المهند
20-11-2004, 07:30 AM
للبيت رب يحميه
بقلم : محمـود شنب
mahmoudshanap@yahoo.com
علينا ونحن نشاهد الحرب الدائرة الآن فى العراق ألا ننسى حقيقة هامة مفادها أن العراق يعيش حالة حرب مع أمريكا منذ أمد بعيد .. حرب عسكرية وسياسية واقتصادية ومعنوية ، ولكونه بلد عظيم فقد صمد حتى الآن ، وهذا الصمود الأسطورى هو الذى يوغل صدر أمريكا ويجعلها فى حالة هستيريا مع هذا البلد العظيم .
لقد حوصر العراق طويلاً قبل معاركه الأخيرة ، وظل يقصف من قِـبل الطائرات الأمريكية والبريطانية على مدى ثلاثة عشر عامًا بصورة شبه يومية ، وعاش فى كيد متواصل من كل دول الجوار ، وفى ظل هذه الظروف القاهرة استطاع أن يبنى أكثر مما بنى غيره واستطاع أن ينتج ويبدع ويعلو ويكبر .
كان يزرع القمح وحين الحصاد تأتى طائرات أمريكا وتحرقه ثم تدعى أن ذلك حدث عن طريق الخطأ ... لم تترك أمريكا شيئـًا فى العراق إلا وفعلته .. لم تسلم منها حتى المواشى والأنعام فقد قتلت منها أكثر مما قتلت من البشر ... زرعت الجواسيس وزرعت الموت ونشرت الخراب ، لكنها فشلت فى تركيع العراق أو النيل من كرامته ... استعانت بالموساد والعملاء والحكام العرب والأمم المتحدة ، ولم تفلح فى النيل من العراق أو شق الصفوف وإحداث انقلابات .
لقد تميز النظام العراقى بالصلابة والترابط والولاء ، واستطاع صدام من خلال حكومة قوية ورجال شرفاء إحكام السيطرة على كل شبر فى العراق .. حتى فى المناطق الكرديه التى خضعت للحماية الأمريكية ظلت ضمن كيان الدولة وتحت إمرة قائدها .
لقد صمد العراق طويلاً وأبلى بلاءً حسنـًا أذهل كل العالم وأثبت قدرات مذهلة فى المناورات السياسية والمواجهات العسكرية واستطاع أن يوفر الدواء والغذاء لشعبه فى ظل ظروف صعبة وقرارات دولية جائرة وظالمة .. تبدل عليه حكام أمريكا الحاكم وراء الآخر والكل على عهد الغباء والبغاء والعدوان ، وظل العراق عصيًا على الجميع حتى والأشقاء يعملون مع الأعداء ضده دون استخدام للعقل أو المنطق أو الحكمة ، وتاريخ العراق كله كان تاريخ عطاء حتى وهو فى أشد أيام المحنة كان يمد يده للجميع بالخير ... أمد الأردن بما لا يُحصى من معونات ، وأمد المناضلين فى فلسطين فى العلن والخفاء وحفظ أسر الشهداء ، وساعد القيادة المصرية منذ النكسة وحتى النصر ، وفتح العراق لكل مواطن مصرى ضاق عيشه فى بلده وجاء يبحث عن الرزق فى العراق فوجده فى شعب يحبه وحاكم يصون كرامته .
والتاريخ لم يكشف بعد عن طبيعة حربه مع إيران والتى ساندتها مصر وذكتها السعودية وكل دول الخليج وجعلوها حربًا بالوكالة ، ومازال التاريخ عصيًا عن كشف الحقائق التى دفعت النظام العراقى لتأديب "طراطير" الكويت وإجبارهم على الهروب والاحتماء بالأسياد ... مازال فى جعبة التاريخ الكثير وفيه من الأسرار ما ليس له نظير ، وفى يوم من الأيام سيعلم الجميع أن كل خطوة خطاها النظام العراقى كان لها ما يبررها ، والإعلام الفاسد هو الذى زيف الواقع وغير الأحداث وصور النظام العراقى فى صورة البلطجى الذى ينادى "شكل للبيع" وهذا خطأ فكل ما تعيشه المنطقة من أحداث ومصائب كان من صنيعة الأيادى القذرة فى الكويت والعقول الخربة لحكام العرب .
إن العراق كان بمثابة نقطة الضوء الوحيدة فى المنطقة العربية وكان البلد الوحيد الذى استثمر أموال نفطه فى التنمية الزراعية والصناعية ورعاية العقول وإنتاج العلماء ، ولم يبذر ماله فى نوادى القمار والكباريهات ... أما القصور التى يتحدثون عنها فلكل مولود فى الأسر الحاكمة فى دول الخليج ألف قصر ما بين القصر والقصر قصر ، وهناك قصور للمحظيات من الساقطات وبائعات الهوى شيدت خصيصًا لفعل الحرام وشرب المنكر !!
العراق كان بمثابة بذرة الخير التى أعيقت عن الإنبات ، وكان بمثابة الطفرة فى منطقة جفرة يحكمها حيوانات .
إن صدام حسين وهو فى الأسر تخشاه أمريكا أكثر من خشيتها من كل حكام العرب ، ولقد حجبت أمريكا صوته أثناء محاكمته لإدراكها بأن لديه الحجة والبرهان والقدرة على دحض الأكاذيب وكشف الزيف .
إن أحدًا من أفراد الحكومة العراقية لم يهرب ويترك صدام رغم تأكد الجميع من حتمية المواجهة مع أمريكا ... حتى الذى كان يعمل منهم خارج البلاد عاد إلى جوار القائد ليعيش فى قلب الميدان ويدافع عن ما أتخذ من قرارات .
ألم نسأل أنفسنا يومًا لماذا قبل الجميع المواجهة ولم يتخلصوا من القائد أو يفروا إلى إحدى دول الجوار ، وهل لو كان صدام على خطأ فهل يعقل أن يكون كل من حوله كانوا على خطأ ولم يتنبهوا لخطورة الموقف ، وهل يعقل أيضًا أن يضحى المرء بنفسه وأسرته وعائلته وأمواله من أجل باطل لا يقتنع به ؟!!
إن النظام العراقى كان فريدًا فى كل شئ ومتميزًا فى كل المراحل ، وفى أوقات المحن تظهر حقيقة المعادن ، ولا يمكن لعاقل ركوب سيارة مفخخة سوف تنفجر فى أى لحظة إلا إذا كان يدافع عن حق ، ومهادنة النظام ومجاراته لا تتم إلا فى أوقات السِلم والرفاهية ، أما فى أوقات الخطر والشدائد فلا أحد يساند الباطل ويصمد أمام الخطر إلا إذا كان على حق ، فالباطل أشبه بقارب يغرق .. يقفز منه الجميع ، والحق أشبه بألواح الخشب وأطواق النجاة التى يلتف من حولها الجميع .
يعلم ذلك مبارك وخادم الحرمين وكل حكام العرب ، فهم أجدر الناس لفهم طبائع الخونة ومعرفة سمات المنافقين .
لقد كان صدام من معدن آخر غير تلك المعادن التى من صفيح ، وهذا هو شعبه ، وتلك هى دولته ، وهؤلاء هم قومه ... الجميع يقاوم ويحارب ويدافع ويفعل ما لا تستطيع دولة هظمى أن تفعله ... إن الدول العربية مجتمعة لا تستطيع أن تصمد صمود مدينة واحدة من مدن العراق العظيم .. الأمر يحتاج إلى حُسن تربية وليس لفهلوة وتلاعب بالألفاظ .
علينا أن نتذكر دائمًا أن العراق فى حرب حقيقية ليس من عام ونصف وإنما منذ ما يزيد عن ثلاثة عشر عامًا .. حرب ليس طرفها الصومال أو اليمن أو إحدى دول الخليج وإنما طرفها الباغى كان طاغوت العصر وأشد الدول إجرامًا وغدرًا وحماقة وجهلاً على وجه الأرض .
واليوم يقف العراق وحده فى المعركة .. يصمد بمدد من السماء ولا يطلب مساعدة من أحد إلا من الله .. إنه كالمال الحلال الذى لا يريد أن يلوث بالحرام ..
لقد قابلنا إحسان العراق بالخيانة ، وكرمه بالبخل ، وعهده بالغدر ، وشهامته بالتخاذل والجبن ... قابلناه بكل عيب ولم نقابله بما يستحقه من وفاء ، وسيظل الحال على ما هو عليه حتى تفيق الشعوب من غفلتها وتهب فى وجه قادتها ، فليس الحكام فقط هم من خانوا العراق .. الشعوب الصامتة هى أول من خان العراق ، وكان على الجميع أن يرقى لمستوى الأحداث ويعلن التمرد والعصيان .
إن الشعوب الحية قادرة على إسقاط الأنظمة وتغيير السياسات ، ولنا أن نتخيل لو تغير النظام فى السعودية ومصر وكل دول الجوار العراقى ... لنا أن نتخيل لو امتلكت الشعوب زمام الأمور وأعلنت التحدى والعصيان ...!!
لقد استمر الحكام فى هوانهم وضلالهم لأنهم لم يجدوا من يردعهم ويقف فى وجوههم .. يحدث ذلك رغم توقع الحكام للمقاومة وانفلات الأمور إذا ما اعتدت أمريكا على العراق ، ولقد حذر مبارك أمريكا وهو يرتعد خوفـًا قبل اندلاع المعارك بأيام قائلاً : إن الأمور ستكون خارج السيطرة وإن الحكام لن يستطيعوا مواجهة الشعوب ... لقد تصور الحكام العرب ما كان يجب أن يحدث ، فلماذا لم يحدث ؟!!
هل هو خلل فى التقدير ؟!! ... أم كان جُبن وتقصير ؟!!
لقد ارتعد الحكام خوفـًا من الأحداث للدرجة التى أغلقوا فيها المدارس والجامعات تحسبًا لحركة الشعوب ، فأين هى حركة الشعوب ؟!!
الجميع الآن ـ شعوبًا وحكام ـ يلتفون حول أجهزة التلفاز ويشاهدوا المجازر فى كل من العراق وفلسطين ، ثم يمضى كل منهم إلى إمرأة ينكحها أو دنيا يصيبها ، وكان الله بالسر عليم ...
فإلى من نرجع هذا الخلل الذى أصاب حركة الشعوب وجعل الحكام يتمادون فى الضلال ؟!!
هل يرجع ذلك إلى علماء الأمة ومشايخها ؟!!
أم إلى كتابها ومثقفوها ؟!!
أم إلى التربية التى ساءت فى ظل تهميش الإسلام وتغييبه ؟!!
أم نرجعه إلى القبضة الأمنية التى تشتد بسواعد أبناء علاوى فى كل عواصمنا العربية ؟!!
إن كل ما أصاب فلسطين والعراق إنما هو من تقاعس الشعوب الذى رافق خيانة الحكام ، ولسوف يُسأل كل منا عن دوره فيما يلقاه المسلمون فى كل مناطق النزاعات ... ماذا قدم كل منا وماذا أخر ؟!! ... يومها لن تصلح رقبة الحاكم لأن تكون شماعة تحمل تقاعس ملايين البشر عن نصرة الحق وتأييده .
إننا نعيش فى غفلة لا أجد ما يبررها ، ونعيش فى حالة أشبه بالكابوس الذى لا نهاية له إلا بإيقاظ النائم وإفاقة المارد وإخراجه من حالة النوم التى سوف تقضى عليه وتقتله .
من قال أن أحداث العراق لن تؤثر على السعودية وكل دول المنطقة ؟!!
من قال أنها لن تترك بيتـًا من بيوت المسلمين إلا وسترسم عليه الصليب ونجمة داوود ؟!!
من قال أنها لن تجعل العزيز فينا ذليلاً وعاملاً بالأجرة لدى كلاب جهنم ؟!!
إن كل شئ سيتغير فى بضع سنين إذا ما دانت الأمور لأمريكا ، والمقاومة وحدها وحركة الشعوب هى التى سوف تنقذ الأمة من السقوط ، وحسنـًا ما فعلته مجموعة علماء السعودية والتى أعلنت فى بيان لها غضبتها لله ودعوتها للجهاد وتسمية المقاومة فى العراق بالمقاومة والجهاد وليس بالتخريب والإرهاب مثلما تسمى السلطات ، وياليت كل علماء الأمة يفعلوا ما فعله علماء السعودية ، فالمواطن العادى فى أشد الحاجة لمن يقوده ويبصره وينقذه من حكم الأنظمة ومكر الليل والنهار .
وإننى كمصرى أسأل نفسى كثيرًا ... أين سنذهب من غضب الله إن حاق بنا ؟!! ... أين ستذهب مصر من جراء كل ما تقدمه للخونة والعملاء والأعداء من تسهيلات وخدمات ؟!!
يعز على النفس أن أقول إن مصر بقيادتها الحالية أصبحت أكبر ظهيرة للمجرمين على ظهر الأرض !!
أين ستذهب مصر من غضب الله من عواقب ما اقترفته أيادى النظام فى حق أصحاب الحقوق ودول الجوار ؟!!
أين ستذهب من "شرم الشيخ" التى صارت مقرًا دائمًا لإجتماعات الخونة ومؤامرات العملاء ؟!!
إن مصر الآن تلعب دورًا خطيرًا من شأنه تمكين أمريكا فى العراق ، وقد أقنعت سوريا بضرورة ضبط الحدود ومنع تسلل المجاهدين إرضاءً لأمريكا ، وهى الآن بصدد الإعداد لاستضافة مؤتمر دولى مشبوه يدعم موقف أمريكا والانتخابات العراقية وتثبيت أقدام علاوى وحكومته فى العراق ... إن مبارك أصبح أهم ورقة فاعلة فى يد أمريكا ، وما يقدمه مبارك فى الخفاء يفوق بكثير ما يقدمه فى العلن ، وما يقدمه بالصمت أشد خطرًا مما يقدمه بالقول ، ولولا مبارك وأمثاله ما استطاعت أمريكا تحقيق أى شئ .
إن أمريكا مهما بلغت قوتها تظل عاجزة عن تحقيق أى من أهدافها فى حالة غياب العملاء ممن ينتسبون لهذا الوطن المنكوب .
لقد وقف علاوى وسط مجموعة من الجنود المرتزقة قبل اقتحام الفلوجة وخطب قائلاً : ( إن أعضاء الحكومة العراقية كلها معكم ، ومعكم قوات التحالف ، ومعكم دول الجوار ) ... نعم يا مارق يا وضيع يا خنزير يا خرتيت ... نعم .. كل دول الجوار مع عصابة علاوى وجنود أمريكا ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
ومشكلة العراق لا أراها فى معارك ومذابح الفلوجة ، ولا أراها فى من يموت شهيدًا أو يعيش عميلاً ، فكل سيلقى ربه على ما مات عليه ومات فى سبيله ، إنما المشكلة أراها فى دولة مثل أمريكا تنتصر بالباطل وتعلو بالغدر وتسود بالخيانة .. المشكلة أراها فيمن يعيشون بيننا ويلعقوا أحذية أمريكا .. المشكلة أشعر بها فى ابتسامة بوش وأشاهدها فى وجه غير بشوش يمثل انتصار الباطل وجبروت الظالم .. المشكلة تكمن فى مشاهدتى لأمور لا تمت للواقع بصلة من خلال تسويق مسميات ما أنزل الله بها من سلطان ولا يمكن أن تتوافق مع النفس السوية والعقل السليم حيث المقاومة إرهاب وقوات الاحتلال قوات تحرير والهدم بناء والخيانة أمانة !!
لقد سقطت الأمة منذ أمد بعيد ، ومنذ تسمية الأشياء بغير مسمياتها الحقيقية .. منذ أصبح الربا فائدة ، والشذوذ حرية ، والإباحية فن ، ومعصية الله تمدن وديمقراطية ، وسب الله إبداع ، والتخابر مع الأعداء حكمة وتعقل ..
إننا نعيش فى حصار ضرب علينا داخليًا وخارجيًا ، وما فشل فيه المستعمر حققه علماء ومشايخ هذا الزمان .. طاعة الله أصبحت تتم بتصريح من زقزوق ، والجهاد فى سبيل الله أصبح من أعمال العنف على حد قول شيخ الأزهر ... إنه حصار الداخل والخارج وتدريب الأعين على التوافق مع شكل المجازر ولون الدماء والتعود على حياة القهر والذل مع التحلى بالصمت وعدم الإعتراض .
الرئيس النمساوى يُعلن أن الإسلام ليس إرهابًا وأن من حق الدول أن تدافع عن نفسها واصفـًا الوضع فى العراق بأنه احتلال ، فهل يجرؤ حاكم عربى على قول ذلك ؟!!
إن حكامنا فقدوا كل شرعية تربطنا بهم ، ولقد أهانوا أنفسهم وأهانونا معهم ، فإلى متى الصبر على هؤلاء البلهاء السفهاء العاجزين الفاشلين ممن فقدوا كل الخطوط الحمراء على المستوى الشخصى والمستوى الوطنى ؟!!
يهان الحاكم فى أمريكا ويركنه رب البيت الأبيض أيامًا عديدة ثم يقابله ساعة أو بضع ساعات ، ولا يغضب الملك أو الأمير أو الرئيس من الإهانة والاحتقار ، ويهان الوطن وتـُرسم من الخارج حدوده وسياساته ولا يجد الحاكم فى ذلك عيبًا أو إهانة !!
الحاكم لدينا مثل الخادم الذى يتفرعن على أهل بيته ويُقبل يد سيده .. يسب أولاده وزوجته ويلعق حذاء واليه ..
الحاكم لدينا مثل كلب الصيد الذى يذهب حيث تكون الإشارة ولا يتحرك إلا بأمر السفارة ..
الحاكم لدينا لا يعرف شيئـًا عن الإسلام أو الكرامة أو الرجولة ، وإن سئل عن أى منها يقول إنها سِر البلاء والشقاء وسبب التخلف والضياع ..
الحاكم لدينا لا يهمه غير عرشه وكرشه وصبغة الشعر والحواجب ، أما غزه والفلوجه فلهم رب آخر ، وللبيت رب يحميه ... إنه ينام طولاً ويأكل عرضًا ويترك أرضًا ويهتك عرضًا ..
إنه سر البلاء ، وصمت الشعب سر الشقاء .
بقلم : محمـود شنب
mahmoudshanap@yahoo.com
علينا ونحن نشاهد الحرب الدائرة الآن فى العراق ألا ننسى حقيقة هامة مفادها أن العراق يعيش حالة حرب مع أمريكا منذ أمد بعيد .. حرب عسكرية وسياسية واقتصادية ومعنوية ، ولكونه بلد عظيم فقد صمد حتى الآن ، وهذا الصمود الأسطورى هو الذى يوغل صدر أمريكا ويجعلها فى حالة هستيريا مع هذا البلد العظيم .
لقد حوصر العراق طويلاً قبل معاركه الأخيرة ، وظل يقصف من قِـبل الطائرات الأمريكية والبريطانية على مدى ثلاثة عشر عامًا بصورة شبه يومية ، وعاش فى كيد متواصل من كل دول الجوار ، وفى ظل هذه الظروف القاهرة استطاع أن يبنى أكثر مما بنى غيره واستطاع أن ينتج ويبدع ويعلو ويكبر .
كان يزرع القمح وحين الحصاد تأتى طائرات أمريكا وتحرقه ثم تدعى أن ذلك حدث عن طريق الخطأ ... لم تترك أمريكا شيئـًا فى العراق إلا وفعلته .. لم تسلم منها حتى المواشى والأنعام فقد قتلت منها أكثر مما قتلت من البشر ... زرعت الجواسيس وزرعت الموت ونشرت الخراب ، لكنها فشلت فى تركيع العراق أو النيل من كرامته ... استعانت بالموساد والعملاء والحكام العرب والأمم المتحدة ، ولم تفلح فى النيل من العراق أو شق الصفوف وإحداث انقلابات .
لقد تميز النظام العراقى بالصلابة والترابط والولاء ، واستطاع صدام من خلال حكومة قوية ورجال شرفاء إحكام السيطرة على كل شبر فى العراق .. حتى فى المناطق الكرديه التى خضعت للحماية الأمريكية ظلت ضمن كيان الدولة وتحت إمرة قائدها .
لقد صمد العراق طويلاً وأبلى بلاءً حسنـًا أذهل كل العالم وأثبت قدرات مذهلة فى المناورات السياسية والمواجهات العسكرية واستطاع أن يوفر الدواء والغذاء لشعبه فى ظل ظروف صعبة وقرارات دولية جائرة وظالمة .. تبدل عليه حكام أمريكا الحاكم وراء الآخر والكل على عهد الغباء والبغاء والعدوان ، وظل العراق عصيًا على الجميع حتى والأشقاء يعملون مع الأعداء ضده دون استخدام للعقل أو المنطق أو الحكمة ، وتاريخ العراق كله كان تاريخ عطاء حتى وهو فى أشد أيام المحنة كان يمد يده للجميع بالخير ... أمد الأردن بما لا يُحصى من معونات ، وأمد المناضلين فى فلسطين فى العلن والخفاء وحفظ أسر الشهداء ، وساعد القيادة المصرية منذ النكسة وحتى النصر ، وفتح العراق لكل مواطن مصرى ضاق عيشه فى بلده وجاء يبحث عن الرزق فى العراق فوجده فى شعب يحبه وحاكم يصون كرامته .
والتاريخ لم يكشف بعد عن طبيعة حربه مع إيران والتى ساندتها مصر وذكتها السعودية وكل دول الخليج وجعلوها حربًا بالوكالة ، ومازال التاريخ عصيًا عن كشف الحقائق التى دفعت النظام العراقى لتأديب "طراطير" الكويت وإجبارهم على الهروب والاحتماء بالأسياد ... مازال فى جعبة التاريخ الكثير وفيه من الأسرار ما ليس له نظير ، وفى يوم من الأيام سيعلم الجميع أن كل خطوة خطاها النظام العراقى كان لها ما يبررها ، والإعلام الفاسد هو الذى زيف الواقع وغير الأحداث وصور النظام العراقى فى صورة البلطجى الذى ينادى "شكل للبيع" وهذا خطأ فكل ما تعيشه المنطقة من أحداث ومصائب كان من صنيعة الأيادى القذرة فى الكويت والعقول الخربة لحكام العرب .
إن العراق كان بمثابة نقطة الضوء الوحيدة فى المنطقة العربية وكان البلد الوحيد الذى استثمر أموال نفطه فى التنمية الزراعية والصناعية ورعاية العقول وإنتاج العلماء ، ولم يبذر ماله فى نوادى القمار والكباريهات ... أما القصور التى يتحدثون عنها فلكل مولود فى الأسر الحاكمة فى دول الخليج ألف قصر ما بين القصر والقصر قصر ، وهناك قصور للمحظيات من الساقطات وبائعات الهوى شيدت خصيصًا لفعل الحرام وشرب المنكر !!
العراق كان بمثابة بذرة الخير التى أعيقت عن الإنبات ، وكان بمثابة الطفرة فى منطقة جفرة يحكمها حيوانات .
إن صدام حسين وهو فى الأسر تخشاه أمريكا أكثر من خشيتها من كل حكام العرب ، ولقد حجبت أمريكا صوته أثناء محاكمته لإدراكها بأن لديه الحجة والبرهان والقدرة على دحض الأكاذيب وكشف الزيف .
إن أحدًا من أفراد الحكومة العراقية لم يهرب ويترك صدام رغم تأكد الجميع من حتمية المواجهة مع أمريكا ... حتى الذى كان يعمل منهم خارج البلاد عاد إلى جوار القائد ليعيش فى قلب الميدان ويدافع عن ما أتخذ من قرارات .
ألم نسأل أنفسنا يومًا لماذا قبل الجميع المواجهة ولم يتخلصوا من القائد أو يفروا إلى إحدى دول الجوار ، وهل لو كان صدام على خطأ فهل يعقل أن يكون كل من حوله كانوا على خطأ ولم يتنبهوا لخطورة الموقف ، وهل يعقل أيضًا أن يضحى المرء بنفسه وأسرته وعائلته وأمواله من أجل باطل لا يقتنع به ؟!!
إن النظام العراقى كان فريدًا فى كل شئ ومتميزًا فى كل المراحل ، وفى أوقات المحن تظهر حقيقة المعادن ، ولا يمكن لعاقل ركوب سيارة مفخخة سوف تنفجر فى أى لحظة إلا إذا كان يدافع عن حق ، ومهادنة النظام ومجاراته لا تتم إلا فى أوقات السِلم والرفاهية ، أما فى أوقات الخطر والشدائد فلا أحد يساند الباطل ويصمد أمام الخطر إلا إذا كان على حق ، فالباطل أشبه بقارب يغرق .. يقفز منه الجميع ، والحق أشبه بألواح الخشب وأطواق النجاة التى يلتف من حولها الجميع .
يعلم ذلك مبارك وخادم الحرمين وكل حكام العرب ، فهم أجدر الناس لفهم طبائع الخونة ومعرفة سمات المنافقين .
لقد كان صدام من معدن آخر غير تلك المعادن التى من صفيح ، وهذا هو شعبه ، وتلك هى دولته ، وهؤلاء هم قومه ... الجميع يقاوم ويحارب ويدافع ويفعل ما لا تستطيع دولة هظمى أن تفعله ... إن الدول العربية مجتمعة لا تستطيع أن تصمد صمود مدينة واحدة من مدن العراق العظيم .. الأمر يحتاج إلى حُسن تربية وليس لفهلوة وتلاعب بالألفاظ .
علينا أن نتذكر دائمًا أن العراق فى حرب حقيقية ليس من عام ونصف وإنما منذ ما يزيد عن ثلاثة عشر عامًا .. حرب ليس طرفها الصومال أو اليمن أو إحدى دول الخليج وإنما طرفها الباغى كان طاغوت العصر وأشد الدول إجرامًا وغدرًا وحماقة وجهلاً على وجه الأرض .
واليوم يقف العراق وحده فى المعركة .. يصمد بمدد من السماء ولا يطلب مساعدة من أحد إلا من الله .. إنه كالمال الحلال الذى لا يريد أن يلوث بالحرام ..
لقد قابلنا إحسان العراق بالخيانة ، وكرمه بالبخل ، وعهده بالغدر ، وشهامته بالتخاذل والجبن ... قابلناه بكل عيب ولم نقابله بما يستحقه من وفاء ، وسيظل الحال على ما هو عليه حتى تفيق الشعوب من غفلتها وتهب فى وجه قادتها ، فليس الحكام فقط هم من خانوا العراق .. الشعوب الصامتة هى أول من خان العراق ، وكان على الجميع أن يرقى لمستوى الأحداث ويعلن التمرد والعصيان .
إن الشعوب الحية قادرة على إسقاط الأنظمة وتغيير السياسات ، ولنا أن نتخيل لو تغير النظام فى السعودية ومصر وكل دول الجوار العراقى ... لنا أن نتخيل لو امتلكت الشعوب زمام الأمور وأعلنت التحدى والعصيان ...!!
لقد استمر الحكام فى هوانهم وضلالهم لأنهم لم يجدوا من يردعهم ويقف فى وجوههم .. يحدث ذلك رغم توقع الحكام للمقاومة وانفلات الأمور إذا ما اعتدت أمريكا على العراق ، ولقد حذر مبارك أمريكا وهو يرتعد خوفـًا قبل اندلاع المعارك بأيام قائلاً : إن الأمور ستكون خارج السيطرة وإن الحكام لن يستطيعوا مواجهة الشعوب ... لقد تصور الحكام العرب ما كان يجب أن يحدث ، فلماذا لم يحدث ؟!!
هل هو خلل فى التقدير ؟!! ... أم كان جُبن وتقصير ؟!!
لقد ارتعد الحكام خوفـًا من الأحداث للدرجة التى أغلقوا فيها المدارس والجامعات تحسبًا لحركة الشعوب ، فأين هى حركة الشعوب ؟!!
الجميع الآن ـ شعوبًا وحكام ـ يلتفون حول أجهزة التلفاز ويشاهدوا المجازر فى كل من العراق وفلسطين ، ثم يمضى كل منهم إلى إمرأة ينكحها أو دنيا يصيبها ، وكان الله بالسر عليم ...
فإلى من نرجع هذا الخلل الذى أصاب حركة الشعوب وجعل الحكام يتمادون فى الضلال ؟!!
هل يرجع ذلك إلى علماء الأمة ومشايخها ؟!!
أم إلى كتابها ومثقفوها ؟!!
أم إلى التربية التى ساءت فى ظل تهميش الإسلام وتغييبه ؟!!
أم نرجعه إلى القبضة الأمنية التى تشتد بسواعد أبناء علاوى فى كل عواصمنا العربية ؟!!
إن كل ما أصاب فلسطين والعراق إنما هو من تقاعس الشعوب الذى رافق خيانة الحكام ، ولسوف يُسأل كل منا عن دوره فيما يلقاه المسلمون فى كل مناطق النزاعات ... ماذا قدم كل منا وماذا أخر ؟!! ... يومها لن تصلح رقبة الحاكم لأن تكون شماعة تحمل تقاعس ملايين البشر عن نصرة الحق وتأييده .
إننا نعيش فى غفلة لا أجد ما يبررها ، ونعيش فى حالة أشبه بالكابوس الذى لا نهاية له إلا بإيقاظ النائم وإفاقة المارد وإخراجه من حالة النوم التى سوف تقضى عليه وتقتله .
من قال أن أحداث العراق لن تؤثر على السعودية وكل دول المنطقة ؟!!
من قال أنها لن تترك بيتـًا من بيوت المسلمين إلا وسترسم عليه الصليب ونجمة داوود ؟!!
من قال أنها لن تجعل العزيز فينا ذليلاً وعاملاً بالأجرة لدى كلاب جهنم ؟!!
إن كل شئ سيتغير فى بضع سنين إذا ما دانت الأمور لأمريكا ، والمقاومة وحدها وحركة الشعوب هى التى سوف تنقذ الأمة من السقوط ، وحسنـًا ما فعلته مجموعة علماء السعودية والتى أعلنت فى بيان لها غضبتها لله ودعوتها للجهاد وتسمية المقاومة فى العراق بالمقاومة والجهاد وليس بالتخريب والإرهاب مثلما تسمى السلطات ، وياليت كل علماء الأمة يفعلوا ما فعله علماء السعودية ، فالمواطن العادى فى أشد الحاجة لمن يقوده ويبصره وينقذه من حكم الأنظمة ومكر الليل والنهار .
وإننى كمصرى أسأل نفسى كثيرًا ... أين سنذهب من غضب الله إن حاق بنا ؟!! ... أين ستذهب مصر من جراء كل ما تقدمه للخونة والعملاء والأعداء من تسهيلات وخدمات ؟!!
يعز على النفس أن أقول إن مصر بقيادتها الحالية أصبحت أكبر ظهيرة للمجرمين على ظهر الأرض !!
أين ستذهب مصر من غضب الله من عواقب ما اقترفته أيادى النظام فى حق أصحاب الحقوق ودول الجوار ؟!!
أين ستذهب من "شرم الشيخ" التى صارت مقرًا دائمًا لإجتماعات الخونة ومؤامرات العملاء ؟!!
إن مصر الآن تلعب دورًا خطيرًا من شأنه تمكين أمريكا فى العراق ، وقد أقنعت سوريا بضرورة ضبط الحدود ومنع تسلل المجاهدين إرضاءً لأمريكا ، وهى الآن بصدد الإعداد لاستضافة مؤتمر دولى مشبوه يدعم موقف أمريكا والانتخابات العراقية وتثبيت أقدام علاوى وحكومته فى العراق ... إن مبارك أصبح أهم ورقة فاعلة فى يد أمريكا ، وما يقدمه مبارك فى الخفاء يفوق بكثير ما يقدمه فى العلن ، وما يقدمه بالصمت أشد خطرًا مما يقدمه بالقول ، ولولا مبارك وأمثاله ما استطاعت أمريكا تحقيق أى شئ .
إن أمريكا مهما بلغت قوتها تظل عاجزة عن تحقيق أى من أهدافها فى حالة غياب العملاء ممن ينتسبون لهذا الوطن المنكوب .
لقد وقف علاوى وسط مجموعة من الجنود المرتزقة قبل اقتحام الفلوجة وخطب قائلاً : ( إن أعضاء الحكومة العراقية كلها معكم ، ومعكم قوات التحالف ، ومعكم دول الجوار ) ... نعم يا مارق يا وضيع يا خنزير يا خرتيت ... نعم .. كل دول الجوار مع عصابة علاوى وجنود أمريكا ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
ومشكلة العراق لا أراها فى معارك ومذابح الفلوجة ، ولا أراها فى من يموت شهيدًا أو يعيش عميلاً ، فكل سيلقى ربه على ما مات عليه ومات فى سبيله ، إنما المشكلة أراها فى دولة مثل أمريكا تنتصر بالباطل وتعلو بالغدر وتسود بالخيانة .. المشكلة أراها فيمن يعيشون بيننا ويلعقوا أحذية أمريكا .. المشكلة أشعر بها فى ابتسامة بوش وأشاهدها فى وجه غير بشوش يمثل انتصار الباطل وجبروت الظالم .. المشكلة تكمن فى مشاهدتى لأمور لا تمت للواقع بصلة من خلال تسويق مسميات ما أنزل الله بها من سلطان ولا يمكن أن تتوافق مع النفس السوية والعقل السليم حيث المقاومة إرهاب وقوات الاحتلال قوات تحرير والهدم بناء والخيانة أمانة !!
لقد سقطت الأمة منذ أمد بعيد ، ومنذ تسمية الأشياء بغير مسمياتها الحقيقية .. منذ أصبح الربا فائدة ، والشذوذ حرية ، والإباحية فن ، ومعصية الله تمدن وديمقراطية ، وسب الله إبداع ، والتخابر مع الأعداء حكمة وتعقل ..
إننا نعيش فى حصار ضرب علينا داخليًا وخارجيًا ، وما فشل فيه المستعمر حققه علماء ومشايخ هذا الزمان .. طاعة الله أصبحت تتم بتصريح من زقزوق ، والجهاد فى سبيل الله أصبح من أعمال العنف على حد قول شيخ الأزهر ... إنه حصار الداخل والخارج وتدريب الأعين على التوافق مع شكل المجازر ولون الدماء والتعود على حياة القهر والذل مع التحلى بالصمت وعدم الإعتراض .
الرئيس النمساوى يُعلن أن الإسلام ليس إرهابًا وأن من حق الدول أن تدافع عن نفسها واصفـًا الوضع فى العراق بأنه احتلال ، فهل يجرؤ حاكم عربى على قول ذلك ؟!!
إن حكامنا فقدوا كل شرعية تربطنا بهم ، ولقد أهانوا أنفسهم وأهانونا معهم ، فإلى متى الصبر على هؤلاء البلهاء السفهاء العاجزين الفاشلين ممن فقدوا كل الخطوط الحمراء على المستوى الشخصى والمستوى الوطنى ؟!!
يهان الحاكم فى أمريكا ويركنه رب البيت الأبيض أيامًا عديدة ثم يقابله ساعة أو بضع ساعات ، ولا يغضب الملك أو الأمير أو الرئيس من الإهانة والاحتقار ، ويهان الوطن وتـُرسم من الخارج حدوده وسياساته ولا يجد الحاكم فى ذلك عيبًا أو إهانة !!
الحاكم لدينا مثل الخادم الذى يتفرعن على أهل بيته ويُقبل يد سيده .. يسب أولاده وزوجته ويلعق حذاء واليه ..
الحاكم لدينا مثل كلب الصيد الذى يذهب حيث تكون الإشارة ولا يتحرك إلا بأمر السفارة ..
الحاكم لدينا لا يعرف شيئـًا عن الإسلام أو الكرامة أو الرجولة ، وإن سئل عن أى منها يقول إنها سِر البلاء والشقاء وسبب التخلف والضياع ..
الحاكم لدينا لا يهمه غير عرشه وكرشه وصبغة الشعر والحواجب ، أما غزه والفلوجه فلهم رب آخر ، وللبيت رب يحميه ... إنه ينام طولاً ويأكل عرضًا ويترك أرضًا ويهتك عرضًا ..
إنه سر البلاء ، وصمت الشعب سر الشقاء .