المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة استراتيجية في تجربة رائدة لحرب الغوار داخل المدن



المهند
07-02-2005, 05:29 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

من المعلوم أن هناك معطيات تحدد القواعد الاستراتيجية لأي تغيير ثوري. ومن هذه المعطيات طبيعة المنطقة التي سيبدأ فيها الجهاد لأن اختيار منطقة العمليات عامل حاسم. معلوم كذلك أن المنطقة المثالية هي التي تكون خارج المدن، وسط جبال كثيرة الغابات، تمر عبرها شبكة السكك الحديدية لكن طرقاتها سيئة للغاية، ويعتمد اقتصادها على الزراعة عوض الصناعة. من البديهي كذلك أن يوفر حقل العمليات مخابئ طبيعية ضد طائرات العدو وعوائق لتحركات مصفحات العدو وغابات تسهل القيام بعمليات كر وفر سريعة ضد القطارات التي تحمل الجنود والعتاد وضد القوافل العسكرية في الطرقات الوعرة. يجب كذلك على حقل العمليات أن يكون ممتدا لتسهيل المناورات والحد من خطورة التطويق.

كما أن الكثافة السكانية كذلك من المعطيات التي تلعب دورا مهما. فالمنطقة التي تكون فيها القرى صغيرة مبعثرة ومعزولة أفضل من المنطقة التي تكون مملوءة بالمدن الصغيرة المفترقة عن بعضها بمساحات مكشوفة. فالعدو لا يستطيع إقامة معسكرات كبيرة من أجل عدد محدود من السكان في قرى مبعثرة إذ أن التكلفة الاقتصادية لمثل هذا الأمر عالية وجدواه العسكرية ضعيفة. عوضا عن ذلك سيبقي جيش العدو على عدد محدود من الحراس يسهل تصفيتهم فيما بعد.

لكن…هذا الميدان المثالي لا يمكن دائما توفيره إضافة إلى وجود أساليب مضادة من طرف العدو قد تكون بالغة الخطورة ومنها عزل الثوار بطريقة مباشرة[1] عن الأهالي كما حدث في الفليبين و ماليزيا وذلك عبر إفراغ المناطق المتاخمة للثوار من السكان.

ولهذا من المهم جدا بالنسبة للمجاهدين النظر في المعطيات الديموغرافية والاقتصادية. فمثلا حينما يقطن المدن 70 في المائة من سكان البلاد[2] يجب أن تتركز حينذاك ساحة العمليات في المدن الكبيرة مع الإبقاء على مناوشات في الجبال والبوادي. فمن جهة يشكل عدد السكان الكبير مرتعا خصبا لتجنيد العناصر، ومن جهة أخرى يكون الاقتصاد مركزا في المدن الكبيرة مما يجعله عرضة للاستهداف بسهولة أكبر.

من التجارب الأولى اللافتة لحرب الغوار داخل المدن تجربة الثوار الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي داخل العاصمة الجزائرية لكنها تجربة قد لا تكون قابلة للنقل إلى أجواء أخرى نظرا لما كان عليه الأمر من فصل تام بين المعمرين الفرنسيين والأهالي المسلمين داخل المدينة. فقد كان الثوار الجزائريين كالسمك داخل الماء وسط بيئة مساندة تماما. هذا الأمر قد يختلف جذريا في أوضاع أخرى أقرب إلى الحرب الأهلية حيث لا يعرف العدو من الصديق. ولعل التجربة المفيدة في هذا المجال تجربة الثوار في أوروغواي.

تقع أوروغواي في أمريكا الجنوبية و عاصمتها هي مونتيفيديو. هذه المدينة تحمل لوحدها 50 % من مجموع عدد سكان أوروغواي. ولهذا ركز الثوار منذ البداية عملهم الدعائي والتجنيدي داخل هذه المدينة كما أنهم لم يهملوا البوادي بل أدخلوها في نطاق استراتيجيتهم ولكن بقدر مكمل فقط. كان تنظيم الثوار محكما و تكتيكاتهم فعالة جدا تمكنوا عبرها من شل أجهزة العدو لمدة طويلة من الزمان. لكن بغض النظر عن الإيجابيات، فقد تخللت تجربة الثوار في أوروغواي بعض عوامل الضعف سأحاول إبرازها:



1. الجبهة المتحركة مقابل الجبهة الراكدة: في وقت من الأوقات لم تكن مطالب و شعارات الثوار موافقة لتطلعات الشعب وبالتالي اضطر الثوار إلى تأجير شقق عوض المبيت عند المتعاطفين. بهذا الفعل فقد الثوار مقومين أساسيين لحرب الغوار داخل المدن وهما الحركة والأمن. فحينما يستأجر الغوار شققا يصبحون عرضة للكشف عن طريق الأجهزة الأمنية التي تراجع دوريا سجلات الإيجار وتدقق في هويات أصحابها. كما أن هذا الاستئجار كثيرا ما دفع الغوار لإنشاء مخابئ للأسلحة والعتاد داخل الشقق المستأجرة وبالتالي ازداد ارتباطهم بها وهذا حد من التنقل الدائم الضروري للبقاء. إضافة إلى أن الغوار يصبحون عرضة للحصار داخل الشقق المستأجرة بأعداد كبيرة ضحية للتمشيطات الأمنية العديدة. هذا الوضع ما كان ليحدث لو توزع الغوار داخل الأهالي المتعاطفين للإبقاء على قدرتهم على الحركة و حد أدنى من الأمن. إن الغوار الذين يجتمعون لمدة العملية العسكرية ثم يتفرقون داخل مدينة كبيرة أقل عرضة للكشف. كما أن عدم ارتباطهم بقواعد ثابتة يمكنهم من تغيير حقل عملياتهم وأهدافهم باستمرار.



2. البنية التحتية اللوجيستيكية:

كثيرا ما ارتبط الغوار بقواعد ثابتة من أجل تصنيع الأسلحة وكثيرا ما كان قادة المجموعات يترددون بصفة مكررة على هذه القواعد للتزود بالسلاح والذخيرة مما جعلها عرضة للكشف والتدمير وبالتالي فقد الغوار موارد مضمونة للتسليح. كان من المفروض أن تصنع الأسلحة على كل قطع متناثرة في أماكن مختلفة لا شبهة عليها ثم تدفع هذه القطع لاحقا إلى قاعدة سرية للغاية مختصة في تركيبها إضافة إلى تسويتها وضبطها على ألا يعرف مكانها إلا ثلاثة أفراد كل واحد منهم مختص بهمة لها علاقة بالتركيب والضبط. بعد أن تكون الأسلحة جاهزة يتم تسليمها للغوار في أماكن أخرى دائمة التغيير. كان الممكن بهذه التدابير الاحتياطية الحفاظ على مصدر قار للتزود بالسلاح خاصة وأن القاعدة الأساسية في كل حروب الغوار عموما هو الإبقاء والحفاظ على القوى ما أمكن للبقاء مدة أطول للتأثير على موازين القوة القائمة.

3. المغزى السياسي للعمل العسكري
من المعلوم أن أي عمل عسكري يحتاج الثوار أن يفسروه للشعب هو عمل عقيم سياسيا. بالعكس يجب على العمل العسكري أن يدل على مغزاه السياسي بنفسه دون حاجة إلى تفسير. كثيرا ما حصل في تجربة الغوار في أوروغواي أن قتل جندي انتقاما لمقتل أحد الغوار. لكن هذا الفعل شكل في نظر كثير من المحللين هبوطا في المستوى السياسي ودخولا في دوامة ردود الأفعال. عوضا عن القتل بدون مغزى سياسي كان من الأحسن تثمين مقتل عنصر الغوار دعائيا وجعله شهيدا للقضية وكسب المزيد من الدعم الشعبي من خلال إبراز خصاله ونضاله. لقد كانت انطلاقة الغوار من أجل الدفاع عن الحقوق المهضومة لغالبية شعب أوروغواي ولهذا فقد كان من غير المنطقي اللجوء إلى أساليب غير مرتبطة بمعاني الحق والعدل كما كان الشأن في المحاكمات العلنية التي قام بها الغوار والتي هدفت إلى معاقبة الخبثاء من النظام الحاكم. ولكن أجواء الإرهاب والقمع التي شاعت في هذه المحاكمات عابت السمعة النبيلة التي كانت للغوار في مخيلة الشعب وأظهرت أنه لا فرق في الأساس بين الفريقين و شكلت هذه طامة كبرى بالنسبة للغوار.
من الأمور التي أضرت كذلك سياسيا بالغوار احتجازهم للرهائن والمطالبة بأشياء مستحيلة في المقابل. طبعا أمام تعنت النظام الحاكم كان الغوار يقتلون تلك الرهائن. لقد كان من الأولى المطالبة بأشياء ممكنة كالمطالبة بإطلاق سراح بعض السجناء. بموازاة هذه المطالبة يتم تعبئة حملة شعبية للمطالبة بإطلاق سراح السجناء حتى إذا لم تستجب الحكومة يتم بعدها إعدام الرهينة ولكن بعد أن يتأكد الكل، والعدو قبل الصديق، بأن الحكومة تتحمل المسؤولية كاملة فيما حصل للرهينة.



4. الاستراتيجية والتكتيك والبعد السياسي
تلخصت استراتيجية الغوار في أوروغواي في زعزعة المجتمع إلى درجة يقبل بها استبدال الحكم القائم بالحكم الثوري. كما أن تكتيكاتهم عموما لم تكن غامضة ولا معقدة. فقد ارتكزت على الدهاء والابتكار الذي يسمح بنقل التكتيكات المستعملة في البلاد الأخرى مع مراعاة الظروف الجغرافية، الاجتماعية والسياسية والإضافات التكنولوجية. ويمكن القول أن الخطوط العريضة لهذه التكتيكات تعتمد أساسا على:

· اعتماد مبدأ المفاجأة والمباغتة

· المضايقة المستمرة للعدو

· عدم خوض معارك كبيرة

· قطع طرق مواصلات العدو



كانت التكتيكات في حالة أوروغواي فعالة ولكن الاستراتيجية والبعد السياسي لم يكونا كذلك فانهزم الثوار. كانت النتائج من الناحية الاستراتيجية معاكسة تماما لما كان يتوخاه الثوار. فالزعزعة العنيفة التي لحقت المجتمع والانهيار الاجتماعي والسياسي الذي لعب عليه الثوار انقلب عليهم حين رحبت أغلبية من الأهالي بالانقلاب العسكري بل وحرضت الحكام العسكريين على بذل كافة الجهود من أجل استتباب الأمن بأي ثمن. وبهذا فشلت استراتيجية الغوار.

أما البعد السياسي المرافق بل والمسطر للعمل العسكري فلم يكن على نفس المستوى التكتيكي. فمثلا حينما نجح الغوار في اختطاف قنصل البرازيل لدى أوروغواي Dias Gomide وعميل المخابرات المركزية الأمريكية Dan Mitrione ، وهو عمل بارع عسكريا من الناحية التكتيكية، لم يصاحب هذا الإنجاز تغطية سياسية على نفس المستوى من البراعة. كانت مطالب الغوار مقابل الرهينتين غير واقعية فقد طالب الغوار بإطلاق سراح المئات من السجناء السياسيين. وهذا مطلب لو استجيب له لأفقد الحكومة كل مصداقية وبالتالي يستحيل أن تقوم بذلك. فأمام الرفض تم إعدام العميل الأمريكي وانتهت القصة. كان من المفروض أن يصور العميل وتسجل اعترافاته ثم توزع على شكل حلقات على الأهالي المتشوقين لمعرفة التفاصيل الغامضة المحيطة بعمل الاستخبارات الأمريكية في أوروغواي. ثم بعد ذلك يتم إرسال احتجاج للجنة الكونجرس الأمريكي المكلفة بمراقبة عمل الاستخبارات[3] مصحوبا بملف كامل يحتوي على الاعترافات الكاملة للعميل. هذا العمل كان سيكسب الثوار دعما عالميا وزخما إعلاميا منقطع النظير خاصة إذا تبعه إفراج الثوار على العميل رحمة بأولاده الثمانية شريطة أن يخرج من البلاد مباشرة. نفس الملاحظة تسري على القنصل البرازيلي فقد طالب الثوار بفدية مالية كبيرة قامت على إثرها زوجته[4] بجمعها سنتا سنتا. هذا الفعل جعل التعاطف الشعبي يذهب لزوجة القنصل. كان من الممكن إحراج الحكومة البرازيلية مثلا عبر المطالبة بنشر بيان للثوار في الصحف البرازيلية يتعاطف مع السجناء السياسيين داخل البرازيل ويطالب بإطلاق سراح قادتهم في خطوة تضامنية مع المناضلين داخل البرازيل. هذا الاستثمار السياسي لهذه الأعمال العسكرية كان سيكون مفيدا أكثر من الظهور مظهر المافيا التي لا هدف لها سوى جمع المال.



لقد دامت حركة الغوار في أوروغواي بضع سنين ابتداءا من أواخر الستينات إلى أواسط السبعينات وكادت تنجح في أهدافها خاصة وأن الظروف الاجتماعية والسياسية المتدهورة التي عرفتها أوروغواي ذلك الوقت أعطتها دفعة قوية. لكن ورغم فشل الحركة إلا أنها تعتبر من الحركات الثورية الرائدة في مجال حرب العصابات داخل المدن والتي استفادت من تجربتها حركات ثورية كثيرة عبر العالم.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] أو بطريقة غير مباشرة كما حدث في الجزائر مؤخرا عبر خلط الأوراق وإلصاق ممارسات خبيثة بالمجاهدين وهذا مجاله الحرب النفسية.

[2] هذه النسبة المئوية وردت في كتاب للمؤلف Abraham Guillen:, “Estrategia de la guerilla urbana” (c.1971)

[3] إن الكثير من العمليات التي تقوم بها الاستخبارات الأمريكية لم يكن مرخص لها من طرف الكونجرس إذ أن تمويلها يكون من مصادر غير خاضعة لرقابة الكونجرس وبالتالي فهي عمليات غير قانونية قد تترتب عليها فضيحة سياسية للإدارة الأمريكية. من الأمثلة على العمليات الغير القانونية للاستخبارات الأمريكية قضية Iran-Contra Gate.

[4] لم تدفع الحكومة البرازيلية الفدية مباشرة لأن لديها مبدأ بعدم التعامل مع "الإرهابيين".