المهند
03-12-2004, 02:01 AM
ملامح هوية المقاومة العراقية
بطرس عنداري/صحافي من لبنان يقيم في سيدني - استراليا
لآن وبعد مرور عام ونصف العام على احتلال العراق ووضعه تحت الإدارة والحماية الأميركية المطلقة، وبعد أكثر من 20 ألف عملية ضدّ قوات الاحتلال والمتعاونين معها، حان الوقت لمحاولة إلقاء الضوء على هوية ومعالم المقاومة الوطنية العراقية التي تمكنت من إثبات وجودها وتوجيه الضربات الموجعة إلى قوات الاحتلال رغم شراسة ووحشية هذه القوات التي تقصف عشوائياً وتقتل ألوف الأبرياء، ورغم الحملات الإعلامية التضليلية التي تحاول أن تحصر عمليات المقاومة العراقية بشخص واحد تدرب على القتل والتطرف على يد القوات الأميركية في أفغانستان يطلقون عليه اسم "أبو مصعب الزرقاوي".
من المؤسف أن الكتابات والدراسات عن المقاومة العراقية باللغة العربية اقتصرت على التعليقات من سلبية وإيجابية ولم تحاول أي جهة القيام بمهمة علمية لمعرفة هوية حركة مقاومة وطنية نفذت خلال شهر آب/أغسطس المنصرم حوالي 2300 عملية ضد قوات الاحتلال حسب ما أعلنته المصادر الأميركية.
إن الدراسة التي كتبها المفكر العربي الدكتور خير الدين حسيب ونشرت في مجلة (المستقبل العربي) نيسان/إبريل 2004، تعتبر الدراسة العلمية الوحيدة التي قدمت نظرة استراتيجية ووطنية لدور المقاومة واعتبرتها الأمل الوحيد لاستعادة العراق والكرامة العربية.
وقد جاءت دراسة الدكتور حسيب رئيس مؤسسة الوحدة العربية بمناسبة مرور عام على احتلال العراق.
وربما كان الصحافي الأسترالي البارز (بول ماغيو) أول من كتب عن المقاومة الوطنية العراقية على صفحات (سيدني مورنينغ هيرالد) بتاريخ 16/8/2003، حيث نشر أول تحقيق مطول ومفصل عن المقاومة العراقية ضدّ الاحتلال الأميركي تحت عنوان: "داخل المقاومة العراقية". وقد قمنا بترجمة هذا التحقيق آنذاك وتم نشره في (القدس العربي) وصحف عربية أخرى.
كان تحقيق المراسل الأسترالي مفاجأة إذ شكل أول تحقيق في الصحافة الغربية والعالمية عن مقاومة الاحتلال وتحدث بإسهاب عن وجهات نظر المقاومين الذين التقاهم سرّاً وأكدوا له أنهم يقاومون بهدف تحرير وطنهم من الاحتلال وليس من أجل نظام أو حزب معيّن، وقال إن رجال المقاومة في بغداد يتحركون ويتنقلون بسهولة لأن قوات الاحتلال عاجزة عن السيطرة على المدينة الشاسعة كما أن الجنود الأميركيين يعيشون حالة من الرعب والخوف الدائمين بسبب نمّو عمليات المقاومة.
هكذا وصف (ماغيو) الحالة قبل 15 شهراً وكانت المقاومة في بداياتها، ولا شك أنها تضاعفت حالياً حيث قدر عدد العمليات اليومية آنذاك من 10 إلى 15 عملية. ويعترف الأميركيون حالياً بأن عمليات المقاومة تتراوح من 70 إلى 80 عملية كل 24 ساعة بعد أن كانت في مطلع العام الجاري 35-40 عملية يومية.
إن الاعتراف بهذه النسبة المرتفعة من العمليات ضد الاحتلال يشكل اعترافاً واقعياً بأن المقاومة الوطنية العراقية أصبحت قوة معنوية وعسكرية وسياسية وثقلاً في الحياة العراقية. وقد طالبت فرنسا علناً باشراك ممثلين عن المقاومة العراقية في أي مؤتمر دولي يعقد من أجل العراق مما أثار غضب المحتلّين وأعوانهم في الداخل العراقي. وبعد الإعلان عن عقد مؤتمر شرم الشيخ أسرع الأميركيون وحكومتهم المعينة إلى الإعلان عن معارضتهم الشديدة لحضور ممثلي المقاومة العراقية لأن هدف الاجتماع هو لدعم رموز الاحتلال وانتزاع المزيد من المبررات لشرعنة الاحتلال.
هل كانت المقاومة مفاجأة؟
طلبت الحكومة الأميركية قبل بدء غزو العراق من عدّة مراكز دراسات متخصّصة تقديم الدراسات عن احتمال قيام مقاومة مسلحة ضد القوات الأميركية في العراق، كما طلب من القوى العراقية التي عملت مع الأميركيين وحرضتهم على احتلال وطنهم أن تقدّم تقارير مفصّلة عن هذا الموضوع، وقد قُدمت تقارير هذه القوى مؤكدة إن احتمال قيام مقاومة حقيقية وفعّالة ضد الجيش الأميركي أمر مستبعد جداً. وأشيع أن المعارض المعروف صلاح عمر العلي كان الوحيد الذي رجّح قيام مقاومة ضاربة ولكن حليفه السابق اياد علاوي خالفه الرأي وافترقا منذ ذلك الوقت.
وعندما بدأت ضربات المقاومة حاولت قيادة الاحتلال تجاهلها ووصفت أعضائها بـ "فلول أنصار النظام السابق" و"بقايا البعثيين" ولكن تزايد العمليات غير الواقع ودفع المراسل الأسترالي البارز (ماغيو) إلى القول منذ آب/أغسطس 2003، بأن القوات الأميركية تعيش حالة من الرعب، وقد وصل الأمر مؤخراً إلى قيام حالات تمرّد داخل قوّات الاحتلال كان أبرزها ما حصل مؤخراً حيث رفضت وحدة عسكرية مواكبة شحنة وقود من بغداد إلى الشمال خوفاً من كمائن المقاومين.
وسنحاول في هذه الدراسة المتواضعة أن نبتعد عن تعليقات معظم الكتاب العرب الذين انقسموا إلى فريقين متناقضين:
الأول يرى أن المقاومة العراقية ستتمكن من إلحاق الهزيمة بأكبر قوة عسكرية عرفها التاريخ في فترة قياسية. أما الفريق الثاني يرى أن المقاومة ليست أكثر من مجموعة عصابات إرهابية تحاول زعزعة الاستقرار وعرقلة العودة إلى الحياة الطبيعية داخل العراق. والمنطق الثاني هو منطق الاحتلال.
لقد سُنح لنا الاطلاع على بعض الصحف العالمية الكبرى مثل (نيويورك تايمز) و(الأوبزرفر) و(الواشنطن بوست) وغيرها. وأجمعت هذه الصحف بتقارير مراسليها وكتابات محللّيها على أن المقاومة العراقية بدت منظمة منذ أيامها الأولى، ونشر أكثر من تقرير أميركي رسمي عن تنظيم المقاومة قبل وصول قوات الغزو الأميركي إلى العاصمة العراقية.
وقد جاءت اعترافات وزير خارجية بوش كولن باول ووزير دفاعه رامسفيلد والجنرال أبو زيد، واضحة عن قوة المقاومة العراقية التي اعتبرها كل من باول ورامسفيلد مفاجأة لم تتوقعها الإدارة الأميركية.
كانت الخطة الأميركية تهدف إلى السيطرة على العاصمة بغداد أولاً والمدن الأخرى الرئيسية ثانياً. وقد أقنع الذين عينتهم واشنطن حكاماً القيادة الأميركية بأن بغداد ستكون آمنة لأن أكثر من نصف سكانها من الشيعة وسيتمكنون بمساعدة الأكراد وسائر الوافدين مع قوات الغزو من السيطرة بسهولة على العاصمة التي ستكون آمنة وهادئة بعد أيام قليلة من اكتمال الغزو.
وقد كان الجنرال أبو زيد صريحاً عندما طالب بالمزيد من القوات الأميركية البالغ عددها حالياً حوالي 145 ألفاً. ويقول بعض المحللين أن العدد يصل حدود 200 إلف إذا تم احتساب المرتزقة من الذين لا يحملون جنسية أميركية إضافة إلى 60 ألفا من الجنود البريطانيين والذين ينتمون إلى المجموعة الاشتراكية السابقة دون ان ننسي ايطاليا.
وعندما نعلم أن الولايات المتحدة حاربت في فيتنام بأكثر من 600 ألف جندي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي ندرك أن طلب الجنرال أبو زيد كان مثيراً للاهتمام. كما أن قول كولن باول مؤخراً كان الأكثر دراماتيكية حيث اعترف بأن الولايات المتحدة تتوقع إياماً سوداء في العراق.
الصدمة الشيعية
ركزت الولايات المتحدة منذ حربها الأولى ضد العراق عام 1991، على الورقة الشيعية في العراق، واعتبرت جميع الدراسات والتقارير الأميركية الصادرة عن معاهد متخّصصة أن الشيعة العراقيين هم الحلفاء الأكثر ميلاً نحو الأميركيين بعد الأكراد الذين تعتبرهم الإدارة الأميركية جزءاً مكملاً لاستراتيجيتها الهادفة إلى تدجين المنطقة وتغييرها وإقامة "اسرائيل" ثانية وثالثة على أراضيها.
وقد رعت واشنطن المنشقين الشيعة وأغدقت عليهم الأموال لمعارضة الحكم السابق، ودربت المخابرات المركزية المئات منهم وربما الألوف ليشكلوا نواة حرب عصابات تنطلق من الجنوب وتتسلل نحو بغداد، وقد فشلت هذه المحاولات كما فشلت مراكز التجسس التي أنشئت قرب إربيل والسليمانية وتجاوزت كلفتها الخمسة مليارات دولار واستولي عليها الجيش العراقي في آب/أغسطس 1996.
أعطت المراجع الأميركية ثقتها لمجموعة قدمت لها المعلومات والنصائح كان على رأسها الدكتور فؤاد عجمي والدكتور كنعان مكية - الأول من أصل لبناني والثاني من أصل عراقي- وقد أغرق الاثنان الدوائر الأميركية بتقارير مفادها، أن العراق منطقة سهلة المنال وشعبها غير مؤهل للمقاومة المسلحة، والقوى الحقيقية الضاربة فيه تتكون بأكثرية 80 بالمئة من الشيعة والأكراد. وقد أيد حلفاء واشنطن من أمثال الجلبي وعلاوي والربيعي هذه التقارير.
واقترحت التقارير ذاتها على الإدارة الأميركية أن تتقرّب من ايران وتفتح معها قنوات حوار وتفاهم لأن طهران ستكون المحرك الأول لشيعة العراق كما اعتقد معدّو التقارير.
وقد استجابت الدوائر الأميركية لرغبات حلفائها العراقيين ومرت العلاقات الأميركية - الايرانية في مرحلة هدوء شهدت اتصالات جانبيّة مشجعة.
ولكن واشنطن فوجئت بصدمة شيعية منذ اليوم الأول لحملة الغزو حيث أظهر سكان أم قصر الشيعة والسنة بطولة ملفتة ضد الاحتلال وتمكنت تلك البلدة الصغيرة من عرقلة جحافل الغزو ولأكثر من أسبوع.
ومن أم قصر إلى الناصرية والعمارة والحلّة كان السكان الشيعة مجمعين على رفض الاحتلال ومحاربته ورفض التعاون معه. وهذا الإجماع لا يشمل الذين رافقوا القوات الأميركية ودخلوا على متن دباباتها.
وكانت الصدمة الشيعية الأكثر ألماً لواشنطن اغتيال السيد الخوئي والسيد محمد باقر الحكيم على يد مناوئين لهما رجح أنهم من الشيعة، حيث تأكدت القوة المحتلة من أن الشيعة العراقيين هم مثل غيرهم من الوطنيين يرفضون الاحتلال وينتمون إلى مدارس سياسية ودينية متعدّدة قد تختلف في الشكليات ولكنها متقاربة في الجوهر.
وبعد أن واجهت واشنطن هذا الواقع وأذهلتها الصدمة الشيعية راحت تتعامل مع جميع مناوئيها بأسلوب واحد. فالغارات على المدنيين الشيعة في النجف وسامراء وبغداد والناصرية لم تكن أقل وحشية من غارات الدمار التي طالت السنة في الفلوجة والرمادي وبعقوبة وتلعفر وغيرها.
وقد سادت العراق والعالم العربي موجة من التساؤلات حول موقف آية الله على السيستاني الذي أفتى أحد مساعديه الرئيسيين بضرورة المشاركة بالانتخابات القادمة، وتوعد عدم المشاركين بنار جهنم!!. لم يوضح السيد السيستاني موقفه مما يفيد أنه يؤيد إجراء انتخابات في ظل حراب المحتلين!. وكان دعا إلى ذلك بعد الاحتلال بأسابيع. كما أنه تغيب عن النجف بحجة الاستشفاء في لندن عندما قامت قوات الاحتلال بتدمير أكثر من 20 بالمئة من مدينة النجف وأوقعت مئات القتلى من المدنيين في مجابهات مع أنصار السيّد مقتدى الصدر.
ولكنّ هذه المواقف لا تعبّر عن موقف الشيعة العراقيين الذين شكلوا جزءاً فعالاً من المقاومة منذ الساعات الأولى للاحتلال. وهذا لم يخيّب آمال قوى الاحتلال فقط بل أذهلها لأن معظم الدراسات الأميركية توقعت صراعاً شيعياً - سنياً مريراً إلى حدود حصول حرب أهلية. وكانت الصحافة العربية بأكثرية منابرها وكتّابها تتبع الخطّ الأميركي في إشارات إلى عراق سني وعراق شيعي وثالث كرديّ!!.
وقد غرقت أقلية عراقية في هذا المستنقع المذهبي الخطير، ولكن الأكثرية استدركت الأمور واستوعبت ما يجري وأسرعت إلى تشكيل لجان شيعية - سنية للعمل على توعية الرأي العام وإجراء حوار واتصالات دائمة بين رجال الدين من شيعة وسنّة. كما أنشئت لجان متعددة في الأحياء الشيعية من بغداد لجمع مساعدات من أدوية وأغذية وألبسة لسكان مدينة الفلوجة المحاصرة ودعم صمودها ضد الاحتلال.
بطرس عنداري/صحافي من لبنان يقيم في سيدني - استراليا
لآن وبعد مرور عام ونصف العام على احتلال العراق ووضعه تحت الإدارة والحماية الأميركية المطلقة، وبعد أكثر من 20 ألف عملية ضدّ قوات الاحتلال والمتعاونين معها، حان الوقت لمحاولة إلقاء الضوء على هوية ومعالم المقاومة الوطنية العراقية التي تمكنت من إثبات وجودها وتوجيه الضربات الموجعة إلى قوات الاحتلال رغم شراسة ووحشية هذه القوات التي تقصف عشوائياً وتقتل ألوف الأبرياء، ورغم الحملات الإعلامية التضليلية التي تحاول أن تحصر عمليات المقاومة العراقية بشخص واحد تدرب على القتل والتطرف على يد القوات الأميركية في أفغانستان يطلقون عليه اسم "أبو مصعب الزرقاوي".
من المؤسف أن الكتابات والدراسات عن المقاومة العراقية باللغة العربية اقتصرت على التعليقات من سلبية وإيجابية ولم تحاول أي جهة القيام بمهمة علمية لمعرفة هوية حركة مقاومة وطنية نفذت خلال شهر آب/أغسطس المنصرم حوالي 2300 عملية ضد قوات الاحتلال حسب ما أعلنته المصادر الأميركية.
إن الدراسة التي كتبها المفكر العربي الدكتور خير الدين حسيب ونشرت في مجلة (المستقبل العربي) نيسان/إبريل 2004، تعتبر الدراسة العلمية الوحيدة التي قدمت نظرة استراتيجية ووطنية لدور المقاومة واعتبرتها الأمل الوحيد لاستعادة العراق والكرامة العربية.
وقد جاءت دراسة الدكتور حسيب رئيس مؤسسة الوحدة العربية بمناسبة مرور عام على احتلال العراق.
وربما كان الصحافي الأسترالي البارز (بول ماغيو) أول من كتب عن المقاومة الوطنية العراقية على صفحات (سيدني مورنينغ هيرالد) بتاريخ 16/8/2003، حيث نشر أول تحقيق مطول ومفصل عن المقاومة العراقية ضدّ الاحتلال الأميركي تحت عنوان: "داخل المقاومة العراقية". وقد قمنا بترجمة هذا التحقيق آنذاك وتم نشره في (القدس العربي) وصحف عربية أخرى.
كان تحقيق المراسل الأسترالي مفاجأة إذ شكل أول تحقيق في الصحافة الغربية والعالمية عن مقاومة الاحتلال وتحدث بإسهاب عن وجهات نظر المقاومين الذين التقاهم سرّاً وأكدوا له أنهم يقاومون بهدف تحرير وطنهم من الاحتلال وليس من أجل نظام أو حزب معيّن، وقال إن رجال المقاومة في بغداد يتحركون ويتنقلون بسهولة لأن قوات الاحتلال عاجزة عن السيطرة على المدينة الشاسعة كما أن الجنود الأميركيين يعيشون حالة من الرعب والخوف الدائمين بسبب نمّو عمليات المقاومة.
هكذا وصف (ماغيو) الحالة قبل 15 شهراً وكانت المقاومة في بداياتها، ولا شك أنها تضاعفت حالياً حيث قدر عدد العمليات اليومية آنذاك من 10 إلى 15 عملية. ويعترف الأميركيون حالياً بأن عمليات المقاومة تتراوح من 70 إلى 80 عملية كل 24 ساعة بعد أن كانت في مطلع العام الجاري 35-40 عملية يومية.
إن الاعتراف بهذه النسبة المرتفعة من العمليات ضد الاحتلال يشكل اعترافاً واقعياً بأن المقاومة الوطنية العراقية أصبحت قوة معنوية وعسكرية وسياسية وثقلاً في الحياة العراقية. وقد طالبت فرنسا علناً باشراك ممثلين عن المقاومة العراقية في أي مؤتمر دولي يعقد من أجل العراق مما أثار غضب المحتلّين وأعوانهم في الداخل العراقي. وبعد الإعلان عن عقد مؤتمر شرم الشيخ أسرع الأميركيون وحكومتهم المعينة إلى الإعلان عن معارضتهم الشديدة لحضور ممثلي المقاومة العراقية لأن هدف الاجتماع هو لدعم رموز الاحتلال وانتزاع المزيد من المبررات لشرعنة الاحتلال.
هل كانت المقاومة مفاجأة؟
طلبت الحكومة الأميركية قبل بدء غزو العراق من عدّة مراكز دراسات متخصّصة تقديم الدراسات عن احتمال قيام مقاومة مسلحة ضد القوات الأميركية في العراق، كما طلب من القوى العراقية التي عملت مع الأميركيين وحرضتهم على احتلال وطنهم أن تقدّم تقارير مفصّلة عن هذا الموضوع، وقد قُدمت تقارير هذه القوى مؤكدة إن احتمال قيام مقاومة حقيقية وفعّالة ضد الجيش الأميركي أمر مستبعد جداً. وأشيع أن المعارض المعروف صلاح عمر العلي كان الوحيد الذي رجّح قيام مقاومة ضاربة ولكن حليفه السابق اياد علاوي خالفه الرأي وافترقا منذ ذلك الوقت.
وعندما بدأت ضربات المقاومة حاولت قيادة الاحتلال تجاهلها ووصفت أعضائها بـ "فلول أنصار النظام السابق" و"بقايا البعثيين" ولكن تزايد العمليات غير الواقع ودفع المراسل الأسترالي البارز (ماغيو) إلى القول منذ آب/أغسطس 2003، بأن القوات الأميركية تعيش حالة من الرعب، وقد وصل الأمر مؤخراً إلى قيام حالات تمرّد داخل قوّات الاحتلال كان أبرزها ما حصل مؤخراً حيث رفضت وحدة عسكرية مواكبة شحنة وقود من بغداد إلى الشمال خوفاً من كمائن المقاومين.
وسنحاول في هذه الدراسة المتواضعة أن نبتعد عن تعليقات معظم الكتاب العرب الذين انقسموا إلى فريقين متناقضين:
الأول يرى أن المقاومة العراقية ستتمكن من إلحاق الهزيمة بأكبر قوة عسكرية عرفها التاريخ في فترة قياسية. أما الفريق الثاني يرى أن المقاومة ليست أكثر من مجموعة عصابات إرهابية تحاول زعزعة الاستقرار وعرقلة العودة إلى الحياة الطبيعية داخل العراق. والمنطق الثاني هو منطق الاحتلال.
لقد سُنح لنا الاطلاع على بعض الصحف العالمية الكبرى مثل (نيويورك تايمز) و(الأوبزرفر) و(الواشنطن بوست) وغيرها. وأجمعت هذه الصحف بتقارير مراسليها وكتابات محللّيها على أن المقاومة العراقية بدت منظمة منذ أيامها الأولى، ونشر أكثر من تقرير أميركي رسمي عن تنظيم المقاومة قبل وصول قوات الغزو الأميركي إلى العاصمة العراقية.
وقد جاءت اعترافات وزير خارجية بوش كولن باول ووزير دفاعه رامسفيلد والجنرال أبو زيد، واضحة عن قوة المقاومة العراقية التي اعتبرها كل من باول ورامسفيلد مفاجأة لم تتوقعها الإدارة الأميركية.
كانت الخطة الأميركية تهدف إلى السيطرة على العاصمة بغداد أولاً والمدن الأخرى الرئيسية ثانياً. وقد أقنع الذين عينتهم واشنطن حكاماً القيادة الأميركية بأن بغداد ستكون آمنة لأن أكثر من نصف سكانها من الشيعة وسيتمكنون بمساعدة الأكراد وسائر الوافدين مع قوات الغزو من السيطرة بسهولة على العاصمة التي ستكون آمنة وهادئة بعد أيام قليلة من اكتمال الغزو.
وقد كان الجنرال أبو زيد صريحاً عندما طالب بالمزيد من القوات الأميركية البالغ عددها حالياً حوالي 145 ألفاً. ويقول بعض المحللين أن العدد يصل حدود 200 إلف إذا تم احتساب المرتزقة من الذين لا يحملون جنسية أميركية إضافة إلى 60 ألفا من الجنود البريطانيين والذين ينتمون إلى المجموعة الاشتراكية السابقة دون ان ننسي ايطاليا.
وعندما نعلم أن الولايات المتحدة حاربت في فيتنام بأكثر من 600 ألف جندي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي ندرك أن طلب الجنرال أبو زيد كان مثيراً للاهتمام. كما أن قول كولن باول مؤخراً كان الأكثر دراماتيكية حيث اعترف بأن الولايات المتحدة تتوقع إياماً سوداء في العراق.
الصدمة الشيعية
ركزت الولايات المتحدة منذ حربها الأولى ضد العراق عام 1991، على الورقة الشيعية في العراق، واعتبرت جميع الدراسات والتقارير الأميركية الصادرة عن معاهد متخّصصة أن الشيعة العراقيين هم الحلفاء الأكثر ميلاً نحو الأميركيين بعد الأكراد الذين تعتبرهم الإدارة الأميركية جزءاً مكملاً لاستراتيجيتها الهادفة إلى تدجين المنطقة وتغييرها وإقامة "اسرائيل" ثانية وثالثة على أراضيها.
وقد رعت واشنطن المنشقين الشيعة وأغدقت عليهم الأموال لمعارضة الحكم السابق، ودربت المخابرات المركزية المئات منهم وربما الألوف ليشكلوا نواة حرب عصابات تنطلق من الجنوب وتتسلل نحو بغداد، وقد فشلت هذه المحاولات كما فشلت مراكز التجسس التي أنشئت قرب إربيل والسليمانية وتجاوزت كلفتها الخمسة مليارات دولار واستولي عليها الجيش العراقي في آب/أغسطس 1996.
أعطت المراجع الأميركية ثقتها لمجموعة قدمت لها المعلومات والنصائح كان على رأسها الدكتور فؤاد عجمي والدكتور كنعان مكية - الأول من أصل لبناني والثاني من أصل عراقي- وقد أغرق الاثنان الدوائر الأميركية بتقارير مفادها، أن العراق منطقة سهلة المنال وشعبها غير مؤهل للمقاومة المسلحة، والقوى الحقيقية الضاربة فيه تتكون بأكثرية 80 بالمئة من الشيعة والأكراد. وقد أيد حلفاء واشنطن من أمثال الجلبي وعلاوي والربيعي هذه التقارير.
واقترحت التقارير ذاتها على الإدارة الأميركية أن تتقرّب من ايران وتفتح معها قنوات حوار وتفاهم لأن طهران ستكون المحرك الأول لشيعة العراق كما اعتقد معدّو التقارير.
وقد استجابت الدوائر الأميركية لرغبات حلفائها العراقيين ومرت العلاقات الأميركية - الايرانية في مرحلة هدوء شهدت اتصالات جانبيّة مشجعة.
ولكن واشنطن فوجئت بصدمة شيعية منذ اليوم الأول لحملة الغزو حيث أظهر سكان أم قصر الشيعة والسنة بطولة ملفتة ضد الاحتلال وتمكنت تلك البلدة الصغيرة من عرقلة جحافل الغزو ولأكثر من أسبوع.
ومن أم قصر إلى الناصرية والعمارة والحلّة كان السكان الشيعة مجمعين على رفض الاحتلال ومحاربته ورفض التعاون معه. وهذا الإجماع لا يشمل الذين رافقوا القوات الأميركية ودخلوا على متن دباباتها.
وكانت الصدمة الشيعية الأكثر ألماً لواشنطن اغتيال السيد الخوئي والسيد محمد باقر الحكيم على يد مناوئين لهما رجح أنهم من الشيعة، حيث تأكدت القوة المحتلة من أن الشيعة العراقيين هم مثل غيرهم من الوطنيين يرفضون الاحتلال وينتمون إلى مدارس سياسية ودينية متعدّدة قد تختلف في الشكليات ولكنها متقاربة في الجوهر.
وبعد أن واجهت واشنطن هذا الواقع وأذهلتها الصدمة الشيعية راحت تتعامل مع جميع مناوئيها بأسلوب واحد. فالغارات على المدنيين الشيعة في النجف وسامراء وبغداد والناصرية لم تكن أقل وحشية من غارات الدمار التي طالت السنة في الفلوجة والرمادي وبعقوبة وتلعفر وغيرها.
وقد سادت العراق والعالم العربي موجة من التساؤلات حول موقف آية الله على السيستاني الذي أفتى أحد مساعديه الرئيسيين بضرورة المشاركة بالانتخابات القادمة، وتوعد عدم المشاركين بنار جهنم!!. لم يوضح السيد السيستاني موقفه مما يفيد أنه يؤيد إجراء انتخابات في ظل حراب المحتلين!. وكان دعا إلى ذلك بعد الاحتلال بأسابيع. كما أنه تغيب عن النجف بحجة الاستشفاء في لندن عندما قامت قوات الاحتلال بتدمير أكثر من 20 بالمئة من مدينة النجف وأوقعت مئات القتلى من المدنيين في مجابهات مع أنصار السيّد مقتدى الصدر.
ولكنّ هذه المواقف لا تعبّر عن موقف الشيعة العراقيين الذين شكلوا جزءاً فعالاً من المقاومة منذ الساعات الأولى للاحتلال. وهذا لم يخيّب آمال قوى الاحتلال فقط بل أذهلها لأن معظم الدراسات الأميركية توقعت صراعاً شيعياً - سنياً مريراً إلى حدود حصول حرب أهلية. وكانت الصحافة العربية بأكثرية منابرها وكتّابها تتبع الخطّ الأميركي في إشارات إلى عراق سني وعراق شيعي وثالث كرديّ!!.
وقد غرقت أقلية عراقية في هذا المستنقع المذهبي الخطير، ولكن الأكثرية استدركت الأمور واستوعبت ما يجري وأسرعت إلى تشكيل لجان شيعية - سنية للعمل على توعية الرأي العام وإجراء حوار واتصالات دائمة بين رجال الدين من شيعة وسنّة. كما أنشئت لجان متعددة في الأحياء الشيعية من بغداد لجمع مساعدات من أدوية وأغذية وألبسة لسكان مدينة الفلوجة المحاصرة ودعم صمودها ضد الاحتلال.