عاشق بغداد
27-12-2004, 10:01 PM
تقارير رئيسية :عام :الأحد 7 ذي القعدة 1425هـ - 19 ديسمبر 2004 م
مفكرة الإسلام :
بنجاح خطة المقاومة العراقية في معركة الفلوجة الثانية 'عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا داخل العراق وخارجه' تكون المقاومة العراقية قد دخلت بقوة وعزم وباندفاعية كبرى ووفق رؤية مخططة – بعد التوكل على الله والعمل لتحقيق أسباب النصر - إلى المرحلة الثانية من خطة تحرير العراق، وفي ظل معطيات جديدة كليًا عن خطة المرحلة الأولى، وبالارتكان إلى ما حققته خلال تلك المرحلة.
فمع بداية معركة الفلوجة الثانية تكون المقاومة قد تخطت وأنهت أهداف المرحلة الأولى أو المرحلة الاستراتيجية الأولى من استراتيجيتها الشاملة في حرب تحرير العراق.
ولما كانت صياغة الاستراتيجية وتحديد برامجها وأولوياتها - سواء كانت الاستراتيجية الشاملة أو العليا لإنجاز تحرير العراق وإعادة بنائه، أو كانت استراتيجية كل مرحلة من مراحل الاستراتيجية الشاملة – يقوم بالأساس على تعيين التحديات التي تجابه المقاومة، بصفة شاملة وفي كل مرحلة، وتحديد الأهداف الممكن تحقيقها في كل مرحلة، واختيار أنجع الطرق للتعامل مع هذه التحديات، سواء من أجل إضعاف نقاط تميز الخصم أو من أجل تعظيم عوامل قوة المقاومة وتوفير أسباب النصر ؛ فإن التصور لاستراتيجية المرحلة الثانية الحالية من خطة تحرير العراق، وفق ما يمكن قراءته من تكتيكات المقاومة وبياناتها حاليًا، أو وفق ما يمكن استشرافه من رؤية مستقبلية لها، يقوم على التعامل مع أهم التحديات في هذه المرحلة وتحديد أهداف ترتبط بمعطياتها وأوضاعها، وعلى إعداد وامتلاك الوسائل، واختيار التكتيكات الأنجع لتحقيقها، في ضوء الرؤية الكلية أو الشاملة لعوامل القوة والضعف على الأرض، وفي ضوء ما تم إنجازه في المرحلة السابقة، ووفق رؤية وتصور لما يمكن أن تكون عليه المرحلة الثالثة في الخطة الشاملة لتحرير العراق وإعادة بنائه.
وخلال المرحلة الثانية من حرب تحرير العراق تجابه المقاومة، على صعيد مواجهة خطط الاحتلال، أربعة تحديات رئيسة:
أولها: تحدي محاولة الاحتلال إسباغ شرعية 'شعبية وقانونية ودستورية' على حكومة الاحتلال – وحالة الاحتلال – من خلال إجراء الانتخابات، سواء بمواجهة عملية إجراء الانتخابات أو بالمواجهة والتعامل مع نتائجها لمنع الخصم من تحقيق أهدافه منها.
وثانيها: تحدي خطة الاحتلال لضرب وإضعاف واستيعاب كل الأشكال والتكوينات السياسية التي تساند المقاومة، والعمل على تدعيمها على الصعيد السياسي والإعلامي والدبلوماسي أيضًا.
وثالثها: تحدي مواجهة خطة الاحتلال لتثبيت أوضاع تقسيم العراق وجعلها حالة قانونية ودستورية مستقرة، وما يتضمنه ذلك من مجابهة واضحة مع القوى المتعاونة صراحة مع قوات الاحتلال في الشمال والجنوب والأطراف الإقليمية الداعمة لها - دون الوقوع فى أزمة الحرب المناطقية – وهو ما يتطلب قدرًا كبيرًا من حرفية المناورة على كافة الأصعدة.
ورابعها: تحدي مجابهة وإفشال خطة قوات الاحتلال لتعريب وإضفاء شرعية عربية وإسلامية على حالة الاحتلال، من قبل دول عربية وإسلامية، سواء بإدخال قوات عربية وإسلامية إلى العراق وإلى مناطق الوسط بشكل خاص أو من خلال دفع هذه الدول إلى تنمية العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية مع الحكومة المثبتة بعد إجراء الانتخابات.
وعلى صعيد إنجاز الأهداف الإيجابية لاستراتيجية المرحلة، ولأجل تحقيق أهداف تطوير المقاومة وإعطائها انطلاقة جديدة وصولاً إلى المرحلة الثالثة من الخطة الشاملة لتحرير العراق ؛فإن المقاومة تستهدف في المرحلة الثانية:
· تطوير وتعزيز نقاط الارتكاز الثابتة للمقاومة في المدن العراقية، التي جرى تأسيسها خلال المرحلة الأولى - وخاصة مع بداية مرحلة معركة الفلوجة الثانية-.
· وكذلك تأسيس أشكال متعددة لإدارة هذه المناطق وغيرها من المناطق التي يمكن للمقاومة السيطرة عليها مستقبلاً.
· وبدء العزل التدريجي على الأرض للحكومة الموالية للاحتلال – علاوي أو غيره - بدفع الصيغ الموجودة حاليًا من الحالات المتنوعة للسيطرة على المدن والأحياء، وجعلها أكثر تحديدًا ووضوحًا على صعيد القيادات والأشكال السياسية المعبرة عن المقاومة بديلاً معترفًا به شعبيًا للأشكال العميلة للاحتلال.
· كما يتطلب توجيه ضربات حاسمة إلى القوات المتحالفة مع قوات الاحتلال الأمريكي لإخراجها من المعركة نهائيًا لدفع القوات الأمريكية إلى مساحات انتشار أوسع.
· وبذل كل الجهود لاستنهاض مجموعات أخرى للعمل خلف خطوط الأعداء في المناطق التي يريد الاحتلال تثبيت الاحتلال فيها أو تثبيت الاحتلال للعراق عن طريقها.
· وبذل الجهود لمواجهةٍ أقوى مع المجموعات المتعاونة مع الاحتلال للمناطق الأخرى – مع تدقيق شديد في طبيعة هذه المواجهة وأهدافها - كما هو الحال بالنسبة إلى الكيانات السياسية والعسكرية المسيطرة في الجنوب والشمال من المتعاونين والمرتبطين مع الاحتلال وأصحاب الارتباط المباشر بالخطط الصهيونية.
وهو ما يتطلب على الصعيد العسكري: تطوير قدرات المقاومة إلى إمكانية التركيز على استهداف المناطق والتجمعات المركزية لقواعد قوات الاحتلال إلى جانب العمليات الجارية حاليًا، من قطع لخطوط الإمداد والتموين، وضرب الدوريات المتحركة على الطرق بين المدن العراقية، ما يعني أن المقاومة ستنطلق من فكرة توسيع رقعة ومساحة المناطق المقاومة التي جرت في معركة الفلوجة الثانية، إلى نمط الاشتباك بأعداد كبيرة مع قوات الاحتلال في قواعدها الأساسية وفق هجمات منظمة ترهق القوات في قواعدها المركزية وتجبرها أيضًا على تخصيص قوات أكبر لحماية قواعدها – إلى جانب العمليات الجارية من القصف من بعد والألغام والعمليات الاستشهادية بالسيارات... إلخ - ومحاولة التماس معها بكل طريقة ممكنة، أو بالدقة العمل على اغتنام فرصة إجبار قوات الاحتلال على الانتشار على مساحات واسعة وتثبيتها في أماكن الانتشار الحالية – التي تحققت في معركة الفلوجة الثانية - لجعلها في حالة دائمة من الدفاع عن النفس، أي فرض استراتيجية المقاومة عليها وجعلها في حالة دفاعية شاملة، وبما يتطلبه ذلك من تحقيق جملة من الأعمال والإجراءات والتكتيكات، من بينها بدء العمل وفق تكتيكات عسكرية جديدة، من تنويع في الأسلحة المستخدمة وتغيير أشكال التنظيم والعمل على اغتنام أسلحة العدو واستخدامها في المواجهة... إلخ.
لقد بدأت بالفعل المرحلة الثانية من خطة حرب تحرير العراق، لدفع ما تحقق خلال المرحلة الأولى.. بدأت هذه المرحلة من خلال خوض معركة الفلوجة الثانية وفق استراتيجية تقوم على توسيع دائرة المواجهة مكانيًا، مع دفع قوات الاحتلال إلى الانتشار وإضعاف قدرتها على تركيز القوات على جبهة واحدة من جبهات المدن التي باتت تحت أيدي المقاومة بطريقة أو بأخرى، أي تثبيت قوات الاحتلال ووضعها في موضع الدفاع الشامل لا الهجوم الشامل كما كان في المرحلة الأولى التي كانت المقاومة خلالها في حالة هجوم تكتيكي ودفاع عام.
وحتى يمكن فهم أبعاد المرحلة الثانية، يجب أولاً تحديد ما جرى وما تحقق خلال المرحلة الأولى:
المرحلة الأولى:
خلال المرحلة الأولى جابهت المقاومة العديد من التحديات الخطيرة والمتنوعة والمتعددة وعلى أكثر من صعيد:
· فعلى صعيد مواجهة استراتيجية الاحتلال جابهت المقاومة محاولة تثبيت حالة الهزيمة العسكرية والسياسية والمعنوية انطلاقًا من تمكنها من احتلال بغداد بشكل أسرع مما توقع المواطنون.
· كما جابهت محاولة قوات الاحتلال تأسيس قواعد عسكرية للاحتلال في المدن وخارجها وفق اختيارات أفضل لها، في المناطق والاتجاهات التي تجعلها في وضع أفضل لإجهاض ومواجهة أية تحركات سياسية أو جماهيرية لرفض الاحتلال.
· كما جابهت المقاومة تحدي محاولة الاحتلال تأسيس جهاز دولة عراقي جديد عميل يكون عونها ويدها في احتلال العراق بصفة دائمة، من خلال تثبيت العملاء وتمكينهم من الادعاء بتمثيل الشعب العراقي بعد ملامسة التربة الجماهيرية للعراق، وتحقيق حالة من الاستقرار تمكنها وتمكنهم من الاتصال بالجمهور الواسع وممارسة عمليات خداعه بشكل أكبر تأثيرًا، من خلال تأسيس وإقامة أشكال واسعة من الكيانات السياسية وأجهزة الإعلام لزيادة حالة الخداع السياسي والإعلامي الذي فشلت فيه أجهزة الدعاية الأمريكية والبريطانية من الخارج.
· وكذلك جابهت المقاومة خطة قوات الاحتلال وسلطتها في الإسراع في عملية استخراج بترول العراق وتصديره تحت سيطرة قوات الاحتلال، لإنقاذ الخزينة الأمريكية وإدارة عجلة القوات التي تحتل العراق.
· كما جابهت خطة الاحتلال لتوسيع عملية دعم قوات الاحتلال عسكريًا ودعم حالة الاحتلال سياسيًا ودبلوماسيًا، من خلال إقناع دول كثيرة بإرسال قواتها إلى العراق أو إدخال شركاتها أو من خلال الأمم المتحدة والجامعة العربية... إلخ.
وإلى جانب مجابهة هذه التحديات والخطط والعمل لإفشالها استهدفت المقاومة:
· تحقيق وتثبيت 'حالة المقاومة' ورؤيتها وفكرتها، وإخراج الشعب العراقي من صدمة الاحتلال، بل استهدفت استنهاض الأمة كلها وليس الشعب العراقي فقط، وامتصاص صدمة العودة للاحتلال من النمط الاستعماري القديم ودفع الشعوب إلى المقاومة. وهو ما تطلب تطوير أوضاعها ذاتها بإعطاء الدفعة الأولى لتأسيس أجهزتها العسكرية.
· كما استهدفت المقاومة تأسيس أجهزتها العسكرية والأمنية وتطوير أوضاعها التنظيمية .
· وكذا تأسيس وإظهار وتقوية الجهاز السياسي للمدافعين عن المقاومة من خلال توفير الفرصة بقوة عملياتها، بما يدفعهم إلى ساحة المواجهة القوية وإيصال صوتها السياسي والإعلامي إلى الخارج، وكسر الاحتكار الإعلامي وتطوير أوضاعها وقدراتها على جميع المستويات السياسية والتنظيمية والتكتيكية... إلخ.
وقد اعتمدت المقاومة في بداية مرحلتها الاستراتيجية الأولى على المستوى العسكري، نمط القيام بعمليات متفرقة هنا أو هناك، أو القيام بعمليات متقطعة مع تحديد أهدافها بدقة، بما لا يسمح لقوات العدو بالاشتباك الطويل مع عناصرها، وهو ما تم من خلال الاعتماد على زرع الألغام وقصف الهاون - والتحرك من أماكن القصف - والتقليل من العمليات المركبة، والتركيز على العمليات الاستشهادية لزرع الرعب في نفوس جنود الأعداء والتركيز على عمليات اغتيال المتعاونين مع قوات الاحتلال... إلخ.
وهاهي المقاومة تدخل في المرحلة الحالية إلى مرحلة التخطيط الواسع للعمليات، والقيام بعمليات يشارك فيها عدد واسع من المجاهدين، واستمرار الاشتباك وتكراره في منطقة واحدة [الفلوجة وشارع حيفا وشارع المطار الذي بات يسمى شارع الموت ومدن الرمادي وسامراء والقائم وهيت... إلخ] لتكون في حكم المناطق المحررة، وتوسيع المعركة في الاتجاهات التي تحددها هي لا الجبهات التي يحددها العدو، مع إجبار قوات الاحتلال على الانتشار في أماكن ثابتة بصفة دائمة.
كما أصبحت عمليات المقاومة حالة دائمة ومتصاعدة وقادرة على الضرب متى أرادت وحيثما أرادت في الوقت الذي تحول فيه الجيش الأمريكي إلى مرحلة الدفاع عن النفس، لا يعرف من أين تأتي الضربة بعد أن لم يعد هناك أي مكان محصن من الهجوم عليه.
كما باتت حالات الهلع النفسي والتوسل للتكنولوجيا والتذمر من خطأ التكنولوجيا والتهرب من الخدمة العسكرية، أمورًا متصاعدة ومتنامية بين جنود الاحتلال.
المرحلة الأولى.. البداية:
كان اندلاع أعمال المقاومة العراقية بعد أيام من احتلال القوات الأمريكية للعراق مفاجأة ومباغتة استراتيجية لقوات الاحتلال الأمريكية وللمخطط العسكري الاستراتيجي الأمريكي، أو كان الرد المكافئ لخطة الصدمة والترويع التي خاضت قوات الاحتلال المعركة على أساسها ضد الجيش والشعب العراقي.
كان بدء المقاومة صدمة وترويعًا لقوات الاحتلال، وكان مباغتة استراتيجية، ليس بالمعنى الشائع من أن الشعب العراقي لم يستقبل قوات الاحتلال بالورود، ولكن بالمعنى الاستراتيجي، حيث كان تصور المخطط الأمريكي أن سرعة الوصول إلى بغداد واحتلالها وسرعة صدور قرار تفكيك كل أجهزة الدولة العراقية سيجعل من يرغب بالمقاومة في حاجة إلى وقت طويل – على الأقل عدة أشهر - وأن ذلك يتيح الوقت ويهيئ الفرصة أمام قوات الاحتلال لتأسيس قواعد عسكرية داخل المدن وتنمية العلاقات مع قطاعات من الشعب العراقي وتأسيس أحزاب وصحف وأجهزة تلفاز تمكن من خداعه واستيعابه.
· هنا كان الهدف الأول للمقاومة العراقية هو منع قوات الاحتلال من التقاط الأنفاس ومن استغلال عنصر الوقت، وصدمها عسكريًا في الآن ذاته.
· وكان الهدف الثاني هو سرعة تكسير وتحطيم كل أشكال الدولة التي تقيمها قوات الاحتلال ومواجهة العملاء وتصفيتهم.
· كما كان الهدف الثالث والعاجل أيضًا هو تثبيت قوة الشعب العراقي وعدم استسلامه بأية درجة إلى فكرة اليأس التي كانت تحاول أجهزة الدعاية الغربية – والعربية للأسف – زرعها في عقول العراقيين.
· وكان الهدف العاجل الرابع هو فرض أجندة أخرى للحوار داخل المجتمع العراقي خلاف الأجندة الأمريكية، ففي حين ركزت الأجندة الأمريكية سياسيًا وإعلاميًا على أخطاء نظام الرئيس العراقي السابق صدام والمقابر الجماعية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان على النمط الغربي... إلخ، طرحت المقاومة، أجندة أخرى، تقوم على البناء على المفاهيم العقائدية الإسلامية، ومواجهة الاحتلال ومواجهة العملاء والخونة... إلخ.
المرحلة الأولى: الاتجاه العام:
بطبيعة الحال فإن الهدف العام والنهائي للخطة الاستراتيجية الشاملة للمقاومة العراقية، هو طرد الاحتلال، لكن ذلك يمر عبر مراحل استراتيجية يتحدد لكل منها هدف واتجاه عام أو خط عام تنتظم فيه كافة الأعمال السياسية والعسكرية والإعلامية، تتناسب مع المعطيات على الأرض.
وكان الاتجاه العام خلال المرحلة الأولى – التي بدأت منذ احتلال بغداد حتى معركة الفلوجة الثانية - في جانب منه هو خوض صراع استراتيجي ضد قوات الاحتلال وعزلها ومنعها من النجاح في خطة بناء جهاز دولة عراقي عميل وتثبيت العملاء على رأس جهاز الدولة الجديد وبسرعة قبل أن يفيق الشعب العراقي من الصدمة وإعادة تحديد أجندة الحوار داخل المجتمع.
وفي الجانب الثاني هو إنجاز المقاومة لهدفها المعاكس، المتمثل في وضع أسس لبناء جهاز دولة عراقي جديد – بديل لجهاز الدولة خلال النظام السابق - في طوره الجنيني ليحكم العراق ما بعد انتهاء الاحتلال، ودفعه وتطويره خلال المراحل التالية من عمل المقاومة ونشاطها وهو ما كان يتطلب بداية ضرب وإنهاء كل أشكال ورموز جهاز الدولة العميل للاحتلال، بأن جعلت المقاومة كل العناصر القادمة من الخارج هدفًا بما دفعهم دومًا إلى حالة الفئران المختبئة، وإجهاض محاولة بناء جيش وشرطة تستطيع تثبيت الاحتلال ومنحة الفرصة المطلوبة للخروج من المدن والإقامة في قواعد احتلال دائمة، من خلال إرهاب كل من تسول له نفسه للانتماء إليه، وفرض أجندة بديلة للحوار داخل المجتمع، عنصرها الرئيس هو: هل الشعب العراقي مع الاحتلال أو ضده؟ ومن ثم إعادة تقسيم القوى السياسية وتحديد التمايزات على أساس التعامل مع الاحتلال معه أو ضده.
وكانت سلطة الاحتلال، وبعد أن انتهت من عملياتها العسكرية الرئيسة الأولى وفور احتلال بغداد، قد أصدرت قرارات بتفكيك أجهزة الدولة العراقية القديمة من جيش وشرطه ووزارات وأجهزة أمن – ولم يكن ذلك عملاً عفويًا أو متسرعًا - كمرحلة أولى من خطة محدده، حيث شرعت بعد ذلك في تشكيل أشكال انتقالية للدولة الجديدة:
· فبدأت بإعلان مجلس الحكم الانتقالي – التسمية لقوات الاحتلال وتعكس فهمها له ولدوره –.
· ثم شكلت مجلسا للوزراء في العراق كان هو الأكثر إظهارًا لطابع المرحلية من حيث الجوهر، فقد كان مجلسًا للوزراء دون وزارات - كان بجانب كل وزير هناك مستشار أمريكي هو الوزير الفعلي – كما كانت الوزارات بلا ميزانيات أو قرارات، وكان الهدف من تشكيلها هو وضع خطط إنشاء الوزارات في عراق الاحتلال الدائم، ومن ثم انتقلت قوات الاحتلال بعد ذلك إلى إعادة بناء شرطة عراقية.
· ثم دخلت في مرحلة بناء جيش عراقي جديد المسمى بالحرس الوطني 'للاحتلال'، وقد قال بريمر قبل مغادرته للعراق: إن تعداده سيبلغ 200 ألف جندي وضابط.
· وتلا ذلك الإعلان عن تشكيل لجنة لصياغة دستور عراقي جديد وجرى إقراره.
· وتبع ذلك تسليم السلطة إلى إياد علاوي كرئيس لمجلس وزراء حكومة الاحتلال وغازي إلياور كرئيس للعراق المحتل.
وبمتابعة كل ذلك يمكن القول: إن المرحلة الثانية من استراتيجية الاحتلال تستهدف كخط عام العمل على تأسيس أشكال دائمة للحكم، تعيد بناء جهاز الدولة العراقية وفق نمط جديد هو نمط الدولة المحتلة، بحكم بنيان جهاز الدولة هذا ومفاهيم وأسس تشكيله ليكون، هو الضامن لاستمرار حالة الاحتلال حتى لو انسحبت القوات الأمريكية من العراق كلها أو لو اكتفت بمجرد التواجد في قواعد عسكريه في الصحراء – خارج المدن - وفقًا للنمط الموجود في أفغانستان.
وفي المقابل كانت المقاومة تستهدف دومًا كل أشكال السلطة الجديدة من أجهزة سياسية وعسكرية وأمنية، كما كانت تستهدف الرموز المعبرة عن مثل تلك التوجهات، في الوقت الذي كانت تبنى فيه أجهزة السلطة البديلة على كافة المستويات العسكرية والسياسية والإعلامية، والتي كان النموذج الأبرز لها ما جرى في الفلوجة والذي بدأ ظهوره خلال معركة الفلوجة الأولى وتطور أكثر خلال معركة الفلوجة الثانية، وهو ما سنوضحه تفصيلاً في القسم الثاني من الدراسة- بمشيئة الله عز وجل-.
ولأجل إنجاز الهدف العام للمرحلة الأولى من هزيمة خطة قوات الاحتلال في تثبيت حالة الاحتلال وبناء جهاز دولة عميل – كخط عام - خاضت المقاومة معركتها، ووجهت عملياتها العسكرية والسياسية والإعلامية في ستة اتجاهات رئيسة:
أولها: إثارة الرعب في صفوف القوات الأمريكية، ومنعها من الاستقرار داخل العراق، ورفع معنويات الشعب العراقي، وتقديم النموذج لعدم الاستسلام.
وثانيها: إجهاض كل أشكال بناء أجهزة الدولة العميلة تحت الاحتلال أولاً بأول.
وثالثها: منع حصول هذا الحاكم العميل على شرعية داخلية وخارجية، ومنع وصول قوات من دول أخرى لمساندة قوات الاحتلال ودعمها، بما يسهل تثبيت الاحتلال واستقراره، ودفع القوات الأخرى الموجودة فعليًا إلى الرحيل لعزل الموقف الأمريكي.
ورابعها: منع قوات الاحتلال من استغلال البترول العراقي، كواحد من أهم الأهداف الاستراتيجية من العدوان والاحتلال، ولرفع كلفة الحرب وتحميلها على الخزينة الأمريكية المتهاوية أصلاً، ولعدم تمكين الاحتلال من الإنفاق بطريقة واسعة على عملية إنشاء جهاز الدولة العميل.
وخامسها: كسر الحصار الإعلامي حول المقاومة.
وسادسها: نقل المعركة إلى الداخل الأمريكي، لإضعاف موقف الإدارة الأمريكية، المرتكنة إلى رؤية مسيحية صهيونية.
أولاً: إرهاب قوات الاحتلال:
كانت المهمة الأولى، لأعمال المقاومة هي إرهاب قوات الاحتلال وإفقادهم روحهم المعنوية وإفقادهم الشعور بنشوة النصر على الجيش العراقي، ورفع معنويات الشعب العراقي – والشعوب العربية والإسلامية أيضًا – ودفعه للانحياز إلى رؤية المقاومة وخيارها.
فعلى صعيد إنجاز خطة المقاومة لإثارة الذعر في صفوف قوات الاحتلال الأمريكية نجحت المقاومة في تحقيق هذا الهدف إلى درجة لم يتصورها أشد المراقبين استبشارًا.
وقد أعلن منذ أيام أن دراسة أمريكية أُعدت من قبل المشرفين على متابعة الحالة المعنوية لقوات الاحتلال في وزارة الدفاع الأمريكية 'البنتاجون'، قد توصلت إلى أن 100 ألف جندي أمريكي من أصل مليون جندي شاركوا في العدوان على أفغانستان والعراق، باتوا يتعاطون فعليًا علاجات من أمراض نفسية أصيبوا بها خلال الحرب. وتوقعت الدراسة أن 3 من بين كل 5 جنود أمريكيين باتوا في حاجة إلى تلقي علاج نفسي – أي 600 ألف جندي من نحو مليون – وهو ما يشير إلى توالي وتصاعد ظهور نتائج تأثير عمليات المقاومة، التي بدأت في الظهور بعد فترة من بداية العدوان في العراق، إلى درجة لم تعترف بها هذه القوات الموجودة على الأرض العراقية فقط، بل إلى درجة أن وزارة الدفاع الأمريكية اضطرت مع اتساع الحالة لإرسال أساتذة في الطب النفسي لدراسة الوضع النفسي للجنود على أرض العراق، تحت ضغط ما ظهر من حالات فرار للجنود وهرب عبر الحدود مع دفع مبالغ طائلة لمهربيهم، ومن حدوث حالات وفاة للجنود في 'أسرتهم'، بعيدًا عن ميادين القتال، وكذلك في ضوء عدم عودة بعض الجنود إلى وحداتهم القتالية في العراق والبقاء في الولايات المتحدة بعد انقضاء إجازاتهم في الولايات المتحدة، وأيضًا بعدما أعلن إحصاء واستطلاع أمريكي من أن 50% من الجنود يفكرون في عدم تجديد عقود عملهم في الجيش الأمريكي بسبب عمليات المقاومة. غير أن هذه الحالة تفاقمت إلى درجة هروب جنود إلى كندا ورفع قضايا لنيل حق اللجوء السياسي وإلى درجة رفع الجنود الأمريكيين قضايا على وزارة الدفاع لمنع إرسالها لهم إلى العراق بعد انتهاء مدة تعاقداتهم. وأخيرا فإن ما ذكره ضباط بريطانيون مؤخرًا عن أن هذه الأوضاع والمعارضة الشعبية للحرب في بريطانيا قد أثرت على انضمام الشباب البريطاني إلى الجيش يمثل أحد المؤشرات على امتداد تأثير المقاومة على عمليات التجنيد في جيوش دول الاحتلال.
وقد كان لتلك العمليات دورها بطبيعة الحال في رفع معنويات الشعب العراقي، وهو ما تؤكد عليه عشرات الدلالات، لعل أهمها هذا الفيض المتدفق من العمليات الاستشهادية، واتساع رقعة المناطق المقاومة وقوة تصديها لقوات الاحتلال بصفة منتظمة وبتصميم لا يلين، وإذا كانت الفلوجة والرمادي والموصل... إلخ هي نموذج لتوسع وقوة وارتفاع معنويات الشعب العراقي، فقد كان من تأثير تلك المقاومة ما جرى من مقاومة من حركة الصدر بغض النظر عن محدودية توجهها وقدرتها، وظروف التيار الذي تنتمي إليه.
ثانيًا: تصفية عناصر الجهاز الحكومي العميل:
بالتزامن مع إرهاب القوات الأمريكية، وإيصال معنوياتها إلى الحضيض، ومنع الاحتلال من الاستقرار، وجهت المقاومة جانبًا من عملياتها ضد كل الأفراد والرموز والأجهزة والمؤسسات التي شكلتها قوات الاحتلال، لبناء جهاز الدولة العميل، وفي هذا الإطار ركزت المقاومة على عمليات الإرهاب النفسي، في مواجهة الشرطة العراقية التي تعمل تحت إمرة الاحتلال وتتعاون معه – التي هي خطر شديد على أفراد المقاومة لمعرفتها بالأرض والبشر - كما واجهت محاولة بناء جيش – الحرس المحلي للاحتلال - بعمليات لا حصر لها ولا عد، وبإرهاب كل من تسول له نفسه دخول هذا الحرس.
ورغم ما سقط من قتلى من الشرطة والحرس العميلين، فإن المتابع لعمليات المقاومة يجدها ركزت على جانب الحرب النفسية أكثر من عمليات القتل، فهي استهدفت بعد تحذيرات في بياناتها، مناطق المجندين الجدد كرسالة واضحة للآخرين، كما استهدفت العناصر التي تم تدريبها في خارج العراق، لمنع ذهاب مجندين للتدريب في الخارج شعورًا بأنهم هناك في مأمن عن عمل المقاومة ونشاطها، كما لجأت في عمليات أخرى إلى اقتحام مقرات الشرطة والحرس المحلى للاحتلال، وإخراج الموجودين فيها بعد تجريدهم من السلاح وتفجير المباني... إلخ.
ثالثًا: منع وصول قوات أخرى:
كانت إحدى نقاط الخطر الأساسية خلال المرحلة الأولى من حرب تحرير العراق، على صعيد تثبيت الاحتلال وإضفاء الشرعية على جهاز الدولة العميل، هي إمكانية نجاح الولايات المتحدة من جلب قوات من دول أخرى والحصول على تغطية من الأمم المتحدة أو أن تتمكن من إدخال قوات عربية أو إسلامية. ومن هنا وضعت المقاومة العراقية نصب أعينها وكرست عملياتها لمنع قوات الاحتلال من تحقيق هدفها، بل سعت ونجحت في إجبار جانب من القوات التي وطأت إلى أرض العراق على الرحيل كما هو الحال بالنسبة لقوات أسبانيا والسلفادور والدومينيكان وفي الطريق إلى ذلك بولندا التي ينتظر أن تتسارع خطواتها بهذا الاتجاه.
كان الطريق إلى ذلك عمليات مخططة على أعلى مستوى، من أهمها، عملية اغتيال فريق المخابرات الأسباني '29 نوفمبر 2003' الذين تم استدراجهم بعملية بالغة التعقيد قتل فيها طاقمان مرة واحدة - الأول كان يسلم مهامه وعملاءه للطاقم الثاني الجديد في المهمة في العراق -، ومهاجمة القوات البلغارية '29 أغسطس 2003'، والوحدة الدانماركية '6 أكتوبر 2003'، والوحدة الإيطالية '13 نوفمبر 2003'، والأسبانية '29 نوفمبر 2003'، الكورية '30 نوفمبر 2003'، السلفادورية '10 ديسمبر 2003'... إلخ.
وقد نجحت المقاومة في منع وصول قوات تركية إلى العراق رغم اتخاذ مجلس الوزراء والبرلمان التركي القرار بإرسال هذه القوات، وقد كان بإمكان القوات التركية لو وصلت فعلاً للعراق - وقد كان مخططًا لها أن تنتشر في وسط العراق - أن تنقذ قوات الاحتلال الأمريكية من المأزق الذي تعيشه الآن ولتحول الصراع إلى صراع إسلامي – إسلامي. وكان هذا النجاح في مغزاه الاستراتيجي توصيل رسالة إلى كل النظم العربية والإسلامية التي طلبت منها الولايات المتحدة إرسال قوات إلى العراق، والتي نجحت المقاومة في منعها من إرسال قواتها تحت إمرة قوات الاحتلال.
كما نجحت المقاومة في حسم تردد دول أخرى كانت تفكر في إرسال قواتها إلى العراق، فعدلت عن قرارها أو تفكيرها خوفًا على جنودها أو سمعتها السياسية ومصالحها، كما أعطت المقاومة مبررًا لدول من نوع ثالث لعدم إرسال قواتها وإن تفلتت من الضغوط الأمريكية عليها.. بحجة المقاومة. وقبل كل ذلك نجحت المقاومة العراقية من جعل مسألة اتخاذ أية دولة بإرسال قواتها إلى العراق معركة داخل هذه الدول.
رابعًا: منع استخدام البترول العراقي:
كانت المعركة حول تصدير بترول العراق معركة استراتيجية من الطراز الأول هي الأخرى، وعلى مستويات متعددة باعتبارها العامل المحرك للاحتلال من جهة، باعتبار أن نجاح الاحتلال في استغلال بترول العراق يعني استقراره وتثبيت الحكومة العميلة. فالبترول أولاً هو أحد الأهداف الاستراتيجية من الاحتلال سواء لإنقاذ الخزينة الأمريكية أو لمصلحة شركات البترول الأمريكية أو لمنع الدول الأخرى المنافسة على الصعيد الدولي من تطوير وإدارة اقتصادها بعيدًا عن الهيمنة الاقتصادية الأمريكية، كما أن ضخ البترول كان سيوفر نفقات عملية غزو العراق واحتلاله والقدرة المالية لتثبيت حكومات الاحتلال داخل العراق.
والمتابع لاستراتيجية المقاومة العراقية يلاحظ أن المقاومة نجحت على كل هذه الأصعدة والطوابير التي نراها الآن في شوارع المدن العراقية من أجل تزويد السيارات بالوقود والتي تمتد عدة كيلومترات في المكان الواحد – ليست عملية موجهة ضد الشعب العراقي – بل هي المظهر الأهم على أن المقاومة العراقية نجحت على أكثر من صعيد في تعطيل حركة تصدير البترول العراقي للخارج، وفى تكبيد قوات الاحتلال خسائر مالية شديدة في هذا الجانب، سواء لأن البترول والسيطرة عليه كان أحد أسباب الغزو، أو لأنه المشغل لآلة الحرب الأمريكية الدائمة الحركة داخل العراق، أو بسبب ارتفاع تكاليف الإطفاء والسيطرة على النيران أو تكاليف الإصلاح لأنابيب النفط، أو للآثار الخطيرة على دول الجوار التي يعتبر وصول النفط العراقي لها أحد عوامل السيطرة على قرارها السياسي.
خامسًا: كسر الاحتكار الإعلامي:
وخلال المرحلة الأولى من حرب تحرير وإعادة بناء العراق نجحت المقاومة في عدم تمكين قوات الاحتلال الأمريكية وأجهزة الإعلام الغربية والعربية من إخفاء حالة استمرا ر الفوضى وعدم قدرتها على فرض الأمن في العراق، لا لنفسها ولا للسكان الذين أعلنت أنها جاءت لتحريرهم وتحسين ظروف حياتهم. كما نجحت في عدم تمكين الجيش الأمريكي من التعتيم على خسائره رغم كل ما اتخذه من إجراءات ضد وسائل الإعلام. وذلك بفعل نشاط المقاومة ليلاً ونهارًا، وبفعل عملها المكثف داخل العاصمة.. وكذا لتعدد عملياتها وانتشارها في اليوم الواحد. غير أن المقاومة تمكنت - وهذا هو الأهم - من تحقيق مصداقية إعلامية لها، ومن وضع بياناتها على لائحة التصديق من قبل أجهزة الإعلام، كما أجادت استخدام الوسائل المتاحة خاصة الإنترنت إلى درجة يمكن القول معها: إن حركات المقاومة العراقية والمقاومة الإسلامية بشكل عام هي التي حولت المادة المنشورة على الشبكة الدولية للمعلومات إلى معلومات مصدقة وذات أسبقية على وسائل الإعلام الأخرى، على عكس ما كان سائدًا من قبل من النظر إلى المواد المنشورة على الإنترنت بأنها أقل مصداقية من المواد الإعلامية الأخرى.
وكان النموذج الإعلامي للمقاومة نموذجًا ناجحًا إلى حد أذهل قوات الاحتلال، وجعلها تقر بهزيمتها الإعلامية أمام إعلام المقاومة، وهو ما اعترف به تقرير رسمي للبنتاجون، وبما جعل البنتاجون يعيد تأسيس مكتب الكذب الاستراتيجي –كان أُلغي من قبل - لمواجهة دعاية المقاومة الإسلامية في العراق حسبما أعلنه خبراء البنتاجون أنفسهم.
سادسًا: نقل المعركة إلى الداخل الأمريكي:
كان للمقاومة خلال المرحلة الأولى هدف يتعلق بالداخل الأمريكي الذي يعتبر نقل المعركة من داخل العراق إلى داخلة أحد آليات إضعاف الخصم استراتيجيًا وإرهاقه عسكريًا وإعلاميًا.
والمتابع لعمليات المقاومة لاشك أنه يجد نفسه ينظر بدهشة إلى قدرتها على نقل المعركة إلى الداخل الأمريكي.. إلى درجة قسمت الموقف الداخلي حول العدوان على العراق إلى نصفين تقريبًا.
وإذا كانت عمليات المقاومة كانت وراء الإسراع في سحب ملف العراق من وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد وتسليمه إلى وزارة الخارجية الأمريكية – الأمر الذي أطيح على هامشه بدور أحمد الجلبي – بما جعل الولايات المتحدة تعود مرة أخرى خانعة إلى عدم تجاهل الوضع القانوني الدولي وإلى عرض أولي بتقاسم الأطماع والمغانم مع الدول الكبرى المنافسة - وهو ما ظهر في العودة الأمريكية إلى مجلس الأمن المرة تلو المرة - فإن المقاومة أثارت الارتباك داخل الإدارة الأمريكية أيضًا بما فرضته على المعركة الانتخابية للرئاسة الأمريكية التي قفزت فيها معركة العراق إلى القضية الرئيسة فيها بعدما كانت المعارك الانتخابية تجري بالاختلاف حول مشكلات الضرائب والتعليم والصحة وغيرها.
ونجاح المقاومة هنا لا يتعلق فقط بطرح قضية احتلال العراق على الانتخابات والناخب ولكن في إتاحة فرصة واسعة لكشف الخسائر والاضطراب الذي تعانيه القوات الأمريكية خلال عملية الاحتلال من خلال الصراع الانتخابي.
المرحلة الأولى: التكتيكات:
اعتمدت المقاومة العراقية تكتيكات محددة في عملياتها، لتحقيق أهدافها السابقة، هذه المرحلة تتناسب مع درجة قوة المقاومة من جانب، ومع درجة قوة وحالات تمركز قوات الاحتلال من ناحية ثانية، وتتناسب من ناحية ثالثة مع الأهداف في كل عملية.
والمتابع والمحلل للأساليب التكتيكية للمقاومة العراقية خلال المرحلة الأولى، يجد أنها تمتعت بنمط من الربط الدقيق واللحظي والمباشر بين الأحداث السياسية وبين توقيتات العمليات.. وبين ظروف وأهداف وطبيعة كل عمليه، والقدر المطلوب والمؤثر من القوة، وباستخدام الوسائل العسكرية المناسبة تحديدًا لكل هدف من الأهداف.
وفي هذا الإطار كانت معركة الفلوجة الأولى ذروة من الأهمية والتطور على جميع الأصعدة العسكرية والسياسية والإعلامية. لكن الوصول إليها كان طريقًا طويلاً من الأهداف والخطط التكتيكية.
ففي سبيل تحقيق هدف المقاومة من إرهاب قوات الاحتلال وإضعاف قوتها المعنوية:
اعتمدت المقاومة أسلوب الهجمات التي تثير أكبر قدر من الذعر لدى قوات الاحتلال، فكانت هنا عملية محاولة قتل قائد القوات الأمريكية نفسها ريكاردو سانشيز، ومحاولات اغتيال بريمر، ومحاولة قتل نائب وزير الدفاع الأمريكي خلال زيارته إلى بغداد.
كما كانت العمليات الاستشهادية وتفخيخ المباني وكانت عمليات استدراج بعض أفراد هذه القوات وأسرها وذبحها.
كما استهدفت المقاومة على هذا الصعيد إفقاد الجندي الأمريكي ثقته بسلاحه، الأمر الذي تحقق مؤخرًا بشكل لم يكن أي من المراقبين العسكريين توقعه أن يجري بهذه السرعة وعلى هذا النحو.
وكان المشهد الأهم في ذلك هو حوار رامسفيلد مع الجنود الأمريكيين في الكويت، والذي أظهر عدم ثقة الجنود في السيارات التي يركبونها - التي تعتبرها المصانع العسكرية الأمريكية قمة إنتاجها المتطور - وكيف أنهم من حالة الرعب باتوا يبحثون في الخردة لتقوية وتدريع سياراتهم التي تنتج في الدولة الأعلى في التكنولوجيا العسكرية.
وعلى صعيد منع تكوين جهاز الدولة العميل:
تنوعت التكتيكات بين ضرب تجمعات الذين لا يزالون في بداية الطريق - ضرب مراكز الانتساب - وبين اصطياد العناصر التي تم تدريبها في الخارج ومهاجمتها في طريق عودتها كما شملت الهجوم على مراكز الشرطة إضافة إلى الهجوم من بعد بالقصف بالهاون والآر بي جي. كما وجهت المقاومة جانبًا من عملياتها لاصطياد القادة الكبار المتعاونين مع الاحتلال ومحاولة قنص كبار المسؤولين ومهاجمة الوزارات وغيرها.
وعلى صعيد منع تصدير النفط ووقف استفادة قوات الاحتلال به سواء داخل العراق أو لمصلحة الخزينة الأمريكية:
هاجمت المقاومة في البداية الخطوط الخارجية للتصدير حتى جعلت صادرات النفط تصل إلى معدل يقل عن حالة التصدير خلال تنفيذ برنامج سرقة نفط العراق تحت رعاية الأمم المتحدة – برنامج النفط مقابل الغذاء – حيث لم يتعدَّ استخراج النفط 1.8 مليون برميل خلال بداية الاحتلال، وكان خلال مرحلة النفط مقابل 2.3 مليون برميل، وبعدها طورت المقاومة هجماتها من الخطوط الخارجية إلى الخطوط الناقلة للمدن والتي كانت القوات الأمريكية تعتمد عليها في الإمداد والتموين مما جعل القوات الأمريكية تلجأ إلى استيراد البترول من الكويت الأمر الذي واجهته المقاومة بتفجير الشاحنات القادمة من الحدود.
وعلى صعيد تحقيق هدف إجبار القوات الأخرى غير الأمريكية على مغادرة العراق:
تنوعت تكتيكات المقاومة بين الهجوم المباشر على ثكنات هذه المقاومة –وهو ما جعلها تطلب حماية القوات الأمريكية لها! - إلى قصف مواقع سفارات الدول التي أرسلت قوات إلى العراق، وكذلك اصطياد العناصر المعاونة لهذه القوات من أشخاص يعملون لدى الجهات الاستخبارية لهذه الدول، والضغط على الحكومات لسحب قواتها مقابل الإفراج عن هؤلاء الأشخاص.
وعلى صعيد كسر الاحتكار الإعلامي اتخذت المقاومة الفكرة الأشهر في عالم المقاومة وهي الدعاية باستخدام السلاح:
فقامت بعمليات مدوية لا يمكن لأجهزة الإعلام تجاهلها، كما ركزت عملياتها في قصف المنطقة الخضراء أو القصر الجمهوري، حيث لا يبعد الصحفيون منه إلا خطوات، والأهم أنها اتبعت أسلوب تصوير عملياتها وإرسالها إلى الجهات الإعلامية.
المرحلة الأولى ومعركة الفلوجة الأولى:
كان التطور الأهم والذروة في العمليات التي تستهدف تحقيق الهدف الاستراتيجي العام للمرحلة الأولى من حرب تحرير العراق، هو معركة الفلوجة الأولى، التي مثلت انتقالاً مهمًا داخل المرحلة الاستراتيجية الأولى، وكانت بداية تحقيق القدرة على ردع العدو وتقديم النموذج في القدرة على تحرير الأرض والاحتفاظ بها، كما حققت إيقاظًا للقدرة لدى مختلف أطراف المقاومة في مناطق العراق الأخرى، وقد كانت تلك المعركة حاسمة على عدة مستويات:
أولها: أنها مثلت الهزيمة الأولى والأكبر للقوات الأمريكية في مواجهة كبيرة مستمرة ومتواصلة انتهت إلى طلب القوات الأمريكية الهدنة وليس المجاهدون، وبذلك كانت المرة الأولى خلال الحرب التي تنكسر فيها القوة الأمريكية على أرض العراق، خاصة وأن الشروط السياسية التي قبلت بها قوات الاحتلال لوقف العمليات كانت بمثابة موافقة كاملة على بقاء الفلوجة محررة لا يدخلها جيش الاحتلال الأمريكي الأمر الذي وفر للمقاومة قاعدة صلبة لنشاطها وتطوير قدراتها.
وثانيها: أنها كانت البداية للدورة العكسية في علاقات الصراع، فمن بعدها أخذت المقاومة دفعة كبيرة في عملياتها وبدأت تشتبك إلى فترات طويلة خلاف مرحلة البداية.
وثالثها: أنها سجلت البداية الأم لانطلاق إعلام المقاومة.
ورابعها: أنها شهدت بروزًا لقيادات سياسية وإعلامية للمجاهدين. وقبل هذا وبعده أنها ضربت النموذج لإمكانية تحقيق النصر على الجيش الأمريكي في العراق وخارجه.
وخامسها: أنها بالمجمل كانت تعبيرًا عن القدرة على بداية بناء جهاز دولة مناقض لجهاز الدولة الذي عملت على تشكيله قوات الاحتلال، حيث تشكلت قوات الشرطة وحتى كتيبة الحرس الوطني من المرتبطين بأهل الفلوجة ومصالحهم وآرائهم الرافضة للاحتلال، إضافة إلى سيطرة المقاومة على المدينة وإدارتها على مختلف المستويات.
نتائج المرحلة الأولى وملامح الثانية:
في ضوء ما أنجزته المقاومة خلال المرحلة الأولى، اتجهت إلى تنفيذ المرحلة الثانية التي تأسس لها خلال معركة الفلوجة الثانية لتدخل الفلوجة تاريخ الانتصار على هذه الحرب الهمجية.
في هذه المعركة تمكنت المقاومة من تحويل القوات المحتلة إلى حالة فتح قواتها بصفة دائمة، كما تمكنت من تثبيت انتشارها على رقعة واسعة من الأرض – ما جعل العديد من المدن والقرى كلها فلوجة - مما أضعف قدرتها على تركيز قوتها فيما بعد، إذ بينما هي ما تزال عالقة هناك في الفلوجة غير قادرة على حسم العركة، فقدت السيطرة على العديد من المدن والأحياء، وهو ما يجعل المقاومة قادرة على مهاجمة القوات الأمريكية في أماكن متعددة في وقت واحد، في الوقت الذي فقدت فيه القوات الأمريكية المبادرة على الهجوم الواسع بنفس قدرتها السابقة، والأهم أن هذا الانتشار يورط القوات المحتلة بشكل متصاعد، ويجعلها مضطرة إلى جلب مزيد من القوات - 10 آلاف جندي قدموا ليحلوا محل القوات البريطانية التي عادت للجنوب - فكلما زاد عدد القوات زاد انتشارها وزادت القدرة على اصطيادها.
وهكذا تحولت المقاومة من مواجهة التحديات إلى بدء تحقيق أهدافها والانتقال إلى المرحلة الثانية، التي يمكن القول بأن الأهداف الاستراتيجية للمقاومة خلالها تقوم في المستوى السياسي على إفشال خطة قوات الاحتلال في تثبيت حكم علاوي، أو من تعيينه بعد الانتخابات الشكلية وإجهاض لمحاولة بناء جيش عراقي تحت إمرتها، وتطوير فكرة ونمط المقاومة لتشمل جميع القوى والمناطق وتطوير الجهاز السياسي والإعلامي، وغيرها مما سنتناوله في الجزء الثاني من الدراسة بإذن الله.
كتبه للمفكرة : الأستاذ طلعت رميح
tromaih@hotmail.com
مفكرة الإسلام :
بنجاح خطة المقاومة العراقية في معركة الفلوجة الثانية 'عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا داخل العراق وخارجه' تكون المقاومة العراقية قد دخلت بقوة وعزم وباندفاعية كبرى ووفق رؤية مخططة – بعد التوكل على الله والعمل لتحقيق أسباب النصر - إلى المرحلة الثانية من خطة تحرير العراق، وفي ظل معطيات جديدة كليًا عن خطة المرحلة الأولى، وبالارتكان إلى ما حققته خلال تلك المرحلة.
فمع بداية معركة الفلوجة الثانية تكون المقاومة قد تخطت وأنهت أهداف المرحلة الأولى أو المرحلة الاستراتيجية الأولى من استراتيجيتها الشاملة في حرب تحرير العراق.
ولما كانت صياغة الاستراتيجية وتحديد برامجها وأولوياتها - سواء كانت الاستراتيجية الشاملة أو العليا لإنجاز تحرير العراق وإعادة بنائه، أو كانت استراتيجية كل مرحلة من مراحل الاستراتيجية الشاملة – يقوم بالأساس على تعيين التحديات التي تجابه المقاومة، بصفة شاملة وفي كل مرحلة، وتحديد الأهداف الممكن تحقيقها في كل مرحلة، واختيار أنجع الطرق للتعامل مع هذه التحديات، سواء من أجل إضعاف نقاط تميز الخصم أو من أجل تعظيم عوامل قوة المقاومة وتوفير أسباب النصر ؛ فإن التصور لاستراتيجية المرحلة الثانية الحالية من خطة تحرير العراق، وفق ما يمكن قراءته من تكتيكات المقاومة وبياناتها حاليًا، أو وفق ما يمكن استشرافه من رؤية مستقبلية لها، يقوم على التعامل مع أهم التحديات في هذه المرحلة وتحديد أهداف ترتبط بمعطياتها وأوضاعها، وعلى إعداد وامتلاك الوسائل، واختيار التكتيكات الأنجع لتحقيقها، في ضوء الرؤية الكلية أو الشاملة لعوامل القوة والضعف على الأرض، وفي ضوء ما تم إنجازه في المرحلة السابقة، ووفق رؤية وتصور لما يمكن أن تكون عليه المرحلة الثالثة في الخطة الشاملة لتحرير العراق وإعادة بنائه.
وخلال المرحلة الثانية من حرب تحرير العراق تجابه المقاومة، على صعيد مواجهة خطط الاحتلال، أربعة تحديات رئيسة:
أولها: تحدي محاولة الاحتلال إسباغ شرعية 'شعبية وقانونية ودستورية' على حكومة الاحتلال – وحالة الاحتلال – من خلال إجراء الانتخابات، سواء بمواجهة عملية إجراء الانتخابات أو بالمواجهة والتعامل مع نتائجها لمنع الخصم من تحقيق أهدافه منها.
وثانيها: تحدي خطة الاحتلال لضرب وإضعاف واستيعاب كل الأشكال والتكوينات السياسية التي تساند المقاومة، والعمل على تدعيمها على الصعيد السياسي والإعلامي والدبلوماسي أيضًا.
وثالثها: تحدي مواجهة خطة الاحتلال لتثبيت أوضاع تقسيم العراق وجعلها حالة قانونية ودستورية مستقرة، وما يتضمنه ذلك من مجابهة واضحة مع القوى المتعاونة صراحة مع قوات الاحتلال في الشمال والجنوب والأطراف الإقليمية الداعمة لها - دون الوقوع فى أزمة الحرب المناطقية – وهو ما يتطلب قدرًا كبيرًا من حرفية المناورة على كافة الأصعدة.
ورابعها: تحدي مجابهة وإفشال خطة قوات الاحتلال لتعريب وإضفاء شرعية عربية وإسلامية على حالة الاحتلال، من قبل دول عربية وإسلامية، سواء بإدخال قوات عربية وإسلامية إلى العراق وإلى مناطق الوسط بشكل خاص أو من خلال دفع هذه الدول إلى تنمية العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية مع الحكومة المثبتة بعد إجراء الانتخابات.
وعلى صعيد إنجاز الأهداف الإيجابية لاستراتيجية المرحلة، ولأجل تحقيق أهداف تطوير المقاومة وإعطائها انطلاقة جديدة وصولاً إلى المرحلة الثالثة من الخطة الشاملة لتحرير العراق ؛فإن المقاومة تستهدف في المرحلة الثانية:
· تطوير وتعزيز نقاط الارتكاز الثابتة للمقاومة في المدن العراقية، التي جرى تأسيسها خلال المرحلة الأولى - وخاصة مع بداية مرحلة معركة الفلوجة الثانية-.
· وكذلك تأسيس أشكال متعددة لإدارة هذه المناطق وغيرها من المناطق التي يمكن للمقاومة السيطرة عليها مستقبلاً.
· وبدء العزل التدريجي على الأرض للحكومة الموالية للاحتلال – علاوي أو غيره - بدفع الصيغ الموجودة حاليًا من الحالات المتنوعة للسيطرة على المدن والأحياء، وجعلها أكثر تحديدًا ووضوحًا على صعيد القيادات والأشكال السياسية المعبرة عن المقاومة بديلاً معترفًا به شعبيًا للأشكال العميلة للاحتلال.
· كما يتطلب توجيه ضربات حاسمة إلى القوات المتحالفة مع قوات الاحتلال الأمريكي لإخراجها من المعركة نهائيًا لدفع القوات الأمريكية إلى مساحات انتشار أوسع.
· وبذل كل الجهود لاستنهاض مجموعات أخرى للعمل خلف خطوط الأعداء في المناطق التي يريد الاحتلال تثبيت الاحتلال فيها أو تثبيت الاحتلال للعراق عن طريقها.
· وبذل الجهود لمواجهةٍ أقوى مع المجموعات المتعاونة مع الاحتلال للمناطق الأخرى – مع تدقيق شديد في طبيعة هذه المواجهة وأهدافها - كما هو الحال بالنسبة إلى الكيانات السياسية والعسكرية المسيطرة في الجنوب والشمال من المتعاونين والمرتبطين مع الاحتلال وأصحاب الارتباط المباشر بالخطط الصهيونية.
وهو ما يتطلب على الصعيد العسكري: تطوير قدرات المقاومة إلى إمكانية التركيز على استهداف المناطق والتجمعات المركزية لقواعد قوات الاحتلال إلى جانب العمليات الجارية حاليًا، من قطع لخطوط الإمداد والتموين، وضرب الدوريات المتحركة على الطرق بين المدن العراقية، ما يعني أن المقاومة ستنطلق من فكرة توسيع رقعة ومساحة المناطق المقاومة التي جرت في معركة الفلوجة الثانية، إلى نمط الاشتباك بأعداد كبيرة مع قوات الاحتلال في قواعدها الأساسية وفق هجمات منظمة ترهق القوات في قواعدها المركزية وتجبرها أيضًا على تخصيص قوات أكبر لحماية قواعدها – إلى جانب العمليات الجارية من القصف من بعد والألغام والعمليات الاستشهادية بالسيارات... إلخ - ومحاولة التماس معها بكل طريقة ممكنة، أو بالدقة العمل على اغتنام فرصة إجبار قوات الاحتلال على الانتشار على مساحات واسعة وتثبيتها في أماكن الانتشار الحالية – التي تحققت في معركة الفلوجة الثانية - لجعلها في حالة دائمة من الدفاع عن النفس، أي فرض استراتيجية المقاومة عليها وجعلها في حالة دفاعية شاملة، وبما يتطلبه ذلك من تحقيق جملة من الأعمال والإجراءات والتكتيكات، من بينها بدء العمل وفق تكتيكات عسكرية جديدة، من تنويع في الأسلحة المستخدمة وتغيير أشكال التنظيم والعمل على اغتنام أسلحة العدو واستخدامها في المواجهة... إلخ.
لقد بدأت بالفعل المرحلة الثانية من خطة حرب تحرير العراق، لدفع ما تحقق خلال المرحلة الأولى.. بدأت هذه المرحلة من خلال خوض معركة الفلوجة الثانية وفق استراتيجية تقوم على توسيع دائرة المواجهة مكانيًا، مع دفع قوات الاحتلال إلى الانتشار وإضعاف قدرتها على تركيز القوات على جبهة واحدة من جبهات المدن التي باتت تحت أيدي المقاومة بطريقة أو بأخرى، أي تثبيت قوات الاحتلال ووضعها في موضع الدفاع الشامل لا الهجوم الشامل كما كان في المرحلة الأولى التي كانت المقاومة خلالها في حالة هجوم تكتيكي ودفاع عام.
وحتى يمكن فهم أبعاد المرحلة الثانية، يجب أولاً تحديد ما جرى وما تحقق خلال المرحلة الأولى:
المرحلة الأولى:
خلال المرحلة الأولى جابهت المقاومة العديد من التحديات الخطيرة والمتنوعة والمتعددة وعلى أكثر من صعيد:
· فعلى صعيد مواجهة استراتيجية الاحتلال جابهت المقاومة محاولة تثبيت حالة الهزيمة العسكرية والسياسية والمعنوية انطلاقًا من تمكنها من احتلال بغداد بشكل أسرع مما توقع المواطنون.
· كما جابهت محاولة قوات الاحتلال تأسيس قواعد عسكرية للاحتلال في المدن وخارجها وفق اختيارات أفضل لها، في المناطق والاتجاهات التي تجعلها في وضع أفضل لإجهاض ومواجهة أية تحركات سياسية أو جماهيرية لرفض الاحتلال.
· كما جابهت المقاومة تحدي محاولة الاحتلال تأسيس جهاز دولة عراقي جديد عميل يكون عونها ويدها في احتلال العراق بصفة دائمة، من خلال تثبيت العملاء وتمكينهم من الادعاء بتمثيل الشعب العراقي بعد ملامسة التربة الجماهيرية للعراق، وتحقيق حالة من الاستقرار تمكنها وتمكنهم من الاتصال بالجمهور الواسع وممارسة عمليات خداعه بشكل أكبر تأثيرًا، من خلال تأسيس وإقامة أشكال واسعة من الكيانات السياسية وأجهزة الإعلام لزيادة حالة الخداع السياسي والإعلامي الذي فشلت فيه أجهزة الدعاية الأمريكية والبريطانية من الخارج.
· وكذلك جابهت المقاومة خطة قوات الاحتلال وسلطتها في الإسراع في عملية استخراج بترول العراق وتصديره تحت سيطرة قوات الاحتلال، لإنقاذ الخزينة الأمريكية وإدارة عجلة القوات التي تحتل العراق.
· كما جابهت خطة الاحتلال لتوسيع عملية دعم قوات الاحتلال عسكريًا ودعم حالة الاحتلال سياسيًا ودبلوماسيًا، من خلال إقناع دول كثيرة بإرسال قواتها إلى العراق أو إدخال شركاتها أو من خلال الأمم المتحدة والجامعة العربية... إلخ.
وإلى جانب مجابهة هذه التحديات والخطط والعمل لإفشالها استهدفت المقاومة:
· تحقيق وتثبيت 'حالة المقاومة' ورؤيتها وفكرتها، وإخراج الشعب العراقي من صدمة الاحتلال، بل استهدفت استنهاض الأمة كلها وليس الشعب العراقي فقط، وامتصاص صدمة العودة للاحتلال من النمط الاستعماري القديم ودفع الشعوب إلى المقاومة. وهو ما تطلب تطوير أوضاعها ذاتها بإعطاء الدفعة الأولى لتأسيس أجهزتها العسكرية.
· كما استهدفت المقاومة تأسيس أجهزتها العسكرية والأمنية وتطوير أوضاعها التنظيمية .
· وكذا تأسيس وإظهار وتقوية الجهاز السياسي للمدافعين عن المقاومة من خلال توفير الفرصة بقوة عملياتها، بما يدفعهم إلى ساحة المواجهة القوية وإيصال صوتها السياسي والإعلامي إلى الخارج، وكسر الاحتكار الإعلامي وتطوير أوضاعها وقدراتها على جميع المستويات السياسية والتنظيمية والتكتيكية... إلخ.
وقد اعتمدت المقاومة في بداية مرحلتها الاستراتيجية الأولى على المستوى العسكري، نمط القيام بعمليات متفرقة هنا أو هناك، أو القيام بعمليات متقطعة مع تحديد أهدافها بدقة، بما لا يسمح لقوات العدو بالاشتباك الطويل مع عناصرها، وهو ما تم من خلال الاعتماد على زرع الألغام وقصف الهاون - والتحرك من أماكن القصف - والتقليل من العمليات المركبة، والتركيز على العمليات الاستشهادية لزرع الرعب في نفوس جنود الأعداء والتركيز على عمليات اغتيال المتعاونين مع قوات الاحتلال... إلخ.
وهاهي المقاومة تدخل في المرحلة الحالية إلى مرحلة التخطيط الواسع للعمليات، والقيام بعمليات يشارك فيها عدد واسع من المجاهدين، واستمرار الاشتباك وتكراره في منطقة واحدة [الفلوجة وشارع حيفا وشارع المطار الذي بات يسمى شارع الموت ومدن الرمادي وسامراء والقائم وهيت... إلخ] لتكون في حكم المناطق المحررة، وتوسيع المعركة في الاتجاهات التي تحددها هي لا الجبهات التي يحددها العدو، مع إجبار قوات الاحتلال على الانتشار في أماكن ثابتة بصفة دائمة.
كما أصبحت عمليات المقاومة حالة دائمة ومتصاعدة وقادرة على الضرب متى أرادت وحيثما أرادت في الوقت الذي تحول فيه الجيش الأمريكي إلى مرحلة الدفاع عن النفس، لا يعرف من أين تأتي الضربة بعد أن لم يعد هناك أي مكان محصن من الهجوم عليه.
كما باتت حالات الهلع النفسي والتوسل للتكنولوجيا والتذمر من خطأ التكنولوجيا والتهرب من الخدمة العسكرية، أمورًا متصاعدة ومتنامية بين جنود الاحتلال.
المرحلة الأولى.. البداية:
كان اندلاع أعمال المقاومة العراقية بعد أيام من احتلال القوات الأمريكية للعراق مفاجأة ومباغتة استراتيجية لقوات الاحتلال الأمريكية وللمخطط العسكري الاستراتيجي الأمريكي، أو كان الرد المكافئ لخطة الصدمة والترويع التي خاضت قوات الاحتلال المعركة على أساسها ضد الجيش والشعب العراقي.
كان بدء المقاومة صدمة وترويعًا لقوات الاحتلال، وكان مباغتة استراتيجية، ليس بالمعنى الشائع من أن الشعب العراقي لم يستقبل قوات الاحتلال بالورود، ولكن بالمعنى الاستراتيجي، حيث كان تصور المخطط الأمريكي أن سرعة الوصول إلى بغداد واحتلالها وسرعة صدور قرار تفكيك كل أجهزة الدولة العراقية سيجعل من يرغب بالمقاومة في حاجة إلى وقت طويل – على الأقل عدة أشهر - وأن ذلك يتيح الوقت ويهيئ الفرصة أمام قوات الاحتلال لتأسيس قواعد عسكرية داخل المدن وتنمية العلاقات مع قطاعات من الشعب العراقي وتأسيس أحزاب وصحف وأجهزة تلفاز تمكن من خداعه واستيعابه.
· هنا كان الهدف الأول للمقاومة العراقية هو منع قوات الاحتلال من التقاط الأنفاس ومن استغلال عنصر الوقت، وصدمها عسكريًا في الآن ذاته.
· وكان الهدف الثاني هو سرعة تكسير وتحطيم كل أشكال الدولة التي تقيمها قوات الاحتلال ومواجهة العملاء وتصفيتهم.
· كما كان الهدف الثالث والعاجل أيضًا هو تثبيت قوة الشعب العراقي وعدم استسلامه بأية درجة إلى فكرة اليأس التي كانت تحاول أجهزة الدعاية الغربية – والعربية للأسف – زرعها في عقول العراقيين.
· وكان الهدف العاجل الرابع هو فرض أجندة أخرى للحوار داخل المجتمع العراقي خلاف الأجندة الأمريكية، ففي حين ركزت الأجندة الأمريكية سياسيًا وإعلاميًا على أخطاء نظام الرئيس العراقي السابق صدام والمقابر الجماعية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان على النمط الغربي... إلخ، طرحت المقاومة، أجندة أخرى، تقوم على البناء على المفاهيم العقائدية الإسلامية، ومواجهة الاحتلال ومواجهة العملاء والخونة... إلخ.
المرحلة الأولى: الاتجاه العام:
بطبيعة الحال فإن الهدف العام والنهائي للخطة الاستراتيجية الشاملة للمقاومة العراقية، هو طرد الاحتلال، لكن ذلك يمر عبر مراحل استراتيجية يتحدد لكل منها هدف واتجاه عام أو خط عام تنتظم فيه كافة الأعمال السياسية والعسكرية والإعلامية، تتناسب مع المعطيات على الأرض.
وكان الاتجاه العام خلال المرحلة الأولى – التي بدأت منذ احتلال بغداد حتى معركة الفلوجة الثانية - في جانب منه هو خوض صراع استراتيجي ضد قوات الاحتلال وعزلها ومنعها من النجاح في خطة بناء جهاز دولة عراقي عميل وتثبيت العملاء على رأس جهاز الدولة الجديد وبسرعة قبل أن يفيق الشعب العراقي من الصدمة وإعادة تحديد أجندة الحوار داخل المجتمع.
وفي الجانب الثاني هو إنجاز المقاومة لهدفها المعاكس، المتمثل في وضع أسس لبناء جهاز دولة عراقي جديد – بديل لجهاز الدولة خلال النظام السابق - في طوره الجنيني ليحكم العراق ما بعد انتهاء الاحتلال، ودفعه وتطويره خلال المراحل التالية من عمل المقاومة ونشاطها وهو ما كان يتطلب بداية ضرب وإنهاء كل أشكال ورموز جهاز الدولة العميل للاحتلال، بأن جعلت المقاومة كل العناصر القادمة من الخارج هدفًا بما دفعهم دومًا إلى حالة الفئران المختبئة، وإجهاض محاولة بناء جيش وشرطة تستطيع تثبيت الاحتلال ومنحة الفرصة المطلوبة للخروج من المدن والإقامة في قواعد احتلال دائمة، من خلال إرهاب كل من تسول له نفسه للانتماء إليه، وفرض أجندة بديلة للحوار داخل المجتمع، عنصرها الرئيس هو: هل الشعب العراقي مع الاحتلال أو ضده؟ ومن ثم إعادة تقسيم القوى السياسية وتحديد التمايزات على أساس التعامل مع الاحتلال معه أو ضده.
وكانت سلطة الاحتلال، وبعد أن انتهت من عملياتها العسكرية الرئيسة الأولى وفور احتلال بغداد، قد أصدرت قرارات بتفكيك أجهزة الدولة العراقية القديمة من جيش وشرطه ووزارات وأجهزة أمن – ولم يكن ذلك عملاً عفويًا أو متسرعًا - كمرحلة أولى من خطة محدده، حيث شرعت بعد ذلك في تشكيل أشكال انتقالية للدولة الجديدة:
· فبدأت بإعلان مجلس الحكم الانتقالي – التسمية لقوات الاحتلال وتعكس فهمها له ولدوره –.
· ثم شكلت مجلسا للوزراء في العراق كان هو الأكثر إظهارًا لطابع المرحلية من حيث الجوهر، فقد كان مجلسًا للوزراء دون وزارات - كان بجانب كل وزير هناك مستشار أمريكي هو الوزير الفعلي – كما كانت الوزارات بلا ميزانيات أو قرارات، وكان الهدف من تشكيلها هو وضع خطط إنشاء الوزارات في عراق الاحتلال الدائم، ومن ثم انتقلت قوات الاحتلال بعد ذلك إلى إعادة بناء شرطة عراقية.
· ثم دخلت في مرحلة بناء جيش عراقي جديد المسمى بالحرس الوطني 'للاحتلال'، وقد قال بريمر قبل مغادرته للعراق: إن تعداده سيبلغ 200 ألف جندي وضابط.
· وتلا ذلك الإعلان عن تشكيل لجنة لصياغة دستور عراقي جديد وجرى إقراره.
· وتبع ذلك تسليم السلطة إلى إياد علاوي كرئيس لمجلس وزراء حكومة الاحتلال وغازي إلياور كرئيس للعراق المحتل.
وبمتابعة كل ذلك يمكن القول: إن المرحلة الثانية من استراتيجية الاحتلال تستهدف كخط عام العمل على تأسيس أشكال دائمة للحكم، تعيد بناء جهاز الدولة العراقية وفق نمط جديد هو نمط الدولة المحتلة، بحكم بنيان جهاز الدولة هذا ومفاهيم وأسس تشكيله ليكون، هو الضامن لاستمرار حالة الاحتلال حتى لو انسحبت القوات الأمريكية من العراق كلها أو لو اكتفت بمجرد التواجد في قواعد عسكريه في الصحراء – خارج المدن - وفقًا للنمط الموجود في أفغانستان.
وفي المقابل كانت المقاومة تستهدف دومًا كل أشكال السلطة الجديدة من أجهزة سياسية وعسكرية وأمنية، كما كانت تستهدف الرموز المعبرة عن مثل تلك التوجهات، في الوقت الذي كانت تبنى فيه أجهزة السلطة البديلة على كافة المستويات العسكرية والسياسية والإعلامية، والتي كان النموذج الأبرز لها ما جرى في الفلوجة والذي بدأ ظهوره خلال معركة الفلوجة الأولى وتطور أكثر خلال معركة الفلوجة الثانية، وهو ما سنوضحه تفصيلاً في القسم الثاني من الدراسة- بمشيئة الله عز وجل-.
ولأجل إنجاز الهدف العام للمرحلة الأولى من هزيمة خطة قوات الاحتلال في تثبيت حالة الاحتلال وبناء جهاز دولة عميل – كخط عام - خاضت المقاومة معركتها، ووجهت عملياتها العسكرية والسياسية والإعلامية في ستة اتجاهات رئيسة:
أولها: إثارة الرعب في صفوف القوات الأمريكية، ومنعها من الاستقرار داخل العراق، ورفع معنويات الشعب العراقي، وتقديم النموذج لعدم الاستسلام.
وثانيها: إجهاض كل أشكال بناء أجهزة الدولة العميلة تحت الاحتلال أولاً بأول.
وثالثها: منع حصول هذا الحاكم العميل على شرعية داخلية وخارجية، ومنع وصول قوات من دول أخرى لمساندة قوات الاحتلال ودعمها، بما يسهل تثبيت الاحتلال واستقراره، ودفع القوات الأخرى الموجودة فعليًا إلى الرحيل لعزل الموقف الأمريكي.
ورابعها: منع قوات الاحتلال من استغلال البترول العراقي، كواحد من أهم الأهداف الاستراتيجية من العدوان والاحتلال، ولرفع كلفة الحرب وتحميلها على الخزينة الأمريكية المتهاوية أصلاً، ولعدم تمكين الاحتلال من الإنفاق بطريقة واسعة على عملية إنشاء جهاز الدولة العميل.
وخامسها: كسر الحصار الإعلامي حول المقاومة.
وسادسها: نقل المعركة إلى الداخل الأمريكي، لإضعاف موقف الإدارة الأمريكية، المرتكنة إلى رؤية مسيحية صهيونية.
أولاً: إرهاب قوات الاحتلال:
كانت المهمة الأولى، لأعمال المقاومة هي إرهاب قوات الاحتلال وإفقادهم روحهم المعنوية وإفقادهم الشعور بنشوة النصر على الجيش العراقي، ورفع معنويات الشعب العراقي – والشعوب العربية والإسلامية أيضًا – ودفعه للانحياز إلى رؤية المقاومة وخيارها.
فعلى صعيد إنجاز خطة المقاومة لإثارة الذعر في صفوف قوات الاحتلال الأمريكية نجحت المقاومة في تحقيق هذا الهدف إلى درجة لم يتصورها أشد المراقبين استبشارًا.
وقد أعلن منذ أيام أن دراسة أمريكية أُعدت من قبل المشرفين على متابعة الحالة المعنوية لقوات الاحتلال في وزارة الدفاع الأمريكية 'البنتاجون'، قد توصلت إلى أن 100 ألف جندي أمريكي من أصل مليون جندي شاركوا في العدوان على أفغانستان والعراق، باتوا يتعاطون فعليًا علاجات من أمراض نفسية أصيبوا بها خلال الحرب. وتوقعت الدراسة أن 3 من بين كل 5 جنود أمريكيين باتوا في حاجة إلى تلقي علاج نفسي – أي 600 ألف جندي من نحو مليون – وهو ما يشير إلى توالي وتصاعد ظهور نتائج تأثير عمليات المقاومة، التي بدأت في الظهور بعد فترة من بداية العدوان في العراق، إلى درجة لم تعترف بها هذه القوات الموجودة على الأرض العراقية فقط، بل إلى درجة أن وزارة الدفاع الأمريكية اضطرت مع اتساع الحالة لإرسال أساتذة في الطب النفسي لدراسة الوضع النفسي للجنود على أرض العراق، تحت ضغط ما ظهر من حالات فرار للجنود وهرب عبر الحدود مع دفع مبالغ طائلة لمهربيهم، ومن حدوث حالات وفاة للجنود في 'أسرتهم'، بعيدًا عن ميادين القتال، وكذلك في ضوء عدم عودة بعض الجنود إلى وحداتهم القتالية في العراق والبقاء في الولايات المتحدة بعد انقضاء إجازاتهم في الولايات المتحدة، وأيضًا بعدما أعلن إحصاء واستطلاع أمريكي من أن 50% من الجنود يفكرون في عدم تجديد عقود عملهم في الجيش الأمريكي بسبب عمليات المقاومة. غير أن هذه الحالة تفاقمت إلى درجة هروب جنود إلى كندا ورفع قضايا لنيل حق اللجوء السياسي وإلى درجة رفع الجنود الأمريكيين قضايا على وزارة الدفاع لمنع إرسالها لهم إلى العراق بعد انتهاء مدة تعاقداتهم. وأخيرا فإن ما ذكره ضباط بريطانيون مؤخرًا عن أن هذه الأوضاع والمعارضة الشعبية للحرب في بريطانيا قد أثرت على انضمام الشباب البريطاني إلى الجيش يمثل أحد المؤشرات على امتداد تأثير المقاومة على عمليات التجنيد في جيوش دول الاحتلال.
وقد كان لتلك العمليات دورها بطبيعة الحال في رفع معنويات الشعب العراقي، وهو ما تؤكد عليه عشرات الدلالات، لعل أهمها هذا الفيض المتدفق من العمليات الاستشهادية، واتساع رقعة المناطق المقاومة وقوة تصديها لقوات الاحتلال بصفة منتظمة وبتصميم لا يلين، وإذا كانت الفلوجة والرمادي والموصل... إلخ هي نموذج لتوسع وقوة وارتفاع معنويات الشعب العراقي، فقد كان من تأثير تلك المقاومة ما جرى من مقاومة من حركة الصدر بغض النظر عن محدودية توجهها وقدرتها، وظروف التيار الذي تنتمي إليه.
ثانيًا: تصفية عناصر الجهاز الحكومي العميل:
بالتزامن مع إرهاب القوات الأمريكية، وإيصال معنوياتها إلى الحضيض، ومنع الاحتلال من الاستقرار، وجهت المقاومة جانبًا من عملياتها ضد كل الأفراد والرموز والأجهزة والمؤسسات التي شكلتها قوات الاحتلال، لبناء جهاز الدولة العميل، وفي هذا الإطار ركزت المقاومة على عمليات الإرهاب النفسي، في مواجهة الشرطة العراقية التي تعمل تحت إمرة الاحتلال وتتعاون معه – التي هي خطر شديد على أفراد المقاومة لمعرفتها بالأرض والبشر - كما واجهت محاولة بناء جيش – الحرس المحلي للاحتلال - بعمليات لا حصر لها ولا عد، وبإرهاب كل من تسول له نفسه دخول هذا الحرس.
ورغم ما سقط من قتلى من الشرطة والحرس العميلين، فإن المتابع لعمليات المقاومة يجدها ركزت على جانب الحرب النفسية أكثر من عمليات القتل، فهي استهدفت بعد تحذيرات في بياناتها، مناطق المجندين الجدد كرسالة واضحة للآخرين، كما استهدفت العناصر التي تم تدريبها في خارج العراق، لمنع ذهاب مجندين للتدريب في الخارج شعورًا بأنهم هناك في مأمن عن عمل المقاومة ونشاطها، كما لجأت في عمليات أخرى إلى اقتحام مقرات الشرطة والحرس المحلى للاحتلال، وإخراج الموجودين فيها بعد تجريدهم من السلاح وتفجير المباني... إلخ.
ثالثًا: منع وصول قوات أخرى:
كانت إحدى نقاط الخطر الأساسية خلال المرحلة الأولى من حرب تحرير العراق، على صعيد تثبيت الاحتلال وإضفاء الشرعية على جهاز الدولة العميل، هي إمكانية نجاح الولايات المتحدة من جلب قوات من دول أخرى والحصول على تغطية من الأمم المتحدة أو أن تتمكن من إدخال قوات عربية أو إسلامية. ومن هنا وضعت المقاومة العراقية نصب أعينها وكرست عملياتها لمنع قوات الاحتلال من تحقيق هدفها، بل سعت ونجحت في إجبار جانب من القوات التي وطأت إلى أرض العراق على الرحيل كما هو الحال بالنسبة لقوات أسبانيا والسلفادور والدومينيكان وفي الطريق إلى ذلك بولندا التي ينتظر أن تتسارع خطواتها بهذا الاتجاه.
كان الطريق إلى ذلك عمليات مخططة على أعلى مستوى، من أهمها، عملية اغتيال فريق المخابرات الأسباني '29 نوفمبر 2003' الذين تم استدراجهم بعملية بالغة التعقيد قتل فيها طاقمان مرة واحدة - الأول كان يسلم مهامه وعملاءه للطاقم الثاني الجديد في المهمة في العراق -، ومهاجمة القوات البلغارية '29 أغسطس 2003'، والوحدة الدانماركية '6 أكتوبر 2003'، والوحدة الإيطالية '13 نوفمبر 2003'، والأسبانية '29 نوفمبر 2003'، الكورية '30 نوفمبر 2003'، السلفادورية '10 ديسمبر 2003'... إلخ.
وقد نجحت المقاومة في منع وصول قوات تركية إلى العراق رغم اتخاذ مجلس الوزراء والبرلمان التركي القرار بإرسال هذه القوات، وقد كان بإمكان القوات التركية لو وصلت فعلاً للعراق - وقد كان مخططًا لها أن تنتشر في وسط العراق - أن تنقذ قوات الاحتلال الأمريكية من المأزق الذي تعيشه الآن ولتحول الصراع إلى صراع إسلامي – إسلامي. وكان هذا النجاح في مغزاه الاستراتيجي توصيل رسالة إلى كل النظم العربية والإسلامية التي طلبت منها الولايات المتحدة إرسال قوات إلى العراق، والتي نجحت المقاومة في منعها من إرسال قواتها تحت إمرة قوات الاحتلال.
كما نجحت المقاومة في حسم تردد دول أخرى كانت تفكر في إرسال قواتها إلى العراق، فعدلت عن قرارها أو تفكيرها خوفًا على جنودها أو سمعتها السياسية ومصالحها، كما أعطت المقاومة مبررًا لدول من نوع ثالث لعدم إرسال قواتها وإن تفلتت من الضغوط الأمريكية عليها.. بحجة المقاومة. وقبل كل ذلك نجحت المقاومة العراقية من جعل مسألة اتخاذ أية دولة بإرسال قواتها إلى العراق معركة داخل هذه الدول.
رابعًا: منع استخدام البترول العراقي:
كانت المعركة حول تصدير بترول العراق معركة استراتيجية من الطراز الأول هي الأخرى، وعلى مستويات متعددة باعتبارها العامل المحرك للاحتلال من جهة، باعتبار أن نجاح الاحتلال في استغلال بترول العراق يعني استقراره وتثبيت الحكومة العميلة. فالبترول أولاً هو أحد الأهداف الاستراتيجية من الاحتلال سواء لإنقاذ الخزينة الأمريكية أو لمصلحة شركات البترول الأمريكية أو لمنع الدول الأخرى المنافسة على الصعيد الدولي من تطوير وإدارة اقتصادها بعيدًا عن الهيمنة الاقتصادية الأمريكية، كما أن ضخ البترول كان سيوفر نفقات عملية غزو العراق واحتلاله والقدرة المالية لتثبيت حكومات الاحتلال داخل العراق.
والمتابع لاستراتيجية المقاومة العراقية يلاحظ أن المقاومة نجحت على كل هذه الأصعدة والطوابير التي نراها الآن في شوارع المدن العراقية من أجل تزويد السيارات بالوقود والتي تمتد عدة كيلومترات في المكان الواحد – ليست عملية موجهة ضد الشعب العراقي – بل هي المظهر الأهم على أن المقاومة العراقية نجحت على أكثر من صعيد في تعطيل حركة تصدير البترول العراقي للخارج، وفى تكبيد قوات الاحتلال خسائر مالية شديدة في هذا الجانب، سواء لأن البترول والسيطرة عليه كان أحد أسباب الغزو، أو لأنه المشغل لآلة الحرب الأمريكية الدائمة الحركة داخل العراق، أو بسبب ارتفاع تكاليف الإطفاء والسيطرة على النيران أو تكاليف الإصلاح لأنابيب النفط، أو للآثار الخطيرة على دول الجوار التي يعتبر وصول النفط العراقي لها أحد عوامل السيطرة على قرارها السياسي.
خامسًا: كسر الاحتكار الإعلامي:
وخلال المرحلة الأولى من حرب تحرير وإعادة بناء العراق نجحت المقاومة في عدم تمكين قوات الاحتلال الأمريكية وأجهزة الإعلام الغربية والعربية من إخفاء حالة استمرا ر الفوضى وعدم قدرتها على فرض الأمن في العراق، لا لنفسها ولا للسكان الذين أعلنت أنها جاءت لتحريرهم وتحسين ظروف حياتهم. كما نجحت في عدم تمكين الجيش الأمريكي من التعتيم على خسائره رغم كل ما اتخذه من إجراءات ضد وسائل الإعلام. وذلك بفعل نشاط المقاومة ليلاً ونهارًا، وبفعل عملها المكثف داخل العاصمة.. وكذا لتعدد عملياتها وانتشارها في اليوم الواحد. غير أن المقاومة تمكنت - وهذا هو الأهم - من تحقيق مصداقية إعلامية لها، ومن وضع بياناتها على لائحة التصديق من قبل أجهزة الإعلام، كما أجادت استخدام الوسائل المتاحة خاصة الإنترنت إلى درجة يمكن القول معها: إن حركات المقاومة العراقية والمقاومة الإسلامية بشكل عام هي التي حولت المادة المنشورة على الشبكة الدولية للمعلومات إلى معلومات مصدقة وذات أسبقية على وسائل الإعلام الأخرى، على عكس ما كان سائدًا من قبل من النظر إلى المواد المنشورة على الإنترنت بأنها أقل مصداقية من المواد الإعلامية الأخرى.
وكان النموذج الإعلامي للمقاومة نموذجًا ناجحًا إلى حد أذهل قوات الاحتلال، وجعلها تقر بهزيمتها الإعلامية أمام إعلام المقاومة، وهو ما اعترف به تقرير رسمي للبنتاجون، وبما جعل البنتاجون يعيد تأسيس مكتب الكذب الاستراتيجي –كان أُلغي من قبل - لمواجهة دعاية المقاومة الإسلامية في العراق حسبما أعلنه خبراء البنتاجون أنفسهم.
سادسًا: نقل المعركة إلى الداخل الأمريكي:
كان للمقاومة خلال المرحلة الأولى هدف يتعلق بالداخل الأمريكي الذي يعتبر نقل المعركة من داخل العراق إلى داخلة أحد آليات إضعاف الخصم استراتيجيًا وإرهاقه عسكريًا وإعلاميًا.
والمتابع لعمليات المقاومة لاشك أنه يجد نفسه ينظر بدهشة إلى قدرتها على نقل المعركة إلى الداخل الأمريكي.. إلى درجة قسمت الموقف الداخلي حول العدوان على العراق إلى نصفين تقريبًا.
وإذا كانت عمليات المقاومة كانت وراء الإسراع في سحب ملف العراق من وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد وتسليمه إلى وزارة الخارجية الأمريكية – الأمر الذي أطيح على هامشه بدور أحمد الجلبي – بما جعل الولايات المتحدة تعود مرة أخرى خانعة إلى عدم تجاهل الوضع القانوني الدولي وإلى عرض أولي بتقاسم الأطماع والمغانم مع الدول الكبرى المنافسة - وهو ما ظهر في العودة الأمريكية إلى مجلس الأمن المرة تلو المرة - فإن المقاومة أثارت الارتباك داخل الإدارة الأمريكية أيضًا بما فرضته على المعركة الانتخابية للرئاسة الأمريكية التي قفزت فيها معركة العراق إلى القضية الرئيسة فيها بعدما كانت المعارك الانتخابية تجري بالاختلاف حول مشكلات الضرائب والتعليم والصحة وغيرها.
ونجاح المقاومة هنا لا يتعلق فقط بطرح قضية احتلال العراق على الانتخابات والناخب ولكن في إتاحة فرصة واسعة لكشف الخسائر والاضطراب الذي تعانيه القوات الأمريكية خلال عملية الاحتلال من خلال الصراع الانتخابي.
المرحلة الأولى: التكتيكات:
اعتمدت المقاومة العراقية تكتيكات محددة في عملياتها، لتحقيق أهدافها السابقة، هذه المرحلة تتناسب مع درجة قوة المقاومة من جانب، ومع درجة قوة وحالات تمركز قوات الاحتلال من ناحية ثانية، وتتناسب من ناحية ثالثة مع الأهداف في كل عملية.
والمتابع والمحلل للأساليب التكتيكية للمقاومة العراقية خلال المرحلة الأولى، يجد أنها تمتعت بنمط من الربط الدقيق واللحظي والمباشر بين الأحداث السياسية وبين توقيتات العمليات.. وبين ظروف وأهداف وطبيعة كل عمليه، والقدر المطلوب والمؤثر من القوة، وباستخدام الوسائل العسكرية المناسبة تحديدًا لكل هدف من الأهداف.
وفي هذا الإطار كانت معركة الفلوجة الأولى ذروة من الأهمية والتطور على جميع الأصعدة العسكرية والسياسية والإعلامية. لكن الوصول إليها كان طريقًا طويلاً من الأهداف والخطط التكتيكية.
ففي سبيل تحقيق هدف المقاومة من إرهاب قوات الاحتلال وإضعاف قوتها المعنوية:
اعتمدت المقاومة أسلوب الهجمات التي تثير أكبر قدر من الذعر لدى قوات الاحتلال، فكانت هنا عملية محاولة قتل قائد القوات الأمريكية نفسها ريكاردو سانشيز، ومحاولات اغتيال بريمر، ومحاولة قتل نائب وزير الدفاع الأمريكي خلال زيارته إلى بغداد.
كما كانت العمليات الاستشهادية وتفخيخ المباني وكانت عمليات استدراج بعض أفراد هذه القوات وأسرها وذبحها.
كما استهدفت المقاومة على هذا الصعيد إفقاد الجندي الأمريكي ثقته بسلاحه، الأمر الذي تحقق مؤخرًا بشكل لم يكن أي من المراقبين العسكريين توقعه أن يجري بهذه السرعة وعلى هذا النحو.
وكان المشهد الأهم في ذلك هو حوار رامسفيلد مع الجنود الأمريكيين في الكويت، والذي أظهر عدم ثقة الجنود في السيارات التي يركبونها - التي تعتبرها المصانع العسكرية الأمريكية قمة إنتاجها المتطور - وكيف أنهم من حالة الرعب باتوا يبحثون في الخردة لتقوية وتدريع سياراتهم التي تنتج في الدولة الأعلى في التكنولوجيا العسكرية.
وعلى صعيد منع تكوين جهاز الدولة العميل:
تنوعت التكتيكات بين ضرب تجمعات الذين لا يزالون في بداية الطريق - ضرب مراكز الانتساب - وبين اصطياد العناصر التي تم تدريبها في الخارج ومهاجمتها في طريق عودتها كما شملت الهجوم على مراكز الشرطة إضافة إلى الهجوم من بعد بالقصف بالهاون والآر بي جي. كما وجهت المقاومة جانبًا من عملياتها لاصطياد القادة الكبار المتعاونين مع الاحتلال ومحاولة قنص كبار المسؤولين ومهاجمة الوزارات وغيرها.
وعلى صعيد منع تصدير النفط ووقف استفادة قوات الاحتلال به سواء داخل العراق أو لمصلحة الخزينة الأمريكية:
هاجمت المقاومة في البداية الخطوط الخارجية للتصدير حتى جعلت صادرات النفط تصل إلى معدل يقل عن حالة التصدير خلال تنفيذ برنامج سرقة نفط العراق تحت رعاية الأمم المتحدة – برنامج النفط مقابل الغذاء – حيث لم يتعدَّ استخراج النفط 1.8 مليون برميل خلال بداية الاحتلال، وكان خلال مرحلة النفط مقابل 2.3 مليون برميل، وبعدها طورت المقاومة هجماتها من الخطوط الخارجية إلى الخطوط الناقلة للمدن والتي كانت القوات الأمريكية تعتمد عليها في الإمداد والتموين مما جعل القوات الأمريكية تلجأ إلى استيراد البترول من الكويت الأمر الذي واجهته المقاومة بتفجير الشاحنات القادمة من الحدود.
وعلى صعيد تحقيق هدف إجبار القوات الأخرى غير الأمريكية على مغادرة العراق:
تنوعت تكتيكات المقاومة بين الهجوم المباشر على ثكنات هذه المقاومة –وهو ما جعلها تطلب حماية القوات الأمريكية لها! - إلى قصف مواقع سفارات الدول التي أرسلت قوات إلى العراق، وكذلك اصطياد العناصر المعاونة لهذه القوات من أشخاص يعملون لدى الجهات الاستخبارية لهذه الدول، والضغط على الحكومات لسحب قواتها مقابل الإفراج عن هؤلاء الأشخاص.
وعلى صعيد كسر الاحتكار الإعلامي اتخذت المقاومة الفكرة الأشهر في عالم المقاومة وهي الدعاية باستخدام السلاح:
فقامت بعمليات مدوية لا يمكن لأجهزة الإعلام تجاهلها، كما ركزت عملياتها في قصف المنطقة الخضراء أو القصر الجمهوري، حيث لا يبعد الصحفيون منه إلا خطوات، والأهم أنها اتبعت أسلوب تصوير عملياتها وإرسالها إلى الجهات الإعلامية.
المرحلة الأولى ومعركة الفلوجة الأولى:
كان التطور الأهم والذروة في العمليات التي تستهدف تحقيق الهدف الاستراتيجي العام للمرحلة الأولى من حرب تحرير العراق، هو معركة الفلوجة الأولى، التي مثلت انتقالاً مهمًا داخل المرحلة الاستراتيجية الأولى، وكانت بداية تحقيق القدرة على ردع العدو وتقديم النموذج في القدرة على تحرير الأرض والاحتفاظ بها، كما حققت إيقاظًا للقدرة لدى مختلف أطراف المقاومة في مناطق العراق الأخرى، وقد كانت تلك المعركة حاسمة على عدة مستويات:
أولها: أنها مثلت الهزيمة الأولى والأكبر للقوات الأمريكية في مواجهة كبيرة مستمرة ومتواصلة انتهت إلى طلب القوات الأمريكية الهدنة وليس المجاهدون، وبذلك كانت المرة الأولى خلال الحرب التي تنكسر فيها القوة الأمريكية على أرض العراق، خاصة وأن الشروط السياسية التي قبلت بها قوات الاحتلال لوقف العمليات كانت بمثابة موافقة كاملة على بقاء الفلوجة محررة لا يدخلها جيش الاحتلال الأمريكي الأمر الذي وفر للمقاومة قاعدة صلبة لنشاطها وتطوير قدراتها.
وثانيها: أنها كانت البداية للدورة العكسية في علاقات الصراع، فمن بعدها أخذت المقاومة دفعة كبيرة في عملياتها وبدأت تشتبك إلى فترات طويلة خلاف مرحلة البداية.
وثالثها: أنها سجلت البداية الأم لانطلاق إعلام المقاومة.
ورابعها: أنها شهدت بروزًا لقيادات سياسية وإعلامية للمجاهدين. وقبل هذا وبعده أنها ضربت النموذج لإمكانية تحقيق النصر على الجيش الأمريكي في العراق وخارجه.
وخامسها: أنها بالمجمل كانت تعبيرًا عن القدرة على بداية بناء جهاز دولة مناقض لجهاز الدولة الذي عملت على تشكيله قوات الاحتلال، حيث تشكلت قوات الشرطة وحتى كتيبة الحرس الوطني من المرتبطين بأهل الفلوجة ومصالحهم وآرائهم الرافضة للاحتلال، إضافة إلى سيطرة المقاومة على المدينة وإدارتها على مختلف المستويات.
نتائج المرحلة الأولى وملامح الثانية:
في ضوء ما أنجزته المقاومة خلال المرحلة الأولى، اتجهت إلى تنفيذ المرحلة الثانية التي تأسس لها خلال معركة الفلوجة الثانية لتدخل الفلوجة تاريخ الانتصار على هذه الحرب الهمجية.
في هذه المعركة تمكنت المقاومة من تحويل القوات المحتلة إلى حالة فتح قواتها بصفة دائمة، كما تمكنت من تثبيت انتشارها على رقعة واسعة من الأرض – ما جعل العديد من المدن والقرى كلها فلوجة - مما أضعف قدرتها على تركيز قوتها فيما بعد، إذ بينما هي ما تزال عالقة هناك في الفلوجة غير قادرة على حسم العركة، فقدت السيطرة على العديد من المدن والأحياء، وهو ما يجعل المقاومة قادرة على مهاجمة القوات الأمريكية في أماكن متعددة في وقت واحد، في الوقت الذي فقدت فيه القوات الأمريكية المبادرة على الهجوم الواسع بنفس قدرتها السابقة، والأهم أن هذا الانتشار يورط القوات المحتلة بشكل متصاعد، ويجعلها مضطرة إلى جلب مزيد من القوات - 10 آلاف جندي قدموا ليحلوا محل القوات البريطانية التي عادت للجنوب - فكلما زاد عدد القوات زاد انتشارها وزادت القدرة على اصطيادها.
وهكذا تحولت المقاومة من مواجهة التحديات إلى بدء تحقيق أهدافها والانتقال إلى المرحلة الثانية، التي يمكن القول بأن الأهداف الاستراتيجية للمقاومة خلالها تقوم في المستوى السياسي على إفشال خطة قوات الاحتلال في تثبيت حكم علاوي، أو من تعيينه بعد الانتخابات الشكلية وإجهاض لمحاولة بناء جيش عراقي تحت إمرتها، وتطوير فكرة ونمط المقاومة لتشمل جميع القوى والمناطق وتطوير الجهاز السياسي والإعلامي، وغيرها مما سنتناوله في الجزء الثاني من الدراسة بإذن الله.
كتبه للمفكرة : الأستاذ طلعت رميح
tromaih@hotmail.com