خطاب
15-05-2007, 05:40 AM
ملابسات علاج المصابين في العراق وأفغانستان.. «إن لم يقتلك العراق قتلك وولتر ريد»: فضيحة معاملة الجنود الأميركيين الجرحى
الحياة / الى أين يذهب الجنود الأميركيون الجرحى بعد سقوطهم في ساحتي أفغانستان والعراق؟ يوماً بعد يوم يتزايد عدد القتلى وتتبع أرقام وفياتهم نشرات الأخبار التي تنقل وقائع المعارك والانفجارات. لكن ما مصير الجرحى؟ صحيح أن الإدارة الأميركية قررت، ثم تراجعت عن قرارها، تصوير مراسم الدفن ذات التأثير السلبي على الرأي العام. الا أنها أخفقت في كمّ أصوات ما لا يقل عن 25 ألف جريح كشفت المعلومات الأخيرة أن ثلثهم أصيبوا في روؤسهم، خصوصاً أدمغتهم، بفعل «انفجارات جانب الطريق».
في شباط (فبراير) الماضي نشرت يومية «واشنطن بوست» سلسلة تحقيقات عن مركز «وولتر ريد» الطبي حيث تجرى معالجة الجرحى العسكريين منذ الحرب العالمية الأولى. وبما أن التصوير داخل المبنى ممنوع واستقاء المعلومات محظور تنكر الفريق الصحافي ودخل المركز خلسة مناوباً طوال شهرين، متخفياً في جلد عمال تنظيفات. وفيما تحدثت التحقيقات عن انجازات جراحية متقدمة جداً، تبين أن مقابل كل جندي يخضع لجراحة داخل المستشفى، هناك 17 جندياً عولجوا وما زالوا معلقين في دوامة البيروقراطية. بعضهم معوق جسدياً، لكن معظمهم مصاب بأعطاب دماغية مختلفة سببها انفجار العبوات التي أعادت الى سياق حرب العراق ظاهرة ما سمّي في الحرب العالمية الأولى «صدمة الخنادق» حين كان الجنود يتعرضون لإعاقتين جراء إنفجار الألغام: الأولى جسدية وهي في الغالب بتر أطرافٍ وحروق، والثانية عصبية مصدرها رجة الانفجار وما تلحقه بالدماغ من عطب. الفارق بين اللغم الأرضي وبين «انفجارات جانب الطريق» أن الأخيرة أقوى ألف مرة في أقل تعديل: ثلاث قذائف 155ملم مشدودة الى بعضها، مؤتزرة بمئتي كلغ من متفجر سيمتكس ومغطاة بقوارير نفط شديدة الاحتراق، ما أن تنفجر في إمكانها أن تقلب دبابة وزنها 70 طناً وأن تدمر سيارة همفي وأن تقذف بمحرك شاحنة خارج صندوقه مئات الأمتار. هذه العناصر المدمرة ليست سوى الجزء الظاهري لقوة الانفجار، فهناك مخاطر أكثر تدميراً يمتد أثرها على شعاع ألف وستمئة قدم وتؤدي الى إصابة الدماغ برجة تحدث فيه فقاقيع تنفقئ تاركةً فراغات لا تحمي الجندي منها خوذته أو دروعه المتطورة. الإنفجار المذكور يفرغ الفضاء من الهواء مما يضاعف الضغط الجوي بسرعة رهيبة، فحتى لو لم يصب الجندي بشظية أو حرق يبقى معّرضاً للغيبوبة الدائمة أو الطرش أو العمى أو التأخر الذهني وما شابه.
وتشكل ملابسات علاج المصابين بما أطلق عليه «لغز الرأس المغلق» مصدر قلق وإرباك للإدارة العسكرية، لأنها لم تكن مهيأة له ولا تملك الموارد المالية والتقنية اللازمة. يعرف إختصاصيو الأعصاب العاملون عبر الولايات المتحدة كيفية التصدي لإصابات سائقي الدراجات النارية على الطريق السريع ممن يعانون رضّة دماغية قوية فيعمدون الى حقنهم بمادة الكالسيوم لسد الأوردة بسرعة وحماية الدماغ من التورم، فإذا لم يفلحوا يصار الى نشر الجمجمة لدى وصول المصاب الى المستشفى لتخفيف ضغطها على الدماغ المتورم. لكن هذه الطريقة لا تجدي نفعاً في علاج الجنود الذين يؤمون «وولتر ريد» بعد إصابتهم في حرب العراق. ويقول البروفيسور ستيفن ماسيدو، إختصاصي الأعصاب والطبيب السابق في جمعية قدامى المحاربين الأميركيين، أن إصابات سائقي الدراجات النارية تحدث مزقاً أو رضَة في الدماغ تعلمنا معالجتها، أما الموجة الصوتية العنيفة التي تخترق الدماغ وتسبب فيه فوراناً غازياً يترك ندبات متنوعة لا سبيل الى معرفة أثارها على الفور، وما زلنا غير قادرين على معالجتها. ويذكر ماسيدو أن فقدان الذاكرة وضعف التركيز وترهل الإدراك وإختلال المنطق والصداعات المطولة والإحباط الدائم والتبرم العصبي كلها ظواهر جديدة على ساحة آثار الحروب.
ويرى مراقبون أن إنحسار عدد القتلى بمعدل النصف عمّا كان عليه في حرب فيتنام، بسبب الدروع الجسدية الجديدة، عامل إيجابي. غير أن التجربة الميدانية برهنت أن الإهتمام بالجرحى أصعب من سحب القتلى من الميدان. ولذا إضطر البنتاغون الى زيادة مدة تدريب المسعفين الميدانين من 10 الى 16 أسبوعاً كما وسّع دائرة توظيفهم الى أبعد من حدود الولايات المتحدة. مع ذلك ولدت مقولة «إن لم يقتلك العراق قتلك وولتر ريد» بسبب ما يتعرض له الجرحى في ذلك المستشفى من إهمالٍ ومعاملة سيئة. في أحد مبانيه إكتشف الصحافيون زاوية عفنة وكسوراً في الأرضية وآثار فئران وصراصير ميتة ومصعداً معطلاً، على رغم كثرة المقعدين هناك، كما تمكنوا من تصوير رقيب في الحرس الوطني فقد إحدى ساقيه وما زال يرتدي الأسمال التي وصل فيها الى المستشفى علماً أنه كان لا يزال، رسمياً، قيد الخدمة.
بعد نشر التحقيقات إستقال أو أقيل ثلاثة عسكريين كبار في قمة هرم «وولتر ريد»: الرئيس الجنرال جورج وايتمن، الجنرال كيفن كايلي الذي أدار المركز بين 2002 و 2004، والجنرال فرانسيس هارفي ممثل الإدارة العسكرية. وتدفقت الوفود الرسمية والأهلية ومنظمات الجنود القدامى لاستطلاع الحال ووقف التدهور في المستوى العلاجي وإحلال النظافة في المركز. من ضمن الزائرين جويس رامسفيلد زوجة وزير الدفاع السابق التي حضرت اجتماعاً لزوجات وأمهات الجنود واستمعت الى معاناة هؤلاء جراء التأخير المستفحل في دفع التعويضات وتقديم العلاج اللازم. بعد الزيارة سألت رامسفيلد إحدى الحاضرات إذا كان الجنود الذين يقابلهم زوجها أمام عدسات التصوير في الجبهة مبرمجين مسبقاً لتقديم صورة إيجابية عن أوضاعهم. «طبعاً»، أجابت السيدة.
أما الحكايات التي سمعتها رامسفيلد والتي سرعان ما أدركت قنوات الاعلام، فيدور معظمها حول التقصير المخزي في حق الجنود العائدين باعاقات غير مسبوقة، خصوصا من جبهة العراق. على الجندي الجريح ان يملأ 22 اضبارة موجهة الى 8 قيادات مختلفة إذ أن البيروقراطية العسكرية أبطأ عشرات المرات مما هو سائد في الإدارة المدنية. ولدى العسكر، تقاس الإعاقة بالنسبة المئوية فلا يستحق الجندي المصاب بإعاقة دائمة تعويضات نهاية الخدمة ان لم تبلغ أعاقته 30 في المئة. والمثير للدهشة هنا ان مقاييس الإعاقة موضوعة سلفاً قبل حرب العراق، وجلها جسدي بحت مما يلقي المتأثرين نفسياً وعصبياً في دوامة مروعة جعلت أحدهم يصيح متسائلاً: لماذا أنقذتموني! كيف يقاس مثلاً فقدان الذاكرة او الأرق المتكرر او فقدان القدرة الجنسية او الطاقة على الانضواء من جديد في الحياة العامة؟ وما نسبة العطب الذي أصاب جنوداً تعرّضوا لردود فعل سلبية جرّاء اللقاح ضد الاسلحة الكيماوية خصوصاً الانتراكس الذي لم يكن له أثر في العراق كما تبيّن بعد فوات الأوان؟ مئات من هؤلاء الجنود يعانون اليوم نوبات صداع مطولة وإسهالاً متواصلاً وارهاقاً وأرقاً حادّين. أما علاجهم فلا يزال تجريبياً معتمداً فقط التصدي الكلاسيكي للأعراض كل على حدة.
ويظهر التقرير الذي أعدته السلطات العسكرية إثر اندلاع الفضيحة ان الإدارة أخفقت في التجاوب مع احتياجات الجنود الجرحى في نسبة 90 في المئة من الحالات خلال المدة القانونية المحددة بأربعين يوماً على بدء المعاملات، خصوصاً ان عدد الطلبات ارتفع من 9 آلاف عام 2001 الى اكثر من 25 ألفاً عام 2005. ويشمل التقصير الإداري ضياع مستندات وتسويفاً ومماطلة وأكاذيب وضغوطاً لإبعاد الجنود عن فضول الإعلام.
حتى أمس قريب كان معروفاً عن مركز «وولتر ريد» أنه جوهرة في تاج التاريخ الطبي الاميركي. يعود اسمه الى مكتشف لقاح الحمى الصفراء الذي أفسح باختراعه الشهير مجال شق قناة بناما حيث يكثر البعوض حامل الجرثومة التي أحبطت مساعي الفرنسيين الذين بدأوا المشروع. وكان الدكتور ريد من أبرز أطباء عصره، أنقذ مئات الجنود والمتطوعين من الموت إبان الحرب الاسبانية - الأميركية حين انتشر مرض التيفوئيد في مخيمات تدريبهم خلال السنوات الاخيرة للقرن التاسع عشر. تلك المفارقة، من باب سخرية القدر لم تغب تماماً عن انتباه أحد المعلقين الذي كتب: «لو كان ريد حيا لهرع الى انتزاع اسمه عن ذلك الجحيم!» أما الإدارة الأميركية فقررت إغلاق المركز عام 2011.
الحياة / الى أين يذهب الجنود الأميركيون الجرحى بعد سقوطهم في ساحتي أفغانستان والعراق؟ يوماً بعد يوم يتزايد عدد القتلى وتتبع أرقام وفياتهم نشرات الأخبار التي تنقل وقائع المعارك والانفجارات. لكن ما مصير الجرحى؟ صحيح أن الإدارة الأميركية قررت، ثم تراجعت عن قرارها، تصوير مراسم الدفن ذات التأثير السلبي على الرأي العام. الا أنها أخفقت في كمّ أصوات ما لا يقل عن 25 ألف جريح كشفت المعلومات الأخيرة أن ثلثهم أصيبوا في روؤسهم، خصوصاً أدمغتهم، بفعل «انفجارات جانب الطريق».
في شباط (فبراير) الماضي نشرت يومية «واشنطن بوست» سلسلة تحقيقات عن مركز «وولتر ريد» الطبي حيث تجرى معالجة الجرحى العسكريين منذ الحرب العالمية الأولى. وبما أن التصوير داخل المبنى ممنوع واستقاء المعلومات محظور تنكر الفريق الصحافي ودخل المركز خلسة مناوباً طوال شهرين، متخفياً في جلد عمال تنظيفات. وفيما تحدثت التحقيقات عن انجازات جراحية متقدمة جداً، تبين أن مقابل كل جندي يخضع لجراحة داخل المستشفى، هناك 17 جندياً عولجوا وما زالوا معلقين في دوامة البيروقراطية. بعضهم معوق جسدياً، لكن معظمهم مصاب بأعطاب دماغية مختلفة سببها انفجار العبوات التي أعادت الى سياق حرب العراق ظاهرة ما سمّي في الحرب العالمية الأولى «صدمة الخنادق» حين كان الجنود يتعرضون لإعاقتين جراء إنفجار الألغام: الأولى جسدية وهي في الغالب بتر أطرافٍ وحروق، والثانية عصبية مصدرها رجة الانفجار وما تلحقه بالدماغ من عطب. الفارق بين اللغم الأرضي وبين «انفجارات جانب الطريق» أن الأخيرة أقوى ألف مرة في أقل تعديل: ثلاث قذائف 155ملم مشدودة الى بعضها، مؤتزرة بمئتي كلغ من متفجر سيمتكس ومغطاة بقوارير نفط شديدة الاحتراق، ما أن تنفجر في إمكانها أن تقلب دبابة وزنها 70 طناً وأن تدمر سيارة همفي وأن تقذف بمحرك شاحنة خارج صندوقه مئات الأمتار. هذه العناصر المدمرة ليست سوى الجزء الظاهري لقوة الانفجار، فهناك مخاطر أكثر تدميراً يمتد أثرها على شعاع ألف وستمئة قدم وتؤدي الى إصابة الدماغ برجة تحدث فيه فقاقيع تنفقئ تاركةً فراغات لا تحمي الجندي منها خوذته أو دروعه المتطورة. الإنفجار المذكور يفرغ الفضاء من الهواء مما يضاعف الضغط الجوي بسرعة رهيبة، فحتى لو لم يصب الجندي بشظية أو حرق يبقى معّرضاً للغيبوبة الدائمة أو الطرش أو العمى أو التأخر الذهني وما شابه.
وتشكل ملابسات علاج المصابين بما أطلق عليه «لغز الرأس المغلق» مصدر قلق وإرباك للإدارة العسكرية، لأنها لم تكن مهيأة له ولا تملك الموارد المالية والتقنية اللازمة. يعرف إختصاصيو الأعصاب العاملون عبر الولايات المتحدة كيفية التصدي لإصابات سائقي الدراجات النارية على الطريق السريع ممن يعانون رضّة دماغية قوية فيعمدون الى حقنهم بمادة الكالسيوم لسد الأوردة بسرعة وحماية الدماغ من التورم، فإذا لم يفلحوا يصار الى نشر الجمجمة لدى وصول المصاب الى المستشفى لتخفيف ضغطها على الدماغ المتورم. لكن هذه الطريقة لا تجدي نفعاً في علاج الجنود الذين يؤمون «وولتر ريد» بعد إصابتهم في حرب العراق. ويقول البروفيسور ستيفن ماسيدو، إختصاصي الأعصاب والطبيب السابق في جمعية قدامى المحاربين الأميركيين، أن إصابات سائقي الدراجات النارية تحدث مزقاً أو رضَة في الدماغ تعلمنا معالجتها، أما الموجة الصوتية العنيفة التي تخترق الدماغ وتسبب فيه فوراناً غازياً يترك ندبات متنوعة لا سبيل الى معرفة أثارها على الفور، وما زلنا غير قادرين على معالجتها. ويذكر ماسيدو أن فقدان الذاكرة وضعف التركيز وترهل الإدراك وإختلال المنطق والصداعات المطولة والإحباط الدائم والتبرم العصبي كلها ظواهر جديدة على ساحة آثار الحروب.
ويرى مراقبون أن إنحسار عدد القتلى بمعدل النصف عمّا كان عليه في حرب فيتنام، بسبب الدروع الجسدية الجديدة، عامل إيجابي. غير أن التجربة الميدانية برهنت أن الإهتمام بالجرحى أصعب من سحب القتلى من الميدان. ولذا إضطر البنتاغون الى زيادة مدة تدريب المسعفين الميدانين من 10 الى 16 أسبوعاً كما وسّع دائرة توظيفهم الى أبعد من حدود الولايات المتحدة. مع ذلك ولدت مقولة «إن لم يقتلك العراق قتلك وولتر ريد» بسبب ما يتعرض له الجرحى في ذلك المستشفى من إهمالٍ ومعاملة سيئة. في أحد مبانيه إكتشف الصحافيون زاوية عفنة وكسوراً في الأرضية وآثار فئران وصراصير ميتة ومصعداً معطلاً، على رغم كثرة المقعدين هناك، كما تمكنوا من تصوير رقيب في الحرس الوطني فقد إحدى ساقيه وما زال يرتدي الأسمال التي وصل فيها الى المستشفى علماً أنه كان لا يزال، رسمياً، قيد الخدمة.
بعد نشر التحقيقات إستقال أو أقيل ثلاثة عسكريين كبار في قمة هرم «وولتر ريد»: الرئيس الجنرال جورج وايتمن، الجنرال كيفن كايلي الذي أدار المركز بين 2002 و 2004، والجنرال فرانسيس هارفي ممثل الإدارة العسكرية. وتدفقت الوفود الرسمية والأهلية ومنظمات الجنود القدامى لاستطلاع الحال ووقف التدهور في المستوى العلاجي وإحلال النظافة في المركز. من ضمن الزائرين جويس رامسفيلد زوجة وزير الدفاع السابق التي حضرت اجتماعاً لزوجات وأمهات الجنود واستمعت الى معاناة هؤلاء جراء التأخير المستفحل في دفع التعويضات وتقديم العلاج اللازم. بعد الزيارة سألت رامسفيلد إحدى الحاضرات إذا كان الجنود الذين يقابلهم زوجها أمام عدسات التصوير في الجبهة مبرمجين مسبقاً لتقديم صورة إيجابية عن أوضاعهم. «طبعاً»، أجابت السيدة.
أما الحكايات التي سمعتها رامسفيلد والتي سرعان ما أدركت قنوات الاعلام، فيدور معظمها حول التقصير المخزي في حق الجنود العائدين باعاقات غير مسبوقة، خصوصا من جبهة العراق. على الجندي الجريح ان يملأ 22 اضبارة موجهة الى 8 قيادات مختلفة إذ أن البيروقراطية العسكرية أبطأ عشرات المرات مما هو سائد في الإدارة المدنية. ولدى العسكر، تقاس الإعاقة بالنسبة المئوية فلا يستحق الجندي المصاب بإعاقة دائمة تعويضات نهاية الخدمة ان لم تبلغ أعاقته 30 في المئة. والمثير للدهشة هنا ان مقاييس الإعاقة موضوعة سلفاً قبل حرب العراق، وجلها جسدي بحت مما يلقي المتأثرين نفسياً وعصبياً في دوامة مروعة جعلت أحدهم يصيح متسائلاً: لماذا أنقذتموني! كيف يقاس مثلاً فقدان الذاكرة او الأرق المتكرر او فقدان القدرة الجنسية او الطاقة على الانضواء من جديد في الحياة العامة؟ وما نسبة العطب الذي أصاب جنوداً تعرّضوا لردود فعل سلبية جرّاء اللقاح ضد الاسلحة الكيماوية خصوصاً الانتراكس الذي لم يكن له أثر في العراق كما تبيّن بعد فوات الأوان؟ مئات من هؤلاء الجنود يعانون اليوم نوبات صداع مطولة وإسهالاً متواصلاً وارهاقاً وأرقاً حادّين. أما علاجهم فلا يزال تجريبياً معتمداً فقط التصدي الكلاسيكي للأعراض كل على حدة.
ويظهر التقرير الذي أعدته السلطات العسكرية إثر اندلاع الفضيحة ان الإدارة أخفقت في التجاوب مع احتياجات الجنود الجرحى في نسبة 90 في المئة من الحالات خلال المدة القانونية المحددة بأربعين يوماً على بدء المعاملات، خصوصاً ان عدد الطلبات ارتفع من 9 آلاف عام 2001 الى اكثر من 25 ألفاً عام 2005. ويشمل التقصير الإداري ضياع مستندات وتسويفاً ومماطلة وأكاذيب وضغوطاً لإبعاد الجنود عن فضول الإعلام.
حتى أمس قريب كان معروفاً عن مركز «وولتر ريد» أنه جوهرة في تاج التاريخ الطبي الاميركي. يعود اسمه الى مكتشف لقاح الحمى الصفراء الذي أفسح باختراعه الشهير مجال شق قناة بناما حيث يكثر البعوض حامل الجرثومة التي أحبطت مساعي الفرنسيين الذين بدأوا المشروع. وكان الدكتور ريد من أبرز أطباء عصره، أنقذ مئات الجنود والمتطوعين من الموت إبان الحرب الاسبانية - الأميركية حين انتشر مرض التيفوئيد في مخيمات تدريبهم خلال السنوات الاخيرة للقرن التاسع عشر. تلك المفارقة، من باب سخرية القدر لم تغب تماماً عن انتباه أحد المعلقين الذي كتب: «لو كان ريد حيا لهرع الى انتزاع اسمه عن ذلك الجحيم!» أما الإدارة الأميركية فقررت إغلاق المركز عام 2011.