صدام فلسطين
04-12-2004, 02:13 AM
بقلم : محمـود شنب
mahmoudshanap@yahoo.com
إذا هب بعض الأفراد من الشعوب العربية لنجدة الشعب العراقى المسلم وقاموا بالتسلل إلى العراق من أجل مساندة المجاهدين هناك قال الحكام العرب إنه عمل مرفوض وتدخلاً فى شئون العراق الداخلية وطالبوا بتنسيق المواقف وإغلاق الحدود وإحكام السيطرة على حركة المجاهدين ومنعهم من تأدية ما أمرنا الله به ، بينما إذا تدخل الحكام العرب فى شئون العراق الداخلية وعقدوا من أجل ذلك المؤتمرات الدولية المشبوهة والتى كان آخرها مؤتمر شرم الشيخ .. قالوا إن هذا الأمر يعد من الأمور الوجيهة والأعمال الصالحة التى تنقذ العراق من محنته وتقيله من عثرته .
وهذا هو العمل المنوط بالحكام على وجه التحديد والذى يتلخص دائمًا فى ضبط حركة الشعوب وتزييف الحقائق ومنع المدد عن المناطق الإسلامية التى يتعرض سكانها لحرب إبادة ومجازر جماعية ... تلك وظيفة الحكام التى من أجلها وضعتهم أمريكا فى الحكم وأكسبتهم الشرعية الدولية رغم أنف شعوبهم .
وعلى الجميع أن يدرك أن الذى يحمى حدود إسرائيل منذ قيامها حتى الآن هم الحكام العرب ، ولو رفعوا عنها هذا الغطاء وهذا الدعم الغير منظور لانتهت إسرائيل من غير حرب أو قتال ... إنهم لا يحموننا من الصهاينة والأمريكان مثلما يدعى بعض المثقفون الخونة ، لكنهم يحمون أمريكا وإسرائيل من غضبتنا ، ويقفون حراسًا علينا من أجل منعنا من الجهاد ، فكل قوى البغى مجتمعة لا تقوى على حرب العصابات أو المقاومة الشعبية حتى وإن قويت على الجيوش والحروب النظامية .. كل قوى الاستكبار والاستعمار خرجت من البلدان التى استعمرتها عن طريق المقاومة الشعبية وليست الجيوش النظامية ، وأكثر ما يثير حفيظة أمريكا وإسرائيل وكل قوى البغى هو تنامى المقاومة الشعبية فى الدول المحتلة ، ولذلك فإنهم لا يتورعوا أبدًا عن إلصاق كل التهم والجرائم بالمقاومين والمجاهدين ، ويربطوا بقاء الحاكم فى الحكم بمقدار سيطرته على حركة الشعوب وإحكام قبضته عليها .
وفى العراق الآن توجد مقاومة شعبية جبارة لا تجد نظام يردعها ويودع رجالها السجون والمعتقلات مثلما هو حادث فى معظم البلدان العربية ... من أجل ذلك كانت دعوة أمريكا للحكام العرب للقيام بمهام إضافية مدفوعة الأجر للسيطرة على أعمال المقاومة العراقية إلى أن يتم تثبيت أقدام الخونة هناك وإسناد هذه الأعمال إليهم ، وتلك هى الفكرة التى أقيمت على أساسها اجتماعات شرم الشيخ .
والرئيس مبارك بمؤتمر شرم الشيخ لم يقدم جديدًا ولم يفعل شيئـًا من تلقاء نفسه لأنه أضعف من ذلك ، إنما ينفذ مطلبًا أمريكيًا لا يقوى على فعله غير مبارك ، ولذلك استنكر المصريون عن بكرة أبيهم هذا العمل المشين الذى يكرس للاحتلال ويُمكن للخونة ويضر بالمقاومة العراقية العظيمة ويطعنها من الخلف ..
يقول الشيخ حارث الضارى ـ الأمين العام لهيئة علماء المسلمين فى العراق : ( إن مؤتمر شرم الشيخ لن يحقق شيئـًا للشعب العراقى ونحن لا نؤمل عليه شيئـًا لأنه أقيم من أجل إعانة الاحتلال وتقويته على ما يواجهه من صعوبات فى العراق ) .
يا للعار المصرى ... ويا للبلاء الذى ابتلينا به على يد حاكم أصبح مثل الذى صدمته سيارة وبات لا يعرف نهاره من ليله ولا شرقه من غربه ولا يمينه من يساره !!
إن المصيبة التى نشعر بها كمصريين تكمن فى ان الرئيس مبارك لا يدرك بحال من الأحوال أنه يمثل مصر بتاريخها وحضارتها وموقعها وقيمتها ويتصرف وكأنه يمثل شركة تجارية لا تبحث إلا عن مصالحها .
لقد ساءت سمعة مصر كثيرًا على المستوى الدولى وأصبحنا بفعل سياسات مبارك لا نمثل أى ثقل فى الأحداث إلا بالقدر الذى يخدم مصالح أمريكا ، ولا أدرى متى يفيق مبارك من غفلته ويوضح : ما الذى يريده من الأمة على وجه التحديد ؟!! ... إن فى إفاقة مبارك إفاقة للأمة كلها ، والأحداث التى تمر بالأمة لو قرأها مبارك قراءة واعية ومتأنية سيدرك أن التاريخ قد أعطى لمبارك فرصة العمر التى لو أحسن استغلالها لكان له شأنـًا آخر وأصبح واحدًا من أعظم قادة العالم ، حيث أن الشعوب العربية كلها ـ وليست مصر وحدها ـ باتت مهيئة للجهاد وأن كثيرًا من بلدان العالم سئمت من جرائم أمريكا وأفعالها القبيحة وتتمنى لو ظهرت قيادة واعية فى المنطقة تعمل على التصدى لهذا الظلم والقهر الأمريكى ، وبطبيعة الحال كانت القيادة المصرية هى المرشحة الأولى لقيادة هذا العمل الجهادى على مستوى المنطقة ، لكن مبارك أبى إلا أن يظل تابعًا للسياسة الأمريكية أمينـًا على مصالح أمريكا فى المنطقة ، وبدلاً من أن يقوم اعوجاج حكام الخليج قوموا هم اعتداله وجعلوه أكثر إعوجاجًا منهم وأصبحوا سواسية فى العار والرذيلة .
وعلى أية حال وجب على مبارك أن يدرك جيدًا أنه ليس من حقه بحال من الأحوال أن ينفرد بالقرارات المصيرية التى تمس أمن دول الجوار وتحدد مستقبلها السياسى دون وضع الشعب المصرى فى الاعتبار وتحقيق مطالبه .. عليه أن يدرك أن هناك فرق كبير بين المواطن المصرى والمواطن الخليجى ، والفرق يكمن فى عمق الدولة المصرية وتاريخها فى الكفاح والمساندة ، وكذلك فى العيشة السوداء التى نحياها ما بين المرض والبطالة والقهر الأمنى وبين ما ينعم به الآخرون من رخاء وسخاء ولهو زائف قد يؤجل انتفاضتهم على حكامهم لحين إشعار آخر ... نحن فى مصر ليس لدينا ما نخشى عليه فقد أصبحنا أفقر شعوب الأرض وأكثرها مرضًا وجهلاً ، وهذا لو تعلمون خطير فالمارد المصرى لو تحرك ونظر بعينيه وانتفض فلن توجد قوة على سطح الأرض تستطيع أن تنال منه .
لابد أن يضع مبارك هذا الشعب فى الاعتبار ولابد أن يحترم مشاعره التى لم يعد يحسب لها أى حساب بسبب ركونه للقبضة الأمنية التى تبتلع دخل البلاد ، وعليه أن يدرك أيضًا أن العبث بأمن العراق يمس أمننا الوطنى وأن العراق العربى بكل تأكيد هو أفضل من العراق العبرى الذى تريده أمريكا .
على مبارك أن يعلم جيدًا أن أمريكا لا تتعجل وضع نهاية لما يدور فى العراق إلا من أجل التفرغ لما هو أكبر من العراق ، فلأمريكا مشروعها الكبير فى المنطقة والذى لن يستثنى منه دولة واحدة .
على مبارك أن يعلم جيدًا أن مساعدته لأمريكا فى هذا الوقت بالذات يعد كارثة كبرى وأن فلسطين جديدة تـُنشأ الآن فى العراق ، وما وعد مبارك لأمريكا إلا كوعد بلفور لليهود ، ومثلما خان الحكام العرب قضايا فلسطين سابقـًا وحاليًا فإنهم اليوم يكرروا نفس السيناريو فى العراق دون إدراك أو تمييز .
ووالله الذى لا إله غيره لا أدرى ما هو السر الذى يدفع مبارك لتقديم كل هذه الخدمات لأمريكا !! ... هل ينظر إلى الدنيا بعين الذى سيُخلد فيها إلى أبد الآبدين ، أم إنه يقدم العربون من لحمنا الحى كمسوغات لتعيين نجله خلفـًا له ؟!!
إن مبارك أصبح فى أمس الحاجة لمن يحجر على تصرفاته بعد أن فقد القدرة على التفكير السليم ، وذلك بحكم السن وبحكم الإرباك العقلى الذى سببته له الضغوط الأمريكية المتواصلة التى لا تتركه لحظة واحدة للتفكير السليم والتقاط الأنفاس .
على مبارك أن يترك حكم البلاد لمن يقوى على التصدى لأمريكا وجمع الشمل العربى ، وكفانا أربع ولايات عجاف اقتطعن ربع قرن من عمر مصر الهام الذى لم يخلقه الله سدى !!
إن القيادة حكمة ، ومبارك ليس لديه أى قدر من الحكمة ، ومن كثرة رضوخه للقرار الأمريكى واستبدال حكام أمريكا عليه الحاكم وراء الآخر أصبحت كل قراراته أمريكية ولا تخدم إلا مصالح أمريكا حتى أصبح يلقب برجل أمريكا الأول فى المنطقة وأصبح بدون مبالغة مؤسس أمريكا الحديثة والراعى الرسمى لمصالحها فى منطقتنا العربية ، فهل هذا الدور يليق بمصر أو شعبها ؟!!
إننا كمصريون ندرك تمام الإدراك أن الرئيس مبارك بات يمثل كارثة حقيقة ليس على مصر فحسب وإنما على كل دول المنطقة ولا ندرى كيف الخلاص منه فلديه أجهزة أمن جبارة لا تتورع عن فعل أى شئ ، ومنذ سنوات قليلة استوقفوا المجاهد مجدى حسين فى الطريق وأشبعوه ضربًا فى وضح النهار وفى الطريق العام وأمام المارة وأخذوا منه حقيبته ومعها كل الأوراق الخاصة به وتركوه فى عرض الطريق ، وقيد الحادث ضد مجهول ، وفى هذه الأيام استوقفوا عبد الحليم قنديل رئيس تحرير جريدة العربى الناصرية وأشبعوه ضربًا ونقلوه فى سيارة مجهولة إلى منطقة مهجورة وجردوه من ملابسه بالكامل واستولوا على كل ما لديه من أوراق ونقود وتركوه فى العراء كيوم ولدته أمه بعد أن قالوا له عبارة واحدة : ( كل ده علشان تبطل تتكلم عن الكبار ) فكيف النجاة ؟!!
إننا فى مصر نـُحكم من قِبل عصابة ولا توجد مؤسسات فاعلة ومستقلة يمكن الرجوع إليها !!
إن تحركات مبارك لا تحل القضية العراقية بل تزيدها تعقيدًا ، وما المؤتمرات أو المؤامرات التى يدعو إليها إلا حلقة من حلقات المؤامرة التى تحاك للأمة ، وهل يمكن لعاقل أن يتصور أن لدى مبارك الشجاعة التى تمكنه من إقامة مؤتمر دولى يناقش قضايا العراق دون إذن مسبق من أمريكا ؟!!
إن مبارك يعد الكنز الحقيقى لأمريكا ، وأكاد أجزم بأن نصيحة بوش الأب كانت لبوش الإبن فى عبارة واحدة ( يابنى .. إذا ملكت مبارك ملكت كل شئ ، وإذا فقدته فقدت كل شئ ) .
وهذا لا يعنى أننا نعفى باقى الحكام العرب من المسئولية لكننا نؤكد على دور مبارك فى الأحداث التى وقعت فى المنطقة وأن مواقفه كانت بمثابة الغطاء الذى ستر عورة حكام الخليج وأعفاهم من حساب الشعوب ، وهذا هو الدور الخطير الذى لعبه مبارك والذى بسببه اطمأنت دولة كالسعودية وكثير من دول الخليج فأصبحوا يجاهروا بالخيانة والعمالة دون خشية من أحد ، وما كان لحاكم عربى أن يقوى على القيام بهذا الدور غير مبارك ليس لقدرات خارقة أو لذكاء مشهود وإنما لما تمثله مصر من عمق وثقل تاريخى انتقل على يد مبارك من معسكر إلى معسكر ومن خندق الصحابة إلى خندق الأعداء فى وقت تصورت فيه العديد من الشعوب العربية بفعل الإعلام المضلل أن مصر مازالت على العهد وأنها لم تنحرف عن مبادئها وهى غارقة فى الخيانة ... لقد كذب الشرفاء أعينهم حتى لا يصدقوا ما يشاهدوه من مصر .. تمامًا مثلما يقفل الإنسان عينه عند مشاهدته لشئ لا يتخيله ، والأمر أشبه بما كان يحدث فى الأفلام المصرية القديمة التى كانت تسند فيها كل أعمال القتل والسلب والنهب للشيخ الوقور الذى ظل يحمل "السبحة" فى يده طيلة الفيلم .
إن تاريخ مصر الوطنى هو الذى ضلل الجميع وجعل مبارك يفعل ما يفعله الشيخ الوقور دون أن يكشف أمره ، ولقد أدركت أمريكا منذ أيام السادات الأولى أن مصر هى الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تملك القدرة على إفساد كل مخططات أمريكا إذا أرادت ، وأن الكل سيصمت إذا جاء اسم مصر ضمن دول المؤامرة ، لأنها كانت وستظل كالنواة التى سيجتمع من حولها كل الرافضين للسياسة الأمريكية وما أكثرهم فى المنطقة إن لم يكونوا من الحكام فإنهم من الشعوب التى تغلى الدماء فى عروقها من كل ما هو أمريكا وصهيونى .
والمصيبة أن مبارك فعل كل ما فعله ابتغاء مرضاة الشيطان ودون مقابل يعود بالنفع على أمته .. إنه لم يستغل الظروف التى تعيشها المنطقة فى نيل مكاسب لدولته مثلما تفعل إيران بخصوص برنامجها النووى ومثلما تفعل تركيا بخصوص المشكلة الكرديه ، ولم يستطع فى زخم هذه الأحداث أن يبنى لبلاده قوة عسكرية أو اقتصادية تمكنها من الصمود أمام ويلات المستقبل ، وفعل الخيانة دون مقابل ودون أجر ، ونحن بالتأكيد نرفض أجور الخيانة ونرفض أن تكون لمواقفنا المخزية ثمنـًا ، وما أقصده هو إثبات الفشل حتى فى الخيانة وأن كل دول المنطقة تساوم أمريكا وتناورها وتعيش معها فى مراحل متواصلة من الشد والجذب من أجل تحقيق أعلى قدر من المكاسب .. كل دول المنطقة تفعل ذلك إلا مصر وسفهاء الخليج !!
كان بإمكان مبارك أن يقود قوى الرفض فى المنطقة وألا يخشى غير الله وأن يعمل على تأكيد دور مصر التاريخى والحضارى ويرفض الإجرام الأمريكى الذى يمارس على أهلنا فى العراق ، وما كان يريده مبارك من وراء موالاته لأمريكا كان بإمكانه الحصول عليه عن طريق حب شعبه وكسب وده واحترامه .. عندها كان سيظل رئيسًا للبلاد مدى الحياة وكان الشعب سيختار ابنه خلفـًا له عن حب وقناعة وليس عن زور وبهتان ...
إن الذى يتعفف عن فعل الحرام يؤته الله من فضله ومن الحلال أضعاف ما كان سيحصل عليه بالحرام ..
أعرف مفتش صحة كان نموذجًا صالحًا فى تأدية عمله وكان عفوف النفس لا يقبل الرشوة أو المال الحرام .. هذا الرجل كان يعيش الفتنة بكل تفاصيلها وكانت تعرض عليه الرشاوى صباح مساء وفى كل الأوقات ، وفى أوقات أخرى كثيرة كان يتم تهديده من قبل التجار وأصحاب المصالح ، وظل صائمًا عن الحرام رغم قلة دخله وضيق المعيشة للدرجة التى كان لا يجد فيها ثمن الدواء الذى يحتاجه لإبنه ، واستمرت المحنة طويلاً فى وقت كان فيه قرناءه يلعبون بالمال لعبًا ويعيشون الحياة رغدًا .. هذا يبنى عمارة وذاك يركب سيارة والآخر يمشى وهو موضع تقدير وترحيب من الجميع ( نفس ما يلقاه مبارك الآن من ترحيب وتكريم من كل قوى الشر فى العالم ) ... ودارت الأيام دورتها وبعد طول صبر ومعاناة اختارته الدولة ضمن بعثتها الطبية للعمل فى السعودية لتحليل مياه الآبار وكانت فاتحة خير له حيث تواصل عمله هناك أكثر من خمسة عشر عامًا يجددون له العقد فى كل مرة بسبب إخلاصه وأمانته وأصبح يحج كل عام ويبنى بدلاً من البيت أكثر من بيت ، وبارك الله له فى أولاده وفى صحته .... وفى هذه الأيام همس فى أذنى بما بدأت به هذه القصة قائلاً : إن من تعفف عن الحرام أتاه الله من الحلال ما لا يخطر على قلب بشر ، وعلى الجانب الآخر تهاوت كل الأحلام والأوهام الكاذبة التى كان ينعم بها رفاقه الآخرون ، فلا المرض ترك صحة إلا وأفناها ولا الفقر ترك غنى إلا واستباحه ولا الحرام ترك رزق إلا وبدده ... بيعت البيوت الحرام ودمرت الصحة الحرام وخابت تربية الأبناء وزادت نظرات الاحتقار وفتحت سجلات التاريخ أبوابها فحكى هذا عن جرائم الآخرين وقص هذ تاريخ المرتشين ، وهذا هو الدرس المستفاد ... لقد كان بإمكان الشعب أن يضع جمال مبارك فى عينه وأن يحمله على رأسه وأن يطالب به خلفـًا صالحًا لقائدًا صالحًا أفنى عمره فى الدفاع عن قضايا أمته ومصالح شعبه ، وما يطلبه مبارك الآن من أمريكا بعين مكسورة كان سيحصل عليه من الشعب برأس مرفوعة فى وقت كان سيكسب فيه الجميع .. الشعب والقائد .. والحق والعدل ...
إن مبارك رغم قبضته الأمنية الرهيبة على البلاد يعيش دومًا بين جدران الخوف ولم يعد يختلط بالشعب لا فى الأفراح ولا فى الأتراح .. لم يعد يقوى على السير فى الطريق أو الاختلاط بالشعب .. صلاة العيد فى مسجد الجلاء .. لقاء الكفره فى شرم الشيخ ، وكل حياته أصبحت تسير على هذا النمط الممل الذى يشعره دائمًا بالعزلة والوحدة ، وهذا هو ثمن التحالف مع الأعداء .
أقول مهما تكون حجم الضغوط التى تمارس على مصر ، ومهما يكن حجم الضعف الذى نعيشه لا يمكن لحاكم أن يفرط فى أمته مثلما فرط مبارك .. إنه يبسط مصر كسجادة هينة ولينة تحت أقدام أمريكا وأعوانها ويجمعهم بين الحين والآخر فى شرم الشيخ من أجل تمكينهم من الأمة ... لقد انتقل من مراحل المساعدة فى الخفاء إلى مراحل المساعدة فى العلن ، وأصبح يتحدث بلسان الأعداء أكثر مما يتحدث بلسان الأمة حتى أصبح كل عهده سواد وشؤم وأصبحنا ننتقل على يديه من سئ إلى أسوأ ومن حفرة إلى بئر ومن ذل إلى هوان ومن ضعف إلى موت ، فها نحن نراه على المستوى المحلى لا يقوى على إتخاذ قرارًا واحدًا يحمى البلاد من غدر إسرائيل ... إسرائيل تضرب كل يوم بيوت رفح المصرية ولا يتحرك ، ثم يطول قصفها سكان المدينة فيموت منهم من يموت ويجرح من يجرح .. ولا يتحرك ، ثم يُضرب جنودنا بقذائف الدبابات وتتناثر أجسادهم فى كل مكان .. ولا يتحرك ... لا توجد لدى هذا الذى يلقب بالرئيس أى خطوط حمراء فى كل ما يخص الأمن القومى المصرى .. الشعب المصرى أصبح كله مريض وعاطل والباشا يتنقل من الإسكندرية إلى شرم الشيخ والأقصر وأسوان وكأن البلاد وسية ورثها أبًا عن جد !!
ما ضرورة أن نهذب النقد إن كان الرئيس لا يعبأ بما نقول ولا يفكر أبدًا فى تغيير مواقفه وسياساته التى جلبت لنا العار والهوان والذل والانكسار ؟!!
ما ضرورة أن ننتقى الكلمات ونحن نخاطب حاكم لا يرقب فينا إلاً ولا ذمة ؟!!
وهل انتقى لنا الأصدقاء حتى ننتقى له الكلمات ؟!!
هل احترم قسمه معنا حتى نحترم قيادته لنا ؟!!
لا يوجد فى مصر الآن داعى إسلامى لا يخضع لقهر مبارك ... كلهم تركوا البلاد ورحلوا بدءًا من عمر عبد الرحمن وانتهاءً بعمرو خالد مرورًا بالقرضاوى ووجدى غنيم وعلماء لا حصر لهم استبدلتهم الدولة براقصات من موسكو ولبنان وسائر البلدان المنحلة .
وما يحدث الآن فى العراق هو نتيجة مباشرة لضعف الحكم فى مصر ، وكيف لا تصمد أمريكا أمام العراق والعالم العربى كله يُخدم عليها ؟! ... أمريكا لا تنتصر إلا بشراء الذمم .. إنها لا تنتصر أبدًا بفعل الأسلحة ... أسلحة العالم كله لا تستطيع أن تكسر إرادة أمة .. الذى يكسر إرادة الأمة هم الخونة فى الداخل والخارج ..
ها هى أمريكا ترتع فى كل من السعودية والكويت وقطر وكل دول الخليج ... ثم تزهو أمريكا بشرم الشيخ .. وما شرم الشيخ فى عهد مبارك إلا كصدر حنون ترتاح عليه كل رؤوس الخونه ..
كل الدول المجاورة للعراق عملت مع أمريكا طوعًا أو كرهًا .. من لم يأتى منها بالرشوة أتى بالتهديد ، ومن لم يأتى بالتهديد جاء بالترويض .. فكيف لا تصمد أمريكا بعد كل ذلك فى العراق ؟ََ!!
وكل الخيانات التى ترعى أمريكا فى العراق لن تمكنها من النصر ، لأن أمريكا تشبه إلى حد بعيد الأمراض السرطانية التى لابد أن تنتهى بالموت ... إن الخيانة فى العراق تعطى نفسًا أطول للمحتل ولكن لا تصنع نصر ، وبقاء أمريكا فى العراق يتوقف على استمرار خيانات الحكام العرب من عدمه ، ويوم تملك الشعوب زمام الأمور فلن يبقى على الأرض العربية أمريكى واحد ، وسيشعر الجميع بالكرامة .. فالكرامة الحقيقية هى التى توجد حيث لا توجد أمريكا
mahmoudshanap@yahoo.com
إذا هب بعض الأفراد من الشعوب العربية لنجدة الشعب العراقى المسلم وقاموا بالتسلل إلى العراق من أجل مساندة المجاهدين هناك قال الحكام العرب إنه عمل مرفوض وتدخلاً فى شئون العراق الداخلية وطالبوا بتنسيق المواقف وإغلاق الحدود وإحكام السيطرة على حركة المجاهدين ومنعهم من تأدية ما أمرنا الله به ، بينما إذا تدخل الحكام العرب فى شئون العراق الداخلية وعقدوا من أجل ذلك المؤتمرات الدولية المشبوهة والتى كان آخرها مؤتمر شرم الشيخ .. قالوا إن هذا الأمر يعد من الأمور الوجيهة والأعمال الصالحة التى تنقذ العراق من محنته وتقيله من عثرته .
وهذا هو العمل المنوط بالحكام على وجه التحديد والذى يتلخص دائمًا فى ضبط حركة الشعوب وتزييف الحقائق ومنع المدد عن المناطق الإسلامية التى يتعرض سكانها لحرب إبادة ومجازر جماعية ... تلك وظيفة الحكام التى من أجلها وضعتهم أمريكا فى الحكم وأكسبتهم الشرعية الدولية رغم أنف شعوبهم .
وعلى الجميع أن يدرك أن الذى يحمى حدود إسرائيل منذ قيامها حتى الآن هم الحكام العرب ، ولو رفعوا عنها هذا الغطاء وهذا الدعم الغير منظور لانتهت إسرائيل من غير حرب أو قتال ... إنهم لا يحموننا من الصهاينة والأمريكان مثلما يدعى بعض المثقفون الخونة ، لكنهم يحمون أمريكا وإسرائيل من غضبتنا ، ويقفون حراسًا علينا من أجل منعنا من الجهاد ، فكل قوى البغى مجتمعة لا تقوى على حرب العصابات أو المقاومة الشعبية حتى وإن قويت على الجيوش والحروب النظامية .. كل قوى الاستكبار والاستعمار خرجت من البلدان التى استعمرتها عن طريق المقاومة الشعبية وليست الجيوش النظامية ، وأكثر ما يثير حفيظة أمريكا وإسرائيل وكل قوى البغى هو تنامى المقاومة الشعبية فى الدول المحتلة ، ولذلك فإنهم لا يتورعوا أبدًا عن إلصاق كل التهم والجرائم بالمقاومين والمجاهدين ، ويربطوا بقاء الحاكم فى الحكم بمقدار سيطرته على حركة الشعوب وإحكام قبضته عليها .
وفى العراق الآن توجد مقاومة شعبية جبارة لا تجد نظام يردعها ويودع رجالها السجون والمعتقلات مثلما هو حادث فى معظم البلدان العربية ... من أجل ذلك كانت دعوة أمريكا للحكام العرب للقيام بمهام إضافية مدفوعة الأجر للسيطرة على أعمال المقاومة العراقية إلى أن يتم تثبيت أقدام الخونة هناك وإسناد هذه الأعمال إليهم ، وتلك هى الفكرة التى أقيمت على أساسها اجتماعات شرم الشيخ .
والرئيس مبارك بمؤتمر شرم الشيخ لم يقدم جديدًا ولم يفعل شيئـًا من تلقاء نفسه لأنه أضعف من ذلك ، إنما ينفذ مطلبًا أمريكيًا لا يقوى على فعله غير مبارك ، ولذلك استنكر المصريون عن بكرة أبيهم هذا العمل المشين الذى يكرس للاحتلال ويُمكن للخونة ويضر بالمقاومة العراقية العظيمة ويطعنها من الخلف ..
يقول الشيخ حارث الضارى ـ الأمين العام لهيئة علماء المسلمين فى العراق : ( إن مؤتمر شرم الشيخ لن يحقق شيئـًا للشعب العراقى ونحن لا نؤمل عليه شيئـًا لأنه أقيم من أجل إعانة الاحتلال وتقويته على ما يواجهه من صعوبات فى العراق ) .
يا للعار المصرى ... ويا للبلاء الذى ابتلينا به على يد حاكم أصبح مثل الذى صدمته سيارة وبات لا يعرف نهاره من ليله ولا شرقه من غربه ولا يمينه من يساره !!
إن المصيبة التى نشعر بها كمصريين تكمن فى ان الرئيس مبارك لا يدرك بحال من الأحوال أنه يمثل مصر بتاريخها وحضارتها وموقعها وقيمتها ويتصرف وكأنه يمثل شركة تجارية لا تبحث إلا عن مصالحها .
لقد ساءت سمعة مصر كثيرًا على المستوى الدولى وأصبحنا بفعل سياسات مبارك لا نمثل أى ثقل فى الأحداث إلا بالقدر الذى يخدم مصالح أمريكا ، ولا أدرى متى يفيق مبارك من غفلته ويوضح : ما الذى يريده من الأمة على وجه التحديد ؟!! ... إن فى إفاقة مبارك إفاقة للأمة كلها ، والأحداث التى تمر بالأمة لو قرأها مبارك قراءة واعية ومتأنية سيدرك أن التاريخ قد أعطى لمبارك فرصة العمر التى لو أحسن استغلالها لكان له شأنـًا آخر وأصبح واحدًا من أعظم قادة العالم ، حيث أن الشعوب العربية كلها ـ وليست مصر وحدها ـ باتت مهيئة للجهاد وأن كثيرًا من بلدان العالم سئمت من جرائم أمريكا وأفعالها القبيحة وتتمنى لو ظهرت قيادة واعية فى المنطقة تعمل على التصدى لهذا الظلم والقهر الأمريكى ، وبطبيعة الحال كانت القيادة المصرية هى المرشحة الأولى لقيادة هذا العمل الجهادى على مستوى المنطقة ، لكن مبارك أبى إلا أن يظل تابعًا للسياسة الأمريكية أمينـًا على مصالح أمريكا فى المنطقة ، وبدلاً من أن يقوم اعوجاج حكام الخليج قوموا هم اعتداله وجعلوه أكثر إعوجاجًا منهم وأصبحوا سواسية فى العار والرذيلة .
وعلى أية حال وجب على مبارك أن يدرك جيدًا أنه ليس من حقه بحال من الأحوال أن ينفرد بالقرارات المصيرية التى تمس أمن دول الجوار وتحدد مستقبلها السياسى دون وضع الشعب المصرى فى الاعتبار وتحقيق مطالبه .. عليه أن يدرك أن هناك فرق كبير بين المواطن المصرى والمواطن الخليجى ، والفرق يكمن فى عمق الدولة المصرية وتاريخها فى الكفاح والمساندة ، وكذلك فى العيشة السوداء التى نحياها ما بين المرض والبطالة والقهر الأمنى وبين ما ينعم به الآخرون من رخاء وسخاء ولهو زائف قد يؤجل انتفاضتهم على حكامهم لحين إشعار آخر ... نحن فى مصر ليس لدينا ما نخشى عليه فقد أصبحنا أفقر شعوب الأرض وأكثرها مرضًا وجهلاً ، وهذا لو تعلمون خطير فالمارد المصرى لو تحرك ونظر بعينيه وانتفض فلن توجد قوة على سطح الأرض تستطيع أن تنال منه .
لابد أن يضع مبارك هذا الشعب فى الاعتبار ولابد أن يحترم مشاعره التى لم يعد يحسب لها أى حساب بسبب ركونه للقبضة الأمنية التى تبتلع دخل البلاد ، وعليه أن يدرك أيضًا أن العبث بأمن العراق يمس أمننا الوطنى وأن العراق العربى بكل تأكيد هو أفضل من العراق العبرى الذى تريده أمريكا .
على مبارك أن يعلم جيدًا أن أمريكا لا تتعجل وضع نهاية لما يدور فى العراق إلا من أجل التفرغ لما هو أكبر من العراق ، فلأمريكا مشروعها الكبير فى المنطقة والذى لن يستثنى منه دولة واحدة .
على مبارك أن يعلم جيدًا أن مساعدته لأمريكا فى هذا الوقت بالذات يعد كارثة كبرى وأن فلسطين جديدة تـُنشأ الآن فى العراق ، وما وعد مبارك لأمريكا إلا كوعد بلفور لليهود ، ومثلما خان الحكام العرب قضايا فلسطين سابقـًا وحاليًا فإنهم اليوم يكرروا نفس السيناريو فى العراق دون إدراك أو تمييز .
ووالله الذى لا إله غيره لا أدرى ما هو السر الذى يدفع مبارك لتقديم كل هذه الخدمات لأمريكا !! ... هل ينظر إلى الدنيا بعين الذى سيُخلد فيها إلى أبد الآبدين ، أم إنه يقدم العربون من لحمنا الحى كمسوغات لتعيين نجله خلفـًا له ؟!!
إن مبارك أصبح فى أمس الحاجة لمن يحجر على تصرفاته بعد أن فقد القدرة على التفكير السليم ، وذلك بحكم السن وبحكم الإرباك العقلى الذى سببته له الضغوط الأمريكية المتواصلة التى لا تتركه لحظة واحدة للتفكير السليم والتقاط الأنفاس .
على مبارك أن يترك حكم البلاد لمن يقوى على التصدى لأمريكا وجمع الشمل العربى ، وكفانا أربع ولايات عجاف اقتطعن ربع قرن من عمر مصر الهام الذى لم يخلقه الله سدى !!
إن القيادة حكمة ، ومبارك ليس لديه أى قدر من الحكمة ، ومن كثرة رضوخه للقرار الأمريكى واستبدال حكام أمريكا عليه الحاكم وراء الآخر أصبحت كل قراراته أمريكية ولا تخدم إلا مصالح أمريكا حتى أصبح يلقب برجل أمريكا الأول فى المنطقة وأصبح بدون مبالغة مؤسس أمريكا الحديثة والراعى الرسمى لمصالحها فى منطقتنا العربية ، فهل هذا الدور يليق بمصر أو شعبها ؟!!
إننا كمصريون ندرك تمام الإدراك أن الرئيس مبارك بات يمثل كارثة حقيقة ليس على مصر فحسب وإنما على كل دول المنطقة ولا ندرى كيف الخلاص منه فلديه أجهزة أمن جبارة لا تتورع عن فعل أى شئ ، ومنذ سنوات قليلة استوقفوا المجاهد مجدى حسين فى الطريق وأشبعوه ضربًا فى وضح النهار وفى الطريق العام وأمام المارة وأخذوا منه حقيبته ومعها كل الأوراق الخاصة به وتركوه فى عرض الطريق ، وقيد الحادث ضد مجهول ، وفى هذه الأيام استوقفوا عبد الحليم قنديل رئيس تحرير جريدة العربى الناصرية وأشبعوه ضربًا ونقلوه فى سيارة مجهولة إلى منطقة مهجورة وجردوه من ملابسه بالكامل واستولوا على كل ما لديه من أوراق ونقود وتركوه فى العراء كيوم ولدته أمه بعد أن قالوا له عبارة واحدة : ( كل ده علشان تبطل تتكلم عن الكبار ) فكيف النجاة ؟!!
إننا فى مصر نـُحكم من قِبل عصابة ولا توجد مؤسسات فاعلة ومستقلة يمكن الرجوع إليها !!
إن تحركات مبارك لا تحل القضية العراقية بل تزيدها تعقيدًا ، وما المؤتمرات أو المؤامرات التى يدعو إليها إلا حلقة من حلقات المؤامرة التى تحاك للأمة ، وهل يمكن لعاقل أن يتصور أن لدى مبارك الشجاعة التى تمكنه من إقامة مؤتمر دولى يناقش قضايا العراق دون إذن مسبق من أمريكا ؟!!
إن مبارك يعد الكنز الحقيقى لأمريكا ، وأكاد أجزم بأن نصيحة بوش الأب كانت لبوش الإبن فى عبارة واحدة ( يابنى .. إذا ملكت مبارك ملكت كل شئ ، وإذا فقدته فقدت كل شئ ) .
وهذا لا يعنى أننا نعفى باقى الحكام العرب من المسئولية لكننا نؤكد على دور مبارك فى الأحداث التى وقعت فى المنطقة وأن مواقفه كانت بمثابة الغطاء الذى ستر عورة حكام الخليج وأعفاهم من حساب الشعوب ، وهذا هو الدور الخطير الذى لعبه مبارك والذى بسببه اطمأنت دولة كالسعودية وكثير من دول الخليج فأصبحوا يجاهروا بالخيانة والعمالة دون خشية من أحد ، وما كان لحاكم عربى أن يقوى على القيام بهذا الدور غير مبارك ليس لقدرات خارقة أو لذكاء مشهود وإنما لما تمثله مصر من عمق وثقل تاريخى انتقل على يد مبارك من معسكر إلى معسكر ومن خندق الصحابة إلى خندق الأعداء فى وقت تصورت فيه العديد من الشعوب العربية بفعل الإعلام المضلل أن مصر مازالت على العهد وأنها لم تنحرف عن مبادئها وهى غارقة فى الخيانة ... لقد كذب الشرفاء أعينهم حتى لا يصدقوا ما يشاهدوه من مصر .. تمامًا مثلما يقفل الإنسان عينه عند مشاهدته لشئ لا يتخيله ، والأمر أشبه بما كان يحدث فى الأفلام المصرية القديمة التى كانت تسند فيها كل أعمال القتل والسلب والنهب للشيخ الوقور الذى ظل يحمل "السبحة" فى يده طيلة الفيلم .
إن تاريخ مصر الوطنى هو الذى ضلل الجميع وجعل مبارك يفعل ما يفعله الشيخ الوقور دون أن يكشف أمره ، ولقد أدركت أمريكا منذ أيام السادات الأولى أن مصر هى الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تملك القدرة على إفساد كل مخططات أمريكا إذا أرادت ، وأن الكل سيصمت إذا جاء اسم مصر ضمن دول المؤامرة ، لأنها كانت وستظل كالنواة التى سيجتمع من حولها كل الرافضين للسياسة الأمريكية وما أكثرهم فى المنطقة إن لم يكونوا من الحكام فإنهم من الشعوب التى تغلى الدماء فى عروقها من كل ما هو أمريكا وصهيونى .
والمصيبة أن مبارك فعل كل ما فعله ابتغاء مرضاة الشيطان ودون مقابل يعود بالنفع على أمته .. إنه لم يستغل الظروف التى تعيشها المنطقة فى نيل مكاسب لدولته مثلما تفعل إيران بخصوص برنامجها النووى ومثلما تفعل تركيا بخصوص المشكلة الكرديه ، ولم يستطع فى زخم هذه الأحداث أن يبنى لبلاده قوة عسكرية أو اقتصادية تمكنها من الصمود أمام ويلات المستقبل ، وفعل الخيانة دون مقابل ودون أجر ، ونحن بالتأكيد نرفض أجور الخيانة ونرفض أن تكون لمواقفنا المخزية ثمنـًا ، وما أقصده هو إثبات الفشل حتى فى الخيانة وأن كل دول المنطقة تساوم أمريكا وتناورها وتعيش معها فى مراحل متواصلة من الشد والجذب من أجل تحقيق أعلى قدر من المكاسب .. كل دول المنطقة تفعل ذلك إلا مصر وسفهاء الخليج !!
كان بإمكان مبارك أن يقود قوى الرفض فى المنطقة وألا يخشى غير الله وأن يعمل على تأكيد دور مصر التاريخى والحضارى ويرفض الإجرام الأمريكى الذى يمارس على أهلنا فى العراق ، وما كان يريده مبارك من وراء موالاته لأمريكا كان بإمكانه الحصول عليه عن طريق حب شعبه وكسب وده واحترامه .. عندها كان سيظل رئيسًا للبلاد مدى الحياة وكان الشعب سيختار ابنه خلفـًا له عن حب وقناعة وليس عن زور وبهتان ...
إن الذى يتعفف عن فعل الحرام يؤته الله من فضله ومن الحلال أضعاف ما كان سيحصل عليه بالحرام ..
أعرف مفتش صحة كان نموذجًا صالحًا فى تأدية عمله وكان عفوف النفس لا يقبل الرشوة أو المال الحرام .. هذا الرجل كان يعيش الفتنة بكل تفاصيلها وكانت تعرض عليه الرشاوى صباح مساء وفى كل الأوقات ، وفى أوقات أخرى كثيرة كان يتم تهديده من قبل التجار وأصحاب المصالح ، وظل صائمًا عن الحرام رغم قلة دخله وضيق المعيشة للدرجة التى كان لا يجد فيها ثمن الدواء الذى يحتاجه لإبنه ، واستمرت المحنة طويلاً فى وقت كان فيه قرناءه يلعبون بالمال لعبًا ويعيشون الحياة رغدًا .. هذا يبنى عمارة وذاك يركب سيارة والآخر يمشى وهو موضع تقدير وترحيب من الجميع ( نفس ما يلقاه مبارك الآن من ترحيب وتكريم من كل قوى الشر فى العالم ) ... ودارت الأيام دورتها وبعد طول صبر ومعاناة اختارته الدولة ضمن بعثتها الطبية للعمل فى السعودية لتحليل مياه الآبار وكانت فاتحة خير له حيث تواصل عمله هناك أكثر من خمسة عشر عامًا يجددون له العقد فى كل مرة بسبب إخلاصه وأمانته وأصبح يحج كل عام ويبنى بدلاً من البيت أكثر من بيت ، وبارك الله له فى أولاده وفى صحته .... وفى هذه الأيام همس فى أذنى بما بدأت به هذه القصة قائلاً : إن من تعفف عن الحرام أتاه الله من الحلال ما لا يخطر على قلب بشر ، وعلى الجانب الآخر تهاوت كل الأحلام والأوهام الكاذبة التى كان ينعم بها رفاقه الآخرون ، فلا المرض ترك صحة إلا وأفناها ولا الفقر ترك غنى إلا واستباحه ولا الحرام ترك رزق إلا وبدده ... بيعت البيوت الحرام ودمرت الصحة الحرام وخابت تربية الأبناء وزادت نظرات الاحتقار وفتحت سجلات التاريخ أبوابها فحكى هذا عن جرائم الآخرين وقص هذ تاريخ المرتشين ، وهذا هو الدرس المستفاد ... لقد كان بإمكان الشعب أن يضع جمال مبارك فى عينه وأن يحمله على رأسه وأن يطالب به خلفـًا صالحًا لقائدًا صالحًا أفنى عمره فى الدفاع عن قضايا أمته ومصالح شعبه ، وما يطلبه مبارك الآن من أمريكا بعين مكسورة كان سيحصل عليه من الشعب برأس مرفوعة فى وقت كان سيكسب فيه الجميع .. الشعب والقائد .. والحق والعدل ...
إن مبارك رغم قبضته الأمنية الرهيبة على البلاد يعيش دومًا بين جدران الخوف ولم يعد يختلط بالشعب لا فى الأفراح ولا فى الأتراح .. لم يعد يقوى على السير فى الطريق أو الاختلاط بالشعب .. صلاة العيد فى مسجد الجلاء .. لقاء الكفره فى شرم الشيخ ، وكل حياته أصبحت تسير على هذا النمط الممل الذى يشعره دائمًا بالعزلة والوحدة ، وهذا هو ثمن التحالف مع الأعداء .
أقول مهما تكون حجم الضغوط التى تمارس على مصر ، ومهما يكن حجم الضعف الذى نعيشه لا يمكن لحاكم أن يفرط فى أمته مثلما فرط مبارك .. إنه يبسط مصر كسجادة هينة ولينة تحت أقدام أمريكا وأعوانها ويجمعهم بين الحين والآخر فى شرم الشيخ من أجل تمكينهم من الأمة ... لقد انتقل من مراحل المساعدة فى الخفاء إلى مراحل المساعدة فى العلن ، وأصبح يتحدث بلسان الأعداء أكثر مما يتحدث بلسان الأمة حتى أصبح كل عهده سواد وشؤم وأصبحنا ننتقل على يديه من سئ إلى أسوأ ومن حفرة إلى بئر ومن ذل إلى هوان ومن ضعف إلى موت ، فها نحن نراه على المستوى المحلى لا يقوى على إتخاذ قرارًا واحدًا يحمى البلاد من غدر إسرائيل ... إسرائيل تضرب كل يوم بيوت رفح المصرية ولا يتحرك ، ثم يطول قصفها سكان المدينة فيموت منهم من يموت ويجرح من يجرح .. ولا يتحرك ، ثم يُضرب جنودنا بقذائف الدبابات وتتناثر أجسادهم فى كل مكان .. ولا يتحرك ... لا توجد لدى هذا الذى يلقب بالرئيس أى خطوط حمراء فى كل ما يخص الأمن القومى المصرى .. الشعب المصرى أصبح كله مريض وعاطل والباشا يتنقل من الإسكندرية إلى شرم الشيخ والأقصر وأسوان وكأن البلاد وسية ورثها أبًا عن جد !!
ما ضرورة أن نهذب النقد إن كان الرئيس لا يعبأ بما نقول ولا يفكر أبدًا فى تغيير مواقفه وسياساته التى جلبت لنا العار والهوان والذل والانكسار ؟!!
ما ضرورة أن ننتقى الكلمات ونحن نخاطب حاكم لا يرقب فينا إلاً ولا ذمة ؟!!
وهل انتقى لنا الأصدقاء حتى ننتقى له الكلمات ؟!!
هل احترم قسمه معنا حتى نحترم قيادته لنا ؟!!
لا يوجد فى مصر الآن داعى إسلامى لا يخضع لقهر مبارك ... كلهم تركوا البلاد ورحلوا بدءًا من عمر عبد الرحمن وانتهاءً بعمرو خالد مرورًا بالقرضاوى ووجدى غنيم وعلماء لا حصر لهم استبدلتهم الدولة براقصات من موسكو ولبنان وسائر البلدان المنحلة .
وما يحدث الآن فى العراق هو نتيجة مباشرة لضعف الحكم فى مصر ، وكيف لا تصمد أمريكا أمام العراق والعالم العربى كله يُخدم عليها ؟! ... أمريكا لا تنتصر إلا بشراء الذمم .. إنها لا تنتصر أبدًا بفعل الأسلحة ... أسلحة العالم كله لا تستطيع أن تكسر إرادة أمة .. الذى يكسر إرادة الأمة هم الخونة فى الداخل والخارج ..
ها هى أمريكا ترتع فى كل من السعودية والكويت وقطر وكل دول الخليج ... ثم تزهو أمريكا بشرم الشيخ .. وما شرم الشيخ فى عهد مبارك إلا كصدر حنون ترتاح عليه كل رؤوس الخونه ..
كل الدول المجاورة للعراق عملت مع أمريكا طوعًا أو كرهًا .. من لم يأتى منها بالرشوة أتى بالتهديد ، ومن لم يأتى بالتهديد جاء بالترويض .. فكيف لا تصمد أمريكا بعد كل ذلك فى العراق ؟ََ!!
وكل الخيانات التى ترعى أمريكا فى العراق لن تمكنها من النصر ، لأن أمريكا تشبه إلى حد بعيد الأمراض السرطانية التى لابد أن تنتهى بالموت ... إن الخيانة فى العراق تعطى نفسًا أطول للمحتل ولكن لا تصنع نصر ، وبقاء أمريكا فى العراق يتوقف على استمرار خيانات الحكام العرب من عدمه ، ويوم تملك الشعوب زمام الأمور فلن يبقى على الأرض العربية أمريكى واحد ، وسيشعر الجميع بالكرامة .. فالكرامة الحقيقية هى التى توجد حيث لا توجد أمريكا