طه عزت
01-02-2012, 04:40 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
ربيع الدين والمدنية
الحمد لله الذي لا شبيه له في ذاته وصنعته، ولا نظير له في مملكته، كل شيء مصنوع بقدرته، أحمده على نعمته، وأستعين به على دفع نقمته، الذي يختص من يشاء برحمته، والصلاة والسلام على عبد ورسوله محمد وعلى آله وعترته ، أما بعد:فمع شدة ضربات المجاهدين المؤمنين المصلين من أهل السنة طيلة سنوات الجهاد التي مضت، وإيقان عدوهم أمريكا بالهزيمة الماحقة وإقرارها بإعلان انسحابها الكامل من العراق، في أسرع معركة في العصر الحديث ضد أعتى عدو عرفته البشرية فيما نعلم، قابله خصم لا يمتلك شيئاً من الندية من حيث القوة المادية بالمقارنة مع أمريكا وطغيانها، ومع ذلك فقد صنع الله على أيديهم أعجوبة الدهر ونادرة العصر، فأعاد الله بهم الحياة لامتهم بعد أن رماها أعداؤها عن قوس واحدة، فتجمعوا يريدون ذلها وقهرها، واستسلم الملوك والرؤساء والزعماء لإرادة أمريكا، وانتظروا أو شاركوها عدوانها إرضاء لها، فما كان إلا أن واجهت أمريكا رجالاً من نوع آخر، رجالا لم ينخدعوا بدعايات أمريكا ولا زورها وبهتانها، لأنهم أصاخوا بحواسهم ومشاعرهم إلى صوت الإيمان بالحق إذ يقول: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)، وأيقنوا إيقان المبصر بقوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، فتوكلوا على ربهم الذي جعل على نفسه عهدا أن ينصر المؤمنين به الذين يقاتلون لأجله: (فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)، وكانت عقيدة المجاهدين الراسخة أن الله هو واهب النصر وخاذل العدو: ( وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).لقد أنتجت عقيدة التوحيد التي تربى عليها أهل السنة في العراق هذا النصر العظيم المؤزر، ولم تذهب سدى تلك الصلوات وكثرة الخطى إلى المساجد وإسباغ الوضوء على المكاره وقراءة كتاب الله كدوي النحل, وحلق الذكر ودروس العلم والدين، وظمأ الهواجر وقيام الليل، فإذ دهم العدو بادروا بالعمل الأجلّ، واجتهدوا في سد الخلل والتحقوا بالركب السالف،وشركاؤنا ومعلمونا كثيرون على مدى التاريخ، فمعلمنا الأول هو رسول الله نبي الرحمة والملحمة محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وأهل بيته الأفذاذ، والتابعون لهم بإحسان من سلف الأمة، وكل من خط بقلمه لله فائدة أثرت في مجاهد وجعلته يستميت في أداء مهمته، فهي بطولة ممتدة الزمن عبر التاريخ والجغرافيا، وهي انتكاسة للعدو ممتدة عبر الحاضر والمستقبل.لقد حاولت أمريكا بعدوانها على العراق تهشيم هذه الأمة وتحطيم كرامتها، والوصول بها إلى أدنى مراتب اليأس، ولكن كما هي سنة الله أن يعاقب أعداءه بنقيض قصدهم، فقد هيأ مستقبلا آخر لهذه الأمة، ابتدأه المجاهدون في العراق، فما هو إلا أن فاض الحماس في شباب الأمة ونهضت العزة والنخوة في نفوسهم من جديد، فكانت أفعال المجاهدين في العراق الجذوة التي أشعلت النار في الهشيم، فانتشر ربيع الأمة بفضل الله ثم بقوة شبابها، لتعيد صياغة الحاضر من جديد، فاهتزت عروش الطغاة وسقط عتاتهم أمام ثورات الشعوب العربية، وأذن الله بالتحول، فنجحت ثورة تونس فمصر ثم ليبيا، وأخرى تنتظر على الطريق القادم نحو الانعتاق والحرية من ربقة الظلم والطغيان بإذن الله، وخرج المؤمنون من سجون الظلم يرسمون المشهد القادم لأمة الحق والعدل.إن الإسلام الذي كان الحاضر والسيد في معركة المجاهدين في العراق ضد أمريكا، كان من الطبيعي أن يرسم المشهد في الثورات العربية، إذ أن هذه الشعوب شعوب مسلمة في غالبيتها الساحقة، ومن الطبيعي أن تخضع لدين ربها الذي يأمرها بإتباع شريعته على مستوى الفرد والمجموع، المجتمع والدولة، الحكومة والرقابة كلها على حد سواء يجب أن تخضع لشريعة الرب الحكيم، فليس في شريعة الله "دع ما لقيصر لقيصر و ما لله لله"، فقيصر وما يملك هو لله الملك الوهاب، ومن الطبيعي وقد رأت أمريكا نفسها وقد غرقت في دماء مشروعها أن تدافع حتى الرمق الأخير، فهيجت أولياءها من العلمانيين حتى يفتحوا على شعوبهم معارك جانبية لا طائل من ورائها إلا إشغال الرأي العام، لأنهم رأوا أن أصحاب المشروع الإسلامي قادمون، وهذه المرة عن طريق الانتخابات الشفافة التي طالما تشدقوا بها حتى قبل شروعها، فما عساهم أن يقولوا ؟! لقد لبس بعض الثعالب ثياب الواعظين، فانطلقوا ينصحون للأمة ويخوفونها من قدوم الإسلاميين للحكم، فهؤلاء العلمانيون موقنون أنهم مفلسون، وأن الشعب في ظل الحرية لن يختارهم، فما كان إلا أن وسعوا من حربهم على تحكيم الشريعة ولكن بطرق ناعمة هذه المرة، فأثاروا جدلا طويلا حول مصطلح جديد غير منضبط حتى في عقولهم، اخترعوه للتعمية على الناس وخداعهم، فلم يستطع أي واحد منهم على كثرة صياحهم أن يأتي له بتعريف منضبط علميا، وهو مصطلح "الدولة المدنية"، فقالوا ما هو شكل الدولة هل هي مدنية أم دينية؟ وكأن الإسلام ضد المدنية، وهذا ما يطرحه السؤال وهي أول الخدعة، ففي الإسلام ليس هناك ما يسمى دولة دينية، وإنما هناك مصطلح "دولة إسلامية"، ومعناها أن شعبها مسلم والقانون الذي يحكم هذا الشعب هو قانون الشريعة، وغايات الدولة وهدفها الأسمى هو تحقيق الحياة الإسلامية في واقعها، وإمام هذه الدولة ورئيسها يرتبط بعقد مع شعبها له فيه حقوق وعليه واجبات، وهو بشر يخطئ فينتظر من الأمة أن تقومه عن طريق أهل الحل والعقد فيها، ويصيب فتتبعه الأمة، والأمة في هذا العقد هي صاحبة السلطات، فمن سماه أهل الحل والعقد فيها إماما كان إمامها الذي لا يجوز نزاعه، ولكن نصحه واجب بمقتضى العقد، في صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا لِمَنْ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ). إن الحاكم المطلق الذي يدعي أن أوامره إلهية وأنه لا يجوز معارضتها أي "الحكومة الثيوقراطية"، ليست من شرع الله في شيء، بل هي مضادة لشرعه، وهي نظرية ولاية الفقيه الشيعية التي تدعي أن الرادّ على هذا الولي الفقيه كالرادّ على الله، وهي مشابهة لسلطة البابا في أوربا في القرون الوسطى، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).إن هؤلاء يقيسون حالنا وواقعنا بحال أوربا عندما تحكمت فيها الكنيسة، فتخلفت وبدأت الكنيسة تتصادم حتى مع الحقائق العلمية، وحكمت على كثير من العلماء الذين خالفوا رأيها بالقتل، فثارت أوربا على الكنيسة وبدأت نهضتها، فخرجت الجماهير في الثورة الفرنسية تهتف وتقول: "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، أما في الإسلام فلا تصادم بين الدين والدنيا، ولا تناقض بين حقيقة كونية ودينية، فالذي صنع الكون بقدرته هو الذي أنزل الكتاب بأمره ومشيئته، وما تخلف المسلمون ونزلوا عن موقع الصدارة في العالم، إلا عندما تخلوا عن دينهم وأرادوا الدنيا، فأصبحوا ذيلا في الأمم وساروا خلف كل ناعق، وصدق أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إذ يقول: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله". نحن نفتخر بأن الدولة الإسلامية الوليدة في عهد الصديق رضي الله عنه، هي أول دولة في التاريخ تجهز جيشا لأخذ حقوق الفقراء من الأغنياء على وفق نظام الزكاة، وجعل ذلك حقا لا منةً، قال تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، فدفع أغنياء الأمة إلى فقرائها حقوقهم على مر العصور، في سيادة دولة الإسلام في نظام من التكافل الاجتماعي،لم يشهد الكون أروع ولا أرحم منه، أما الكنيسة فكانت تفرض الضرائب الباهظة على شعبها من العشور وغيرها، وتسرقهم ببيع صكوك الغفران وتبتزهم بصكوك الحرمان.ثم إذا كان يقصد بالدولة المدنيةهي الدولة المتطورة المتحضرة، التي فيها أرقى الخدمات الإنسانية لأبناء شعبها، فهذا هو عين الدولة التي يريد الإسلام بناءها، والتاريخ شاهد على مدنية الإسلام والحضارة العظيمة التي بناها واستفادت منها الإنسانية جمعاء، وما التحول الذي أحدثه الإسلام عندما جاء في الجزيرة العربية، ومدى التطور الاجتماعي والقضائي وغيرها من المجالات الأخرى، إلا دليل على ذلك. لقد بنى الإسلام على مدى تاريخه دولا وممالك عظيمة، وشيد أعظم حضارة إنسانية عرفتها البشرية، ويكفي مثالا على رقي الدول التي بناها المسلمون: حضارة الأندلس، التي تدخل لإسبانيا اليوم نحوا من ثلاثة عشر في المائة من دخل السياحة, العمود الفقري للاقتصاد الإسباني، وليست إسبانيا فقط فأوروبا كلها مدينة في نهضتها للإسلام والمدنية التي خلقها في أوربا، والبحث العلمي التجريبي الذي فتح عيون الأوربيين المتخلفين عليه.ومن يظن أن الدولة التي يريد المسلمون بناءها على وفق شريعة ربهم ليس فيها إلا إقامة الحدود، فهو واهم أو مغرض، يغلف غرضه الحقيقي بدعوى زائفة، فالإسلام دين تُساس الدنيا كلها به، وعقوبة المفسدين شيء يسير فيه، لابد منه لكل نظام حاكم كي تستقيم الأمور، فهل هناك نظام في الكون ليس فيه عقوبات؟ فلِمَ يكثر اللغط حين تكون العقوبة شرعية؟ (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).ومنهم من يقول تحت الحكم الإسلامي ستنتهي الأقليات بقوة الدولة، وهذه فرية أخرى، فلقد حكم المسلمون بلدانا كثيرة قرونا طويلة، ولم يشهد التاريخ أنهم أجبروا أحدا على الدخول في دينهم، وغاية ما كانوا يفعلونه هو إزاحة الطواغيت وإشاعة الحرية وتبليغ الدين بالتي هي أحسن، ومن شاء فليدخل في دين الله ومن شاء فليبقَ على دينه، فمثلاً: حكم المسلمون اليونان وبلغاريا وصربيا ورومانيا وهنغاريا لعدة قرون، فهل أجبروا اليونانيين والصرب والرومان والهنغاريين على الدخول في الإسلام!؟لقد عاش الجميع أدياناً وأقلياتٍ تحت الحكم الإسلامي السني، وما أضيرَ أحد في دينه، وهذا مما دفع الكثيرين إلى الدخول في الإسلام، ولم يشهد العالم فاتحا أرحم من المسلمين، على عكس التاريخ الأوربي والغربي الذي شهد اضطهاداً لا مثيل له لمخالفي مذهب الدولة واتجاهها، ومحاكم التفتيش في الأندلس وجرائم النازية والفاشية، وما شهدته أوروبا من حروب طويلة على مدى تاريخها، وإهلاك الرجل الأبيض في أمريكا واستراليا لأهالي البلد الأصليين، شواهد جلية لا يمكن نكرانها، وما شهده العالم الإسلامي من إقصاء وقتل على الهوية، لم يحدث إلا عندما تسلطت الطوائف على رقاب عموم الأمة، مثل المجازر التي فعلها الباطنيون من الفاطميين في بلاد المغرب ومصر، وما فعله الصفويون في أرض فارس قديما، وحكومة الولي الفقيه في إيران اليوم، وما تفعله حكومة المليشيات الشيعية في العراق اليوم، مثال صارخ شاهد على مدى الحقد، إذا تمكن أرباب الطوائف وتسلطوا على عموم أبناء الأمة، والثورات العربية بحمد الله كلها سنية، ليس فيها شيء من هذا المرض، إذ أن مفهوم الأمة وليس الطائفة هو الذي يؤطر الشعور والانتماء السني، ولذا تجد أنهم يقبلون الآخر ويحافظون عليه وعلى دينه وممتلكاته، لأنهم لا يفكرون بعقلية "الجيتو" ولا يعزلون أنفسهم تحت جدران الطائفة. إن حقوق الآخرين مصونة بشريعة ربنا وخلق سلفنا الصالح، ومن الخير لنا ولمخالفينا أن تكون شريعة الله تعالى هي الحاكم بيننا، فالله أرحم بخلقه من أنفسهم وهو الأعلم بما يصلحهم، وفي غير ذلك ستتحكم الأهواء والرغبات، وأنى يكون في ذلك عدل ورحمة إذا أطلقت الأعنة لشهوات الانتقام وفرض الإرادات.من هنا يتبين أن ادعاء العلمانيين أنهم يريدون دولة مدنية وليست دينية مطلقين هذا اللفظ على مصطلح الدولة الإسلامية، ما هو إلا خداع مصطلحات وتلاعب بالألفاظ، (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) ، (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ).إننا في الوقت الذي نهنئ إخواننا من الإسلاميين في المغرب وتونس وليبيا ومصر لفوزهم بثقة شعوبهم، فنحن نثق أنهم يعلمون ثقل الواجب والمسئولية الملقاة على عاتقهم، ونذكرهم بقول سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما، عندما قال له المسلمون: "يا سالم، إنا نخاف أن نؤتى من قبلك، فقال: بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قبلي"، ونقول لهم: إن نكصتم قيل نكصت الشريعة، وإن قصرتم وظلمتم فسوف يسب الدين بسببكم، فالله الله في إسلامكم وشريعة ربكم، لا يؤتَ دينه من قبلكم، وانشروا فضيلة العفو والصفح عمن ظلم، وابسطوا العدل والحرية لعموم الناس، وابغوا الخير لكل الناس، على اختلاف أديانهم وألوانهم وطوائفهم وأجناسهم، فالمسلمون خلفاء نبيهم في دعوته، وقد كان صلى الله عليه وسلم كما قال ربه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، والله تعالى رحيم بخلقه رؤوف بهم (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ)، فاجعلوا الرحمة والرأفة خلقاً يسع الناس جميعاً، ولا نشك أنكم فاعلون بتوفيق الله، ولكنها التذكرة، ولنعش جميعاً ربيعاً "مدنياً" عربياً رائعاً تحت قبة الدين والحق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
الدكتور إبراهيم الشمري
الناطق الرسمي باسم
الجيش الإسلامي في العراق
7 صفر 1433 هـ
30-1-2012 م
ربيع الدين والمدنية
الحمد لله الذي لا شبيه له في ذاته وصنعته، ولا نظير له في مملكته، كل شيء مصنوع بقدرته، أحمده على نعمته، وأستعين به على دفع نقمته، الذي يختص من يشاء برحمته، والصلاة والسلام على عبد ورسوله محمد وعلى آله وعترته ، أما بعد:فمع شدة ضربات المجاهدين المؤمنين المصلين من أهل السنة طيلة سنوات الجهاد التي مضت، وإيقان عدوهم أمريكا بالهزيمة الماحقة وإقرارها بإعلان انسحابها الكامل من العراق، في أسرع معركة في العصر الحديث ضد أعتى عدو عرفته البشرية فيما نعلم، قابله خصم لا يمتلك شيئاً من الندية من حيث القوة المادية بالمقارنة مع أمريكا وطغيانها، ومع ذلك فقد صنع الله على أيديهم أعجوبة الدهر ونادرة العصر، فأعاد الله بهم الحياة لامتهم بعد أن رماها أعداؤها عن قوس واحدة، فتجمعوا يريدون ذلها وقهرها، واستسلم الملوك والرؤساء والزعماء لإرادة أمريكا، وانتظروا أو شاركوها عدوانها إرضاء لها، فما كان إلا أن واجهت أمريكا رجالاً من نوع آخر، رجالا لم ينخدعوا بدعايات أمريكا ولا زورها وبهتانها، لأنهم أصاخوا بحواسهم ومشاعرهم إلى صوت الإيمان بالحق إذ يقول: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)، وأيقنوا إيقان المبصر بقوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، فتوكلوا على ربهم الذي جعل على نفسه عهدا أن ينصر المؤمنين به الذين يقاتلون لأجله: (فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)، وكانت عقيدة المجاهدين الراسخة أن الله هو واهب النصر وخاذل العدو: ( وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).لقد أنتجت عقيدة التوحيد التي تربى عليها أهل السنة في العراق هذا النصر العظيم المؤزر، ولم تذهب سدى تلك الصلوات وكثرة الخطى إلى المساجد وإسباغ الوضوء على المكاره وقراءة كتاب الله كدوي النحل, وحلق الذكر ودروس العلم والدين، وظمأ الهواجر وقيام الليل، فإذ دهم العدو بادروا بالعمل الأجلّ، واجتهدوا في سد الخلل والتحقوا بالركب السالف،وشركاؤنا ومعلمونا كثيرون على مدى التاريخ، فمعلمنا الأول هو رسول الله نبي الرحمة والملحمة محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وأهل بيته الأفذاذ، والتابعون لهم بإحسان من سلف الأمة، وكل من خط بقلمه لله فائدة أثرت في مجاهد وجعلته يستميت في أداء مهمته، فهي بطولة ممتدة الزمن عبر التاريخ والجغرافيا، وهي انتكاسة للعدو ممتدة عبر الحاضر والمستقبل.لقد حاولت أمريكا بعدوانها على العراق تهشيم هذه الأمة وتحطيم كرامتها، والوصول بها إلى أدنى مراتب اليأس، ولكن كما هي سنة الله أن يعاقب أعداءه بنقيض قصدهم، فقد هيأ مستقبلا آخر لهذه الأمة، ابتدأه المجاهدون في العراق، فما هو إلا أن فاض الحماس في شباب الأمة ونهضت العزة والنخوة في نفوسهم من جديد، فكانت أفعال المجاهدين في العراق الجذوة التي أشعلت النار في الهشيم، فانتشر ربيع الأمة بفضل الله ثم بقوة شبابها، لتعيد صياغة الحاضر من جديد، فاهتزت عروش الطغاة وسقط عتاتهم أمام ثورات الشعوب العربية، وأذن الله بالتحول، فنجحت ثورة تونس فمصر ثم ليبيا، وأخرى تنتظر على الطريق القادم نحو الانعتاق والحرية من ربقة الظلم والطغيان بإذن الله، وخرج المؤمنون من سجون الظلم يرسمون المشهد القادم لأمة الحق والعدل.إن الإسلام الذي كان الحاضر والسيد في معركة المجاهدين في العراق ضد أمريكا، كان من الطبيعي أن يرسم المشهد في الثورات العربية، إذ أن هذه الشعوب شعوب مسلمة في غالبيتها الساحقة، ومن الطبيعي أن تخضع لدين ربها الذي يأمرها بإتباع شريعته على مستوى الفرد والمجموع، المجتمع والدولة، الحكومة والرقابة كلها على حد سواء يجب أن تخضع لشريعة الرب الحكيم، فليس في شريعة الله "دع ما لقيصر لقيصر و ما لله لله"، فقيصر وما يملك هو لله الملك الوهاب، ومن الطبيعي وقد رأت أمريكا نفسها وقد غرقت في دماء مشروعها أن تدافع حتى الرمق الأخير، فهيجت أولياءها من العلمانيين حتى يفتحوا على شعوبهم معارك جانبية لا طائل من ورائها إلا إشغال الرأي العام، لأنهم رأوا أن أصحاب المشروع الإسلامي قادمون، وهذه المرة عن طريق الانتخابات الشفافة التي طالما تشدقوا بها حتى قبل شروعها، فما عساهم أن يقولوا ؟! لقد لبس بعض الثعالب ثياب الواعظين، فانطلقوا ينصحون للأمة ويخوفونها من قدوم الإسلاميين للحكم، فهؤلاء العلمانيون موقنون أنهم مفلسون، وأن الشعب في ظل الحرية لن يختارهم، فما كان إلا أن وسعوا من حربهم على تحكيم الشريعة ولكن بطرق ناعمة هذه المرة، فأثاروا جدلا طويلا حول مصطلح جديد غير منضبط حتى في عقولهم، اخترعوه للتعمية على الناس وخداعهم، فلم يستطع أي واحد منهم على كثرة صياحهم أن يأتي له بتعريف منضبط علميا، وهو مصطلح "الدولة المدنية"، فقالوا ما هو شكل الدولة هل هي مدنية أم دينية؟ وكأن الإسلام ضد المدنية، وهذا ما يطرحه السؤال وهي أول الخدعة، ففي الإسلام ليس هناك ما يسمى دولة دينية، وإنما هناك مصطلح "دولة إسلامية"، ومعناها أن شعبها مسلم والقانون الذي يحكم هذا الشعب هو قانون الشريعة، وغايات الدولة وهدفها الأسمى هو تحقيق الحياة الإسلامية في واقعها، وإمام هذه الدولة ورئيسها يرتبط بعقد مع شعبها له فيه حقوق وعليه واجبات، وهو بشر يخطئ فينتظر من الأمة أن تقومه عن طريق أهل الحل والعقد فيها، ويصيب فتتبعه الأمة، والأمة في هذا العقد هي صاحبة السلطات، فمن سماه أهل الحل والعقد فيها إماما كان إمامها الذي لا يجوز نزاعه، ولكن نصحه واجب بمقتضى العقد، في صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا لِمَنْ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ). إن الحاكم المطلق الذي يدعي أن أوامره إلهية وأنه لا يجوز معارضتها أي "الحكومة الثيوقراطية"، ليست من شرع الله في شيء، بل هي مضادة لشرعه، وهي نظرية ولاية الفقيه الشيعية التي تدعي أن الرادّ على هذا الولي الفقيه كالرادّ على الله، وهي مشابهة لسلطة البابا في أوربا في القرون الوسطى، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).إن هؤلاء يقيسون حالنا وواقعنا بحال أوربا عندما تحكمت فيها الكنيسة، فتخلفت وبدأت الكنيسة تتصادم حتى مع الحقائق العلمية، وحكمت على كثير من العلماء الذين خالفوا رأيها بالقتل، فثارت أوربا على الكنيسة وبدأت نهضتها، فخرجت الجماهير في الثورة الفرنسية تهتف وتقول: "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، أما في الإسلام فلا تصادم بين الدين والدنيا، ولا تناقض بين حقيقة كونية ودينية، فالذي صنع الكون بقدرته هو الذي أنزل الكتاب بأمره ومشيئته، وما تخلف المسلمون ونزلوا عن موقع الصدارة في العالم، إلا عندما تخلوا عن دينهم وأرادوا الدنيا، فأصبحوا ذيلا في الأمم وساروا خلف كل ناعق، وصدق أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إذ يقول: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله". نحن نفتخر بأن الدولة الإسلامية الوليدة في عهد الصديق رضي الله عنه، هي أول دولة في التاريخ تجهز جيشا لأخذ حقوق الفقراء من الأغنياء على وفق نظام الزكاة، وجعل ذلك حقا لا منةً، قال تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، فدفع أغنياء الأمة إلى فقرائها حقوقهم على مر العصور، في سيادة دولة الإسلام في نظام من التكافل الاجتماعي،لم يشهد الكون أروع ولا أرحم منه، أما الكنيسة فكانت تفرض الضرائب الباهظة على شعبها من العشور وغيرها، وتسرقهم ببيع صكوك الغفران وتبتزهم بصكوك الحرمان.ثم إذا كان يقصد بالدولة المدنيةهي الدولة المتطورة المتحضرة، التي فيها أرقى الخدمات الإنسانية لأبناء شعبها، فهذا هو عين الدولة التي يريد الإسلام بناءها، والتاريخ شاهد على مدنية الإسلام والحضارة العظيمة التي بناها واستفادت منها الإنسانية جمعاء، وما التحول الذي أحدثه الإسلام عندما جاء في الجزيرة العربية، ومدى التطور الاجتماعي والقضائي وغيرها من المجالات الأخرى، إلا دليل على ذلك. لقد بنى الإسلام على مدى تاريخه دولا وممالك عظيمة، وشيد أعظم حضارة إنسانية عرفتها البشرية، ويكفي مثالا على رقي الدول التي بناها المسلمون: حضارة الأندلس، التي تدخل لإسبانيا اليوم نحوا من ثلاثة عشر في المائة من دخل السياحة, العمود الفقري للاقتصاد الإسباني، وليست إسبانيا فقط فأوروبا كلها مدينة في نهضتها للإسلام والمدنية التي خلقها في أوربا، والبحث العلمي التجريبي الذي فتح عيون الأوربيين المتخلفين عليه.ومن يظن أن الدولة التي يريد المسلمون بناءها على وفق شريعة ربهم ليس فيها إلا إقامة الحدود، فهو واهم أو مغرض، يغلف غرضه الحقيقي بدعوى زائفة، فالإسلام دين تُساس الدنيا كلها به، وعقوبة المفسدين شيء يسير فيه، لابد منه لكل نظام حاكم كي تستقيم الأمور، فهل هناك نظام في الكون ليس فيه عقوبات؟ فلِمَ يكثر اللغط حين تكون العقوبة شرعية؟ (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).ومنهم من يقول تحت الحكم الإسلامي ستنتهي الأقليات بقوة الدولة، وهذه فرية أخرى، فلقد حكم المسلمون بلدانا كثيرة قرونا طويلة، ولم يشهد التاريخ أنهم أجبروا أحدا على الدخول في دينهم، وغاية ما كانوا يفعلونه هو إزاحة الطواغيت وإشاعة الحرية وتبليغ الدين بالتي هي أحسن، ومن شاء فليدخل في دين الله ومن شاء فليبقَ على دينه، فمثلاً: حكم المسلمون اليونان وبلغاريا وصربيا ورومانيا وهنغاريا لعدة قرون، فهل أجبروا اليونانيين والصرب والرومان والهنغاريين على الدخول في الإسلام!؟لقد عاش الجميع أدياناً وأقلياتٍ تحت الحكم الإسلامي السني، وما أضيرَ أحد في دينه، وهذا مما دفع الكثيرين إلى الدخول في الإسلام، ولم يشهد العالم فاتحا أرحم من المسلمين، على عكس التاريخ الأوربي والغربي الذي شهد اضطهاداً لا مثيل له لمخالفي مذهب الدولة واتجاهها، ومحاكم التفتيش في الأندلس وجرائم النازية والفاشية، وما شهدته أوروبا من حروب طويلة على مدى تاريخها، وإهلاك الرجل الأبيض في أمريكا واستراليا لأهالي البلد الأصليين، شواهد جلية لا يمكن نكرانها، وما شهده العالم الإسلامي من إقصاء وقتل على الهوية، لم يحدث إلا عندما تسلطت الطوائف على رقاب عموم الأمة، مثل المجازر التي فعلها الباطنيون من الفاطميين في بلاد المغرب ومصر، وما فعله الصفويون في أرض فارس قديما، وحكومة الولي الفقيه في إيران اليوم، وما تفعله حكومة المليشيات الشيعية في العراق اليوم، مثال صارخ شاهد على مدى الحقد، إذا تمكن أرباب الطوائف وتسلطوا على عموم أبناء الأمة، والثورات العربية بحمد الله كلها سنية، ليس فيها شيء من هذا المرض، إذ أن مفهوم الأمة وليس الطائفة هو الذي يؤطر الشعور والانتماء السني، ولذا تجد أنهم يقبلون الآخر ويحافظون عليه وعلى دينه وممتلكاته، لأنهم لا يفكرون بعقلية "الجيتو" ولا يعزلون أنفسهم تحت جدران الطائفة. إن حقوق الآخرين مصونة بشريعة ربنا وخلق سلفنا الصالح، ومن الخير لنا ولمخالفينا أن تكون شريعة الله تعالى هي الحاكم بيننا، فالله أرحم بخلقه من أنفسهم وهو الأعلم بما يصلحهم، وفي غير ذلك ستتحكم الأهواء والرغبات، وأنى يكون في ذلك عدل ورحمة إذا أطلقت الأعنة لشهوات الانتقام وفرض الإرادات.من هنا يتبين أن ادعاء العلمانيين أنهم يريدون دولة مدنية وليست دينية مطلقين هذا اللفظ على مصطلح الدولة الإسلامية، ما هو إلا خداع مصطلحات وتلاعب بالألفاظ، (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) ، (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ).إننا في الوقت الذي نهنئ إخواننا من الإسلاميين في المغرب وتونس وليبيا ومصر لفوزهم بثقة شعوبهم، فنحن نثق أنهم يعلمون ثقل الواجب والمسئولية الملقاة على عاتقهم، ونذكرهم بقول سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما، عندما قال له المسلمون: "يا سالم، إنا نخاف أن نؤتى من قبلك، فقال: بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قبلي"، ونقول لهم: إن نكصتم قيل نكصت الشريعة، وإن قصرتم وظلمتم فسوف يسب الدين بسببكم، فالله الله في إسلامكم وشريعة ربكم، لا يؤتَ دينه من قبلكم، وانشروا فضيلة العفو والصفح عمن ظلم، وابسطوا العدل والحرية لعموم الناس، وابغوا الخير لكل الناس، على اختلاف أديانهم وألوانهم وطوائفهم وأجناسهم، فالمسلمون خلفاء نبيهم في دعوته، وقد كان صلى الله عليه وسلم كما قال ربه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، والله تعالى رحيم بخلقه رؤوف بهم (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ)، فاجعلوا الرحمة والرأفة خلقاً يسع الناس جميعاً، ولا نشك أنكم فاعلون بتوفيق الله، ولكنها التذكرة، ولنعش جميعاً ربيعاً "مدنياً" عربياً رائعاً تحت قبة الدين والحق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
الدكتور إبراهيم الشمري
الناطق الرسمي باسم
الجيش الإسلامي في العراق
7 صفر 1433 هـ
30-1-2012 م