imran
30-01-2007, 11:46 PM
لعدو القريب
محاولة لتشخيص أحد أمراض الأمة
بقلم د.هاني السباعي
hanisibu@hotmail.com
مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية
تقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم.
هذه مقالة نقدمها للشبيبة الإسلامية وللجيل الصاعد من أبناء هذه الأمة؛ نحاول من خلالها تسليط الضوء على عامل من ضمن تلكم العوامل التي كانت وراء الحالة المزرية التي تعيشها أمتنا الإسلامية في وقتنا المعاصر. هذا وإن كنا نتناول عاملاً واحداً فإننا في نفس الوقت لا نغفل العوامل الأخرى التي أوصلت أمتنا إلى هذا الهوان والصغار كعامل العدو الخارجي؛ العدو التقليدي للأمة مع عوامل متعلقة بهذا العامل الخارجي كالعامل الاقتصادي والعسكري والثقافي والأخلاقي إلى غير ذلك من عوامل أخرى مجتمعة ومتفرقة ومتراكمة عبر عصور أدت إلى ما وصلنا إليه من تيه وتشرذم وتحارب وضياع!
قال صاحب التحفة الحليمية: " إن الدول والأمم تشبه الأفراد من حيث تعرضها للأمراض، فالاختلافات الداخلية في الممالك تشبه الأمراض الباطنية. وأسبابها الحكام الجهلاء الظالمون، ودواؤها الحكام العادلون مع الحزم والعلم. والمشاكل الخارجية كالقروح الظاهرة في الأجسام، ودواؤها القوة واليقظة"
وبعد؛ فإننا نختار عاملاً واحداً لا يقل خطورة عن عامل العدو الخارجي ألا هو الخلل الذاتي في جسد الأمة أو ما يعبر عنه بالعدو القريب؛ أس الداء وأصل كل بلاء! فالأمة في حاجة لحملة تطهير ذاتي وتنظيف ما علق في جسدها من أدران، واجتثاث الأورام الخبيثة للحفاظ على البقية الباقية من جسد هذه الأمة كي تصل إلى مرحلة النقاهة؛ ومن ثم تستعيد عافيتها بشريعتها المفقودة وحينئذ تستطيع أن تواجه أعداءها وتنتصر عليهم بإذن ربها..
هذا ما سنتناوله في هذه المقالة عبر المحاور والنقاط التالية:
أولاً: استهلال شرعي.
ثانياً: إطلالة على غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: الخلاف الذي نشب بين الصحابة.
رابعاً: الأندلس.
خامساً: الدولة العباسية: (من 132 هـ إلى 923هـ).
سادساً: ابن تومرت الدجال الذي دمر دولة المرابطين السنية (453 هـ إلى 541 هـ).سابعاً: سابعاً: الدولة العثمانية.
ثامناً: معركة التل الكبير سنة 1299 هـ/ 1882م بين الجيش المصري والإنجليزي.
تاسعاً: زوال إمارة أفغانستان الإسلامية (طالبان) على يد قوات الاحتلال الأنجلوأمريكي عام 1421هـ/ 2001م.
عاشراً: احتلال عاصمة الرشيد عام 1423هـ/ 2003م.
حادي عشر: احتلال الصومال عام 1427هـ/ 2007م.
صفوة القول.
أولاً: استهلال شرعي:
(أ) ورد في كتاب الله العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(آل عمران:118).
قال ابن جرير في تفسيره: " يعنـي بذلك تعالـى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرّوا بـما جاءهم به نبـيهم من عند ربهم، { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ } يقول: لا تتـخذوا أولـياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم، يقول: من دون أهل دينكم وملتكم، يعنـي من غير الـمؤمنـين. وإنـما جعل البطانة مثلاً لـخـلـيـل الرجل فشبهه بـما ولـي بطنه من ثـيابه لـحلوله منه فـي اطلاعه علـى أسراره، وما يطويه عن أبـاعده وكثـير من أقاربه، مـحلّ ما ولـي جسده من ثـيابه، فنهى الله الـمؤمنـين به أن يتـخذوا من الكفـار به أخلاء وأصفـياء ثم عرّفهم ما هم علـيه لهم منطوون من الغشّ والـخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذّرهم بذلك منهم عن مخالّطتهم"
وقال القرطبي المتوفى سنة 671 هـ مسقطاً الآية على عصره: " قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبةً وأمناء وتَسوَّدُوا بذلك عند الجَهَلة الأغْبِياء من الوُلاة والأمراء. روى البخاريّ عن أبي سعيدٍ الخدرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث الله مِن نبيّ ولا استخلف مِن خليفةٍ إلاَّ كانت له بِطانتانِ بِطانة تأمره بالمعروف وتحضُّه عليه وبِطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه فالمعصوم من عَصَمَ اللَّهُ تعالى"
أقول: فما بلك بعصرنا الذي قدرنا أن نعيش الهوان ونتنفس انكسار أمتنا على أيدي هذه البطانية الخائنة!! فهذا تحذير قرآني صريح من اتخاذ بطانة من دون المؤمنين نحفظ بها أسرارنا خشية أن يطلعوا عليها أعداء الأمة وخاصة إذا كانت هذه البطانة ضمن دائرة الحكم ومن المقربين للحاكم وأصحاب النفوذ مع اقتناعنا بأن هؤلاء الحكام هم أنفسهم رأس الخيانة!!
(ب) وقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46).
(ج) وقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران:103) (د) وقوله تعالى جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:123).
ذكر الطبري: "يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله قاتلوا من وليَكم من الكفار دون من بعُد منهم، يقول لهم: ابدءوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم داراً دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ الروم، لأنهم كانوا سكان الشأم يومئذ، والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام، فإن اضطرّوا إليهم لزم عونهم ونصرهم، لأن المسلمين يد على من سواهم. ولصحة كون ذلك، تأوّل كل من تأوّل هذه الآية أن معناها إيجاب الفرض على أهل كلّ ناحية قتال من وليهم من الأعداء"
يقول ابن كثير:"أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولاً فأولاً، الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام، ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم، وفتح الله عليه مكة والمدينة والطائف واليمن واليمامة وهجر وخيبر وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجاً، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام؛ لأنهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك، ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال، وذلك سنة تسع من هجرته عليه السلام، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع، ثم عاجلته المنية صلوات الله وسلامه عليه بعد حجته بأحد وثمانين يوماً، فاختاره الله لما عنده، وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد مال الدين ميلة كاد أن ينجفل، فثبته الله تعالى به، فوطد القواعد، وثبت الدعائم، ورد شارد الدين وهو راغم، ورد أهل الردة إلى الإسلام، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغاة، وبين الحق لمن جهله، وأدى عن الرسول ما حمله، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان، وإلى الفرس عبدة النيران، ففتح الله ببركة سفارته البلاد، وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد، وأنفق كنوزهما في سبيل الله؛ كما أخبر بذلك رسول الله، وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده، وولي عهده الفاروق الأواب، شهيد المحراب، أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، وقمع الطغاة والمنافقين، واستولى على الممالك شرقاً وغرباً، وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعداً وقرباً، ففرقها على الوجه الشرعي، والسبيل المرضي، ثم لما مات شهيداً، وقد عاش حميداً، أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه شهيد الدار. فكسا الإسلام رياسة حلة سابغة، وامتدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة، فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمة الله، وظهر دينه، وبلغت الملة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها، وكلما علوا أمة، انتقلوا إلى من بعدهم، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار؛ امتثالاً لقوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ } وقوله تعالى: { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } أي: وليجد الكفار منكم غلظة في قتالكم لهم؛ فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقاً لأخيه المؤمن، غليظاً على عدوه الكافر؛ كقوله تعالى:( فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ )"
ويشخص لنا ابن كثير حال الأمة بعد القرون الأولى قائلاً: "وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة في غاية الاستقامة والقيام بطاعة الله تعالى، لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ولم تزل الأعداء في سفال وخسار، ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك، طمع الأعداء في أطراف البلاد، وتقدموا إليها، فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام، فأخذوا من الأطراف بلداناً كثيرة، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فكلما قام ملك من ملوك الإسلام، وأطاع أوامر الله، وتوكل على الله، فتح الله عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسبه، وبقدر ما فيه من ولاية الله. والله المسؤول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين، وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم، إنه جواد كريم"
وقال الألوسي في روح المعاني: " لأنه من المعلوم أنه لا يمكن قتال جميع الكفار وغزو جميع البلاد في زمان واحد فكان من قرب أولى ممن بعد، ولأن ترك الأقرب والاشتغال بقتال إلا بعد لا يؤمن معه من الهجوم على الذراري والضعفاء، وأيضاً الأبعد لا حد له بخلاف الأقرب فلا يؤمر به، وقد لا يمكن قتال إلا بعد قبل قتال الأقرب، وقال بعضهم: المراد قاتلوا الأقرب فالأقرب حتى تصلوا إلى الأبعد فالأبعد وبذلك يحصل الغرض من قتال المشركين كافة، فهذا إرشاد إلى طريق تحصيله على الوجه الأصلح. ومن هنا قاتل صلى الله عليه وسلم أولاً قومه ثم انتقل إلى قتال سائر العرب ثم إلى قتال قريظة. والنضير. وخيبر. وأضرابهم ثم إلى قتال الروم فبدأ عليه الصلاة والسلام بقتال الأقرب فالأقرب وجرى أصحابه على سننه صلى الله عليه وسلم إلى أن وصلت سراياهم وجيوشهم إلى ما شاء الله تعالى"
وهكذا نلاحظ أن آية سورة التوبة (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) تشير إلى صلب موضوعنا أنه لزام على المسلم ألا يغفل عن جبهته الداخلية وعن أعدائه القريبين لأن هذا مكمن الخطورة حيث ينشغل المسلمون في حرب ما مع عدو خارجي ثم يفاجأ المسلمون بخلل في جبهتهم الداخلية وأن هناك طابوراً خامساً يخرب بنية الأمة الداخلية وهذا ما حدث عبر حقب تاريخية متلاحقة مع الأسف الشديد!!
وهناك بعض الآيات تكلمت عن الردة بوجه عام سواء ردة الفرد أو الحاكم: (ج) )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) (آل عمران:90) (د)(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (النساء:137) (هـ) (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (آل عمران:86) (و)(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) (محمد:25) (ز) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة:54).
قال الدكتور أيمن الظواهري في شفاء صدور المؤمنين: "بل في حساب الإسلام وأصول الشريعة يقدم قتال الحكام المرتدين على غيرهم من الكفار الأصليين لثلاث أسباب:
الأول: أنه قتال دفع متعين وهو مقدم على قتال الطلب لأن هؤلاء الحكام المرتدين عدو تسلط على بلاد المسلمين؛ قال ابن تيمية: "أما قتل الدفع، فهو أشد أنواع دفع الصائل على الحرمة والدين، فواجب إجماعاً، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شئ أوجب بعد الإيمان من دفعه" (الاختيارات الفقهية ص309).
الثاني: أن المرتد أغلظ جرماً من الكفار الأصلي. قال ابن تيمية: "وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي" (الفتاوى 28/478). وقال أيضاً: "وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي" (الفتاوى 28/534). وقال أيضاً: والصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة بدؤوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه. وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة وإظهار الدين. وحفظ رأس المال مقدم على الربح" (الفتاوى 35/156_159).
الثالث: لأنهم العدو الأقرب. قال ابن قدامة (مسألة) ويقاتل كل قوم من يليهم. والأصل في هذا قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) التوبة. ولأن الأقرب أكثر ضرراً، وفي قتاله دفع ضرره عن المقابل له وعمن وراءه، والاشتغال بالبعيد عنه يمكنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه ـ إلى أن قال ـ إذا ثبت هذا فإن كان له عذر في البداية بالأبعد لكونه أخوف أو المصلحة في البداية به لقربه وإمكان الفرصة منه، أو لكون الأقرب مهادناً أو يمنع من قتاله مانع فلا بأس بالبداية بالأبعد لكونه موضع حاجة" (المغني مع والشرح الكبير ج10 ص372_373)" أقول: نعم هناك حالات استثنائية للبداية بقتال العدو الأبعد كما ذكر ابن قدامة لكون الجبهة الداخلية أو العدو القريب مأمون الجانب!! قد تكون هذه الصورة الاستثنائية مقبولة إلى حد ما في ظل دولة تحكم بالإسلام وتفرض سيطرتها على العدو القريب والأقرب!! أما في وقتنا المعاصر فإنه لا توجد دولة تحكم بالإسلام بالمعنى الحقيقي لكلمة الإسلام بالإضافة أن الذي يحكمون بلاد المسلمين هم أنفسهم العدو القريب والأقرب!! لذلك فإن أغلظ أنواع الردة هي ردة الحكام حيث إنه من المفترض فيهم أن يكونوا حماة لعقيدة الإسلام وحراساً لها من سهام المعتدين وزيغ المبطلين!! لكن الحقيقة أن الأمة ابتليت بمجموعة من الحكام المنسلخين عن دينهم الموالين للشيطان المعادين لأولياء الرحمن بل هم العقبة الكأداء أم تقدم شعوبهم للحكم بشريعة الإسلام الغراء وللدفاع عن مقدسات المسلمين السليبة التي اغتصبها أعداء الأمة بمباركة هؤلاء الحكام المتسلطين الخائنين! فبدل أن يكونوا رعاة خير يحمون بيضة الأمة ويذبون عن حياضها من ذئاب الشر الإنسية إذا هم أنفسهم الذئاب وبئس الذاب!
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها *** فكيف إذا الرعاة لها ذئاب
لكن قد يقول قائل إن كثيراً من بلاد المسلمين اليوم محتلة عن طريق العدو الخارجي مباشرة أو عن طريق الحكام المغتصبين للسلطة بمساعدة العدو الخارجي أيضاً.. فماذا عسانا أن نفعل حيث لا طاقة للأمة أن تقاتل على جبهتين في وقت واحد؟!
أقول: إننا بصدد تشخيص الحالة التي نعيشها والأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الذل والهوان بمعنى آخر نحن نقر أن بعض بلاد المسلمين محتلة احتلالاً مباشراً كفلسطين وكشمير والشيشان وأفغانستان والعراق والصومال.. وفي هذه الحالة كما هو مقرر في كتب الفقه أن العدو إذا حل ببلد إسلامي ففرض عين على أهل تلك البلد من القادرين على حمل السلاح أن يقاتل الأعداء المحتلين لبلاده .. وفي هذه الحالة فقد اجتمع عدوان في آن واحد؛ عدو خارجي غاز وعدو داخلي متسربل زوراً بالإسلام إذن فهما واحد واجتمعا في زمان ومكان واحد فيجب أن يعاملهم المسلم معاملة واحدة حيث صار العدو الداخلي منهم أي من أنصار العدو الخارجي المحتل المغتصب لبلد إسلامي بل هذا العدو القريب الداخلي هم أعين العدو الخارجي التي تحرسه وتتزلف إليه بالوشاية والتجسس على أماكن المجاهدين المدافعين عن ديارهم المغتصبة.. وصدق الله العلي القدير القائل في محكم التنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51) لكن السؤال هو من الذي تسبب في دخول القوات الغازية إلى ديار المسلمين؟ بالطيع هناك عوامل كثيرة من أهمها موضوع مقالتنا هذه وهو العدو الداخلي (القريب) وهم الأنظمة الحاكمة لبلاد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ نقصد بالطبع الحكام وأعوانهم! فكل هؤلاء الحكام صورة مستنسخة على نطاق واسع من أبي رغال ووالي عكا وابن العلقمي وإن اختلفت الأسماء والأزمنة!!
وهناك حديث ذكره مسلم في صحيحه في باب أشراط الساعة يبين أن مشكلة هذه الأمة تكمن في أنها لما ابتعدت عن كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم سلط الله عليه عدواً من أنفسهم (العدو القريب) يهلك بعضهم بعضاً!! والحديث في صورة خبر يستعرض حالة الأمة لكي يحذر أولو الألباب وأولو الأمر من الحكام والعلماء ممن شؤم الفرقة والتناحر!!
الحديث كما ورد في صحيح مسلم: "عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِىَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِى سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لِى مِنْهَا وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ وَإِنِّى سَأَلْتُ رَبِّى لأُمَّتِى أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَإِنَّ رَبِّى قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّى إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ وَإِنِّى أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِى بَعْضُهُمْ بَعْضًا ».
ثانياً: إطلالة على غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم:
لقد خاض الصحابة رضوان الله عليهم بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ستين معركة حربية ما بين غزوة وسرية، وقد أوصلها الحاكم إلى مائة كما ذكر ذلك ابن حجر في الفتح في شرحه لحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه عندما سئل (كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة)
وقاد الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه حوالي 28 غزوة كما جاء في مرويات السيرة النبوية.
الشاهد مما سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاض كل هذه المعارك سواء بنفسه أو من خلال تعيين قائد من أصحابه مع قومه وعشيرته باستثناء سرية مؤتة 8هـ، وغزوة تبوك 9 هـ، حيث كانتا موجهتين لقتال الروم وكان ذلك في المدينة المنورة. فإذا استعرضنا جانباً من الغزوات والسرايا سنجد معظمها موجهة إلى قريش وحلفائها من أهل الشرك ومن بعض القبائل المشركة التي كانت تحيط بالمدينة ولها تحالف أيضاً مع قريش! وقريش كما نعلم هم قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أعمامه وبنو عشيرته وهم الذين عاش وتربى معهم في فيافي وجبال مكة وربوعها وكذلك أصحابه رضوان الله عليهم! ولم ترد رواية صحيحة أو حتى ضعيفة أو موضوعة تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (لا يقتل القرشي القرشي)!! (ولا يقتل المكي المكي) (ولا يقتل المدني المدني)!! ولم يرد في رواية صحية أو حتى موضوعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (دم المكي مقدس وحرام)!! (ولم يقل دم المدني مقدس وحرام) ولم يرد أنه يرد في رواية صحيحة ولا موضوعة أن الرسول ذكر مصطلح (الوحدة الوطنية)!! التي حلت محل ولاء العقيدة في عصرنا المنكوب بعلمائه المنهزمين عقدياً!!
بل إننا نلاحظ أن الإسلام حرص على تطهير الصف الإسلامي المؤمن في غزوة أحد 3 هـ وقد أكد هذه الحقيقة القرآن الكريم في سورة التوبة (براءة) وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم كما أنها سورة مدنية تسمى أيضاً في كتب التفسير الفاضحة، والكاشفة، وسورة العذاب، والمقشقشة أي المبرئة من النفاق، وهي المبعثرة التي تفرق المنافقين وتشتت شملهم وتبعثر أسرارهم..
يقول سيد قطب ت 1387هـ رحمه الله في تقديمه لسورة براءة: " ثم يجيء المقطع الرابع في سياق السورة - وهو أطول مقاطعها، وهو يستغرق أكثر من نصفها - في فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم، ووصف أحوالهم النفسية والعملية، ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف، وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلص من المؤمنين. يصاحب هذا الكشف تحذير الخلصاء من المؤمنين من كيد المنافقين، وتحديد العلاقات بين هؤلاء وهؤلاء، والمفاصلة بين الفريقين وتمييز كل منهما بصفاته وأعماله . . وهذا القطاع يؤلف في الحقيقة جسم السورة؛ ويتجلى من خلاله كيف عاد النفاق بعد فتح مكة فاستشرى بعد ما كاد أن يتلاشى من المجتمع المسلم قبيل الفتح.
وهذه الحملة الطويلة الكاشفة تشي بما كان للمنافقين في هذه الفترة من محاولات كثيرة لإيذاء الصف المسلم وفتنته وشغله بشتى الفتن والدسائس والأكاذيب عن وجهته. كما أنها في الوقت ذاته تكشف عن حالة من الخلخلة وعدم التناسق في التكوين العضوي للمجتمع الإسلامي في هذه الفترة؛ يشير إليها قول الله سبحانه: (وفيكم سماعون لهم)كما يشير إليها النهي المشدد عن الاستغفار للمنافقين أو الصلاة عليهم . . هذه الحالة التي نشأت عن دخول جماعات كثيرة في الإسلام بعد الفتح لم يكن الإيمان قد استقر في قلوبهم، ولا كانوا قد انطبعوا بالطابع الإسلامي الصحيح"
هكذا نلاحظ أن سورة براءة عرت وفضحت الطابور الخامس في المجتمع المسلم وهم قطار المنافقين والزنادقة، وبعد نزول هذه السورة تطهرت الجبهة الداخلية للمجتمع الإسلامي ومن ثم كانت الانطلاقة الكبرى للفتوحات الإسلامية في أرجاء المعمورة!
ثالثاً: الخلاف الذي نشب بين الصحابة:
إنه الخلاف الشهير الذي نشب بين الصحابة رضوان الله عليهم بعد مقتل الخليفة المظلوم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ودور ابن سبأ الذي ادعى الإسلام في عهد أمير المؤمنين عثمان .. وحدثت المأساة والانقسام واتسع الخرق على الراقع! بمقتل السبط ؛ الحسين بن علي رضي الله عنه!! فاحتلبت الأمة دماً إلى وقتنا الحاضر! وكادت الجبهة الداخلية أن تقوض بفعلة ابن سبأ ومن شايعه وصار في فتنته!! فلولا لطف الله تعالى لكان قد قضي على الإسلام منذ نشوب أول خلاف حربي في معركتي الجمل 36هـ ، وصفين 37 هـ !! حيث إن الروم كانت في تلك الحقبة ممزقة وكانت تتهيب من المسلمين وقد حاولوا فعلاً انتهاز فرصة الخلاف بين المسلمين فأغاروا على تخوم الشام لكن محاولاتهم باءت بالفشل لأسباب يطول شرحها في هذا المقام.
رابعاً: الأندلس (92هـ إلى 897 هـ):
الأندلس؛ فردوس المسلمين المفقود الذي فتح عام 92 هـ لماذا ضاعت الأندلس؟ لماذا فقدت؟ لماذا ولماذا..؟ هناك العديد من الدراسات والأبحاث ذكرت مجموعة من الأسباب أدت إلى ضياع هذا البلد الذي كان غرة في جبين التاريخ على مدار ثمانية قرون! ذهبت كأن لم تغن بالأمس!
فعلى أية حال إذا سلطنا الضوء على عامل الجبهة الداخلية (العدو القريب) لتبين لنا أن المسلمين انهزموا في الأندلس داخلياً قبل أن يهزمهم العدو الخارجي الصليبي! ونجد ذلك واضحاً في دول الإسلام المتعاقبة في الأندلس وأقوى شاهد على تلك المراحل المخزية الأنموذجين التاليين:
الأنموذج الأول: دويلات الطوائف (422هـ ـ 487هـ):
فهذا العصر من أسود الحقب في صفحات تاريخ المسلمين في الأندلس حتى جاء العصر الحديث وضرب رقماً قياسياً لدويلات الطوائف (في العالم العربي) لتكون أرذل وأخس وأشأم حقبة مرة في تاريخ الإسلام حتى وقتنا الحاضر..
وقد امتد عصر ملوك الطوائف أكثر من نصف قرن وقسمت فيه الأندلس إلى عدد كبيرمن الدويلات الهزيلة وكانت كلها تدفع الجزية إلى طاغية قشتالة (ألفونسو السادس).. وقد كان الإسلام الجامع لكل هذه الأعراق والجنسيات تحت خليفة واحد..
وقد أدى بهم التشرذم إلى أن انقسموا إلى ثلاث قوى: عربية ـ بربرية ـ عامرية نسبة إلى أتباع الحاجب المنصور بن أبي عامر.. وكانت هذه الدويلات تدفع الجزية لملوك الأسبان دفعاً لشرهم وكانت تحارب بعضها بعضاً، وتستعين في كثير من الأحيان بجنود مرتزقة من الأسبان للتغلب على هذا الرئيس أو ذاك..
إن دويلات الطوائف كانت ثلاثاً وعشرين دويلة .. قريب عدد الدول العربية اليوم مثل: دويلة العامريين وأميرهم المعتصم بن صمادح.. ودويلة بني هود في سرقسطة.. ودويلة بني ذي النون في طليطلة.. ودويلة بين زيري في غرناطة.. ودويلة بني الأفطس في بطليوس.. لكن أشهروأكبر هذه الدويلات (دويلة بني عباد في إشبيلية) بل إنها أكثرهم أثراً في حياة الأندلس.. والعجيب أن هذه الدويلات اتخذت مظاهر الأبهة والفخامة للدول الكبرى من التلقب بألقاب الخلافة ومن الحجابة ورئاسة الوزراء.. وكانوا يقلدون الخلفاء الأمويين والعباسيين رغم البون الشاسع بين العزيز والذليل!!
وكما وصف لنا حالهم ابن رشيق القيرواني:
مما يزهدني في أرض أندلس *** ألقاب معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
وكادت الأندلس أن تسقط في أيدي ألفونسو الصليبي لولا فضل الله قذف في قلب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي استجاب لدعوة المعتمد بن عباد أمير إشبيلية فأرسل جيشا عظيما لنجدتهم وخاض معركة حاسمة في تاريخ الإسلام والأندلس في وادي الزلاقة سنة 479هـ واستطاع ابن تاشفين أن يجدد شباب الإسلام في الأندلس لأربعة قرون أخرى"
هكذا كان ملوك الطوائف يدفعون الجزية لألفونس رغم أنهم كانوا أقوى منه لو اجتمعوا على قلب رجل واحد لكنهم لأسف كانوا طرائق قدداً !!
التلخيص لوجوه التخليص:
يقول ابن حزم ت 456 هـ وقد عاصر ملوك الطوائف في كتابه: التلخيص لوجوه التخليص: "وأما في زماننا هذا وبلادنا هذه؛ فإنما هو باب أغلق عينيك، واضرب بيديك، ولك ما تجمع؛ إما ثمرة، وإما جمرة! وإنما فرقت بين زماننا هذا، والزمان الذي قبله؛ لأن الغلات في أيام الهدنة لم تكن حالتها ظاهرة؛ كما هي اليوم، والمغارم التي كان يقبضها السلاطين؛ فإنما كانت على الأرضين خاصة، فكانت تقرب مما فرض عمر على الأرض، وأما اليوم فإنما هي جزية على رؤوس المسلمين يسمونها بالقطيع، ويؤدونها مشاهير مشاهرة وضريبة على أموالهم من الغنم، والبقر، والدواب، والنحل، يرسم على كل ما يباع في الأسواق، وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في بعض البلاد. هذا كل ما يقبضه المتغلبون اليوم، وهذا هو هتك الأستار، ونقض شرائع الإسلام، وحل عراه عروة عروة،وإحداث دين جديد، والتخلي من الله عز وجل، والله لو يعلمون أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون بالنصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين، وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما يحمونهم عن حريم الأرض وحسرهم معهم آمنين، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم، وسلط عليهم سيفاً من سيوفه"
وثيقة تاريخية هامة:
الأنموذج الثاني: سقوط آخر معقل للمسلمين في الأندلس:
هناك وثيقة تاريخية في غاية الأهمية وتعتبر من أقدم الوثائق التاريخية التي وصلت إلينا تتكلم عن آخر أخبار المسلمين في الأندلس وكيف سقط آخر حصن لهم هناك حيث أعاد نشر هذه الوثيقة وحققها الدكتور محمد رضوان الداية، وهي عبارة عن كتاب بعنوان (نبذة العصر في أخبار ملوك بني نصر) تأليف مجاهد مجهول من المقاومة الإسلامية في غرناطة (من سنة 900هـ إلى 1000هـ) طبعة دار الفكر بدمشق عام 1423هـ .. وقد كشف هذا المؤلف المجهول الذي كان شاهد عيان حيث شارك في بعض المعارك الأخيرة ضد الصليبين.. والكتاب أشبه بالمذكرات الشخصية، والمدونات اليومية حيث عاصر آخر أيام دولة بني الأحمر (بني نصر) ملوك غرناطة ونهاية دولتهم .. والكتاب بالإضافة إلى أنه وثيقة تاريخية هامة إلا أنه أيضاً مرثية مأساوية حزينة باكية تفتت لها الأكباد وتنخلع من هولها القلوب التي في الصدور!!
نستعرض من خلال هذه الوثيقة ما ذكره هذا المجاهد المجهول عبر الواقعات التالية:
يذكر المؤلف حادثة في غاية الحسرة والأسف والهوان والخذلان تعتبر بحق أنموذجاً للعمالة السافرة مع أعداء الأمة لنعرف لماذا سقطت ديار الإسلام في أيدي أعداء الأمة لأنها سورة مكررة!!
(أ) (الأمير محمد بن سعد يبايع ملك قشتالة، ويساعده مع قواده) لتطويع ما بقي من بلاد المسلمين، صفر 895هـ: "ثم خرج الأمير محمد بن سعد من مدينة وادي آش تابعاً لصاحب قشتالة، فلما لحقه بايعه ودخل في ذمته، وتحت طاعته؛ على أن يعطيه مدينة وادي آش، وكل مدينة وحصن وقرية كانت تحت طاعته وحكمه؛ فأجابه إلى مطلبه، ورجع معه إلى وادي آش؛ وهو فرح مسرور. فدخلها، العدو وقبض قصبتها، واستولى عليها في العشر الأول من شهر صفر عام خمسة وتسعين وثمان مائة. ودخل في ذمته جميع فرسان الأمير محمد بن سعد وجميع قواده، وصاروا له عوناً على المسلمين، وطوعوا له جميع البلاد والقرى والحصون التي كانت تحت طاعتهم من دينة المرية إلى مدينة المنكَّب، ومن مدينة المنكب إلى قرية البذول. فقبض صاحب قشتالة ذلك كله من غير قتال ولا حصار ولا تعب ولا نصب؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. وجعل في كل قصبة قائداً نصرانيا، مع جماعة من النصارى، يحكم في ذلك الموضع. وفي هذا الشهر خلصت جميع بلاد الأندلس لصاحب قشتالة، ودخلت تحت طاعته وتدجّن جميع أهلا؛ ولم يبق للمسلمين في الأندلس غير مدينة غرناطة وما حولها من القرى خاصة."
هكذا باع الأمير الملقب بالزغل دينه بثمن بخس لصاحب قشتالة فرنناندو!! فسقط وسقطت غرناطة من جراء خيانته وخلافه مع ابن أخيه!! وقد ذكر المؤلف ما تردد في حينه عن سبب قدوم الأمير محمد بن سعد (الزغل) على بيعة فرناندو والدخول في طاعته!! "وزعم كثير من الناس أن الأمير محمد بن سعد وقواده باعوا من صاحب قشتالة هذه القرى والبلاد التي كانت تحت طاعتهم، وقبضوا منه ثمنها، وذلك على وجه الفرصة والانتقام من ولد أخيه الأمير محمد بن علي وقواده لأنهم كانوا في غرناطة، ولم يكن تحت طاعته غيرها؛ وكان في صلح العدو، فأراد بذلك قطع علائق غرناطة لتهلك كما هلك غيرها!!"
مرثية حزينة لنهاية المسلمين في الأندلس:
يحكي لنا صاحب (نبذة العصر في أخبار ملوك بني نصر) عن سقوط غرناطة وعن نقض فرناندو شروط الصلح التي أبرمها مع المسلمين؛ بكل حسرة وتأسف عن أفول شمس الإسلام في الأندلس:
"فلما رأى ملك الروم أن الناس قد تركوا الجواز وعزموا على الدجن والاستيطان والمقام في الأوطان، أخذ في نقض الشروط، التي شرطوا عليه أول مرة، ولم يزل ينقضها شرطاً شرطاً، ويحلها فصلاً فصلاً إلى أن نقض جميعها. وزالت حرمة الإسلام وأدركهم الهوان والذلة، واستطال النصارى عليهم وفرضت عليهم الفروضات، وثقلت عليهم المغارم؛ وقطع لهم الأذان من الصوامع، وأمرهم بالخروج من مدينة غرناطة إلى الأرباض والقرى"
ويسترسل في مرثيته الحزينة: "فخرجوا أذلة صاغرين ثم بعد ذلك دعاهم إلى التنصر وأكرههم عليه، وذلك سنة أربع وتسع مائة، فدخلوا في دينه كرهاً، وصارت الأندلس كلها نصرانية. ولم يبق من يقول فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهراً، إلا من يقولها في نفسه وفي قلبه، أو خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الأذان، وفي مساجدها الصور، والصلبان بعد ذك الله تعالى وتلاوة القرآن! فكم فيها من عين باكية، وكم فيها من قلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعدومين لم يقدروا على الهجرة واللحوق بإخوانهم المسلمين! قلوبهم تشتعل ناراً، ودموعهم تسيل سيلاً غزيرً مريراً. وينظرون أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان، ويسجدون للأوثان، ويأكلون الخنزير والميتات، ويشربون الخمر التي هم أم الخبائث والمنكرات. فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم ولا على زجرهم. ومن فعل ذلك عوقب أشد العقاب! فيا لها من فجيعة ما أمرّها، ومن مصيبة ما أعظمها وأضرها، وطامة ما أكبرها!"
ثم يختم كتابه قائلاً:
"وعمّ الكفر جميع القرى والبلدان وانطفأ من الأندلس نور الإسلام والإيمان! فعلى هذا فليبك الباكون ولينتحب المنتحبون. فإنا لله وإليه راجعون! كان ذلك في الكتاب مسطوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. لا مردّ لأمره، ولا معقب لحكمه، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً"
أقول: إنه بحق كتاب جدير بالقراءة والدراسة أيضاً.. وقد استبان لنا أن الأسرة الحاكمة من بني الأحمر قد تنازعوا فيما بينهم ومزقوا البلاد شر ممزق وكل أفراد الأسرة كانوا يتآمرون مع صاحب قشتالة الصليبي فضاعت الأندلس بسبب هذا الصراع الداخلي على الملك بل إن البداية الحقيقة لهذه النهاية المأساوية لملوك بني الأحمر في الأندلس بدأت من اختراق النصارى للبيت السلطاني ثم أسر الأمير محمد بن علي الملقب أبي عبد الله الصغير في موقعة اللسانة سنة 888 هـ الذي أبقى عليه النصارى وشحنوه وحرضوه على عمه (الزغل) وأمدوه ومكنوه من الاستيلاء على غرناطة وصار ألعوبة في أيديهم ثم مارسوا نفس اللعبة على عمه وكانت النتيجة أن الأميرين كانا يتنافسان أيهما أكثر عمالة لفرناندو! فكانت النتيجة المأساوية سقوط مدينة مالقة عام 892 هـ، ثم مدينة بسطة سنة 894 هـ .. وهكذا سقطت القرى والمدن الإسلامية بالأندلس كانهيار المتواليات الهندسية! رغم أنه لو اعتصم أمراء بني الأحمر بحبل الله ولم يتفرقوا لما استطاع العدو الصليبي (فرناندو) أن يهزمهم ولربما جاءهم المدد من بلاد المشرق فيما بعد لأنه بسقوط مدينة بسطة 894 هـ يكون فرناندو قد قطع خطوط الإمدادات التي كانت تأتيهم من بلاد المغرب والمشرق!! كل ذلك من جراء هذا الأمير الخائن وذاك الأمير المتآمر.. فضاعت الأندلس وصارت صفحة مطوية منسية في زمان التاريخ..
ثم انقضت تلك السنون *** وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
خامساً: الدولة العباسية: (من 132 هـ إلى 923هـ):
لقد قسم المؤرخون مدة الخلافة إلى أربعة عصور رئيسية هي:
العصر العباسي الأول: يمتد في الفترة من 132 إلى 232 هـ.
العصر العباسي الثاني: يمتد في الفترة من 232 إلى 590 هـ.
العصر العباسي الثالث: يمتد في الفترة من 590 إلى 656 للهجرة.
العصر العباسي الرابع والأخير في مصر حتى سنة 923هـ وتحولها بالغلبة إلى العثمانيين.
سنحاول أن نعلق على حادثتين فقط من تاريخ هذه الدولة لتعضيد وجهة نظرنا:
الحادثة الأولى: مقتل الخليفة المتوكل سنة 247هـ:
لقد كان أول خليفة في تاريخ الإسلام يقتله ابنه بمعاونة حرسه وبطانته الخاصة بل إن منصب الخلافة صار صورياً بعد مقتل الخليفة المتوكل على الله جعفر بن الخليفة المعتصم بن الخليفة هارون الرشيد وطفق الناس يتهكمون على الخليفة الحبيس في قصره رغم أن كل المراسيم تختم باسمه والدعاء له! ومن ذلك قول الشاعر:
خليفة في قفص ** بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له ** كما تقول الببغا
ويعتبر العصر العباسي الثاني عصر تسلط الأمراء على شخص ومنصب الخليفة مما أدى إلى ظهور البدع وشيوع الصراع والفوضى في العالم الإسلامي مثل حركة الزنج في البصرة، والقرامطة ثم ظهور العبيدين الذي حكموا نصف العالم الإسلامي قرابة قرنين ونصف وكانت فلسطين يوم أن احتلها الصليبيون تحت أيديهم!!
أما بالنسبة للخليفة المتوكل ناصر السنة وقامع أهل البدع والضلال على اختلاف مشاربهم فقد كان شوكة في حلوق هذه الفرق الضالة لذلك لا عجب عندما نقرأ في كتبهم (معتزلة/شيعة/أهل كتاب/زنادقة الإسلام الجدد) هجوماً وتشويهاً لسيرة هذا الخليفة العباسي.. ونظراً لأن أباه الخليفة المعتصم بالله العباسي ت 218 هـ قد أكثر من الجند الأعاجم الذي دخلوا في الإسلام وكثير منهم حسن إسلامه وكانوا عوناً قوياً لنصرة الخلفاء طالما كانوا جنوداً لكن لما استوزرهم وأدخلهم بيت الخلافة، واطلعوا على أسرار الخلافة!! ومن ثم صاروا هم المتنفذين في شؤون الدولة المترامية الأطراف، فهم أنفسهم الذين أوغلوا صدر ابن الخليفة المقلب بالمنتصر على أبيه وأخيه المعتز لأمور يطول شرحها.. وكان لهذا الابن الذي صار خليفة فيما بعد هوى مع الشيعة وقد أشار بطريق غير مباشر إلى ذلك بعض المؤرخين الحفاظ الكبار كالذهبي، وابن كثير، وابن القيم، والسيوطي.. ففي ترجمة الخليفة المتوكل على الله جعفر يقول السيوطي في تاريخه:"بويع له في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، بعد الواثق، فأظهر الميل إلى السنة، ونصر أهلها، ورفع المحنة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وذلك في سنة أربع وثلاثين، واستقدم المحدثين إلى سامرا، وأجزل عطاياهم وأكرمهم،وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية، وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة (..) وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور، (..)، وتوفر دعاء الخلق للمتوكل، وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم له، حتى قال قائلهم الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتل أهل الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السنة وإماتة التجهم"
وقد نقل السيوطي شعر أبي بكر بن الخبازة في مدح الخليفة المتوكل:
وبعدُ فإن السنة اليوم أصبحت ** معززةً حتى كأنْ لم تذلل
تصول وتسطو إذ أقيم منارها ** وحُطَّ منارُ الإفك والزور من عل
وولى أخو الإبداع في الدين هارباً ** إلى النار يهوي مدبراً غير مقبل
شفى الله منهم بالخليفة جعفر ** خليفته ذي السنة المتوكل
وجامع شمل الدين بعد تشتتٍ ** وفاري رؤوس المارقين بمنصل
الخليفة المتوكل يأمر يهدم قبر الحسين رضي الله عنه:
ولمعرفة سر كراهية الشيعة للخليفة المتوكل نسوق هذا الخبر الذي ذكره ابن كثير في تاريخه: "ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائتين: وفيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهبت به إلى المطبق (أي السجن)، فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك مزرعة تحرث وتستغل"
بالطبع لم يعجب ذلك القرار الحافظ السيوطي المعروف بميوله الصوفية رغم إشادته بمعظم مواقف المتوكل!! حيث قال في تاريخه متهما المتوكل بالتعصب: "وان المتوكل معروفاً بالتعصب، فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء"
أقول: لقد تعصب السيوطي لصالح القبوريين حيث أوهم القارئ أن أهل بغداد جميعاً قد كتبوا على الحيطان عبارات تشتم الخليفة المتوكل!! والحقيقة أن شيعة بغداد وبعض شعرائهم هم الذين كانوا يسبون الخليفة في السر لأنه انتصر لأهل الحق وقمع أهل البدع والضلال! لذلك نجد أن السيوطي بعد مقتل المتوكل وعند ترجمته للخليفة الجديد قاتل أبيه الملقب بالمنتصر يقول في حقه: "محسناً إلى العلويين، وصولاً لهم، أزال عن آل طالب ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين، ورد على آل الحسين فدك"
أقول: هكذا انكشف المخبوء واتضح لنا أن ابن الخليفة كان مخترقاً من قبل الشيعة الذي سمموا أفكاره وأفسدوا عقيدته مما دفعه للانتقام من أبيه بزعم أن أباه كان يريد أن يولي أخاه المعتز بدلا ًمنه ومن ثم نجده هذا الخليفة قاتل أبيه يهدم ما شيده أبوه ويعيد البدع كما كنت من قبل بل ويأمر بحمايتها!! ومن رحمة الله تعالى أن الخليفة المنتصر قاتل أبيه لم ينعم بالملك طويلاً فقد مات بعد ستة أشهر من ولايته!!
وإليك هذه الحادثة أيضاً:
الخليفة المتوكل يأمر بضرب رجل سب أبا بكر وعمر وعائشة (رضي الله عنهم):
قال ابن كثير في أحداث إحدى وأربعين ومائتين: "وفيها أمر الخليفة المتوكل على الله بضرب رجل من أعيان أهل بغداد يقال له: عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم، فضرب ضرباً شديداً مبرحاً يقال: إنه ضرب ألف سوط حتى مات، وذلك أنه شهد عليه سبعة عشر رجلاً عند قاضي الشرقية أبي حسان الزيادي أنه يشتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم، فرفع أمره إلى الخليفة، فجاء كتاب الخليفة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسن نائب بغداد يأمره أن يضربه بين الناس حد السب، ثم يضرب بالسياط حتى يموت، ويلقى في دجلة، ولا يصلى عليه ليرتدع بذلك أهل الإلحاد والمعاندة، ففعل ذلك قبحه الله ولعنه، ومثل هذا يكفر إن كان قد قذف عائشة بالإجماع، وفي من قذف سواها من أمهات المؤمنين قولان، والصحيح أنه يكفر أيضاً لأنهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن"
ولم يكتف الخليفة المتوكل بمعاقبة أهل البدع كالمعتزلة والشيعة الذين يسبون الصحابة رضوان الله عليهم؛ فقد وقف بحزم أيضاً لتجاوزات أهل الذمة ومن يوالونهم من المسلمين وفي ذلك يقول ابن القيم: "وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناساً لا رأي لهم ولا روية يستهينون بأهل الذمة في أفعالهم، ويتخذونهم بطانة من دون المسلمين، ويسلطونهم على الرعية فيسعفونهم، ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغشمهم، والعدوان عليهم، فأعظم أمير المؤمنين ذلك وأنكره وأكبره وتبرأ إلى الله منه، وأحب التقرب إلى الله تعالى بحسمه والنهي عنه، ورأى أن يكتب إلى عماله على الكور والأمصار وولاة الثغور والأجناد في ترك استعمالهم للذمة في شئ من أعمالهم وأمورهم، والإشراك لهم في أماناتهم وما قلدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إياه، وجعل في المؤمنين الثقة في الدين والأمانة على إخوانهم المؤمنين، وحسن الرعاية لما استرعاهم، والكفاية لما استكفوا، والقيام بما حملوا، ما أغنى عن الاستعانة بالمشركين بالله، المكذبين برسله، الجاحدين لآياته، الجاعلين معه إلهاً آخر، لا إله إلا هو وحده لا شريك له" .
هكذا كان الخليفة المتوكل يقظاً للجبهة الداخلية وحاول خلال فترة حكمه أن يطهر تلك الجبهة في الوقت الذي كانت جيوشه تخوض حروباً مع الروم وتدافع عن يغور دولة الإسلام.. وكانت الروم تخشاه وتهابه!! لكن رغم كل ذلك فإن مشروع الخليفة المتوكل في توحيد الجبهة الداخلية والقضاء على الطابور الخامس الذي كان بمثابة سوس ينخر جسد الأمة ويقوض دعائمها للأسف لم يكتمل بسبب أن هذا السوس كان قد وصل لبيت الخليفة نفسه ولأقرب المقربين منه؛ ابنه وبعض قواده الذين غافلوه وقتلوه، وفتحوا باباً من الشر على الأمة لم يلتئم بعد حيث قتلوا آخر الخلفاء الكبار في الدولة العباسية وبمقتله انتهى العصر الذهبي للدولة العباسية! وبدأ عصر الخلفاء الضعاف الذي انتهى بمأساة بغداد سنة 656 هـ!!
الحادثة الثانية: مقتل الخليفة العباسي المستعصم بالله سنة 656هـ:
هذا الخليفة أنموذج للخلفاء ضعاف الرأي؛ فقد تم اختباره من قبل الدويدار والشرابي؛ وزيري أبيه الخليفة المستنصر (ت 640 هـ)، خشية أن يتولى عمه (الخفاجي) وكان شجاعاً وذا رأي يريد أن يقضي على التتار في معقلهم لكن لا تأتي الرياح بما تشتهيه السفن! ويحدثنا عن هذا الخلل الجسيم والداء العضال قطب الدين اليونيني في ترجمة الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين في العراق: "كان متديناً، متمسكاً بالسنة كأبيه وجده، ولكنه لم يكن مثلهما في التيقظ والحزم وعلو الهمة، وكان للمستنصر أخ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في الشجاعة والشهامة، وكان يقول: إن ملكني الله الأمر لأعبرن بالجيوش نهر جيحون،وأنتزع البلاد من التتار وأستأصلهم، فلما توفي المستنصر لم ير الدويدار والشرابي والكبار تقليد الخفاجي الأمر، وخافوا منه، وآثروا المستعصم للينه وانقياده؛ ليكون لهم الأمر، فأقاموه، ثم ركن المستعصم إلى وزيره مؤيد الدين العلقمي الرافضي، فأهلك الحرث والنسل"
ابن العلقمي: يقول عنه الذهبي "ابن العلقمي البغدادي، الرافضي، وزير المستعصم: وكانت دولته أربع عشرة سنة، فأفشى الرفض، فعارضه السنة، وأُكبت، فتنمر، ورأى أن هولاكو على قصد العراق، فكاتبه وجسّره، وقوي عزمه على قصد العراق، ليتخذ عنده يداً، وليتمكن من أغراضه، وحفر للأمة قليباً، فأوقع قريباً، وذاق الهوان، وبقي يركب كديشاً وحده، بعد أن كانت ركبته تضاهي موكب سلطان، فمات غبناً وغماً، وفي الآخرة أشد خزياً وأشد تنكيلاً"
وقد قام هذا العلقمي الخائن بتسريح معظم جيش الخلافة ليسهل مهمة هولاكو اجتياح بغداد!! ففي رواية للذهبي: "ثم استوزر (يقصد المستعصم) المؤيد بن العلقمي الرافضي، فأهلك الحرث والنسل، وحسنّ له جمع الأموال، وأن يقتصر على بعض العساكر، فقطع أكثرهم، وكان يلعب بالحمام"
ابن العلقمي يخدع الخليفة: "وقيل بل أتى هولاكو البلد من الجانب الشرقي، فأشار الوزير على الخليفة بالمداراة، وقال (العلقمي) أخرج إليه أنا. فخرج واستوثق لنفسه، وردّ، فقال: القان راغب في أن يزوج بنته بابنك أبي بكر، ويبقي لك منصبك كما أبقى صاحب الروم في مملكته من تحت أوامر القان، فاخرجْ إليه. فخرج في كبراء دولته للنكاح يعني، فضرب أعناق الكل بهذه الخديعة، ورفس المستعصم حتى تلف، وبقي السيف في بغداد بضعة وثلاثين يوماً فأقل ما قيل: قتل بها ثمان مائة ألف نفس، وأكثر ما قيل: بلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف، وجرت السيول من الدماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون"
وخربت بغداد وقتل أهلها حتى قال شاعرهم:
بادتْ وأهلوها معاً فبيوتهم ** ببقاء مولانا الوزير خرابُ
وقال آخرون:
يا عصبة الإسلام نوحي واندبي ** حزناً على ما تم للمستعصم
دستُ الوزارة كان قبل زمانه ** لابن الفرات فصار لابن العلقم
ومن أحسن ما قيل في بغداد قصيدة لتقي الدين أبي اليسر نختار منها:
لسائل الدمع عن بغداد أخبارُ ** فما وقوفك والأحبابُ قد ساروا
يا زائرين إلى الزوراء لا تفدوا ** فما بذاك الحمى والدارُ ديّارُ
تاج الخلافة والربع الذي شرفتْ ** به المعالم قد عفّاه إقفارُ
أضحى لعصف البلى في ربعه أثرٌ ** وللدموع على الآثار آثارُ
يا نار قلبيَ من نار لحرب وغى ** شبت عليه ووافى الربعَ إعصارُ
علا الصليبُ على أعلى منابرها ** وقام بالأمر مَنْ يحويه زُنّارُ
وكم حريم سبته التركُ غاصبةً ** وكم من دون ذاك الستر أستارُ
وكم بدورٍ على البدرية انخسفت ** ولم يعد لبدور منه إبدارُ
وكم ذخائر أضحتْ وهي شائعة ** من النهاب وقد حازته كفارُ
وكم حدود أقيمت من سيوفهم ** على الرقاب وحُطتْ فيه أوزارُ
ناديتُ والسبيُ مهتوك تجرّ بهم ** إلى السّفاح من الأعداء دُعَّارُ
هكذا ضاعت حاضرة الإسلام بغداد وكأن الشاعر يتكلم عن اجتياح الأمريكان وحلفائهم بغداد عام 1423هـ الموافق 2003م نفس الخيانة وإن اختلفت الشخوص وتغيرت الأزمنة لكنه نفس المكان.. عاصمة الرشيد!! هكذا ضاعت بغداد ليس بقوة جيوش هولاكو فقط بل بخيانة بطانة السوء؛ ذلكم الداء العضال (العدو القريب)!!
سادساً: ابن تومرت الدجال الذي دمر دولة المرابطين السنية (453 هـ إلى 541 هـ):
ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدي المنتظر في زمانه اسمه أبو عبد الله محمد بن عبد الله المغربي السوسي المتوفى عام 534 هـ. وقد شكك بعض المؤرخين في اسمه حيث ذهب برفنسال في كتابه الإسلام في المغرب والأندلس أن ابن تومرت كان يتسمى باسم بربري.. وقد نقل هذا القول صاحب كتاب المهدي ابن تومرت وهو عبارة عن رسالة دكتوراه: "وقد ذهب برفنسال من الباحثين المحدثين إلى أن ابن تومرت كان يسمى باسم بربري بحت لم يستبدل به اسم محمد إلا في وقت متأخر تيمناً باسم الرسول صلى الله عليه وسلم"
أقول: رغم أن هذا الرأي لم يعجب الدكتور عبد المجيد النجار إلا أنني أرى أن هذا التشكيك في محله لأن ابن تومرت ادعى أنه المهدي المنتظر وقد قرأ بالفعل الأحاديث الواردة في اسم وصفة المهدي المنتظر ومن ثم زعم أن اسمه محمد ليوافق رواية (لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي)! وزعم أن أباه اسمه عبد الله ليوافق رواية أبي داود (اسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)!..
كما أن هناك خبراً في نظم الجمان تؤكد ما ذهبنا إليه حيث: "ذكر ابن القطان أنه كان يلقب في صغره حينما كان يقرأ في المكتب (بأسفو)، ومعنى اسفو بالبربرية الضياء لملازمة ايقاد القنديل في المسجد للقراءة والصلاة. أما ما اشتهر به من لقب المهدي فإنه لم يطلق عليه إلا حينما أظهر المهدية وبايعه الناس، وأطلق عليه حينئذ لقب الإمام المعصوم المهدي المعلوم"
فتوى أحد فقهاء المغرب في ابن تومرت وشيعته:
ويؤكد ما ذهبنا إليه؛ الونشريسي ت 914 هـ في المعيار المعرب في الرد على طائفة (جزناية) وهم من شيعة المهدي ابن تومرت ليستبين لنا تعاليم ابن تومرت وكذبه أن أباه اسمه عبد الله كما ورد في إجابة أحد فقهاء المغرب قديماً ننقل السؤال والجواب على النحو التالي:
"وسئل فقيه تازي ومفتيها الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد المؤمن رحمه الله عن طائفة جزناية من أخماس تازي، ونص السؤال من أوله إلى آخره: الحمد لله. سيدي رضي الله عنكم جوابكم في قوم فارقوا الجماعة ويكفرون المسلمين ولا يأكلون ذبائحهم ولا يصلون خلفهم ويقولون من لم يؤمن بالمهدي ابن تومرت فهو كافر ويفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويقولون من لم يعلم اثني عشر باباً من التوحيد فهو كافر، وينقضون الوضوء بلمس ذوات المحارم، ويقولون من حلق ما تحت اللحية فهو مجوسي. بينوا لنا الرد عليهم في ذلك وما يلزمهم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
فماذا أجاب الفقيه أبو عبد الله بن عبد المؤمن؟ نختار من هذه الإجابة المطولة الفقرة التالية: "وهؤلاء القوم الذين ذكرتم حرفوا ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال عليه السلام: (من كذب علي متعمداً فيتبوأ مقعده من النار). وجعلوا مكان المهدي حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن تومرت، فيقال لهم ناشدناكم الله هل المهدي بن تومرت بويع بين الركن والمقام؟ وقد أخبر عليه السلام بأن المهدي المعلوم يبايع بين الركن والمقام. ويقال لهم ناشدناكم الله هل المهدي بن تومرت بعث إليه بعث الشام فخسف بهم؟ فقد أخبر عليه السلام أن المهدي المعلوم يكون له ذلك. ويقال لهم ناشدناكم الله هل ابن تومرت سكن أنطاكية؟ فقد أخبر عليه السلام أن المهدي المعلوم يسكنها. ثم يقال لهم ناشدناكم الله هل ابن تومرت اسم أبيه على اسم النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالفرق بينهما من الوجوه التي ذكرناها أن المهدي المعلوم حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة، وابن تومرت ليس كذلك؛ والمهدي المعلوم يبايع بين الركن والمقام، وابن تومرت ليس كذلك؛ بل لم يكن إماماً وإنما كان الإمام عبد المؤمن بن علي؛ وأيضاً فإن المهدي المعلوم يملك العرب، وابن تومرت ليس كذلك؛ وأيضاً فإن المهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً فتكون إمامته على جميع الأقاليم كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن تومرت إنما كان بأرض المغرب؛ والمهدي المعلوم يسكن أنطاكية، وابن تومرت لم يسكنها؛ والمهدي المعلوم اسم أبيه على اسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم، وابن تومرت ليس كذلك؛ والمهدي المعلوم خلقه كخلق النبي صلى الله عليه وسلم من عترته، وابن تومرت ليس كذلك؛ والمهدي المعلوم يأتيه أبدال الشام وأهل العراق، وابن تومرت لم يكن له شئ من ذلك؛ وخلافة المهدي المعلوم قريبة من نزول عيسى عليه السلام (..) وأما تفضيلهم إياه على الصحابة فهو كفر صراح لأنه قد انعقد الاجماع من المسلمين على أن أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر، ثم تعارضت الظنون في عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. فهؤلاء خرقوا الاجماع، ومن خرق الاجماع فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل"
أقول: إذن فالمهدي ابن تومرت بربري ليس اسمه محمداً ولا اسم أبيه عبد الله!! بل ينتهي نسبه إلى قبيلة (هرغة) وهي بطن من بطون قبيلة (مصمودة) المشهورة ثم بعد كل هذا ينسب نفسه إلى ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم!
لقد استطاع هذا الدعي الدجال أن يخدع عامة الناس بورعه الكاذب ويؤلب العامة على دولة المرابطين بزعم أنه كان يجهر بتغيير المنكر ومن ثم شكل له أتباعاً ومريدين وبث تعاليمه السامة في أدمغتهم وكفر حكومة المرابطين وجمهور أهل السنة بزعم أنهم مجسمة يقولون (الله فوق السماء) نظراً لأن معتقد المرابطين هو معتقد أهل السنة في الأسماء والصفات ويعتقدون أن الله واحد لا شريك له؛ في السماء بائن من خلقه معهم بعلمه وإحاطته ونصرته وليس بذاته كما يزعم أهل الحلول والجهمية ومن دان بمعتقدهم! لذلك شن ابن تومرت حملة شعواء قاسية على المرابطين لأنهم ليسوا على معتقده في الأسماء والصفات وفي قضايا التوحيد!! فصار يتقرب بدمائهم ويحرض على قتلهم وخاصة بعد أن قابل تلميذه ابن عبد المؤمن بن علي ت 588 هـ الذي ناصر دعوته وأقام دولة الموحدين (515 هـ إلى 668 هـ) بعد سقوط دولة المرابطين.. الشاهد من هذا السرد أن غفلة حكام المرابطين على هذا المشروع التخريبي التآمري والتسامح معه وانشغالهم بحرب الفرنجة في الأندلس لأن دولتهم كانت كبيرة جداً من أقصى حوض النيجر إلى المغرب الأقصى وأطراف تونس إلى الأندلس وقشتالة إلى حدود جبال البرانس!! فقد كان هذا السوس (الداء العضال) العدو القريب ابن تومرت وعصابته ينخرون في جسد دولة المرابطين والدولة غافلة عنهم وتتعامل معهم برعونة!! وكانت المفاجأة قيام جيش جرار يلتهم ولايات المرابطين ولاية ولاية حتى أزالوهم عن مراكش ودخلوا الأندلس وتمزق ملك آل تاشفين وضاع حلم الفقيه عبد الله بن ياسين المؤسس لهذه الدولة السنية التي هزمت الصليبين الأسبان في الزلاقة سنة 479 هـ..
وهكذا انكسرت راية التوحيد الحق التي كانت بأيدي المرابطين!! وقامت دولة البدع والضلال المسماة (دولة الموحدين) التي أعملت السيف في أعناق أهل السنة واستباحت دماء الأبرياء وقتلت خلائق وجماعات من العلماء والقضاة والمفتين وأهل الخير والصلاح لأنهم لم يعتقدوا معتقدهم الأثيم ولم يؤمنوا بمذهب الموحدين الباطل ولا بعصمة المهدي الدجال ابن تومرت!!
وهناك رواية تعضد رأينا في خطورة العدو القريب وأن ضرر هذا العدو القريب فتاك إذا قوي واستحكم واستفحل أمره؛ نسوق هذه الواقعة:
المنصور الموحدي يمتنع عن نصرة صلاح الدين الأيوبي:
أمير دولة الموحدين (أبو يوسف بن يعقوب المنصور) المتوفى 595 هـ وهو أول من تلقب من أمراء الموحدين بلقب فاختار لقب المنصور!! وتسمى بأمير المؤمنين! لقد امتنع هذا الخليفة! عن نصرة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي وهو يطلب منه المدد لمواجهة جيوش الصليبين في المشرق!! لماذا امتنع عن نصرة صلاح الدين؟ لأنه كان ينظر إلى المسلمين المشارقة على أنهم وثنيون مجسمة مرتدون لا يجب مناصرتهم!! رغم أنه تعلل بأشياء تافهة كما ذكر بعض المؤرخين: "واعتقد (أي المنصور) أنه يستحق إمامة المسلمين في كل مكان وخلافتهم، ولذلك لم يتنازل بالرد على صلاح الدين الأيوبي رحمه الله عندما أرسل له رسالة مع رسول يطلب منه أن يمد المسلمين في بلاد الشام في صراعهم ضد الصليبين، واحتج بأن صلاح الدين لم يخاطبه بلقب أمير المؤمنين"
أقول كيف يخاطبه بأمير المؤمنين وفي عنق السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي بيعة للخليفة العباسي السني!! هذه علل واهية والحقيقة أن صاحب دولة الموحدين لم يستجب لرسالة واستغاثة صلاح الدين لأنه يعتبرهم كما قلنا آنفاً مجسمة مرتدين مخالفين له في المعتقد!!
سابعاً: الدولة العثمانية (699 هـ إلى 1342 هـ):
هذه الدولة أقامها وأرسى دعائمها على أساسي ديني على مذهب أهل السنة والجماعة عثمان غازي وابنه أورخان غازي وحفيده مراد الأول الملقب بالسلطان الشهيد الذي قضى سنوات حكمه (30 سنة) في الفتوحات وتوسيع مساحة الدولة لذلك يعده بعض من المؤرخين أول سلطان في الدولة العثمانية إذ أن والده أورخان وجده عثمان كان يلقبان بـ (بك).. ثم استكمل المسيرة من بعده بايزيد الأول الملقب بالصاعقة وبعض المؤرخين يعتبر بايزيد أول من حمل لقب سلطان بصفة رسمية في آل عثمان.. ثم جاء السلطان مراد الثاني والد السلطان محمد الثاني الملقب بالفاتح (فاتح القسطنطينية) و(الصرب) و(أثينا) (والبوسنة) و(قونية)، و(طرابزون)، و(أطراف سليفيكيا)، وشرع في الهجوم على إيطاليا وفتح (أوترانتو) وحاصر رودس!! وهكذا جدد العثمانيون شباب الإسلام بعد أن أفلت شمس الدين الحنيف في الأندلس!! وصار السلاطين العظام من آل عثمان يغزون ويفتحون بلاداً لم يدخل الإسلام فيها من قبل وصاروا يتحكمون في مصير العالم قرابة ستة قرون ما بين عصر ذهبي للسلاطين الكبار وعصر وسيط وعصور اضمحلال وضعف أو حسب ما أطلق على الدولة متأخراً (الرجل المريض)!!
محاولة لتشخيص أحد أمراض الأمة
بقلم د.هاني السباعي
hanisibu@hotmail.com
مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية
تقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم.
هذه مقالة نقدمها للشبيبة الإسلامية وللجيل الصاعد من أبناء هذه الأمة؛ نحاول من خلالها تسليط الضوء على عامل من ضمن تلكم العوامل التي كانت وراء الحالة المزرية التي تعيشها أمتنا الإسلامية في وقتنا المعاصر. هذا وإن كنا نتناول عاملاً واحداً فإننا في نفس الوقت لا نغفل العوامل الأخرى التي أوصلت أمتنا إلى هذا الهوان والصغار كعامل العدو الخارجي؛ العدو التقليدي للأمة مع عوامل متعلقة بهذا العامل الخارجي كالعامل الاقتصادي والعسكري والثقافي والأخلاقي إلى غير ذلك من عوامل أخرى مجتمعة ومتفرقة ومتراكمة عبر عصور أدت إلى ما وصلنا إليه من تيه وتشرذم وتحارب وضياع!
قال صاحب التحفة الحليمية: " إن الدول والأمم تشبه الأفراد من حيث تعرضها للأمراض، فالاختلافات الداخلية في الممالك تشبه الأمراض الباطنية. وأسبابها الحكام الجهلاء الظالمون، ودواؤها الحكام العادلون مع الحزم والعلم. والمشاكل الخارجية كالقروح الظاهرة في الأجسام، ودواؤها القوة واليقظة"
وبعد؛ فإننا نختار عاملاً واحداً لا يقل خطورة عن عامل العدو الخارجي ألا هو الخلل الذاتي في جسد الأمة أو ما يعبر عنه بالعدو القريب؛ أس الداء وأصل كل بلاء! فالأمة في حاجة لحملة تطهير ذاتي وتنظيف ما علق في جسدها من أدران، واجتثاث الأورام الخبيثة للحفاظ على البقية الباقية من جسد هذه الأمة كي تصل إلى مرحلة النقاهة؛ ومن ثم تستعيد عافيتها بشريعتها المفقودة وحينئذ تستطيع أن تواجه أعداءها وتنتصر عليهم بإذن ربها..
هذا ما سنتناوله في هذه المقالة عبر المحاور والنقاط التالية:
أولاً: استهلال شرعي.
ثانياً: إطلالة على غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: الخلاف الذي نشب بين الصحابة.
رابعاً: الأندلس.
خامساً: الدولة العباسية: (من 132 هـ إلى 923هـ).
سادساً: ابن تومرت الدجال الذي دمر دولة المرابطين السنية (453 هـ إلى 541 هـ).سابعاً: سابعاً: الدولة العثمانية.
ثامناً: معركة التل الكبير سنة 1299 هـ/ 1882م بين الجيش المصري والإنجليزي.
تاسعاً: زوال إمارة أفغانستان الإسلامية (طالبان) على يد قوات الاحتلال الأنجلوأمريكي عام 1421هـ/ 2001م.
عاشراً: احتلال عاصمة الرشيد عام 1423هـ/ 2003م.
حادي عشر: احتلال الصومال عام 1427هـ/ 2007م.
صفوة القول.
أولاً: استهلال شرعي:
(أ) ورد في كتاب الله العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(آل عمران:118).
قال ابن جرير في تفسيره: " يعنـي بذلك تعالـى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرّوا بـما جاءهم به نبـيهم من عند ربهم، { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ } يقول: لا تتـخذوا أولـياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم، يقول: من دون أهل دينكم وملتكم، يعنـي من غير الـمؤمنـين. وإنـما جعل البطانة مثلاً لـخـلـيـل الرجل فشبهه بـما ولـي بطنه من ثـيابه لـحلوله منه فـي اطلاعه علـى أسراره، وما يطويه عن أبـاعده وكثـير من أقاربه، مـحلّ ما ولـي جسده من ثـيابه، فنهى الله الـمؤمنـين به أن يتـخذوا من الكفـار به أخلاء وأصفـياء ثم عرّفهم ما هم علـيه لهم منطوون من الغشّ والـخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذّرهم بذلك منهم عن مخالّطتهم"
وقال القرطبي المتوفى سنة 671 هـ مسقطاً الآية على عصره: " قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبةً وأمناء وتَسوَّدُوا بذلك عند الجَهَلة الأغْبِياء من الوُلاة والأمراء. روى البخاريّ عن أبي سعيدٍ الخدرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث الله مِن نبيّ ولا استخلف مِن خليفةٍ إلاَّ كانت له بِطانتانِ بِطانة تأمره بالمعروف وتحضُّه عليه وبِطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه فالمعصوم من عَصَمَ اللَّهُ تعالى"
أقول: فما بلك بعصرنا الذي قدرنا أن نعيش الهوان ونتنفس انكسار أمتنا على أيدي هذه البطانية الخائنة!! فهذا تحذير قرآني صريح من اتخاذ بطانة من دون المؤمنين نحفظ بها أسرارنا خشية أن يطلعوا عليها أعداء الأمة وخاصة إذا كانت هذه البطانة ضمن دائرة الحكم ومن المقربين للحاكم وأصحاب النفوذ مع اقتناعنا بأن هؤلاء الحكام هم أنفسهم رأس الخيانة!!
(ب) وقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46).
(ج) وقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران:103) (د) وقوله تعالى جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:123).
ذكر الطبري: "يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله قاتلوا من وليَكم من الكفار دون من بعُد منهم، يقول لهم: ابدءوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم داراً دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ الروم، لأنهم كانوا سكان الشأم يومئذ، والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام، فإن اضطرّوا إليهم لزم عونهم ونصرهم، لأن المسلمين يد على من سواهم. ولصحة كون ذلك، تأوّل كل من تأوّل هذه الآية أن معناها إيجاب الفرض على أهل كلّ ناحية قتال من وليهم من الأعداء"
يقول ابن كثير:"أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولاً فأولاً، الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام، ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم، وفتح الله عليه مكة والمدينة والطائف واليمن واليمامة وهجر وخيبر وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجاً، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام؛ لأنهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك، ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال، وذلك سنة تسع من هجرته عليه السلام، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع، ثم عاجلته المنية صلوات الله وسلامه عليه بعد حجته بأحد وثمانين يوماً، فاختاره الله لما عنده، وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد مال الدين ميلة كاد أن ينجفل، فثبته الله تعالى به، فوطد القواعد، وثبت الدعائم، ورد شارد الدين وهو راغم، ورد أهل الردة إلى الإسلام، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغاة، وبين الحق لمن جهله، وأدى عن الرسول ما حمله، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان، وإلى الفرس عبدة النيران، ففتح الله ببركة سفارته البلاد، وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد، وأنفق كنوزهما في سبيل الله؛ كما أخبر بذلك رسول الله، وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده، وولي عهده الفاروق الأواب، شهيد المحراب، أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، وقمع الطغاة والمنافقين، واستولى على الممالك شرقاً وغرباً، وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعداً وقرباً، ففرقها على الوجه الشرعي، والسبيل المرضي، ثم لما مات شهيداً، وقد عاش حميداً، أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه شهيد الدار. فكسا الإسلام رياسة حلة سابغة، وامتدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة، فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمة الله، وظهر دينه، وبلغت الملة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها، وكلما علوا أمة، انتقلوا إلى من بعدهم، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار؛ امتثالاً لقوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ } وقوله تعالى: { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } أي: وليجد الكفار منكم غلظة في قتالكم لهم؛ فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقاً لأخيه المؤمن، غليظاً على عدوه الكافر؛ كقوله تعالى:( فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ )"
ويشخص لنا ابن كثير حال الأمة بعد القرون الأولى قائلاً: "وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة في غاية الاستقامة والقيام بطاعة الله تعالى، لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ولم تزل الأعداء في سفال وخسار، ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك، طمع الأعداء في أطراف البلاد، وتقدموا إليها، فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام، فأخذوا من الأطراف بلداناً كثيرة، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فكلما قام ملك من ملوك الإسلام، وأطاع أوامر الله، وتوكل على الله، فتح الله عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسبه، وبقدر ما فيه من ولاية الله. والله المسؤول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين، وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم، إنه جواد كريم"
وقال الألوسي في روح المعاني: " لأنه من المعلوم أنه لا يمكن قتال جميع الكفار وغزو جميع البلاد في زمان واحد فكان من قرب أولى ممن بعد، ولأن ترك الأقرب والاشتغال بقتال إلا بعد لا يؤمن معه من الهجوم على الذراري والضعفاء، وأيضاً الأبعد لا حد له بخلاف الأقرب فلا يؤمر به، وقد لا يمكن قتال إلا بعد قبل قتال الأقرب، وقال بعضهم: المراد قاتلوا الأقرب فالأقرب حتى تصلوا إلى الأبعد فالأبعد وبذلك يحصل الغرض من قتال المشركين كافة، فهذا إرشاد إلى طريق تحصيله على الوجه الأصلح. ومن هنا قاتل صلى الله عليه وسلم أولاً قومه ثم انتقل إلى قتال سائر العرب ثم إلى قتال قريظة. والنضير. وخيبر. وأضرابهم ثم إلى قتال الروم فبدأ عليه الصلاة والسلام بقتال الأقرب فالأقرب وجرى أصحابه على سننه صلى الله عليه وسلم إلى أن وصلت سراياهم وجيوشهم إلى ما شاء الله تعالى"
وهكذا نلاحظ أن آية سورة التوبة (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) تشير إلى صلب موضوعنا أنه لزام على المسلم ألا يغفل عن جبهته الداخلية وعن أعدائه القريبين لأن هذا مكمن الخطورة حيث ينشغل المسلمون في حرب ما مع عدو خارجي ثم يفاجأ المسلمون بخلل في جبهتهم الداخلية وأن هناك طابوراً خامساً يخرب بنية الأمة الداخلية وهذا ما حدث عبر حقب تاريخية متلاحقة مع الأسف الشديد!!
وهناك بعض الآيات تكلمت عن الردة بوجه عام سواء ردة الفرد أو الحاكم: (ج) )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) (آل عمران:90) (د)(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (النساء:137) (هـ) (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (آل عمران:86) (و)(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) (محمد:25) (ز) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة:54).
قال الدكتور أيمن الظواهري في شفاء صدور المؤمنين: "بل في حساب الإسلام وأصول الشريعة يقدم قتال الحكام المرتدين على غيرهم من الكفار الأصليين لثلاث أسباب:
الأول: أنه قتال دفع متعين وهو مقدم على قتال الطلب لأن هؤلاء الحكام المرتدين عدو تسلط على بلاد المسلمين؛ قال ابن تيمية: "أما قتل الدفع، فهو أشد أنواع دفع الصائل على الحرمة والدين، فواجب إجماعاً، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شئ أوجب بعد الإيمان من دفعه" (الاختيارات الفقهية ص309).
الثاني: أن المرتد أغلظ جرماً من الكفار الأصلي. قال ابن تيمية: "وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي" (الفتاوى 28/478). وقال أيضاً: "وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي" (الفتاوى 28/534). وقال أيضاً: والصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة بدؤوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه. وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة وإظهار الدين. وحفظ رأس المال مقدم على الربح" (الفتاوى 35/156_159).
الثالث: لأنهم العدو الأقرب. قال ابن قدامة (مسألة) ويقاتل كل قوم من يليهم. والأصل في هذا قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) التوبة. ولأن الأقرب أكثر ضرراً، وفي قتاله دفع ضرره عن المقابل له وعمن وراءه، والاشتغال بالبعيد عنه يمكنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه ـ إلى أن قال ـ إذا ثبت هذا فإن كان له عذر في البداية بالأبعد لكونه أخوف أو المصلحة في البداية به لقربه وإمكان الفرصة منه، أو لكون الأقرب مهادناً أو يمنع من قتاله مانع فلا بأس بالبداية بالأبعد لكونه موضع حاجة" (المغني مع والشرح الكبير ج10 ص372_373)" أقول: نعم هناك حالات استثنائية للبداية بقتال العدو الأبعد كما ذكر ابن قدامة لكون الجبهة الداخلية أو العدو القريب مأمون الجانب!! قد تكون هذه الصورة الاستثنائية مقبولة إلى حد ما في ظل دولة تحكم بالإسلام وتفرض سيطرتها على العدو القريب والأقرب!! أما في وقتنا المعاصر فإنه لا توجد دولة تحكم بالإسلام بالمعنى الحقيقي لكلمة الإسلام بالإضافة أن الذي يحكمون بلاد المسلمين هم أنفسهم العدو القريب والأقرب!! لذلك فإن أغلظ أنواع الردة هي ردة الحكام حيث إنه من المفترض فيهم أن يكونوا حماة لعقيدة الإسلام وحراساً لها من سهام المعتدين وزيغ المبطلين!! لكن الحقيقة أن الأمة ابتليت بمجموعة من الحكام المنسلخين عن دينهم الموالين للشيطان المعادين لأولياء الرحمن بل هم العقبة الكأداء أم تقدم شعوبهم للحكم بشريعة الإسلام الغراء وللدفاع عن مقدسات المسلمين السليبة التي اغتصبها أعداء الأمة بمباركة هؤلاء الحكام المتسلطين الخائنين! فبدل أن يكونوا رعاة خير يحمون بيضة الأمة ويذبون عن حياضها من ذئاب الشر الإنسية إذا هم أنفسهم الذئاب وبئس الذاب!
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها *** فكيف إذا الرعاة لها ذئاب
لكن قد يقول قائل إن كثيراً من بلاد المسلمين اليوم محتلة عن طريق العدو الخارجي مباشرة أو عن طريق الحكام المغتصبين للسلطة بمساعدة العدو الخارجي أيضاً.. فماذا عسانا أن نفعل حيث لا طاقة للأمة أن تقاتل على جبهتين في وقت واحد؟!
أقول: إننا بصدد تشخيص الحالة التي نعيشها والأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الذل والهوان بمعنى آخر نحن نقر أن بعض بلاد المسلمين محتلة احتلالاً مباشراً كفلسطين وكشمير والشيشان وأفغانستان والعراق والصومال.. وفي هذه الحالة كما هو مقرر في كتب الفقه أن العدو إذا حل ببلد إسلامي ففرض عين على أهل تلك البلد من القادرين على حمل السلاح أن يقاتل الأعداء المحتلين لبلاده .. وفي هذه الحالة فقد اجتمع عدوان في آن واحد؛ عدو خارجي غاز وعدو داخلي متسربل زوراً بالإسلام إذن فهما واحد واجتمعا في زمان ومكان واحد فيجب أن يعاملهم المسلم معاملة واحدة حيث صار العدو الداخلي منهم أي من أنصار العدو الخارجي المحتل المغتصب لبلد إسلامي بل هذا العدو القريب الداخلي هم أعين العدو الخارجي التي تحرسه وتتزلف إليه بالوشاية والتجسس على أماكن المجاهدين المدافعين عن ديارهم المغتصبة.. وصدق الله العلي القدير القائل في محكم التنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51) لكن السؤال هو من الذي تسبب في دخول القوات الغازية إلى ديار المسلمين؟ بالطيع هناك عوامل كثيرة من أهمها موضوع مقالتنا هذه وهو العدو الداخلي (القريب) وهم الأنظمة الحاكمة لبلاد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ نقصد بالطبع الحكام وأعوانهم! فكل هؤلاء الحكام صورة مستنسخة على نطاق واسع من أبي رغال ووالي عكا وابن العلقمي وإن اختلفت الأسماء والأزمنة!!
وهناك حديث ذكره مسلم في صحيحه في باب أشراط الساعة يبين أن مشكلة هذه الأمة تكمن في أنها لما ابتعدت عن كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم سلط الله عليه عدواً من أنفسهم (العدو القريب) يهلك بعضهم بعضاً!! والحديث في صورة خبر يستعرض حالة الأمة لكي يحذر أولو الألباب وأولو الأمر من الحكام والعلماء ممن شؤم الفرقة والتناحر!!
الحديث كما ورد في صحيح مسلم: "عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِىَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِى سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لِى مِنْهَا وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ وَإِنِّى سَأَلْتُ رَبِّى لأُمَّتِى أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَإِنَّ رَبِّى قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّى إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ وَإِنِّى أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِى بَعْضُهُمْ بَعْضًا ».
ثانياً: إطلالة على غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم:
لقد خاض الصحابة رضوان الله عليهم بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ستين معركة حربية ما بين غزوة وسرية، وقد أوصلها الحاكم إلى مائة كما ذكر ذلك ابن حجر في الفتح في شرحه لحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه عندما سئل (كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة)
وقاد الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه حوالي 28 غزوة كما جاء في مرويات السيرة النبوية.
الشاهد مما سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاض كل هذه المعارك سواء بنفسه أو من خلال تعيين قائد من أصحابه مع قومه وعشيرته باستثناء سرية مؤتة 8هـ، وغزوة تبوك 9 هـ، حيث كانتا موجهتين لقتال الروم وكان ذلك في المدينة المنورة. فإذا استعرضنا جانباً من الغزوات والسرايا سنجد معظمها موجهة إلى قريش وحلفائها من أهل الشرك ومن بعض القبائل المشركة التي كانت تحيط بالمدينة ولها تحالف أيضاً مع قريش! وقريش كما نعلم هم قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أعمامه وبنو عشيرته وهم الذين عاش وتربى معهم في فيافي وجبال مكة وربوعها وكذلك أصحابه رضوان الله عليهم! ولم ترد رواية صحيحة أو حتى ضعيفة أو موضوعة تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (لا يقتل القرشي القرشي)!! (ولا يقتل المكي المكي) (ولا يقتل المدني المدني)!! ولم يرد في رواية صحية أو حتى موضوعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (دم المكي مقدس وحرام)!! (ولم يقل دم المدني مقدس وحرام) ولم يرد أنه يرد في رواية صحيحة ولا موضوعة أن الرسول ذكر مصطلح (الوحدة الوطنية)!! التي حلت محل ولاء العقيدة في عصرنا المنكوب بعلمائه المنهزمين عقدياً!!
بل إننا نلاحظ أن الإسلام حرص على تطهير الصف الإسلامي المؤمن في غزوة أحد 3 هـ وقد أكد هذه الحقيقة القرآن الكريم في سورة التوبة (براءة) وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم كما أنها سورة مدنية تسمى أيضاً في كتب التفسير الفاضحة، والكاشفة، وسورة العذاب، والمقشقشة أي المبرئة من النفاق، وهي المبعثرة التي تفرق المنافقين وتشتت شملهم وتبعثر أسرارهم..
يقول سيد قطب ت 1387هـ رحمه الله في تقديمه لسورة براءة: " ثم يجيء المقطع الرابع في سياق السورة - وهو أطول مقاطعها، وهو يستغرق أكثر من نصفها - في فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم، ووصف أحوالهم النفسية والعملية، ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف، وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلص من المؤمنين. يصاحب هذا الكشف تحذير الخلصاء من المؤمنين من كيد المنافقين، وتحديد العلاقات بين هؤلاء وهؤلاء، والمفاصلة بين الفريقين وتمييز كل منهما بصفاته وأعماله . . وهذا القطاع يؤلف في الحقيقة جسم السورة؛ ويتجلى من خلاله كيف عاد النفاق بعد فتح مكة فاستشرى بعد ما كاد أن يتلاشى من المجتمع المسلم قبيل الفتح.
وهذه الحملة الطويلة الكاشفة تشي بما كان للمنافقين في هذه الفترة من محاولات كثيرة لإيذاء الصف المسلم وفتنته وشغله بشتى الفتن والدسائس والأكاذيب عن وجهته. كما أنها في الوقت ذاته تكشف عن حالة من الخلخلة وعدم التناسق في التكوين العضوي للمجتمع الإسلامي في هذه الفترة؛ يشير إليها قول الله سبحانه: (وفيكم سماعون لهم)كما يشير إليها النهي المشدد عن الاستغفار للمنافقين أو الصلاة عليهم . . هذه الحالة التي نشأت عن دخول جماعات كثيرة في الإسلام بعد الفتح لم يكن الإيمان قد استقر في قلوبهم، ولا كانوا قد انطبعوا بالطابع الإسلامي الصحيح"
هكذا نلاحظ أن سورة براءة عرت وفضحت الطابور الخامس في المجتمع المسلم وهم قطار المنافقين والزنادقة، وبعد نزول هذه السورة تطهرت الجبهة الداخلية للمجتمع الإسلامي ومن ثم كانت الانطلاقة الكبرى للفتوحات الإسلامية في أرجاء المعمورة!
ثالثاً: الخلاف الذي نشب بين الصحابة:
إنه الخلاف الشهير الذي نشب بين الصحابة رضوان الله عليهم بعد مقتل الخليفة المظلوم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ودور ابن سبأ الذي ادعى الإسلام في عهد أمير المؤمنين عثمان .. وحدثت المأساة والانقسام واتسع الخرق على الراقع! بمقتل السبط ؛ الحسين بن علي رضي الله عنه!! فاحتلبت الأمة دماً إلى وقتنا الحاضر! وكادت الجبهة الداخلية أن تقوض بفعلة ابن سبأ ومن شايعه وصار في فتنته!! فلولا لطف الله تعالى لكان قد قضي على الإسلام منذ نشوب أول خلاف حربي في معركتي الجمل 36هـ ، وصفين 37 هـ !! حيث إن الروم كانت في تلك الحقبة ممزقة وكانت تتهيب من المسلمين وقد حاولوا فعلاً انتهاز فرصة الخلاف بين المسلمين فأغاروا على تخوم الشام لكن محاولاتهم باءت بالفشل لأسباب يطول شرحها في هذا المقام.
رابعاً: الأندلس (92هـ إلى 897 هـ):
الأندلس؛ فردوس المسلمين المفقود الذي فتح عام 92 هـ لماذا ضاعت الأندلس؟ لماذا فقدت؟ لماذا ولماذا..؟ هناك العديد من الدراسات والأبحاث ذكرت مجموعة من الأسباب أدت إلى ضياع هذا البلد الذي كان غرة في جبين التاريخ على مدار ثمانية قرون! ذهبت كأن لم تغن بالأمس!
فعلى أية حال إذا سلطنا الضوء على عامل الجبهة الداخلية (العدو القريب) لتبين لنا أن المسلمين انهزموا في الأندلس داخلياً قبل أن يهزمهم العدو الخارجي الصليبي! ونجد ذلك واضحاً في دول الإسلام المتعاقبة في الأندلس وأقوى شاهد على تلك المراحل المخزية الأنموذجين التاليين:
الأنموذج الأول: دويلات الطوائف (422هـ ـ 487هـ):
فهذا العصر من أسود الحقب في صفحات تاريخ المسلمين في الأندلس حتى جاء العصر الحديث وضرب رقماً قياسياً لدويلات الطوائف (في العالم العربي) لتكون أرذل وأخس وأشأم حقبة مرة في تاريخ الإسلام حتى وقتنا الحاضر..
وقد امتد عصر ملوك الطوائف أكثر من نصف قرن وقسمت فيه الأندلس إلى عدد كبيرمن الدويلات الهزيلة وكانت كلها تدفع الجزية إلى طاغية قشتالة (ألفونسو السادس).. وقد كان الإسلام الجامع لكل هذه الأعراق والجنسيات تحت خليفة واحد..
وقد أدى بهم التشرذم إلى أن انقسموا إلى ثلاث قوى: عربية ـ بربرية ـ عامرية نسبة إلى أتباع الحاجب المنصور بن أبي عامر.. وكانت هذه الدويلات تدفع الجزية لملوك الأسبان دفعاً لشرهم وكانت تحارب بعضها بعضاً، وتستعين في كثير من الأحيان بجنود مرتزقة من الأسبان للتغلب على هذا الرئيس أو ذاك..
إن دويلات الطوائف كانت ثلاثاً وعشرين دويلة .. قريب عدد الدول العربية اليوم مثل: دويلة العامريين وأميرهم المعتصم بن صمادح.. ودويلة بني هود في سرقسطة.. ودويلة بني ذي النون في طليطلة.. ودويلة بين زيري في غرناطة.. ودويلة بني الأفطس في بطليوس.. لكن أشهروأكبر هذه الدويلات (دويلة بني عباد في إشبيلية) بل إنها أكثرهم أثراً في حياة الأندلس.. والعجيب أن هذه الدويلات اتخذت مظاهر الأبهة والفخامة للدول الكبرى من التلقب بألقاب الخلافة ومن الحجابة ورئاسة الوزراء.. وكانوا يقلدون الخلفاء الأمويين والعباسيين رغم البون الشاسع بين العزيز والذليل!!
وكما وصف لنا حالهم ابن رشيق القيرواني:
مما يزهدني في أرض أندلس *** ألقاب معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
وكادت الأندلس أن تسقط في أيدي ألفونسو الصليبي لولا فضل الله قذف في قلب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي استجاب لدعوة المعتمد بن عباد أمير إشبيلية فأرسل جيشا عظيما لنجدتهم وخاض معركة حاسمة في تاريخ الإسلام والأندلس في وادي الزلاقة سنة 479هـ واستطاع ابن تاشفين أن يجدد شباب الإسلام في الأندلس لأربعة قرون أخرى"
هكذا كان ملوك الطوائف يدفعون الجزية لألفونس رغم أنهم كانوا أقوى منه لو اجتمعوا على قلب رجل واحد لكنهم لأسف كانوا طرائق قدداً !!
التلخيص لوجوه التخليص:
يقول ابن حزم ت 456 هـ وقد عاصر ملوك الطوائف في كتابه: التلخيص لوجوه التخليص: "وأما في زماننا هذا وبلادنا هذه؛ فإنما هو باب أغلق عينيك، واضرب بيديك، ولك ما تجمع؛ إما ثمرة، وإما جمرة! وإنما فرقت بين زماننا هذا، والزمان الذي قبله؛ لأن الغلات في أيام الهدنة لم تكن حالتها ظاهرة؛ كما هي اليوم، والمغارم التي كان يقبضها السلاطين؛ فإنما كانت على الأرضين خاصة، فكانت تقرب مما فرض عمر على الأرض، وأما اليوم فإنما هي جزية على رؤوس المسلمين يسمونها بالقطيع، ويؤدونها مشاهير مشاهرة وضريبة على أموالهم من الغنم، والبقر، والدواب، والنحل، يرسم على كل ما يباع في الأسواق، وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في بعض البلاد. هذا كل ما يقبضه المتغلبون اليوم، وهذا هو هتك الأستار، ونقض شرائع الإسلام، وحل عراه عروة عروة،وإحداث دين جديد، والتخلي من الله عز وجل، والله لو يعلمون أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون بالنصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين، وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما يحمونهم عن حريم الأرض وحسرهم معهم آمنين، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم، وسلط عليهم سيفاً من سيوفه"
وثيقة تاريخية هامة:
الأنموذج الثاني: سقوط آخر معقل للمسلمين في الأندلس:
هناك وثيقة تاريخية في غاية الأهمية وتعتبر من أقدم الوثائق التاريخية التي وصلت إلينا تتكلم عن آخر أخبار المسلمين في الأندلس وكيف سقط آخر حصن لهم هناك حيث أعاد نشر هذه الوثيقة وحققها الدكتور محمد رضوان الداية، وهي عبارة عن كتاب بعنوان (نبذة العصر في أخبار ملوك بني نصر) تأليف مجاهد مجهول من المقاومة الإسلامية في غرناطة (من سنة 900هـ إلى 1000هـ) طبعة دار الفكر بدمشق عام 1423هـ .. وقد كشف هذا المؤلف المجهول الذي كان شاهد عيان حيث شارك في بعض المعارك الأخيرة ضد الصليبين.. والكتاب أشبه بالمذكرات الشخصية، والمدونات اليومية حيث عاصر آخر أيام دولة بني الأحمر (بني نصر) ملوك غرناطة ونهاية دولتهم .. والكتاب بالإضافة إلى أنه وثيقة تاريخية هامة إلا أنه أيضاً مرثية مأساوية حزينة باكية تفتت لها الأكباد وتنخلع من هولها القلوب التي في الصدور!!
نستعرض من خلال هذه الوثيقة ما ذكره هذا المجاهد المجهول عبر الواقعات التالية:
يذكر المؤلف حادثة في غاية الحسرة والأسف والهوان والخذلان تعتبر بحق أنموذجاً للعمالة السافرة مع أعداء الأمة لنعرف لماذا سقطت ديار الإسلام في أيدي أعداء الأمة لأنها سورة مكررة!!
(أ) (الأمير محمد بن سعد يبايع ملك قشتالة، ويساعده مع قواده) لتطويع ما بقي من بلاد المسلمين، صفر 895هـ: "ثم خرج الأمير محمد بن سعد من مدينة وادي آش تابعاً لصاحب قشتالة، فلما لحقه بايعه ودخل في ذمته، وتحت طاعته؛ على أن يعطيه مدينة وادي آش، وكل مدينة وحصن وقرية كانت تحت طاعته وحكمه؛ فأجابه إلى مطلبه، ورجع معه إلى وادي آش؛ وهو فرح مسرور. فدخلها، العدو وقبض قصبتها، واستولى عليها في العشر الأول من شهر صفر عام خمسة وتسعين وثمان مائة. ودخل في ذمته جميع فرسان الأمير محمد بن سعد وجميع قواده، وصاروا له عوناً على المسلمين، وطوعوا له جميع البلاد والقرى والحصون التي كانت تحت طاعتهم من دينة المرية إلى مدينة المنكَّب، ومن مدينة المنكب إلى قرية البذول. فقبض صاحب قشتالة ذلك كله من غير قتال ولا حصار ولا تعب ولا نصب؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. وجعل في كل قصبة قائداً نصرانيا، مع جماعة من النصارى، يحكم في ذلك الموضع. وفي هذا الشهر خلصت جميع بلاد الأندلس لصاحب قشتالة، ودخلت تحت طاعته وتدجّن جميع أهلا؛ ولم يبق للمسلمين في الأندلس غير مدينة غرناطة وما حولها من القرى خاصة."
هكذا باع الأمير الملقب بالزغل دينه بثمن بخس لصاحب قشتالة فرنناندو!! فسقط وسقطت غرناطة من جراء خيانته وخلافه مع ابن أخيه!! وقد ذكر المؤلف ما تردد في حينه عن سبب قدوم الأمير محمد بن سعد (الزغل) على بيعة فرناندو والدخول في طاعته!! "وزعم كثير من الناس أن الأمير محمد بن سعد وقواده باعوا من صاحب قشتالة هذه القرى والبلاد التي كانت تحت طاعتهم، وقبضوا منه ثمنها، وذلك على وجه الفرصة والانتقام من ولد أخيه الأمير محمد بن علي وقواده لأنهم كانوا في غرناطة، ولم يكن تحت طاعته غيرها؛ وكان في صلح العدو، فأراد بذلك قطع علائق غرناطة لتهلك كما هلك غيرها!!"
مرثية حزينة لنهاية المسلمين في الأندلس:
يحكي لنا صاحب (نبذة العصر في أخبار ملوك بني نصر) عن سقوط غرناطة وعن نقض فرناندو شروط الصلح التي أبرمها مع المسلمين؛ بكل حسرة وتأسف عن أفول شمس الإسلام في الأندلس:
"فلما رأى ملك الروم أن الناس قد تركوا الجواز وعزموا على الدجن والاستيطان والمقام في الأوطان، أخذ في نقض الشروط، التي شرطوا عليه أول مرة، ولم يزل ينقضها شرطاً شرطاً، ويحلها فصلاً فصلاً إلى أن نقض جميعها. وزالت حرمة الإسلام وأدركهم الهوان والذلة، واستطال النصارى عليهم وفرضت عليهم الفروضات، وثقلت عليهم المغارم؛ وقطع لهم الأذان من الصوامع، وأمرهم بالخروج من مدينة غرناطة إلى الأرباض والقرى"
ويسترسل في مرثيته الحزينة: "فخرجوا أذلة صاغرين ثم بعد ذلك دعاهم إلى التنصر وأكرههم عليه، وذلك سنة أربع وتسع مائة، فدخلوا في دينه كرهاً، وصارت الأندلس كلها نصرانية. ولم يبق من يقول فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهراً، إلا من يقولها في نفسه وفي قلبه، أو خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الأذان، وفي مساجدها الصور، والصلبان بعد ذك الله تعالى وتلاوة القرآن! فكم فيها من عين باكية، وكم فيها من قلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعدومين لم يقدروا على الهجرة واللحوق بإخوانهم المسلمين! قلوبهم تشتعل ناراً، ودموعهم تسيل سيلاً غزيرً مريراً. وينظرون أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان، ويسجدون للأوثان، ويأكلون الخنزير والميتات، ويشربون الخمر التي هم أم الخبائث والمنكرات. فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم ولا على زجرهم. ومن فعل ذلك عوقب أشد العقاب! فيا لها من فجيعة ما أمرّها، ومن مصيبة ما أعظمها وأضرها، وطامة ما أكبرها!"
ثم يختم كتابه قائلاً:
"وعمّ الكفر جميع القرى والبلدان وانطفأ من الأندلس نور الإسلام والإيمان! فعلى هذا فليبك الباكون ولينتحب المنتحبون. فإنا لله وإليه راجعون! كان ذلك في الكتاب مسطوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. لا مردّ لأمره، ولا معقب لحكمه، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً"
أقول: إنه بحق كتاب جدير بالقراءة والدراسة أيضاً.. وقد استبان لنا أن الأسرة الحاكمة من بني الأحمر قد تنازعوا فيما بينهم ومزقوا البلاد شر ممزق وكل أفراد الأسرة كانوا يتآمرون مع صاحب قشتالة الصليبي فضاعت الأندلس بسبب هذا الصراع الداخلي على الملك بل إن البداية الحقيقة لهذه النهاية المأساوية لملوك بني الأحمر في الأندلس بدأت من اختراق النصارى للبيت السلطاني ثم أسر الأمير محمد بن علي الملقب أبي عبد الله الصغير في موقعة اللسانة سنة 888 هـ الذي أبقى عليه النصارى وشحنوه وحرضوه على عمه (الزغل) وأمدوه ومكنوه من الاستيلاء على غرناطة وصار ألعوبة في أيديهم ثم مارسوا نفس اللعبة على عمه وكانت النتيجة أن الأميرين كانا يتنافسان أيهما أكثر عمالة لفرناندو! فكانت النتيجة المأساوية سقوط مدينة مالقة عام 892 هـ، ثم مدينة بسطة سنة 894 هـ .. وهكذا سقطت القرى والمدن الإسلامية بالأندلس كانهيار المتواليات الهندسية! رغم أنه لو اعتصم أمراء بني الأحمر بحبل الله ولم يتفرقوا لما استطاع العدو الصليبي (فرناندو) أن يهزمهم ولربما جاءهم المدد من بلاد المشرق فيما بعد لأنه بسقوط مدينة بسطة 894 هـ يكون فرناندو قد قطع خطوط الإمدادات التي كانت تأتيهم من بلاد المغرب والمشرق!! كل ذلك من جراء هذا الأمير الخائن وذاك الأمير المتآمر.. فضاعت الأندلس وصارت صفحة مطوية منسية في زمان التاريخ..
ثم انقضت تلك السنون *** وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
خامساً: الدولة العباسية: (من 132 هـ إلى 923هـ):
لقد قسم المؤرخون مدة الخلافة إلى أربعة عصور رئيسية هي:
العصر العباسي الأول: يمتد في الفترة من 132 إلى 232 هـ.
العصر العباسي الثاني: يمتد في الفترة من 232 إلى 590 هـ.
العصر العباسي الثالث: يمتد في الفترة من 590 إلى 656 للهجرة.
العصر العباسي الرابع والأخير في مصر حتى سنة 923هـ وتحولها بالغلبة إلى العثمانيين.
سنحاول أن نعلق على حادثتين فقط من تاريخ هذه الدولة لتعضيد وجهة نظرنا:
الحادثة الأولى: مقتل الخليفة المتوكل سنة 247هـ:
لقد كان أول خليفة في تاريخ الإسلام يقتله ابنه بمعاونة حرسه وبطانته الخاصة بل إن منصب الخلافة صار صورياً بعد مقتل الخليفة المتوكل على الله جعفر بن الخليفة المعتصم بن الخليفة هارون الرشيد وطفق الناس يتهكمون على الخليفة الحبيس في قصره رغم أن كل المراسيم تختم باسمه والدعاء له! ومن ذلك قول الشاعر:
خليفة في قفص ** بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له ** كما تقول الببغا
ويعتبر العصر العباسي الثاني عصر تسلط الأمراء على شخص ومنصب الخليفة مما أدى إلى ظهور البدع وشيوع الصراع والفوضى في العالم الإسلامي مثل حركة الزنج في البصرة، والقرامطة ثم ظهور العبيدين الذي حكموا نصف العالم الإسلامي قرابة قرنين ونصف وكانت فلسطين يوم أن احتلها الصليبيون تحت أيديهم!!
أما بالنسبة للخليفة المتوكل ناصر السنة وقامع أهل البدع والضلال على اختلاف مشاربهم فقد كان شوكة في حلوق هذه الفرق الضالة لذلك لا عجب عندما نقرأ في كتبهم (معتزلة/شيعة/أهل كتاب/زنادقة الإسلام الجدد) هجوماً وتشويهاً لسيرة هذا الخليفة العباسي.. ونظراً لأن أباه الخليفة المعتصم بالله العباسي ت 218 هـ قد أكثر من الجند الأعاجم الذي دخلوا في الإسلام وكثير منهم حسن إسلامه وكانوا عوناً قوياً لنصرة الخلفاء طالما كانوا جنوداً لكن لما استوزرهم وأدخلهم بيت الخلافة، واطلعوا على أسرار الخلافة!! ومن ثم صاروا هم المتنفذين في شؤون الدولة المترامية الأطراف، فهم أنفسهم الذين أوغلوا صدر ابن الخليفة المقلب بالمنتصر على أبيه وأخيه المعتز لأمور يطول شرحها.. وكان لهذا الابن الذي صار خليفة فيما بعد هوى مع الشيعة وقد أشار بطريق غير مباشر إلى ذلك بعض المؤرخين الحفاظ الكبار كالذهبي، وابن كثير، وابن القيم، والسيوطي.. ففي ترجمة الخليفة المتوكل على الله جعفر يقول السيوطي في تاريخه:"بويع له في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، بعد الواثق، فأظهر الميل إلى السنة، ونصر أهلها، ورفع المحنة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وذلك في سنة أربع وثلاثين، واستقدم المحدثين إلى سامرا، وأجزل عطاياهم وأكرمهم،وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية، وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة (..) وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور، (..)، وتوفر دعاء الخلق للمتوكل، وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم له، حتى قال قائلهم الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتل أهل الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السنة وإماتة التجهم"
وقد نقل السيوطي شعر أبي بكر بن الخبازة في مدح الخليفة المتوكل:
وبعدُ فإن السنة اليوم أصبحت ** معززةً حتى كأنْ لم تذلل
تصول وتسطو إذ أقيم منارها ** وحُطَّ منارُ الإفك والزور من عل
وولى أخو الإبداع في الدين هارباً ** إلى النار يهوي مدبراً غير مقبل
شفى الله منهم بالخليفة جعفر ** خليفته ذي السنة المتوكل
وجامع شمل الدين بعد تشتتٍ ** وفاري رؤوس المارقين بمنصل
الخليفة المتوكل يأمر يهدم قبر الحسين رضي الله عنه:
ولمعرفة سر كراهية الشيعة للخليفة المتوكل نسوق هذا الخبر الذي ذكره ابن كثير في تاريخه: "ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائتين: وفيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهبت به إلى المطبق (أي السجن)، فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك مزرعة تحرث وتستغل"
بالطبع لم يعجب ذلك القرار الحافظ السيوطي المعروف بميوله الصوفية رغم إشادته بمعظم مواقف المتوكل!! حيث قال في تاريخه متهما المتوكل بالتعصب: "وان المتوكل معروفاً بالتعصب، فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء"
أقول: لقد تعصب السيوطي لصالح القبوريين حيث أوهم القارئ أن أهل بغداد جميعاً قد كتبوا على الحيطان عبارات تشتم الخليفة المتوكل!! والحقيقة أن شيعة بغداد وبعض شعرائهم هم الذين كانوا يسبون الخليفة في السر لأنه انتصر لأهل الحق وقمع أهل البدع والضلال! لذلك نجد أن السيوطي بعد مقتل المتوكل وعند ترجمته للخليفة الجديد قاتل أبيه الملقب بالمنتصر يقول في حقه: "محسناً إلى العلويين، وصولاً لهم، أزال عن آل طالب ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين، ورد على آل الحسين فدك"
أقول: هكذا انكشف المخبوء واتضح لنا أن ابن الخليفة كان مخترقاً من قبل الشيعة الذي سمموا أفكاره وأفسدوا عقيدته مما دفعه للانتقام من أبيه بزعم أن أباه كان يريد أن يولي أخاه المعتز بدلا ًمنه ومن ثم نجده هذا الخليفة قاتل أبيه يهدم ما شيده أبوه ويعيد البدع كما كنت من قبل بل ويأمر بحمايتها!! ومن رحمة الله تعالى أن الخليفة المنتصر قاتل أبيه لم ينعم بالملك طويلاً فقد مات بعد ستة أشهر من ولايته!!
وإليك هذه الحادثة أيضاً:
الخليفة المتوكل يأمر بضرب رجل سب أبا بكر وعمر وعائشة (رضي الله عنهم):
قال ابن كثير في أحداث إحدى وأربعين ومائتين: "وفيها أمر الخليفة المتوكل على الله بضرب رجل من أعيان أهل بغداد يقال له: عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم، فضرب ضرباً شديداً مبرحاً يقال: إنه ضرب ألف سوط حتى مات، وذلك أنه شهد عليه سبعة عشر رجلاً عند قاضي الشرقية أبي حسان الزيادي أنه يشتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم، فرفع أمره إلى الخليفة، فجاء كتاب الخليفة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسن نائب بغداد يأمره أن يضربه بين الناس حد السب، ثم يضرب بالسياط حتى يموت، ويلقى في دجلة، ولا يصلى عليه ليرتدع بذلك أهل الإلحاد والمعاندة، ففعل ذلك قبحه الله ولعنه، ومثل هذا يكفر إن كان قد قذف عائشة بالإجماع، وفي من قذف سواها من أمهات المؤمنين قولان، والصحيح أنه يكفر أيضاً لأنهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن"
ولم يكتف الخليفة المتوكل بمعاقبة أهل البدع كالمعتزلة والشيعة الذين يسبون الصحابة رضوان الله عليهم؛ فقد وقف بحزم أيضاً لتجاوزات أهل الذمة ومن يوالونهم من المسلمين وفي ذلك يقول ابن القيم: "وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناساً لا رأي لهم ولا روية يستهينون بأهل الذمة في أفعالهم، ويتخذونهم بطانة من دون المسلمين، ويسلطونهم على الرعية فيسعفونهم، ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغشمهم، والعدوان عليهم، فأعظم أمير المؤمنين ذلك وأنكره وأكبره وتبرأ إلى الله منه، وأحب التقرب إلى الله تعالى بحسمه والنهي عنه، ورأى أن يكتب إلى عماله على الكور والأمصار وولاة الثغور والأجناد في ترك استعمالهم للذمة في شئ من أعمالهم وأمورهم، والإشراك لهم في أماناتهم وما قلدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إياه، وجعل في المؤمنين الثقة في الدين والأمانة على إخوانهم المؤمنين، وحسن الرعاية لما استرعاهم، والكفاية لما استكفوا، والقيام بما حملوا، ما أغنى عن الاستعانة بالمشركين بالله، المكذبين برسله، الجاحدين لآياته، الجاعلين معه إلهاً آخر، لا إله إلا هو وحده لا شريك له" .
هكذا كان الخليفة المتوكل يقظاً للجبهة الداخلية وحاول خلال فترة حكمه أن يطهر تلك الجبهة في الوقت الذي كانت جيوشه تخوض حروباً مع الروم وتدافع عن يغور دولة الإسلام.. وكانت الروم تخشاه وتهابه!! لكن رغم كل ذلك فإن مشروع الخليفة المتوكل في توحيد الجبهة الداخلية والقضاء على الطابور الخامس الذي كان بمثابة سوس ينخر جسد الأمة ويقوض دعائمها للأسف لم يكتمل بسبب أن هذا السوس كان قد وصل لبيت الخليفة نفسه ولأقرب المقربين منه؛ ابنه وبعض قواده الذين غافلوه وقتلوه، وفتحوا باباً من الشر على الأمة لم يلتئم بعد حيث قتلوا آخر الخلفاء الكبار في الدولة العباسية وبمقتله انتهى العصر الذهبي للدولة العباسية! وبدأ عصر الخلفاء الضعاف الذي انتهى بمأساة بغداد سنة 656 هـ!!
الحادثة الثانية: مقتل الخليفة العباسي المستعصم بالله سنة 656هـ:
هذا الخليفة أنموذج للخلفاء ضعاف الرأي؛ فقد تم اختباره من قبل الدويدار والشرابي؛ وزيري أبيه الخليفة المستنصر (ت 640 هـ)، خشية أن يتولى عمه (الخفاجي) وكان شجاعاً وذا رأي يريد أن يقضي على التتار في معقلهم لكن لا تأتي الرياح بما تشتهيه السفن! ويحدثنا عن هذا الخلل الجسيم والداء العضال قطب الدين اليونيني في ترجمة الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين في العراق: "كان متديناً، متمسكاً بالسنة كأبيه وجده، ولكنه لم يكن مثلهما في التيقظ والحزم وعلو الهمة، وكان للمستنصر أخ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في الشجاعة والشهامة، وكان يقول: إن ملكني الله الأمر لأعبرن بالجيوش نهر جيحون،وأنتزع البلاد من التتار وأستأصلهم، فلما توفي المستنصر لم ير الدويدار والشرابي والكبار تقليد الخفاجي الأمر، وخافوا منه، وآثروا المستعصم للينه وانقياده؛ ليكون لهم الأمر، فأقاموه، ثم ركن المستعصم إلى وزيره مؤيد الدين العلقمي الرافضي، فأهلك الحرث والنسل"
ابن العلقمي: يقول عنه الذهبي "ابن العلقمي البغدادي، الرافضي، وزير المستعصم: وكانت دولته أربع عشرة سنة، فأفشى الرفض، فعارضه السنة، وأُكبت، فتنمر، ورأى أن هولاكو على قصد العراق، فكاتبه وجسّره، وقوي عزمه على قصد العراق، ليتخذ عنده يداً، وليتمكن من أغراضه، وحفر للأمة قليباً، فأوقع قريباً، وذاق الهوان، وبقي يركب كديشاً وحده، بعد أن كانت ركبته تضاهي موكب سلطان، فمات غبناً وغماً، وفي الآخرة أشد خزياً وأشد تنكيلاً"
وقد قام هذا العلقمي الخائن بتسريح معظم جيش الخلافة ليسهل مهمة هولاكو اجتياح بغداد!! ففي رواية للذهبي: "ثم استوزر (يقصد المستعصم) المؤيد بن العلقمي الرافضي، فأهلك الحرث والنسل، وحسنّ له جمع الأموال، وأن يقتصر على بعض العساكر، فقطع أكثرهم، وكان يلعب بالحمام"
ابن العلقمي يخدع الخليفة: "وقيل بل أتى هولاكو البلد من الجانب الشرقي، فأشار الوزير على الخليفة بالمداراة، وقال (العلقمي) أخرج إليه أنا. فخرج واستوثق لنفسه، وردّ، فقال: القان راغب في أن يزوج بنته بابنك أبي بكر، ويبقي لك منصبك كما أبقى صاحب الروم في مملكته من تحت أوامر القان، فاخرجْ إليه. فخرج في كبراء دولته للنكاح يعني، فضرب أعناق الكل بهذه الخديعة، ورفس المستعصم حتى تلف، وبقي السيف في بغداد بضعة وثلاثين يوماً فأقل ما قيل: قتل بها ثمان مائة ألف نفس، وأكثر ما قيل: بلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف، وجرت السيول من الدماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون"
وخربت بغداد وقتل أهلها حتى قال شاعرهم:
بادتْ وأهلوها معاً فبيوتهم ** ببقاء مولانا الوزير خرابُ
وقال آخرون:
يا عصبة الإسلام نوحي واندبي ** حزناً على ما تم للمستعصم
دستُ الوزارة كان قبل زمانه ** لابن الفرات فصار لابن العلقم
ومن أحسن ما قيل في بغداد قصيدة لتقي الدين أبي اليسر نختار منها:
لسائل الدمع عن بغداد أخبارُ ** فما وقوفك والأحبابُ قد ساروا
يا زائرين إلى الزوراء لا تفدوا ** فما بذاك الحمى والدارُ ديّارُ
تاج الخلافة والربع الذي شرفتْ ** به المعالم قد عفّاه إقفارُ
أضحى لعصف البلى في ربعه أثرٌ ** وللدموع على الآثار آثارُ
يا نار قلبيَ من نار لحرب وغى ** شبت عليه ووافى الربعَ إعصارُ
علا الصليبُ على أعلى منابرها ** وقام بالأمر مَنْ يحويه زُنّارُ
وكم حريم سبته التركُ غاصبةً ** وكم من دون ذاك الستر أستارُ
وكم بدورٍ على البدرية انخسفت ** ولم يعد لبدور منه إبدارُ
وكم ذخائر أضحتْ وهي شائعة ** من النهاب وقد حازته كفارُ
وكم حدود أقيمت من سيوفهم ** على الرقاب وحُطتْ فيه أوزارُ
ناديتُ والسبيُ مهتوك تجرّ بهم ** إلى السّفاح من الأعداء دُعَّارُ
هكذا ضاعت حاضرة الإسلام بغداد وكأن الشاعر يتكلم عن اجتياح الأمريكان وحلفائهم بغداد عام 1423هـ الموافق 2003م نفس الخيانة وإن اختلفت الشخوص وتغيرت الأزمنة لكنه نفس المكان.. عاصمة الرشيد!! هكذا ضاعت بغداد ليس بقوة جيوش هولاكو فقط بل بخيانة بطانة السوء؛ ذلكم الداء العضال (العدو القريب)!!
سادساً: ابن تومرت الدجال الذي دمر دولة المرابطين السنية (453 هـ إلى 541 هـ):
ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدي المنتظر في زمانه اسمه أبو عبد الله محمد بن عبد الله المغربي السوسي المتوفى عام 534 هـ. وقد شكك بعض المؤرخين في اسمه حيث ذهب برفنسال في كتابه الإسلام في المغرب والأندلس أن ابن تومرت كان يتسمى باسم بربري.. وقد نقل هذا القول صاحب كتاب المهدي ابن تومرت وهو عبارة عن رسالة دكتوراه: "وقد ذهب برفنسال من الباحثين المحدثين إلى أن ابن تومرت كان يسمى باسم بربري بحت لم يستبدل به اسم محمد إلا في وقت متأخر تيمناً باسم الرسول صلى الله عليه وسلم"
أقول: رغم أن هذا الرأي لم يعجب الدكتور عبد المجيد النجار إلا أنني أرى أن هذا التشكيك في محله لأن ابن تومرت ادعى أنه المهدي المنتظر وقد قرأ بالفعل الأحاديث الواردة في اسم وصفة المهدي المنتظر ومن ثم زعم أن اسمه محمد ليوافق رواية (لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي)! وزعم أن أباه اسمه عبد الله ليوافق رواية أبي داود (اسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)!..
كما أن هناك خبراً في نظم الجمان تؤكد ما ذهبنا إليه حيث: "ذكر ابن القطان أنه كان يلقب في صغره حينما كان يقرأ في المكتب (بأسفو)، ومعنى اسفو بالبربرية الضياء لملازمة ايقاد القنديل في المسجد للقراءة والصلاة. أما ما اشتهر به من لقب المهدي فإنه لم يطلق عليه إلا حينما أظهر المهدية وبايعه الناس، وأطلق عليه حينئذ لقب الإمام المعصوم المهدي المعلوم"
فتوى أحد فقهاء المغرب في ابن تومرت وشيعته:
ويؤكد ما ذهبنا إليه؛ الونشريسي ت 914 هـ في المعيار المعرب في الرد على طائفة (جزناية) وهم من شيعة المهدي ابن تومرت ليستبين لنا تعاليم ابن تومرت وكذبه أن أباه اسمه عبد الله كما ورد في إجابة أحد فقهاء المغرب قديماً ننقل السؤال والجواب على النحو التالي:
"وسئل فقيه تازي ومفتيها الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد المؤمن رحمه الله عن طائفة جزناية من أخماس تازي، ونص السؤال من أوله إلى آخره: الحمد لله. سيدي رضي الله عنكم جوابكم في قوم فارقوا الجماعة ويكفرون المسلمين ولا يأكلون ذبائحهم ولا يصلون خلفهم ويقولون من لم يؤمن بالمهدي ابن تومرت فهو كافر ويفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويقولون من لم يعلم اثني عشر باباً من التوحيد فهو كافر، وينقضون الوضوء بلمس ذوات المحارم، ويقولون من حلق ما تحت اللحية فهو مجوسي. بينوا لنا الرد عليهم في ذلك وما يلزمهم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
فماذا أجاب الفقيه أبو عبد الله بن عبد المؤمن؟ نختار من هذه الإجابة المطولة الفقرة التالية: "وهؤلاء القوم الذين ذكرتم حرفوا ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال عليه السلام: (من كذب علي متعمداً فيتبوأ مقعده من النار). وجعلوا مكان المهدي حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن تومرت، فيقال لهم ناشدناكم الله هل المهدي بن تومرت بويع بين الركن والمقام؟ وقد أخبر عليه السلام بأن المهدي المعلوم يبايع بين الركن والمقام. ويقال لهم ناشدناكم الله هل المهدي بن تومرت بعث إليه بعث الشام فخسف بهم؟ فقد أخبر عليه السلام أن المهدي المعلوم يكون له ذلك. ويقال لهم ناشدناكم الله هل ابن تومرت سكن أنطاكية؟ فقد أخبر عليه السلام أن المهدي المعلوم يسكنها. ثم يقال لهم ناشدناكم الله هل ابن تومرت اسم أبيه على اسم النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالفرق بينهما من الوجوه التي ذكرناها أن المهدي المعلوم حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة، وابن تومرت ليس كذلك؛ والمهدي المعلوم يبايع بين الركن والمقام، وابن تومرت ليس كذلك؛ بل لم يكن إماماً وإنما كان الإمام عبد المؤمن بن علي؛ وأيضاً فإن المهدي المعلوم يملك العرب، وابن تومرت ليس كذلك؛ وأيضاً فإن المهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً فتكون إمامته على جميع الأقاليم كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن تومرت إنما كان بأرض المغرب؛ والمهدي المعلوم يسكن أنطاكية، وابن تومرت لم يسكنها؛ والمهدي المعلوم اسم أبيه على اسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم، وابن تومرت ليس كذلك؛ والمهدي المعلوم خلقه كخلق النبي صلى الله عليه وسلم من عترته، وابن تومرت ليس كذلك؛ والمهدي المعلوم يأتيه أبدال الشام وأهل العراق، وابن تومرت لم يكن له شئ من ذلك؛ وخلافة المهدي المعلوم قريبة من نزول عيسى عليه السلام (..) وأما تفضيلهم إياه على الصحابة فهو كفر صراح لأنه قد انعقد الاجماع من المسلمين على أن أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر، ثم تعارضت الظنون في عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. فهؤلاء خرقوا الاجماع، ومن خرق الاجماع فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل"
أقول: إذن فالمهدي ابن تومرت بربري ليس اسمه محمداً ولا اسم أبيه عبد الله!! بل ينتهي نسبه إلى قبيلة (هرغة) وهي بطن من بطون قبيلة (مصمودة) المشهورة ثم بعد كل هذا ينسب نفسه إلى ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم!
لقد استطاع هذا الدعي الدجال أن يخدع عامة الناس بورعه الكاذب ويؤلب العامة على دولة المرابطين بزعم أنه كان يجهر بتغيير المنكر ومن ثم شكل له أتباعاً ومريدين وبث تعاليمه السامة في أدمغتهم وكفر حكومة المرابطين وجمهور أهل السنة بزعم أنهم مجسمة يقولون (الله فوق السماء) نظراً لأن معتقد المرابطين هو معتقد أهل السنة في الأسماء والصفات ويعتقدون أن الله واحد لا شريك له؛ في السماء بائن من خلقه معهم بعلمه وإحاطته ونصرته وليس بذاته كما يزعم أهل الحلول والجهمية ومن دان بمعتقدهم! لذلك شن ابن تومرت حملة شعواء قاسية على المرابطين لأنهم ليسوا على معتقده في الأسماء والصفات وفي قضايا التوحيد!! فصار يتقرب بدمائهم ويحرض على قتلهم وخاصة بعد أن قابل تلميذه ابن عبد المؤمن بن علي ت 588 هـ الذي ناصر دعوته وأقام دولة الموحدين (515 هـ إلى 668 هـ) بعد سقوط دولة المرابطين.. الشاهد من هذا السرد أن غفلة حكام المرابطين على هذا المشروع التخريبي التآمري والتسامح معه وانشغالهم بحرب الفرنجة في الأندلس لأن دولتهم كانت كبيرة جداً من أقصى حوض النيجر إلى المغرب الأقصى وأطراف تونس إلى الأندلس وقشتالة إلى حدود جبال البرانس!! فقد كان هذا السوس (الداء العضال) العدو القريب ابن تومرت وعصابته ينخرون في جسد دولة المرابطين والدولة غافلة عنهم وتتعامل معهم برعونة!! وكانت المفاجأة قيام جيش جرار يلتهم ولايات المرابطين ولاية ولاية حتى أزالوهم عن مراكش ودخلوا الأندلس وتمزق ملك آل تاشفين وضاع حلم الفقيه عبد الله بن ياسين المؤسس لهذه الدولة السنية التي هزمت الصليبين الأسبان في الزلاقة سنة 479 هـ..
وهكذا انكسرت راية التوحيد الحق التي كانت بأيدي المرابطين!! وقامت دولة البدع والضلال المسماة (دولة الموحدين) التي أعملت السيف في أعناق أهل السنة واستباحت دماء الأبرياء وقتلت خلائق وجماعات من العلماء والقضاة والمفتين وأهل الخير والصلاح لأنهم لم يعتقدوا معتقدهم الأثيم ولم يؤمنوا بمذهب الموحدين الباطل ولا بعصمة المهدي الدجال ابن تومرت!!
وهناك رواية تعضد رأينا في خطورة العدو القريب وأن ضرر هذا العدو القريب فتاك إذا قوي واستحكم واستفحل أمره؛ نسوق هذه الواقعة:
المنصور الموحدي يمتنع عن نصرة صلاح الدين الأيوبي:
أمير دولة الموحدين (أبو يوسف بن يعقوب المنصور) المتوفى 595 هـ وهو أول من تلقب من أمراء الموحدين بلقب فاختار لقب المنصور!! وتسمى بأمير المؤمنين! لقد امتنع هذا الخليفة! عن نصرة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي وهو يطلب منه المدد لمواجهة جيوش الصليبين في المشرق!! لماذا امتنع عن نصرة صلاح الدين؟ لأنه كان ينظر إلى المسلمين المشارقة على أنهم وثنيون مجسمة مرتدون لا يجب مناصرتهم!! رغم أنه تعلل بأشياء تافهة كما ذكر بعض المؤرخين: "واعتقد (أي المنصور) أنه يستحق إمامة المسلمين في كل مكان وخلافتهم، ولذلك لم يتنازل بالرد على صلاح الدين الأيوبي رحمه الله عندما أرسل له رسالة مع رسول يطلب منه أن يمد المسلمين في بلاد الشام في صراعهم ضد الصليبين، واحتج بأن صلاح الدين لم يخاطبه بلقب أمير المؤمنين"
أقول كيف يخاطبه بأمير المؤمنين وفي عنق السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي بيعة للخليفة العباسي السني!! هذه علل واهية والحقيقة أن صاحب دولة الموحدين لم يستجب لرسالة واستغاثة صلاح الدين لأنه يعتبرهم كما قلنا آنفاً مجسمة مرتدين مخالفين له في المعتقد!!
سابعاً: الدولة العثمانية (699 هـ إلى 1342 هـ):
هذه الدولة أقامها وأرسى دعائمها على أساسي ديني على مذهب أهل السنة والجماعة عثمان غازي وابنه أورخان غازي وحفيده مراد الأول الملقب بالسلطان الشهيد الذي قضى سنوات حكمه (30 سنة) في الفتوحات وتوسيع مساحة الدولة لذلك يعده بعض من المؤرخين أول سلطان في الدولة العثمانية إذ أن والده أورخان وجده عثمان كان يلقبان بـ (بك).. ثم استكمل المسيرة من بعده بايزيد الأول الملقب بالصاعقة وبعض المؤرخين يعتبر بايزيد أول من حمل لقب سلطان بصفة رسمية في آل عثمان.. ثم جاء السلطان مراد الثاني والد السلطان محمد الثاني الملقب بالفاتح (فاتح القسطنطينية) و(الصرب) و(أثينا) (والبوسنة) و(قونية)، و(طرابزون)، و(أطراف سليفيكيا)، وشرع في الهجوم على إيطاليا وفتح (أوترانتو) وحاصر رودس!! وهكذا جدد العثمانيون شباب الإسلام بعد أن أفلت شمس الدين الحنيف في الأندلس!! وصار السلاطين العظام من آل عثمان يغزون ويفتحون بلاداً لم يدخل الإسلام فيها من قبل وصاروا يتحكمون في مصير العالم قرابة ستة قرون ما بين عصر ذهبي للسلاطين الكبار وعصر وسيط وعصور اضمحلال وضعف أو حسب ما أطلق على الدولة متأخراً (الرجل المريض)!!