واصلوا الجهاد
10-05-2004, 03:32 PM
معارك العراق : انتفاضة ؟ ام ثورة ؟
دراسة في المضامين والاثار الجيوستراتيجية لمعركة الفلوجة
الجزء الاول
شبكة البصرة
بقلم صلاح المختار
منذ ابتدات معركة الفلوجة تحول النقاش حول مايجري في العراق من محض تداعيات او رغبات ذاتية ( wishful thinking) ، غالبا ، الى ضرب من محاولات تزوير الوقائع ، في اطار المخطط الاميركي لتغيير موضوع التركيز ، وهو تكتيك منهجي معروف من هنا ينبغي البحث في الاطارات العسكرية والسياسية والستراتيجية ا لتي تحكمت في معارك الفلوجة ، ولذلك سنتناول المسائل الاساسية التالية :هل ان المعارك التي اندلعت في القطر من شماله لجنوبه ، ومن شرقه لغربه ، هي مجرد عمليات دعم واسناد ؟ وماهي المضامين الستراتيجية لما جرى ومازال يجري على امتداد العراق ؟ وهل تستبطن العمليات العسكرية اهدافا ستراتيجية متناقضة ؟ للاجابة على هذه الاسئلة وما ستنجبه في سياق البحث من اسئلة نحن مضطرون لتناول ثلاثة محاور اساسية وهي: اولا : تجليات المرحلة الثالثة من حرب التحرير الوطنية ومفاجآتها, وثانيا : المفهوم الجيوبوليتيكي الذي تحكم بالسياسة الاميركية تجاه العراق ، وثالثا ستراتيجية ا لضربة الاستباقية (preemptive strike ) التي تبنتها ادارة جورج بوش الابن عقب احداث 11/9/2001 . ومن المهم هنا ان نذكر ان مناقشة هذه القضايا يخضع لجدل الواقع العراقي الحالي بغض النظر عن الانتماء السياسي والزاماته .
الارتباك الاميركي الفاضح
في يوم 13/4/2004 وقف بوش ليتحدث عما يجري في العراق بعد صمت طويل دفع منافسه جون كيري للسخرية منه لعجزه عن الرد على الاسئلة المتعلقة بتصاعد المقاومة الوطنية العراقية بنسب هندسية مفزعة لادارة بوش ، فماذا قال ؟ ان اهم مالفت الانتباه هو اضطراره للاعتراف ــ و كان يتمنى شرب السم قبل الاعتراف به ــ :( ان عواقب الفشل في العراق سيكون من الصعب تخيلها ) ! وعلى الضفة الاخرى من المحيط وقف حليفه توني بلير ليكرر استعمال لغة الاقرار بالهزيمة حينما قال ان ( التحالف ) يخوض صراعا تاريخيا في العراق ! ماالذي يجري في العراق ويجعل بوش وبلير يطلقان صرخات فزع افصحت ، وبوضوح لم يسبق له مثيل منذ بدأ غزو العراق ، عن حالة تيقن من ان الهزيمة الاميركية قادمة لامحالة ؟
اذا كان مايجري حقا هو مجرد (ارهاب لفلول النظام ) ، كما تعودت آلة الدعاية الغربية ان تقول ، فهل يستأ هل ذلك كل هذا التوجع والصراخ ؟ في اطار هذا الاعتراف سنجد اجابات واضحة تفسر ذلك الهذيان الساذج ، او المتساذج ، حول الاهداف (الحقيقية ) لغزو العراق ، والتي عبر عنها كتاب اميركيون بقول احدهم : ان غزو العراق لاقيمة كبرى له بل هو معبر للوصول الى( المكافئة الكبرى ) وهي السعودية ، او بقول آخر : ان المكافئة الكبرى هي مصر ! هكذا يريدون ممارسة تمويه آخر للتعتيم على الاسباب الكبرى لغزو العراق ، من جهة وابتزاز السعودية ومصر من جهة ثانية .
اذا كان صحيحا ان قيمة العراق متدنية الى هذا الحد فلماذا صرخات ا لتاوه لبوش وبلير ؟ هل المطلوب هو اقناع الراي العام الاميركي بان اميركا قد قامت بواجبها وحان موعد الانسحاب ؟
تجليات المرحلة الثالثة من حرب الشعب
دعونا نحلل الموقف المتشابك ، بل المشبوك عمدا ، ولنبدأ بحقيقة معركة الفلوجة ، واول مايجب التنبيه اليه هو ان المرحلة الثالثة من حرب التحرير الوطنية في العراق قد ابتدات من الفلوجة ، ولهذا نجد ضروريا توضيح هذه الحقيقة ، فحرب التحرير تمر بأربعة مراحل قبل طرد الغزاة ، المرحلة الاولى يلخصها قانون ( اضرب واهرب ) اما المرحلة الثانية فقانونها هو ( اضرب واصمد لساعات او ايام ) ، بعد ذلك تأتي المرحلة الثالثة وقانونها: هو : اشتبك في قتال جبهوي ، اي مباشر و خصوصاً بالسلاح الابيض ، لمدة اسبوع او اكثر ثم انسحب لساعات او ايام ، لتجنب ضربة مميتة ، وهاجم بعد ذلك ، وهكذا تستلم المبادرة وتجبر العدو على الوقوع في فخ استنزاف كثيف لايستطيع تحمله لفترة طويلة ، فتجبره على التفكير الجدي بالتخلي عن اهدافه الحقيقية بعد ان اصبحت الخسائر اكبر من المكاسب ، وفي المرحلة الرابعة يحرم المحتل من دخول مدن رئيسية وعندها يبدأ با لبحث عن وسطاء للتفاوض حول شروط الانسحاب .
من المؤكد ان هذا ا لتقسيم نظري وعام لان وا قع المقاومة المسلحة قد يفرض تداخل مرحلتين ، ولكن الخط العام لحروب التحرير هو هذا . ماذا حصل في الفلوجة ؟ معركة الفلوجة انهت اسبوعها الثالث بعد صمود لم يسبق له مثيل في اي معركة تحرير ، وذلك للاختلال المطلق في موازين القوى بين بضع مئات من المقاتلين العراقيين ، المسلحين بسلاح خفيف ، واعظم واقوى واشرس جيش في العالم ! من المؤكد ان تاريخ الحروب سيسجل بفخر لاحدود له ، مأثرة البطولة الفريدة والاستثنائية لمقاتلي الفلوجة الذين اسقطوا اغلب فرضيات الحرب ببقائهم صامدين ومحتفظين بأعلى المعنويات ،وهذا هو بالضبط مايؤكد ان مخططي المعركة كانوا يريدون اعلان بدء المرحلة الثالثة باقوى واشمل المعارك المتزامنة على امتداد العراق ، فما ان بدأت الفلوجة حتى وجدنا العراق كله يشارك في الثورة المسلحة ضد الاحتلال . صحيح ان الفلوجة قد اجبرت الاحتلال على الخروج منها منذ زمن لكن قواته كانت تدخل وتخرج ، وتضرب فكان مطلوبا ان تبدأ المرحلة الثالثة منها ، وكان الهدف هو اجبار العدو على خوض( حرب انصار) طويلة ومستنزفة لقدراته البشرية والمادية ثم اتباع ذلك بتفجير معارك متزامنة على امتداد العراق كله ، ومنعه من دخول المدينة لأطول وقت ممكن ، واذا دخل فيجب عدم السماح له بتوجيه ضربات مدمرة لكوادر وقواعد المقاومة ، واعتماد المناورة تكتيكا رئيسيا لمنعه من استثمار تفوقه المطلق بقدر الامكان .
لقد نجحت المقاومة في الحاق خسائر باهضة بالعدو واعترف انه خسر في الايام الخمسة الاولى من المعركة 70 فردا، وهذا غير صحيح لأن عددالتوابيت التي وصلت اميركا بلغت اكثر من300 تابوت ، ومن المؤكد ان العدد التقريبي لخسائر العدو لايقل عن الالف وثلاثمائة قتيل في ثلاثة اسابيع ، وهذا بحد ذاته يشكل ضربة مؤلمة جدا للادارة الاميركية ، كما ان ذلك مدمر لاحدود له لمعنويات الجنود ، ومن المؤكد ان الشعور الاميركي بالهزيمة بلغ الوضوح الكامل ، فنحن هنا نتعامل مع هزيمتين مترابطتين ، الهزيمة الاولى هي : فشله التام في الحاق الهزيمة ببضع مئات من المقاومين ، رغم استخدامه القوة القصوى (MAXIMUM FORCE) في اعلى اشكالها واشدها دموية ، وكان اوضح تعبيرات الهزيمة هو اضطرار قوات الغزو للتفاوض مع من اعتبرتهم ( ارهابيين ) و ( متمردين ) ، من موقع المهزوم ، لذلك تنازلت عن مطالبها الأصلية ، ومنها تسليم من وصفتهم ب( المجرمين ) الذين مثلوا بجثث المرتزقةالقتلى ، وتسليم افراد الشرطة الوطنيين الذين قادوا المرتزقة الى منطقة قتل ، وتسليم الأسلحة الثقيلة للمقاومة ...الخ ، وتقزمت المطالب واصبحت مجرد ضمان انسحاب قوات الغزو، من مناطق احتلتها في اطراف الفلوجة ، دون اطلاق نار عليها !!!
اما الهزيمة الثانية فهي : اكتشافه انه وقع في فخ كبير نصب له بدقة واحكام حينما ادرك ان المعركة لا تنحصر في الفلوجة بل تشمل القطر كله ، كيف ذلك ؟ لقد تمركزت القوات الاميركية عند مداخل الفلوجة ومقترباتها واحاطت بها ، وتلك خطوة اساسية في تامين (غزو سهل ) لمدينة صغيرة لكن مقاومتها شرسة ، وكان مفروضا ، حسب الخطة الاميركية ان يبدأ الطرق من الدبابات والمدفعية وغيرها ، ومن الجو بالمقاتلات والسمتيات حتى تستسلم او تنهار مقاومتها بعد يومين او ثلاثة فتدخل قوات الغزو لتمشيط المدينة من(بقايا ) المقاومين . هل حصل ذلك ؟ بالطبع كلا ، وكانت تلك المفاجئة الثانية الكبرى ، فقيادة المقاومة وكما اتضح من سير الاحداث ، وضعت خطتها ليس على اساس قواعد المرحلتين الاولى (اضرب واهرب ) والثانية (اضرب واصمد لساعات او ايام ) ، بل قررت نقل المجابهة مع الاحتلال الى المرحلة الثالثة: اجبار العدو على خوض قتال ( جبهي ) ، اي مباشر بين الجنود الاميركيين والمقاومين يستمر لعدة ايام وربما اسابيع ، يتم خلالها استنزاف العدو على نحو لايتحمله، ويقود الى كشف عقدته الأساسية الخطيرة : (عقدة فيتنام ) ولهذا اصرت المقاومة على الاقترا ب من تمركزات العدو في مداخل المدينة لكي تحقق أولا : التحاماً سريعاً في ذروة المعركة مع جنود العدو لتحييد القصف الجوي ، كما انه ، ثانيا : يتيح الاستخدام الأمثل للهاونات العراقية لالحاق اكبر قدر من الدمار في تجمعات العدو .
وفي اطار هذه الخطة وجدت القوات الاميركية التي دخلت الفلوجة انها لاتواجه مقاومة مدمرة فقط ، بل ادركت ايضا انها دخلت في منطقة قتل (killing zone ) ، تميزت بنيران كثيفة متعددة المصادر وكادت طرق الانسحاب أن تغلق لولا تدخل المقاتلات والسمتيات الاميركية لمساعدتها على الهروب من مناطق القتل . تلك كانت صدمة للجنرالات الاميركيين الذين جاؤا الى الفلوجة لتصفية ( متمردين ) و (ارهابيين ) ربما يعرفون كيفية استخدام الاسلحة الخفيفة لكنهم لايمكن ان يخططوا لمعارك حربية معقدة وخطيرة كتلك التي واجهوها في الفلوجة ، فهي بكل تأكيد تحتاج لخبرة ضباط اركان متمرسين وليس مجرد جنود سابقين او فدائيين .
في معارك الفلوجة خسرت امريكا مئات القتلى ( قدرت باكثرمن1300 قتيل) وعشرات الدبابات والناقلات ، اما قواتها فقد تناثرت واصابها الذعر والفوضى ، عندها اكتشف الغزاة نصف الحقيقة المرة وهي : ان قوات المقاومة العراقية قد نصبت لها فخا قاتلا في الفلوجة ، ولهذا قررت الخروج من الفخ لاعادة تنظيم صفوفها ووضع خطط جديدة لاحتلال الفلوجة ، بعد الحصول على دعم عسكري كبير والحصول على معلومات استخبارية
ظهور النصف الآخر للحقيقة المرة :
لكن النصف الآخر للحقيقة كان ينتظر جنرالات امريكا ، فما ان طلبوا الدعم واخذت قوافل المدرعات والدبابات وناقلاتها تتقدم نحو الفلوجة من مقترباتها حتى وقعت المفاجئة الثانية ، وهي : مهاجمة القوافل وتدمير القسم الأكبر منها وعدم وصول اغلب الغذاء والماء والعتاد ودروع النجدة ، الامر الذي فاقم الذعر والارتباك , وهنا سنذكر بعض الأمثلة لتاكيد حقيقة بارزة اثبتتها وقائع الحرب في الفلوجة ، وهي : ان الدفاع عن الفلوجة والتخطيط لذلك قد قام به ضباط اركان متمرسون ، وهي حقيقة توضح وتحدد طبيعة ومسار الحرب . اول مثال هو ماحصل في ابي غريب واللطيفية والكرمة ، وهي اهم مقتربات الفلوجة ، اذ ان جيش التحرير الوطني للمقاومة قد فتح معارك رئيسية ضخمة في تلك المقتربات دمرت خلالها اغلب قطعات الاسناد الستراتيجي ، من دبابات وسمتيات ومقاتلات وطعام وماء ، بالإضافة لقتل عشرات في كل مقترب ,وبلغت شدة نيران المقاومة حد عجز قوات الغزو عن نجدة قواتها ونقل جرحاها وسحب مادمر من عتادها الحربي ، وكان ذلك احد اهم واجبات قوات الاحتلال لمنع المقاومة من اثبات قدرتها العالية على الحاق خسائر فادحة في صفوفها ، وبسبب هذا العجز الامريكي تسنى للاعلام ان يصور عشرات الدروع الامريكية وهي تحترق والجنود يفرون مذعورين في مشهد لم يرَ العالم مثله منذ حرب فيتنام .
هنا اكتشفت قيادة الاحتلال ان الفخ اكبر من جغرافية الفلوجة ، وان المعركة التي استدرجت لها في الفلوجة قد خطط لها في اطار معركة على امتداد القطرالعراقي كله ، كما لاحظت قيادة الاحتلال ان ثمة حرفية قتالية عالية داخل الفلوجة وخارجها ، الامر الذي اكد لديها ان الذين قاتلوها في الفلوجة ومقترباتها هم (ضباط الحرس الجمهوري) وهو مااكدته القيادة العسكرية الامريكية مضطرة . وخارج نطاق مداخل ومقتربات الفلوجة اتضح وتأكد مرة أخرى وجود تخطيط مركزي وشامل ، ففي الأعظمية في بغداد سحبت قوات الاحتلال الى معركة انموذجية حينما قصف عدد قليل من المقاومين معسكرات الغزو القريبة منها فاندفعت قوات الاحتلال بدروعها نحو الأعظمية وطاردت المقاومين الى داخل الأزقة الضيقة للحي فوقع الغزاة في الفخ المنصوب لهم ، خرجت عدة مجاميع من المقاومة يتراوح عدد كل وحدة منها بين8 و10 مقاومين وسدوا الأحياء من مداخلها ومخارجها وفتحت نيران شديدة عليهم فتناثروا مذعورين ودمرت دبابات وناقلات عديدة وقتل عدد كبير من الاميركان يتراوح بين 20 و 25 جندي امريكي .
وفي كرادة مريم حيث يقع القصر الجمهوري المحتل قامت المقاومة بنفس الوقت مع الفلوجة والأعظمية وابي غريب واللطيفية والكرمة بقصف القصر بمئات قذائف الهاون , وشهدت الموصل وتكريت وسامراء والقائم وحديثة وهيت والرمادي وعانة وكبيسات وبعقوبة وبلد والبصرة وكربلاء والنجف والعمارة والكوت وكل مدينة وقرية عراقية معارك شرسة اذهلت الاحتلال وافقدته توازنه ، وكانت كل هذه المعارك تؤكد على معنى واحد وتبعث برسالة واحدة : ( لقد دخلت حرب التحرير الوطنية العظمى مرحلتها الثالثة ) ، وان الثورة العراقية الظافرة تتحرك وتتقدم وفقا لبرنامج وطني شامل وضعته القيادة المركزية للمقاومة والتحرير،وهذا يعني ، تحديدا ، ان معركة الفلوجة ماهي الا جزء اساسي من معارك ماقبل المرحلة الاخيرة، هدفها الاساس هو جرّ العدو لمعارك كثيرة على امتداد العراق من اجل تشتيت جهده ونشر قواته واجباره على الدخول في معارك تحوله من مبادر يخطط وينفذ خططه ضد الثورة العراقية الى مدافع مرتبك يعجز ، ومهما حاول ، عن تنفيذ خططه .
يتبع ......
salahalmukhtar@hotmail.com
الاثنين 14 ربيع الاول 1425 / 3 آيار 2004
رابط الجزء الاول
دراسة في المضامين والاثار الجيوستراتيجية لمعركة الفلوجة
الجزء الاول
شبكة البصرة
بقلم صلاح المختار
منذ ابتدات معركة الفلوجة تحول النقاش حول مايجري في العراق من محض تداعيات او رغبات ذاتية ( wishful thinking) ، غالبا ، الى ضرب من محاولات تزوير الوقائع ، في اطار المخطط الاميركي لتغيير موضوع التركيز ، وهو تكتيك منهجي معروف من هنا ينبغي البحث في الاطارات العسكرية والسياسية والستراتيجية ا لتي تحكمت في معارك الفلوجة ، ولذلك سنتناول المسائل الاساسية التالية :هل ان المعارك التي اندلعت في القطر من شماله لجنوبه ، ومن شرقه لغربه ، هي مجرد عمليات دعم واسناد ؟ وماهي المضامين الستراتيجية لما جرى ومازال يجري على امتداد العراق ؟ وهل تستبطن العمليات العسكرية اهدافا ستراتيجية متناقضة ؟ للاجابة على هذه الاسئلة وما ستنجبه في سياق البحث من اسئلة نحن مضطرون لتناول ثلاثة محاور اساسية وهي: اولا : تجليات المرحلة الثالثة من حرب التحرير الوطنية ومفاجآتها, وثانيا : المفهوم الجيوبوليتيكي الذي تحكم بالسياسة الاميركية تجاه العراق ، وثالثا ستراتيجية ا لضربة الاستباقية (preemptive strike ) التي تبنتها ادارة جورج بوش الابن عقب احداث 11/9/2001 . ومن المهم هنا ان نذكر ان مناقشة هذه القضايا يخضع لجدل الواقع العراقي الحالي بغض النظر عن الانتماء السياسي والزاماته .
الارتباك الاميركي الفاضح
في يوم 13/4/2004 وقف بوش ليتحدث عما يجري في العراق بعد صمت طويل دفع منافسه جون كيري للسخرية منه لعجزه عن الرد على الاسئلة المتعلقة بتصاعد المقاومة الوطنية العراقية بنسب هندسية مفزعة لادارة بوش ، فماذا قال ؟ ان اهم مالفت الانتباه هو اضطراره للاعتراف ــ و كان يتمنى شرب السم قبل الاعتراف به ــ :( ان عواقب الفشل في العراق سيكون من الصعب تخيلها ) ! وعلى الضفة الاخرى من المحيط وقف حليفه توني بلير ليكرر استعمال لغة الاقرار بالهزيمة حينما قال ان ( التحالف ) يخوض صراعا تاريخيا في العراق ! ماالذي يجري في العراق ويجعل بوش وبلير يطلقان صرخات فزع افصحت ، وبوضوح لم يسبق له مثيل منذ بدأ غزو العراق ، عن حالة تيقن من ان الهزيمة الاميركية قادمة لامحالة ؟
اذا كان مايجري حقا هو مجرد (ارهاب لفلول النظام ) ، كما تعودت آلة الدعاية الغربية ان تقول ، فهل يستأ هل ذلك كل هذا التوجع والصراخ ؟ في اطار هذا الاعتراف سنجد اجابات واضحة تفسر ذلك الهذيان الساذج ، او المتساذج ، حول الاهداف (الحقيقية ) لغزو العراق ، والتي عبر عنها كتاب اميركيون بقول احدهم : ان غزو العراق لاقيمة كبرى له بل هو معبر للوصول الى( المكافئة الكبرى ) وهي السعودية ، او بقول آخر : ان المكافئة الكبرى هي مصر ! هكذا يريدون ممارسة تمويه آخر للتعتيم على الاسباب الكبرى لغزو العراق ، من جهة وابتزاز السعودية ومصر من جهة ثانية .
اذا كان صحيحا ان قيمة العراق متدنية الى هذا الحد فلماذا صرخات ا لتاوه لبوش وبلير ؟ هل المطلوب هو اقناع الراي العام الاميركي بان اميركا قد قامت بواجبها وحان موعد الانسحاب ؟
تجليات المرحلة الثالثة من حرب الشعب
دعونا نحلل الموقف المتشابك ، بل المشبوك عمدا ، ولنبدأ بحقيقة معركة الفلوجة ، واول مايجب التنبيه اليه هو ان المرحلة الثالثة من حرب التحرير الوطنية في العراق قد ابتدات من الفلوجة ، ولهذا نجد ضروريا توضيح هذه الحقيقة ، فحرب التحرير تمر بأربعة مراحل قبل طرد الغزاة ، المرحلة الاولى يلخصها قانون ( اضرب واهرب ) اما المرحلة الثانية فقانونها هو ( اضرب واصمد لساعات او ايام ) ، بعد ذلك تأتي المرحلة الثالثة وقانونها: هو : اشتبك في قتال جبهوي ، اي مباشر و خصوصاً بالسلاح الابيض ، لمدة اسبوع او اكثر ثم انسحب لساعات او ايام ، لتجنب ضربة مميتة ، وهاجم بعد ذلك ، وهكذا تستلم المبادرة وتجبر العدو على الوقوع في فخ استنزاف كثيف لايستطيع تحمله لفترة طويلة ، فتجبره على التفكير الجدي بالتخلي عن اهدافه الحقيقية بعد ان اصبحت الخسائر اكبر من المكاسب ، وفي المرحلة الرابعة يحرم المحتل من دخول مدن رئيسية وعندها يبدأ با لبحث عن وسطاء للتفاوض حول شروط الانسحاب .
من المؤكد ان هذا ا لتقسيم نظري وعام لان وا قع المقاومة المسلحة قد يفرض تداخل مرحلتين ، ولكن الخط العام لحروب التحرير هو هذا . ماذا حصل في الفلوجة ؟ معركة الفلوجة انهت اسبوعها الثالث بعد صمود لم يسبق له مثيل في اي معركة تحرير ، وذلك للاختلال المطلق في موازين القوى بين بضع مئات من المقاتلين العراقيين ، المسلحين بسلاح خفيف ، واعظم واقوى واشرس جيش في العالم ! من المؤكد ان تاريخ الحروب سيسجل بفخر لاحدود له ، مأثرة البطولة الفريدة والاستثنائية لمقاتلي الفلوجة الذين اسقطوا اغلب فرضيات الحرب ببقائهم صامدين ومحتفظين بأعلى المعنويات ،وهذا هو بالضبط مايؤكد ان مخططي المعركة كانوا يريدون اعلان بدء المرحلة الثالثة باقوى واشمل المعارك المتزامنة على امتداد العراق ، فما ان بدأت الفلوجة حتى وجدنا العراق كله يشارك في الثورة المسلحة ضد الاحتلال . صحيح ان الفلوجة قد اجبرت الاحتلال على الخروج منها منذ زمن لكن قواته كانت تدخل وتخرج ، وتضرب فكان مطلوبا ان تبدأ المرحلة الثالثة منها ، وكان الهدف هو اجبار العدو على خوض( حرب انصار) طويلة ومستنزفة لقدراته البشرية والمادية ثم اتباع ذلك بتفجير معارك متزامنة على امتداد العراق كله ، ومنعه من دخول المدينة لأطول وقت ممكن ، واذا دخل فيجب عدم السماح له بتوجيه ضربات مدمرة لكوادر وقواعد المقاومة ، واعتماد المناورة تكتيكا رئيسيا لمنعه من استثمار تفوقه المطلق بقدر الامكان .
لقد نجحت المقاومة في الحاق خسائر باهضة بالعدو واعترف انه خسر في الايام الخمسة الاولى من المعركة 70 فردا، وهذا غير صحيح لأن عددالتوابيت التي وصلت اميركا بلغت اكثر من300 تابوت ، ومن المؤكد ان العدد التقريبي لخسائر العدو لايقل عن الالف وثلاثمائة قتيل في ثلاثة اسابيع ، وهذا بحد ذاته يشكل ضربة مؤلمة جدا للادارة الاميركية ، كما ان ذلك مدمر لاحدود له لمعنويات الجنود ، ومن المؤكد ان الشعور الاميركي بالهزيمة بلغ الوضوح الكامل ، فنحن هنا نتعامل مع هزيمتين مترابطتين ، الهزيمة الاولى هي : فشله التام في الحاق الهزيمة ببضع مئات من المقاومين ، رغم استخدامه القوة القصوى (MAXIMUM FORCE) في اعلى اشكالها واشدها دموية ، وكان اوضح تعبيرات الهزيمة هو اضطرار قوات الغزو للتفاوض مع من اعتبرتهم ( ارهابيين ) و ( متمردين ) ، من موقع المهزوم ، لذلك تنازلت عن مطالبها الأصلية ، ومنها تسليم من وصفتهم ب( المجرمين ) الذين مثلوا بجثث المرتزقةالقتلى ، وتسليم افراد الشرطة الوطنيين الذين قادوا المرتزقة الى منطقة قتل ، وتسليم الأسلحة الثقيلة للمقاومة ...الخ ، وتقزمت المطالب واصبحت مجرد ضمان انسحاب قوات الغزو، من مناطق احتلتها في اطراف الفلوجة ، دون اطلاق نار عليها !!!
اما الهزيمة الثانية فهي : اكتشافه انه وقع في فخ كبير نصب له بدقة واحكام حينما ادرك ان المعركة لا تنحصر في الفلوجة بل تشمل القطر كله ، كيف ذلك ؟ لقد تمركزت القوات الاميركية عند مداخل الفلوجة ومقترباتها واحاطت بها ، وتلك خطوة اساسية في تامين (غزو سهل ) لمدينة صغيرة لكن مقاومتها شرسة ، وكان مفروضا ، حسب الخطة الاميركية ان يبدأ الطرق من الدبابات والمدفعية وغيرها ، ومن الجو بالمقاتلات والسمتيات حتى تستسلم او تنهار مقاومتها بعد يومين او ثلاثة فتدخل قوات الغزو لتمشيط المدينة من(بقايا ) المقاومين . هل حصل ذلك ؟ بالطبع كلا ، وكانت تلك المفاجئة الثانية الكبرى ، فقيادة المقاومة وكما اتضح من سير الاحداث ، وضعت خطتها ليس على اساس قواعد المرحلتين الاولى (اضرب واهرب ) والثانية (اضرب واصمد لساعات او ايام ) ، بل قررت نقل المجابهة مع الاحتلال الى المرحلة الثالثة: اجبار العدو على خوض قتال ( جبهي ) ، اي مباشر بين الجنود الاميركيين والمقاومين يستمر لعدة ايام وربما اسابيع ، يتم خلالها استنزاف العدو على نحو لايتحمله، ويقود الى كشف عقدته الأساسية الخطيرة : (عقدة فيتنام ) ولهذا اصرت المقاومة على الاقترا ب من تمركزات العدو في مداخل المدينة لكي تحقق أولا : التحاماً سريعاً في ذروة المعركة مع جنود العدو لتحييد القصف الجوي ، كما انه ، ثانيا : يتيح الاستخدام الأمثل للهاونات العراقية لالحاق اكبر قدر من الدمار في تجمعات العدو .
وفي اطار هذه الخطة وجدت القوات الاميركية التي دخلت الفلوجة انها لاتواجه مقاومة مدمرة فقط ، بل ادركت ايضا انها دخلت في منطقة قتل (killing zone ) ، تميزت بنيران كثيفة متعددة المصادر وكادت طرق الانسحاب أن تغلق لولا تدخل المقاتلات والسمتيات الاميركية لمساعدتها على الهروب من مناطق القتل . تلك كانت صدمة للجنرالات الاميركيين الذين جاؤا الى الفلوجة لتصفية ( متمردين ) و (ارهابيين ) ربما يعرفون كيفية استخدام الاسلحة الخفيفة لكنهم لايمكن ان يخططوا لمعارك حربية معقدة وخطيرة كتلك التي واجهوها في الفلوجة ، فهي بكل تأكيد تحتاج لخبرة ضباط اركان متمرسين وليس مجرد جنود سابقين او فدائيين .
في معارك الفلوجة خسرت امريكا مئات القتلى ( قدرت باكثرمن1300 قتيل) وعشرات الدبابات والناقلات ، اما قواتها فقد تناثرت واصابها الذعر والفوضى ، عندها اكتشف الغزاة نصف الحقيقة المرة وهي : ان قوات المقاومة العراقية قد نصبت لها فخا قاتلا في الفلوجة ، ولهذا قررت الخروج من الفخ لاعادة تنظيم صفوفها ووضع خطط جديدة لاحتلال الفلوجة ، بعد الحصول على دعم عسكري كبير والحصول على معلومات استخبارية
ظهور النصف الآخر للحقيقة المرة :
لكن النصف الآخر للحقيقة كان ينتظر جنرالات امريكا ، فما ان طلبوا الدعم واخذت قوافل المدرعات والدبابات وناقلاتها تتقدم نحو الفلوجة من مقترباتها حتى وقعت المفاجئة الثانية ، وهي : مهاجمة القوافل وتدمير القسم الأكبر منها وعدم وصول اغلب الغذاء والماء والعتاد ودروع النجدة ، الامر الذي فاقم الذعر والارتباك , وهنا سنذكر بعض الأمثلة لتاكيد حقيقة بارزة اثبتتها وقائع الحرب في الفلوجة ، وهي : ان الدفاع عن الفلوجة والتخطيط لذلك قد قام به ضباط اركان متمرسون ، وهي حقيقة توضح وتحدد طبيعة ومسار الحرب . اول مثال هو ماحصل في ابي غريب واللطيفية والكرمة ، وهي اهم مقتربات الفلوجة ، اذ ان جيش التحرير الوطني للمقاومة قد فتح معارك رئيسية ضخمة في تلك المقتربات دمرت خلالها اغلب قطعات الاسناد الستراتيجي ، من دبابات وسمتيات ومقاتلات وطعام وماء ، بالإضافة لقتل عشرات في كل مقترب ,وبلغت شدة نيران المقاومة حد عجز قوات الغزو عن نجدة قواتها ونقل جرحاها وسحب مادمر من عتادها الحربي ، وكان ذلك احد اهم واجبات قوات الاحتلال لمنع المقاومة من اثبات قدرتها العالية على الحاق خسائر فادحة في صفوفها ، وبسبب هذا العجز الامريكي تسنى للاعلام ان يصور عشرات الدروع الامريكية وهي تحترق والجنود يفرون مذعورين في مشهد لم يرَ العالم مثله منذ حرب فيتنام .
هنا اكتشفت قيادة الاحتلال ان الفخ اكبر من جغرافية الفلوجة ، وان المعركة التي استدرجت لها في الفلوجة قد خطط لها في اطار معركة على امتداد القطرالعراقي كله ، كما لاحظت قيادة الاحتلال ان ثمة حرفية قتالية عالية داخل الفلوجة وخارجها ، الامر الذي اكد لديها ان الذين قاتلوها في الفلوجة ومقترباتها هم (ضباط الحرس الجمهوري) وهو مااكدته القيادة العسكرية الامريكية مضطرة . وخارج نطاق مداخل ومقتربات الفلوجة اتضح وتأكد مرة أخرى وجود تخطيط مركزي وشامل ، ففي الأعظمية في بغداد سحبت قوات الاحتلال الى معركة انموذجية حينما قصف عدد قليل من المقاومين معسكرات الغزو القريبة منها فاندفعت قوات الاحتلال بدروعها نحو الأعظمية وطاردت المقاومين الى داخل الأزقة الضيقة للحي فوقع الغزاة في الفخ المنصوب لهم ، خرجت عدة مجاميع من المقاومة يتراوح عدد كل وحدة منها بين8 و10 مقاومين وسدوا الأحياء من مداخلها ومخارجها وفتحت نيران شديدة عليهم فتناثروا مذعورين ودمرت دبابات وناقلات عديدة وقتل عدد كبير من الاميركان يتراوح بين 20 و 25 جندي امريكي .
وفي كرادة مريم حيث يقع القصر الجمهوري المحتل قامت المقاومة بنفس الوقت مع الفلوجة والأعظمية وابي غريب واللطيفية والكرمة بقصف القصر بمئات قذائف الهاون , وشهدت الموصل وتكريت وسامراء والقائم وحديثة وهيت والرمادي وعانة وكبيسات وبعقوبة وبلد والبصرة وكربلاء والنجف والعمارة والكوت وكل مدينة وقرية عراقية معارك شرسة اذهلت الاحتلال وافقدته توازنه ، وكانت كل هذه المعارك تؤكد على معنى واحد وتبعث برسالة واحدة : ( لقد دخلت حرب التحرير الوطنية العظمى مرحلتها الثالثة ) ، وان الثورة العراقية الظافرة تتحرك وتتقدم وفقا لبرنامج وطني شامل وضعته القيادة المركزية للمقاومة والتحرير،وهذا يعني ، تحديدا ، ان معركة الفلوجة ماهي الا جزء اساسي من معارك ماقبل المرحلة الاخيرة، هدفها الاساس هو جرّ العدو لمعارك كثيرة على امتداد العراق من اجل تشتيت جهده ونشر قواته واجباره على الدخول في معارك تحوله من مبادر يخطط وينفذ خططه ضد الثورة العراقية الى مدافع مرتبك يعجز ، ومهما حاول ، عن تنفيذ خططه .
يتبع ......
salahalmukhtar@hotmail.com
الاثنين 14 ربيع الاول 1425 / 3 آيار 2004
رابط الجزء الاول