المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : انتخابات تكريس الطائفية



salahalden
14-02-2005, 09:59 PM
عبد الباري عطوان
يخطئ من يعتقد ان الانتخابات العراقية التي اعلنت نتائجها يوم امس يمكن ان تكون العصا السحرية التي تخرج البلاد من حال الانهيار والفوضي الامنية والاقتصادية السائدة فيها حاليا، بل ربما تضيف اسبابا جديدة للتوتر، وتصاعد اعمال العنف.
نتائج الامس كرست الوجه الطائفي لـ عراق امريكا الجديد ، وعمقت الانقسامات بين ابناء البلد الواحد، وسهلت بطريقة مباشرة او غير مباشرة، مخططات التفتيت التي تقف خلفها بعض القوي الاجنبية والمحلية.
اخطر ما يمكن ان يترتب علي هذه الانتخابات والعملية السياسية التي ستتمخض عنها هو الاستغلال البشع لها من حيث تصوير المشاركين فيها بانهم انصار الديمقراطية، والمعارضين لها علي انهم القوي الظلامية المؤيدة للدكتاتورية والقمع، بينما الصورة الحقيقية مغايرة لذلك تماما.
الذين قاطعوا الانتخابات، سواء كانوا من السنة او من الشيعة (تيار السيد مقتدي الصدر) هم قطعا مع الديمقراطية، وكل ما يتفرع عنها من قيم وحقوق وحريات، ولكنهم في الوقت نفسه ضد الاحتلال الامريكي وما افرزه من امراض اجتماعية، وظواهر سياسية طائفية كانت غريبة علي العراق ووحدته الوطنية وقيمه العربية والاسلامية.
هذه انتخابات يعتبر الفائز الاكبر فيها الاحتلال الامريكي، والشخصيات السياسية التي جاءت في طائراته وعلي ظهور دباباته، لانهم، وهم الاقلية، سيهيمنون علي مقاعد الجمعية الوطنية، ويتقاسمون الوظائف الهامة، ويكتبون الدستور، وفق التوجهات والاملاءات الامريكية.
غبار الانتخابات سيتبدد حتما بعد ايام او اسابيع قليلة، وستبدأ الحقائق بالظهور واضحة، دون اي رتوش، ومثلما لم تغير مهرجانات نقل السلطة في مطلع تموز (يوليو) الماضي من الواقع شيئا، لا نعتقد ان الوضع العراقي بعد الانتخابات سيكون مختلفا عما كان عليه الحال قبلها. فعندما تمت مراسم نقل السلطة الشكلي الي حكومة الدكتور اياد علاوي المؤقتة شهدنا رقصا في الشوارع، ومعلقات مطولة في الصحف العراقية والغربية حول نقل السيادة الي العراقيين، لنكتشف ان هذه السيادة مزورة، وان الحاكم الفعلي في العراق هو السفير نغروبونتي، وان حكومة الدكتور علاوي شكلية لا تتعدي مساحة حركتها اكثر من بضعة اميال مربعة، هي حدود ما يسمي بالمنطقة الخضراء.
في ظل الارهاب الاعلامي الامريكي الذي يسيطر حاليا علي المنطقة العربية، بات ممنوعا علي أي احد ان يشكك في العملية الانتخابية، او يضع اي علامات استفهام حول نزاهتها. فالاتهامات جاهزة، وربما العقاب جاهز ايضا، فطالما ان الادارة الامريكية وحلفاءها في العراق، وهم الفئة الغالبة اعلاميا، يريدونها كذلك، فأن اي سؤال حول المراقبين الدوليين، او طريقة فرز الاصوات، او موضوعية اللجنة المشرفة، يظل من اكبر الكبائر، ونوعا من التجديف.
فاذا كان رئيس قسم الاخبار في محطة سي ان ان العملاقة اجبر علي الاستقالة لانه قال جزءا من الحقيقة حول اقدام القوات الامريكية علي قتل صحافيين عرب واجانب في اطار مخطط التعتيم المعمول به حاليا في العراق، فهل نتوقع من قنوات فضائية عربية ترتجف الحكومات المشرفة عليها رعبا من تصريح للرئيس الامريكي حول الاصلاحات الديمقراطية، ان تقف ضد عمليات التزوير الامريكية في العراق، التي تتم في وضح النهار.
الغالبية الساحقة من الدول العربية تحكم بانظمة دكتاتورية ظالمة وقمعية، ولكنها ليست انظمة محتلة بالمعني الحرفي للكلمة، كما ان الاعتقاد بان تأييد بعض العرب للانتخابات في فلسطين، وهي انتخابات جرت تحت الاحتلال ينزه الانتخابات العراقية من اي شبهة، ويعطيها الشرعية، هو اعتقاد خاطئ ومضلل، فالانتخابات الفلسطينية غير شرعية ومنقوصة، ونتائجها لا تعكس حقيقة الواقع الفلسطيني، بدليل ان الرئيس الامريكي جورج بوش حذر مسبقا بان نتائجها ستكون غير مقبولة، ولن يتم الاعتراف بها اذا جاءت برئيس متشدد. وضرب مثلا بالديمقراطية الالمانية التي اتت بهتلر والحزب النازي.
جميع المرشحين لرئاسة الوزراء او لرئاسة الجمهورية او لرئاسة الجمعية الوطنية العراقية (البرلمان) هم من الذين جاءوا من الخارج، المدعومين امريكيا، والمختارين من قبل الاجهزة الامنية الامريكية، اما العراقيون الذين صمدوا تحت الحصار التجويعي الذي استمر اكثر من عشرة اعوام فليست لهم اي مكانة في التركيبة الجديدة، سواء قبل الانتخابات او بعدها، مع بعض استثناءات محدودة.
المواطن العراقي يريد الديمقراطية، ولكنه يريد الامن والامان اولا، يريد الماء والكهرباء والعيش الكريم، فبعد اثنين وعشرين شهرا من الاحتلال والوعود الكاذبة بالرخاء والاعمار اكتشف ان بلاده تتفكك علي اسس طائفية وعرقية. فهذا سني وذلك شيعي والثالث كردي والرابع آشوري والخامس كلداني والسادس تركماني، وفوق كل هذا وذاك استفحال الجريمة والقتل والسيارات المفخخة والبطالة.
التهميش المتعمد حاليا في العراق لبعض ابنائه سيؤدي حتما الي تصاعد اعمال المقاومة، ونتائج الانتخابات والاحتفالات التي رافقتها بطريقة استفزازية، ستجعل مهمة الحفاظ علي الوحدة الوطنية شبه مستحيلة، وفرص الحوار محدودة النجاح للغاية.
انها ايام تاريخية فعلا، ولكن هذا لا يعني انها تاريخية بالمعني الايجابي علي اي حال. فالامريكيون قرروا ذلك، ولكن تاريخ الشعوب الحقيقي والمشرف، هو ذلك الذي يكتبه مقاومو الاحتلال، وليس المتواطئون معه، والذين جاءوا تحت عباءته.