المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اين انت ياوطني



RADOIANE ELARABI
18-02-2005, 11:06 PM
حين انشطر طريقنا الواحد مثل لسان أفعى، ناديتك: أين أنت يا وطني؟
كنت تبدأني فألدك كل فجر وريح، فما وجدتك بعد هذا إلا طفلا ينتحب بين حطام الأمل ولسان الأفعى، فأين أنت الآن يا وطني؟
هم! أعرف.. هم بددوك في هرج الأناشيد والمشانق، فسكتت العنادل، وهاجرت الحمائم في تاريخ القتل واستحمت الشحارير في غاز السارين، وما لبثت قيثارات أور أن انتحرت على عتباتك وتحطمت المزامير الشجية وباحت نايات القصب بفضيحة الإسكندر..
رأيتهم ينفونك إلى الليل، فما بزغ من بعدك فجر، ولا ولد لنا مصير..
فأين أنت الآن يا وطني؟
...
ضيعوك في جنون السلابين وأعلنوك على محارق الشاشات وأقاويل الشماتة، وتبدد ميراثك بين فلول الغاربين وأحلام القادمين إلى وليمة القسمة،.. بحثت عنك في ألواح القدر، بين سطور الملاحم، سألت وحش غابة الأرز (خمبابا)، ركضت في قصائد الخليقة، وتقلدت مراثي أور الحزينة، وتبعت حدوس فؤادي، فما عثرت على ضريح يتسع لفواجعك..
فأين ذهبت يا وطني؟
...
توجعني البيانات المنطوقة بلكنة داكنة مثل علق ينهش بلاغة الملاحم ويزدري نصوص الحكمة، فأقوم إلى بلبلة اللغات وأنصت إلى مقاماتك، وهناك يرنم قراء المقامات مراثينا في مقام الحجاز، ويستعيرون أسماءنا وجنائزنا للملحنات الحزينة، ثم يسألونني عنك: أما سمعته يتعالى في مقام الصبا؟ فأقتفي إيقاعك الشجي ولا أراك.
فأين أنت يا وطني؟
...
كل صباح عندما تهدر الدبابات أمام بساتيني تذبل زهور عباد الشمس، وما أن يستيقظ ظل الوحش المعدني على طفولتها حتى تنزف دمها الأصفر فوق الرصيف. أسأل الزنبق والغرانيق، أسأل الأقحوان الذهبي وطائر الطيطوى أن يأخذوني إليك.
وألاحق وردة صوتك في المروج، فيخادعني العبير وتخذلني اللغات..
فهل تحولت يا وطني عشبة ريحان تندب الجمال كل ليلة ثم يقتلها الغيظ لدى مرور الدبابات في الظهيرة؟
ثم رأيتك.. أهذا أنت؟
رأيتك وعلى مفرقك تاج من جماجم أبنائي وعباءتك أحلامهم المضرجة بأنفاسك، وفي عنقك قلادة من أصابع الصغيرات المخطوفات، والرجال المناورون المهووسون يجدلون ضفائرك بالإشعاع.
وأنكرك: أهذا أنت يا وطني؟
...
بحثت عنك في رعشة المواقيت وحشرجة العصور، ورأيتهم يعلقون أشلاءك على المحاريب والمنابر، ويتقاذفون أفلاذك الدامية بين الصحائف وأوراق المواثيق وعقود الصفقات.
ورأيت الأحزاب تعلقك أيقونة براءة فوق شرفات مقصوفة وأزقة مستباحة.
ورأيت الجلادين يحفرون اسمك على المعاول ويواصلون تأثيث المدافن بأبنائك المغدورين كل آونة وليل.
سألت ألواح المصائر عنك، ناشدت العرافات ولم تسعفني حوليات الملوك وأراقيم السحر، ولا مسلات النصر أو تراتيل الكهان. سألت حجارة الأبراج وصوى الحدود والأختام، وما وجدتك..
فأين أنت يا وطني؟
...
بوجهك البابلي وسموا سبائك التبر وحلي المحظيات وأعناق المشنوقين..
ورأيتهم يسملون عينيك القمريتين..
ويلقون بأعضائك المبتورة في ملتقى أقاليم العرب وشطآن الخرافة..
فكيف سأجمع أشلاءك؟ ومتى أقطف تفاحة الرغبات من شفتيك؟
وكيف ستنهض في ربيع قيامتك يا دموزي؟
...
بحثت عنك في الأصوات الجهيرة وهمس الظنون، فداهمتني المارشات الجنائزية وصرعتني ضربات الطبول وتناوبتني أبواق القبيلة وصنوج الدراويش..
وهتفت باسمك: أين أنت.
وأين كنت؟ وأين تمضي بك الأحوال يا وطني؟
...
بحثت عنك في الأسماء ذات الرنين الذهبي،
بحثت عنك في الأسماء المصمتة البكماء، بحثت في الأسماء المظلمة والأسماء الغبارية والأسماء البحرية وكنايات الرمل وعلامات الصحراء..
بحثت عنك في أسماء المدائن المصلوبة على سور القيامة.
بحثت عنك في الساعات التي انتزعوا قلوبها وباعوا مواقيتها في ساحات التداول العلنية، نقبت في ركام الدقائق وفتحت ملفات الوقت فما وجدت تقاويمك ولا رحيق أعاجيبك ولا منحتني حجة شوق، ورأيتك تنهض في الإعصار وتحملك ألفة الريح لتحصي الأرامل المصلوبات على الأبواب وأنت تحمل سفر الموتى على منكبيك وتمضي في الغروب.
فكيف سأجدك يا حبيبي؟
...
بحثت عنك في الميادين المرمدة وأنت تردد غصص نسائك وتحنو بقداسة اسمك على جثامين البنات المغتصبات، وترشق نحيب البنات السبيات المعروضات في سوق النخاسة وراء (نصب الحرية)... سمعتهن ينادينك من وراء الحراب المغروسة في الخواصر.
ياعراق البدايات، أغثني يا عراق..
مثلهن هرعت إلى غوثك..
جثوت عند ظلامك وانتحبت، فانسدل علي أنينك الكثيف مثل كفن، ولم أجدك..
فأين ذهبوا بك يا وطني؟
...
وقفت أتفرس في الوجوه وسط الجحيم المموه بالسلوفان ورشفة الكولا، وناديتك، فما اكترث بندائي أحد.
ورطنوا بكلمات من بعيد، وقرعوا أجراس الخوف وأنكروني..
استغرقت في النشيج وانتحب الجسد وما رأيتك في نظرة أو سراب، فأين ذهبوا بك يا وطني؟ وأين سأجدك يا حبيبي؟
...
بحثت عنك في سحنات الجنود الهاربين من المحارق، وجمعت قمصانهم المنقوعة في المهانة، وعلقت نياشين التنك على صدر المهزلة..
ثم تبعت الجنود الآخرين الذين أعاروا وجوههم لباعة النسيان واصطفوا على الطرقات يتسولون كسرة مستقبل وهم يمضغون أصابعهم وأوسمة النصر..
ولمحتك تتوارى في أحزانهم وتنتقل من عصر لعصر وهم يستنجدون بتعاويذ وأضرحة وشفعاء.. ورأيت عشتار المحبة تسبغ عليك وجه ألوهيتها وتضاء الأقاليم بسطوعك.
وأتقدم لاقتحام الرؤيا، وأعدو خلف نورك، فلا أمسك إلا بأنين دجلة وعويل الفرات.. وأعود إلى النهار وأجد صورتك مطرزة على أردية الحداد وثياب السبايا..
ألمس صورتك التي نفاها سارقو الأمس من فرائط الجمال وأدرجوها في لائحة الضحايا، ألمسها فيتبدد وجهك مثل نيزك المساء وينثر على يدي غباره الكوني وشهقات الأسى، وعندما أفيق من ذهولي لا أجدك..
فأين أنت يا وطني؟
...
بحثت عنك في حدائق الزيزفون، وفتشت بين براثن الفاجعة ونكد النساء..
قابلني الرعاة المهزومون، والغزاة المرتبكون، ولحق بي مروجو الظلمات، وكانوا في مهرجان الصفقات يحتسون دم المدائن ويتناوبون الصلاة عند جنازة التاريخ، أو يرقصون في حومة الضحايا.
الرعاة المدحورون، والغزاة المرتبكون، يتسربلون بأوهام وحكايات وتلوكهم الأقاصيص.
أبطال من قش، ومخلٌصون يعدونك بحروب سعيدة مؤبدة، ويهيئون لك نعوشا من حرير، ونياشين من طعنات، ويتحامون بأطيافك، ثم يندسون فيما تبقى من جوارحك كذبابة الموت الزرقاء..
وأنا أصرخ في البراري: أين أنت يا وطني؟
...
بحثت عنك في مفارق الطرق والتقاويم، فتعثرت بالأشلاء والتوابيت والرايات المدماة وطواطم القبائل..
ولمحتك ترتعش وحيدا وقد سمروك على راية أور وبين يديك حمامة محنطة، وبغتة حجبتك السحب وغيبك الدخان وما رأيتك بعد كل هذا السواد.
...
بحثت عنك على جسر الشهداء فما وجدتك بينهم.. انحنيت على دجلة وتسللت إلى أبهاء الغرقى وهم يحتفلون بولادات الموج..
ناشدتهم أن يتبعوك في موجة عذراء ويأتوا بك إلي.. ضحكوا مني، وغادروني متوغلين في أمان الموت وهم يشيرون إلي ويحدقون بنظرتي..
...
عندما أضاء وجهي برق، تطلعت إلى مرآة البدء، فرأيتك تعوم في أدمعي، وتومئ إلي بالتحايا وتفصح عن صفاتك في صفاتي..
عندئذ، أطبقت عيني على بهائك، وحبستك ما بين حدقتي وانعكاس السماء.
وأحببت ساعتها المرايا
ومجدت ساعتها البكاء