منصور بالله
12-02-2005, 02:33 PM
اليوروز.. والدولارز!
عبد الستار حتيتة
كان من المفترض أن يعود صديقي الصحفي اليوم بالخير الوفير. فقد تم اختياره ليكون محاضراً ضمن مؤسسة ممولة من الاتحاد الأوربي، وسيتقاضى مكافآت وبدلات باليورو، إن لم يكن بالدولار.
جلست أنتظر، وأقول أنه سيأتي وسأقترض منه مبلغاً لأصلح به العطب الذي أصاب الحاسوب الخاص بي. هذا على الرغم من أنني أعرف أن صاحبي كانت له تجربة فاشلة مع مؤسسة مماثلة ممولة من الأمريكيين!
دخل صديقي عالم الصحافة بعد ما طاف بالعديد من المهن العامة والخاصة. فقد عمل في السابق معلماً، وفشل في الاستمرار بسبب رفض الإدارة التعليمية احتجاجاته المتكررة تجاه حالات الغش الجماعي المنتشرة في المدارس، وقدم استقالته.
وفي الحقيقة أنا الذي اكتشفت مواهبه في الصحافة، ودعوته للعاصمة ليخوض فيها ما شاء له الخوض حتى أصبح أحد أهم الصحفيين المحترفين، لكن موارده المالية، رغم ذلك، كانت شحيحة. فهو من النوع الذي يرفض الخلط بين التحرير والإعلان، ويرفض "تفتيح المخ" مع الوزراء ورجال الأعمال.
وخلال العام الماضي أعلنت إحدى المؤسسات الممولة من الولايات المتحدة الأمريكية أنها تريد تدريب عدد من الصحفيين على التناول الموضوعي للأخبار والتقارير في منطقة الشرق الأوسط. وكان اسم صاحبي في القائمة، وقلت ها هو أخيراً قد عرف من أين تؤكل الكتف، لكنه عاد من مدينة بوسطن، مقر الدورة التدريبية بأمريكا، دون أن يحصل على شهادة.. فقد اشتبك مع المحاضرين الصهاينة هناك، وعاد على أول طائرة، وشرع يكتب محذراً من التمويل الأمريكي للإعلاميين العرب تحت أي مسمى!
حين بدأ غزو العراق العام قبل الماضي ترك صاحبي لحيته تطول وتستدير حتى أصبحت مفروشة على صدره كالمروحة. يدور كالمجنون يكتب قائلاً: ها هي الدفعة الثانية، من الخطط الصهيونية النظرية، قد بدأ تنفيذها على أرض الواقع. وأسأله أنا مستفهماً: "وما هي الدفعة الأولى؟". فيقول مستنكراً جهلي: "إنها احتلال الأراضي العربية في فلسطين. وسيصل جنود الاحتلال لبيتك هنا إن بقيت نائماً هكذا.. إنها الدفعة الجديدة من المؤامرة قد بدأت فانهض الآن، ولا تبطئ"!
إنه غريب الأطوار. ما له وفلسطين والعراق. أتساءل أنا متدثراً تحت البطاطين. وفجأة اندفع يرغي ويزبد متعاركاً تحت سقف الصالة. ولما أصابه اليأس رفع سماعة الهاتف واتصل بوالدتي، وسألها عن أخي ماذا يفعل الآن. ووضع السماعة ونظر نحوي قائلاً: أخوك يتسول على الطرقات. لقد اغتصب الأمريكيون ثروته في الحلة. هل تعرف أين هي الحلة؟ إنها في العراق. هل تعرف من هي العراق؟ إنها البلد الذي كان أخوك يعمل به طوال خمسة عشر عاماً.
أنا غير معني بأمور السياسية. كل ما أفكر به هو كيف أسدد أجرة الشقة، وأجرة الكهرباء والمياه، وكيف أدخر ثمن الطعام. وأنا أنتظر الفرصة لكي يفرجها الله على صاحبي الصحفي ليرد لي مقابل اكتشافي له. وحين اختارته المؤسسة إياها الممولة من الاتحاد الأوربي، قلت ها هي الأحوال ستتغير، وأن صاحبي سيكون محاضراً ومعلماً عربياً في الكتابة الإعلامية "الموضوعية" لأحداث الشرق الأوسط.
واليوم عاد. دخل الشقة متقطع الأنفاس كالطريد. لماذا لم يخطرني لأنتظره بالمطار؟. ثم لماذا عاد قبل الأوان؟ . وقبل كل شئ أين "اليوروز" و"الدولارز"؟
لقد عاد صاحبي على نفقته الخاصة وأنفق كل ما كان معه وما أعطيته من نقود. قال: الكلاب.. يريدونني أن أصف الاستشهاديين في التقارير الإخبارية بأنهم مجرد انتحاريين يهددون الاستقرار في فلسطين والعراق. وأن استبدل اسم "رجال المقاومة" في المدن العربية المحتلة بأنهم "إرهابيون".
في تلك اللحظة كانت القناة التليفزيونية تبث برنامجاً عن الصحافة الموضوعية، وكان ضيف البرنامج يلوي لسانه مستخدماً المصطلحات الإنكليزية مدللاً على خطر الإعلام المنحاز لـ"الإرهابيين في فلسطين والعراق". هنا صاح صاحبي الصحفي وقال: كان معي.. لقد اشترك هذا الرجل معي في محاضرات بوسطن، واستكملها حتى النهاية.. اتفوووا.
وبصق على التلفاز، ونام دون عشاء. أما أنا فبقيت أحدق في الظلام أفكر في الطريقة التي سنتدبر بها طعام اليوم التالي
عبد الستار حتيتة
كان من المفترض أن يعود صديقي الصحفي اليوم بالخير الوفير. فقد تم اختياره ليكون محاضراً ضمن مؤسسة ممولة من الاتحاد الأوربي، وسيتقاضى مكافآت وبدلات باليورو، إن لم يكن بالدولار.
جلست أنتظر، وأقول أنه سيأتي وسأقترض منه مبلغاً لأصلح به العطب الذي أصاب الحاسوب الخاص بي. هذا على الرغم من أنني أعرف أن صاحبي كانت له تجربة فاشلة مع مؤسسة مماثلة ممولة من الأمريكيين!
دخل صديقي عالم الصحافة بعد ما طاف بالعديد من المهن العامة والخاصة. فقد عمل في السابق معلماً، وفشل في الاستمرار بسبب رفض الإدارة التعليمية احتجاجاته المتكررة تجاه حالات الغش الجماعي المنتشرة في المدارس، وقدم استقالته.
وفي الحقيقة أنا الذي اكتشفت مواهبه في الصحافة، ودعوته للعاصمة ليخوض فيها ما شاء له الخوض حتى أصبح أحد أهم الصحفيين المحترفين، لكن موارده المالية، رغم ذلك، كانت شحيحة. فهو من النوع الذي يرفض الخلط بين التحرير والإعلان، ويرفض "تفتيح المخ" مع الوزراء ورجال الأعمال.
وخلال العام الماضي أعلنت إحدى المؤسسات الممولة من الولايات المتحدة الأمريكية أنها تريد تدريب عدد من الصحفيين على التناول الموضوعي للأخبار والتقارير في منطقة الشرق الأوسط. وكان اسم صاحبي في القائمة، وقلت ها هو أخيراً قد عرف من أين تؤكل الكتف، لكنه عاد من مدينة بوسطن، مقر الدورة التدريبية بأمريكا، دون أن يحصل على شهادة.. فقد اشتبك مع المحاضرين الصهاينة هناك، وعاد على أول طائرة، وشرع يكتب محذراً من التمويل الأمريكي للإعلاميين العرب تحت أي مسمى!
حين بدأ غزو العراق العام قبل الماضي ترك صاحبي لحيته تطول وتستدير حتى أصبحت مفروشة على صدره كالمروحة. يدور كالمجنون يكتب قائلاً: ها هي الدفعة الثانية، من الخطط الصهيونية النظرية، قد بدأ تنفيذها على أرض الواقع. وأسأله أنا مستفهماً: "وما هي الدفعة الأولى؟". فيقول مستنكراً جهلي: "إنها احتلال الأراضي العربية في فلسطين. وسيصل جنود الاحتلال لبيتك هنا إن بقيت نائماً هكذا.. إنها الدفعة الجديدة من المؤامرة قد بدأت فانهض الآن، ولا تبطئ"!
إنه غريب الأطوار. ما له وفلسطين والعراق. أتساءل أنا متدثراً تحت البطاطين. وفجأة اندفع يرغي ويزبد متعاركاً تحت سقف الصالة. ولما أصابه اليأس رفع سماعة الهاتف واتصل بوالدتي، وسألها عن أخي ماذا يفعل الآن. ووضع السماعة ونظر نحوي قائلاً: أخوك يتسول على الطرقات. لقد اغتصب الأمريكيون ثروته في الحلة. هل تعرف أين هي الحلة؟ إنها في العراق. هل تعرف من هي العراق؟ إنها البلد الذي كان أخوك يعمل به طوال خمسة عشر عاماً.
أنا غير معني بأمور السياسية. كل ما أفكر به هو كيف أسدد أجرة الشقة، وأجرة الكهرباء والمياه، وكيف أدخر ثمن الطعام. وأنا أنتظر الفرصة لكي يفرجها الله على صاحبي الصحفي ليرد لي مقابل اكتشافي له. وحين اختارته المؤسسة إياها الممولة من الاتحاد الأوربي، قلت ها هي الأحوال ستتغير، وأن صاحبي سيكون محاضراً ومعلماً عربياً في الكتابة الإعلامية "الموضوعية" لأحداث الشرق الأوسط.
واليوم عاد. دخل الشقة متقطع الأنفاس كالطريد. لماذا لم يخطرني لأنتظره بالمطار؟. ثم لماذا عاد قبل الأوان؟ . وقبل كل شئ أين "اليوروز" و"الدولارز"؟
لقد عاد صاحبي على نفقته الخاصة وأنفق كل ما كان معه وما أعطيته من نقود. قال: الكلاب.. يريدونني أن أصف الاستشهاديين في التقارير الإخبارية بأنهم مجرد انتحاريين يهددون الاستقرار في فلسطين والعراق. وأن استبدل اسم "رجال المقاومة" في المدن العربية المحتلة بأنهم "إرهابيون".
في تلك اللحظة كانت القناة التليفزيونية تبث برنامجاً عن الصحافة الموضوعية، وكان ضيف البرنامج يلوي لسانه مستخدماً المصطلحات الإنكليزية مدللاً على خطر الإعلام المنحاز لـ"الإرهابيين في فلسطين والعراق". هنا صاح صاحبي الصحفي وقال: كان معي.. لقد اشترك هذا الرجل معي في محاضرات بوسطن، واستكملها حتى النهاية.. اتفوووا.
وبصق على التلفاز، ونام دون عشاء. أما أنا فبقيت أحدق في الظلام أفكر في الطريقة التي سنتدبر بها طعام اليوم التالي