خطاب
29-12-2004, 07:18 AM
الرهان الخاسر لبوش على الجندي الأمريكي
شبكة البصرة
ترجمة : أحمد عطا - مفكرة الإسلام
يمر الجيش الأمريكي في السنوات الأخيرة ومنذ أن أتت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى البيت الأبيض بحالة من فقدان التوازن، لازالت آثارها تتجلى يومًا بعد يوم في ظل إصرار الإدارة الأمريكية على استخدام عضلاتها في التعامل مع كافة القضايا الدولية.
ويرى المحللون أن الجيش الأمريكي الذي اعتاد أن يتمتع بسمعة إعلامية قوية , بدأ يكتشف أنه هو نفسه قد وقع فريسة الدعاية الإعلامية الضخمة التي صنعها و صورت للعالم بأسره أن هذا الجيش الأمريكي يتسم بأنه لا يقهر.
ولايزال الجنود الأمريكيون يومًا بعد يوم في ظل استمرار العمليات العسكرية في مدن كثيرة في العراق وأفغانستان يشعرون بأنهم في قمة التردد والتخبط المعنوي ، فضلاً عن أجواء الخوف من المجهول والحنين إلى حياة الرفاهية وعدم الشعور بالمسؤولية التي اعتادوا عليها، وبدأ الجنود الأمريكيون يعايشون حقيقة عدم قدرتهم على الحياة لفترة طويلة خارج أوطانهم وعدم تمكنهم من مواصلة حروب طويلة الأمد.
وقد رصدت وسائل الإعلام الغربية حالة المعاناة التي تركت بصماتها جلية على مختلف طوائف الشعب الأمريكي نتيجة للحرب، وخاصة عائلات العسكريين الأمريكيين الذين لايزالون يعيشون في ظل تبعات الحربين اللتين خاضتهما الولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق.
وحول هذا الموضوع تتحدث صحيفة هيرالد ترييون وتكشف جانبًا من الأجواء التي تحيا في ظلالها أسر وعائلات العسكريين الأمريكيين .
فتشير الصحيفة إلى العريف ألكسندر جارسيا وبقيّة العسكريين في كتيبته المتواجدة في القاعدة العسكرية الأمريكية فورت رايلي الواقعة على بعد بضعة أميال من هذه البلدة، حيث قضى جارسيا الأسابيع الأخيرة يعمل لوقت متأخر في ولاية كانساس ذات الليالي الباردة الطويلة في تنظيف وإعداد التروس والعربات للاستعداد للعودة للخدمة في العراق.
وقبل ثمانية أشهر فقط من هذا المشهد كان العريف الأمريكي جارسيا ينهي عامًا كاملاً من المهام شديدة الصعوبة ضمن قوات الاحتلال الأمريكية في العراق حيث كان يعمل ضمن سلاح الفرسان، وبينما كانت طائرته تقلع به متجهة إلى الولايات المتحدة ظل جارسيا يراقب الصحراء العراقية المخيفة وهي تبعد شيئًا فشيئًا ويقول في دخيلة نفسه بكل ثقة: لن أعود لأرى هذا المكان مرة أخرى.
وتنقل الهيرالد تريبيون عن الجندي الأمريكي قوله: لقد اعتقدت أنّ الجيش الأمريكي كان كبيرًا بما فيه الكفاية بحيث تكون الوحدة العسكرية التي تخدم في إحدى المناطق مستبعدة تمامًا من العودة إليها مرة ثانية على الأقل حتى تنتهي أوضاع معينة وتبدأ أوضاع أخرى مختلفة تمامًا , ولكن ظني كان خاطئا تماما, فها نحن نعود إلى كابوسنا مرة ثانية ونتعرض للموت في كل يوم مرات ومرات .
ويضيف جارسيا البالغ من العمر 20 عامًا: إنني أعلم أن هذا هو واجبي ولا بد أن أعود للخدمة في العراق من أجل بلادي، ولست نادمًا على ذلك، لكن ينتابني الشعور بأنني لم أؤد ما كان يجب علي أداؤه, كما ينتابنى شعور بأننى ربما لا أعود لأهلى مرة ثانية .
وأردف العريف الأمريكي: لقد كنت أجهز نفسي للعودة إلى حياتي، وأستعد للانغماس مرة أخرى في نشاطاتي المعتادة، ولكنني أجد نفسي معرضًا لخوض أمواج عدم الاستقرار مرة ثانية , إننى ربما أفتقد الاستقرار للأبد .
في قاعدة فورت رايلي وغيرها من القواعد العسكرية عبر كل أرجاء الولايات المتحدة يواجه الجنود الأمريكيون حاليًا أنماطًا من الحياة العسكرية تتميز بأنها متغيرة عما هو مألوف بشكل جذري , أثرت في مشاعرهم النفسية واستفرارهم الشعوري سلبا .
حيث إنه في العقود الماضية كان الجنود الأمريكيون معتادون على إيقاع أبطأ بمراحل فيما يخص عمليات انتشارهم حول العالم، وحتى على مدى الثلاثين عامًا الماضية التي شهدت حرب عاصفة الصحراء وحرب فيتنام، كان الجنود الأمريكيون يتوقعون أن الأمر لن يستغرق أكثر من رحلة واحدة فقط إلى موطن الخطر.
وتقول الصحيفة: لكن بعدما أصبح الجيش الأمريكي منتشرًا انتشارًا واسعًا جدًا في أعقاب حربي العراق وأفغانستان، خاصة مع تواصل الجهود الساعية لإيجاد نوع من الاستقرار في أفغانستان، بات الجنود الأمريكيون وجنود مشاة البحرية الأمريكيون مطالبون بالذهاب إلى مواطن الخطر والخوف لمرات عديدة ومتلاحقة، ولمدد أطول بكثير مع فرص أقل في إمكانية التنعم بالبقاء في الوطن مقارنة بأسلافهم من العسكريين الأمريكيين , وبات أولئك الجنود فى حالة تشبه الهستيريا من ردهم إلى أماكن المخاطر التى لا يعلمون لماذا تحيق بهم هكذا !
وترسم الصحيفة صورة لحال الجنود الأمريكيين في ولاية كانساس سواء في القاعدة العسكرية القريبة منها أو البلدات الصغيرة التي تقع جانبها وكأنها دائرة مفرغة تدور بشكل لانهائي: فالجنود الأمريكيون يعودون إلى بيوتهم وسط الاحتفالات الصاخبة التي تدوم لآخر الليل وفي الصالات الرياضية والحانات واللافتات التي تنتشر على الطرقات التي تصبح صارخة من كثرة الصخب والضوضاء ابتهاجًا بعودة هؤلاء الجنود، ثم فجأة ينقلب المشهد تمامًا إلى النقيض فتبدو صورة الجنود الأمريكيين بالأزياء الرسمية الجديدة وكابوس العودة إلى الخدمة مرة أخرى , وكأنه يستعد للدفن الانهائي فى تراب العراق وأفغانستان !ّ
في شهر يناير القادم يجب على 3.500 جندي أمريكي أن يغادروا قاعدة فورت رايلي عائدين مرة أخرى إلى العراق، والأسبوع الماضي وحده أدرك حوالي 3.500 جندي أمريكي آخرين بعد أن كانوا قد عادوا لتوهم من العراق فاجعة أنه من المقرر أن يعودوا مرة ثانية إلى هناك مع حلول منتصف عام 2005.
وتلفت الصحيفة الانتباه إلى حقيقة أن أكثر من 31 بالمائة من الجنود الـ950.000 الذين تم إرسالهم إلى العراق أو أفغانستان منذ أن انجرفت القدم الأمريكية في هذين البلدين قد تم إرسالهم للخدمة أكثر من مرة في كل من البلدين، كما أن أكثر من 140 جنديًأ أمريكيًا من الذين قد قتلوا حتى الآن في العراق – بحسب إحصاءات البنتاجون – كانوا يخدمون للمرة الثانية لهم في العراق.
وهنا تتحدث الصحيفة عن مدى التأثيرات العميقة التي تخلفتها هذه التغييرات الجذرية في حياة العسكريين والجنود الأمريكيين خاصة فيما يتعلق بعائلاتهم وأسرهم، حيث تعتبر مئات الآلاف من عائلات العسكريين الأمريكيين أن موجات فراقهم المتكررة عن أبنائهم الذين يذهبون لمناطق الخطر والرعب مرات متتالية جعلتهم يشعرون بأنهم كمن هو مجبر على مشاهدة مقاطع من أشد الأفلام رعبًا وبشكل متكرر متواصل لا يعطي الفرصة لالتقاط النفس.
وتشكو عائلات العسكريين الأمريكيين من أنها ما عادت تترقب عودة أبنائها من الخدمة في مناطق الخطر كالعراق إلا لكي تتحسر على لحظات فراقهم مرة أخرى والتي باتت تأتي بأسرع مما يتخيله العقل, خصوصا مع الأنباء المتتالية لموت الأعداد المهولة للجنود الأمريكيين فى العراق .
وتعود الهيرالد تريبيون للجندي الأمريكي جارسيا تقول: إن ذلك الجندي عندما أخبر أمه بأنه سوف يضطر للعودة مرة أخرى للخدمة في العراق، ظلت تبكي وهي تخبره منهارة أن كل يوم مر عليها أثناء مهمته الأولى التي أمضاها في العراق كان يمر عليها كأسوأ أيام عمرها، وأنها على ثقة كاملة بأنها لا تملك القدرة على معايشة مثل هذه الآلام مرة أخرى.
أما عائلات الجنود الأمريكيين الذين قتلوا وهم يؤدون مهامهم الثانية في العراق أو أفغانستان فالوضع المآساوي لديهم أشد، حيث تظل هواجس عودة أبنائهم من المهمة الأولى التي خاضوها في مناطق الخطر تمثل أمام أذهانهم، ويظل الشعور الناجم عن العقلية المادية الأمريكية يسيطر على تفكير هذه العائلات فيتأكدوا أن أبناءهم لو لم يجبروا من قبل القيادة العسكرية الأمريكية على العودة مرة أخرى لمناطق الخطر لما كانوا قد قتلوا.
وحتى بالنسبة للجنود الأمريكيين أنفسهم فإن فكرة العودة مرة أخرى للخدمة في العراق تضعهم في حالة من الشعور بالحيرة القاتلة، فعلى خلاف العديد من أمور الحياة التي يكون فيها خوض أي شيء للمرة الثانية أهون من خوضه للمرة الأولى، يؤكد الجنود الأمريكيون أنفكرة العودة للخدمة لمرة ثانية في العراق تهاجم مشاعرهم ووجدانهم بشكل شديد القسوة يبعث التخبط في كيانهم، خاصة وهم محملون بالذكريات التي ارتبطت بأذهانهم عن مدى الخوف والتوتر اللذين صاحبا مهمتهم الأولى وفي ظل ما تبثه وسائل الإعلام عن حجم القتلى المتزايد في صفوف القوات الأمريكية وضخامة التفجيرات التي تنفذها جماعات المقاومة لاسيما في الأسابيع الأخيرة.
وبحسب الهيرالد تريبيون يقول الجندي الأمريكي ألكسندر جارسيا: في المرة الأولى التي أرسلت إلى العراق لم أكن أعلم عن حقيقة الأوضاع هناك شيئًا، لكنني الآن وأنا أتجهز للذهاب مرة ثانية في شهر يناير القادم أعرف ما أنا مقبل على اقتحامه لذلك الأمر أشق علي بمراحل كبيرة، لأنني أعرف الآن ما الذي سأفعله في العراق وما الذي ينتظرني هناك من مخاطر وآلام ومشاعر صعبة.
وحتى المسؤولين في الجيش الأمريكي وسلاح البحرية يعترفون بأنّ الجنود الأمريكيين يطالبون بالعودة للدمار في مناطق الخطر لمرات ثانية وثالثة بمعدل أكثر سرعة خاصة منذ بدأت حرب الإدارة الأمريكية على 'الإرهاب' عقب هجمات سبتمبر عام 2001.
ويقول الكابتن دان مسويني الناطق بلسان سلاح البحرية الأمريكي: أثناء وقت السلام عادة ما يتم نشر جنود البحرية لمهمة مدّتها ستّة أشهر، ثمّ بعدها يبقون في الوطن لمدّة 18 شهر، لكن الآن تغير الوضع بكثير فالجنود يبقون سبعة أشهر في أية مهمة في مناطق الخطر ويعودون إلى البيت لمدة سبعة أشهر على أقصى تقدير ليتم طلبهم ثانية.
وقال الكابتن مسويني: 'إن حوالي نصف جنود مشاة البحرية الأمريكية المارينز في العراق والبالغ قوامهم 32 ألف جندي يخدمون للمرة الثنية في العراق حاليًا.
وأضاف الكابتن دان مسويني: 'ورغم كل شيء فإنني أعتقد أن المسؤولين العسكريين يقدرون مدى أهمية الفترة التي يبقى خلالها جنودنا مع عائلاتهم أو في قواعدهم العسكرية داخل الوطن وتأثير هذه الفترة على الحالة النفسية للجنود بعد عودتهم إلى وحداتهم، لكن الأولوية القصوى في حساب مثل هذه الفترات التي يقضيها الجنود في الوطن يجب أن تظل خاضعة لتقدير القادة العسكريين الموجودين على أرض القتال.
وتابع الناطق العسكري الأمريكي بقوله: إن أهم نقطتين نحرص في سلاح البحرية المارينز على إنجازهما يتمثلان في إنجاز المهام الموكولة بنا والسعي نحو تحقيق رفاهية القوات قدر الاستطاعة.
وتنقل الصحيفة عن الكولونيل كريستوفر رودني الناطق العسكري الأمريكي قوله في هذا السياق: 'من الناحية المثالية النظرية من المفترض أن يكون جنود الجيش الذين يعملون لفترات مستديمة متوقعين لأن يطلب نشرهم في مناطق حول العالم لمدة عام واحد كل ثلاثة أعوام، أما الجنود الاحتياط فيجب عليهم أن يتوقعوا أن يتم نشرهم لمدة عام واحد كل ستة أعوام خارج الوطن أو في مناطق الخطر.
ويضيف الكولونيل رودني: أما في الوقت الحاضر وفي ظل أدواء الحرب المتواصلة فإن جنودنا يذهبون لمناطق الخطر لمدة عام ثم يعودون لوطنهم لعام آخر، وقد يحدث في كثير من الأحيان أن يتم تمديد مهام الجنود في الخارج، وتخفيض مدة البقاء في الوطن.
وبحسب الصحيفة فإن مسؤولي الجيش الأمريكي لا يملون من تكرار الادعاء بانهم يبحثون بشكل قوي عن طرق لتخفيف الأعباء التي تصاحب الانتشار المتكرر للجنود الأمريكيين في مناطق الخطر عن كاهل هؤلاء الجنود وعائلاتهم.
ويقول الكولونيل كريستوفر رودني: 'بقدر الطاقة يحاول الجيش أن يبذل جهودًا لإعطاء الجنود إنذارًا مبكّرًا بشأن قرارات نشرهم خارج الوطن بفترة مناسبة، والقساوسة التابعين للجيش الأمريكي لهم دور في تخفيف المعاناة عن عائلات جنودنا الذين يجري نشرهم في مناطق الخطر'.
وفي النهاية تظل مخاوف العقلاء في الولايات المتحدة تتزايد من رغبة الإدارة الأمريكية الجامحة في الزج بقواتها العسكرية للتعامل مع مختلف القضايا على الساحة الدولية لفرض رغباتها بالقوة الجبرية.
ومع بقاء إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش في البيت الأبيض لولاية ثانية وهو الرئيس الذي وضع واشنطن في صفوف المحاربين وأعاد إلى الواقع صورة الامبراطوريات السابقة التي كانت لا تتخلى عن الخيار العسكري في تحقيق طموحاتها، تتصاعد حدة الأزمات الاجتماعية داخل الولايات المتحدة نفسها، وتفقد الأسرة الأمريكية آخر الخيوط التي كانت تحافظ على بقائها في ظل تشرذم أبنائها في مواطن الخطر.
وعليه فلم يعد فزع المواطن الأمريكي في ظل حكم بوش متمثلاً فقط في الخوف من استهداف أمريكا بضربات جديدة على غرار هجمات سبتمبر، وإنما بات ذلك المواطن الأمريكي لا يدري أين سيذهب بوش بأبنائه وفي أي بلاد الأرض سيلقون حتفهم في هضاب أفغانستان أم في طرقات المدن العراقية.
وبعد عقود من الزمان تمكنت فيها الآلة الإعلامية الأمريكية من وضع واشنطن على قمة المجتمع الدولي تمرر رغباتها وتملي إراداتها من خلال الضغوط الدبلوماسية والتهديدات السياسية المدروسة، جاء جورج بوش في زي المحارب الروماني القديم يقسم العالم إلى خير وشر ويرفع سيفه مقاتلاً به كل من لا يريد أن يركب القطار الصهيو إنجيلي، ولكن الرئيس الأمريكي نسي أن جنوده ليسو مقاتلي الامبراطورية الرومانية السابقة وأنهم يتمنون اللحظة التي يعودون فيها من مهامهم القتالية ويرتعبون من مجرد تخيل العودة مرة أخرى إلى مواطن صراع لا ناقة فيها لهم ولا جمل.
شبكة البصرة
ترجمة : أحمد عطا - مفكرة الإسلام
يمر الجيش الأمريكي في السنوات الأخيرة ومنذ أن أتت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى البيت الأبيض بحالة من فقدان التوازن، لازالت آثارها تتجلى يومًا بعد يوم في ظل إصرار الإدارة الأمريكية على استخدام عضلاتها في التعامل مع كافة القضايا الدولية.
ويرى المحللون أن الجيش الأمريكي الذي اعتاد أن يتمتع بسمعة إعلامية قوية , بدأ يكتشف أنه هو نفسه قد وقع فريسة الدعاية الإعلامية الضخمة التي صنعها و صورت للعالم بأسره أن هذا الجيش الأمريكي يتسم بأنه لا يقهر.
ولايزال الجنود الأمريكيون يومًا بعد يوم في ظل استمرار العمليات العسكرية في مدن كثيرة في العراق وأفغانستان يشعرون بأنهم في قمة التردد والتخبط المعنوي ، فضلاً عن أجواء الخوف من المجهول والحنين إلى حياة الرفاهية وعدم الشعور بالمسؤولية التي اعتادوا عليها، وبدأ الجنود الأمريكيون يعايشون حقيقة عدم قدرتهم على الحياة لفترة طويلة خارج أوطانهم وعدم تمكنهم من مواصلة حروب طويلة الأمد.
وقد رصدت وسائل الإعلام الغربية حالة المعاناة التي تركت بصماتها جلية على مختلف طوائف الشعب الأمريكي نتيجة للحرب، وخاصة عائلات العسكريين الأمريكيين الذين لايزالون يعيشون في ظل تبعات الحربين اللتين خاضتهما الولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق.
وحول هذا الموضوع تتحدث صحيفة هيرالد ترييون وتكشف جانبًا من الأجواء التي تحيا في ظلالها أسر وعائلات العسكريين الأمريكيين .
فتشير الصحيفة إلى العريف ألكسندر جارسيا وبقيّة العسكريين في كتيبته المتواجدة في القاعدة العسكرية الأمريكية فورت رايلي الواقعة على بعد بضعة أميال من هذه البلدة، حيث قضى جارسيا الأسابيع الأخيرة يعمل لوقت متأخر في ولاية كانساس ذات الليالي الباردة الطويلة في تنظيف وإعداد التروس والعربات للاستعداد للعودة للخدمة في العراق.
وقبل ثمانية أشهر فقط من هذا المشهد كان العريف الأمريكي جارسيا ينهي عامًا كاملاً من المهام شديدة الصعوبة ضمن قوات الاحتلال الأمريكية في العراق حيث كان يعمل ضمن سلاح الفرسان، وبينما كانت طائرته تقلع به متجهة إلى الولايات المتحدة ظل جارسيا يراقب الصحراء العراقية المخيفة وهي تبعد شيئًا فشيئًا ويقول في دخيلة نفسه بكل ثقة: لن أعود لأرى هذا المكان مرة أخرى.
وتنقل الهيرالد تريبيون عن الجندي الأمريكي قوله: لقد اعتقدت أنّ الجيش الأمريكي كان كبيرًا بما فيه الكفاية بحيث تكون الوحدة العسكرية التي تخدم في إحدى المناطق مستبعدة تمامًا من العودة إليها مرة ثانية على الأقل حتى تنتهي أوضاع معينة وتبدأ أوضاع أخرى مختلفة تمامًا , ولكن ظني كان خاطئا تماما, فها نحن نعود إلى كابوسنا مرة ثانية ونتعرض للموت في كل يوم مرات ومرات .
ويضيف جارسيا البالغ من العمر 20 عامًا: إنني أعلم أن هذا هو واجبي ولا بد أن أعود للخدمة في العراق من أجل بلادي، ولست نادمًا على ذلك، لكن ينتابني الشعور بأنني لم أؤد ما كان يجب علي أداؤه, كما ينتابنى شعور بأننى ربما لا أعود لأهلى مرة ثانية .
وأردف العريف الأمريكي: لقد كنت أجهز نفسي للعودة إلى حياتي، وأستعد للانغماس مرة أخرى في نشاطاتي المعتادة، ولكنني أجد نفسي معرضًا لخوض أمواج عدم الاستقرار مرة ثانية , إننى ربما أفتقد الاستقرار للأبد .
في قاعدة فورت رايلي وغيرها من القواعد العسكرية عبر كل أرجاء الولايات المتحدة يواجه الجنود الأمريكيون حاليًا أنماطًا من الحياة العسكرية تتميز بأنها متغيرة عما هو مألوف بشكل جذري , أثرت في مشاعرهم النفسية واستفرارهم الشعوري سلبا .
حيث إنه في العقود الماضية كان الجنود الأمريكيون معتادون على إيقاع أبطأ بمراحل فيما يخص عمليات انتشارهم حول العالم، وحتى على مدى الثلاثين عامًا الماضية التي شهدت حرب عاصفة الصحراء وحرب فيتنام، كان الجنود الأمريكيون يتوقعون أن الأمر لن يستغرق أكثر من رحلة واحدة فقط إلى موطن الخطر.
وتقول الصحيفة: لكن بعدما أصبح الجيش الأمريكي منتشرًا انتشارًا واسعًا جدًا في أعقاب حربي العراق وأفغانستان، خاصة مع تواصل الجهود الساعية لإيجاد نوع من الاستقرار في أفغانستان، بات الجنود الأمريكيون وجنود مشاة البحرية الأمريكيون مطالبون بالذهاب إلى مواطن الخطر والخوف لمرات عديدة ومتلاحقة، ولمدد أطول بكثير مع فرص أقل في إمكانية التنعم بالبقاء في الوطن مقارنة بأسلافهم من العسكريين الأمريكيين , وبات أولئك الجنود فى حالة تشبه الهستيريا من ردهم إلى أماكن المخاطر التى لا يعلمون لماذا تحيق بهم هكذا !
وترسم الصحيفة صورة لحال الجنود الأمريكيين في ولاية كانساس سواء في القاعدة العسكرية القريبة منها أو البلدات الصغيرة التي تقع جانبها وكأنها دائرة مفرغة تدور بشكل لانهائي: فالجنود الأمريكيون يعودون إلى بيوتهم وسط الاحتفالات الصاخبة التي تدوم لآخر الليل وفي الصالات الرياضية والحانات واللافتات التي تنتشر على الطرقات التي تصبح صارخة من كثرة الصخب والضوضاء ابتهاجًا بعودة هؤلاء الجنود، ثم فجأة ينقلب المشهد تمامًا إلى النقيض فتبدو صورة الجنود الأمريكيين بالأزياء الرسمية الجديدة وكابوس العودة إلى الخدمة مرة أخرى , وكأنه يستعد للدفن الانهائي فى تراب العراق وأفغانستان !ّ
في شهر يناير القادم يجب على 3.500 جندي أمريكي أن يغادروا قاعدة فورت رايلي عائدين مرة أخرى إلى العراق، والأسبوع الماضي وحده أدرك حوالي 3.500 جندي أمريكي آخرين بعد أن كانوا قد عادوا لتوهم من العراق فاجعة أنه من المقرر أن يعودوا مرة ثانية إلى هناك مع حلول منتصف عام 2005.
وتلفت الصحيفة الانتباه إلى حقيقة أن أكثر من 31 بالمائة من الجنود الـ950.000 الذين تم إرسالهم إلى العراق أو أفغانستان منذ أن انجرفت القدم الأمريكية في هذين البلدين قد تم إرسالهم للخدمة أكثر من مرة في كل من البلدين، كما أن أكثر من 140 جنديًأ أمريكيًا من الذين قد قتلوا حتى الآن في العراق – بحسب إحصاءات البنتاجون – كانوا يخدمون للمرة الثانية لهم في العراق.
وهنا تتحدث الصحيفة عن مدى التأثيرات العميقة التي تخلفتها هذه التغييرات الجذرية في حياة العسكريين والجنود الأمريكيين خاصة فيما يتعلق بعائلاتهم وأسرهم، حيث تعتبر مئات الآلاف من عائلات العسكريين الأمريكيين أن موجات فراقهم المتكررة عن أبنائهم الذين يذهبون لمناطق الخطر والرعب مرات متتالية جعلتهم يشعرون بأنهم كمن هو مجبر على مشاهدة مقاطع من أشد الأفلام رعبًا وبشكل متكرر متواصل لا يعطي الفرصة لالتقاط النفس.
وتشكو عائلات العسكريين الأمريكيين من أنها ما عادت تترقب عودة أبنائها من الخدمة في مناطق الخطر كالعراق إلا لكي تتحسر على لحظات فراقهم مرة أخرى والتي باتت تأتي بأسرع مما يتخيله العقل, خصوصا مع الأنباء المتتالية لموت الأعداد المهولة للجنود الأمريكيين فى العراق .
وتعود الهيرالد تريبيون للجندي الأمريكي جارسيا تقول: إن ذلك الجندي عندما أخبر أمه بأنه سوف يضطر للعودة مرة أخرى للخدمة في العراق، ظلت تبكي وهي تخبره منهارة أن كل يوم مر عليها أثناء مهمته الأولى التي أمضاها في العراق كان يمر عليها كأسوأ أيام عمرها، وأنها على ثقة كاملة بأنها لا تملك القدرة على معايشة مثل هذه الآلام مرة أخرى.
أما عائلات الجنود الأمريكيين الذين قتلوا وهم يؤدون مهامهم الثانية في العراق أو أفغانستان فالوضع المآساوي لديهم أشد، حيث تظل هواجس عودة أبنائهم من المهمة الأولى التي خاضوها في مناطق الخطر تمثل أمام أذهانهم، ويظل الشعور الناجم عن العقلية المادية الأمريكية يسيطر على تفكير هذه العائلات فيتأكدوا أن أبناءهم لو لم يجبروا من قبل القيادة العسكرية الأمريكية على العودة مرة أخرى لمناطق الخطر لما كانوا قد قتلوا.
وحتى بالنسبة للجنود الأمريكيين أنفسهم فإن فكرة العودة مرة أخرى للخدمة في العراق تضعهم في حالة من الشعور بالحيرة القاتلة، فعلى خلاف العديد من أمور الحياة التي يكون فيها خوض أي شيء للمرة الثانية أهون من خوضه للمرة الأولى، يؤكد الجنود الأمريكيون أنفكرة العودة للخدمة لمرة ثانية في العراق تهاجم مشاعرهم ووجدانهم بشكل شديد القسوة يبعث التخبط في كيانهم، خاصة وهم محملون بالذكريات التي ارتبطت بأذهانهم عن مدى الخوف والتوتر اللذين صاحبا مهمتهم الأولى وفي ظل ما تبثه وسائل الإعلام عن حجم القتلى المتزايد في صفوف القوات الأمريكية وضخامة التفجيرات التي تنفذها جماعات المقاومة لاسيما في الأسابيع الأخيرة.
وبحسب الهيرالد تريبيون يقول الجندي الأمريكي ألكسندر جارسيا: في المرة الأولى التي أرسلت إلى العراق لم أكن أعلم عن حقيقة الأوضاع هناك شيئًا، لكنني الآن وأنا أتجهز للذهاب مرة ثانية في شهر يناير القادم أعرف ما أنا مقبل على اقتحامه لذلك الأمر أشق علي بمراحل كبيرة، لأنني أعرف الآن ما الذي سأفعله في العراق وما الذي ينتظرني هناك من مخاطر وآلام ومشاعر صعبة.
وحتى المسؤولين في الجيش الأمريكي وسلاح البحرية يعترفون بأنّ الجنود الأمريكيين يطالبون بالعودة للدمار في مناطق الخطر لمرات ثانية وثالثة بمعدل أكثر سرعة خاصة منذ بدأت حرب الإدارة الأمريكية على 'الإرهاب' عقب هجمات سبتمبر عام 2001.
ويقول الكابتن دان مسويني الناطق بلسان سلاح البحرية الأمريكي: أثناء وقت السلام عادة ما يتم نشر جنود البحرية لمهمة مدّتها ستّة أشهر، ثمّ بعدها يبقون في الوطن لمدّة 18 شهر، لكن الآن تغير الوضع بكثير فالجنود يبقون سبعة أشهر في أية مهمة في مناطق الخطر ويعودون إلى البيت لمدة سبعة أشهر على أقصى تقدير ليتم طلبهم ثانية.
وقال الكابتن مسويني: 'إن حوالي نصف جنود مشاة البحرية الأمريكية المارينز في العراق والبالغ قوامهم 32 ألف جندي يخدمون للمرة الثنية في العراق حاليًا.
وأضاف الكابتن دان مسويني: 'ورغم كل شيء فإنني أعتقد أن المسؤولين العسكريين يقدرون مدى أهمية الفترة التي يبقى خلالها جنودنا مع عائلاتهم أو في قواعدهم العسكرية داخل الوطن وتأثير هذه الفترة على الحالة النفسية للجنود بعد عودتهم إلى وحداتهم، لكن الأولوية القصوى في حساب مثل هذه الفترات التي يقضيها الجنود في الوطن يجب أن تظل خاضعة لتقدير القادة العسكريين الموجودين على أرض القتال.
وتابع الناطق العسكري الأمريكي بقوله: إن أهم نقطتين نحرص في سلاح البحرية المارينز على إنجازهما يتمثلان في إنجاز المهام الموكولة بنا والسعي نحو تحقيق رفاهية القوات قدر الاستطاعة.
وتنقل الصحيفة عن الكولونيل كريستوفر رودني الناطق العسكري الأمريكي قوله في هذا السياق: 'من الناحية المثالية النظرية من المفترض أن يكون جنود الجيش الذين يعملون لفترات مستديمة متوقعين لأن يطلب نشرهم في مناطق حول العالم لمدة عام واحد كل ثلاثة أعوام، أما الجنود الاحتياط فيجب عليهم أن يتوقعوا أن يتم نشرهم لمدة عام واحد كل ستة أعوام خارج الوطن أو في مناطق الخطر.
ويضيف الكولونيل رودني: أما في الوقت الحاضر وفي ظل أدواء الحرب المتواصلة فإن جنودنا يذهبون لمناطق الخطر لمدة عام ثم يعودون لوطنهم لعام آخر، وقد يحدث في كثير من الأحيان أن يتم تمديد مهام الجنود في الخارج، وتخفيض مدة البقاء في الوطن.
وبحسب الصحيفة فإن مسؤولي الجيش الأمريكي لا يملون من تكرار الادعاء بانهم يبحثون بشكل قوي عن طرق لتخفيف الأعباء التي تصاحب الانتشار المتكرر للجنود الأمريكيين في مناطق الخطر عن كاهل هؤلاء الجنود وعائلاتهم.
ويقول الكولونيل كريستوفر رودني: 'بقدر الطاقة يحاول الجيش أن يبذل جهودًا لإعطاء الجنود إنذارًا مبكّرًا بشأن قرارات نشرهم خارج الوطن بفترة مناسبة، والقساوسة التابعين للجيش الأمريكي لهم دور في تخفيف المعاناة عن عائلات جنودنا الذين يجري نشرهم في مناطق الخطر'.
وفي النهاية تظل مخاوف العقلاء في الولايات المتحدة تتزايد من رغبة الإدارة الأمريكية الجامحة في الزج بقواتها العسكرية للتعامل مع مختلف القضايا على الساحة الدولية لفرض رغباتها بالقوة الجبرية.
ومع بقاء إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش في البيت الأبيض لولاية ثانية وهو الرئيس الذي وضع واشنطن في صفوف المحاربين وأعاد إلى الواقع صورة الامبراطوريات السابقة التي كانت لا تتخلى عن الخيار العسكري في تحقيق طموحاتها، تتصاعد حدة الأزمات الاجتماعية داخل الولايات المتحدة نفسها، وتفقد الأسرة الأمريكية آخر الخيوط التي كانت تحافظ على بقائها في ظل تشرذم أبنائها في مواطن الخطر.
وعليه فلم يعد فزع المواطن الأمريكي في ظل حكم بوش متمثلاً فقط في الخوف من استهداف أمريكا بضربات جديدة على غرار هجمات سبتمبر، وإنما بات ذلك المواطن الأمريكي لا يدري أين سيذهب بوش بأبنائه وفي أي بلاد الأرض سيلقون حتفهم في هضاب أفغانستان أم في طرقات المدن العراقية.
وبعد عقود من الزمان تمكنت فيها الآلة الإعلامية الأمريكية من وضع واشنطن على قمة المجتمع الدولي تمرر رغباتها وتملي إراداتها من خلال الضغوط الدبلوماسية والتهديدات السياسية المدروسة، جاء جورج بوش في زي المحارب الروماني القديم يقسم العالم إلى خير وشر ويرفع سيفه مقاتلاً به كل من لا يريد أن يركب القطار الصهيو إنجيلي، ولكن الرئيس الأمريكي نسي أن جنوده ليسو مقاتلي الامبراطورية الرومانية السابقة وأنهم يتمنون اللحظة التي يعودون فيها من مهامهم القتالية ويرتعبون من مجرد تخيل العودة مرة أخرى إلى مواطن صراع لا ناقة فيها لهم ولا جمل.