المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ركائز الجهاد في الإسلام



الحافظ العراقي
19-11-2004, 04:04 PM
ركائز الجهاد في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره ، وأعادي من يكفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، أرسله بالهدى والنور والموعظة ، على فترة من الرسل ، وقلة من العلم ، وضلالة من الناس ، وانقطاع من الزمان ، ودنو من الساعة ، وقرب من الأجل ، من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا . والصلاة والسلام على سيد الأنام محمد بن عبد الله إمام المجاهدين ، وقدوة المتقين ، وقائد الغر المحجلين ، على آله وصحبه وكل من جاهد في سبيل شريعته إلى يوم الدين . أما بعد إخوة الإيمان :
لقد فرض الله الجهاد في الإسلام على فرض الكفاية وربما يتعين على كل مسلم فريضة لازمة حازمة لا مناص منها ولا مفر عنها ، ورغب فيه أعظم الترغيب ، وأجزل ثواب المجاهدين والشهداء ، فلم يلحقهم في مثوبتهم إلا من عمل بمثل عملهم ، ومن اقتدى بهم في جهادهم ، ومنحهم من الامتيازات الروحية والعملية في الدنيا والآخرة ما لم يمنحها لسواهم ، وجعل دماءهم الطاهرة الزكية عربون النصر في الدنيا ، وعنوان الفوز والفلاح في الآخرة .
ولا نجد نظاما قديما أو حديثا ، دينيا أو مدنيا ، اعتنى بشأن الجهاد واستنفار الأمة وحشدها كلها صفا واحدا للدفاع بكل قواها عن الحق كما نجد ذلك في دين الإسلام ونصوصه ، وآيات القرآن وأحاديث الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم فياضة بمعاني الجهاد السامية ، داعية إليه بأفصح عبارة وأوضح أسلوب لتقوية وسائل الدفاع عن الحق ، وكفاح قوى الشر والباطل ، وذلك بتهيئة الفرد المؤمن روحيا كما طلبت تلك النصوص إعداد الآلة الحربية الرادعة لأهل الباطل من قوى برية وبحرية وجوية وغير ذلك من متطلبات الحرب على كل الأحوال والملابسات .
ولقد وضع الإسلام بنصوصه من الكتاب والسنة نظاما لهذا الجهاد وركائز طالبا من المؤمنين أن يلتزموها في جهادهم وقتالهم لأهل الشرك والضلال ، ونجمل هذه الركائز الجهادية في النقاط التالية :

أولا : الإعداد العقائدي : إن نصوص الإسلام تدعونا إلى العمل الدؤوب لإعداد الأمة إعدادا عقائديا يقوم على مبادئ الإسلام بجميع أفرادها ؛ ذكورا وإناثا ، شيبا وشبانا ، صغارا وكبارا ، ليصح منها العمل في كافة ميادين الحياة ومنها الجهاد في سبيل الله الذي يجب أن تتوّجه تقوى الله والإخلاص في القول والعمل لله سبحانه وتعالى القائل في محكم تنزيله " وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ " ، وقال أيضا " لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ " ، وقال " قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " ، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ". فالإخلاص رأس كل عمل ، وبه تقوّم الأعمال ، وتقوى الله بالتزام شرعه يترتب عليها الثواب والعقاب.
هذه هي ركائز الإيمان التي تبنى عليها ثمار كل عمل في سبيل الله سبحانه وتعالى كما وصف الله المؤمنين في كتابه فقال " فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {1} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {2} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {3} أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ".
فإعداد النفوس عقائديا على مبادئ الإسلام يتطلب العمل الدؤوب ، والتضحيات العظام من العارفين ببناء الأجيال ، وإنشاء الرجال على كثير العطاء بالمال والنفس والولد ، استجابة لقوله سبحانه وتعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {10} تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {11} يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {12} وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ " ، وحتى نكون أهلا لهذا النداء بـ" يا أيها الذين آمنوا " يجب أن نعد أمتنا على المستوى الإيماني المطلوب من التقوى والإخلاص لتخرج ثمراته من قلوب المؤمنين عطاء وتضحيات ، وهذا يتطلب من أفراد الأمة أن تتمثل بمعاني الإيمان الدقيق ، وتبني حياتها على قواعد الشريعة ، ليكون أفرادها كل واحد منهم قرآنا يدب على الأرض ، ذلك لنتمثل بالخيرية التي وصفنا الله سبحانه وتعالى بها " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " ، فبهذا المفهوم وهذه الخيرية نستمطر نصر الله تعالى القائل " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " ، فـ "إن" شرطية والشرط يستوفى بالطاعة والإخلاص لنجني ثمرة جواب الشرط وهو نصر من الله وفتح قريب إن شاء الله .

ثانيا : إمارة الجهاد : وهي لا تكون إلا مع وجود قيادة إسلامية عقائدية مؤمنة تقودنا بما أنزل الله سبحانه وتعالى ، وتحكم بحكمه ، كما أمرها الله سبحانه وتعالى في قوله " وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ " ، فبدون مثل هذه القيادة لا يثمر الجهاد ، ويكون العمل الجهادي مع انعدام القيادة المؤمنة عملا فرديا ؛ حيث ينبري الفرد تطوعا من نفسه وعلى نفقته للجهاد ، وأجره عند الله سبحانه وتعالى عظيم ، لإقدامه على الجهاد مع انعدام القيادة الإسلامية التي تحمي ظهره ويلوذ إليها في الشدائد وتكفل من خلفه من الضعفاء .
فالعمل الفردي بمفهوم الإسلام ، وإن كان غير ضائع عند الله سبحانه وتعالى ، لكن قلما يثمر في الأمة إن لم يكن فيها سلطان للإسلام ، ذلك لأن الأمير ضامن ؛ فهو الذي يسهر على رعاية أمته ، مستعينا بالله سبحانه وتعالى ، مخلصا بعمله ، يوجه المجاهدين ويخطط لهم ، ويوحد كلمتهم ، ويكفل من خلفهم من الثكالى والأرامل والضعفاء والأطفال ، لقوله صلى الله عليه وسلم " الأمير كافل والأمير ضامن ، من أمّر على عشرة ؛ فعدله يعتقه ، وجوره يوبقه " ؛ أي أن عدله في أمته برعايتها وتسديد خطاها والسهر عليها بكل صغيرة وكبيرة يعتقه من النار ، وجوره بالاستهتار واللامبالاة يوبقه ويلقيه فيها .. وكما قال أيضا صلى الله عليه وسلم " من ترك مالا فلعياله (أي يرثه أطفاله وعياله ) ومن ترك ضَياعا (أي لا معيل لهم ) فلنا وعلينا " أي يكفلهم في رعايتهم ونفقاتهم .
ويجب على المؤمنين السمع والطاعة لتلك القيادة الإسلامية المؤمنة بما يرضي الله سبحانه وتعالى لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ؛ قال الله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ " ، وذلك حتى تنتظم حركة الأمة وتتحد كلمتها فتكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا كما قال الله عز وجل " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ " ، وكما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين بطاعة أمرائهم فقال :" من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني " ، والمقصود بهذه الطاعة هي لإمارة الإسلام التي تحكم بما أنزل الله ، لا لغيرها ممن يحكم بما أمر الطاغوت .

ثالثا : إعداد آلة الحرب : قال الله تعالى " وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ " ، قوله تعالى " وَأَعِدُّواْ لَهُم " أمر من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بإعداد القوة وآلة الحرب للأعداء بعد أن أكد في آيات سابقة تقدمة التقوى وإعداد النفوس والرجال على ما أمر الله سبحانه وتعالى ، أمرهم هنا بإعداد آلة الحرب التي يكون فيها تكافؤ مع آلة العدو ذلك عملا بالأسباب مع الاعتقاد بـ " وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ " . فإن الله سبحانه وتعالى لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم وبحفنة من تراب ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر ، لكنه سبحانه وتعالى أراد أن يبتلي الناس بعضهم ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ فيظهر من يقدم التضحيات بما أعد في سبيل الله ومن أحجم عن ذلك . وكل ما تعده لصديق من خير أو لعدوك من شر فهو داخل في عدتك ؛ قال ابن عباس :" القوة هاهنا السلاح والقسي ". ولقد جاء في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول :" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي " ، وعن عقبة أيضا قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه "، وقال صلى الله عليه وسلم أيضا :" كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوس ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته أهله ، فإنه من الحق "؛ والمعنى ، والله أعلم ، أن كل ما يتلهى به الرجل مما لا يفيده في العاجل ولا في الآجل فائدة فهو باطل ، والإعراض عنه أولى وإن كان مباحا . وهذه الأمور الثلاثة الواردة في الحديث فإنه وإن كان المرء يفعلها على أنه يتلهى بها وينشط ، فإنها حق لاتصالها بما قد يفيد ؛ فالرمي بالقوس وتأديب الفرس جميعا من معاون القتال ، وملاعبة الأهل قد تؤدي إلى ما يكون عنه ولد يوحد الله ويعبده ويجاهد في سبيله ؛ لذا كانت هذه الثلاثة من الحق .
وعن عقبة بن عامر أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله يدخل ثلاثة نفر الجنة بسهم واحد ، صانعه يحتسب في صنعته الخير ، والرامي ، ومُنبله " ، ذلك لأن الرمي فضله عظيم ومنفعته عظيمة للمسلمين ونكايته شديدة على الكافرين والأعداء . قال صلى الله عليه وسلم :" يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا " ، فتعلّم الفروسية واستعمال الأسلحة على فرض الكفاية قد يتعين ذلك على كافة المسلمين إذا ما داهم ديار الإسلام خطر العدو . وقوله سبحانه وتعالى " وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ " أي ارتباطها بإزاء العدو والكر عليها بما يدخل الرعب في قلب عدو الله وعدوكم لما في ذلك من فضل عظيم ومنزلة شريفة .
إن قول الله سبحانه وتعالى " وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ " كان يكفي لدفع المؤمنين للإعداد لكن قص بعد هذا الأمر الخيل والرمي بالذكر ذلك تنويها آلة النقل التي عليها يكون الكر والفر في الحروب ، فذكر الخيل لأنها كانت أصل الحروب وأوزارها وأشد العدة وحصون الفرسان وبها يجال في الميدان ، ويماثلها اليوم ما يقوم مقامها من آلات الحرب وعدته . ولما كان الرمي من أنجع ما يتعاطى في الحروب والنكاية في الأعداء وأقربها تناولا للأرواح ، لذا خصها بالتنويه كما خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه ، وكما نوه صلى الله عليه وسلم بفضل خالد بن الوليد بقوله :" وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا ، فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله ".
وقوله تعالى " تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ " أي تخيفون به عدو الله وعدوكم من اليهود والمشركين والكفار بكافة أشكالهم .
وقوله " وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ " كل من يتظاهر تقية بمودة المؤمنين ومن لا تعرف عداوته فالله يطلع على أسرارهم وسيفضحهم للمؤمنين بأفعالهم . ثم ختم الآية بأن التجارة مع الله سبحانه وتعالى لا تضيع في قوله تعالى " وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ " ، أي وما تتصدقوا به في سبيل الله يوف إليكم في الآخرة ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة وأنتم لا تظلمون فتيلا .
فالاستطاعة المطلوبة هي أن نبذل أقصى الجهد والتضحيات لا على التراخي بما تيسر من حجر أو عصا ونحن مقصرون في الابتكار والعطاء ، ثم نمنّي أنفسنا بعد ذلك بأن هذه هي الطاقة والاستطاعة ، مستسلمين لليأس ، بل لا بد لنا من تطوير العقول وتهيئة النفوس لابتكار آلة الحرب ، ونواكب في ذلك تطويرها عند الأعداء ، وحتى لا نستجدي الآلة من أعدائنا بل يجب أن نهيأها باكتفاء ذاتي ؛ لأن ما نأخذه من الأعداء فهم على دراية وعلم بأساليب تدميره وبمبلغ قدراته ، لذا نسمع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يوجه أمته إلى ذلك فيقول لأقوام يتناصلون ( أي يتعلمون الرمي عملا بتوجيهات نبيهم صلى الله عليه وسلم " ألا إن القوة الرمي ") وبأيديهم أقواس فارسية ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا من كنانته وبيده قوس عربي ، ثم سدد به الرمي وقال " عليكم بهذا " ، أي ينهاهم عن تلك الأقواس الفارسية ويأمرهم بالاعتماد على القوس العربي الذي صنعوه بأيديهم ، لذا قال صلى الله عليه وسلم " عليكم بهذا وأشباه القنا ( أي الرماح لأنه كان من صناعة العرب ) فإنه أأمَنُ في البلاد وأسلم في العقيدة " .
وكما قال أيضا صلى الله عليه وسلم لرجل يشحذ سيفه : " ما هذا ـ وهو أعلم به ـ؟ فقال الرجل : إنه المهند ( ذلك لأن أفخر سيوف العرب كان يؤتى بها من الهند ) . فقال صلى الله عليه وسلم : " هلاّ اتخذت لنفسك شلفا من حديد وصنعته بيدك! " ، فهنا يوجههم صلى الله عليه وسلم إلى الاعتماد على الذات في بناء الآلة الحربية لا على أعدائهم . فمفهوم الإعداد يجب أن يكون فيه اكتفاء ذاتي في الأمة الإسلامية على كافة الأصعدة الاقتصادية والصناعية والحربية ، وكل متطلبات الحياة لإغناء الأمة عن الاستجداء من أعدائها لكثير من حاجيات حياتها , ولا بد لها من إيجاد علماء وعمال في كل فن واختراع يخدم الحياة البشرية ، وذلك على فرض الكفاية لنكون خير أمة أخرجت للناس ونحمي بذلك مكنون الدين ومبادئه.

رابعا : أسباب شرعية القتال في الإسلام : قال الله تعالى " وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ " ، أي أن الله سبحانه وتعالى لولا أن فرض الجهاد وأذن للمؤمنين بالقتال لردع الكافرين عن غيهم لطغوا وبغوا في الأرض ودمروا كل ذكر لله فيها ، فلا بد إذن من ردعهم بالقوة لتثبيت الحق وتحكيمه في العباد ، ولذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :" ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن ".
ولقد بين القرآن الكريم في مواضع منه السبب الذي من أجله أذن فيه على مراحل للمؤمنين بالقتال ، وذلك يرجع إلى أمرين : الأول : الدفاع عن النفس المؤمنة عند التعدي عليها ، والثاني : الدفاع عن الدعوة إذا ما وقف أحد في سبيلها وقام على فتن المؤمنين عنها ، بأي نوع من أنواع التعدي والقهر والتعذيب ، ليعدلوا بهم عن الإيمان إلى ما هم عليه من الضلال ، أو بصد من أراد الدخول في الإسلام عنه ، أو بمنع الداعي للإسلام من تبليغ دعوته .. فكانت شرعية القتال في الإسلام من أجل أن نؤمن للناس الحرية ليختاروا بعد ذلك لأنفسهم الدين الذي يدينون به ، وذلك بعد أن يزيل سلطان الكفر وكابوسه من فوق رؤوس العباد ثم يقول لهم بعد ذلك " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ".
والمستقرأ لآيات القتال لأول وهلة ربما يتوهم فيها بعض التعارض ، ومن أجل ذلك تكلم بعض علماء التفسير بنسخ حكم آيات القتال الواردة في القرآن الكريم برمتها بآية السيف في قوله تعالى من سورة التوبة " فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ " ، وهذا تصور خاطئ نتج عن أن المسلمين في زمانهم أصبحوا من القوة والمنعة في الحالة التي أمرت بها هذه الآية ، ولم يتصوروا أن المسلمين يمكن أن تعود حالتهم من الضعف والهوان ما كان لهم في المرحلة المكية من الدعوة ، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه أشار إلى هذا العود ، فتوهموا بهذه الآية نسخ كل الحالات التي حكتها آيات القتال الأخرى في القرآن .
والحقيقة ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، هي أن ما ورد في الكتاب من آيات خاصة بأمر القتال أعطت لكل حالة من أوضاع المسلمين حكما ، وأمر المسلمين أن يتمثلوا بها ، وأن يتخذوها مظلة يعملون بمقتضاها جادين ليصبحوا في الحالة الأفضل من القوة والمنعة فينتقلوا إليها ويتمثلوا بها ، وهكذا حتى يصبحوا في أقوى مراحل الجهاد ألا وهي آية السيف .
إذاً يجب على المسلمين في كل زمان ومكان أن يعملوا بالحالة التي تناسب وضعهم من القوة والمنعة وحالة أخصامهم في مجابهتهم فيتخذوا الطريق الأمثل في المسالمة والحرب ، والكر والفر ، والدفاع والهجوم ، لان مفهوم الجهاد هو جعل النكاية في الأعداء كما قال العز بن عبد السلام :" إن موتي إن لم يكن فيه نكاية للأعداء فالانهزام واجب ". وهكذا استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد عندما انسحب من معركة مؤتة بعد أن استشعر عدم التكافؤ في المعركة ، فانسحب بهم إلى المدينة المنورة ليستقبلهم أهلها بقولهم : يا فارُّون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"بل الكارُّون " ، لأنه ليس المطلوب الثبات على الموقف إلى حد الاستئصال وتكون النكاية في المسلمين للأعداء ، بل لا بد من المراوغة كرا وفرا لنجعل النكاية في أعداء الإسلام ، والله سبحانه وتعالى أعز وأعلم .
ولقد جاء الأمر بالقتال في القرآن الكريم مبينا لكل حالة حكمها والسبب الذي من أجله أذن للمؤمنين فيه بالقتال فكان متدرجا في حالات عدة وهي :
الحالة الأولى : جاءت في سورة الحج ، وهو أول ما نزل في أمر القتال ، فقال تعالى " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ {39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40} الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ " .. لقد بينت هذه الآية أن القتال أذن فيه للمسلمين ثم أعقبته ببيان السبب وهو أنهم ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق لقولهم ربنا الله ، ثم بينت أنه لولا دفع الناس بعضهم ببعض في الجهاد وقتال الكفر لهدمت من الكافرين أماكن العبادة حيث لا يطيب لهم أن يروا ذكرا لله في الأرض ، ثم وصفت المؤمنين الذين أذن لهم بالقتال بأوصاف هي في الحقيقة تنبيه لهم إلى ما يجب أن يفعلوه إذا هم انتصروا على من ظلموهم وذلك أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
الحالة الثانية : قوله في سورة البقرة المدنية " وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ {190}‏ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ {191} فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {192} وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ " .. بينت هذه الآية سبب القتال حيث وصفت مَن أُمر المسلمون بقتالهم بالذين يقاتلونهم ويخرجونهم من ديارهم ويفتنونهم في دينهم بما فعلوا من الأذى والظلم .. ولقد جعل لهذا القتال غاية وهي أن لا تكون فتنة ويكون الدين لله ، بأن يكون الإنسان حرا في دينه لا يدين به إلا لله لا خوفا ولا طمعا ، وقد بين الكتاب أن الفتنة أشد من القتل لأنها اعتداء على العقيدة والوجدان وذلك شر ما يكون من بني الإنسان . ونهت الآيات عن الاعتداء وأعلنت أن الله يبغض المعتدين ، وهم الذين يبدأون غيرهم بالشر ، وبينت أن الجزاء عند الاعتداء لا ينبغي أن يتجاوز به ما فعله البادئ بالعدوان " فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ ".
الحالة الثالثة : قوله في سورة النساء المدنية " وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً " .. لقد بينت هذه الآية سببين للحث على القتال وهما : أولا : القتال في سبيل الله ، وقد بينته الآية في سورة البقرة ؛ أي الغاية التي يسعى إليها الدين أن لا تكون فتنة ويكون الدين لله . ثانيا : سبيل المستضعفين من المسلمين الذين حيل بينهم وبين إقامة شعائر دينهم ، فعذبهم من أجله سلطان الكفر محاولا فتنتهم عن دينهم ، فتضرعوا إلى الله طالبين منه الخلاص ، فهؤلاء لا بد لهم من حماية ترفع عنهم أذى الظالمين وينعمون بالحرية فيما يدينون وما يعتقدون .
الحالة الرابعة : قال فيها عن قوم مشركين لم يحبوا أن يقاتلوا قومهم ولا أن يقاتلوا المسلمين واعتزلوا الفتن جانبا فقال تعالى " فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً " .. وذلك على شرط بأن يكون ميلهم إلى السلام حقيقيا لا ذبذبة ولا مراوغة ، فإن كانوا كذلك فقد شرح حالهم بقوله تعالى " سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً " .. بينت هذه الآيات أن لا حرج على المؤمنين في هذه الحالة على من اعتزل الفتنة وترك القتال وألقى إليهم السلام أن لا يقاتلوهم ، بل يسيروا بالجهاد بأولوياته وعلى حسب الحالة التي يتمثلون بها.
الحالة الخامسة : قال تعالى في سورة الأنفال " وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {61}‏ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ {62} وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ " .. فبينت هذه الآية أنه مأمور بالجنوح إلى السلم متى جنح أعداؤه لها ، لأن الغرض هو تأمين الدعوة وأن لا تكون فتنة والسلام كفيل بهما ، ولو كان الجانحون إلى السلم يريدون به الخداع فإن الله حسبه ، ومن كان الله حسبه فلا يخذل أبدا في الأرض . وليس الجنوح إلى السلم بأن ننام مع الكفر على ضيم ، بل لا بد من الترقب والتيقظ استدراكا ببروز خيانة منهم لقوله تعالى " وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء ".
الحالة السادسة : قال الله في سورة التوبة " وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ {12} أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ " .. بينت هذه الآية سببا لا يخرج عما تقدم وهو نكث العهد والعهود إلى الطعن في الدين بالفتنة ، وذكّرت المخاطبين بأنهم بدأوا بالقتال أول مرة ، فهم المعتدون أولا والناكثون عهدهم آخرا ، وأنتم قد أبيح لكم مجازاة من اعتدى عليكم .
الحالة السابعة : قال الله في سورة الأنفال " وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ".. أي فإن انتهوا عن الكفر واستسلموا للإيمان فكفوا عنهم وإلا فاقتلوهم حيث ثقفتموهم ، وكان أمر القتال أولا قاصرا على قريش ومن يمالؤوهم من يهود المدينة ، فلما اتحدت معهم قبائل الجزيرة من العرب وغيرهم قال الله في كتابه الكريم " وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً " فلعلة في هذا الأمر بيّنها الكتاب نصا وهي اتحادهم على المسلمين ووقوفهم في سبيل الدعوة .
الحالة الثامنة : وهي آية السيف في قوله تعالى من سورة التوبة " فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ " ، فأمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بعد أن أصبحوا هم القوة الضاربة في الأرض بأن يسيروا الجيوش إلى المشركين حيثما وجدوا لإزاحة سلطان الكفر من فوق رؤوس العباد ، ثم يطلقوا بعد ذلك عنان الدعوة بين الناس ترغيبا وترهيبا ليخرجوا العباد من عبادة الطاغوت إلى عبادة الله الواحد القهار ، فيدخلوا في دين الله كافة ليصلحوا دنياهم ويفوزوا بأخراهم بهداية الله وفضله .

خامسا : نظام القتال في الإسلام : لقد أمر الإسلام أتباعه بالالتزام بأخلاق عامة في أثناء القتال حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث له كثيرة متفرقة ، وقد أجملها خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعثة أسامة بن زيد في أول خلافته فقال :" يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأةً، ، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على أقوام يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليه، وسوف تلقون أقواما قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيوف خفقاً، اندفعوا باسم الله أغناكم الله بالطعن والطاعون ".
وهذه الأوامر التي نص عليها الإسلام في طريقة التعامل دخل عليها استثناءات بحسب مصلحة عقيدة الإسلام ، وبحسب مقدار النكاية في الأعداء ؛ فنجد ابن مسعود كان يقول عندما ارتقى على صدر أبي جهل بعد أن أثخنته الجراح قال : قال لي : لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم . قال ابن مسعود : ثم احتززت رأسه ، ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" آلله الذي لا إله غيره " ، قال : وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : قلت : نعم والله الذي لا إله غيره ، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله . فقد أجهز ابن مسعود عليه وهو جريح ، وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا ، لعظيم كفر أبي جهل وإيذائه للمسلمين ، وإن كان في النظام العام للحرب جاء منع الإجهاز على الجريح .
وكذلك يوم فتح مكة أمّن صلى الله عليه وسلم من بها بقوله : من دخل داره وأقفل بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل البيت الحرام فهو آمن ، واستثنى في ذلك جماعة أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ، منهم : عبد الله بن سعد أخو بني عامر بن لؤي ، وعبد الله بن خطل رجل من بني تميم بن غالب ، وكانت له قينتان وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما معا ، والحويرث بن نقيظ بن وهب ومقيس بن صبابة ...
وكذلك في أسرى بدر فكان حكمهم من الله سبحانه وتعالى القتل في قوله تعالى " مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ " ، والإثخان هو كثرة إراقة الدماء لإخافة الأعداء وردعهم عن غيهم .
كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق ، وفي ذلك نزل قوله تعالى مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ " . وكما أمر صلى الله عليه وسلم بحرق كروم الطائف ليحملهم على الخروج من حصونهم .
وأخرج مسلم عن الصعب بن جثامة قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري ( أي النساء والصبيان ) من المشركين يبيتون (أي يغار عليهم بالليل بحيث لا يعرف الرجل من المرأة والصبي ) فيصيبون ( أي المسلمون ) من نسائهم وذراريهم ( أي المشركين) فقال هم منهم ( أي في الحكم )" ، وليس المراد هنا إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم والعمد ، بل المراد إن لم يكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم فلا إثم على القاتلين . وكذلك يجوز قتل النساء إن كن من المقاتلة أو ممن يئذي المسلمين بأي نوع من أنواع الإذاء .
فيعلم من ذلك أن النظام العام في القتال يجب على المسلمين أن يلتزموا به " فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ " ، ما لم يطغ ويبغ الكفر في تعامله خارج دائرة الإنسانية ومعاهدات القتال الدولية، عندها نستطيع مضطرين أن نتعامل بشدة وغلظة مع الكافرين ليكون لهم ردعا كما قال الله سبحانه وتعالى في محكم آياته قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً "، وفي قوله تعالى " مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ " ، فالشدة والغلظة هذه في التعامل مع الكافرين مطلوبة لإرعابهم ولردع غطرسة الكفر عن إجرامه ، وطالما هو التزم بمبادئ القتال الإنسانية ضمن صراع القوى فالمسلمون ملتزمون أيضا ، وإذا خرج الكفر عنها لا بد له من تأديب ، فعندها لا نكبل بنظم القتال العامة بل نخرج منها إلى الاستثناءات التي أوجدها الله سبحانه في تنزيله ، وأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة ، لما يخدم العقيدة ويجعل النكاية في الأعداء .
والله سبحانه وتعالى أعلم ، فهذا الجهد وعلى الله الاتكال ، فأرجو الله أن أكون قد وفقت إلى الصواب ، فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي ، وما توفيقي إلا بالله .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..