واصلوا الجهاد
17-05-2004, 10:05 PM
صلاح المختار
بعد ان اكملت امريكا سيطرتها على اغلب منابع النفط الرئيسية لم يبق خارج سيطرتها سوى المنابع العراقية .
الجزء الخامس :
النظرية الجيوبوليتيكية الجديدة :النفط اداة هيمنة كونية
لا تقتصر ازمة امريكا في العراق على وصول مخططها الاقليمي، القائم على السيطرة على الوطن العربي ودول الجوار ، تحت اسم( الشرق الاوسط الكبير ) ، الى طريق مسدود فحسب بل هي تشمل المشروع الامبراطوري الكوني ، اي اقامة ديكتاتورية عالمية تقودها اوتسيطر عليها امريكا مباشرة ، والذي يهدده اندلاع ثورة مسلحة في العراق عقب غزوه ، لان هذا المشروع يقوم اساسا على مجموعة مقتربات من اهمها استخدام النفط العربي كسلاح جبار لابتزاز العالم ، وهو هدف لايمكن تحقيقه الا بالسيطرة على العراق مباشرة . لقد كنا منذ زمن مبكر نؤكد (مثلا في دراساتنا وتحليلاتنا التي نشرناها خصوصا في المجلة الاكاديمية شؤون سياسية وجريدة الجمهورية حينما كنت رئيسا لتحريرهما في الفترة 1993 و1998 )على ا ن النفط لم يعد مجرد سلعة ستراتيجية بالغة الاهمية بل اصبح ايضا اخطر ادا ة ضغط وابتزاز ، بعد ان اكملت امريكا سيطرتها على اغلب منابعه الرئيسية ، ولم يبق خارج سيطرتها سوى المنابع العراقية ، التي اممت القيادة الوطنية العراقية نفطها عام 1972 وجعلته صناعة وطنية كليا منعت الاحتكارات الاجنبية من نهبه، وسخر، كليا ايضا ،لاغراض التنمية الوطنية المستقلة وبناء مجتمع خال من الفقر والامية والامراض المزمنة ، ومتقدم تكنولوجيا وعلميا، وهكذا بني العراق المستقل اقتصاديا ، وبفضل ذلك الاستقلال الاقتصادي نفذ سياسة مستقلة ، ايمانا منه بان الاستقلال كلمة فارغة من دون السيطرة كليا على موارده الاقتصادية . لنتناول هذه المسالة بالتحليل والدراسة .
ثمة حدثان كبيران يقفان خلف النزوع الامبراطوري الامريكي المتطرف ، الاول هو توفر الفرصة التاريخية الاكبر لامريكا لتحقيق حلمها الاقدم بالسيطرة التامة على العالم وبشكل منفرد، وذلك بانهيار المعسكر الشيوعي في الفترة بين 1989 و1991 ، اما الثاني فهو اقتران تاصل عقدة فيتنام مع اقتراب جفاف منابع النفط الامريكية ، التي اصبحت كلفة استثمارها عالية جدا ، لذلك برزت الحاجة ، وبشكل حاسم ، لمصادر نفط بديلة ، وبتزامن هذين الحدثين ولد النزوع الاشد تطرفا في امريكا لاستعمار العالم،كيف ذلك ؟
لقد كان الصراع الشيوعي – الراسمالي يستهدف تحقيق انتصار احد الطرفين وفرض انموذجه على العالم بوسائل مختلفة ،ولذلك فان انهيار الشيوعية شكل تحولا جذريا في التوازن الستراتيجي وانهاء للنظام الدولي الذي رافقه ، فاحدث ذلك فراغا ستراتيجيا لم تملاه الصين ، في حين حاولت اوربا ، باعلان ( الاتحاد الاوربي ) عام 1993، ا ن تملاه جزئيا ، اما الولايات المتحدة فقد وجدت نفسها بأزاء مازق حقيقي ، وهو انها ، في حين يستحوذ عليها ،وبتطرف ، هدف السيطرة على العالم وفرض انموذجها عليه ، وجعله مجرد مزرعة كبيرة لرعاية ( ابقارها ) ، اي احتكاراتها ، فان انهيار المعسكر الشيوعي قد حصل وليس لدى امريكا ( خطة طوارئ ) حقيقية وعملية لملآ الفراغ الكبير الناجم عنه ، لذلك ساد الارتباك على وسائل السيطرة على العالم ، ولم تبرز خطة ستراتيجية شاملة ومتفق عليها قوميا في امريكا حول كيفية السيطرة على العالم ، وقد برز ذلك واضحا وبحدة في تباين ، بل واحيانا تناقض، خيارات ادارات بوش الاب و بيل كلنتون وبوش الابن فيما يتعلق بالكثير من القضايا مثل العراق ، افغانستان ، اوربا ، حلف الناتو ، البيئة ، منظمة التجارة العالمية ، الموقف من بريطانيا ...الخ ، وعلى صعيد المفاهيم الستراتيجية تنافست ، وتناقضت نظريتان رئيسيتان هما نظرية فوكوياما حول( نهاية التاريخ ) ، والتي طرحها مباشرة عقب انهيارات اوربا الشرقية في عام 1989 ، ونظرية هنتنغتون حول( صراع الحضارات) ،والتي نشرها في عام 1993 ،وقد عبرت اجوائهما الرمادية عن سذاجة الاولى ، لجهلها التاريخ ، وخبث الثانية، لزرعها بذور الصراع الحالي الذي يدور باسم صراع ( الغرب المسيحي مع الشرق المسلم ) ! وكان ابرز اشكال التناقض هو اصرار فوكوياما على مقولة نهاية التاريخ بانتهاء الصراع الشيوعي –الراسمالي بانتصار اللبرالية الامريكية ، وهكذا انتهى التاريخ والصراع ! بينما اصر هنتنغتون على ان العالم يشهد صراع حضارات ينغرز في جذور الدين والثقافة القومية !
واذا وضعنا هذه التخبطات جانبا ، وجدنا ان اكبر تحد واجه ، ويواجه امريكا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي هو ادراكها ان (العالم عبارة عن غابة مملوءة بالثعابين والوحوش ) ، كما عبر احد مسؤولي الادارة الامريكية اثناء رئاسة كلنتون ، ومن ثم فان اقامة امبراطورية كونية يتطلب قتل( الثعابين) و(الوحوش) ، وهو امر يجر امريكا جرا الى عقدة فيتنام ، لان قتل( الوحوش والافاعي) يتطلب دخول حروب او معارك رئيسية في ( الغابة العالمية ) ، مع دول غير نووية ولاتملك القدرة على ردع امريكا عسكريا ، الامر الذي يزيل اطنان الرمل من فوق عقدة فيتنام ،بفتحه ابواب قتل الجنود الامريكيين اثناء حروب السيطرة على العالم . ولتجنب هذا الخيار الانتحاري توصلت امريكا الى صياغة ستراتيجية تجمع بين ، اولا ، زيادة هوة التفوق العسكري- التكنولوجي بينها وبين العالم المتقدم وتحقيق تفوق مطلق على الجميع ، وثانيا ، استخدام القوة العسكرية بصورة انتقائية لتصفية بعض العقبات بالقوة وبعث رسالة لبقية (العقبات )تقول بان مصير من يقاوم امريكا سيكون هكذا ، بعد تامين كافة سبل ابقاء عقدة فيتنام نائمة ، واستخدام النفط، ثالثا ، كاداة ابتزاز سياسية لتركيع كل العالم ، بلا حروب عسكرية، وبهذه الوسائل مجتمعة تستطيع امريكا ا ن تعطل ازمة نظامها الراسمالي الشائخ .
ان تحقيق تفوق ستراتيجي مطلق على كافة القوى الدولية مجتمعة ،يتطلب تطوير اجيال جديدة من الاسلحة الحديثة ومنظومات الحرب الالكترونية ونظم القيادة والسيطرة البالغة التطور ، وغيرها ، بحيث تصبح القوى الكبرى عاجزة عن اللحاق بامريكا ، فتضطر لاختيار الانقياد لها ، ثم اختيار اهداف سهلة عسكريا في العالم الثالث ، وذلك لافتقارها لوسائل الدفاع التقليدية عن النفس ( مثل العراق ) فتضربها بشدة وتلحق يها دمارا هائلا ، وبذلك تبعث برسالة للجميع مفادها : اذا لم تخضعوا لنا فسوف يكون مصيركم الدمار ! وهكذا تستسلم بقية ( الوحوش ) دون حرب ! ويمهد الطريق لنوع اخر من الحروب لاتضطر فيه امريكا لبذل الدم وايقاظ عقدة فيتنام ، هو حرب الابتزاز النفطي ، ويقوم هذا الابتزاز على التحكم بالطاقة بالامساك بالمنابع الرئيسية كلها وتحديد الاسعار والكميات المصدرة للجميع ، فيتم التحكم بالتطور الاقتصادي والتكنولوجي للجميع ،وهذا يعني، ويساوي، القدرة الامريكية على التحكم باقتصادات كافة الدول وتطورها التكنولوجي . ويقوم منطق هذه النظرية الجيوبوليتيكية على فكرة واضحة : ان عدم وجود بديل عملي واقتصادي للنفط , كمصدر ارخص وافضل من غيره للطاقة ، يعرض اي بلد يحرم منه جزئيا لمشاكل كبيرة ، اما اذا حرم منه كليا فانه سيدمر وينهار ، لذلك فان بامكان من يسيطر على مصادر النفط ان يبتز الجميع ويجبرهم على الركوع لشروطه ، مهما كانت مجحفة . وقد صيغت النظرية كالتالي : من يسيطر على منابع النفط الرئيسية كلها يضمن السيطرة على العالم .
وهذه النظرية كي تكون حاسمة التاثير يجب ان تعتمد على السيطرة الكاملة على منابع النفط الرئيسية ، وليس على اغلبها ، لان وجود مصدر رئيسي مستقل وحر واحد يسقط هذا المفهوم بفضل قدرة هذا المصدر على تصدير النفط لمن يحتاج اليه دون شروط ابتزازية ، وعندها يحيد النفط كسلاح سياسي بيد ا مريكا ويصبح بلا فائدة ، لذلك فان الشرط الحاسم لجعل النفط سلاحا سياسيا هو السيطرة على كل منابعه وليس اغلبها ، وبما ان اميركا تسيطر على اغلب وليس كل المنابع ، فانها لكي تستخدم النفط كسلاح ابتزا ز ستراتيجي وحاسم يجب ا ن تكمل سيطرتها على المنابع كلها ، وبما ان العراق هو البلد الوحيد الرئيسي الذي لايخضع للسيطرة الامريكية ، لهذا كان يجب غزوه باي ثمن ، لضمان جعل النفط قوة لاتقهر . ان هذه الحقيقة الجيوبوليتيكية هي التي تقف خلف مخطط غزو العراق والاصرار الامريكي ،الذي بدى غريبا لمن لم يعرفها ،على تجاوز، ونقض واحتقار، كل القواعد والضوابط التي دافعت عنها هي وبقية الغرب الاستعماري منذ صعد المعسكر الشيوعي ، مثل : القانون الدولي وحق تقرير المصير والديمقراطية والسيادة وميثاق الامم المتحدة واكذوبة ( القيم الامريكية الاخلاقية والانسانية)...الخ ، من اجل تحقيق غزو العراق .
نحن لم نبالغ حينما قلنا خلال العقدين الماضيين،ولا نبالغ حينما نقول الان مجددا، بان مستقبل الطاقة العالمي يتوقف على العراق ، فالعراق من الناحية الرسمية يملك 120 مليار برميل نفط ، وهو ثاني اكبر احتياطي نفطي بعد السعودية ، التي تملك 220مليار برميل نفط ،ومايستثمره العراق حاليا يكفي لتوفير الطاقة للكثير من القوى الكبرى ، خصوصا اوربا ، دون ابتزاز ، الامر الذي يجعل سيطرة امريكا الحالية على اغلب المنابع غير مجدية ستراتيجيا ، رغم اهميتها الاقتصادية ، وهذه الحقيقة النفطية لوحدها تجعل العراق الحر والمستقل وغير الخاضع لامريكا العقبة الاساسية التي تمنع امريكا من تحقيق مشروعها الامبراطوري الكوني ، لانه يحرر القوى التي تستهدفها امريكا من الابتزاز النفطي . وثمة حقيقة اخرى بالغة الاهمية لايعرفها الكثيرون ، بما في ذلك خبراء نفط ، وهي ا ن العراق هو المالك الحقيقي لاكبر احتياطي نفطي في العالم ، لقد دلت الاستكشافات التي اجرتها وزارة النفط العراقية في منتصف التسعينيات على ا ن الاحتياطي النفطي العراقي المحتمل يصل الى رقم يتراوح بين 250-300 مليار برميل نفط ، وان ثمة مناطق اخرى مازالت تحت الاستكشاف ويحتمل انها تضم كميات ضخمة اخرى من النفط ، ومن المؤكد ان امريكا قد اكتشفت هذه الحقيقة قبل العراق ، عن طريق الاستكشاف الجوي في الثمانينات ، وكان لذلك الدور الحاسم في التمسك الامريكي القديم بالسيطرة على العراق ، وفي اشعال الحرب الايرانية –العراقية وتفجير ازمة الكويت . ومما يزيد في اهمية هذه الحقيقة الجيوستراتسجية الخطيرة حقيقة طبيعية اخرى وهي ان تكلفة النفط العراقي هي الاقل ،فبرميل النفط في العراق يكلف نصف دولار ، ام تكلفته في السعودية فهي دولارين ، وتكلفته لدى باقي المصادر تتراوح بين 20- 30 دولار ! وتقود هذه الحقيقة الى واقع اقتصادي يدفع بالعراق ليحتل مركز اعظم مركز جيوبولتيكي في العالم في مجال مصادر الطاقة !
واذا تذكرنا حقيقة اخرى وردت في تقرير المخابرات المركزية الامريكية الخاص بربع القرن القادم ، والذي كشف النقاب عن ان حاجة اميركا للنفط ستتضاعف خلال 20 سنة ، في ظل جفاف منابع النفط الامريكية او ضخامة تكاليفها وتلويثها للبيئة ، كما في الاسكا، وتناقص قدرة السعودية وغيرها من المنتجين على تلبية الاحتياجات المتزايدة للطاقة ، ادركنا ببساطة ،وبلا حذلقات لفظية، ان مصير العالم في مجال الطاقة سوف يتقرر في العراق وليس في غيره .وهكذا اصبح مصير المجتمع الامريكي الاستهلاكي يتوقف على تامين مصادر طاقة بديلة ضخمة ومستمرة ومضمونة ، فبرز اسم العراق بصفته( كلمة السر ) في مستقبل امريكا ، فبدون نفط العراق لن تستطيع اميركا الاحتفاظ بامتيازات مجتمعها ، وتلك نقطة البداية لتقوض عظمة امريكا وتحولها الى دولة عادية . وبالارتباط مع هذه الحقيقة تبرز مسالة اخرى وهي ان الشركات الامريكية المختصة بالطاقة تجد في ما سبق كشفه ان العراق اعظم مشروع استثماري من حيث الربحية وسرعة الوصول اليها ، فالاستثمار في القطاع النفطي العراقي يحقق اعلى ربحية ممكنة ويوفر للشركات الامريكية بدائل استثمارية طويلة العمر تبقيها على قمة تعجز الشركات العالمية المنافسة عن الوصول اليها .
اذن العراق بالنسبة لامريكا يشكل قاعدة مثلثة لن تقوم الامبراطورية الامريكية الا عليها :فمن جهة اولى هو مالك اكبر احتياطي نفطي فعلي في عالم لن تدور عجلة الحياة فيه الا بالنفط ، ومن جهة ثانية فان المشروع الامبراطوري لن يتحقق الا بفضل القدرة الابتزازية غير المحدودة للنفط ، ومن جهة ثالثة فان الاستثمار التجاري العادي ومعايير الربحية فيه تجعل العراق المصدر لاعظم ربحية في مجال النفط . وهنا يطرح السؤال الحيوي التالي نفسه : ماذا يعني بقاء العراق مستقلا ونفطه تحت سيطرة شعبه ولخدمته وخدمة الانسانية ؟ الجواب هو ان المشروع الامبراطوري لن يتحقق . ان من لا ياخذ هذه الحقيقة الخطيرة في حساباته لن يستطيع فهم ماجرى وما يجري للعراق ابدا . ان العراق الحر يساوي حرمان امريكا من الامساك بعوامل النجاح الاساسية في السيطرة على العالم ، والعراق الحر لهذا السبب مرفوض اميركيا حتى لو كان تحت قيادة بورجوازية ا و اقطاعية ترتبط ايديولوجيا بالغرب لكنها، نظريا على الاقل ، تتمسك بالاستقلال والسيادة ، لان الاستقلال نقيض الحاجة الستراتيجية الامريكية الحيوية للنفط .
ثمة نظريات ساذجة تقول ان عداء امريكا للعراق والاصرار على غزوه وتدميره يعود لنزعة انتقامية لدى ال(بوش) تجاه الرئيس صدام حسين ، ا و ا ن العداء للعراق سببه مايسمونه ( الديكتاتورية ) في العراق ، وا خرى تقول ان السبب هو اسلحة الدمار الشامل ...الخ ، هذه النظريات اضافة لكونها ساذجة فانها مشبوهة لانها تحاول اخفاء السبب الحقيقي لغزو العراق،وهو وجود النفط فيه ووجود سياسة وطنية مستقلة خصوصا في مجال النفط . ا ن ارتباط النفط باقامة مشروع امبراطوري امريكي ، وكشرط مسبق لنجاحه ، انتج رابطة موضوعية مباشرة بين تحقيق ذلك والقضاء على السياسة الوطنية المستقلة للعراق الذي اشعل اخطر صراع مع الغرب بتاميم النفط في عام 1972 ، واستنادا لهذه الحقيقة كان محتما غزو او السيطرة على العراق، حتى لو لم تقع ازمة الكويت وغيرها، ومهما كان اسم وطبيعة القيادة السياسية ،اذا كانت تصر على ابقاء النفط بيد الشعب العراقي .
وفي ضوء ماتقدم تتضح عدة حقائق ساطعة ، اولها الطابع التمويهي والمخادع للنظريتين اللتين تدعيان ان غزو العراق ليس( المكافئة الكبرى ) لامريكا بل هي السعودية اومصر ، وثانيها حقيقة ان التمويه الامريكي قد روج ادعاء ساذجا ، او متساذجا اخرا ، يرد على اتهام امريكا بانها غزت العراق من اجل النفط بالقول بان امريكا لم تغزو العراق بسبب النفط لانها تحصل عليه حتى من العراق، فلماذا تغزوه اذن ؟ وهذا الرد لقنته المخابرات الامريكية لصحفيين واكاديميين وساسة لدحض نظرية ان النفط كان وراء غزو العراق ،ومن ثم اثبات ان الغزو كان من اجل ( الديمقراطية ) !!! ان التساذج هنا يبدو واضحا بتذكر وجود فرق هائل بين امرين ، الامر الاول هو القيمة الاستهلاكية للنفط ، وهي عظيمة دون ادنى شك ،والامر الثاني هو القيمة الستراتيجية الاستثنائية له ،فلئن كان العالم يعرف كثيرا عن القيمة الاستهلاكية للنفط فان عددا قليلا يدرك قيمته الستراتيجية الحقيقية الجديدة وهي انه اداة ابتزاز لاتقهر، وفي هذا الاطار فان امريكا كانت تحصل على النفط ، حتى من العراق ، لكنها لم تكن تمسك بالنفط العراقي كما تفعل مع باقي البلدان ، لان التاميم قد جعله ملكا وطنيا عراقيا صرفا لايستطيع احد التدخل في كيفية استغلاله غير الشعب العراقي . ان المنطق التمويهي هذا يتعامل مع القيمة الاستهلاكية للنفط ويتجاهل قيمته الستراتيجية الابتزازية ، والتي تتبدى، وبقوة، في القدرة على تركيع الخصوم والمنافسين لامريكا دون الاضطرار لخوض حروب .
ان قرا ر غزو العراق يستبطن في جوهره نزوعا امريكيا جامحا للسيطرة على العالم مع الحرص على تجنب عقدة فيتنام ، وهذا غير ممكن الا عبر الامساك بكافة منابع النفط الرئيسية ، لذلك فان نجاح الثورة العراقية الظافرة في منع امريكا من السيطرة على نفط العراق ، وهو امر اصبح اكيدا اثناء معركة الفلوجة، يساوي ويعني افقاد المشروع الامبراطوري السلاح الاهم والارخص والاقدر على ابقاء عقدة فيتنام نائمة ،وبذلك تنكشف الثغرات الجيوبولتيكية الامريكية القاتلة امام العالم ، ويصبح واجبا على امريكا ان تخوض منافسة سلمية مع القوى الصاعدة مثل الصين والاتحاد الاوربي والهند وروسيا الجديدة، وذلك امر لاتستطيعه ،لان هذه القوى شابة وصاعدة ومملوءة حيوية او انها قديمة وتجددت . وهنا لابد من طرح السؤال التالي : ماذا تفعل قوة شائخة ، وهي امريكا ، اذا فشلت في السيطرة على اهم ادوات تجديد شبابها الزائل، وهو النفط ، لمنع القوى الصاعدة من التفوق عليها ؟ الجواب هو اسقاط كافة قواعد التعامل الدولي التي وضعها الغرب بالذات ، واستخدام القوة العارية !
يبقى سؤا ل اخير مهم وهو التالي : ماهو تاثير انتصارات الثورة العراقية ، في المرحلة الثالثة من حرب الشعب ،على نظرية ( الضربة الاستباقية ) ، والتي اعتمدت لضمان شل وتحييد كافة القوى المنافسة والمناهضة والحليفة لامريكا، وضمان استئصال التهديدات الكامنة والظاهرة للمشروع الامبراطوري ؟
يتبــع
بعد ان اكملت امريكا سيطرتها على اغلب منابع النفط الرئيسية لم يبق خارج سيطرتها سوى المنابع العراقية .
الجزء الخامس :
النظرية الجيوبوليتيكية الجديدة :النفط اداة هيمنة كونية
لا تقتصر ازمة امريكا في العراق على وصول مخططها الاقليمي، القائم على السيطرة على الوطن العربي ودول الجوار ، تحت اسم( الشرق الاوسط الكبير ) ، الى طريق مسدود فحسب بل هي تشمل المشروع الامبراطوري الكوني ، اي اقامة ديكتاتورية عالمية تقودها اوتسيطر عليها امريكا مباشرة ، والذي يهدده اندلاع ثورة مسلحة في العراق عقب غزوه ، لان هذا المشروع يقوم اساسا على مجموعة مقتربات من اهمها استخدام النفط العربي كسلاح جبار لابتزاز العالم ، وهو هدف لايمكن تحقيقه الا بالسيطرة على العراق مباشرة . لقد كنا منذ زمن مبكر نؤكد (مثلا في دراساتنا وتحليلاتنا التي نشرناها خصوصا في المجلة الاكاديمية شؤون سياسية وجريدة الجمهورية حينما كنت رئيسا لتحريرهما في الفترة 1993 و1998 )على ا ن النفط لم يعد مجرد سلعة ستراتيجية بالغة الاهمية بل اصبح ايضا اخطر ادا ة ضغط وابتزاز ، بعد ان اكملت امريكا سيطرتها على اغلب منابعه الرئيسية ، ولم يبق خارج سيطرتها سوى المنابع العراقية ، التي اممت القيادة الوطنية العراقية نفطها عام 1972 وجعلته صناعة وطنية كليا منعت الاحتكارات الاجنبية من نهبه، وسخر، كليا ايضا ،لاغراض التنمية الوطنية المستقلة وبناء مجتمع خال من الفقر والامية والامراض المزمنة ، ومتقدم تكنولوجيا وعلميا، وهكذا بني العراق المستقل اقتصاديا ، وبفضل ذلك الاستقلال الاقتصادي نفذ سياسة مستقلة ، ايمانا منه بان الاستقلال كلمة فارغة من دون السيطرة كليا على موارده الاقتصادية . لنتناول هذه المسالة بالتحليل والدراسة .
ثمة حدثان كبيران يقفان خلف النزوع الامبراطوري الامريكي المتطرف ، الاول هو توفر الفرصة التاريخية الاكبر لامريكا لتحقيق حلمها الاقدم بالسيطرة التامة على العالم وبشكل منفرد، وذلك بانهيار المعسكر الشيوعي في الفترة بين 1989 و1991 ، اما الثاني فهو اقتران تاصل عقدة فيتنام مع اقتراب جفاف منابع النفط الامريكية ، التي اصبحت كلفة استثمارها عالية جدا ، لذلك برزت الحاجة ، وبشكل حاسم ، لمصادر نفط بديلة ، وبتزامن هذين الحدثين ولد النزوع الاشد تطرفا في امريكا لاستعمار العالم،كيف ذلك ؟
لقد كان الصراع الشيوعي – الراسمالي يستهدف تحقيق انتصار احد الطرفين وفرض انموذجه على العالم بوسائل مختلفة ،ولذلك فان انهيار الشيوعية شكل تحولا جذريا في التوازن الستراتيجي وانهاء للنظام الدولي الذي رافقه ، فاحدث ذلك فراغا ستراتيجيا لم تملاه الصين ، في حين حاولت اوربا ، باعلان ( الاتحاد الاوربي ) عام 1993، ا ن تملاه جزئيا ، اما الولايات المتحدة فقد وجدت نفسها بأزاء مازق حقيقي ، وهو انها ، في حين يستحوذ عليها ،وبتطرف ، هدف السيطرة على العالم وفرض انموذجها عليه ، وجعله مجرد مزرعة كبيرة لرعاية ( ابقارها ) ، اي احتكاراتها ، فان انهيار المعسكر الشيوعي قد حصل وليس لدى امريكا ( خطة طوارئ ) حقيقية وعملية لملآ الفراغ الكبير الناجم عنه ، لذلك ساد الارتباك على وسائل السيطرة على العالم ، ولم تبرز خطة ستراتيجية شاملة ومتفق عليها قوميا في امريكا حول كيفية السيطرة على العالم ، وقد برز ذلك واضحا وبحدة في تباين ، بل واحيانا تناقض، خيارات ادارات بوش الاب و بيل كلنتون وبوش الابن فيما يتعلق بالكثير من القضايا مثل العراق ، افغانستان ، اوربا ، حلف الناتو ، البيئة ، منظمة التجارة العالمية ، الموقف من بريطانيا ...الخ ، وعلى صعيد المفاهيم الستراتيجية تنافست ، وتناقضت نظريتان رئيسيتان هما نظرية فوكوياما حول( نهاية التاريخ ) ، والتي طرحها مباشرة عقب انهيارات اوربا الشرقية في عام 1989 ، ونظرية هنتنغتون حول( صراع الحضارات) ،والتي نشرها في عام 1993 ،وقد عبرت اجوائهما الرمادية عن سذاجة الاولى ، لجهلها التاريخ ، وخبث الثانية، لزرعها بذور الصراع الحالي الذي يدور باسم صراع ( الغرب المسيحي مع الشرق المسلم ) ! وكان ابرز اشكال التناقض هو اصرار فوكوياما على مقولة نهاية التاريخ بانتهاء الصراع الشيوعي –الراسمالي بانتصار اللبرالية الامريكية ، وهكذا انتهى التاريخ والصراع ! بينما اصر هنتنغتون على ان العالم يشهد صراع حضارات ينغرز في جذور الدين والثقافة القومية !
واذا وضعنا هذه التخبطات جانبا ، وجدنا ان اكبر تحد واجه ، ويواجه امريكا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي هو ادراكها ان (العالم عبارة عن غابة مملوءة بالثعابين والوحوش ) ، كما عبر احد مسؤولي الادارة الامريكية اثناء رئاسة كلنتون ، ومن ثم فان اقامة امبراطورية كونية يتطلب قتل( الثعابين) و(الوحوش) ، وهو امر يجر امريكا جرا الى عقدة فيتنام ، لان قتل( الوحوش والافاعي) يتطلب دخول حروب او معارك رئيسية في ( الغابة العالمية ) ، مع دول غير نووية ولاتملك القدرة على ردع امريكا عسكريا ، الامر الذي يزيل اطنان الرمل من فوق عقدة فيتنام ،بفتحه ابواب قتل الجنود الامريكيين اثناء حروب السيطرة على العالم . ولتجنب هذا الخيار الانتحاري توصلت امريكا الى صياغة ستراتيجية تجمع بين ، اولا ، زيادة هوة التفوق العسكري- التكنولوجي بينها وبين العالم المتقدم وتحقيق تفوق مطلق على الجميع ، وثانيا ، استخدام القوة العسكرية بصورة انتقائية لتصفية بعض العقبات بالقوة وبعث رسالة لبقية (العقبات )تقول بان مصير من يقاوم امريكا سيكون هكذا ، بعد تامين كافة سبل ابقاء عقدة فيتنام نائمة ، واستخدام النفط، ثالثا ، كاداة ابتزاز سياسية لتركيع كل العالم ، بلا حروب عسكرية، وبهذه الوسائل مجتمعة تستطيع امريكا ا ن تعطل ازمة نظامها الراسمالي الشائخ .
ان تحقيق تفوق ستراتيجي مطلق على كافة القوى الدولية مجتمعة ،يتطلب تطوير اجيال جديدة من الاسلحة الحديثة ومنظومات الحرب الالكترونية ونظم القيادة والسيطرة البالغة التطور ، وغيرها ، بحيث تصبح القوى الكبرى عاجزة عن اللحاق بامريكا ، فتضطر لاختيار الانقياد لها ، ثم اختيار اهداف سهلة عسكريا في العالم الثالث ، وذلك لافتقارها لوسائل الدفاع التقليدية عن النفس ( مثل العراق ) فتضربها بشدة وتلحق يها دمارا هائلا ، وبذلك تبعث برسالة للجميع مفادها : اذا لم تخضعوا لنا فسوف يكون مصيركم الدمار ! وهكذا تستسلم بقية ( الوحوش ) دون حرب ! ويمهد الطريق لنوع اخر من الحروب لاتضطر فيه امريكا لبذل الدم وايقاظ عقدة فيتنام ، هو حرب الابتزاز النفطي ، ويقوم هذا الابتزاز على التحكم بالطاقة بالامساك بالمنابع الرئيسية كلها وتحديد الاسعار والكميات المصدرة للجميع ، فيتم التحكم بالتطور الاقتصادي والتكنولوجي للجميع ،وهذا يعني، ويساوي، القدرة الامريكية على التحكم باقتصادات كافة الدول وتطورها التكنولوجي . ويقوم منطق هذه النظرية الجيوبوليتيكية على فكرة واضحة : ان عدم وجود بديل عملي واقتصادي للنفط , كمصدر ارخص وافضل من غيره للطاقة ، يعرض اي بلد يحرم منه جزئيا لمشاكل كبيرة ، اما اذا حرم منه كليا فانه سيدمر وينهار ، لذلك فان بامكان من يسيطر على مصادر النفط ان يبتز الجميع ويجبرهم على الركوع لشروطه ، مهما كانت مجحفة . وقد صيغت النظرية كالتالي : من يسيطر على منابع النفط الرئيسية كلها يضمن السيطرة على العالم .
وهذه النظرية كي تكون حاسمة التاثير يجب ان تعتمد على السيطرة الكاملة على منابع النفط الرئيسية ، وليس على اغلبها ، لان وجود مصدر رئيسي مستقل وحر واحد يسقط هذا المفهوم بفضل قدرة هذا المصدر على تصدير النفط لمن يحتاج اليه دون شروط ابتزازية ، وعندها يحيد النفط كسلاح سياسي بيد ا مريكا ويصبح بلا فائدة ، لذلك فان الشرط الحاسم لجعل النفط سلاحا سياسيا هو السيطرة على كل منابعه وليس اغلبها ، وبما ان اميركا تسيطر على اغلب وليس كل المنابع ، فانها لكي تستخدم النفط كسلاح ابتزا ز ستراتيجي وحاسم يجب ا ن تكمل سيطرتها على المنابع كلها ، وبما ان العراق هو البلد الوحيد الرئيسي الذي لايخضع للسيطرة الامريكية ، لهذا كان يجب غزوه باي ثمن ، لضمان جعل النفط قوة لاتقهر . ان هذه الحقيقة الجيوبوليتيكية هي التي تقف خلف مخطط غزو العراق والاصرار الامريكي ،الذي بدى غريبا لمن لم يعرفها ،على تجاوز، ونقض واحتقار، كل القواعد والضوابط التي دافعت عنها هي وبقية الغرب الاستعماري منذ صعد المعسكر الشيوعي ، مثل : القانون الدولي وحق تقرير المصير والديمقراطية والسيادة وميثاق الامم المتحدة واكذوبة ( القيم الامريكية الاخلاقية والانسانية)...الخ ، من اجل تحقيق غزو العراق .
نحن لم نبالغ حينما قلنا خلال العقدين الماضيين،ولا نبالغ حينما نقول الان مجددا، بان مستقبل الطاقة العالمي يتوقف على العراق ، فالعراق من الناحية الرسمية يملك 120 مليار برميل نفط ، وهو ثاني اكبر احتياطي نفطي بعد السعودية ، التي تملك 220مليار برميل نفط ،ومايستثمره العراق حاليا يكفي لتوفير الطاقة للكثير من القوى الكبرى ، خصوصا اوربا ، دون ابتزاز ، الامر الذي يجعل سيطرة امريكا الحالية على اغلب المنابع غير مجدية ستراتيجيا ، رغم اهميتها الاقتصادية ، وهذه الحقيقة النفطية لوحدها تجعل العراق الحر والمستقل وغير الخاضع لامريكا العقبة الاساسية التي تمنع امريكا من تحقيق مشروعها الامبراطوري الكوني ، لانه يحرر القوى التي تستهدفها امريكا من الابتزاز النفطي . وثمة حقيقة اخرى بالغة الاهمية لايعرفها الكثيرون ، بما في ذلك خبراء نفط ، وهي ا ن العراق هو المالك الحقيقي لاكبر احتياطي نفطي في العالم ، لقد دلت الاستكشافات التي اجرتها وزارة النفط العراقية في منتصف التسعينيات على ا ن الاحتياطي النفطي العراقي المحتمل يصل الى رقم يتراوح بين 250-300 مليار برميل نفط ، وان ثمة مناطق اخرى مازالت تحت الاستكشاف ويحتمل انها تضم كميات ضخمة اخرى من النفط ، ومن المؤكد ان امريكا قد اكتشفت هذه الحقيقة قبل العراق ، عن طريق الاستكشاف الجوي في الثمانينات ، وكان لذلك الدور الحاسم في التمسك الامريكي القديم بالسيطرة على العراق ، وفي اشعال الحرب الايرانية –العراقية وتفجير ازمة الكويت . ومما يزيد في اهمية هذه الحقيقة الجيوستراتسجية الخطيرة حقيقة طبيعية اخرى وهي ان تكلفة النفط العراقي هي الاقل ،فبرميل النفط في العراق يكلف نصف دولار ، ام تكلفته في السعودية فهي دولارين ، وتكلفته لدى باقي المصادر تتراوح بين 20- 30 دولار ! وتقود هذه الحقيقة الى واقع اقتصادي يدفع بالعراق ليحتل مركز اعظم مركز جيوبولتيكي في العالم في مجال مصادر الطاقة !
واذا تذكرنا حقيقة اخرى وردت في تقرير المخابرات المركزية الامريكية الخاص بربع القرن القادم ، والذي كشف النقاب عن ان حاجة اميركا للنفط ستتضاعف خلال 20 سنة ، في ظل جفاف منابع النفط الامريكية او ضخامة تكاليفها وتلويثها للبيئة ، كما في الاسكا، وتناقص قدرة السعودية وغيرها من المنتجين على تلبية الاحتياجات المتزايدة للطاقة ، ادركنا ببساطة ،وبلا حذلقات لفظية، ان مصير العالم في مجال الطاقة سوف يتقرر في العراق وليس في غيره .وهكذا اصبح مصير المجتمع الامريكي الاستهلاكي يتوقف على تامين مصادر طاقة بديلة ضخمة ومستمرة ومضمونة ، فبرز اسم العراق بصفته( كلمة السر ) في مستقبل امريكا ، فبدون نفط العراق لن تستطيع اميركا الاحتفاظ بامتيازات مجتمعها ، وتلك نقطة البداية لتقوض عظمة امريكا وتحولها الى دولة عادية . وبالارتباط مع هذه الحقيقة تبرز مسالة اخرى وهي ان الشركات الامريكية المختصة بالطاقة تجد في ما سبق كشفه ان العراق اعظم مشروع استثماري من حيث الربحية وسرعة الوصول اليها ، فالاستثمار في القطاع النفطي العراقي يحقق اعلى ربحية ممكنة ويوفر للشركات الامريكية بدائل استثمارية طويلة العمر تبقيها على قمة تعجز الشركات العالمية المنافسة عن الوصول اليها .
اذن العراق بالنسبة لامريكا يشكل قاعدة مثلثة لن تقوم الامبراطورية الامريكية الا عليها :فمن جهة اولى هو مالك اكبر احتياطي نفطي فعلي في عالم لن تدور عجلة الحياة فيه الا بالنفط ، ومن جهة ثانية فان المشروع الامبراطوري لن يتحقق الا بفضل القدرة الابتزازية غير المحدودة للنفط ، ومن جهة ثالثة فان الاستثمار التجاري العادي ومعايير الربحية فيه تجعل العراق المصدر لاعظم ربحية في مجال النفط . وهنا يطرح السؤال الحيوي التالي نفسه : ماذا يعني بقاء العراق مستقلا ونفطه تحت سيطرة شعبه ولخدمته وخدمة الانسانية ؟ الجواب هو ان المشروع الامبراطوري لن يتحقق . ان من لا ياخذ هذه الحقيقة الخطيرة في حساباته لن يستطيع فهم ماجرى وما يجري للعراق ابدا . ان العراق الحر يساوي حرمان امريكا من الامساك بعوامل النجاح الاساسية في السيطرة على العالم ، والعراق الحر لهذا السبب مرفوض اميركيا حتى لو كان تحت قيادة بورجوازية ا و اقطاعية ترتبط ايديولوجيا بالغرب لكنها، نظريا على الاقل ، تتمسك بالاستقلال والسيادة ، لان الاستقلال نقيض الحاجة الستراتيجية الامريكية الحيوية للنفط .
ثمة نظريات ساذجة تقول ان عداء امريكا للعراق والاصرار على غزوه وتدميره يعود لنزعة انتقامية لدى ال(بوش) تجاه الرئيس صدام حسين ، ا و ا ن العداء للعراق سببه مايسمونه ( الديكتاتورية ) في العراق ، وا خرى تقول ان السبب هو اسلحة الدمار الشامل ...الخ ، هذه النظريات اضافة لكونها ساذجة فانها مشبوهة لانها تحاول اخفاء السبب الحقيقي لغزو العراق،وهو وجود النفط فيه ووجود سياسة وطنية مستقلة خصوصا في مجال النفط . ا ن ارتباط النفط باقامة مشروع امبراطوري امريكي ، وكشرط مسبق لنجاحه ، انتج رابطة موضوعية مباشرة بين تحقيق ذلك والقضاء على السياسة الوطنية المستقلة للعراق الذي اشعل اخطر صراع مع الغرب بتاميم النفط في عام 1972 ، واستنادا لهذه الحقيقة كان محتما غزو او السيطرة على العراق، حتى لو لم تقع ازمة الكويت وغيرها، ومهما كان اسم وطبيعة القيادة السياسية ،اذا كانت تصر على ابقاء النفط بيد الشعب العراقي .
وفي ضوء ماتقدم تتضح عدة حقائق ساطعة ، اولها الطابع التمويهي والمخادع للنظريتين اللتين تدعيان ان غزو العراق ليس( المكافئة الكبرى ) لامريكا بل هي السعودية اومصر ، وثانيها حقيقة ان التمويه الامريكي قد روج ادعاء ساذجا ، او متساذجا اخرا ، يرد على اتهام امريكا بانها غزت العراق من اجل النفط بالقول بان امريكا لم تغزو العراق بسبب النفط لانها تحصل عليه حتى من العراق، فلماذا تغزوه اذن ؟ وهذا الرد لقنته المخابرات الامريكية لصحفيين واكاديميين وساسة لدحض نظرية ان النفط كان وراء غزو العراق ،ومن ثم اثبات ان الغزو كان من اجل ( الديمقراطية ) !!! ان التساذج هنا يبدو واضحا بتذكر وجود فرق هائل بين امرين ، الامر الاول هو القيمة الاستهلاكية للنفط ، وهي عظيمة دون ادنى شك ،والامر الثاني هو القيمة الستراتيجية الاستثنائية له ،فلئن كان العالم يعرف كثيرا عن القيمة الاستهلاكية للنفط فان عددا قليلا يدرك قيمته الستراتيجية الحقيقية الجديدة وهي انه اداة ابتزاز لاتقهر، وفي هذا الاطار فان امريكا كانت تحصل على النفط ، حتى من العراق ، لكنها لم تكن تمسك بالنفط العراقي كما تفعل مع باقي البلدان ، لان التاميم قد جعله ملكا وطنيا عراقيا صرفا لايستطيع احد التدخل في كيفية استغلاله غير الشعب العراقي . ان المنطق التمويهي هذا يتعامل مع القيمة الاستهلاكية للنفط ويتجاهل قيمته الستراتيجية الابتزازية ، والتي تتبدى، وبقوة، في القدرة على تركيع الخصوم والمنافسين لامريكا دون الاضطرار لخوض حروب .
ان قرا ر غزو العراق يستبطن في جوهره نزوعا امريكيا جامحا للسيطرة على العالم مع الحرص على تجنب عقدة فيتنام ، وهذا غير ممكن الا عبر الامساك بكافة منابع النفط الرئيسية ، لذلك فان نجاح الثورة العراقية الظافرة في منع امريكا من السيطرة على نفط العراق ، وهو امر اصبح اكيدا اثناء معركة الفلوجة، يساوي ويعني افقاد المشروع الامبراطوري السلاح الاهم والارخص والاقدر على ابقاء عقدة فيتنام نائمة ،وبذلك تنكشف الثغرات الجيوبولتيكية الامريكية القاتلة امام العالم ، ويصبح واجبا على امريكا ان تخوض منافسة سلمية مع القوى الصاعدة مثل الصين والاتحاد الاوربي والهند وروسيا الجديدة، وذلك امر لاتستطيعه ،لان هذه القوى شابة وصاعدة ومملوءة حيوية او انها قديمة وتجددت . وهنا لابد من طرح السؤال التالي : ماذا تفعل قوة شائخة ، وهي امريكا ، اذا فشلت في السيطرة على اهم ادوات تجديد شبابها الزائل، وهو النفط ، لمنع القوى الصاعدة من التفوق عليها ؟ الجواب هو اسقاط كافة قواعد التعامل الدولي التي وضعها الغرب بالذات ، واستخدام القوة العارية !
يبقى سؤا ل اخير مهم وهو التالي : ماهو تاثير انتصارات الثورة العراقية ، في المرحلة الثالثة من حرب الشعب ،على نظرية ( الضربة الاستباقية ) ، والتي اعتمدت لضمان شل وتحييد كافة القوى المنافسة والمناهضة والحليفة لامريكا، وضمان استئصال التهديدات الكامنة والظاهرة للمشروع الامبراطوري ؟
يتبــع