المهند
12-12-2004, 08:32 AM
أمير المؤمنين يزيد بن معاوية .. الصورة الحقيقية ، لثاني خلفاء بني أمية
مقدمة:
لم تتعرض شخصية من الشخصيات البارزة في تاريخ الامة الاسلامية لما تعرَّضت له شخصية أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ـ رحمه الله تعالى ـ من طعن وتشويه على يد أعداء الامة الحاقدين ، وفي مقدمتهم الشيعة الرافضة وأغلبهم من زنادقة المجوس الذين تظاهروا بالاسلام وأبطنوا الكفر وانتحلوا حبّ عليّ وبعض أبنائه، وسعَوا إلى هدم الاسلام من داخله بوسائل شتى ، كان منها إثارة الفتن ، وترويج الاشاعات الكاذبة ، والطعن في الشخصيات الاسلامية التي لعبت دورا بارزا في تاريخ الامة ، ليطعنوا من وراء ذلك بالاسلام ذاته ، ويشوهوا صورته ، ويوحوا بأنّ أمة الإسلام لم تنضبط بتعاليمه وأخلاقه في جيل من الأجيال أو في عصر من العصور ، ليصلوا بعدها إلى القول بأنَّ الاسلام كان مشروعا بشريا فاشلا للإصلاح أو أنه في أحسن الأحوال ، دين مثاليٌّ غير قابل للتطبيق ، وعندها يقدِّمون رافضيتهم المجوسية التي تلبَس لَبوس "الاسلام" وتتمسَّح بـ " آل البيت" باعتبارها البديل العملي عن الإسلام المثالي ، إسلام الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح !!
وقد اختلق هؤلاء المجرمون سيلا من الروايات الساقطة والقصص السخيفة والحكايات المنحطة التي نَسَبت كذبا وافتراءً إلى سلف الامة ما نسبت ، وقد طالت حملة التشويه والإفتراء المجوسية هذه جميعَ الشخصيات البارزة في تاريخ الامة ، وكان يزيد بن معاوية رحمه الله ، من أكبر ضحايا تلك الحَملة المسعورة .
وتسرّب كثير من روايات الدسِّ والطعن في يزيد مع ما تسرَّب من روايات ٍ ساقطة وقصص وحكايات إلى امهات كتب التاريخ والتفسير . ومن المعروف أنَّ تاريخ بني أمية إنما كُتِب في عهد بني العباس ، وقد استغل الشعوبيون والزنادقة المجوس خصومة بني العباس السياسية لبني أمية أيما استغلال ، إذ وجدوا في عهدهم تربة مناسبة لترويج كذبهم وافتراءاتهم على بني أمية وعلى يزيد منهم بصورة خاصة ، وذلك لأسباب لا تخفى على اللبيب الأريب ، وكانوا إلى هذا يتحركون بحرية تامة دون أن يخافوا من بطش السلطة الحاكمة، ومن العقاب !
ولعلَّ أشدَّ ما يأسف له المسلم الغيور على دينه أن يجد بعضَ المؤرخين من أهل السنة قد أخذوا من هذه الروايات الباطلة وأدرجوها في كتبهم دون تمحيص دقيق ولا تحقيق ، كما فعل ابن كثير في البداية و النهاية ، وابن الأثير في الكامل ، وابن خلدون في العبر ، والذهبي في تاريخ الإسلام ، وغيرهم ... ولا نريد هنا أن نخوض في الاسباب التي جعلتهم يروون هذا الطعن عن بعض غلاة الشيعة الحاقدين من أمثال أبي مخنف والواقدي وابن الكلبي وغيرهم من الفسّاق ، ويتساهلون في قبول تلك الروايات الخبيثة التي أحدثت فجوة كبيرة بين الخلف والسلف ، وكان لها لاريب اثر خطير على بناء أجيال تخجَل من تاريخها ، وترتاب في صلاحية دينها دين الاسلام ، وشكَّـل ذلك فيما بعد ثغرة ًعظيمة نفذ منها إلى قلب الامة أعداءُ الاسلام !! فهل يتنبه أهل العلم من غفلتهم ، ويصحون من سُباتهم ، ويعملون على تنقيح التراث وتطهيره مما تسرَّب إليه من سموم الأعداء ؟!
ولست أنكر أنّ هناك بداية صحوة ، وأنَّ هناك محاولات في هذا الإتجاه... ولكنها لا زالت محاولات فردية ، ولا زالت الجهود المبذولة دون المستوى المطلوب ! ولعلّ هذه المشاركة التي تُسقِط روايات المبطلين من المنافقين ، وتدحض حجج المغرِضين من أعداء الدين ، لعلّ هذه المشاركة تُنصِف أمير المؤمنين يزيد ، وتردُّ إليه اعتباره في عيون المضَلَّلين ، وتساهم بقدر ولو بسيط ، في عملية التنقيح والتطهير والتصحيح .
جوانب من سيرة يزيد قبل توليه الخلافة:
لم يكن يزيد بن معاوية – رحمه الله – بذلك الشاب المدلَّل ، العابث اللاهي ، كما تصوره لنا الروايات التاريخية الساقطة بل كان على خلاف ذلك تماما!
و لنقف قليلاً ، على بعض سيرته قبل أن يرشحه والده معاوية رضي الله عنه لولاية العهد ، لنعلم ما هي الحال التي كان عليها قبل توليه الخلافة ، و مدى صدق الروايات التي جاءت تذم يزيد وتصفه بأبشع الأوصاف .
أم يزيد بن معاوية هي ميسون بنت بحدل الكلبية ، كانت من الأعراب ، و كانت من نسب حسيب ، و منها رزق معاوية بابنه يزيد . و كان رحمه الله وحيد أبيه ، فأحب معاوية رضي الله عنه أن يشب يزيد على حياة الشدة والفصاحة فألحقه بأهل أمه ليتربى على فنون الفروسية ، و يتحلى بشمائل النخوة و الشهامة والكرم و المروءة ، إذ كان البدو أشدَّ تعلقاً بهذه التقاليد .
كما أجبر معاوية رضي الله عنه ولدَه يزيد على الإقامة في البادية ، و ذلك لكي يكتسب قدراً كبيراً من الفصاحة في اللغة ، كما هو حال العرب في ذلك الوقت .
وعندما رجع يزيد من البادية ، نشأ و تربى تحت إشراف والده ، و نحن نعلم أن معاوية رضي الله عنه كان من رواة الحديث فروى يزيد بعد ذلك عن والده هذه الأحاديث و بعض أخبار أهل العلم . مثل حديث : " من يرد الله به خيراً يفقه في الدين" ، و حديث آخر في الوضوء ، و روى عنه ابنه خالد وعبد الملك بن مروان ، وقد عده أبوزرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة ، و هي الطبقة العليا .
و قد اختار معاوية دَغْفَل بن حنظلة السدوسي الشيباني (ت65هـ) ، مؤدباً لولده يزيد ، و كان دغفل علامة بأنساب العرب ، و خاصة نسب قريش ، و كذلك عارفاً بآداب اللغة العربية .
هذه بعض الجوانب من سيرة يزيد رحمه الله ، وغفر له ، قبل توليه منصب الخلافة ، و قبل أن يوليه والده ولاية العهد من بعده . يظهر منها جليّا واضحا ً حرصُ سيدنا معاوية رضي الله عنه منذ البداية على إعداد ولده يزيد ، و تنشئته التنشئة الصحيحة ، ليشبَّ عليها عندما يكبر.
وبالإضافة إلى ما سبق أن أوردناه عن الجهود التي بذلها معاوية في تنشئة وتأديب يزيد ، نجد روايات في مصادرنا التاريخية تساعدنا على دحض الروايات الساقطة التي نَسَبت كذبا وافتراءً إلى يزيد ما نسبت ، زاعمة ً أن يزيد بن معاوية كان شاباً لاهياً عابثاً ، مغرماً بالصيد و شرب الخمر ، و تربية الفهود والقرود ، و الكلاب … الخ !!تلك الروايات التي اختلقها أعداء بني أمية وخاصة منهم الرافضة المجوس الزنادقة ، وتسرّب كثير منها مع ما تسرَّب من روايات ساقطة وقصص منحطة وحكايات تافهة إلى كتب التاريخ والتفسير ، مثل :
[نسب قريش لمصعب الزبيري ؛ (ص127)] و [كتاب الإمامة والسياسة المنحول! لابن قتيبة ؛ (1/163)] و [ تاريخ اليعقوبي ؛ (2/220)] و [ كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي ؛ (5/17)]
و [ مروج الذهب للمسعودي ؛ (3/77)] .
ومن أراد أن يطلع على المزيد من تلك الافتراءات الخبيثة ، فليرجع إلى كتاب: [ صورة يزيد بن معاوية في الروايات الأدبية ـ فريال بنت عبد الله ؛ (ص 86- 122 )] .
ـ شهادة محمد بن علي بن أبي طالب - المعروف بابن الحنفية ـ
فيروي البلاذري أن محمد بن علي بن أبي طالب - المعروف بابن الحنفية - دخل يوماً على يزيد بن معاوية بدمشق ليودعه بعد أن قضى عنده فترة من الوقت ، فقال له يزيد ، و كان له مُكرماً : يا أبا القاسم ، إن كنتَ رأيتَ مني خُلُقاً تنكره نَزَعت عنه ، و أتيت الذي تُشير به علي ؟ فقال : والله لو رأيت منكراً ما وسعني إلاّ أن أنهاك عنه ، وأخبرك بالحق لله فيه ، لِما أخذ الله على أهل العلم عن أن يبينوه للناس ولا يكتموه ، وما رأيت منك إلاّ خيراً . [أنساب الأشراف للبلاذري ؛ (5/17)] .
و يروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع - كان داعية لابن الزبير - مشى من المدينة هو وأصحابه إلى محمد ابن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم ، فقال ابن مطيع : إنَّ يزيد يشرب الخمر و يترك الصلاة و يتعدى حكم الكتاب ، فقال محمد: ما رأيتُ منه ما تذكرون ، قد حضرته وأقمت عنده ، فرأيته مواظباً على الصلاة ، متحرياً للخير ، يسأل عن الفقه ، ملازماً للسنة ، قالوا: ذلك كان منه تصنعاً لك ، قال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يُظهر لي الخشوع ؟! ثم أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر ؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه ، و إن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا ، قالوا : إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه! فقال لهم : أبى الله ذلك على أهل الشهادة ، و لست من أمركم في شيء .
[البداية و النهاية ؛ (8/233) ] و [ تاريخ الإسلام – حوادث سنة 61-80هـ – (ص274) ] . و قد حسّن الأخ محمد الشيباني إسناده ، انظر: [مواقف المعارضة من خلافة يزيد بن معاوية (ص384)].
وقيمة شهادة ابن الحنفية هذه لا تكمن فقط في أنها شهادة عدل صدرت عن تابعي جليل ، بل تنبع كذلك من كونها صدرت ممن قاتل معاوية َ مع أبيه أي مع علي رضي الله عن الجميع ، فأحرى به أن يكون عدواً له كارهاً لملكه وولده . ولا يتهمه بالتحيّز في هذا إلى يزيد ومحاباتِه إلا ّ جاهل ضالّ ، أو زنديق لئيم حاقد .
فشهادة ابن الحنفية هي لاريب شهادة عدل قوية تكذّب ما افترَوهوا على يزيد من تناول للمسكر ، ومباشرة للمنكرات ، وغير ذلك مما يقدح بمروءة الإنسان مما رواه أبو مخنف وأمثاله من الرواة الكذابين الغالين ممن ينطبق عليهم لفظ الفاسق ، فهذا وأمثاله من الفسّاق لا ُيقبَل لهم قول خاصة إذا كان فيه طعن في أحد من المسلمين ، فما بالك إذا كان هذا المطعون فيه وفي دينه هو خليفة المسلمين وإمامهم ؟!
وقد رأينا فيما مضى نماذج من هذا الطعن والإفتراء !
ـ شهادة ابن العباس في يزيد
وهناك قول مشابه لابن عباس رضي الله عنه ، يثبت فيه أن يزيد براء مما افترى ولا يزال يفتري عليه المفترون ، وهو أنه لما قدم ابن عباس وافداً على معاوية رضي الله عنه ، أمر معاوية ابنه يزيد أن يأتيه – أي أن يأتي ابن عباس - ، فأتاه في منزله ، فرحب به ابن عباس وحدثه ، فلما خرج ، قال ابن عباس : " إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس".
[البداية والنهاية ؛ (8/228-229) ] و [ تاريخ دمشق ؛ (65/403-404) ].
ـ شهادة الليث بن سعد في يزيد
ثم إنّ نسبة ما نُسِبَ من منكر إلى يزيد لا يحل إلا بشاهدين ، فمن شهد بذلك ؟ وقد شهد العدل بعدالته ، روى يحيى بن بكير عن الليث بن سعد ( توفي 147هـ ) قال ، قال الليث : " توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا " ، فسماه الليثُ أمير المؤمنين بعد ذهاب ملك بني أمية وانقراض دولتهم ، ولولا كونه عنده كذلك لما قال إلا : " توفي يزيد " .
[العواصم من القواصم (ص232-234) ].
ـ شاهد آخر قوي على عدالة يزيد
كما إنّ مجرد موافقة عدد من كبار الشخصيات الإسلامية ، من أمثال عبد الله بن الزبير ، وعبد الله ابن عباس ، وابن عمر ، وأبو أيوب الأنصاري ، على مصاحبة جيش يزيد في سيره نحو القسطنطينية ، فيها خير دليل على أنَّ يزيد كان يتميز بالاستقامة ، و تتوفر فيه كثير من الصفات الحميدة ، ويتمتع بالكفاءة والمقدرة لتأدية ما يوكل إليه من مهمات ؛ وإلا لما وافق أمثال هؤلاء الأفاضل من الصحابة أن يتولى قيادتهم شخص مثل يزيد .
ـ منقَبة ليزيد بن معاوية :
أخرج البخاري عن خالد بن مَعْدان أن عُمَير بن الأسود العَـنَسي حدثه أنه أتى عُبادة بن الصامت و هو نازل في ساحة حِمص وهو في بناء له ومعه أم حَرام ، قال عُمير : فحدثتنا أم حَرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أول جيش من أمتي يغزُونَ البحرَ قد أَوجَبوا " ، فقالت أمُّ حرام : قلت يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال : أنت فيهم . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم "أول جيش من أمتي يغزُون مدينة قَيْصرَ مغفورٌ لهم" ، فقلت : أنا فيهم قال : لا .
وَقَدْ حَدَّثَ عن أمِّ حرام أَنَس رضي الله عنهما هَذَا الْحَدِيث أَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ ، وَأَخْرَجَ الْحَسَنُ بْن سُفْيَان هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ هِشَام بْن عَمَّار عَنْ يَحْيَى بْن حَمْزَة بِسَنَدِ الْبُخَارِيّ وَزَادَ فِي آخِرِهِ " قَالَ هِشَام رَأَيْت قَبْرَهَا بِالسَّاحِلِ " .
وقَوْله : ( يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَر ) يَعْنِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة .
وَقَوْله : ( قَدْ أَوْجَبُوا) أَيْ فَعَلُوا فِعْلًا وَجَبَتْ لَهُمْ بِهِ الْجَنَّة .
قَالَ الْمُهَلَّب : فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَة لِمُعَاوِيَة لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ ، وَمَنْقَبَةٌ لِوَلَدِهِ يَزِيد لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا مَدِينَةَ قَيْصَرَ .[البخاري مع الفتح ] .
فتحرك الجيش نحو القسطنطينية بقيادة بسر بن أرطأ رضي الله عنه عام خمسين من الهجرة ، فاشتد الأمر على المسلمين فأرسل بسر يطلب المَدد من معاوية فجهز معاوية جيشاً بقيادة ولده يزيد ، فكان في هذا الجيش كلٌ من أبو أيوب الأنصاري ، وعبد الله بن عمر ، وابن الزبير ، وابن عباس ، وجمعٌ غفير من الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين .
وقد علّق على هذا الحديث ِ الشيخُ ابو اليسر عابدين رحمه الله ، مفتي سوريا السابق ، عام 1954 في كتابه (أغاليط المؤرخين) فقال: اما يكفيه ( أي يزيد ) فخرا ما ذكره في الجامع الصغير برمز البخاري عن ام حرام بنت ملحان ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اول جيش من امتي يركبون البحر فقد اوجبوا وأول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم. و كلا الوصفين ثبتا ليزبد بن معاوية رضي الله عنه.
[ أغاليط المؤرخين ؛ ص 124]
على ضوء ما سبق بيانه من حال يزيد الحقيقية نستطيع أن نرد جميع الروايات الساقطة والأقوال المريبة التي لم تثبت صحتها وإن وجدت في امهات كتب التفسير والتاريخ ، فهذه فيها الغث وفيها السمين ، وكذلك نرد ما قاله الذهبي في [ سير أعلام النبلاء ؛ (4/36)] عن يزيد بأنه " كان ناصبياً فظاً غليظاً جلفاً متناول المسكر و يفعل المنكر" . فقد أخطأ الذهبي هنا لاريب خطأ كبيرا، وعلى كلٍّ فهذا قول ، و كلٌ يؤخذ من كلامه و يرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تولي يزيد منصب ولاية العهد بعد أبيه:
بدأ معاوية رضي الله عنه يفكر فيمن يكون الخليفة من بعده فقد كان يخشى أن تعود الفتنة من بعده مرة أخرى إن مات ولم يستخلف . فلما استشار أهل الشام في الأمر اقترحوا أن يكون الخليفة من بعده من بني أمية ، فرشح ابنه يزيد وأرسل إلى الأمصار بذلك فجاءت الموافقة من مصر و باقي البلاد ، وحين أرسل إلى المدينة يستشيرها وجد معارضة ً من الحسين وابن الزبير ، ومن ابن عمر وابن عباس وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وكان اعتراضهم ابتداءً على تطبيق الفكرة ذاتها ، لا على يزيد بعينه .
انظر : [ تاريخ الإسلام للذهبي – عهد الخلفاء الراشدين – (ص147-152)] و [ سير أعلام النبلاء ؛ (3/186)] و [ الطبري ؛ (5/303)] و [ تاريخ خليفة ؛ (ص213)] .
و تجدر الإشارة هنا إلى أن المؤرخين والمفكرين المسلمين قد وقفوا فيما بعد حيال هذه الفكرة مواقف شتى ، فمنهم المعارض ، و منهم المؤيد ، و كانت حجة الفريق المعارض تعتمد على ما ورد من روايات مفتراة ساقطة، نسبت إلى يزيد رحمه الله ما نسبته من منكر وعبث وفجور ، واستند هؤلاء إلى تلك الروايات ليقطعوا بعدم صلاحية يزيد للخلافة ، دون أن يقدّموا على ذلك أيَّ دليل أو برهان ... وقد بيَّنا بطلان مانُسِب إلى يزيد من هذه الإفتراءات .
ويذهب ببعض المؤرخين الخيال أوالهوى في حكمهم على الأمر بعيدا ، فَيرَون أن معاوية ـ رضي الله عنه ـ لم يبايع لولده يزيد بولاية العهد ، إلاّ مدفوعاً بعاطفة الأبوة .
أنظر كتاب: [ موسوعة التاريخ الإسلامي لأحمد شلبي ؛ (2/46-47 ، 51 )] .
وقد ردّ العلماء على اعتراضات هؤلاء حول صلاحية يزيد لهذا الأمر وأبطلوا مزاعمهم وأوهامهم ، وفيما يلي نقدّم بعضا من تلك الردود .
ردود العلماء على من شكك في أهلية يزيد للخلافة:
ـ رد الأستاذ محب الدين الخطيب
ويعقِّب الأستاذ محب الدين الخطيب على من شكّك في أهلية يزيد للخلافة فيقول:
" إن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ ( أي يزيد ) مبلغ أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما وأرضاهما ـ في مجموع سجاياهما ، فهذا ما لم يبلغه في تاريخ الإسلام أحد ٌ ، ولا حتى عمر بن عبد العزيز ، وإن طمعنا بالمستحيل وقدَّرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر وعمر آخر ، فلن تُتاح له بيئة كالبيئة التي أتاحها الله لأبي بكر وعمر .. وإن كان مقياس الأهلية ، الاستقامة في السيرة ، و القيام بحرمة الشريعة ، والعمل بأحكامها ، و العدل في الناس ، و النظر في مصالحهم ، والجهاد في عدوهم ، وتوسيع الآفاق لدعوتهم ، والرفق بأفرادهم و جماعاتهم ، فإن يزيد يوم تُمحَّص أخباره ، و يقف الناسُ على حقيقة حالِه كما كان في حياته ، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم ، و أجزل الثناء عليهم .
[حاشية العواصم من القواصم لابن العربي ؛ (ص221) ].
وإننا لنجد أيضاً في كلمات معاوية نفسِه ما يدل على أن دافعه في العهد بالخلافة إلى ولده إنما هو النفع للصالح العام و ليس الخاص ، فقد ورد على لسانه قوله:
" اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لِما رأيتُ من فضله ، فبلِّغه ما أمِلتُ وأعنه ، وإن كنت إنما حملني حبّ الوالد لولده ، وأنه ليس لما صنعت به أهلاً ، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك ".
[ تاريخ الإسلام للذهبي – عهد معاوية بن أبي سفيان – ؛ (ص169)] و [ خطط الشام لمحمد كرد علي ؛ (1/137)] .
و يتبين من خلال دراسة هذه الفكرة – أي فكرة تولية يزيد ولاية العهد من بعد أبيه - ، أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كان محقاً فيما ذهب إليه ، إذ أنه باختياره لابنه يزيد لولاية العهد من بعده ، قد ضمن للأمة الإسلامية وحدتها ، و حفظ لها استقرارها ، و جنَّبها حدوث أية صراعات على مثل هذا المنصب .
ـ دفاع ابن العربي
و قد اعترف بمزايا خطوة معاوية هذه ابن العربي ، أنظر: [العواصم من القواصم ؛ (ص228-229 ) ].
ـ دفاع ابن خلدون
وكذلك اعترف بها ابن خلدون الذي كان أقوى حجة ً، إذا يقول:
" والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه ، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس ، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه - وهم حينئذ من بني أمية - " ، ثم يضيف قائلاً : " وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا ، فعدالته و صحبته مانعة من سوى ذلك ، و حضور أكابر الصحابة لذلك ، وسكوتهم عنه ، دليل على انتفاء الريب منه ، فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة ، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم - كلهم - أجلّ من ذلك ، و عدالتهم مانعة منه ".
[المقدمة لابن خلدون ؛ (ص210-211) ].
و يقول ابن خلدون في موضع آخر: " عهد معاوية إلى يزيد ، خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم ، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه ...".
[ المقدمة ؛ (ص206) ].
يتبين مما سبق من أقوال من سبق ذكرهم من أعلام الأمة أنّ معاوية رضي الله عنه قد رأى في ابنه صلاحاً لولاية خلافة الإسلام بعده ، وهو لا ريب أعلم الناس بخفاياه ، و لو لم يكن عنده مَرْضياً لما اختاره فمعاوية صحابي جليل ، ولا يُظنُّ به إلاّ خيرا ، كما قال العلاّمة ابن خلدون ، فالصحابة كلُّهم عدول ، لا ريب عندنا في ذلك .. نعم هم جميعهم عدول وإن رغمت أنوف زنادقة المجوس الرافضة ، وغيرهم من أعداء الإسلام.
ولا يسعني بعد هذا إلا ّ أن أشير إلى ما أورده ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم من رأي لأحد أفاضل الصحابة في هذا الموضوع ، إذ يقول :
" دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استُخلِف يزيد بن معاوية ، فقال: أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد ، لا أفقهَها فيها فقهاً ، ولا أعظمَها فيها شرفاً ؟ قلنا : نعم ، قال : وأنا أقول ذلك ، ولكن والله لئن تجتمع أمة محمد أحب إلىّ من أن تفترق ".
[العواصم من القواصم ؛ (ص231) ].
فبيعة يزيد إذن مع وجود من هو أفضل منه كانت تعني فيما تعنيه وحدة َ الصف ، واجتماعَ الكلمة ، والأمنَ والإستقرار ... الخ وهذا ما يقدِّمه لمنصب الخلافة على غيره ممن هو خيرٌ وأعظمُ شرفا ً وأفقَه منه ، إذا لم تجتمع الامة بل كانت ستتفرّق عليه. وهذا لا ريب يُظهر الحكمة البالغة في استخلاف معاوية ليزيد مع وجود العبادلة الأربعة والحسين وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عن الجميع ، كما يدلُّ على بعد نظر شديد ، وفراسة حادة ، وقبل ذلك كلّه يدلُّ على فقه لسيدنا معاوية سياسيٍّ عظيم ، رضي الله عنه وأرضاه .
على ضوء ماتقدّم بيانه ومااتضَّح مما كان خافيا على الكثيرين ندرك الآن لماذا تمسك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ببيعة يزيد تمسكا شديدا ، كما سنرى فيما يلي ، وحَرِص على ألاّ يشذ ّ أحدٌ من أهله عن ذلك ، وخالف من خرج على يزيد من أهل المدينة ، فقد بايعه يوم أن عُهِد إليه بالخلافة بيعة ً صحيحة على كتاب الله وسنة رسوله .. بايعه بيعة ً لم يَصدر منه ما يوجب شرعا ً نقضَها ، وهذا كذلك يدحض جميع الدعاوى الباطلة ويسقط جميع الإفتراءات الكاذبة التي أراد بها أعداء الأمَّة أن يشوّهوا إثما وبهتانا صورة خليفة من خلفاء المسلمين ، وتابعيّ ٍ وابن صحابيٍّ جليل ، إثارة ً للفتنة وتفريقا ً للصف وتمزيقا ً لأمة المسلمين .
ولم يكن موقف ابن ِ عمر مِن يزيد موقفا تفرّدَ به ، بل شاركه فيه عدد غير قليل من الصحابة ، وكذلك جميع أهل البيت الذين كانت تربطهم بيزيد علاقات ودية طيبة كما سنرى فيما بعد .
فقد نقل الامام البخاري في كتابه الفتن أنَّ اهل المدينة لما أرادوا خلع يزيد جمَع عبدُ الله بن عمر رضي الله عنهما حشمه وولده و قال لهم سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" يُنصَب لكل غادر لواء يوم القيامة . وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله واني لا اعلم أحدا منكم خلعه ، ولا بايع في هذا الامر ، الا كانت الفيصل بيني وبينه .
وهل يُتصوَّر بعد هذا البيان أيضاً صِحة َ ما زعم الكذابون ، من أن معاوية رضي الله عنه كان غير راض عن لهو يزيد وفسقه ، و شربه ، وأنه أكثر من نصحه فلم ينتصح ، فقال – لما يئس من استجابته - : إذاً عليك بالليل ، استتر به عن عيون الناس ، و إني منشدك أبياتاً ، فتأدب بها و احفظها ، فأنشده :
انصب نهاراً في طلاب العلا * واصبر على هجر الحبيب القريب
حتى إذا الليل أتى بالدجى * واكتحلت بالغمض عين الرقيب
فباشر الليل بما تشتهي * فإنما الليل نهار الأريب
كم فاسق تحسبه ناسكاً * قد باشر الليل بأمر عجيب
غطى عليه الليل أستاره فبات في أمن و عيش خصيب
و لذة لأحمق مكشوفة * يشفي بها كل عدو غريب
هكذا زعم الكذابون ، و لكن فضحهم الله ، فهذه الأبيات لم يقلها معاوية رضي الله عنه ، حاشاه أن يفعل ذلك وهو صحابي جليل وسيد عظيم من سادة الأمة ، والصحابة جميعهم عدول . بل إنّ مثل ذلك لا يُتَصوّر صدوره من أب ٍ أي ِّ أب ٍ إن كان َ عاقلا ً راشدا محبّا لولده ، وله ناصحا أمين ، فكيف يمكن أن يصدر مثل هذا عن صحابي كمعاوية جليل ؟!
أقول: لا يَتصوَّر صدورَ مثل ِ هذا عن معاوية بن أبي سفيان وفيه ما فيه من دعوة الى اقتراف المنكرات واتباع الأهواء والشهوات ، إلاّ جاهل ضالٌّ ، أو عدوٌّ حاقد ٌ ، أو فاسق زنديق !
نعم لقد فضح الله هؤلاء المفترين الكذابين ، قاتلهم الله ، وتبين أنّ تلك الأبيات الساقطة لم تكن قيلت بعدُ ، ولا علاقة لها بمعاوية رضي الله عنه ، ولا بيزيد ، ولا يعرفها أهل البصرة ، إلا ليحيى بن خالد البرمكي ، ذلك الرافضي المجوسي الزنديق ، الذي عاش زمن هارون الرشيد ، أي بعد معاوية و ابنه بنحو مائة عام . أنظر : [ تاريخ دمشق لابن عساكر ؛ ( 65/403) ].
علاقة يزيد بآل البيت رضي الله عنهم:
أما عن علاقة يزيد بآل البيت رضي الله عنهم فإنه لم يقع بين يزيد وبين أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعكر العلاقة و القرابة بينهما سوى خروج الحسين و بعض أهله ومقتلهم على يد أهل العراق من الشيعة الارفاض بكربلاء ، الذين خانوه وخذلوه وغدروا بابن عمه ، كما تذكر مصادر الشيعة أنفسهم .
ومع هذا فقد بقيت العلاقة الحسنة بين يزيد وآل البيت و كانوا أولاد عمومته ونراهم قد اجتنبوا الخروج عليه أيام الحرة ومكة ، بل كانت صلته بعلي بن الحسين وعبد الله بن العباس ومحمد بن الحنفية أيام الحرة جيدة . أما عبد الله بن جعفر فقد كانت صلته بمعاوية و يزيد من بعده غاية في المودة والصداقة والولاء ، و كان يزيد لا يرد لابن جعفر طلباً ، وكانت عطاياه له تتوارد فيقوم ابن جعفر بتوزيعها على أهل المدينة ، وكان عبد الله بن جعفر يقول في يزيد: " أتلومونني على حسن الرأي في هذا" . انظر: [قيد الشريد في أخبار يزيد ؛ (ص35) ].
*·~-.¸¸,.-~*يتبع*·~-.¸¸,.-~*
مقدمة:
لم تتعرض شخصية من الشخصيات البارزة في تاريخ الامة الاسلامية لما تعرَّضت له شخصية أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ـ رحمه الله تعالى ـ من طعن وتشويه على يد أعداء الامة الحاقدين ، وفي مقدمتهم الشيعة الرافضة وأغلبهم من زنادقة المجوس الذين تظاهروا بالاسلام وأبطنوا الكفر وانتحلوا حبّ عليّ وبعض أبنائه، وسعَوا إلى هدم الاسلام من داخله بوسائل شتى ، كان منها إثارة الفتن ، وترويج الاشاعات الكاذبة ، والطعن في الشخصيات الاسلامية التي لعبت دورا بارزا في تاريخ الامة ، ليطعنوا من وراء ذلك بالاسلام ذاته ، ويشوهوا صورته ، ويوحوا بأنّ أمة الإسلام لم تنضبط بتعاليمه وأخلاقه في جيل من الأجيال أو في عصر من العصور ، ليصلوا بعدها إلى القول بأنَّ الاسلام كان مشروعا بشريا فاشلا للإصلاح أو أنه في أحسن الأحوال ، دين مثاليٌّ غير قابل للتطبيق ، وعندها يقدِّمون رافضيتهم المجوسية التي تلبَس لَبوس "الاسلام" وتتمسَّح بـ " آل البيت" باعتبارها البديل العملي عن الإسلام المثالي ، إسلام الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح !!
وقد اختلق هؤلاء المجرمون سيلا من الروايات الساقطة والقصص السخيفة والحكايات المنحطة التي نَسَبت كذبا وافتراءً إلى سلف الامة ما نسبت ، وقد طالت حملة التشويه والإفتراء المجوسية هذه جميعَ الشخصيات البارزة في تاريخ الامة ، وكان يزيد بن معاوية رحمه الله ، من أكبر ضحايا تلك الحَملة المسعورة .
وتسرّب كثير من روايات الدسِّ والطعن في يزيد مع ما تسرَّب من روايات ٍ ساقطة وقصص وحكايات إلى امهات كتب التاريخ والتفسير . ومن المعروف أنَّ تاريخ بني أمية إنما كُتِب في عهد بني العباس ، وقد استغل الشعوبيون والزنادقة المجوس خصومة بني العباس السياسية لبني أمية أيما استغلال ، إذ وجدوا في عهدهم تربة مناسبة لترويج كذبهم وافتراءاتهم على بني أمية وعلى يزيد منهم بصورة خاصة ، وذلك لأسباب لا تخفى على اللبيب الأريب ، وكانوا إلى هذا يتحركون بحرية تامة دون أن يخافوا من بطش السلطة الحاكمة، ومن العقاب !
ولعلَّ أشدَّ ما يأسف له المسلم الغيور على دينه أن يجد بعضَ المؤرخين من أهل السنة قد أخذوا من هذه الروايات الباطلة وأدرجوها في كتبهم دون تمحيص دقيق ولا تحقيق ، كما فعل ابن كثير في البداية و النهاية ، وابن الأثير في الكامل ، وابن خلدون في العبر ، والذهبي في تاريخ الإسلام ، وغيرهم ... ولا نريد هنا أن نخوض في الاسباب التي جعلتهم يروون هذا الطعن عن بعض غلاة الشيعة الحاقدين من أمثال أبي مخنف والواقدي وابن الكلبي وغيرهم من الفسّاق ، ويتساهلون في قبول تلك الروايات الخبيثة التي أحدثت فجوة كبيرة بين الخلف والسلف ، وكان لها لاريب اثر خطير على بناء أجيال تخجَل من تاريخها ، وترتاب في صلاحية دينها دين الاسلام ، وشكَّـل ذلك فيما بعد ثغرة ًعظيمة نفذ منها إلى قلب الامة أعداءُ الاسلام !! فهل يتنبه أهل العلم من غفلتهم ، ويصحون من سُباتهم ، ويعملون على تنقيح التراث وتطهيره مما تسرَّب إليه من سموم الأعداء ؟!
ولست أنكر أنّ هناك بداية صحوة ، وأنَّ هناك محاولات في هذا الإتجاه... ولكنها لا زالت محاولات فردية ، ولا زالت الجهود المبذولة دون المستوى المطلوب ! ولعلّ هذه المشاركة التي تُسقِط روايات المبطلين من المنافقين ، وتدحض حجج المغرِضين من أعداء الدين ، لعلّ هذه المشاركة تُنصِف أمير المؤمنين يزيد ، وتردُّ إليه اعتباره في عيون المضَلَّلين ، وتساهم بقدر ولو بسيط ، في عملية التنقيح والتطهير والتصحيح .
جوانب من سيرة يزيد قبل توليه الخلافة:
لم يكن يزيد بن معاوية – رحمه الله – بذلك الشاب المدلَّل ، العابث اللاهي ، كما تصوره لنا الروايات التاريخية الساقطة بل كان على خلاف ذلك تماما!
و لنقف قليلاً ، على بعض سيرته قبل أن يرشحه والده معاوية رضي الله عنه لولاية العهد ، لنعلم ما هي الحال التي كان عليها قبل توليه الخلافة ، و مدى صدق الروايات التي جاءت تذم يزيد وتصفه بأبشع الأوصاف .
أم يزيد بن معاوية هي ميسون بنت بحدل الكلبية ، كانت من الأعراب ، و كانت من نسب حسيب ، و منها رزق معاوية بابنه يزيد . و كان رحمه الله وحيد أبيه ، فأحب معاوية رضي الله عنه أن يشب يزيد على حياة الشدة والفصاحة فألحقه بأهل أمه ليتربى على فنون الفروسية ، و يتحلى بشمائل النخوة و الشهامة والكرم و المروءة ، إذ كان البدو أشدَّ تعلقاً بهذه التقاليد .
كما أجبر معاوية رضي الله عنه ولدَه يزيد على الإقامة في البادية ، و ذلك لكي يكتسب قدراً كبيراً من الفصاحة في اللغة ، كما هو حال العرب في ذلك الوقت .
وعندما رجع يزيد من البادية ، نشأ و تربى تحت إشراف والده ، و نحن نعلم أن معاوية رضي الله عنه كان من رواة الحديث فروى يزيد بعد ذلك عن والده هذه الأحاديث و بعض أخبار أهل العلم . مثل حديث : " من يرد الله به خيراً يفقه في الدين" ، و حديث آخر في الوضوء ، و روى عنه ابنه خالد وعبد الملك بن مروان ، وقد عده أبوزرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة ، و هي الطبقة العليا .
و قد اختار معاوية دَغْفَل بن حنظلة السدوسي الشيباني (ت65هـ) ، مؤدباً لولده يزيد ، و كان دغفل علامة بأنساب العرب ، و خاصة نسب قريش ، و كذلك عارفاً بآداب اللغة العربية .
هذه بعض الجوانب من سيرة يزيد رحمه الله ، وغفر له ، قبل توليه منصب الخلافة ، و قبل أن يوليه والده ولاية العهد من بعده . يظهر منها جليّا واضحا ً حرصُ سيدنا معاوية رضي الله عنه منذ البداية على إعداد ولده يزيد ، و تنشئته التنشئة الصحيحة ، ليشبَّ عليها عندما يكبر.
وبالإضافة إلى ما سبق أن أوردناه عن الجهود التي بذلها معاوية في تنشئة وتأديب يزيد ، نجد روايات في مصادرنا التاريخية تساعدنا على دحض الروايات الساقطة التي نَسَبت كذبا وافتراءً إلى يزيد ما نسبت ، زاعمة ً أن يزيد بن معاوية كان شاباً لاهياً عابثاً ، مغرماً بالصيد و شرب الخمر ، و تربية الفهود والقرود ، و الكلاب … الخ !!تلك الروايات التي اختلقها أعداء بني أمية وخاصة منهم الرافضة المجوس الزنادقة ، وتسرّب كثير منها مع ما تسرَّب من روايات ساقطة وقصص منحطة وحكايات تافهة إلى كتب التاريخ والتفسير ، مثل :
[نسب قريش لمصعب الزبيري ؛ (ص127)] و [كتاب الإمامة والسياسة المنحول! لابن قتيبة ؛ (1/163)] و [ تاريخ اليعقوبي ؛ (2/220)] و [ كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي ؛ (5/17)]
و [ مروج الذهب للمسعودي ؛ (3/77)] .
ومن أراد أن يطلع على المزيد من تلك الافتراءات الخبيثة ، فليرجع إلى كتاب: [ صورة يزيد بن معاوية في الروايات الأدبية ـ فريال بنت عبد الله ؛ (ص 86- 122 )] .
ـ شهادة محمد بن علي بن أبي طالب - المعروف بابن الحنفية ـ
فيروي البلاذري أن محمد بن علي بن أبي طالب - المعروف بابن الحنفية - دخل يوماً على يزيد بن معاوية بدمشق ليودعه بعد أن قضى عنده فترة من الوقت ، فقال له يزيد ، و كان له مُكرماً : يا أبا القاسم ، إن كنتَ رأيتَ مني خُلُقاً تنكره نَزَعت عنه ، و أتيت الذي تُشير به علي ؟ فقال : والله لو رأيت منكراً ما وسعني إلاّ أن أنهاك عنه ، وأخبرك بالحق لله فيه ، لِما أخذ الله على أهل العلم عن أن يبينوه للناس ولا يكتموه ، وما رأيت منك إلاّ خيراً . [أنساب الأشراف للبلاذري ؛ (5/17)] .
و يروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع - كان داعية لابن الزبير - مشى من المدينة هو وأصحابه إلى محمد ابن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم ، فقال ابن مطيع : إنَّ يزيد يشرب الخمر و يترك الصلاة و يتعدى حكم الكتاب ، فقال محمد: ما رأيتُ منه ما تذكرون ، قد حضرته وأقمت عنده ، فرأيته مواظباً على الصلاة ، متحرياً للخير ، يسأل عن الفقه ، ملازماً للسنة ، قالوا: ذلك كان منه تصنعاً لك ، قال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يُظهر لي الخشوع ؟! ثم أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر ؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه ، و إن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا ، قالوا : إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه! فقال لهم : أبى الله ذلك على أهل الشهادة ، و لست من أمركم في شيء .
[البداية و النهاية ؛ (8/233) ] و [ تاريخ الإسلام – حوادث سنة 61-80هـ – (ص274) ] . و قد حسّن الأخ محمد الشيباني إسناده ، انظر: [مواقف المعارضة من خلافة يزيد بن معاوية (ص384)].
وقيمة شهادة ابن الحنفية هذه لا تكمن فقط في أنها شهادة عدل صدرت عن تابعي جليل ، بل تنبع كذلك من كونها صدرت ممن قاتل معاوية َ مع أبيه أي مع علي رضي الله عن الجميع ، فأحرى به أن يكون عدواً له كارهاً لملكه وولده . ولا يتهمه بالتحيّز في هذا إلى يزيد ومحاباتِه إلا ّ جاهل ضالّ ، أو زنديق لئيم حاقد .
فشهادة ابن الحنفية هي لاريب شهادة عدل قوية تكذّب ما افترَوهوا على يزيد من تناول للمسكر ، ومباشرة للمنكرات ، وغير ذلك مما يقدح بمروءة الإنسان مما رواه أبو مخنف وأمثاله من الرواة الكذابين الغالين ممن ينطبق عليهم لفظ الفاسق ، فهذا وأمثاله من الفسّاق لا ُيقبَل لهم قول خاصة إذا كان فيه طعن في أحد من المسلمين ، فما بالك إذا كان هذا المطعون فيه وفي دينه هو خليفة المسلمين وإمامهم ؟!
وقد رأينا فيما مضى نماذج من هذا الطعن والإفتراء !
ـ شهادة ابن العباس في يزيد
وهناك قول مشابه لابن عباس رضي الله عنه ، يثبت فيه أن يزيد براء مما افترى ولا يزال يفتري عليه المفترون ، وهو أنه لما قدم ابن عباس وافداً على معاوية رضي الله عنه ، أمر معاوية ابنه يزيد أن يأتيه – أي أن يأتي ابن عباس - ، فأتاه في منزله ، فرحب به ابن عباس وحدثه ، فلما خرج ، قال ابن عباس : " إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس".
[البداية والنهاية ؛ (8/228-229) ] و [ تاريخ دمشق ؛ (65/403-404) ].
ـ شهادة الليث بن سعد في يزيد
ثم إنّ نسبة ما نُسِبَ من منكر إلى يزيد لا يحل إلا بشاهدين ، فمن شهد بذلك ؟ وقد شهد العدل بعدالته ، روى يحيى بن بكير عن الليث بن سعد ( توفي 147هـ ) قال ، قال الليث : " توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا " ، فسماه الليثُ أمير المؤمنين بعد ذهاب ملك بني أمية وانقراض دولتهم ، ولولا كونه عنده كذلك لما قال إلا : " توفي يزيد " .
[العواصم من القواصم (ص232-234) ].
ـ شاهد آخر قوي على عدالة يزيد
كما إنّ مجرد موافقة عدد من كبار الشخصيات الإسلامية ، من أمثال عبد الله بن الزبير ، وعبد الله ابن عباس ، وابن عمر ، وأبو أيوب الأنصاري ، على مصاحبة جيش يزيد في سيره نحو القسطنطينية ، فيها خير دليل على أنَّ يزيد كان يتميز بالاستقامة ، و تتوفر فيه كثير من الصفات الحميدة ، ويتمتع بالكفاءة والمقدرة لتأدية ما يوكل إليه من مهمات ؛ وإلا لما وافق أمثال هؤلاء الأفاضل من الصحابة أن يتولى قيادتهم شخص مثل يزيد .
ـ منقَبة ليزيد بن معاوية :
أخرج البخاري عن خالد بن مَعْدان أن عُمَير بن الأسود العَـنَسي حدثه أنه أتى عُبادة بن الصامت و هو نازل في ساحة حِمص وهو في بناء له ومعه أم حَرام ، قال عُمير : فحدثتنا أم حَرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أول جيش من أمتي يغزُونَ البحرَ قد أَوجَبوا " ، فقالت أمُّ حرام : قلت يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال : أنت فيهم . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم "أول جيش من أمتي يغزُون مدينة قَيْصرَ مغفورٌ لهم" ، فقلت : أنا فيهم قال : لا .
وَقَدْ حَدَّثَ عن أمِّ حرام أَنَس رضي الله عنهما هَذَا الْحَدِيث أَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ ، وَأَخْرَجَ الْحَسَنُ بْن سُفْيَان هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ هِشَام بْن عَمَّار عَنْ يَحْيَى بْن حَمْزَة بِسَنَدِ الْبُخَارِيّ وَزَادَ فِي آخِرِهِ " قَالَ هِشَام رَأَيْت قَبْرَهَا بِالسَّاحِلِ " .
وقَوْله : ( يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَر ) يَعْنِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة .
وَقَوْله : ( قَدْ أَوْجَبُوا) أَيْ فَعَلُوا فِعْلًا وَجَبَتْ لَهُمْ بِهِ الْجَنَّة .
قَالَ الْمُهَلَّب : فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَة لِمُعَاوِيَة لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ ، وَمَنْقَبَةٌ لِوَلَدِهِ يَزِيد لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا مَدِينَةَ قَيْصَرَ .[البخاري مع الفتح ] .
فتحرك الجيش نحو القسطنطينية بقيادة بسر بن أرطأ رضي الله عنه عام خمسين من الهجرة ، فاشتد الأمر على المسلمين فأرسل بسر يطلب المَدد من معاوية فجهز معاوية جيشاً بقيادة ولده يزيد ، فكان في هذا الجيش كلٌ من أبو أيوب الأنصاري ، وعبد الله بن عمر ، وابن الزبير ، وابن عباس ، وجمعٌ غفير من الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين .
وقد علّق على هذا الحديث ِ الشيخُ ابو اليسر عابدين رحمه الله ، مفتي سوريا السابق ، عام 1954 في كتابه (أغاليط المؤرخين) فقال: اما يكفيه ( أي يزيد ) فخرا ما ذكره في الجامع الصغير برمز البخاري عن ام حرام بنت ملحان ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اول جيش من امتي يركبون البحر فقد اوجبوا وأول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم. و كلا الوصفين ثبتا ليزبد بن معاوية رضي الله عنه.
[ أغاليط المؤرخين ؛ ص 124]
على ضوء ما سبق بيانه من حال يزيد الحقيقية نستطيع أن نرد جميع الروايات الساقطة والأقوال المريبة التي لم تثبت صحتها وإن وجدت في امهات كتب التفسير والتاريخ ، فهذه فيها الغث وفيها السمين ، وكذلك نرد ما قاله الذهبي في [ سير أعلام النبلاء ؛ (4/36)] عن يزيد بأنه " كان ناصبياً فظاً غليظاً جلفاً متناول المسكر و يفعل المنكر" . فقد أخطأ الذهبي هنا لاريب خطأ كبيرا، وعلى كلٍّ فهذا قول ، و كلٌ يؤخذ من كلامه و يرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تولي يزيد منصب ولاية العهد بعد أبيه:
بدأ معاوية رضي الله عنه يفكر فيمن يكون الخليفة من بعده فقد كان يخشى أن تعود الفتنة من بعده مرة أخرى إن مات ولم يستخلف . فلما استشار أهل الشام في الأمر اقترحوا أن يكون الخليفة من بعده من بني أمية ، فرشح ابنه يزيد وأرسل إلى الأمصار بذلك فجاءت الموافقة من مصر و باقي البلاد ، وحين أرسل إلى المدينة يستشيرها وجد معارضة ً من الحسين وابن الزبير ، ومن ابن عمر وابن عباس وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وكان اعتراضهم ابتداءً على تطبيق الفكرة ذاتها ، لا على يزيد بعينه .
انظر : [ تاريخ الإسلام للذهبي – عهد الخلفاء الراشدين – (ص147-152)] و [ سير أعلام النبلاء ؛ (3/186)] و [ الطبري ؛ (5/303)] و [ تاريخ خليفة ؛ (ص213)] .
و تجدر الإشارة هنا إلى أن المؤرخين والمفكرين المسلمين قد وقفوا فيما بعد حيال هذه الفكرة مواقف شتى ، فمنهم المعارض ، و منهم المؤيد ، و كانت حجة الفريق المعارض تعتمد على ما ورد من روايات مفتراة ساقطة، نسبت إلى يزيد رحمه الله ما نسبته من منكر وعبث وفجور ، واستند هؤلاء إلى تلك الروايات ليقطعوا بعدم صلاحية يزيد للخلافة ، دون أن يقدّموا على ذلك أيَّ دليل أو برهان ... وقد بيَّنا بطلان مانُسِب إلى يزيد من هذه الإفتراءات .
ويذهب ببعض المؤرخين الخيال أوالهوى في حكمهم على الأمر بعيدا ، فَيرَون أن معاوية ـ رضي الله عنه ـ لم يبايع لولده يزيد بولاية العهد ، إلاّ مدفوعاً بعاطفة الأبوة .
أنظر كتاب: [ موسوعة التاريخ الإسلامي لأحمد شلبي ؛ (2/46-47 ، 51 )] .
وقد ردّ العلماء على اعتراضات هؤلاء حول صلاحية يزيد لهذا الأمر وأبطلوا مزاعمهم وأوهامهم ، وفيما يلي نقدّم بعضا من تلك الردود .
ردود العلماء على من شكك في أهلية يزيد للخلافة:
ـ رد الأستاذ محب الدين الخطيب
ويعقِّب الأستاذ محب الدين الخطيب على من شكّك في أهلية يزيد للخلافة فيقول:
" إن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ ( أي يزيد ) مبلغ أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما وأرضاهما ـ في مجموع سجاياهما ، فهذا ما لم يبلغه في تاريخ الإسلام أحد ٌ ، ولا حتى عمر بن عبد العزيز ، وإن طمعنا بالمستحيل وقدَّرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر وعمر آخر ، فلن تُتاح له بيئة كالبيئة التي أتاحها الله لأبي بكر وعمر .. وإن كان مقياس الأهلية ، الاستقامة في السيرة ، و القيام بحرمة الشريعة ، والعمل بأحكامها ، و العدل في الناس ، و النظر في مصالحهم ، والجهاد في عدوهم ، وتوسيع الآفاق لدعوتهم ، والرفق بأفرادهم و جماعاتهم ، فإن يزيد يوم تُمحَّص أخباره ، و يقف الناسُ على حقيقة حالِه كما كان في حياته ، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم ، و أجزل الثناء عليهم .
[حاشية العواصم من القواصم لابن العربي ؛ (ص221) ].
وإننا لنجد أيضاً في كلمات معاوية نفسِه ما يدل على أن دافعه في العهد بالخلافة إلى ولده إنما هو النفع للصالح العام و ليس الخاص ، فقد ورد على لسانه قوله:
" اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لِما رأيتُ من فضله ، فبلِّغه ما أمِلتُ وأعنه ، وإن كنت إنما حملني حبّ الوالد لولده ، وأنه ليس لما صنعت به أهلاً ، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك ".
[ تاريخ الإسلام للذهبي – عهد معاوية بن أبي سفيان – ؛ (ص169)] و [ خطط الشام لمحمد كرد علي ؛ (1/137)] .
و يتبين من خلال دراسة هذه الفكرة – أي فكرة تولية يزيد ولاية العهد من بعد أبيه - ، أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كان محقاً فيما ذهب إليه ، إذ أنه باختياره لابنه يزيد لولاية العهد من بعده ، قد ضمن للأمة الإسلامية وحدتها ، و حفظ لها استقرارها ، و جنَّبها حدوث أية صراعات على مثل هذا المنصب .
ـ دفاع ابن العربي
و قد اعترف بمزايا خطوة معاوية هذه ابن العربي ، أنظر: [العواصم من القواصم ؛ (ص228-229 ) ].
ـ دفاع ابن خلدون
وكذلك اعترف بها ابن خلدون الذي كان أقوى حجة ً، إذا يقول:
" والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه ، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس ، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه - وهم حينئذ من بني أمية - " ، ثم يضيف قائلاً : " وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا ، فعدالته و صحبته مانعة من سوى ذلك ، و حضور أكابر الصحابة لذلك ، وسكوتهم عنه ، دليل على انتفاء الريب منه ، فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة ، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم - كلهم - أجلّ من ذلك ، و عدالتهم مانعة منه ".
[المقدمة لابن خلدون ؛ (ص210-211) ].
و يقول ابن خلدون في موضع آخر: " عهد معاوية إلى يزيد ، خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم ، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه ...".
[ المقدمة ؛ (ص206) ].
يتبين مما سبق من أقوال من سبق ذكرهم من أعلام الأمة أنّ معاوية رضي الله عنه قد رأى في ابنه صلاحاً لولاية خلافة الإسلام بعده ، وهو لا ريب أعلم الناس بخفاياه ، و لو لم يكن عنده مَرْضياً لما اختاره فمعاوية صحابي جليل ، ولا يُظنُّ به إلاّ خيرا ، كما قال العلاّمة ابن خلدون ، فالصحابة كلُّهم عدول ، لا ريب عندنا في ذلك .. نعم هم جميعهم عدول وإن رغمت أنوف زنادقة المجوس الرافضة ، وغيرهم من أعداء الإسلام.
ولا يسعني بعد هذا إلا ّ أن أشير إلى ما أورده ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم من رأي لأحد أفاضل الصحابة في هذا الموضوع ، إذ يقول :
" دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استُخلِف يزيد بن معاوية ، فقال: أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد ، لا أفقهَها فيها فقهاً ، ولا أعظمَها فيها شرفاً ؟ قلنا : نعم ، قال : وأنا أقول ذلك ، ولكن والله لئن تجتمع أمة محمد أحب إلىّ من أن تفترق ".
[العواصم من القواصم ؛ (ص231) ].
فبيعة يزيد إذن مع وجود من هو أفضل منه كانت تعني فيما تعنيه وحدة َ الصف ، واجتماعَ الكلمة ، والأمنَ والإستقرار ... الخ وهذا ما يقدِّمه لمنصب الخلافة على غيره ممن هو خيرٌ وأعظمُ شرفا ً وأفقَه منه ، إذا لم تجتمع الامة بل كانت ستتفرّق عليه. وهذا لا ريب يُظهر الحكمة البالغة في استخلاف معاوية ليزيد مع وجود العبادلة الأربعة والحسين وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عن الجميع ، كما يدلُّ على بعد نظر شديد ، وفراسة حادة ، وقبل ذلك كلّه يدلُّ على فقه لسيدنا معاوية سياسيٍّ عظيم ، رضي الله عنه وأرضاه .
على ضوء ماتقدّم بيانه ومااتضَّح مما كان خافيا على الكثيرين ندرك الآن لماذا تمسك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ببيعة يزيد تمسكا شديدا ، كما سنرى فيما يلي ، وحَرِص على ألاّ يشذ ّ أحدٌ من أهله عن ذلك ، وخالف من خرج على يزيد من أهل المدينة ، فقد بايعه يوم أن عُهِد إليه بالخلافة بيعة ً صحيحة على كتاب الله وسنة رسوله .. بايعه بيعة ً لم يَصدر منه ما يوجب شرعا ً نقضَها ، وهذا كذلك يدحض جميع الدعاوى الباطلة ويسقط جميع الإفتراءات الكاذبة التي أراد بها أعداء الأمَّة أن يشوّهوا إثما وبهتانا صورة خليفة من خلفاء المسلمين ، وتابعيّ ٍ وابن صحابيٍّ جليل ، إثارة ً للفتنة وتفريقا ً للصف وتمزيقا ً لأمة المسلمين .
ولم يكن موقف ابن ِ عمر مِن يزيد موقفا تفرّدَ به ، بل شاركه فيه عدد غير قليل من الصحابة ، وكذلك جميع أهل البيت الذين كانت تربطهم بيزيد علاقات ودية طيبة كما سنرى فيما بعد .
فقد نقل الامام البخاري في كتابه الفتن أنَّ اهل المدينة لما أرادوا خلع يزيد جمَع عبدُ الله بن عمر رضي الله عنهما حشمه وولده و قال لهم سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" يُنصَب لكل غادر لواء يوم القيامة . وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله واني لا اعلم أحدا منكم خلعه ، ولا بايع في هذا الامر ، الا كانت الفيصل بيني وبينه .
وهل يُتصوَّر بعد هذا البيان أيضاً صِحة َ ما زعم الكذابون ، من أن معاوية رضي الله عنه كان غير راض عن لهو يزيد وفسقه ، و شربه ، وأنه أكثر من نصحه فلم ينتصح ، فقال – لما يئس من استجابته - : إذاً عليك بالليل ، استتر به عن عيون الناس ، و إني منشدك أبياتاً ، فتأدب بها و احفظها ، فأنشده :
انصب نهاراً في طلاب العلا * واصبر على هجر الحبيب القريب
حتى إذا الليل أتى بالدجى * واكتحلت بالغمض عين الرقيب
فباشر الليل بما تشتهي * فإنما الليل نهار الأريب
كم فاسق تحسبه ناسكاً * قد باشر الليل بأمر عجيب
غطى عليه الليل أستاره فبات في أمن و عيش خصيب
و لذة لأحمق مكشوفة * يشفي بها كل عدو غريب
هكذا زعم الكذابون ، و لكن فضحهم الله ، فهذه الأبيات لم يقلها معاوية رضي الله عنه ، حاشاه أن يفعل ذلك وهو صحابي جليل وسيد عظيم من سادة الأمة ، والصحابة جميعهم عدول . بل إنّ مثل ذلك لا يُتَصوّر صدوره من أب ٍ أي ِّ أب ٍ إن كان َ عاقلا ً راشدا محبّا لولده ، وله ناصحا أمين ، فكيف يمكن أن يصدر مثل هذا عن صحابي كمعاوية جليل ؟!
أقول: لا يَتصوَّر صدورَ مثل ِ هذا عن معاوية بن أبي سفيان وفيه ما فيه من دعوة الى اقتراف المنكرات واتباع الأهواء والشهوات ، إلاّ جاهل ضالٌّ ، أو عدوٌّ حاقد ٌ ، أو فاسق زنديق !
نعم لقد فضح الله هؤلاء المفترين الكذابين ، قاتلهم الله ، وتبين أنّ تلك الأبيات الساقطة لم تكن قيلت بعدُ ، ولا علاقة لها بمعاوية رضي الله عنه ، ولا بيزيد ، ولا يعرفها أهل البصرة ، إلا ليحيى بن خالد البرمكي ، ذلك الرافضي المجوسي الزنديق ، الذي عاش زمن هارون الرشيد ، أي بعد معاوية و ابنه بنحو مائة عام . أنظر : [ تاريخ دمشق لابن عساكر ؛ ( 65/403) ].
علاقة يزيد بآل البيت رضي الله عنهم:
أما عن علاقة يزيد بآل البيت رضي الله عنهم فإنه لم يقع بين يزيد وبين أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعكر العلاقة و القرابة بينهما سوى خروج الحسين و بعض أهله ومقتلهم على يد أهل العراق من الشيعة الارفاض بكربلاء ، الذين خانوه وخذلوه وغدروا بابن عمه ، كما تذكر مصادر الشيعة أنفسهم .
ومع هذا فقد بقيت العلاقة الحسنة بين يزيد وآل البيت و كانوا أولاد عمومته ونراهم قد اجتنبوا الخروج عليه أيام الحرة ومكة ، بل كانت صلته بعلي بن الحسين وعبد الله بن العباس ومحمد بن الحنفية أيام الحرة جيدة . أما عبد الله بن جعفر فقد كانت صلته بمعاوية و يزيد من بعده غاية في المودة والصداقة والولاء ، و كان يزيد لا يرد لابن جعفر طلباً ، وكانت عطاياه له تتوارد فيقوم ابن جعفر بتوزيعها على أهل المدينة ، وكان عبد الله بن جعفر يقول في يزيد: " أتلومونني على حسن الرأي في هذا" . انظر: [قيد الشريد في أخبار يزيد ؛ (ص35) ].
*·~-.¸¸,.-~*يتبع*·~-.¸¸,.-~*