قلب الليل
28-04-2004, 02:05 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
القضية الفلسطينية عبر قرن من الزمان
لقد إستقر رأي الإستعمار القديم، المتمثل أساساً في بريطانيا العظمى و الإمبراطورية الفرنسية، على حل المشكلة اليهودية عن طريق إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، و ذلك بهدف التخلص من السرطان اليهودي الذي بات يمتص دماء شعوبهم، و يسبب لهم مشاكل إقتصادية وإجتماعية لا حدود لها. و من جانب آخر، فإن الإستيطان اليهودي على أرض فلسطين من شأنه أن يؤمن خطوط مواصلات المستعمرين إلى مستعمراتهم آنذاك و يحمي مصالحهم في المنطقة العربية بشكل خاص. و من ناحية أخرى فإنه شكل خنجر مسموماً في قلب الوطن العربي، ليحول دون توحده في مواجهة الأخطار المحدقة به. بل و العمل على زرع القلاقل و خلق الفتن في ربوعه لإبقائه ضعيفاً مفككاً فيسهل عندئذ إخضاعه و السيطرة على مقدراته. و قد كان لهم ما أرادوا. حيث نجح الحلفاء بعد إنتصارهم في الحرب العالمية الأولى، على إقتسام أرجاء الإمبراطورية العثمانية وفق ما نصت عليه إتفاقية "سايكس بيكو ". و كانت فلسطين من نصيب بريطانيا المنتدبة عليها، لتتمكن من تنفيذ وعد وزير خارجيتها آنذاك "بلفور " الذي صدر عام 1917م، والذي نص على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين و حتى يتحقق ذلك الحلم ويتحول إلى واقع فتحت بريطانيا باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين على مصراعيه، وعملت منذ البداية على تمكين اليهود من تشكيل سلطة خاصة بهم وأسندت إلى بعضهم مسؤوليات كبيرة في إدارة سلطة الإنتداب البريطاني، لتمكنهم من رقاب شعب فلسطين، ولتسهل لهم الإستيلاء على أراض حكومية، يقيمون عليها مستعمراتهم الإستيطانية. و لم تتوقف بريطانيا عند هذا الحد، بل قامت بتدريب الشباب اليهود على فنون القتال، و أمدتهم بالسلاح للدفاع عن أنفسهم، و للإستعداد لما هو قادم.
و في المقابل، فإن شعب فلسطين فطن منذ إصدار "وعد بلفور " المشئوم عام 1917م إلى نوايا بريطانيا العظمى السيئة، و إلى خطتها في إنتزاع شعب فلسطين من أرضه و منحها لليهود فقام بإنتفاضات كبيرة و ثورات عارمة مستمرة رغم تعرضها لقمع وحشي من قبل القوات البريطانية، وصل إلى حد إعدام كل شخص تجد في حوزته رصاصة فارغة. و في عام 1936م بلغت ثورة شعب فلسطين أوجهها، حيث تم إعلان الإضراب العام، و عمت الإنتفاضة الشعبية أرجاء الوطن. و تصدت قوات الجيش البريطاني بكل إمكانياتها لتلك الإنتفاضة المباركة. إلا أنها وعلى مدى ستة شهور كاملة، لم تفلح بكل جبروتها من إجهاضها و إنهاء الإضراب الذي لم يشهد له العالم مثيلاً. وأمام ذلك الصمود الرائع، إضطرت بريطانيا العظمى للجوء إلى حلفائها من القادة العرب، لإنقاذها من ورطتها. فما كان منهم إلا أن وجهوا نداءً إلى شعب فلسطين يحثونه على إنهاء إضرابهم مقابل التعهد بتلبية مطالبهم إعتماداً على وعد صديقتهم بريطانيا. و يلبي شعب فلسطين نداء القادة العرب، و يتوقف الإضراب لتبدأ مآسي شعب فلسطين مع قادة العرب. فبريطانيا صاحبة النفوذ الكبير في العالم العربي لم تف بوعودها، و القادة العرب تناسوا تعهدهم و تركوا شعب فلسطين يواجه مصيره بنفسه. و كان على هذا الشعب الأعزل الذي لم يكن يملك سوى إيمانه بربه و بعض الأسلحة القديمة التي كان يشتريها بقوت عياله، إلى جانب بعض الخناجر و السيوف، كان عليه أن يتصدى لليهود الذين إستشرى أمرهم، و لجحافل بريطانيا التي تطارد مجاهدي فلسطين، و تسارع لنجدة اليهود كلما وقعوا في مأزق.
و إستمر الحال بين كر و فر، حتى صدر قرار التقسيم في نوفمبر عام 1947م و الذي أعطى لليهود المغتصبين نسبة 51% من أرض فلسطين، و هم الذين لم تتجاوز ممتلكاتهم آنذاك نسبة 6% من أرض فلسطين إشتروا معظمها من بعض أثرياء العرب اللبنانيين و السوريين. بينما أعطى القرار شعب فلسطين نسبة 49% في الوقت الذي كان يملك فيه 94% من الأرض وإزاء ذلك القرار الجائر، الذي رفضه العرب جميعاً، و بالتالي رفضه شعب فلسطين، الذي هب لمواجهته في ثورة عارمة. و خاض بإمكانياته المتواضعة معارك شرسة ضد اليهود والبريطانيين، الذين قرروا إنهاء الإنتداب بعد أن إطمأنوا إلى قدرة اليهود على التصدي للفلسطينيين و العرب؛ سيما و قد مكنوا اليهود من معسكراتهم بما فيها من أسلحة و عتاد.
شكل شعب فلسطين مجموعات مقاومة في كل مدينة و قرية، و تدفقت جموع المجاهدين المتطوعين من بعض الدول العربية، إلا أن مشكلة نقص السلاح و العتاد بقيت قائمة. و رغم مناشدة القيادة الفلسطينية للقيادات العربية، و للجامعة العربية بأن تمدهم بالسلاح فقط وأنهم قادرون على التصدي للصهاينة و هزيمتهم إلا أنهم سدوا الآذان و أغمضوا العيون. فماذا كانت النتيجة؟ بدأت المقاومة في الإنهيار. فعلى سبيل المثال: قائد جيش الإنقاذ الشهيد البطل عبدالقادر الحسيني كان يسيطر على قرية القسطل الجبلية، التي تتحكم في الطريق المؤدي إلى القدس، و الذي مكنه من محاصرة مئة ألف يهودي في القدس، حتى أوشكوا على الإستسلام إلا أن نفاذ الذخيرة و قلة السلاح دفعه للسفر إلى دمشق لطلب الإمدادات من اللجنة العسكرية التابعة للجامعة العربية، حتى يسترد قرية القسطل الإستراتيجية. إلا أن المماطلة و التسويف، دفعت القائد البطل إلى الغضب الشديد. و قرر العودة إلى فلسطين، ليقتحم القسطل بمسدسه مع بعض معاونيه، فيسقط شهيداً
فطن الصهاينة إلى مأزق المقاومة، و عمدوا إلى إرتكاب مجازر وحشية ضد النساء والأطفال و الشيوخ في بعض القرى، لدفع الآخرين إلى الهروب بعائلاتهم خشية تعرضهم للمذابح. و في هذه الأثناء قررت الدول العربية السبع آنذاك الدخول بجيوشها إلى فلسطين، و التي كان تعدادها حوالي خمسة و ثلاثين ألف جندي بأسلحة ضعيفة و تدريب أضعف. بقيادة أمير الأردن/ عبدالله بن الحسين، الذي كان يقود جيشه الجنرال البريطاني/كلوب باشا ، ليواجهوا جيش الدفاع الصهيوني المكون من سبعين ألف مقاتل، مدربين تدريباً عالياً و مجهزين بأحدث الأسلحة آنذاك.
و هكذا دخلت الجيوش العربية رغم تحذيرات الفلسطينيين، لتصنيع بداية النكبة الحقيقية للقضية الفلسطينية. ففي المناطق التي إستولت عليها القوات العربية، تم تجريد الفلسطينيين من أسلحتهم، و جرى إبعادهم عن كل ما يتعلق بقضيتهم، ثم نشرت الشائعات التي تتهم الفلسطينيين بالخيانة، و أنهم باعوا أرضهم لليهود. أعقب ذلك هزائم الجيوش العربية المتتالية التي أدت إلى توقيع إتفاقات الهدنة، و التي كان من نتائجها ضياع فلسطين عدا شريط قطاع غزة و الضفة الغربية/ اللذين سقطا بدوريهما في عام 1967م، لتصبح كل فلسطين في قبضة الصهاينة، وكان من نتائج الوصاية العربية أن أصبحت قضية فلسطين قضية خلافات حدودية بين الكيان الصهيوني و الدول العربية المجاورة، و قضية إنسانية للاجئين الفلسطينيين. و يصحو شعب فلسطين من جديد ليسقط الوصاية و يتمرد على طابور الذل في وكالة غوث اللاجئين، ثم ينطلق في ثورة تحررية عام 1965م، ليصطدم بالواقع العربي المرير. فيتعرض لمجازر وحشية في الأردن، يخرج في أثرها عام 1971م إلى لبنان. و هناك يتعرض لمؤامرات و هجمات صهيونية متتالية كان أشدها الغزو الصهيوني عام 1982م الذي إستمر ما يقارب الشهور الثلاثة، لتغادر بعدها المقاومة لبنان إلى أرض الشتات البعيدة.
وبتنكيس البنادق، و الرحيل المر عن أرض المواجهة مع العدو الصهيوني، بدأت مرحلة جديدة من النضال، عمادها العمل السياسي الذي فقد مصدر قوته بغياب العمل العسكري. و تندفع القيادة الفلسطينية في هذا المسا و بتشجيع و مؤازرة قيادات عربية. حصلت على وعود من الدول الصديقة و الحليفة، بإقامة دولة فلسطينية على الأرض التي إحتلت عام 1967م و بعد مخاض طويل، تمخض الجبل فولد إتفاقية "أوسلو ". المعاقة و التي كرست الإستيطان الصهيوني على أرض فلسطين ومنحته شرعية الوجود على حساب حقوق شعب فلسطين و دماء أبنائه الطاهرة التي ذهبت هدراً. و بعد أكثر من عشر سنوات من الضياع في تيه المفاوضات و إسقاط كل الأوراق الشرعية وجد الشعب الفلسطيني نفسه أمام سراب يخاله العطشان ماء. و حتى تتملص القيادات العربية مما آلت إليه قضية فلسطين بفضل جهودها و توجيهاتها، تبارت في الإعلان عن تأييدها و دعمها لما تقرره القيادة الفلسطينية التي باتت عاجزة أمام مكر و غدر العدو الصهيوني الذي يرى أن كل الإتفاقات التي وقعها غير مقدسة و بالتالي غير ملزمة له طالما لا تحقق لها أمنها وفق مفهومها الخاص و أن على ما يسمى بشعب فلسطين أن يرضى بما يقرره له، و أن يتنازل عن حق العودة. و على الدول العربية أن تستوعبه على أرضها المترامية الأطراف، ليعيش اليهود وحدهم في أرض الميعاد. وليعيدوا بناء الهيكل الثاني على أنقاض المسجد الأقصى.
و هكذا نخلص من تجاربنا الطويلة المريرة أن صراعنا مع العدو الصهيوني صراع وجود، و أن الحل الأكيد لقضيتنا لن يأتي إلا من فوهة البندقية. و على شعب فلسطين أن يتنبه لما يحاق له من مكائد، و أن يتوقف عن الإنجرار إلى مهاوي الردى التي يسوقه إليها كبراء القوم. وعليه أن يتمسك بطريق المقاومة سبيلاً وحيداً لإسترداد حقوقه، و أن يحتضن المقاومين المجاهدين، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلاً.
و علينا أن نتذكر أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. و أن ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا نحن ندرك أن الأمانة ثقيلة و تنوء بحملها الجبال، و نعلم أن الطريق طويل و شاق، و أنه بحاجة إلى تضحيات جسيمة، و إلى رجال يتسلحون بالقوة التي لا تقهر. و هي الإيمان بأن لكل أجل كتاب. و أن هذا الأجل لا يستقدمه قتال أو أية مخاطر يقتحمها الإنسان.و لا يستأخره الهرب إلى المضاجع و الإحتماء بالحصون. فلا نامت أعين الجبناء. و ختاماً، فنحن على يقين بأن الكيان الصهيوني وقد علا العلو الثاني و طغى و تجبر، إلى زوال كما وعد الحق سبحانه و تعالى، و أن النصر قد أصبح قاب قوسين أو أدنى. وما ذلك على الله ببعيد.
فايز حامد الرنتيسي
القضية الفلسطينية عبر قرن من الزمان
لقد إستقر رأي الإستعمار القديم، المتمثل أساساً في بريطانيا العظمى و الإمبراطورية الفرنسية، على حل المشكلة اليهودية عن طريق إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، و ذلك بهدف التخلص من السرطان اليهودي الذي بات يمتص دماء شعوبهم، و يسبب لهم مشاكل إقتصادية وإجتماعية لا حدود لها. و من جانب آخر، فإن الإستيطان اليهودي على أرض فلسطين من شأنه أن يؤمن خطوط مواصلات المستعمرين إلى مستعمراتهم آنذاك و يحمي مصالحهم في المنطقة العربية بشكل خاص. و من ناحية أخرى فإنه شكل خنجر مسموماً في قلب الوطن العربي، ليحول دون توحده في مواجهة الأخطار المحدقة به. بل و العمل على زرع القلاقل و خلق الفتن في ربوعه لإبقائه ضعيفاً مفككاً فيسهل عندئذ إخضاعه و السيطرة على مقدراته. و قد كان لهم ما أرادوا. حيث نجح الحلفاء بعد إنتصارهم في الحرب العالمية الأولى، على إقتسام أرجاء الإمبراطورية العثمانية وفق ما نصت عليه إتفاقية "سايكس بيكو ". و كانت فلسطين من نصيب بريطانيا المنتدبة عليها، لتتمكن من تنفيذ وعد وزير خارجيتها آنذاك "بلفور " الذي صدر عام 1917م، والذي نص على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين و حتى يتحقق ذلك الحلم ويتحول إلى واقع فتحت بريطانيا باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين على مصراعيه، وعملت منذ البداية على تمكين اليهود من تشكيل سلطة خاصة بهم وأسندت إلى بعضهم مسؤوليات كبيرة في إدارة سلطة الإنتداب البريطاني، لتمكنهم من رقاب شعب فلسطين، ولتسهل لهم الإستيلاء على أراض حكومية، يقيمون عليها مستعمراتهم الإستيطانية. و لم تتوقف بريطانيا عند هذا الحد، بل قامت بتدريب الشباب اليهود على فنون القتال، و أمدتهم بالسلاح للدفاع عن أنفسهم، و للإستعداد لما هو قادم.
و في المقابل، فإن شعب فلسطين فطن منذ إصدار "وعد بلفور " المشئوم عام 1917م إلى نوايا بريطانيا العظمى السيئة، و إلى خطتها في إنتزاع شعب فلسطين من أرضه و منحها لليهود فقام بإنتفاضات كبيرة و ثورات عارمة مستمرة رغم تعرضها لقمع وحشي من قبل القوات البريطانية، وصل إلى حد إعدام كل شخص تجد في حوزته رصاصة فارغة. و في عام 1936م بلغت ثورة شعب فلسطين أوجهها، حيث تم إعلان الإضراب العام، و عمت الإنتفاضة الشعبية أرجاء الوطن. و تصدت قوات الجيش البريطاني بكل إمكانياتها لتلك الإنتفاضة المباركة. إلا أنها وعلى مدى ستة شهور كاملة، لم تفلح بكل جبروتها من إجهاضها و إنهاء الإضراب الذي لم يشهد له العالم مثيلاً. وأمام ذلك الصمود الرائع، إضطرت بريطانيا العظمى للجوء إلى حلفائها من القادة العرب، لإنقاذها من ورطتها. فما كان منهم إلا أن وجهوا نداءً إلى شعب فلسطين يحثونه على إنهاء إضرابهم مقابل التعهد بتلبية مطالبهم إعتماداً على وعد صديقتهم بريطانيا. و يلبي شعب فلسطين نداء القادة العرب، و يتوقف الإضراب لتبدأ مآسي شعب فلسطين مع قادة العرب. فبريطانيا صاحبة النفوذ الكبير في العالم العربي لم تف بوعودها، و القادة العرب تناسوا تعهدهم و تركوا شعب فلسطين يواجه مصيره بنفسه. و كان على هذا الشعب الأعزل الذي لم يكن يملك سوى إيمانه بربه و بعض الأسلحة القديمة التي كان يشتريها بقوت عياله، إلى جانب بعض الخناجر و السيوف، كان عليه أن يتصدى لليهود الذين إستشرى أمرهم، و لجحافل بريطانيا التي تطارد مجاهدي فلسطين، و تسارع لنجدة اليهود كلما وقعوا في مأزق.
و إستمر الحال بين كر و فر، حتى صدر قرار التقسيم في نوفمبر عام 1947م و الذي أعطى لليهود المغتصبين نسبة 51% من أرض فلسطين، و هم الذين لم تتجاوز ممتلكاتهم آنذاك نسبة 6% من أرض فلسطين إشتروا معظمها من بعض أثرياء العرب اللبنانيين و السوريين. بينما أعطى القرار شعب فلسطين نسبة 49% في الوقت الذي كان يملك فيه 94% من الأرض وإزاء ذلك القرار الجائر، الذي رفضه العرب جميعاً، و بالتالي رفضه شعب فلسطين، الذي هب لمواجهته في ثورة عارمة. و خاض بإمكانياته المتواضعة معارك شرسة ضد اليهود والبريطانيين، الذين قرروا إنهاء الإنتداب بعد أن إطمأنوا إلى قدرة اليهود على التصدي للفلسطينيين و العرب؛ سيما و قد مكنوا اليهود من معسكراتهم بما فيها من أسلحة و عتاد.
شكل شعب فلسطين مجموعات مقاومة في كل مدينة و قرية، و تدفقت جموع المجاهدين المتطوعين من بعض الدول العربية، إلا أن مشكلة نقص السلاح و العتاد بقيت قائمة. و رغم مناشدة القيادة الفلسطينية للقيادات العربية، و للجامعة العربية بأن تمدهم بالسلاح فقط وأنهم قادرون على التصدي للصهاينة و هزيمتهم إلا أنهم سدوا الآذان و أغمضوا العيون. فماذا كانت النتيجة؟ بدأت المقاومة في الإنهيار. فعلى سبيل المثال: قائد جيش الإنقاذ الشهيد البطل عبدالقادر الحسيني كان يسيطر على قرية القسطل الجبلية، التي تتحكم في الطريق المؤدي إلى القدس، و الذي مكنه من محاصرة مئة ألف يهودي في القدس، حتى أوشكوا على الإستسلام إلا أن نفاذ الذخيرة و قلة السلاح دفعه للسفر إلى دمشق لطلب الإمدادات من اللجنة العسكرية التابعة للجامعة العربية، حتى يسترد قرية القسطل الإستراتيجية. إلا أن المماطلة و التسويف، دفعت القائد البطل إلى الغضب الشديد. و قرر العودة إلى فلسطين، ليقتحم القسطل بمسدسه مع بعض معاونيه، فيسقط شهيداً
فطن الصهاينة إلى مأزق المقاومة، و عمدوا إلى إرتكاب مجازر وحشية ضد النساء والأطفال و الشيوخ في بعض القرى، لدفع الآخرين إلى الهروب بعائلاتهم خشية تعرضهم للمذابح. و في هذه الأثناء قررت الدول العربية السبع آنذاك الدخول بجيوشها إلى فلسطين، و التي كان تعدادها حوالي خمسة و ثلاثين ألف جندي بأسلحة ضعيفة و تدريب أضعف. بقيادة أمير الأردن/ عبدالله بن الحسين، الذي كان يقود جيشه الجنرال البريطاني/كلوب باشا ، ليواجهوا جيش الدفاع الصهيوني المكون من سبعين ألف مقاتل، مدربين تدريباً عالياً و مجهزين بأحدث الأسلحة آنذاك.
و هكذا دخلت الجيوش العربية رغم تحذيرات الفلسطينيين، لتصنيع بداية النكبة الحقيقية للقضية الفلسطينية. ففي المناطق التي إستولت عليها القوات العربية، تم تجريد الفلسطينيين من أسلحتهم، و جرى إبعادهم عن كل ما يتعلق بقضيتهم، ثم نشرت الشائعات التي تتهم الفلسطينيين بالخيانة، و أنهم باعوا أرضهم لليهود. أعقب ذلك هزائم الجيوش العربية المتتالية التي أدت إلى توقيع إتفاقات الهدنة، و التي كان من نتائجها ضياع فلسطين عدا شريط قطاع غزة و الضفة الغربية/ اللذين سقطا بدوريهما في عام 1967م، لتصبح كل فلسطين في قبضة الصهاينة، وكان من نتائج الوصاية العربية أن أصبحت قضية فلسطين قضية خلافات حدودية بين الكيان الصهيوني و الدول العربية المجاورة، و قضية إنسانية للاجئين الفلسطينيين. و يصحو شعب فلسطين من جديد ليسقط الوصاية و يتمرد على طابور الذل في وكالة غوث اللاجئين، ثم ينطلق في ثورة تحررية عام 1965م، ليصطدم بالواقع العربي المرير. فيتعرض لمجازر وحشية في الأردن، يخرج في أثرها عام 1971م إلى لبنان. و هناك يتعرض لمؤامرات و هجمات صهيونية متتالية كان أشدها الغزو الصهيوني عام 1982م الذي إستمر ما يقارب الشهور الثلاثة، لتغادر بعدها المقاومة لبنان إلى أرض الشتات البعيدة.
وبتنكيس البنادق، و الرحيل المر عن أرض المواجهة مع العدو الصهيوني، بدأت مرحلة جديدة من النضال، عمادها العمل السياسي الذي فقد مصدر قوته بغياب العمل العسكري. و تندفع القيادة الفلسطينية في هذا المسا و بتشجيع و مؤازرة قيادات عربية. حصلت على وعود من الدول الصديقة و الحليفة، بإقامة دولة فلسطينية على الأرض التي إحتلت عام 1967م و بعد مخاض طويل، تمخض الجبل فولد إتفاقية "أوسلو ". المعاقة و التي كرست الإستيطان الصهيوني على أرض فلسطين ومنحته شرعية الوجود على حساب حقوق شعب فلسطين و دماء أبنائه الطاهرة التي ذهبت هدراً. و بعد أكثر من عشر سنوات من الضياع في تيه المفاوضات و إسقاط كل الأوراق الشرعية وجد الشعب الفلسطيني نفسه أمام سراب يخاله العطشان ماء. و حتى تتملص القيادات العربية مما آلت إليه قضية فلسطين بفضل جهودها و توجيهاتها، تبارت في الإعلان عن تأييدها و دعمها لما تقرره القيادة الفلسطينية التي باتت عاجزة أمام مكر و غدر العدو الصهيوني الذي يرى أن كل الإتفاقات التي وقعها غير مقدسة و بالتالي غير ملزمة له طالما لا تحقق لها أمنها وفق مفهومها الخاص و أن على ما يسمى بشعب فلسطين أن يرضى بما يقرره له، و أن يتنازل عن حق العودة. و على الدول العربية أن تستوعبه على أرضها المترامية الأطراف، ليعيش اليهود وحدهم في أرض الميعاد. وليعيدوا بناء الهيكل الثاني على أنقاض المسجد الأقصى.
و هكذا نخلص من تجاربنا الطويلة المريرة أن صراعنا مع العدو الصهيوني صراع وجود، و أن الحل الأكيد لقضيتنا لن يأتي إلا من فوهة البندقية. و على شعب فلسطين أن يتنبه لما يحاق له من مكائد، و أن يتوقف عن الإنجرار إلى مهاوي الردى التي يسوقه إليها كبراء القوم. وعليه أن يتمسك بطريق المقاومة سبيلاً وحيداً لإسترداد حقوقه، و أن يحتضن المقاومين المجاهدين، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلاً.
و علينا أن نتذكر أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. و أن ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا نحن ندرك أن الأمانة ثقيلة و تنوء بحملها الجبال، و نعلم أن الطريق طويل و شاق، و أنه بحاجة إلى تضحيات جسيمة، و إلى رجال يتسلحون بالقوة التي لا تقهر. و هي الإيمان بأن لكل أجل كتاب. و أن هذا الأجل لا يستقدمه قتال أو أية مخاطر يقتحمها الإنسان.و لا يستأخره الهرب إلى المضاجع و الإحتماء بالحصون. فلا نامت أعين الجبناء. و ختاماً، فنحن على يقين بأن الكيان الصهيوني وقد علا العلو الثاني و طغى و تجبر، إلى زوال كما وعد الحق سبحانه و تعالى، و أن النصر قد أصبح قاب قوسين أو أدنى. وما ذلك على الله ببعيد.
فايز حامد الرنتيسي