المهند
25-08-2004, 11:31 AM
رحلة قصيرة في التاريخ الطويل
"آه، لقد غدا صاحبي الذي أحببت
ترابا
وأنا، سأضطجع مثله
فلا أقوم أبد الآبدين
فيا صاحبة الحانة:
ـ وأنا أنظر إلى وجهك ـ
أيكون بوسعي ألا أرى الموت
الذي أخشاه
وأرهبه؟"
كلكامش
وحده خط الأفق البعيد، يفصل بين الماء والسماء في أهوار العراق العظيمة الضاجّة بالحياة والطيور والقصب، الممتدة فوق مساحات شاسعة من السهل الرسوبي الخصيب الذي كوّنه النهران التوأمان دجلة والفرات في رحلتيهما الطويلتين قبل عناقهما الأبدي في شط العرب، النهر الكبير الذي سرعان ما يخترق البصرة لينهي رحلته القصيرة في مياه الخليج الدافئة.
من الشمال الغربي لرأس الخليج تمتد الصحراء جنوبا نحو أعماق شبه الجزيرة العربية، وشمالاً بمحاذاة الفرات الذي ينساب ببطء متهادياً نحو بابل، معرّجاً على الكوفة، مغيّراً مساره باتجاه أور، متلوياً ملوّعاً في ابتعادٍ واقترابٍ واختراقٍ للرمال المتربصة به على الدوام.
بينما يشق دجلة طريقه في أرض وعرة في بلاد الأناضول ليدخل هادراً إلى شماليّ العراق، مخترقاً أرضاً ممرعةً خضراء في بلاد آشور، متجنباً سلاسل جبال كردستان، مارّاً بنينوى والموصل ونمرود والعاصمة القديمة آشور، واهباً الحياة في انحداره نحو سامراء وبغداد والمدائن وسلوقية، ليمضي قُدَماً نحو الجنوب في بانوراما الحضارات العراقية المتعاقبة، مقيَداً بالسدود التي ألجمت فيضاناته في بلاد ما زالت تخشى ذكرى الطوفان.
إنها جدلية الماء والأرض والإنسان، هذا الثالوث الذي صنع حضارات الأنهار الكبرى في وادي السند ووادي النيل، مثلما صنع في وادي الرافدين حضارات باذخة معطاء تلاحقت واحدة إثر أخرى على مدى سبعة آلاف عام، في دورات حضارية كبرى شكّلت في مجموعها أسفاراً خالدة في ذاكرة الإنسان على هذا الكوكب.
المعجزة السومرية
شعب موغل في القدم، لم تستطع الدراسات اللغوية ولا الانثروبولوجية إماطة اللثام عن أصله، فريد في لغته اللصيقة (غير الاشتقافية)، التي تراها شجيرةً منفردة لا تلتقي جذورها ولا أغصانها بأية لغة أخرى حية أو مندثرة في التصنيفات التي وضعها العلماء للغات البشرية جميعاً، بينما ترى اللغات الأخرى تتفرع في الغالب عن لغات أمهات كاللغات السامية والهندو ـ أوربية.
السومريون ذوو الرؤوس السود، كما تصفهم الكتابات المسمارية القديمة شعب استوطن السهل الرسوبي الخصيب من وسط العراق إلى جنوبيه في أزمان لا تُعرف بداياتها، مواجهاً تحديات مركبة تتمثل في تهديدات شعوب صحراوية وجبلية وأخرى تسكن الهضاب، يغريها السهل الخصيب دوماً، وعليه مهادنتها أو ردعها إذا اقتضت الضرورة، وأراضٍ خصبة ولكنها تحتاج إلى ريٍ دائم وبزلٍ دائم وإلاّ عَلَتْها طبقات ملحية بيض، ونهرين يغيران مجرييهما ولا يكفان عن الفيضانات المدمرة، وسد المنافذ الاصطناعية بالغرين المجلوب من أعالي النهرين وروافدهما الكثيرة، الذي كوّن بتوالي القرون دلتا الرافدين العظيمة، وطبيعةٍ متطرفة قاسيةٍ كهذه تحتاج إلى استنفار عقل الإنسان وعضلاته لترويضها. ومع كل تلك التحديات كان السومريون أول من أنشأ دولةً، واخترع رموزاً مسمارية للكتابة، وسنّ قانوناً، وصاغ ملحمةً، وترنّم بقصيدةٍ على أنغام القيثارة الذهبية التي وجدها ليونارد وولي في المقبرة الملكية بمدينة أور سنة 1927، والتي اختفت الآن مع نحو عشرة آلاف قطعة أخرى من الكنوز التي لا تُقدر بثمن، من خزانات المتحف العراقي وقاعاته بعد دخول قوات الاحتلال الأميركي إلى بغداد في التاسع من أبريل.
تذكر جداول الملوك السومرية أن (الملوكية) نزلت للمرة الأولى من السماء في مدينة أريدو، ثم جاء الطوفان العظيم الذي اكتسح الأرض ومن عليها باستثناء زيوسدرا رجل الطوفان، الذي ستسميه النصوص البابلية فيما بعد أتنابشتم، وسيُعرف في التوراة باسم نوح.
أوروك ذات الأسواق المدنية السومرية الشهيرة، شهدت الثورة المعلوماتية الأولى باختراع الكتابة في حدود 3200 ق.ب، حيث وجد المنقبون أولى ألواح الطين المكتوبة في تاريخ الإنسان، في المستوى (أ) من الطبقة الرابعة في موقع هذه المدينة. ليضع ذلك الاختراع الأعظم حداً فاصلاً بين عصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية، ولتبدأ من ذلك الحين ذاكرة الإنسان ووعيه بالتشكل. وكأن أوروك لم تكتفِ بهذا شرفاً، فأهدت للبشرية الموقف الفلسفي من الوجود والخلود والعدم لمليكها الخامس كلكامش في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، في ملحمة صاغها شاعر سومري مجهول على غير مثال سابق، وأنشدتها من بعده في العراق القديم أجيال تلو أجيال، ثم قُدّر لها أن تختفي في تجاويف التلول الأثرية اكثر من ألفي عام، لتعاود الظهور مجدداً في القرن العشرين بعد الميلاد مترجمةً لمعظم لغات العالم الحية.
سرجون الأكدي وحلم الإمبراطورية القصير
منذ عصور ما قبل التاريخ كانت الجزيرة العربية منجماً بشرياً يسيل شعوباً وقبائل، شمالاً باتجاه الهلال الخصيب، وكان الأكديون من بين أقدم أقوام الجزيرة التي جذبتها بلاد الأنهار، فاستوطنت منطقة بابل في عصر مبكر جداً، وتفاعلت مع السومريين متأثرةً بعقائدهم ومقتبسةً خطهم المسماري بعد تحويره قليلاً ليتناسب مع لغة اشتقاقية تعدّ الأخت الكبرى للغة العربية الحالية، وتتميز بحروف حَلْقية تخلو منها السومرية.
واستطاع سرجون الأكدي (2371ـ2316 ق.م) الذي يعدّ واحداً من أعاظم القادة السياسيين والعسكريين في العالم القديم أن يؤسس أول إمبراطورية في التاريخ استمرت أكثر من قرن ونصف، بعد توحيد دويلات المدن السومرية، وامتداد حدود دولته إلى المناطق الجبلية الشرقية والشمالية الشرقية، ومناطق الفرات، وشمال سوريا، فضلاً عن سيطرته على بلاد عيلام وأقاليم أخرى من إيران. متخذاً من "أكد" عاصمة له، تلك المدينة التي تنفرد بكونها العاصمة الوحيدة في العراق القديم غير المكتشفة حتى الآن، وإن كانت الأنظار تتجه إلى أطلال تلك المدينة الكبيرة غير المنقّبة في منطقة اليوسفية جنوبي بغداد، والتي تعلو أسوارها ومعابدها وقصورها وحاراتها كثبانُ التراب، على أنها مدينة أكد العظيمة.
ويدل الرأس البرونزي الشهير المنسوب إلى سرجون الأكدي على التطور الفني البليغ وإتقان الصنعة والدقة في التفاصيل، بحيث أُشّر على أنه يمثل نقلةً نوعيةً في تاريخ النحت العالمي برمته. وكان هذا الرأس البرونزي في الأصل بعيون مطعّمة إلا أنها اقتلعت بفأس ـ كما يبدو ـ وخُرّبت لذلك بعض تفاصيل الوجه في أدوار قديمة. ولعل في ذلك عزاءً رمزياً لسرجون الأكدي كي لا ترى عيناه ما حلّ بشواهد حضارة أسهم في صنعها، بُعَيْد الدخول الأميركي إلى بغداد.
الانبعاث السومري الأخير
بعد أن استنزفت الحروب الطويلة لخلفاء سرجون، وأشهرهم حفيده نرام سين صاحب مسلة النصر الشهيرة، طاقات الإمبراطورية الأكدية نجحت قبائل الكوتيين الجبلية القادمة من أواسط زاكروس، وهي المنطقة الشمالية الغربية من إيران، في إسقاطها ودخول أكد وتدميرها سنة 1211 ق.م، مسجلةً أولى الحقب المظلمة في تاريخ الوادي العريق. وكان سقوط أكد إيذاناً بظهور غرض جديد في الشعر الأكدي هو رثاء المدن، حيث كتب شاعر مجهول قصيدة "رثاء أكد".
لكن أوروك المدينة السومرية المعطاء أخرجت زعيماً جديداً من أبنائها هو أوتوحيكال ليقود بنجاح أولى عمليات التحرير في العالم القديم يوم 14 تموز سنة 2120 ق.م، موثقا انتصاره هذا بنصٍ سومري تاريخي فريد، لينبعث على أثره مجد سومر مجدداً انبعاثته الأخيرة. وليتمخض الظرف السياسي عن قيام سلالة جديدة في مدينة أور عرفت بسلالة أور الثالثة (2113 – 2006 ق.م) على يد مؤسسها الملك أورنمّو الذي بُنيت في عهده زقورة أور الشهيرة ذات الطبقات الثلاث، والذي حاز قصب السبق بكونه أقدم المشرّعين في التاريخ، إذ أن قانونه المدون بالسومرية هو أقدم ما اكتشف حتى الآن في ميدان التشريع، وقدّر لهذه السلالة أن تكون أخر سلالة سومرية حاكمة بعد أن سقطت أور بيد العيلاميين، لتتراجع اللغة السومرية عن صدارتها في الحياة اليومية بشكل تدريجي، لتبقى لغةً رسمية في بلاط سلالة إيسن، وهي من السلالات الأمورية الحاكمة بعد سقوط أور، والتي تأثر ملوكها ـ بوجه عام ـ بالثقافة السومرية، ليختفي بعدها الشعب السومري من مسرح التاريخ، وتختفي لغته من التداول اليومي لتنحصر في أضيق دائرة من الكتبة وكهنة المعابد، والرُقُم والألواح الطينية القابعة في بطون التلول الأثرية قروناً متطاولة.
الأموريون وصعود بابل
أدى دخول موجة بشرية جديدة، أمورية هذه المرة، تتكلم اللغة السامية إلى وسط العراق وجنوبيه، قادمة من الجزيرة الفراتية، إلى سيطرتها على غالبية البلاد بعد سقوط أور، ومنها سلالة إيسن، التي كان من أشهر ملوكها لبت عشتار (1935ـ1924ق.م) الذي أصدر شريعةً وصلتنا غالبية موادها وهي مدوّنة بالسومرية. وسلالة لارسا، ومملكة أشنونا التي وصلنا منها قانون لا نعرف مشرّعه عرف بقانون أشنونا، وكذلك وصلتنا منها معارف هندسية بالغة الأهمية تضمنها لوح رياضي يشرح مبدأ تشابه المثلثات المعروف بنظرية فيثاغورس جهلا.
ولكن تبقى سلالة بابل الأولى التي كوّنتها سنة 1894 ق.م الموجة الأمورية الثانية، هي الأكثر نجاحاً في إعادة صياغة الواقع الجغرافي والسكاني والثقافي لبلاد وادي الرافدين وما حولها، لا سيما بعد ارتقاء حمورابي عرش بابل (1793ـ1751 ق.م) وتسلسله السادس في ملوك السلالة، ونجاحه في توحيد البلاد والتوسع شرقاً وغرباً لتكوين إمبراطورية كبيرة تمتد من البحر السفلي "الخليج العربي" إلى البحر العلوي "البحر المتوسط"، فأصبحت بابل في عهده واحدةً من أكبر عواصم العالم القديم. وتوّج مآثره بإصدار شريعته الشهيرة سنة 1770 ق.م التي تعد أكمل شريعة مكتشفة حتى الآن في تاريخ العراق القديم، وقد دوّنت بالخط المسماري وباللغة الأكدية على مسلة من الحجر الدايوريت الأسود، وضمّت 282 مادة قانونية، فضلاً عن المقدمة والخاتمة. وهي محفوظة اليوم في متحف اللوفر بباريس، بعد أن عثرت عليها بعثة آثارية فرنسية في مطلع القرن العشرين، وغرّبتها هناك.
وكان من نتاج هذا العصر البالغ الثراء كتابات ذات طابع ديني وأدبي، منها: أسطورة نزول عشتار إلى العالم السفلي، وقصة الخليقة البابلية، التي تعدّ واحدةً من أبرز القصائد في الأدب الديني، وهي المصدر الأساسي في دراسة معتقدات البابليين بشأن خلق الكون والإنسان. وإلى هذا العصر أيضا تعود أقدم نسخة من ملحمة كلكامش الذي سعى عبثاً لنيل الخلود مع الآلهة واكتشف أخيراً أن مآثر الإنسان وأعماله هي التي تمنحه الخلود الحقّ.
من الناحية السياسية أدى ضعف الملوك منذ وفاة حمورابي، وكثرة الثورات والحركات الانفصالية إلى تدهور شؤون الدولة البابلية القديمة، وسهّل إمكانية سقوطها الفاجع بأيدي الكشيين، الذين شكّل احتلالهم لوادي الرافدين الفترة المظلمة الثانية في تاريخه (1595ـ1157 ق.م) وهي من بين أكثر مراحل التاريخ البابلي غموضا لقلة المصادر المدونة والآثار الخاصة بها، حيث لم يُعثر حتى الآن على أية نصوص دوّنها الكشيون، القادمون من المنطقة الوسطى لسلسلة جبال زاكروس المعروفة الآن بلورستان بلغتهم الكشية.
ولكن يبدو أن اتصالات الكشيين التجارية وارتباطاتهم الخارجية مع البلدان المجاورة ساعد على انتشار الثقافة العراقية القديمة بأساطيرها وقصصها ولغتها في هذه المناطق. ويكفي أن نشير هنا إلى رسائل تل العمارنة بمصر، حيث اكتُشفت رسائل ملكية كثيرة مدوّنة بالخط المسماري وباللغة الأكدية، تبادلها حكام الحيثيين والميتانيين والكشيين وملوكهم مع إخناتون فرعون مصر الشهير.
وهذا يعني، في جملة أشياء كثيرة، أن اللغة الأكدية كانت تمثل آنذاك اللغة الدبلوماسية العالمية السائدة، في وقت كان فيه العراق القديم يرزح تحت الاحتلال الكشي طوال أربعة قرون كاملة.
الآشوريون: حكمة الإنسان وقوة الثور المجنح
ينتمي الآشوريون إلى الشجرة ذاتها التي تفرعت عنها الأقوام الأكدية والأمورية والكلدانية، واستقروا في القسم الشمالي من العراق منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد تقريبا. وتكلموا لهجة من لهجات اللغة الأكدية، مستخدمين الخط المسماري ذاته الذي ابتدعه السومريون وطوّره الأكديون والبابليون.
وفيما يبدو أن بلاد أشور كانت خاضعة للنفوذ الحضاري والسياسي ـ في حدود متفاوتة ـ للكيانات السياسية والحضارية التي قامت في القسم الجنوبي والوسطي من العراق القديم. ولكنها شهدت في عصرها الوسيط (1521-911 ق.م) بعضاً من مراحل القوة والتوهج والتأثير المباشر في عموم منطقة الشرق الأدنى. ولكن تبقى البؤرة التي ينشدّ إليها التاريخ الآشوري بأكمله هي سنة 911 ق.م التي شهدت بداية العصر الإمبراطوري الذهبي الحديث. وقد تميز هذا العصر، الذي استمر ثلاثة قرون كاملة، بتعاظم قوة الآشوريين وازدهار حضارتهم وامتداد نفوذهم، حتى شملت حدود دولتهم معظم أقاليم الشرق الأدنى، وبضمنها مصر في أوج ذلك التوسع. ومع ذلك تخللت العصر مراحل من الارتباك السياسي والانكماش العسكري كان آخرها مؤذناً بزوال الكيان السياسي الآشوري نهائيا وسقوط نينوى سنة 612 ق.م.
إن القطع الأثرية النادرة التي تملأ قاعات متاحف العالم وخزاناته، بعد أن اقتلعت من بيئاتها في مدن الدولة الآشورية، وعواصمها الأربع : أشور، وكلخو " نمرود"، ودور ـ شروكين "خرسباد"، ونينوى المزدحمة بقصورها الفخمة ومعابدها وزقوراتها الشاهقة وأسوارها وبواباتها وأبنيتها الأخرى، إنما تعكس جانباً من جوانب عظمة الآشوريين ونضوج حضارتهم ورقيّها، فقد زيّن فنانو آشور، الذين تميزوا بحسّهم المرهف في موازنة الكتل ومعرفتهم الدقيقة بالتشريح، مداخل القصور والقاعات الكبرى بتماثيل ضخمة لحيوانات مركبة عُرفت بالثيران المجنحة، تعبّر عن قوة الآشوريين وحكمتهم وصلابتهم. فإلى جانب قوة الثور الطبيعية حاول الفنان أن يعبّر عن ثباته وسيطرته على الأرض والسماء فمثّله بخمس أرجل وبأجنحة كبيرة، في حين عبّر عن الحكمة والمعرفة بأن جعل للثور رأس إنسان معبرٍ عن هذه الصفات.
سجًل الآشوريون أيضا سابقةً مهمة في تولي امرأة المنصب الأعلى في دولتهم، حينما خلّف الإمبراطور شمشي ـ أدد ابنه القاصر أدد ـ نراري الثالث، فتولت أمه شمورامات (التي عُرفت في المصادر الكلاسيكية اليونانية واللاتينية باسم سيمراميس) الحكم وصيةً على ابنها وحكمت نيابة عنه مدة خمس سنوات.
وقدّم العاهل المثقف أشور بانيبال (668ـ627 ق.م)، وتسلسله الخامس عشر في السلالة الملكية، أعظم كنز يمكن أن يقدمه ملك من العصور القديمة لجمهرة العلماء الباحثين عن مخلفات الماضي؛ إذ أنشأ مكتبة عظيمة من الرُقُم والألواح الطينية في عاصمته نينوى، نقل إليها كل ما كان في قصر أبيه أسرحدون من ألواح، وما جلبه من سائر بلاد وادي الرافدين، حتى امتلأت قاعات المكتبة بها. وظلت محفوظة بتنظيم بالغ مدة 2400 سنة لحين اكتشافها سنة 1848 م. وبلغ عدد الألواح المكتشفة فيها اكثر من 25 ألف رقيم طيني تزخر بحكمة الرافدينيين وعلومهم وأساطيرهم خلال ثلاثة آلالف سنة من الرقيّ تسبق عهد أشور بانيبال.
الكلدانيون وصعود بابل الأخير
من أعماق جزيرة العرب أيضا دخل الكلدانيون بلاد الأنهار في عصر غير معروف من العصور البابلية في موجة بشرية جديدة شاءت لها الأقدار أن تكون صاحبة الكيان السياسي الأخير في وادي الرافدين قبل عصر الغزاة، الذي استمر من سقوط بابل سنة 539 ق.م وحتى الفتح العربي الإسلامي للبلاد في الثلث الأول من القرن السابع الميلادي.
سَرَت شهرة الكلدانيين في أجواء العصور القديمة والوسطى بشكل عجيب، وامتلأت المصادر الكلاسيكية بأخبارهم التي كثيراً ما كانت تجنح إلى عالم الخيال الأسطوري الغامض.
كان نبوبلاصر (626 – 605 ق.م) هو مؤسس هذه السلالة الحاكمة في بابل، والذي أعلن تمرده على السلطة الآشورية، وقاد تحالفاً غير مقدس مع المانيين انتهى بسقوط الدولة الآشورية تحت سلطته المباشرة، واستطاع أن يمد نفوذه السياسي والعسكري إلى سوريا وفلسطين. وسار على طريقه، ولكن بخطوات أسرع وأكثر ثباتا، ولده الملك الشهير نبوخذنصر (604ـ562 ق.م) الذي اأشتُهر في المصادر اليونانية واللاتينية بإنشائه الجنائن المعلّقة، التي عُدّت إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. وأشتُهر أيضا في " العهد القديم " بقضائه النهائي على مملكة يهوذا وسبي اليهود إلى بابل. وعلى الرغم من حروبه الطويلة التي تطلبت أموالاً طائلةً إلا أنه أولى أعمار بلاده عناية قصوى، وخصوصاً عاصمته بابل التي أصبحت في هذا العصر المدينة الأعظم في العالم.
وقدّر لنبونائيد أن يكون الملك العراقي الأخير في التاريخ القديم، وكأني به كان يدرك ذلك المصير الرهيب الذي يتهدد بلاده ومدينته الجميلة بابل، فكان مولعا بالآثار وجمع الأخبار والعاديات القديمة، حتى أُطلق عليه نعت الملك الآثاري. واهتم بكل ما يتعلق بأحجار الأسس العائد إلى بُناة المعابد الأولى التي وجدت أثناء عمليات التعمير التي كانت تُجرى في عهده على نطاق واسع. وحدث أنه وجد في مدينة سبار القديمة، حينما كان يعمر معبد الإله شَمَش، أحجارَ أسسٍ مطمورة تحت الأرض ترجع للملك الأكدي نرام سين، وكان فرح نبونائيد بهذا الاكتشاف لا يُدانى. وحفلت كتاباته التذكارية بالإشارات إلى ملوك سبقوه بعشرات القرون من أورنمو إلى حمورابي.
ــــــــــــــــــــــ
(1)باحث وكاتب عراقي – مجلة (الانساني) الصادرة عن اللجنة الدولية للصليب الاحمر العدد 25/2003
"آه، لقد غدا صاحبي الذي أحببت
ترابا
وأنا، سأضطجع مثله
فلا أقوم أبد الآبدين
فيا صاحبة الحانة:
ـ وأنا أنظر إلى وجهك ـ
أيكون بوسعي ألا أرى الموت
الذي أخشاه
وأرهبه؟"
كلكامش
وحده خط الأفق البعيد، يفصل بين الماء والسماء في أهوار العراق العظيمة الضاجّة بالحياة والطيور والقصب، الممتدة فوق مساحات شاسعة من السهل الرسوبي الخصيب الذي كوّنه النهران التوأمان دجلة والفرات في رحلتيهما الطويلتين قبل عناقهما الأبدي في شط العرب، النهر الكبير الذي سرعان ما يخترق البصرة لينهي رحلته القصيرة في مياه الخليج الدافئة.
من الشمال الغربي لرأس الخليج تمتد الصحراء جنوبا نحو أعماق شبه الجزيرة العربية، وشمالاً بمحاذاة الفرات الذي ينساب ببطء متهادياً نحو بابل، معرّجاً على الكوفة، مغيّراً مساره باتجاه أور، متلوياً ملوّعاً في ابتعادٍ واقترابٍ واختراقٍ للرمال المتربصة به على الدوام.
بينما يشق دجلة طريقه في أرض وعرة في بلاد الأناضول ليدخل هادراً إلى شماليّ العراق، مخترقاً أرضاً ممرعةً خضراء في بلاد آشور، متجنباً سلاسل جبال كردستان، مارّاً بنينوى والموصل ونمرود والعاصمة القديمة آشور، واهباً الحياة في انحداره نحو سامراء وبغداد والمدائن وسلوقية، ليمضي قُدَماً نحو الجنوب في بانوراما الحضارات العراقية المتعاقبة، مقيَداً بالسدود التي ألجمت فيضاناته في بلاد ما زالت تخشى ذكرى الطوفان.
إنها جدلية الماء والأرض والإنسان، هذا الثالوث الذي صنع حضارات الأنهار الكبرى في وادي السند ووادي النيل، مثلما صنع في وادي الرافدين حضارات باذخة معطاء تلاحقت واحدة إثر أخرى على مدى سبعة آلاف عام، في دورات حضارية كبرى شكّلت في مجموعها أسفاراً خالدة في ذاكرة الإنسان على هذا الكوكب.
المعجزة السومرية
شعب موغل في القدم، لم تستطع الدراسات اللغوية ولا الانثروبولوجية إماطة اللثام عن أصله، فريد في لغته اللصيقة (غير الاشتقافية)، التي تراها شجيرةً منفردة لا تلتقي جذورها ولا أغصانها بأية لغة أخرى حية أو مندثرة في التصنيفات التي وضعها العلماء للغات البشرية جميعاً، بينما ترى اللغات الأخرى تتفرع في الغالب عن لغات أمهات كاللغات السامية والهندو ـ أوربية.
السومريون ذوو الرؤوس السود، كما تصفهم الكتابات المسمارية القديمة شعب استوطن السهل الرسوبي الخصيب من وسط العراق إلى جنوبيه في أزمان لا تُعرف بداياتها، مواجهاً تحديات مركبة تتمثل في تهديدات شعوب صحراوية وجبلية وأخرى تسكن الهضاب، يغريها السهل الخصيب دوماً، وعليه مهادنتها أو ردعها إذا اقتضت الضرورة، وأراضٍ خصبة ولكنها تحتاج إلى ريٍ دائم وبزلٍ دائم وإلاّ عَلَتْها طبقات ملحية بيض، ونهرين يغيران مجرييهما ولا يكفان عن الفيضانات المدمرة، وسد المنافذ الاصطناعية بالغرين المجلوب من أعالي النهرين وروافدهما الكثيرة، الذي كوّن بتوالي القرون دلتا الرافدين العظيمة، وطبيعةٍ متطرفة قاسيةٍ كهذه تحتاج إلى استنفار عقل الإنسان وعضلاته لترويضها. ومع كل تلك التحديات كان السومريون أول من أنشأ دولةً، واخترع رموزاً مسمارية للكتابة، وسنّ قانوناً، وصاغ ملحمةً، وترنّم بقصيدةٍ على أنغام القيثارة الذهبية التي وجدها ليونارد وولي في المقبرة الملكية بمدينة أور سنة 1927، والتي اختفت الآن مع نحو عشرة آلاف قطعة أخرى من الكنوز التي لا تُقدر بثمن، من خزانات المتحف العراقي وقاعاته بعد دخول قوات الاحتلال الأميركي إلى بغداد في التاسع من أبريل.
تذكر جداول الملوك السومرية أن (الملوكية) نزلت للمرة الأولى من السماء في مدينة أريدو، ثم جاء الطوفان العظيم الذي اكتسح الأرض ومن عليها باستثناء زيوسدرا رجل الطوفان، الذي ستسميه النصوص البابلية فيما بعد أتنابشتم، وسيُعرف في التوراة باسم نوح.
أوروك ذات الأسواق المدنية السومرية الشهيرة، شهدت الثورة المعلوماتية الأولى باختراع الكتابة في حدود 3200 ق.ب، حيث وجد المنقبون أولى ألواح الطين المكتوبة في تاريخ الإنسان، في المستوى (أ) من الطبقة الرابعة في موقع هذه المدينة. ليضع ذلك الاختراع الأعظم حداً فاصلاً بين عصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية، ولتبدأ من ذلك الحين ذاكرة الإنسان ووعيه بالتشكل. وكأن أوروك لم تكتفِ بهذا شرفاً، فأهدت للبشرية الموقف الفلسفي من الوجود والخلود والعدم لمليكها الخامس كلكامش في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، في ملحمة صاغها شاعر سومري مجهول على غير مثال سابق، وأنشدتها من بعده في العراق القديم أجيال تلو أجيال، ثم قُدّر لها أن تختفي في تجاويف التلول الأثرية اكثر من ألفي عام، لتعاود الظهور مجدداً في القرن العشرين بعد الميلاد مترجمةً لمعظم لغات العالم الحية.
سرجون الأكدي وحلم الإمبراطورية القصير
منذ عصور ما قبل التاريخ كانت الجزيرة العربية منجماً بشرياً يسيل شعوباً وقبائل، شمالاً باتجاه الهلال الخصيب، وكان الأكديون من بين أقدم أقوام الجزيرة التي جذبتها بلاد الأنهار، فاستوطنت منطقة بابل في عصر مبكر جداً، وتفاعلت مع السومريين متأثرةً بعقائدهم ومقتبسةً خطهم المسماري بعد تحويره قليلاً ليتناسب مع لغة اشتقاقية تعدّ الأخت الكبرى للغة العربية الحالية، وتتميز بحروف حَلْقية تخلو منها السومرية.
واستطاع سرجون الأكدي (2371ـ2316 ق.م) الذي يعدّ واحداً من أعاظم القادة السياسيين والعسكريين في العالم القديم أن يؤسس أول إمبراطورية في التاريخ استمرت أكثر من قرن ونصف، بعد توحيد دويلات المدن السومرية، وامتداد حدود دولته إلى المناطق الجبلية الشرقية والشمالية الشرقية، ومناطق الفرات، وشمال سوريا، فضلاً عن سيطرته على بلاد عيلام وأقاليم أخرى من إيران. متخذاً من "أكد" عاصمة له، تلك المدينة التي تنفرد بكونها العاصمة الوحيدة في العراق القديم غير المكتشفة حتى الآن، وإن كانت الأنظار تتجه إلى أطلال تلك المدينة الكبيرة غير المنقّبة في منطقة اليوسفية جنوبي بغداد، والتي تعلو أسوارها ومعابدها وقصورها وحاراتها كثبانُ التراب، على أنها مدينة أكد العظيمة.
ويدل الرأس البرونزي الشهير المنسوب إلى سرجون الأكدي على التطور الفني البليغ وإتقان الصنعة والدقة في التفاصيل، بحيث أُشّر على أنه يمثل نقلةً نوعيةً في تاريخ النحت العالمي برمته. وكان هذا الرأس البرونزي في الأصل بعيون مطعّمة إلا أنها اقتلعت بفأس ـ كما يبدو ـ وخُرّبت لذلك بعض تفاصيل الوجه في أدوار قديمة. ولعل في ذلك عزاءً رمزياً لسرجون الأكدي كي لا ترى عيناه ما حلّ بشواهد حضارة أسهم في صنعها، بُعَيْد الدخول الأميركي إلى بغداد.
الانبعاث السومري الأخير
بعد أن استنزفت الحروب الطويلة لخلفاء سرجون، وأشهرهم حفيده نرام سين صاحب مسلة النصر الشهيرة، طاقات الإمبراطورية الأكدية نجحت قبائل الكوتيين الجبلية القادمة من أواسط زاكروس، وهي المنطقة الشمالية الغربية من إيران، في إسقاطها ودخول أكد وتدميرها سنة 1211 ق.م، مسجلةً أولى الحقب المظلمة في تاريخ الوادي العريق. وكان سقوط أكد إيذاناً بظهور غرض جديد في الشعر الأكدي هو رثاء المدن، حيث كتب شاعر مجهول قصيدة "رثاء أكد".
لكن أوروك المدينة السومرية المعطاء أخرجت زعيماً جديداً من أبنائها هو أوتوحيكال ليقود بنجاح أولى عمليات التحرير في العالم القديم يوم 14 تموز سنة 2120 ق.م، موثقا انتصاره هذا بنصٍ سومري تاريخي فريد، لينبعث على أثره مجد سومر مجدداً انبعاثته الأخيرة. وليتمخض الظرف السياسي عن قيام سلالة جديدة في مدينة أور عرفت بسلالة أور الثالثة (2113 – 2006 ق.م) على يد مؤسسها الملك أورنمّو الذي بُنيت في عهده زقورة أور الشهيرة ذات الطبقات الثلاث، والذي حاز قصب السبق بكونه أقدم المشرّعين في التاريخ، إذ أن قانونه المدون بالسومرية هو أقدم ما اكتشف حتى الآن في ميدان التشريع، وقدّر لهذه السلالة أن تكون أخر سلالة سومرية حاكمة بعد أن سقطت أور بيد العيلاميين، لتتراجع اللغة السومرية عن صدارتها في الحياة اليومية بشكل تدريجي، لتبقى لغةً رسمية في بلاط سلالة إيسن، وهي من السلالات الأمورية الحاكمة بعد سقوط أور، والتي تأثر ملوكها ـ بوجه عام ـ بالثقافة السومرية، ليختفي بعدها الشعب السومري من مسرح التاريخ، وتختفي لغته من التداول اليومي لتنحصر في أضيق دائرة من الكتبة وكهنة المعابد، والرُقُم والألواح الطينية القابعة في بطون التلول الأثرية قروناً متطاولة.
الأموريون وصعود بابل
أدى دخول موجة بشرية جديدة، أمورية هذه المرة، تتكلم اللغة السامية إلى وسط العراق وجنوبيه، قادمة من الجزيرة الفراتية، إلى سيطرتها على غالبية البلاد بعد سقوط أور، ومنها سلالة إيسن، التي كان من أشهر ملوكها لبت عشتار (1935ـ1924ق.م) الذي أصدر شريعةً وصلتنا غالبية موادها وهي مدوّنة بالسومرية. وسلالة لارسا، ومملكة أشنونا التي وصلنا منها قانون لا نعرف مشرّعه عرف بقانون أشنونا، وكذلك وصلتنا منها معارف هندسية بالغة الأهمية تضمنها لوح رياضي يشرح مبدأ تشابه المثلثات المعروف بنظرية فيثاغورس جهلا.
ولكن تبقى سلالة بابل الأولى التي كوّنتها سنة 1894 ق.م الموجة الأمورية الثانية، هي الأكثر نجاحاً في إعادة صياغة الواقع الجغرافي والسكاني والثقافي لبلاد وادي الرافدين وما حولها، لا سيما بعد ارتقاء حمورابي عرش بابل (1793ـ1751 ق.م) وتسلسله السادس في ملوك السلالة، ونجاحه في توحيد البلاد والتوسع شرقاً وغرباً لتكوين إمبراطورية كبيرة تمتد من البحر السفلي "الخليج العربي" إلى البحر العلوي "البحر المتوسط"، فأصبحت بابل في عهده واحدةً من أكبر عواصم العالم القديم. وتوّج مآثره بإصدار شريعته الشهيرة سنة 1770 ق.م التي تعد أكمل شريعة مكتشفة حتى الآن في تاريخ العراق القديم، وقد دوّنت بالخط المسماري وباللغة الأكدية على مسلة من الحجر الدايوريت الأسود، وضمّت 282 مادة قانونية، فضلاً عن المقدمة والخاتمة. وهي محفوظة اليوم في متحف اللوفر بباريس، بعد أن عثرت عليها بعثة آثارية فرنسية في مطلع القرن العشرين، وغرّبتها هناك.
وكان من نتاج هذا العصر البالغ الثراء كتابات ذات طابع ديني وأدبي، منها: أسطورة نزول عشتار إلى العالم السفلي، وقصة الخليقة البابلية، التي تعدّ واحدةً من أبرز القصائد في الأدب الديني، وهي المصدر الأساسي في دراسة معتقدات البابليين بشأن خلق الكون والإنسان. وإلى هذا العصر أيضا تعود أقدم نسخة من ملحمة كلكامش الذي سعى عبثاً لنيل الخلود مع الآلهة واكتشف أخيراً أن مآثر الإنسان وأعماله هي التي تمنحه الخلود الحقّ.
من الناحية السياسية أدى ضعف الملوك منذ وفاة حمورابي، وكثرة الثورات والحركات الانفصالية إلى تدهور شؤون الدولة البابلية القديمة، وسهّل إمكانية سقوطها الفاجع بأيدي الكشيين، الذين شكّل احتلالهم لوادي الرافدين الفترة المظلمة الثانية في تاريخه (1595ـ1157 ق.م) وهي من بين أكثر مراحل التاريخ البابلي غموضا لقلة المصادر المدونة والآثار الخاصة بها، حيث لم يُعثر حتى الآن على أية نصوص دوّنها الكشيون، القادمون من المنطقة الوسطى لسلسلة جبال زاكروس المعروفة الآن بلورستان بلغتهم الكشية.
ولكن يبدو أن اتصالات الكشيين التجارية وارتباطاتهم الخارجية مع البلدان المجاورة ساعد على انتشار الثقافة العراقية القديمة بأساطيرها وقصصها ولغتها في هذه المناطق. ويكفي أن نشير هنا إلى رسائل تل العمارنة بمصر، حيث اكتُشفت رسائل ملكية كثيرة مدوّنة بالخط المسماري وباللغة الأكدية، تبادلها حكام الحيثيين والميتانيين والكشيين وملوكهم مع إخناتون فرعون مصر الشهير.
وهذا يعني، في جملة أشياء كثيرة، أن اللغة الأكدية كانت تمثل آنذاك اللغة الدبلوماسية العالمية السائدة، في وقت كان فيه العراق القديم يرزح تحت الاحتلال الكشي طوال أربعة قرون كاملة.
الآشوريون: حكمة الإنسان وقوة الثور المجنح
ينتمي الآشوريون إلى الشجرة ذاتها التي تفرعت عنها الأقوام الأكدية والأمورية والكلدانية، واستقروا في القسم الشمالي من العراق منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد تقريبا. وتكلموا لهجة من لهجات اللغة الأكدية، مستخدمين الخط المسماري ذاته الذي ابتدعه السومريون وطوّره الأكديون والبابليون.
وفيما يبدو أن بلاد أشور كانت خاضعة للنفوذ الحضاري والسياسي ـ في حدود متفاوتة ـ للكيانات السياسية والحضارية التي قامت في القسم الجنوبي والوسطي من العراق القديم. ولكنها شهدت في عصرها الوسيط (1521-911 ق.م) بعضاً من مراحل القوة والتوهج والتأثير المباشر في عموم منطقة الشرق الأدنى. ولكن تبقى البؤرة التي ينشدّ إليها التاريخ الآشوري بأكمله هي سنة 911 ق.م التي شهدت بداية العصر الإمبراطوري الذهبي الحديث. وقد تميز هذا العصر، الذي استمر ثلاثة قرون كاملة، بتعاظم قوة الآشوريين وازدهار حضارتهم وامتداد نفوذهم، حتى شملت حدود دولتهم معظم أقاليم الشرق الأدنى، وبضمنها مصر في أوج ذلك التوسع. ومع ذلك تخللت العصر مراحل من الارتباك السياسي والانكماش العسكري كان آخرها مؤذناً بزوال الكيان السياسي الآشوري نهائيا وسقوط نينوى سنة 612 ق.م.
إن القطع الأثرية النادرة التي تملأ قاعات متاحف العالم وخزاناته، بعد أن اقتلعت من بيئاتها في مدن الدولة الآشورية، وعواصمها الأربع : أشور، وكلخو " نمرود"، ودور ـ شروكين "خرسباد"، ونينوى المزدحمة بقصورها الفخمة ومعابدها وزقوراتها الشاهقة وأسوارها وبواباتها وأبنيتها الأخرى، إنما تعكس جانباً من جوانب عظمة الآشوريين ونضوج حضارتهم ورقيّها، فقد زيّن فنانو آشور، الذين تميزوا بحسّهم المرهف في موازنة الكتل ومعرفتهم الدقيقة بالتشريح، مداخل القصور والقاعات الكبرى بتماثيل ضخمة لحيوانات مركبة عُرفت بالثيران المجنحة، تعبّر عن قوة الآشوريين وحكمتهم وصلابتهم. فإلى جانب قوة الثور الطبيعية حاول الفنان أن يعبّر عن ثباته وسيطرته على الأرض والسماء فمثّله بخمس أرجل وبأجنحة كبيرة، في حين عبّر عن الحكمة والمعرفة بأن جعل للثور رأس إنسان معبرٍ عن هذه الصفات.
سجًل الآشوريون أيضا سابقةً مهمة في تولي امرأة المنصب الأعلى في دولتهم، حينما خلّف الإمبراطور شمشي ـ أدد ابنه القاصر أدد ـ نراري الثالث، فتولت أمه شمورامات (التي عُرفت في المصادر الكلاسيكية اليونانية واللاتينية باسم سيمراميس) الحكم وصيةً على ابنها وحكمت نيابة عنه مدة خمس سنوات.
وقدّم العاهل المثقف أشور بانيبال (668ـ627 ق.م)، وتسلسله الخامس عشر في السلالة الملكية، أعظم كنز يمكن أن يقدمه ملك من العصور القديمة لجمهرة العلماء الباحثين عن مخلفات الماضي؛ إذ أنشأ مكتبة عظيمة من الرُقُم والألواح الطينية في عاصمته نينوى، نقل إليها كل ما كان في قصر أبيه أسرحدون من ألواح، وما جلبه من سائر بلاد وادي الرافدين، حتى امتلأت قاعات المكتبة بها. وظلت محفوظة بتنظيم بالغ مدة 2400 سنة لحين اكتشافها سنة 1848 م. وبلغ عدد الألواح المكتشفة فيها اكثر من 25 ألف رقيم طيني تزخر بحكمة الرافدينيين وعلومهم وأساطيرهم خلال ثلاثة آلالف سنة من الرقيّ تسبق عهد أشور بانيبال.
الكلدانيون وصعود بابل الأخير
من أعماق جزيرة العرب أيضا دخل الكلدانيون بلاد الأنهار في عصر غير معروف من العصور البابلية في موجة بشرية جديدة شاءت لها الأقدار أن تكون صاحبة الكيان السياسي الأخير في وادي الرافدين قبل عصر الغزاة، الذي استمر من سقوط بابل سنة 539 ق.م وحتى الفتح العربي الإسلامي للبلاد في الثلث الأول من القرن السابع الميلادي.
سَرَت شهرة الكلدانيين في أجواء العصور القديمة والوسطى بشكل عجيب، وامتلأت المصادر الكلاسيكية بأخبارهم التي كثيراً ما كانت تجنح إلى عالم الخيال الأسطوري الغامض.
كان نبوبلاصر (626 – 605 ق.م) هو مؤسس هذه السلالة الحاكمة في بابل، والذي أعلن تمرده على السلطة الآشورية، وقاد تحالفاً غير مقدس مع المانيين انتهى بسقوط الدولة الآشورية تحت سلطته المباشرة، واستطاع أن يمد نفوذه السياسي والعسكري إلى سوريا وفلسطين. وسار على طريقه، ولكن بخطوات أسرع وأكثر ثباتا، ولده الملك الشهير نبوخذنصر (604ـ562 ق.م) الذي اأشتُهر في المصادر اليونانية واللاتينية بإنشائه الجنائن المعلّقة، التي عُدّت إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. وأشتُهر أيضا في " العهد القديم " بقضائه النهائي على مملكة يهوذا وسبي اليهود إلى بابل. وعلى الرغم من حروبه الطويلة التي تطلبت أموالاً طائلةً إلا أنه أولى أعمار بلاده عناية قصوى، وخصوصاً عاصمته بابل التي أصبحت في هذا العصر المدينة الأعظم في العالم.
وقدّر لنبونائيد أن يكون الملك العراقي الأخير في التاريخ القديم، وكأني به كان يدرك ذلك المصير الرهيب الذي يتهدد بلاده ومدينته الجميلة بابل، فكان مولعا بالآثار وجمع الأخبار والعاديات القديمة، حتى أُطلق عليه نعت الملك الآثاري. واهتم بكل ما يتعلق بأحجار الأسس العائد إلى بُناة المعابد الأولى التي وجدت أثناء عمليات التعمير التي كانت تُجرى في عهده على نطاق واسع. وحدث أنه وجد في مدينة سبار القديمة، حينما كان يعمر معبد الإله شَمَش، أحجارَ أسسٍ مطمورة تحت الأرض ترجع للملك الأكدي نرام سين، وكان فرح نبونائيد بهذا الاكتشاف لا يُدانى. وحفلت كتاباته التذكارية بالإشارات إلى ملوك سبقوه بعشرات القرون من أورنمو إلى حمورابي.
ــــــــــــــــــــــ
(1)باحث وكاتب عراقي – مجلة (الانساني) الصادرة عن اللجنة الدولية للصليب الاحمر العدد 25/2003