الأحرار الشرفاء إرهابيين ومجرمين ، واستخفى واستحيا آخرون فسموهم مقاتلين ومسلحين.

قال البخاري في صحيحه: عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُون َ. وأخرج البزار من طريق عاصم عن أبي وائل، قلت لحذيفة: النفاق اليوم شر أم على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فضرب بيده على جبهته وقال: أوه، هو اليوم ظاهر، إنهم كانوا يستخفون على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.



وهذه الدعوى بينٌ عوارُها وزيفُها، لمَنْ آمنَ بالقرآن وصدق أخبارَه، فالله تعالى يقول فيه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.

وقال تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً}.

وقال تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}. قال ابن جرير: ’ يقول تعالى ذكره: لا يتقي هؤلاء المشركون الذين أمرتكم أيها المؤمنون بقتلهم حيث وجدتموهم في قتلِ مؤمنٍ لو قدورا عليه إلاًّ وَلاَ ذِمَّةً. يقول: فلا تبقوا عليهم أيها المؤمنون، كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم. وأوُلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ يقول: المتجاوزون فيكم إلى ما ليس لهم بالظلم والاعتداء.‘

والله تعالى ينهانا أن نطيعَهم ونرتضيَهم : {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}. قال ابن جرير: ’ فتأويل الآية: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بما جاءهم به نبيُهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند الله، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتاب من أهل التوراة والإنجيل، فتقبلوا منهم ما يأمرونكم به، يضلوكم فيردّوكم بعد تصديقكم رسول ربكم وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم كافرين، يقول: جاحدين لما قد آمنتم به وصدّقتموه من الحقّ الذي جاءكم من عند ربكم. فنهاهم جلّ ثناؤه أن ينتصحوهم، ويقبلوا منهم رأيا أو مشورة، ويعلمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوون على غلّ وغشّ وحسد وبغض.‘

وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }. قال القرطبي: ’ قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبةً وأمناء وتَسوَّدُوا بذلك عند الجَهَلة الأغْبِياء من الوُلاة والأمراء.‘



وبينٌ بُطلانُها لكل من كان له عقلٌ يعقلُ به، أو بصرٌ يُبصرُ به، أو سمعٌ يسمعُ به. بعدَ أن رأى وسمِعَ العالمُ كُلُه القتلَ والتعذيب للأطفال والنساء والشيوخ والجرحى والأسرى. وشاهد كلَ هذا الهدم، والتدمير، والتخريب، للمدن والقرى والبيوت بأسلحة دمار ممنوعة، محرمةٍ على المسلمين، حلالٍ على الكفرة المعتدين. وما اشتهر مِنْ ما نهبوه وسرقوه من الثروات والأموال. وهذا قليلٌ ظهر وبان من همجيتهم وظلمهم وعدوانهم وما خفيَّ منه أعظم وأطم .

ويكذب دعاواهم ويفضح نواياهم حصارهم الظالم الذي منع الدواء والغذاء عن الأطفال حتى هلك منهم في العراق الآلاف. وهذه القنابل والمدافع والصواريخ والدبابات والطائرات التي تقتل وتهدم وتخرب وتحرق وتعيث في بلاد المسلمين ظلما وفسادا. حتى جاوز عددُ القتلى مئاتِ الآلاف من الأطفال والنساء والمدنيين العزل الآمنين في بيوتهم وأسواقهم.

ويكذب دعواهم تناقضُهم، فهم يرضون ويعينون ويحالفون من الحكامِ مَنْ سلَّمَ لهم كلَّ شيء، وجمعَ لهم بين محاربة الإسلام والتخلي عن أسباب القوة والمنعة. فمن شذَّ وخالفَ فسيشنون عليه الغارة تلو الغارة ، وسيثيرون الفتن والاضطرابات ببلاده ، معتذرين بصناعة الديمقراطية. فالخوف من الإسلام ، دينا يعتقده المسلمون ويمتثلونه ويدعون إليه. ومن قوة عسكرية في بلاد المسلمين ، ولو كانت محكومةً من ظالم أو كافر، تدفعهم لشن الحروب واحتلال البلاد ، فهم لا يأمنون أن يتغيرَ ويتوب ، أو يُغيرَّ ويُخلع.

ويكذب دعواهم خوفُهم الذي ظهر في فلتات ألسنةِ قادتهم ، وصرَّحَ به رهبانُهم وذوو الشأن والأمر فيهم ، من عودة المسلمين لقرآنهم وسنة نبيهم. فسعوا لمنعه بالتغريب والإفساد، والتمكين للمنافقين والعلمانيين لإشاعة الشبه والشهوات، عسى أن يصدوا المسلمين عن مصدر قوتهم وعزتهم. فمن خلال الدعاية والتمكين والفرض بالقوة لنمط الحياة الغربية ، خصوصا جانب الانحلال الخُلقي ، والانهماك في الشهوات والملذات يحصل لهم ما يريدونه ويسعون له في بلاد المسلمين.

يقول الله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.



فلم يبقى مصدقٌ لهذه الكذبة إلا من كانت عقيدتُهُ ومصلحته تدعوه إلى احتلال بلاد المسلمين، وإضعاف قوتها، ونهب ثرواتها، وإذلال أهلها. أو كان عنده هوىً وشهوةٌ في متابعة الغرب الكافر والتقليد له.

وليعلم المغرورُ الذي لا يزالُ مصدقاً لأكاذيبهم، مؤملاً ما منَّوه به، من رغد العيش، والأمن، والتطور والازدهار، أن ما سيأتون به من المفاسد العظيمة، التي تَمُسُّ الدين والأخلاق، تربو وترجح بالمصالح الدنيوية الموعودة المزعومة. وليعلم أنهم يأملون من خلال فرض منهج الحياة الغربية على المسلمين سلخَهم عن دينهم واعتقادهم، وما يوجبه الله عليهم من الدعوة إلى الدين الصحيح والجهاد حتى تكون كلمةُ الله العليا، وكلمةُ الشيطان وأحزابه السُفلى.

قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن – رحمه الله – في قوم زينوا حكم الكفار لبلاد المسلمين : وأخبث هؤلاء وأجهلهم من قال : إنه حصل بهم راحةٌ للناس، وعدمُ ظلم وتعدٍ على الحضر، وهذا الصنف أَضَلُّ القوم، وأعماهُم عن الهدى ، واشدُهم محادة لله ورسوله، ولأهل الإيمان والتُقى. لأنه لا يعرف الراحة التي حصلت بالرسل وبما جاءوا به في الدنيا والآخرة ، ولم يؤمنوا بها الإيمان النافع. والمسلم يعرف أن الراحة كل الراحة ، والعدل كل العدل ، واللذة كل اللذة ، في الإيمان بالله ورسوله ، والقيام بما أنزل الله من الكتاب والحكمة، وإخلاص الدين له ، وجهاد أعداء دينه وأعداء رسوله ، وأنه باب من أبواب الجنة، يحصل به النعيم والفرح واللذة ، في الدور الثلاث.



هذه الديمقراطية التي زينوها وزخرفوها، ما حقيقتُها، وهل توافق الشرع المطهر أم تعارضه وتناقضه ؟

المؤمنُ حريصٌ على دينه، يَزِنُ ما يأتيه بالميزان الشرعي ، فما وافق أو أباحه الشرعُ قبِلَه. وما خالف وحرَّمه الشرع رفضه ورده. لأن دينَه عزيزٌ عليه، مقدمٌ على كل شيء. فالمسلم لا يرضى الكفر أبدا، وأن يُلقى في النار أحبَّ إليه من أن يرتد كافرا. ولا يرضى ولا يُحسِّنُ ولا يُحللُ الحرامَ والإثم ، حتى وإن غلبته نفسُه والشيطان فوقعَ في الحرام فهو يكره إثمَه وذنبَه ، ويرجو سِترَ وعفوَ ربِه. فالفرقُ عندَه بين الوقوع في الحرام وبين تحليل وتزيين الحرام ، هو الفرق بين المسلم المذنب الذي مآله إلى الجنة بعد العفو أو التمحيص ، والمسلم المرتد الذي مصيره الخلود في النار.



الديمقراطية كما عرفها أهلُها : حكمُ الشعب ، أو حكمُ الغالبية من الشعب. وهذا الحكم من الشعب يعني حقه في اختيار الحاكم ، والنظام السياسي الحاكم للبلد، كما يشمل حقَ الشعب في اختيار القوانين والأنظمة والأحكام التي يتحاكم إليها ويعيش بها.

وتباينوا واختلفوا في حدود الحرية الفردية للأشخاص والأقليات ، خوفا من استبداد الأكثرية. فمنهم مَنْ غلَّبَ الحريةَ الفردية للأشخاص ما لم تصل إلى حد الأذى الحسي للآخرين ، فمن أراد أن يعبُدَّ الشيطانَ فهو حر في عبادته ، ومَنْ أرادَ الِلواطَ فهو حر في ممارسته، وليس للآخرين أن يمنعوه من ما جعلوه حقا له. ومنهم مَنْ غلَّبَ مصلحة الجماعة على المصلحة الفردية فربما منع بعض التصرفات الشخصية لمعارضتها لمصلحة الجماعة وضررها للمجتمع.

لكنَّ جميعَ هذه التعاريف والمفاهيم للديمقراطية تتفق في حق الشعوب في التصويت والاختيار للحاكم والنظام الذي يحكمُها وتتحاكمُ إليه، وتتفق أيضا في حق الشعب من خلال التصويت في سَنِّ الأنظمة والقوانين التي يختارُها ويرتضيها. فإن اختارت الأغلبية تجويز الزنا جاز، وإن اختارت تحريم ومنع الحجاب صار حراما ممنوعا.

وهذا الاعتقاد لا يصحُ أبداً من مسلم يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا ورسولا. لا يصح أبدا أن يعتقد جواز وصحة القبول والرضا لما تختاره الأغلبية إن عارض الدين، كما لا يصح أن يمتنع عن الإنكار بيده أو لسانه أو قلبه حسب وسعه وقدرته لمنكر اختارته الأغلبية، وهذا أصل من أصول الدين، وهو من معاني العبودية والتسليم لله تعالى، والرضا بحكمه والتسليم لأمره.

قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.

وقال تعالى : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قال ابن كثير: أي فليحذرْ وليخشَ مَن خالف شريعة الرسول باطناً أو ظاهراً. أن تُصيبهم فتنة أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، أو يصيبهم عذاب أليم أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك.

وقال ابن كثير: ’ وقوله فلا وَرَبك لا يؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم ، يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً، ولهذا قال ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما، أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن ، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. وعن عبد الله بن عمرو ، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لا يُؤْمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواهُ تبَعاً لِما جئتُ به ). قال النووي هذا حديث صحيح .



وقد حمل الظلمُ والطغيان الذي يمارسه الكثيرُ ممن وليَّ أمر المسلمين بعضَ الدعاة والعلماء إلى الدعوة للديمقراطية سبيلاً للخلاص من حكم الظلمة. ذلك لظنهم واطمئنانهم أن الغالبية في الشعوب المسلمة لن تختارَ لحكمها إلا مَنْ ترتضي دينَه وصلاحه وتقواه. وهذا ما حصل في الجزائر، حين فازت الأحزاب الإسلامية في انتخاباتها، وسيحصل لغيرها من بلاد المسلمين إن عُمل به. ولكنهم غفلوا أو تغافلوا عن الخلل العظيم الذي يصيب عقيدة المسلم حين يقبل ويرضى بالديمقراطية.

دارت مناظرةٌ بين داعية مسلمٍ يدعو إلى الديمقراطية , وعلماني يدعو إلى الديمقراطية وفصل الدين عن الدولة. فيقول العلماني له: أتقبل لو نتج عن التصويت والانتخاب حاكمٌ كافر، أو قانونٌ يعارض الدين ؟ فأجاب المسلمُ : نعمْ ! وهذه سقطةٌ عظيمةٌ ومخالفة كبيرة ، أوقعه فيها التزامُه ما لا يلزم إلتزامُه. تماما كما أخطأ (الأشاعرة ُ) من قبلُ في مسائلَ عَقَديةٍ حين التزموا مع المعتزلة إلتزامات لا يصح إلتزامها.

فالمؤمن لا يرضى بحكم الكافر له ، أو أن يتحاكم إلى الطاغوت ، قال تعالى: { وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}. فواجبٌ على المسلم التغييرُ أو الهِجرةُ من بلد يحكمها كافر أو تغلب فيها شعائر الكفر، إلا من استثناه وعذره الله تعالى من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.

وإن في شريعة الإسلام التامة الكاملة غنى ومندوحة، عن بعض العدل الذي تأتي به الديمقراطية ويستلزم أن يصاحبَه الكفر والباطل.

وخروجا من هذه المخالفة الصريحة للعقيدة الصحيحة، حصرَ بعضُ الدعاة الديمقراطيةَ في حق الشعب في اختيار الحاكم والأنظمة والقوانين التي لا تعارضُ الدين والشريعة، وتسير وفق ضوابطها وأصولها. فوقع في مصادمة أصول الديمقراطية ، فتناقض معها وجعل منها نظاما إسلاميا حصر تعيينَ الولاة والأمراء بطريق واحد وهو إختيار الأغلبية من الشعب. فهيأت هذه المخالفة لأصول الديمقراطية الغربية ، للعلمانيين والليبرالين مدخلا وحجة يحتجون بها عليهم ، فقالوا أنتم لا تستحقون الحكم من خلال الديمقراطية لأنكم تعارضون مبادئها وأصولها.

أقرؤا في الجزء السابع

شبهة المصلحة والضرورة

شامل
02-04-2005, 01:48 PM
كتاب*

الإنتصار لأهل الفلوجة والجهاد

شبكة البصرة

تقديم عبد الله شمس الحق

لأبي عبد الله صلاح الدين بن محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ

الجزء السابع

شبهة المصلحة والضرورة

اعتذر الذين خَذَلوا المسلمين، وخذَّلوا عنهم، والذين ظاهروا عليهم، عن فعلِهم المَشِين، دينا وخُلقا. فالدينُ ينهى ويحرِّمُ ذلك، والأخلاقُ والمرؤة والشهامة تأنف منه وتأباه. قال الشاعر:



إذاً لقام بِنَصْرِي معشرٌ خُشـنٌ عندَ الحفيظةِ إنْ ذو لوثةٍ لانــا

قومٌ إذا الشَّرُ أبدى ناجذَيه لهم طاروا إليه زرافاتٍ ووُحْدانــا

لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهم في النائِبَاتِ عَلَى ما قَالَ بُرهَانَـا

لَكِنَّ قَوْمِي وإِنْ كانوا ذَوِي عَدَد ٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِ في شيءٍ وإن هَانَا

يجزُونَ مِن ظُلمِ أهلِ الظُلمِ مَغْفِرَةً ومن إِساءَةِ أَهلِ السُّوءِ إِحْسَانَـا



فقالوا - هذا عدو يملك من الآلة العسكرية والعُدَّةِ والعِدَّةِ ما لا قِبَلَ لنا به، ويملك من القوة الاقتصادية والسياسية ما لا طاقة لنا عليه. وفي مواجهته وقتاله تعريضُ المسلمين للهلاك ، وتعريضُ البلاد إلى المزيد من الدمار والخراب .

فالمصلحةُ العامة للإسلام والمسلمين , تقتضي عدمَ قتاله ، أو حتى الاعتراض عليه ، إبقاءً للبقية الباقية من بلاد المسلمين ، بعيدة آمنة من سطوته وجبروته ، فلا نُصرةَ للمسلمين والحال كذلك ، بل ربما الاستجابة لتخويفه ومعاونته عليهم . فهذه مصلحة يجب مراعاتها وواقعة دعت الضرورةُ إليها.

هذا ما اعتذروا به !

فهل يستقيم لهم هذا العذر في الميزان الشرعي ؟

وهل يتوافق مع أقوال أهل العلم ، وما عرفوا به المصلحة المرعية والضرورة الملجئة ؟

هذا ما أستعين بالله تعالى لبيانه وتوضيحه ، مبتدئا بتعريف المصلحة والضرورة ، ثم ما يجوز مراعاته منها وما لا يجوز، ووجه معارضة هذه المصلحة والضرورة للشرع الحنيف ، ثم النظر في حقيقة هذه المصلحة ، مستشهدا بالنصوص البينات وما قاله أهلُ العلم والذكر الراسخون .

المصلحة هي : الوصفُ الذي يُظَنُّ في ترتيب الحكم عليه جلبُ منفعة للناس ، أو درءُ مفسدة . فإذا شهد الشارع لها واعتبرها صارت مصلحة حقيقية شرعية، وإذا شهد الشارع بإلغائها وعدم اعتبارها صارت مصلحة متوهمة ، هي مفسدة في الحقيقة ، أو الأمر الذي هو ضِدُها أصلحُ منها. ومصلحة لم يتطرق لها الشارع باعتبار ولا إلغاء.

فمن المصلحة التي شهد الشارع لاعتبارها مصلحةُ صلاح المجتمع بأداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومصلحةُ التآلف والمحبة بين المسلمين بأداء النصرة والنصيحة والتعاون وإفشاء السلام ، فهذه مصالح أعتبرها الشارع وأمر بها.

ومصلحةٌ شهد الشارع لإلغائها، لأنها في الحقيقة والنظر الصحيح مفسدةٌ لا مصلحة. فالسلامة من القتل بترك الجهاد مصلحة مظنونة ملغاة بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }. وهي مفسدة في الحقيقة، قال القرطبي: قلت: وهذا صحيح لا غبار عليه, كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار, فاستولى العدوُّ على البلاد، وأيَّ بلاد ؟ وأَسَر وقتَل وسبَى واسترق َّ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ذلك بما قدَّمتْ أيدينا وكسبته.!!

وكذلك ترك النهي عن المنكر، لأجل حُسن الخلق والتأليف والاجتماع ، مصلحةٌ مظنونةٌ ملغاة لقوله تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}وللأحاديث الصحيحة الكثيرة التي أمرت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحذرت أهمالَه وتضييعه. فالحقيقة أنها مفسدةٌ تؤول بالمجتمع إلى الفساد والضلال.

ومصلحة لم يشهد لها الشارع باعتبار ولا إلغاء ، وهي ما يسميه أهل العلم والأصول ، المصالح المرسلة ، والتي هي محل النظر والاجتهاد ، من قبل أهل العلم الراسخ والنظر الصحيح، مثل كتابة المصحف وجمع الناس على حرف واحد ، ومهادنة الكفار بل ودفع المال لهم ليكفوا، حال ضعف المسلمين وقوة الكفار. هذه المصلحة الجمهور لا يعتبرها حجةً ودليلا صحيحا ، والمالكية وكثيرٌ من الحنابلة والمحققون يعتبرها حجة ودليلا ، إذا بُنيت على الأصول والقواعد الشرعية المرعية ، لأن الله تعالى كما أخبر عن نفسه ودينه قد أكمل الدين وارتضاه لنا، وأتم علينا النعمة بتمامه وصلاحه، قال تعالى :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً}.

فليس خيرٌ إلا وقد دلت الشريعة عليه ، إما بالنص عليه عيناً ، وإما استنباطا من الأصوال والقواعد التي دلت عليها النصوص. ثم شددوا لاعتبارها خوفا من تسلط الأهواء والشهوات ، فاشترطوا لاعتبار مثل هذه المصلحة أن تكون متحققة لا مظنونة ، كلية لجميع المسلمين لا جزئية ، دينية لا دنيوية.

هذا التأصيل والتفصيل في المصالح يضع هذه المصلحة المظنونة المزعومة التي يترتب عليها خِذلانُ المسلمين - وأعظم منه المظاهرةُ عليهم - في صف المصالح الملغاة. ذلك بسبب معارضتها للنصوص الصحيحة الصريحة، ولإجماع المسلمين، في وجوب نصرة المسلمين، وتحريم خِذلانهم، أو مظاهرة الكفار عليهم ، بل رتبت النصوص الإثم العظيم على الخِذلانِ والتسليم ، وجعلت المظاهرَ عليهم معدودا في الكفار قد تبرأَ اللهُ تعالى منه.

فلا يُقبلُ - والحال هذه - من أحدٍ الاعتذارُ بهذه المصلحة الملغاة ، ومن فعله فهو مخالف لإجماع واتفاق أهل العلم، مقدم لرأيه وعقله على أمر الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وإنَّ فَتحَ هذا الباب هو التعطيلُ العظيمُ لشرع الله تعالى . فلكل صاحب هوىً وشهوةٍ ونفاقٍ ورأيٍ سقيمٍ أَنْ يزعمَ المصلحةَ فيما يظنه ويراه ، فيُعطلَ الأحكام َ، ويُغيِّرَ ويُبدِّلَ الشرعَ .

قال ابن قدامة رحمه الله تعالى في روضة الناظر: الرابع من الأصول المختلف فيها: الاستصلاح وهو اتباع المصلحة المرسلة ، والمصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة وهي ثلاثة أقسام : قسم شهد الشرع باعتباره فهذا هو القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص أو الإجماع ، القسم الثاني ما شهد ببطلانه كإيجاب الصوم بالوقاع في رمضان على المَلِك، إذ العتق سهل عليه، فلا ينـزجر, والكفارة وضعت للزجر, فهذا لا خلاف في بطلانه لمخالفته النص. وفتح هذا يؤدي إلى تغيير حدود الشرع ... الثالث : ما لم يشهد له بإبطال ولا اعتبار معين.‘

وقال الرازي في المحصول : ’ أعلم أن المصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام: أحدها، ما شهد الشرع باعتباره .. وثانيها ما شهد الشرع ببطلانه ، مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان عليك صوم شهرين متتابعين فلما أُنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة ، قال لو أمرته بذلك لسهل عليه ولاستحقر إعتاق رقبة في قضاء شهوته. واعلم أن هذا باطل لأنه حكم على خلاف حكم الله تعالى لمصلحة تخيلها الإنسان بحسب رأيه ثم إذا عُرِفَ ذلك من جميع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم ، وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي .

فتبين أن هذه المصلحةَ المزعومةَ مصلحةٌ ملغاةٌ لمعارضتها النصوص القطعية والإجماع . وهي أيضا مضنونة لغيرهم برأيه أن يعتبرها مفسدة لا مصلحة. فالتعاون مع الكفرة المعتدين يعينهم في تنفيذ وتحقيق أهدافهم الخبيثة في بلاد المسلمين ، وسيجرئهم لغزو وحرب من لا يعطيهم كلَّ ما يريدونه. وحربُه ومقاومتُه وإلحاقُ القتل والضرر بجنده وعتاده سيصدُه بإذن الله تعالى عن المضيِّ قُدُماً في ظلمه وبغيه، وسيُخرجُه إن شاء الله تعالى صاغرا مهزوما من بلاد المسلمين .



أما الضرورة فهي الحالة التي تجيز للمسلم فعل المحظور عند خشيته هلاك نفسه أو تلف أعضائه أو لحوق العنت العظيم به ، مثل أكل الميتة لدفع مفسدة الموت بسبب عدم توفر الطعام الحلال ، أو شرب الخمر لدفع الغصة المهلكة، أو التلفظ بكلمة الكفر لدفع القتل والضرر العظيم على النفس . فالذي يجيز فعل الحرام والمحظور الضروريات ، وليست الحاجيات ولا التحسينيات.

فالضرورة تدفع وتزال ، لكنها لا تزال بضرر مثله ، أو أعظم منه. فدفعها له ضوابط وقواعد ، فلا يجوز - باتفاق أهل العلم - دفعُ الضرر عن النفس بإيقاع مثله على النفس المعصومة الأُخرى ، مثل أن يَقْتُلَ النفسَ المعصومة ، أو يُعينَ على قتلها ، لبقاءِ نفسه ، فليست نفسه أولى من نفس الآخر. كما لا يجوز دفع الضرر بضرر أعظم منه ، وضررُ الفتنة في الدين وعلو الكفار واستيلاءهم على بلاد المسلمين أعظمُ من فتنة فوات الأنفس والأموال بجهاد وجلاد الكفار. قال ابن جرير: ’ والفتنة أكبر من القتل أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردّوه إلى الكفر بعد إيمانه وذلك أكبر عند الله من القتل .

قال جُندبُ بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: عليكم بالقرآن فإنه نورٌ في الليل وهدىً في النهار، فاعملوا به على ما كان من فقرٍ وفاقة ، فإن عَرضَ بلاءٌ فقدم مالَكَ دونَ نفسِك ، فإن تجاوز البلاءُ ، فقدم نفسَكَ دونَ دينِك ، فإن المحروب من حُرِبَ دينُهُ، والمسلوبَ مَنْ سُلبَ دينُهُ، وإنه لا فاقةَ بعدَ الجنة ، ولا غِنَا بعد النار، إنَّ النارَ لا يستغني فقيرُها، ولا يُفكُ أسيرُها.

فالمجاهد يتربص أحدى الحسنين ، والبلاء بنقص الأنفس والأموال أمرٌ كتبَهُ اللهُ تعالى ليتبيَّنَ الصادقونَ الموقنون ، الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، الذين ما زادَهم ما أصابهم إلا إيماناً وتسليما. ويتبيَّنَ الكاذبون المرتابون ، الذين يقولون ما وعدَنَا اللهُ ورسولُه إلا غرورا ، الذين يتربصون الفريقين ، فإن كان فتحٌ للمؤمنين قالوا ألم نكن معكم ، وإن كانت الدائرةُ للكافرين قالوا ألم نُخذلْ ونمنعْ المسلمين عنكم .

قال الله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.

وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.

وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}.

فالآياتُ الدالةُ على وجوبِ الصبرِ والجهادِ وتقديمِ الآخرةِ على الدُنيا أكثرُ من أن تُحْصى . فما أبعدَ مَنْ جعلَ مِنْ مجاهدةِ الكفار وقتالهم ضرورةً تُبيحُ تسليمَ البلاد والعباد لهم ، حتى تقعَ الفتنةُ بهم وبحكمهم وبكفرهم . ما أبعدَه عن الفقه والدين ، وإنْ زعمَ حِرصَهُ على دماءِ المسلمين وأموالهم. زَعْمٌ يُكذبُه الشرُ والفسادُ الذي سيوقعُهم فيه، ويَفْضَحُهُ مخالفتُه للنصوص والإجماع . وكثيرٌ من أصحابِ هذه الدعوى ، هم كما قيل : المسُ مسُ أرنب ، والريحُ ريحُ ثعلب .

فالمنافقون من قبلُ قد قالوا، كما أخبرنا الله تعالى عنهم : {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. والكفار اليوم يألمون من هذا الجهاد ويُقتلون ويُكلمون، يرميهم الله تعالى ويقتلهم بأيدي من اصطفى من عباده ، ولولا قتالُ الروافض والمنافقين والخونة معهم لما قرَّ لهم بديار المسلمين قرار، وهم أيضا يدفعون ثمنَ هذا القتال اموالاً عظيمةً، ينفقونها ليصدوا عن سبيل الله ، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ واَلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}.

قال شيخ الإسلام : مسألةُ التَتَرُّسِ التي ذكرها الفقهاء ، فإن الجهادَ هو دفعُ فتنةِ الكفر، فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها، ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يُفضي إلى قتلِ أولئك المُتَتَرسِ بهم جازَ ذلك‘. فانظر - رحمك الله - كيف أجاز أهل العلم ، الذين يعرفون المصالح والمفاسد، للمجاهد أن يُباشرَ قتلَ المسلم إذا تَتَرَّسَ به الكفار. واليوم يحرمون ويمنعون - وهم قليلٌ ولله الحمد لكنْ الدعاية لهم ولباطلهم كثرتهم - الجهادَ خشية أن يَقتُلَ الكفارُ المسلمين ، أو أن يَقتُلَ المجاهدون الكفار والمرتدين.

وما أحسن ما قاله الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن محرضاً المسلمين للجهاد : فاحذروا غاية الحذر من سطوة الله تعالى ، فحقيقة الدين هي المعاملة ، وسبيلُ اليقين هي الطريقة الفاضلة ، ومن حرم التوفيق فقد عظمت مصيبته، واشتدت هلكته، وأنتم تعلمون معاشر المسلمين أن الأجل محتوم ، وأن الرزق مقسوم ، وأن ما أخطأ لا يُصيب ، وأن سهم المنية لكل أحد مصيب ، وأن كل نفس ذائقة الموت ، وأن الجنة تحت ظلال السيوف ، وأن الرأي الأعظم في شرب كؤوس الحتوف ، وأن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار، ومن أنفق دينارا كُتب بسبعمائة ، وفي رواية بسبعمائة ألف دينار. وأن الشهداء حقا عند الله من الأحياء ، وأن أرواحهم في جوف طير خُضْرٍ تتبوأ من الجنة حيث تشاء ، وأن الشهيد يُغفر له جميع ذنوبه وخطاياه ، وأنه يشفع في سبعين من أهل بيته ومن والاه ، وأنه آمن يوم القيامة من الفزع الأكبر، وأنه لا يجد كُرب الموت ، ولا هول المحشر، وأنه لا يحس ألم القتل إلا كمس القرصة ، وكم للموت على الفراش من سكرة وغصة. وأن الطاعم النائم في الجهاد أفضلُ من الصائم القائم في سواه ، ومن حرس في سبيل الله لا تُبصر النار عيناه ، وأن المرابط يجري له أجر عمله الصالح إلى يوم القيامة ، وأن ألف يوم لا تساوي يوما من أيامه، وأن رزقه يجري عليه كالشهيد أبدا لا ينقطع ، وأن رباط يوم خير من الدنيا وما فيها، إلى غير ذلك من فضائل الجهاد ، التي ثبتت في نصوص السنة والكتاب.

فيتعين على كل عاقل التعرض لهذه الرُتب ، ومساعدة القائم بها ، والانضمام والانتظام في سلكه ، فتربحوا بذلك تجارة الآخرة ، وتسلموا على دينكم .

فرحمه الله تعالى ، فكلامُه يصدقه ويفرح به المؤمن ، لأنه مأخوذٌّ من كلام رب العالمين ، وقول نبيه الصادق الأمين . ويَهُزُ منه المنافقُ والمرتابُ رأسَه ويقول غرَّ هؤلاء دينُهم . قال تعالى :{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.

وقال تعالى : {انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُواْ إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}

وقال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَـذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى لأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.

وقال تعالى : {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ}.

أستلهموا في الجزء القادم الأخير

شبهة وجوب الراية للجهاد

شبكة البصرة

الجمعة 21 صفر 1426 / 1 نيسان 2005

شامل
02-04-2005, 01:52 PM
كتاب الإنتصار لأهل الفلوجة والجهاد*

الجزء الثامن والاخير

شبهة وجوب الراية للجهاد

شرعَ اللهُ تعالى الجهادَ، وفرضَهُ على المسلمين، وهو كما أخبر تعالى عنه كُرْهٌ لَّكُمْ. لكنَّ خيرَه الكثير للناس مقدمٌ بتقديم الله له على الكُره الذي يلحق بسببه. فمتى قام به مَنْ يكفي سقطَ الإثمُ عن الباقين، وإذا ضُيِّعَ وتُرِكَ، أو قام به من لا يكفي، وقعَ الإثمُ على جميع المتخلفين القادرين.

قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.

وقال تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}. قال ابن كثير: ’ وقال علي بن زيد عن أنس عن أبي طلحة : كهولاً وشباباً ما أسمعُ اللهَ عذر أحدا، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل. وفي رواية قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الآية انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَـاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فقال أرى ربنا يستنفزنا شيوخاً وشباناً جهزوني يا بني ، فقال بنوه يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى مات ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك، فأبى فركب البحر فمات . فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام فلم يتغير فدفنوه فيها!! وهكذا رُويَّ عن ابن عباس وعكرمة وأبي صالح والحسن البصري وشمر بن عطية ومقاتل بن حيان والشعبي وزيد بن أسلم أنهم قالوا في تفسير هذه الآية: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً، قالوا كهولاً وشباناً وكذا قال عكرمة والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرُ واحد. وقال مجاهد شباناً وشيوخاً وأغنياء ومساكين وكذا قال أبو صالح وغيره وقال الحكم بن عتيبة: مشاغيل وغير مشاغيل، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً، يقول انفروا نشاطاً وغير نشاط.‘

وروى الإمامُ أحمد ومسلم عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله: (مَنْ ماتَ ولمْ يَغْزُ ولمْ يُحدِّثْ به نفسَه، ماتَ على شُعبةٍ منْ نفاقٍ ).

والكفاية التي تُسقط الإثم عن المسلمين هي كما قال ابن قدامة: أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم، إما أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك، أو قد يكونوا أعدوا أنفسهم له تبرعا، بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم .

فتحقيقُ الكفايةِ واجبٌ على إمام المسلمين خصوصا، وعلى المسلمين عموما. فرضٌ عليهم أن يُحصِّلَوا القوةَ العسكرية من جُندٍ وسلاح ، مستفرغين جهدهم ووسعهم، مقدمين له على ما سواه من الحاجيات والتحسينات.

ذلك أن الله تعالى أمرنا بذلك وحرضنا عليه ، لما فيه من المصالح الدينية والدنيوية ، التي لا تخفى على العاقل البصير، للمسلمين خصوصا وللناس أجمعين. ولأن الكفارَ أعداءٌ للمسلمين ، لا يزالون يقاتلونهم حتى يردوهم عن دينهم ، بُغضا وعداوة للحق وأهله، وطمعا في ثروات المسلمين وأموالهم وديارهم ، وخوفا من اجتماع كلمتهم وتوحدهم وقوتهم .

وبالتفريط والتضييع في تحقيق الكفاية الإثم والذنب العظيم ، قال تعالى : {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. قال ابن جرير: ’ يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله ، متوعدهم على ترك النفر إلى عدوّهم من الروم : إن لم تنفروا أيها المؤمنون إلى من استنفركم رسول الله ، يعذّبكم الله عاجلاً في الدنيا بترككم النفر إليهم عذابا موجعا. وَيَسْتَبْدِلْ قَوْما غيرَكُمْ يقول : يستبدل الله بكم نبيه قوما غيركم ، ينفرون إذا استنفروا ، ويجيبونه إذا دعوا، ويطيعون الله ورسوله. ولا تَضُرُّوه شَيْئا يقول : ولا تضرّوا الله بترككم النفير ومعصيتكم إياه شيئا، لأنه لا حاجة به إليكم ، بل أنتم أهل الحاجة إليه ، وهو الغنيّ عنكم وأنتم الفقراء واللَّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول جلّ ثناؤه: والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم وعلى كل ما يشاء من الأشياء قدير .

وقال تعالى : {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ لآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنما يستأذنك يا محمد في التخلف خلافك ، وترك الجهاد معك من غير عذر بين الذين لا يصدّقون بالله، ولا يقرّون بتوحيده وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ يقول: وشكت قلوبهم في حقيقة وحدانية الله ، وفي ثواب أهل طاعته، وعقابه أهل معاصيه. فَهُمْ فِي رَيْبهْمِ يَتردَّدوَن يقول : في شكهم متحيرون ، وفي ظلمة الحيرة مترددون ، لا يعرفون حقًّا من باطل ، فيعملون على بصيرة. وهذه صفة المنافقين .

وفي سننِ أبي داوود عن ابنِ عُمَرَ قالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إذَا تَبَايَعْتُمْ بالْعِينَةِ وَأخَذْتُمْ أذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ الله عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُم ).

وفي ترك الجهاد علوٌ للكفار، وذلٌ للمسلمين ، وهذه هي الفتنة والكفر والشرك. قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. قال ابن جرير: فقاتلوهم حتى لا يكون شرك ولا يُعبد إلاَّ الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو الفتنة، ويكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لله يقول: حتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره .

فَهُم متى ظهروا على المسلمين غيروا الدين بالقوة والإكراه حينا، وبالدعاية للباطل وتزيينه والإغراء به بالأموال والتولية والتمكين حينا .

فلو لم يكن الشرعُ قد دلَّ على تقديم تحقيق الكفاية العسكرية على تحقيق الحاجيات والتحسينات المعيشية لكان العقلُ الصحيح والنظرُ السليم دالاً وآمراً به. إذ الدين والنفس والعرض والمال والعقل ، معرضٌ لبطش وسطوة الكفرة الحاقدين ، الذي لن يرعى صغيرا ولا كبيرا ، ولا امرأة ولا ضعيفا . وكلُ ما عُمِّر وشِّيدَ معرضٌ للتدمير والتحريق والتخريب ، الذي لن يُبقيَّ قريةً ولا دارا ولا زرعا .

فمن العجب أن يوافقَهم ويرددَ قولَهم بعضُ المسلمين ، في تحريمهم أسباب القوة على المسلمين ، وجعلِهم أسلحة الدمار والفتك حكرا عليهم، يتسلطون بها ظلما على البلاد والعباد، وينشرون الفتنة والفساد.

هذا الركن العظيم والقطب المتين، له أحكامٌ وقواعد وضوابط ، فمَن نجاهد ونقاتل ؟ ومتى نقاتل ونسالم ؟ وكيف نقاتل ونعاهد ونواثق ؟ وما الذي نغنم وكيف يُقسم ؟ وكيف نتعامل مع المحاربين والمعاهدين والأسرى والمستأمنين ؟

كل ذلك قد ذكره وبينه الله تعالى في كتابه العزيز، وبينه وجلاه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته وسيرته ، وفصَّلَ ودقَّقَ وحقَّقَ فيه أهلُ العلمِ الراسخون فقهاً واستباطا وقياسا من النصوص . فمن ذلك أنهم حكموا وأوجبوا الجهاد عيناً على كل مسلم في حالات ثلاث :

الأولى : إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان ، يحرُمُ على من حضر من أهل الجهاد - وهم الذكور الأحرار المكلفون المستطيعون لسلامة أبدانهم - الانصرافُ والفرار، قال تعالى: {يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}.

الثانية : إذا نزلَ الكفارُ ببلد ٍ، تعيَّنَ على أهله قتالُه ودفعُه ، قال المرداوي في الإنصاف: ’ تنبيه: مفهوم قوله: أو حضر العدوُ بلدَه، أنه لا يلزم البعيد، وهو صحيح، إلا أن تدعوَ حاجةٌ لحضوره ، كعدم كفاية الحاضرين للعدو، فيتعين أيضا على البعيد .

الثالث : إذا استنفر الإمامُ قوماً للقتال ، لزِمَهُم النفير، لعظيم حق الإمام ، قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثَّاقَلْتُمْ إِلَى لأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}. وفي صحيح البخاري عن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما قال- قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ لا هِجرةَ بعدَ الفتح ِ، ولكنْ جِهادٌ ونيَّة ، وإذا استُنِفرتم فانفِروا) .



والحالُ اليومَ أن الكفارَ قد غزوا وأخذوا واحتلوا بلادَ المسلمين ، وانتزعوها من أهلها، في العراق وفلسطين وافغانستان وغيرها ، سواءٌ كانت تلك البلادُ محكومةً قبلَ احتلالها من منافقٍ كافر، أو مبتدعٍ ظالم ، أو مسلمٍ صالح . فهذه البلاد والمدن والقرى مسلمةٌ بأهلِها، قد نزل بساحتها العدوُ الكافر، والذي يسعى لتمكين المنافقين المرتدين فيها ليحققوا له كلَّ أطماعِه ومصالحه، وليحكموا المسلمين بالطاغوت وليشيعوا بينهم الكفر والفتنة والضلال والفساد. فكان عيناً على أهلها الجهادُ والصبر عليه، حتى يأتيَّ النصرُ والفتح من الله تعالى ، أو يعذروا بالقتل أو الأسر.

أو يبلغوا حداً من الضعف والقلة لا يستطيعون معه حرباً ولا غارة ولا نكاية. فلهم حينئذٍ – وهم أعلم بحالهم ممن يأخذ أخبارهم من عدوهم - أن ينحازوا إلى فئةٍ مسلمةٍ إن وجدوا لهم نصيرا ومعينا من المسلمين . فإن لم يجدوا نصيرا، كان الإثمُ على مَنْ أسلمهم ، ووجبت الهجرةُ عليهم فرارا بدينهم من فتنة الكفار، فإن لم يجدوا بلدا مسلما يقبلُهم، عُذِرُوا، وكان الإثمُ على مَنْ منعهم الهجرة وصدهم عن بلاد المسلمين. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً}.

فهل يُشترطُ للجهادِ - والحالة هذه - إمامٌ يجتمعُ الناسُ عليه، ورايةٌ يعقدُها، يُجَاهدُ تحت إمرتها وتوجيهها ؟! هذا ما اشترطه اليوم مَنْ اعتمدَ في فتواه على أخبارٍ وأنباءٍ يأتيه بها فسقةٌ وظلمة ومنافقون. فتصورَ الأمرَ بخلاف حقيقته، واللهُ تعالى نهانا أن نقبلَ النبأَ من الفاسق ِ، فكيف بالمنافق والكافر.

وانظرْ إلى الكفارِ في حربهم وهم لا يألون جهداً ولا حيلةً لإخفاء حقيقة ما يخسرونه من الأرواح الخبيثة والأبدان النجسة والعُدةِ والسلاح . وكيف يتسابق الفسقة والمنافقون ، لإظهار قتلى وخسائر المسلمين ، والتستر على مكاسبهم ومغانمهم، يفعلونه لإضعاف همم المسلمين وللإرجاف والتخويف . قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.

واشترط الرايةَ آخرون لا يفقهون ، ولا يدرون أنهم لا يفقهون . فوقعوا جميعا في أمور :

الأولى : أنهم لم يفرقوا بينَ جهادِ الطلب وجهادِ الدفع -: بينَ جهادٍ يغزو فيه المسلمون الكفار، وجهادٍ يدفعون به الكفارَ عن بلادهم ، وهذا تفريقٌ قد أجمع عليه المسلمون . فجهادُ الدفعِ فرضُ عين باتفاقهم لا يُستأذنُ فيه ، ولايتخلفُ عنه ، أما الآخر فهو فرض على الكفايه ، ويكون فرضُ عينٍ على من استنفره الإمام أو حضر الصف، هذا التفريق دليله الإجماع والنصوص ، والنظر الصحيح للمقاصد الشرعية.

وكلا الجهادين أمرُه موكولٌ إلى الإمام واجتهاده ، ويلْزَمُ طاعتُه، فإن عُدمَ الإمام - وهذا يتصور حال غزو الكفار لبلاد المسلمين وقتلهم لإمامهم - وجبَ تنصيبُ إمام حسَبَ الاستطاعة ، وإلا نَصَّبَ كلُ بلد أو جماعة أميرا عليهم ، يأتمرون بأمره ويصدرون عن رأيه. قال شمس الدين ابن قدامه في الشرح الكبير: فإن عُدم الإمام ، لم يؤخر الجهاد، لأن مصلحته تفوت بتأخيره. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: ’ ويقال : بأي كتاب أم بأية حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع ! هذا من الفرية في الدين ، والعدول عن سبيل المؤمنين. وقال ما معناه: أن القولَ باشتراط الإمام للجهاد، فإذا لم يوجد إمام فلا جهاد ، يلزمُ منه مخالفةُ أمر الله وذلك بالوقوع في ترك الجهاد وحصول الموالاة للكفار. فلما كان ما يلزم من هذا الشرط باطلا، دلَّ على أن الشرط باطل . وذمَّ وسفَّه وبدَّع صاحب هذا القول. فكيف لو سمعهم يشترطونه في جهاد الدفع ، ويلزم مِن شرطِهم الغريب العجيب ذهابُ بلاد الإسلام واستيلاء الكفار عليها، ووقوع الفتنةِ بهم وبباطلهم .

الثانية: ما يُدريهم أن يكونَ لهم إمامٌ أو أمير، قد اقتضت مصلحة الجهاد إخفاءَ اسمِه، وعدمَ ظهوره. بل الظاهر أن لهم في العراق وأفغانستان وغيرها قيادة ، ولديهم تنظيم وتنسيق . وهذا حَسْبَ جهدهم واستطاعتهم حين لم ينصرهم إمامٌ من المسلمين فينحازوا إليه ويقاتلوا معه .

الثالثة : أن علماءَ المسلمين في تلك البلاد، وهم أعلمُ بواقع حالهم ، أفتوا بوجوب الجهاد والمقاومة والمجالدة ، لهذا الكافر المحتل ، حتى يُخْرُجَ - بإذن الله تعالى - مهزوما صاغرا من بلاد المسلمين . أفتوا بذلك وجازفوا بأرواحهم الطيبة نُصرةً للحق، وغيرةً على الإسلام وأهلِه ، فللهِ دَرُّهُمْ ، وأُشهدُ اللهَ على حبِهم ، وأسألُه ثباتَهم وحِفْظَهم. وأذكرهم بما رواه ابنُ الجوزي في كتابه مناقب الإمام أحمد الشيباني البغدادي قال: أخبرنا محمد بن ناصر، قال : أنبأنا أحمد بن أبي سعد النيسابوري قال: سمعت عبد الله بن يوسف يقول : سمعت أبا العباس الأصم يقول : سمعت العباس الدوري يقول : سمعت الأنباري يقول : لما حُمل أحمدُ بن حنبل إلى المأمون أُخبرت ، فعبرت الفُرات فإذا هو جالسٌ في الخان ، فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر تعنَّيت, فقلت: ليس هذا عناء ، وقلت له : يا هذا .. أنت اليوم رأسٌ والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليُجيبنَّ بإجابتك خلقٌ كثير من خلق الله ، وإن أنت لم تُجبْ ليمتنعنَّ خلقٌ من الناس ، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتُلك فإنك تموت، ولا بُدَّ من الموت ، فاتَّقِ اللهَ ولا تُجبهم إلى شيءٍ .. فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ما شاء الله ، ثم قال لي أحمد: يا أبا جعفر أعِد عليَّ ما قُلتَ. فأعدت عليه، فجعل يقول ما شاء الله ما شاء الله .

فإن كان هذا موقفَ علماء الرافدين ، فكيف يجرؤ هذا المُخذِلُ على مثلِ هذا القول ؟ الذي سرَّ وأسعدَ الكفار، واستظهروا به لإضعاف المسلمين وتفريق كلمتهم وشق صفهم. قد والله ركِبَ أصحابُ هذا الباطل شططا ، وما قالوا قصدا ولا وسطا، ووقعوا في المظاهرة والمعاونة على المسلمين من حيث يشعرون أو لا يشعرون .

سُئل الإمام أحمد عن الرجل يقول : أنا لا أغزو ويأخذه ولدُ العباس ، إنما يوفَّرُ الفئُ عليهم – يريد أن الغنيمة تذهب لهم – فقال : سبحان الله ، هؤلاء قوم سوء ٍ، هؤلاء القَعَدةُ، مثبطون جُهال ، فيقال : أرأيتم لو أن الناس كلهم قعدوا كما قعدتم ، من كان يغزو ؟ أليس كان قد ذهب الإسلام ؟ ما كانت تصنع الروم ؟

فكيف يقول إمامُ بغداد والدنيا في زمانه – رضي الله عنه - لو سمع مقالتهم اليوم، لا تقاتلوا الكفار وسلموا لهم الديار وارضوا بالمهانة والصغار، والفتنة والارتداد ! حتى يخرج إمام تقاتلون خلف رايته الكفار. ما أشبه مقالتهم بمقالة الشيعة ، حين قالوا لا قتال ولا جهاد حتى يَخرُجَ الإمامُ المهديُ المنتظر ؟!

قال ابن قدامة في المقنع: ولا يجوز الغزو إلا بإذن الإمير، إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلَبَهُ‘. فقال شمس الدين في شرحه : إذا جاء العدو لزم جميع الناس، ممن هو من أهل القتال ، الخروج إليهم .. إذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الإمير، لأن أمرَ الحرب موكولٌ إليه ، وهو أعلمُ بكثرة العدو وقلتهم ، ومكامنهم وكيدهم. فينبغي أن يُرجعَ إلى رأيه ، لأنه أحوطُ للمسلمين ، إلا أن يتعذَّرَ استئذانُه لمفاجأة عدوهم ، فلا يجب استئذانُه حينئذ. لأن المصلحةَ تتعين في قتالهم والخروج إليهم ، لتعين الفساد في تركهم ، ولذلك لما أغار الكفار على لِقاح النبي صلى اله عليه وسلم ، فصادفهم سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ، خارجا من المدينة ، تبعهم فقاتلهم من غير إذن فمدحه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال( خير رجالاتنا سلمة بن الأكوع ).

وقال المرداوى معلقا ومحققا للمذهب : هذا المذهبُ ونصَّ عليه، وعليه أكثر الأصحاب .. وقال المصنف في المغني يجوز – الجهاد دون إذن الإمام - إذا حصل للمسلمين فرصة يُخاف فوتُها .

فلا خلافَ عندَ العُلماءِ في جوازِ بل وجوبِ الجهاد، إذا تعذَّرَ وجودُ أو نصبُ الإمام، إذا فجأهم العدو وأخذَ بلادَهم . وإنما الخلاف في جواز غزو بلاد الكفار المحاربين دون إذنه. والصحيح والمذهب عدم جواز غزوهم دون إذنه وتحت رايته ، لما في ذلك من المفاسد التي قد تلحق بالمسلمين نتيجةً لهذا الغزو. فالإمام أعلم بقوة المسلمين وقدرتهم على قتال الكفار، وأعلم بقوة العدو وضعفه، فكان الإفتئاتُ عليه مضرةً ومجازفة بأرواح المسلمين وأعراضهم وديارهم .

الخاتمـة

الحمدُ للهِ وحدَه، صدَقَ وعدَه، ونصرَ عبدَه ، وهزمَ الأحزابَ وحدَه. أَخْتُمُ هذا الكتاب، ومعركةٌ ضروسٌ تدور بمدينة المساجد الفلوجة المجاهدة الأبية. تدور بين فئةٍ مؤمنة صادقة، قليلٌ أعدادها وعتادها، كثيرٌ صدقها وجلادها. وأحزابٍ كافرةٍ ظالمة، كثيرٌ أعدادها وعتادها، قليلٌ صِدقُها وجِلادُها. معركةٌ ستليها - بإذن الله تعالى - معاركٌ ومعارك ، حتى يأتيَّ نصر الله تعالى .

ألا إنَّ نصرَه قريب ، قد جعله حقا عليه للمؤمنين الصابرين الموقنين ، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ}.

وعَدَ اللهُ جلَّ جلالُه - ووعده الحق - النصرَ والتثبيت مَنْ نصره، قال تعالى : {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}. ومَنْ نصره اللهُ تعالى فلا غالبَ له، ولو أجتمع عليه من بأقطارها، فابشروا بنصر الله، واصبروا حتى يحكُمَ الله، وتوكلوا على الله وحسبكم الله، وكفى بالله حسيبا. قال تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

قال ابن جرير: ’ إن ينصركم الله أيها المؤمنون بالله ورسوله، على من ناوأكم وعاداكم من أعدائه ، والكافرين به ، فلا غالب لكم من الناس ، يقول : فلن يغلبكم مع نصره إياكم أحد، ولو اجتمع عليكم من بين أقطارها من خلقه، فلا تهابوا أعداء الله لقلة عددكم ، وكثرة عددهم ، ما كنتم على أمره ، واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله، فإن الغلبة لكم والظفر دونهم .

فإن كان الله تعالى - وهو الحكيم الخبير - جعلَ هذا اليومَ تمحيصاً واتخاذاً للشهداء، فجعل الدائرةَ لهم. فإن الله تعالى قد عزى وسلى ( أهلَ أُحدٍ ) من قبلُ بآيات محكمات، هن عزاءٌ لهم ، ولكلِ مجاهدٍ سلك طريقهم وأصابه ما أصابهم. قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الاٌّرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاٌّعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاٌّيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَـافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّـاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاٌّخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّـاكِرِينَ * وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّـابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِىا أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ * فَـئاتَـاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاٌّخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

وقد سمِعَ ورأى المسلمون في الجزيرة والشام ومصر والسودان والمغربِ والمشرقِ قليلاً - مِنْ ما أخفوه وتواصوا بكتمه - مِنْ بأسِكم وصدقِكم ونكايتكم بعدوكم . ففرحوا ببشائر نصركم ، ودعوا الله لكم، وتمنوا لو كانوا معكم ، واستغفروا الله تقصيرَهم وقِلةَ حيلتِهم. فبحمد الله قد أصبتم وأثخنتم فيهم ، وملأتم قلوبهم رعبا وفرقا، وقلوب المؤمنين عزة وعزما وإقداما.

وكما وعدَ اللهُ تعالى مَنْ نصرَه النصرَ والتمكين ، فقد توعَّدَ من تولى وأعرضَ ، وبدل وغيَّرَ، وألقى بنفسه إلى التهلكة ببُخلِه بنفسه وماله عن ما فرضه اللهُ عليه من الجهاد والقتال. قال ابن جرير: ’ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام ، عن الجراح، عن أبي إسحاق، قال: قلت للبراء بن عازب : يا أبا عمارة الرجل يلقى ألفا من العدوّ فيحمل عليهم وإنما هو وحده ، أيكون ممن قال: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَة؟ فقال: لا، ليقاتل حتى يقتل - قال الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ ... حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني حيوة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران ، قال : غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. قال: فصففنا صفين لم أرَ صفين قط أعرض ولا أطول منهما، والروم ملصقون ظهورهم بحائط المدينة ، قال : فحمل رجل منا على العدوّ، فقال الناس: مَهْ لا إله إلا الله ، يلقي بيده إلى التهلكة. قال أبو أيوب الأنصاري : إنما تتأوّلون هذه الآية هكذا أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة أو يُبلي من نفسه إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار . إنا لما نصر الله نبيه، وأظهر الإسلام ، قلنا بيننا معشر الأنصار خفيًّا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه ، هلم نقيم في أموالنا ونصلحها فأنزل الله الخبر من السماء: وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَة الآية، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها، وندع الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية.

وحين سمع المسلمون (يوم مؤته) وهم ثلاثة الآف بعدة جيش الروم مئتي الف مقاتل، قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: ’ والله يا قوم إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون ، الشهادة. وما نقاتل العدو بعدة ولا قوة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين .

توعد الله هؤلاء أن يبدلَّ نعمتَه عليهم نقمةً وعذابا ، قال تعالى : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}.

وقال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}.

ثم يختار الله ويصطفي من الناس، فيأتي بقوم غيرَهم ، يؤمنون ويجاهدون لا يخافون لومة لائم. قال تعالى : {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم}.

وقال تعالى : {ذلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ ممَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}.

اللهم أنصر أهل الفلوجة والعراق والمجاهدين من المسلمين في كل مكان. اللهم أنصرهم وثبتهم، وأنزل السكينة والنصر والمدد عليهم، اللهم واجمع كلمتهم على التوحيد والإيمان والتقوى، ووحد صفوفهم وسدد رأيهم وضربهم ورميهم. اللهم واشدد وطأتك على عدوك وعدوهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم واقتلهم وعذبهم بأيدي عبادك المؤمنين. اللهم وأقم علم الجهاد واقمع أهل الشرك والريب والفساد، وانشر رحمتك على العباد، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

شامل
02-04-2005, 01:58 PM
اللهم أنصر أهل الفلوجة والعراق والمجاهدين من المسلمين في كل مكان. اللهم أنصرهم وثبتهم، وأنزل السكينة والنصر والمدد عليهم، اللهم واجمع كلمتهم على التوحيد والإيمان والتقوى، ووحد صفوفهم وسدد رأيهم وضربهم ورميهم. اللهم واشدد وطأتك على عدوك وعدوهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم واقتلهم وعذبهم بأيدي عبادك المؤمنين. اللهم وأقم علم الجهاد واقمع أهل الشرك والريب والفساد، وانشر رحمتك على العباد، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


آمين آمين آمين آميييييييييييييييييييييييييييييييييييييين

صدام العرب
09-04-2005, 10:06 PM
جزاك الله خير الجزاء بما نقلت من علم نافع بإذن الله