المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإرادة والثقافة وأثرهما في تقوية الشعور القومي



عبدالغفور الخطيب
09-05-2010, 12:55 PM
الإرادة والثقافة وأثرهما في تقوية الشعور القومي

كثر الحديث في هذه الأيام، عن التقليل من أهمية الشعور القومي، وأثره في أن يُشكل رافعة صالحة للنهوض بالمجتمعات نحو التقدم، كما كان قد كثر الحديث عن أهمية الشعور القومي قبل ذلك بعقود لأن يكون حاضنة تنطلق منها برامج النهوض.

وإن كان أصحاب المشاريع القومية، قد أخفقوا في إثبات نظرتهم، لأسباب ليس كلها خارجية، وباتوا يلوذون بالصمت في كثيرٍ من الأحيان عندما لا يجدوا رداً مقنعاً لمن ينتقدهم في إدراج وقائعٍ توصم مشاريعهم بالنقص في الغالب، وتحملها الدور الأكبر في تدهور الأحوال ووصولها لما وصلت إليه، فإن من ينتقدهم هو الآخر، لم يُقدم نفسه إلا كمتصيدٍ وباحثٍ متخصص في التنقيب عن نواقص ذلك المشروع.

ويصطف المنتقدون للمشروع القومي بألوان مختلفة لا يوحدهم إلا معاداة المشروع القومي، فمنهم الأمميون الماركسيون بفروعهم المختلفة، ومنهم أتباع المشروع الإسلام السياسي بفروعه المختلفة، ومنهم القطريون الذين ليس رغبة في الخروج من دوائر نعيمهم الضيقة وخشيتهم من ضياعها في توسيع دائرة الاستفادة منها، ومنهم أبناء الإثنيات القومية الذين يحاربون بسلاح لا يختلف عن سلاح أصحاب المشروع القومي، ولكن ليس عندهم مانع من الاصطفاف مع معادين للمشروع القومي، حتى لو أنكر عليهم هؤلاء حقوقهم.

متى تعرفت بلادنا على المشاريع القومية؟

لن نبتعد كثيراً في التاريخ للتعرف على النزعة القومية، ولن نقف عند الخلافات في سقيفة بني ساعدة عن أحقية الأمارة، ولن نقف عند وصايا بعض الأمراء العرب المسلمين عندما كانوا يحذرون من التزاوج مع غير العربيات. فقد جب ذلك قرون طويلة لم تلتزم بتلك المحاذير.

ولكننا، سنتناول الفترة التي ازدهر فيها التفكير بالمشروع القومي. وهذه الفترة قد نضع لها تأريخاً هو عام 1826 عندما تم حل الجيش الانكشاري ولجأت الحكومة العثمانية الى إصلاحات هيكلية، تكون من خلالها قادرة على كبح جماح، أو بالأحرى سحق أشكال المطالب الصادرة عن القوى المحلية في المحافظات العربية، مما استفز المشاعر القومية.

وقد انتبه العرب، للحركات التي خرجت من جسم الإمبراطورية العثمانية، على هامش قومي، فاستطاع الصرب أن يستقلوا عن الدولة العثمانية، كما استطاع الجزء الأكبر من اليونان الاستقلال ثم تلا ذلك في السبعينات من القرن التاسع عشر خروج بلغاريا ورمانيا.

من جانب آخر، كان الإنجليز والفرنسيون قد تابعوا مسيرات تشكيل دولتيهما، بتسلسل دولة > أمة> نزعة قومية > نظريات. وأدى ظهور إيطاليا بشكل موحد عام 1860 وتوحيد بسمارك لألمانيا عام 1870 الى امتلاء الفضاء الذهني العالمي بالتفكير القومي، بما فيها منطقتنا.

لم يكن هناك عداء بين الدعوة القومية والإسلام

لقد كان الشعور بضعف الدولة العثمانية وسوء إدارتها عاماً بالنسبة لكل رعاياها بغض النظر عن قوميتهم أو طرائق تفكيرهم العقائدية. فقد تطابقت الدعوة لوجود هوية عربية الى جانب الهوية التركية، مع تطلعات دعاة الإصلاح الديني، الذين كانوا ينشدون التجديد والإصلاح، أمثال: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا و عبد الرحمن الكواكبي والأخير الذي ألف كتابيه (طبائع الاستبداد) و (أم القرى)، مما دفع بالسلطان عبد الحميد الثاني الى طرده من سوريا الى مصر ومن ثم قتله هناك عام 1902.

من جانب آخر، فلم يكن هناك فرزٌ على الهوية الدينية أو الطائفية، فقد ساهم مفكرون مسيحيون عرب الى جانب مفكرين إسلاميين عرب وغير عرب، للخروج بمشروع يرضى به الجميع.

لقد كانت الأمية تنتشر في أوساط 90% من شعوب تلك المنطقة، ولكن سلوكهم الصامت يدلل على تعايشهم بأمان وانسيابية غير موجهة، فإن كان دعاة الفكر يذكرون العوامل القومية التي تجمع الجميع، فإن هؤلاء البسطاء كانوا يعيشون المواطنة التي نشدها المفكرون دون أن يعلموا بنواياهم. فقد كان سكان القرى من المسيحيين يحضرون أعياد المسلمين كما كان المسلمون يفعلون نفس الشيء، ولم تسجل أي واقعة على هامشٍ ديني أو طائفي أو عرقي.

يتبع

عبدالغفور الخطيب
13-06-2010, 07:42 AM
قدسية اللغة واستغلالها دينياً وقومياً

تتحدد دائرة تحرك الطفل الرضيع، حسب الإشارات التي تصدر ممن هم حوله، ويدعم حنان الأم ودفء الأسرة حركته بحرية وأمان أكثر مما لو انتقل خارج أسرته أو محيطه الطبيعي والفطري، وتسود في تلك الحالة الغرائز الطبيعية على ما يتم تعلمه واكتسابه من ذلك الرضيع بفترة وجيزة وغير كافية للقياس على حالته.

كما أن الأخرس أو الأعمى هما الآخران تتحدد حركاتهما على ضوء قدرتهما على تفهم ما يدور حولهما من مؤثرات خارجية، فلا يفكر الأخرس أو الأعمى بالهجرة خارج وطنه، وأحياناً كثيرة لا يفكر بالانتقال من المكان الذي وُلد فيه.

حسناً، في كل مكان في العالم وفي داخل البلد الواحد وفي داخل الإقليم الواحد وأحياناً داخل المدينة الواحدة، نجد أن هناك من اللهجات المحكية ما يتنافر مع اللغة الرسمية للبلاد، وكلما تقدم الأشخاص بالعمر كلما زادت مفردات لهجتهم التي يصعب التعامل معها، حتى من قبل أبنائهم. وكلما زادت نسبة الأمية وقل المستوى التعليمي كلما سادت مثل تلك اللهجات المحكية. وكلما تغيرت الأنماط المعيشية والمهنية تفقد تلك اللهجات أجزاءً كثيرة من مكوناتها، فلا تعود المصطلحات حول الأعمال اليدوية البدائية لها وظيفة في اللغة والتفاهم.

الدين يحفظ اللغة كما تحفظها المدونات


لقد دون الإنجيل بالآرامية ثم دون باللاتينية، ومورست الطقوس الدينية بالآرامية وباللاتينية، وهناك كنائس وطوائف مسيحية اعتادت على ممارسة تلك الطقوس بالعربية، كبعض الكنائس في شمال العراق.

لكن، كم عدد هؤلاء الناس الذين يستخدمون الآرامية أو حتى اللاتينية في حياتهم اليومية، إنهم قليلون جداً.

لم تشهد أوروبا انتشاراً للكتب الدينية كما كان في الفترة التي ظهر بها (مارتن لوثر) فقد كانت الأطروحات التي ترجمت للألمانية تمثل أكثر من ثلث الكتب المطبوعة في ألمانيا، وقد صدرت خلال عشرين عاما وبالذات بين عامي (1522 و1546) 430 طبعة في مختلف أنحاء أوروبا. وفي الفترة بين عامي 1556 و 1564 كانت 40 دار طباعة بكامل طاقاتها وبأوقات إضافية.

لو أخذنا القرآن الكريم، لوجدنا أن قوة اللغة العربية وارتباطها بالقرآن وبعلوم الشريعة أكبر بكثير من تلك التي ترافقت مع الإنجيل. فيستطيع ابن العشر سنوات في بلداننا فهم أكثر القصائد التي كُتبت بعصر ما قبل الإسلام، في حين لا يستطيع ابن بريطانيا أن يفهم ما كتبه شكسبير، إلا من كان متخصصاً في اللغات.

من هنا فإن الهوية المرتبطة باللغة المرافقة للدين، تكون أقرب لكونها هوية طبيعية من كونها هوية مصطنعة. فالمهاجر من بلدٍ الى آخر يتعلم لغته ويتعامل بها لكن تعامله سيكون أقل أثراً إن لم تكن مرتبطة بالديانة التي يدين بها.

قدسية اللغة وارتباطها بالرئاسة السياسية

في الرئاسات القديمة، كان الرئيس (الحاكم، السلطان، الملك، فرعون) يُقدم نفسه على أنه مختار من الله، بطريقة أو أخرى، بل كان منهم في عهد الفراعنة ما يزعمون أنهم الآلهة نفسها أو أحد أبنائها. وعليه فإن اللغة المركزية للحاكم ستسود على كل اللغات أو اللهجات المحكية التي يحكي بها رعايا ذلك الحاكم.

في عصرنا، يطوع أبناء الأرياف أو البوادي إذا ما انتقلوا الى العاصمة لهجاتهم لتكون أقرب الى لهجة من في العاصمة. وهذا الأمر ليس حديثاً، ففي عصر التدوين عندما امتلأت قصور العباسيين بالخبراء غير العرب الذين أُحضروا للمساهمة في الترجمة والطب وعلوم الإدارة، خشي مجموعة ممن خافوا على ضياع اللغة وفسادها بالتلحين الآتي من تقليد هؤلاء الأجانب، فذهب الخليل بن أحمد الفراهيدي والنصر بن سيار وغيرهم للبادية لتدوين الكلام العربي وحفظه بمعاجم وقواميس.

الخشية من اندثار اللغة يقوي النزعة القومية

في كتاب (تصنيف اللغات في العالم ) الصادر في عام 1977، قُدر عدد اللغات واللهجات في العالم بعشرين ألف لغة ولهجة، ولكن أكثر علماء الأنثروبيولوجيا يقدرون عددها بين أربعة وخمسة آلاف لغة. ففي البرازيل وحدها تم تصنيف ألف لغة هندية قديمة في القرن التاسع عشر، أما اليوم فهي لا تزيد عن 200. وفي الصين يوجد حوالي الألف لغة تنتمي لثمان مجموعات رئيسية، وفي الهند أكثر من 500 لغة محلية.

وقد تندثر اللغة خلال جيل واحد من الناس، فمثلاً في فنزويلا، فقد أدى انتشار مرض (الإنفلونزا) الى اختفاء كثير من اللغات، ولم يبق ممن يتكلم لغة (تروماي) سوى عشرة أفراد.

الشعوب التي تعيش بأعدادٍ معقولة (بالملايين) مع شعوب أخرى لغتها سائدة على لغتهم، تخشى تلك الشعوب من اندثار لغتها، نتيجة التعامل باللغة السائدة، فتكون مطالباتها القومية أولاً، بإعطائها حقوقها في التعلم بالمدارس والجامعات بلغتها القومية، مدركة أن التخاطب بالمشافهة بين أفراد شعبها بلغتهم فقط لا يحفظ تلك اللغة ولا يحفظ معها تراث ذلك الشعب.

كما أن تطوير اللغة نفسها و (تقعيدها: إيجاد قواعد للتعامل معها) يُثبت معالم الشعب نفسه ويحفظ تراثه ويجعله يسهم في الحضارة العالمية من خلال تضافر جهود أبنائه النخبويين في تمثيل حضارة شعبهم.

ولا يُشترط أن تكون اللهجة المحلية ذات ميزات تاريخية معينة حتى تصبح لغة أبناء الشعب الذين يتكلمون بها بلهجات مختلفة. ففي ألمانيا مثلاً أصبحت اللهجة المحلية (للغرب الشمالي من ألمانيا) هي اللغة الرسمية لألمانيا، وذلك لأنها طيعة في الطباعة خلافاً للغة التشيكية المحكية في (بوهيميا) حيث لم تتكيف للطباعة.

وفي بلداننا العربية، لم يكن لسيادة لهجة قريش ولهجة بني إياد (عرب العراق) أن تكون بهذه المكانة، لولا أن القرآن الكريم نزل بهما، فسادتا على لهجات بكر وتميم وتغلب وعلى العربية الجنوبية.

هذا المشكل في اعتماد لهجة طباعة وكتابة من بين لهجات متقاربة ومن نفس المنبع يواجه اللغة الكردية التي تُحكى بعدة لهجات فهذه صورانية وتلك زيبارية وأخرى هركية، وأخرى شبكية وجرجرية الخ وقد حاول الأكراد في العراق اعتماد لغة موحدة تُطبع فيها الصحف والمجلات، لكن في الحقيقة سيكون صعباً عليهم التفاهم مع أكراد إيران وتركيا وسوريا ومختلف البلدان إن لم يتجهوا الى مجمع لغوي موحد ليحفظ تراثهم من الضياع ويحفظ تواصلهم. ويمكن القول أن لهجات (الأمازيغ) ينسحب عليها نفس الكلام، حيث تحتاج هي الأخرى الى مجمع لغوي يوحد فيما بينها ويضع قواعدها.