المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صلاح الدين ..



المهند
20-11-2004, 08:02 AM
صلاح الدين


قول لنا الحياة أن هناك من يصنع نفسه وهناك من يصنع المجتمع وهناك من يصنع التاريخ .. وهذا أشرف الشرفاء جميعا ..
وهكذا كان القائد المسلم الأشهر "صلاح الدين الأيوبي" ، الذي تحل هذه الأيام ذكرى وفاته (27صفر589هـ – مارس 1193م) ، والذي سطّر صفحات من الذهب في التاريخ الإسلامي .. ومع هذه الذكرى العطرة نستحضر المعاني الحلوة التي تجلت في سيرة هذا البطل .. معاني الجهاد والعزة والإنتصار .. وسط أيامنا العربية الحاضرة ، التي جدبت فيها مثل هذه المعاني منذ زمن .

اسم "صلاح الدين" يحمل لدى الغربيين مرارتين ، الأولى استرداده القدس وإنهاؤه المملكة الصليبية فيها ، والثانية ، سمعته الرائعة بالتسامح والفروسية ، حتى صار ، وهو العدو ، المثل الأعلى لعدد كبير من فرسان الفرنجة في ذلك الزمان الغابر .

حاول "بطريرك القدس" وهو يستثير الناس في أوروبا– بصورة مزورة للقبر المقدس .. يدنسه المسلمون – أن يشوه سمعة صلاح الدين ، لكن الوقائع التي رواها الصليبيون العائدون من الشرق ، كذبت تلك الدعاية الزائفة .

بدأ صلاح الدين (يوسف بن أيوب 1137-1193م) الإهتمام بالحرب والسياسة وهو في الثامنة والعشرين من العمر ، حين أرسله "نور الدين زنكي" مع الحملات إلى مصر ، ثم صار الرجل الأول في الشام ومصر بعد وفاة نور الدين .

وقد شملت سلطنته ما بين برقة وأرمينيا واليمن ، وبنى عددا من الحصون والمدارس و"البيمارستانات" (مستشفيات) . وامتاز عهده بهندسة معمارية عسكرية .. ازدهرت خلالها هندسة المدن بالترافق مع ازدهار العلوم والصناعات والفنون ، وامتد حكمه لمصر لأربعة وعشرين عاما ، وللشام تسعة عشر عاما ، وتوفى ودفن في دمشق بجوار الجامع الأموي .

صلاح الدين هو يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان ، أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي ، وكان أبوه وأهله من قرية تقع شرق أذربيجان ، من قبيلة "الروادية" الكردية .

كان لجده "شاذي" ولدان هما : أيوب وشيركوه ، نزل بهما إلى تكريت ، وفيها ولد لأيوب عام (532هـ - 1137م) ولد دعاه يوسف ، وفيها مات الجد . وفي تكريت تولى أيوب أعمالا ، ثم خرج مع شيركوه إلى الموصل ، حيث التحقا بخدمة صاحبها عماد الدين زنكي ، ثم ابنه نور الدين محمود من بعده ، صاحب دمشق وحلب ، حيث تبوأ منزلة رفيعة عنده . وتلقب أيوب بـ "نجم الدين" ، وشيركوه بـ "أسد الدين" ، ويوسف بـ "صلاح الدين" .

نشأ صلاح الدين وتربى في مناخ مشبع بروح الجهاد ، وكان يمتلك قلباً شجاعاً جسوراً . وذات مرة كان هو وكاتبه العماد الأصفهاني يركبان البحر ، وحدث أن هاجت الأمواج ، فحدثه الأصفهاني أنه يخاف من البحر ، ولكنه وجد قائده لا يبالي ، فسأله : كيف لا تخاف أنت ، فقال له : ما هي أشرف الميتات ، قال أشرف الميتات الموت في سبيل الله ، قال فهذه هي غايتي ، غايتي أن أموت أشرف الميتات ، لا أموت على فراشي ، أحسن ما أموت عليه أن أموت في سبيل الله ، أن تصيبني ضربة بسيف أو رمية برمح أو طعنة بسهم فأقتل في سبيل الله .

وكان إلى جانب هيبته رقيق النفس والقلب ، محبا للعلم ، بعيد النظر ، متواضعا ، يشعر من يقترب منه بالحب مع الهيبة .

الهجوم الصليبي على المشرق

كان المشرق الإسلامي ، في تلك الفترة ، قد عرف صحوة حربية بدخول جموع السلاجقة الترك أراضي الخلافة العباسية ، وحملهم أعباء الحكم والحروب فيها ، منذ عام 1055م . ومن أروع ما فعلوه أنهم هزموا الإمبراطورية البيزنطية في موقعة "ملازكرد" عام 1071م حيث انتزعوا منها معظم آسيا الصغرى ، كما صاروا حكام الشام ، بما فيه القدس الشريف ، بعد أن أخذوه من الفاطميين . .

عبرت جموع الصليبيين بعد القسطنطينية آسيا الصغرى ، وهزمت السلاجقة في دوريليوم عام 1097 ، ووقفت طويلا عند "إنطاكية" حتى احتلتها عام 1098 ،

ثم انحدرت جنوبا فاحتلت القدس بعد مجزرة رهيبة خلفت وراءها 70 ألف قتيل في يوليو 1099 ، في يوم حالك من أيام التاريخ الإسلامي .
أسس الصليبيون منذ الأيام الأولى لوصولهم إمارة في "الرها" (في الشمال) ، ثم إمارة في "إنطاكية" ، ثم مملكة في القدس . وقبل أن تسقط طرابلس عام 1109 ، أقاموا باسمها الإمارة الإفرنجية الرابعة . بدأت المقاومة للاحتلال الصليبي منذ أيامه الأولى ، وظلت في تصاعد مستمر وبناء قلاع
لحوالي 30 عاما ، حتى ظهر الأتابك زنكي (1085-1146) ، الذي بدأ توحيد القوى الإسلامية . ويتمثل إنجازه الكبير في أنه استطاع أن يحتل الرها عام 1144 فألغى بذلك أول إمارة صليبية في المشرق ، كان ذلك نقطة التحول في تاريخ الحروب الصليبية وبدء توازن القوى بين الطرفين .

كانت ردود الفعل الأوروبية على سقوط الرها عنيفة ، ما أدى إلى تحريك الحملة الصليبية الثانية (1147-1149) ، التي اشترك فيها لأول مرة ملوك أوروبيون : ملك فرنسا "لويس السابع" وإمبراطور ألمانيا "كونراد الثالث" ، الذي سُحقت قواته الكثيفة على يد السلاجقة في معركة "دوريليوم" عام 1147 . أما قوات الملك لويس فقد وصلت إنطاكية بحراُ .

في اجتماع عكا 1148، قرر الصليبيون مهاجمة دمشق ، وكاد الحصار الذي ضرب عليها أن ينجح ، لولا الخلافات التي شبت بين ملوك الفرنجة حول توزيع الغنيمة ، والتي كانت سبباً في فشل حملتهم وهزيمتهم .


حطيــــــــــــن


كان زنكي قد توفى ، فقطف الثمرة ابنه نور الدين محمود عام (1118-1174) ، الذي استطاع أن يضم دمشق إلى مملكته في حلب عام1154 ، وأن يحقق خطوات هامة في توحيد القوى الإسلامية ، كان من أهمها فوزه في السباق مع مملكة القدس الصليبية للاستيلاء على مصر ، حيث كانت الخلافة الفاطمية هناك في منتهى الضعف ، نتيجة الخصومات التي كانت متفشية بين الوزراء والجيش ، حيث استنجد بعضهم بنور الدين وآخرون بالصليبيين .

حين تمكن قائده صلاح الدين الأيوبي من الحكم في مصر ، ألغى الخطبة للخليفة الفاطمي الأخير "العاضد" ، الذي توفى في تلك الأثناء (1171) ، وأضحت مصر بذلك ، الجناح الغربي لمملكة نور الدين التي صارت تطوق الإمارات الصليبية من الشرق في الشام ومن الغرب في مصر .

وكانت وفاه محمود السريعة بعد ذلك ، قد تركت لصلاح الدين مهمة تسديد الضربة القاتلة للفرنجة بقيادته لتلك المملكة الموحدة . فقد استطاع ، بالحرب والسياسة ، أن يجمع في يديه قوى المنطقة الإسلامية ، من شمال الجزيرة والشام ، حتى أقاصي مصر واليمن وبرقة ، وكان ذلك نذير النهاية لمملكة القدس والإمارات الإفرنجية الأخرى في طرابلس وإنطاكية . .

ثم كانت المعركة الفاصلة بين القوى الصليبية مجتمعة وبين جيش صلاح الدين في "حطين" غربي طبرية في يوليو 1187 . ففي يوم من أيام الإسلام المشهودة سحقت بجسارة قوات صلاح الدين القوى الصليبية ، وأسرت ملك القدس مع جمهور أمرائه ، حتى قيل : "إن من شاهد القتلى قال : ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال : ما هناك قتيل" . وفي الثاني عشر من أكتوبر 1178 تم استرداد بيت المقدس ، ودخلها المسلمون في ذكرى ليلة الإسراء والمعراج . ،

ويجمع العديد من المؤرخين المعاصرين على أن دوافع الحروب الصليبية على ديار الإسلام كانت بعيدة كل البعد عن الدين ، وإنها كانت إحدى نتائج الصراع بين البابا والملوك والأباطرة في أوروبا ، حيث كان يأمل الأول من وراء إشعالها ، أن تتزايد سلطته وأن تتوحد الكنيستان البيزنطية والرومانية تحت رئاسته ، كما كان وراءها الدافع الاقتصادي (النهب والاستيلاء) ورغبة القوى الجديدة في تجاوز النظام الإقطاعي .

المهند
20-11-2004, 08:08 AM
شخصية البطل

تمثل في شخصية صلاح الدين نموذج الشخصية الإسلامية بكل جوانبها ، تلك الشخصية صانعة التاريخ ، صاحبة أعظم رسالة في الوجود ، التي لم تر الإنسانية مثلها إلا في ظل الإسلام العظيم .

"قضى حياته صابرا على مر العيش وخشونته ، مع المقدرة التامة على غير ذلك احتسابا لله تعالى .. " كما يقول ابن شداد رحمه الله تعالى *.

ويحدثنا الأخير أيضا إنه "كان رحمه الله كثير المروءة ، ندي الوجه ، كثير الحياء ، منبسطا لمن يرد عليه من الضيوف ، يكرم الوافد وإن كان على غير دينه ، وكان حسن العشرة ، لطيف الأخلاق ، طيب الفكاهة ، حافظا أنساب العرب ووقائعهم ، عارفا بسيرهم وأحوالهم ، عارفا بعجائب الدنيا ونوادرها ، بحيث يستفيد محاضره منه ما لا يسمعه من غيره .. وكان طاهر المجلس لا يذكر بين يديه أحدا إلا بالخير .. وطاهر اللسان ، فما رأيته أولع بشتم قط .. فما أحضر بين يديه "يتيم" إلا وترحم على مخلفه ، وخبر قلبه ، وأعطاه خبز مخلفه ، وإن كان له من أهله كبير يعتمد عليه سلمه إليه .. "

وقال في كرمه وتواضعه وحبه الجم للجهاد في سبيل الله تعالى : "كان خازنوه يخفون على الدوام بعض المال للطوارئ ، لأنهم كانوا يعلمون أنه لو عرف السيد بذلك المخزون لأنفقه في الحال . وإذا أضاف البعض إليه لقب سلطان ، فهو نفسه لم يستعمله قط . وكان رحمه الله شديد المواظبة على الجهاد ، عظيم الاهتمام به ، .. وأنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد دينارا ولا درهما إلا في الجهاد .. ولقد كان الجهاد وحبه والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيما ، بحيث ما كان له حديث إلا فيه ، ولا نظر إلا إلى آلته ، ولا اهتمام إلا برجاله ، ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحثه عليه .. وقنع بالدنيا بالسكون في ظل خيمه .. ولقد ألف له كتب عدة في الجهاد وأنا ممن جمع له فيه كتابا " .

وقال في شجاعته : "لقد انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا ، حتى القلب ورجاله ، ووقع الكؤوس والعلم ، وهو ثابت القدم في نفر يسير ، وقد انحاز إلى الجبل يجمع الناس ويردهم ، ويخجلهم حتى يرجعوا للقتال ، إلى أن ظهر له ضعف المسلمين فصالح وهو مسئول من جانبهم .. " .

أما الرحالة ابن جبير فقال يصف همته ونشاطه : كان "لا يأوي لراحة ، ولا يخلد لدعة ، ولا يزال سرجه مجلسه" .
وقال عبد اللطيف البغدادي يصف شعور من حوله تجاهه : "إن القريب منه لا يستطيع سوى أن يشعر بحب ممزوج بالهيبة" .

أما مؤرخ الفرنجة وليم الصوري فقال عنه : "حكمه مفعم بالحصافة ، شجاع في الحرب ، كريم لدرجة الإسراف .." .

ويروي ابن شداد عن رحمة صلاح الدين : "كنت أسير بجوادي إلى جانب السلطان قبالة الفرنجة ، فأقبل نحونا أحد كشافة الجيش ومعه امرأة تنتحب ، وتقرع صدرها ، فقال لنا : لقد خرجت من عند الفرنجة ، تريد مقابلة رئيسنا فأحضرناها .. وقالت المرأة : دخل أمس لصوص خيمتي وسرقوا ابنتي الصغيرة ، وقضيت الليل بطوله أبكي ، فقيل لي إن ملك المسلمين رحيم ؟ ، سوف نتركك تذهبين إليه ، .. وها أنا ذي أتيت عاقدة عليك كل الآمال .. ، فتأثر صلاح الدين وفاض الدمع من عينيه ، وأرسل في البحث عن الطفلة .. وأقبل فارس يحمل الطفلة .. وما أن رأتها حتى ارتمت على الأرض ومرغت وجهها في التراب " .

ويصف ابن شداد صبره وجلده في مرضه : "أما صبره فقد رأيته بمرج عكا ، وهو على غاية من مرض اعتراه .. بحيث لا يستطيع الجلوس ، وإنما يكون متكئا على جانبه إذا كان في الخيمة ، وامتنع عن مد الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس ، وكان يأمر أن يفرق على الناس ، وكان مع ذلك يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر ، يطوف على الأطلاب ، ومن العصر إلى صلاة المغرب ، وهو صابر على شدة الألم .."

وجاء في وصيته لإبنه : "أحذرك من الدماء ، والدخول فيها والتقلد لها ، فإن الدم لا ينام .. ولا تحقد على أحد فإن الموت لا يبقي أحدا .. واحذر ما بينك وبين الناس ، فإن الله لا يغفر إلا برضاهم .."

وفاة البطل

توفي صلاح الدين في السابع والعشرين من صفر 589 هـ .. قال "ابن شداد" في وفاته : "كان يوما لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله ، منذ فُقد الخلفاء الراشدون ، وغشي القلعة (دمشق) والملك والدنيا وحشة لا يعلمها إلا الله تعالى ، وبالله لقد كنت أسمع من الناس أنهم يتمنون فداء من يعز عليهم بنفوسهم ، وكنت أتوهم أن هذا الحديث على ضرب من التجوز والترخص إلى ذلك اليوم ، فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالأنفس ،

ولو تقبل تضحياتنا لكنت أنا وغيري ، قد أعطينا حياتنا له " . .ثم يقول " إنه مات ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما ناصرية وجرما واحدا ذهبا صوريا ، ولم يخلف ملكا .. لا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة" . وفي ساعة موته كتب القاضي الفاضل إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب رسالة كان مما جاء فيها : " .. وقد زلزل المسلمون زلزالا شديدا ، وقد حفرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الحناجر .."

ومما قاله الكاتب الأصبهاني في رثائه :

لا تحسبوه مات شـخصا واحدا قد عم كل العالمين مماته
يا وحشة الإسلام حين تمكنت من كل قلب مؤمن روعاته

فما أحوج الإنسانية المنكوبة الآن - والمسلمين منها بخاصة - لمثل هذه الشخصيات ، تكون بلسما لجراحها المروعة التي تئن وتصرخ منها صباح مساء ، والتي أذاقها إياها "الرجل الأبيض" بقيمه المجرمة ، التي سطرت في صفحات التاريخ سطورا كالحة من القتل والترويع والمذابح والإبادة والنهب والاستيلاء ...
ولله الأمر من قبل ومن بعد .



-----------
** هو القاضي بهاء الدين المعروف بـ ابن شداد ، الذي عاصر صلاح الدين وخالطه وجالسه ، وكتب سيرته في كتاب أسماه " النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية "

-------------------
- المصادر :
(1) "بهجة المعرفة" موسوعة علمية مصورة - الشركة العامة للنشر - ليبيا .
(2) القاضي بهاء الدين بن شداد - " النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية " .
(3) مجلة الهلال المصرية - عدد إبريل 2004 .



,

القعقاع المسلم
25-11-2004, 01:42 AM
بارك الله بك أخي الحبيب