المهند
10-10-2004, 08:38 AM
البعث والنشور إثباته، وكيفيته، وأحوال المبعوثين
خلق الله الأرض، وأسكنها البشر، وكتب عليهم سنناً لا تتغير، وقوانين لا تتخلف. فالموتُ سنةٌ مكتوبة على كل حي، والرزقُ مقدر، والأجلُ محدد، والدنيا بأسرها لها ابتداءٌ ولها انتهاء، والحياةُ على الأرض مرتَّبةٌ كما أراد الله تعالى. وذلك كلُه من دلائل قدرته وعظمته التي توجب توحيده وعبادته، وتقطع حجة كل حقير من البشر أراد العظمة والكبرياء لنفسه، وتحولُ بين الشركاء وشركائهم، قال الله عز وجل: الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى" عما يشركون {الروم: 40}.
والبشر على الأرض يولدون، وفيها يمشون ويرزقون، ومنها يبعثون ويحشرون كما قال الله سبحانه: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور {الملك: 15}.
إنها حياةٌ مرتبةٌ قبل أن يولد الإنسان وإلى أن يموت بل وإلى أن يبعث، ونظامٌ دقيقٌ عجيبٌ يسير على وفق ما أراد الخالق سبحانه، سواء كان في خلق الإنسانِ، أم الحيوان، أم النبات، أم كان في تقلب الليل والنهار. لا يحتاج البشرُ بحث ذلك؛ لأنه ليس إليهم، ولا بأيديهم، فكلُ الخلائق تسير بانتظام حسب إرادة العليم الخبير.
ليلٌ يعقبُ نهاراً، وزمانٌ يتبع زماناً، وأجيالٌ ترث أجيالاً. لم تتأخر شمسُ يوم عن وقتِ شروقها أو غروبها، ولا فصلٌ عن زمن حلوله وزواله، ولا بشرٌ في ولادته ووفاته.
أطوار الإنسان:
خَلْقُ البشر ثم مآلهم جاء على نحوٍ مرتبٍ مفصل لا يحتاج إلى أبحاث ونظريات وتخبطات قال الله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين 12 ثم جعلناه نطفة في قرار مكين 13 ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين 14 ثم إنكم بعد ذلك لميتون 15 ثم إنكم يوم القيامة تبعثون 16 {المؤمنون: 12 - 16}.
تفصيلٌ واضح لا لبس فيه ولا غموض، وأطوارٌ لها ابتداء ثم انتهاء لا تحتاج إلى بحث وتفكير، وإنما على العبد أن يسخر فكره وجوارحه في عبادة خالقه وتعظيمه، لا في توقع كيفية البداية، واستكشاف المصير، أو بحث إمكانية البعث؛ لأن ذلك كله كائنٌ لا محالة، لا يجادلُ فيه إلا جاهلٌ كافر كحال المشركين الذين أخبر الله عنهم بقوله سبحانه: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى" وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون {النحل: 38}.
ودحض الله زعمهم فقال تعالى: زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى" وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير {التغابن: 7}.
صفة البعث:
إذا أذن الله تعالى بالبعث جمع الله تعالى ما تفرق من أجساد البشر ولو كان في بطون السباع، أو حيوانات الماء، أو بطن الأرض، أو ما استحال رماداً بالحرق وذرته الرياح، يجمعه الله تعالى، ولو أكل إنسانٌ إنساناً لجمع الله تعالى الآكل والمأكول (1)، ولما قتل حمزة رضي الله عنه في أحد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن تجد صفيةُ في نفسها لتركته حتى يحشره الله من بطون السباعِ والطير"(2).
وأما كيفيةُ خروجهم من الأرض: فينبتون كما ينبت النبات؛ ذلك أن الإنسانَ إذا مات وبلى وتحلل بقي منه عَجْبُ الذَنب فمنه ينبت ويركب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب" (3).
فينبتهم الله تعالى مما بقي منهم كما جاء ذلك موضحاً في كتاب الله تعالى في مواضع كثيرة عند ذكر النبات ومن تلك الآيات:
1- قول الله سبحانه وتعالى: وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى" إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى" لعلكم تذكرون {الأعراف: 57}.
2- قوله عز وجل: ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد 9 والنخل باسقات لها طلع نضيد 10 رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج 11 {ق: 9 - 11}.
3- قوله سبحانه: فانظر إلى" آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى" وهو على" كل شي قدير {الروم: 50} .
وثبت في السنة أحاديث كثيرة تدل على ذلك منها:
1- ما جاء في حديث الصور الطويل وفيه: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "ثم ينزل الله مطراً كأنه الطل فيُنبت منه أجساد الناس ثم نفخ فيه أخرى" فإذا هم قيام ينظرون{الزمر:68}" (4).
2- حديث أبي رزين العقيلي قال: "قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: أما مررت بوادي أهلك مَحْلاً" قال: بلى! قال: "أما مررت به يهتز خضراً؟" قال: قلت: بلى! قال: "ثم مررت به مَحْلاً" قال: بلى! قال: "فكذلك الله يحيي الموتى ذلك آيته في خلقه" (5).
فإذا اكتملت أجسادُهم ولم يبق إلا أرواحهم؛ جمع الله تعالى أرواحهم في الصور، وأمر إسرافيل بالنفخ، فرجع كلُ ذي روح إلى جسده بإذن الله تعالى، فيصبحون كما كانوا في الدنيا على أشكالهم وهيئاتهم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "لما وعد الله سبحانه وهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده أنه يعيد الخلقَ كما بدأهم أول مرة، كان من صدق وعده أن يعيده على الحالة التي بدأ عليها من تمام أعضائه وكمالها، ثم ذكر قوله تعالى كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين {الأنبياء: 104} قال تعالى: كما بدأكم تعودون {الأعراف: 29}، وقال أيضاً: "وإلا فوقت قيامهم من القبور يكونون على صورتهم التي كانوا عليها في الدنيا، وعلى صفاتهم وهيئاتهم وأحوالهم، فيبعث كل عبد على ما مات عليه، ثم ينشئهم الله سبحانه كما يشاء"(6) اه.
وأول من يبعث: رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال عليه الصلاة والسلام: "أنا سيدُ ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفَّع" (7).
وصفهم حال بعثهم:
جاءت في الكتاب والسنة أوصاف لبعث البشر وحشرهم للحساب ومن هذه الأوصاف:
1- أنهم يخرجون يمشون حُفاة عُراة غُرْلاً، كما خلقوا أول مرة(8).
2- أنهم يسيرون إلى الموقف أمماً أمماً كما قال تعالى: يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا {النبأ: 18} يتقدم كلَّ أمةٍ رسولُها كما في قوله سبحانه: يوم ندعو كل أناس بإمامهم {الإسراء: 71}.
3- أنهم يسرعون في مشيهم كما قال سبحانه: ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى" ربهم ينسلون {يس51} أي: يسرعون (9) وقال سبحانه: يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى" نصب يوفضون {المعارج43}.
أفواجٌ لا قِبَل للعقل بتصورها، ولا يعلمُ عدَدَها إلا خالقها، كما قال الله عز وجل: يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر (7) {القمر} من كثرتهم وسرعةِ سيرهم إلى موقف الحساب.
أرأيتم - إخواني القراء - لو أن أهل الأرض استطاعوا أن يجمعوا ربع من على الأرض في صعيدٍ واحد؛ بل سدَسَهم أو عشرهم، كيف سيكون ذلك؟!
إنه ولا شك سيكون جمعاً عظيماً من البشر، وأعظم منه وأشدُ: جمعُ يوم القيامة حين يجمعُ الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، كلُ البشر بأممهم في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، من لدن آدم إلى آخر نفس من هذه الأمة، يبعثهم الله تعالى ثم يسيرون في جموع هائلة إلى حيث يدعو الداعي.
الله أكبر، ما أعظم ذلك الجمع!! وما أشد زحامه، وما أفضع كربه!! فهل من عدة يعدها كل مسلم للنجاة من كربه؟!
حال الكفار يوم البعث:
إن الكافر ليصعق من هول المفاجأة حينما يُبعث من قبره؛ لأنه كان يكذب بذلك ويقول مع القائلين: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر {الجاثية: 24} فإذا نفخ في الصور، وقام من موتته، وبعث من قبره؛ تذكَّرَ ما جاءت به الرسل، وأخبرت عنه الكتب من البعث والجزاء والعذاب فيندمُ ولات حين مندم، ويقول مع إخوانه الكافرين والمنافقين: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا {يس: 52} فيجيبهم أهل الإيمان والحق من الملائكة والنبيين والمؤمنين (10) هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون {يس52}.
ومن أقوال الكافرين يومئذ يا ويلنا هذا يوم الدين {الصافات20} إنهم عرفوه، وتذكروا ما أُخْبِروا به في الدنيا فكفروا، فيقول لهم المؤمنون هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون {الصافات21}.
إنهم سينكرون أنهم لبثوا طويلاً في الدنيا؛ لئلا تقوم عليهم الحجة ولأن الدنيا زالت فكأنها لم تكن،(11) كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله سبحانه: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون 55 وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى" يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون 56 فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون 57 {الروم: 55 - 57}، وقال سبحانه: قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين 112 قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين 113 قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون 114 أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون 115 {المؤمنون: 112 - 115}.
يبعث الكفار يومئذ وهم في غاية الخضوع والانكسار مع ندمٍ لا يعدله ندم، قد خشعت أبصارُهم من الذلةِ والخوف كما جاء ذلك في قول الله عز وجل: فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى" يلاقوا يومهم الذي يوعدون 42 يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى" نصب يوفضون 43 خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون 44 {المعارج: 42 - 44}، ما أسوأ حالهم! وما أشد بؤسهم! أعاذنا الله والمسلمين منهم ومن مآلهم!!
بعث العباد على أعمالهم:
كلُ العباد يبعثون على أعمالهم التي ختم لهم بها في الدنيا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "يبعث كل عبد على ما مات عليه" (12).
وإذا أذن الله تعالى بهلاك أمة كَثُرَ فيها الفساد، وقَلَّ المصلحون، وفيها صالحون ومفسدون؛ أهلكهم جميعاً، ثم يبعثهم على نواياهم. فأهلُ الفساد على نية الفساد، وأهل الصلاح على نية الصلاح؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن قوم يخسف بأولهم وآخرهم: كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقُهم ومن ليس منهم، قال: "يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم" (13).
وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذابُ من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم"(14).
إن أهل الطاعة تزينهم طاعتهم يوم بعثهم، فالمجاهدُ في سبيل الله تعالى الذي قُتل لإعلاء كلمة الحق يُبعث وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك(15)، ومن مات محرماً بعث ملبياً (16).
فما أعظم الشهادة في سبيل الله تعالى، ثم الموت في حال الإحرام، إن لها مزية على غيرها من الميتات، عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات على مرتبة من هذه المراتب بعث عليها" قال حَيْوَة: يقول: رباطٍ أو حج أو نحو ذلك (17).
وكذلك أهلُ العصيان يبعث بعضهم بعقوبات تناسب معاصيهم؛ فأهل الربا يتخبطون حال بعثهم، كما قال الله تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس {البقرة: 275} قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق" (18)، قال العلماء: "فجعل الله هذه العلامة لأكلة الربا، وذلك أنه أرباه في بطونهم فأثقلهم فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون لعظم بطونهم وثقلها عليهم"(19). والنائحة إذا لم تتب قبل موتها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران (20).
خلق الله الأرض، وأسكنها البشر، وكتب عليهم سنناً لا تتغير، وقوانين لا تتخلف. فالموتُ سنةٌ مكتوبة على كل حي، والرزقُ مقدر، والأجلُ محدد، والدنيا بأسرها لها ابتداءٌ ولها انتهاء، والحياةُ على الأرض مرتَّبةٌ كما أراد الله تعالى. وذلك كلُه من دلائل قدرته وعظمته التي توجب توحيده وعبادته، وتقطع حجة كل حقير من البشر أراد العظمة والكبرياء لنفسه، وتحولُ بين الشركاء وشركائهم، قال الله عز وجل: الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى" عما يشركون {الروم: 40}.
والبشر على الأرض يولدون، وفيها يمشون ويرزقون، ومنها يبعثون ويحشرون كما قال الله سبحانه: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور {الملك: 15}.
إنها حياةٌ مرتبةٌ قبل أن يولد الإنسان وإلى أن يموت بل وإلى أن يبعث، ونظامٌ دقيقٌ عجيبٌ يسير على وفق ما أراد الخالق سبحانه، سواء كان في خلق الإنسانِ، أم الحيوان، أم النبات، أم كان في تقلب الليل والنهار. لا يحتاج البشرُ بحث ذلك؛ لأنه ليس إليهم، ولا بأيديهم، فكلُ الخلائق تسير بانتظام حسب إرادة العليم الخبير.
ليلٌ يعقبُ نهاراً، وزمانٌ يتبع زماناً، وأجيالٌ ترث أجيالاً. لم تتأخر شمسُ يوم عن وقتِ شروقها أو غروبها، ولا فصلٌ عن زمن حلوله وزواله، ولا بشرٌ في ولادته ووفاته.
أطوار الإنسان:
خَلْقُ البشر ثم مآلهم جاء على نحوٍ مرتبٍ مفصل لا يحتاج إلى أبحاث ونظريات وتخبطات قال الله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين 12 ثم جعلناه نطفة في قرار مكين 13 ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين 14 ثم إنكم بعد ذلك لميتون 15 ثم إنكم يوم القيامة تبعثون 16 {المؤمنون: 12 - 16}.
تفصيلٌ واضح لا لبس فيه ولا غموض، وأطوارٌ لها ابتداء ثم انتهاء لا تحتاج إلى بحث وتفكير، وإنما على العبد أن يسخر فكره وجوارحه في عبادة خالقه وتعظيمه، لا في توقع كيفية البداية، واستكشاف المصير، أو بحث إمكانية البعث؛ لأن ذلك كله كائنٌ لا محالة، لا يجادلُ فيه إلا جاهلٌ كافر كحال المشركين الذين أخبر الله عنهم بقوله سبحانه: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى" وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون {النحل: 38}.
ودحض الله زعمهم فقال تعالى: زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى" وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير {التغابن: 7}.
صفة البعث:
إذا أذن الله تعالى بالبعث جمع الله تعالى ما تفرق من أجساد البشر ولو كان في بطون السباع، أو حيوانات الماء، أو بطن الأرض، أو ما استحال رماداً بالحرق وذرته الرياح، يجمعه الله تعالى، ولو أكل إنسانٌ إنساناً لجمع الله تعالى الآكل والمأكول (1)، ولما قتل حمزة رضي الله عنه في أحد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن تجد صفيةُ في نفسها لتركته حتى يحشره الله من بطون السباعِ والطير"(2).
وأما كيفيةُ خروجهم من الأرض: فينبتون كما ينبت النبات؛ ذلك أن الإنسانَ إذا مات وبلى وتحلل بقي منه عَجْبُ الذَنب فمنه ينبت ويركب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب" (3).
فينبتهم الله تعالى مما بقي منهم كما جاء ذلك موضحاً في كتاب الله تعالى في مواضع كثيرة عند ذكر النبات ومن تلك الآيات:
1- قول الله سبحانه وتعالى: وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى" إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى" لعلكم تذكرون {الأعراف: 57}.
2- قوله عز وجل: ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد 9 والنخل باسقات لها طلع نضيد 10 رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج 11 {ق: 9 - 11}.
3- قوله سبحانه: فانظر إلى" آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى" وهو على" كل شي قدير {الروم: 50} .
وثبت في السنة أحاديث كثيرة تدل على ذلك منها:
1- ما جاء في حديث الصور الطويل وفيه: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "ثم ينزل الله مطراً كأنه الطل فيُنبت منه أجساد الناس ثم نفخ فيه أخرى" فإذا هم قيام ينظرون{الزمر:68}" (4).
2- حديث أبي رزين العقيلي قال: "قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: أما مررت بوادي أهلك مَحْلاً" قال: بلى! قال: "أما مررت به يهتز خضراً؟" قال: قلت: بلى! قال: "ثم مررت به مَحْلاً" قال: بلى! قال: "فكذلك الله يحيي الموتى ذلك آيته في خلقه" (5).
فإذا اكتملت أجسادُهم ولم يبق إلا أرواحهم؛ جمع الله تعالى أرواحهم في الصور، وأمر إسرافيل بالنفخ، فرجع كلُ ذي روح إلى جسده بإذن الله تعالى، فيصبحون كما كانوا في الدنيا على أشكالهم وهيئاتهم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "لما وعد الله سبحانه وهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده أنه يعيد الخلقَ كما بدأهم أول مرة، كان من صدق وعده أن يعيده على الحالة التي بدأ عليها من تمام أعضائه وكمالها، ثم ذكر قوله تعالى كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين {الأنبياء: 104} قال تعالى: كما بدأكم تعودون {الأعراف: 29}، وقال أيضاً: "وإلا فوقت قيامهم من القبور يكونون على صورتهم التي كانوا عليها في الدنيا، وعلى صفاتهم وهيئاتهم وأحوالهم، فيبعث كل عبد على ما مات عليه، ثم ينشئهم الله سبحانه كما يشاء"(6) اه.
وأول من يبعث: رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال عليه الصلاة والسلام: "أنا سيدُ ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفَّع" (7).
وصفهم حال بعثهم:
جاءت في الكتاب والسنة أوصاف لبعث البشر وحشرهم للحساب ومن هذه الأوصاف:
1- أنهم يخرجون يمشون حُفاة عُراة غُرْلاً، كما خلقوا أول مرة(8).
2- أنهم يسيرون إلى الموقف أمماً أمماً كما قال تعالى: يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا {النبأ: 18} يتقدم كلَّ أمةٍ رسولُها كما في قوله سبحانه: يوم ندعو كل أناس بإمامهم {الإسراء: 71}.
3- أنهم يسرعون في مشيهم كما قال سبحانه: ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى" ربهم ينسلون {يس51} أي: يسرعون (9) وقال سبحانه: يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى" نصب يوفضون {المعارج43}.
أفواجٌ لا قِبَل للعقل بتصورها، ولا يعلمُ عدَدَها إلا خالقها، كما قال الله عز وجل: يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر (7) {القمر} من كثرتهم وسرعةِ سيرهم إلى موقف الحساب.
أرأيتم - إخواني القراء - لو أن أهل الأرض استطاعوا أن يجمعوا ربع من على الأرض في صعيدٍ واحد؛ بل سدَسَهم أو عشرهم، كيف سيكون ذلك؟!
إنه ولا شك سيكون جمعاً عظيماً من البشر، وأعظم منه وأشدُ: جمعُ يوم القيامة حين يجمعُ الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، كلُ البشر بأممهم في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، من لدن آدم إلى آخر نفس من هذه الأمة، يبعثهم الله تعالى ثم يسيرون في جموع هائلة إلى حيث يدعو الداعي.
الله أكبر، ما أعظم ذلك الجمع!! وما أشد زحامه، وما أفضع كربه!! فهل من عدة يعدها كل مسلم للنجاة من كربه؟!
حال الكفار يوم البعث:
إن الكافر ليصعق من هول المفاجأة حينما يُبعث من قبره؛ لأنه كان يكذب بذلك ويقول مع القائلين: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر {الجاثية: 24} فإذا نفخ في الصور، وقام من موتته، وبعث من قبره؛ تذكَّرَ ما جاءت به الرسل، وأخبرت عنه الكتب من البعث والجزاء والعذاب فيندمُ ولات حين مندم، ويقول مع إخوانه الكافرين والمنافقين: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا {يس: 52} فيجيبهم أهل الإيمان والحق من الملائكة والنبيين والمؤمنين (10) هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون {يس52}.
ومن أقوال الكافرين يومئذ يا ويلنا هذا يوم الدين {الصافات20} إنهم عرفوه، وتذكروا ما أُخْبِروا به في الدنيا فكفروا، فيقول لهم المؤمنون هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون {الصافات21}.
إنهم سينكرون أنهم لبثوا طويلاً في الدنيا؛ لئلا تقوم عليهم الحجة ولأن الدنيا زالت فكأنها لم تكن،(11) كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله سبحانه: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون 55 وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى" يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون 56 فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون 57 {الروم: 55 - 57}، وقال سبحانه: قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين 112 قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين 113 قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون 114 أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون 115 {المؤمنون: 112 - 115}.
يبعث الكفار يومئذ وهم في غاية الخضوع والانكسار مع ندمٍ لا يعدله ندم، قد خشعت أبصارُهم من الذلةِ والخوف كما جاء ذلك في قول الله عز وجل: فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى" يلاقوا يومهم الذي يوعدون 42 يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى" نصب يوفضون 43 خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون 44 {المعارج: 42 - 44}، ما أسوأ حالهم! وما أشد بؤسهم! أعاذنا الله والمسلمين منهم ومن مآلهم!!
بعث العباد على أعمالهم:
كلُ العباد يبعثون على أعمالهم التي ختم لهم بها في الدنيا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "يبعث كل عبد على ما مات عليه" (12).
وإذا أذن الله تعالى بهلاك أمة كَثُرَ فيها الفساد، وقَلَّ المصلحون، وفيها صالحون ومفسدون؛ أهلكهم جميعاً، ثم يبعثهم على نواياهم. فأهلُ الفساد على نية الفساد، وأهل الصلاح على نية الصلاح؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن قوم يخسف بأولهم وآخرهم: كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقُهم ومن ليس منهم، قال: "يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم" (13).
وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذابُ من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم"(14).
إن أهل الطاعة تزينهم طاعتهم يوم بعثهم، فالمجاهدُ في سبيل الله تعالى الذي قُتل لإعلاء كلمة الحق يُبعث وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك(15)، ومن مات محرماً بعث ملبياً (16).
فما أعظم الشهادة في سبيل الله تعالى، ثم الموت في حال الإحرام، إن لها مزية على غيرها من الميتات، عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات على مرتبة من هذه المراتب بعث عليها" قال حَيْوَة: يقول: رباطٍ أو حج أو نحو ذلك (17).
وكذلك أهلُ العصيان يبعث بعضهم بعقوبات تناسب معاصيهم؛ فأهل الربا يتخبطون حال بعثهم، كما قال الله تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس {البقرة: 275} قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق" (18)، قال العلماء: "فجعل الله هذه العلامة لأكلة الربا، وذلك أنه أرباه في بطونهم فأثقلهم فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون لعظم بطونهم وثقلها عليهم"(19). والنائحة إذا لم تتب قبل موتها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران (20).