المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفلوجة ترسم معالم طريق التحرير



صالح بن شعيب
26-12-2006, 06:27 PM
الفلوجة ترسم معالم طريق التحرير

شبكة البصرة

د. رياض الملا عبيد
عندما أمطروا مدينتى الفلوجة بوابل من النيران والأحقاد وأحالوا بيوتها ومحلاتها وكل واجهاتها الى أنقاض، لم يعد لى ثمة من خيار آخر سوى الرحيل، ولم يكن من المهم معرفة المكان الذى سأحط فيه الرحال.
لقد قيل الكثير عن حجم الكارثة ونتائجها المروّعة، ويقينا سوف لن يصدق الأطفال الذين سيولدون فى ما بعد، حقيقة ما جرى وليس من المستبعد أن يكون الحديث عن تلك الأيام العصيبة ضربا من الخيال غير القابل للتصديق. لن أقول ذلك بسبب حجم وفضاعة الهمجية الأمريكية فتلك صفحات قد تم توثيقها ولن يكون بالمستطاع حرق كل أوراق التاريخ ومصادرة ذاكرته. إننى أتحدث عن بسالة هذه المدينة الأسطورية وبطولة أبنائها البررة.
وقد يصاب المرء بالدهشة عند زيارته لهذه المدينة المستلقية على ضفاف الفرات. فلا هى وسط سلسلة جبال وعرة ولا هى محاطة بالأحراش والغابات الكثيفة. إنها أرض منبسطة بأفق منفتح، تحيط بعض جهاتها البساتين والقرى الآمنة التى يغذّيها نهر الفرات الخالد. بهذا المعنى فإن الجغرافيا كانت لصالح العدو وبامتياز.
لكن التاريخ كان مع الفلوجة متجسّدا فى أبنائها البواسل الذين سطروا ملاحم المجد والشهادة. وعلى هذا النحو المبسّط والواضح، بدأت المعادلة تظهر بين الغزاة والمقاومة الباسلة التى أمسكت بعبر التاريخ ودروسه، منتصرة على جغرافية الوهم والغطرسة. لكننى قررت الرحيل، بعدما نحروا ودمّروا أعمدة الذاكرة: الدروب والحارات، المقاهى والحوانيت، المدارس والمساجد.. وحدائق بعض البيوت التى انتصبت داخلها شواهد القبور عندما استحال على عوائل الشهداء مرافقتهم إلى المقابر.
ابتعدت عن مدينتى وعبرت الحدود الى بلد عربى شقيق. وامتدت خارطة الأسئلة الباحثة عن معنى أو مخرج أكثر من عامين ونصف. أخبار البلاد محزنة ودراماتيكية بلغت حد أن يحسدك الناس حتى على وحشتك. التوصيات والنصائح تتوالى.. تشبّث يا رجل بالمكان الذى أنت فيه فألسنة الحرائق التهمت كل شيء..
لكن ألسنة الحنين وبعض أخبار الأهل المحزنة، تفتح الطريق مجددا لمغامرة العودة، فاستقليت الحافلة مع بقية المسافرين بقدر من الهدوء المفتعل، محاولا اخفاء اضطراب احتلنى دون أن أعرف مصدره بالضبط. بدأت الرحلة بقدر من الوجوم فالجميع يدركون أنهم ليسوا فى رحلة سياحية.
لا شيء سوى فرامل الشاحنة وبعض أضواء البيوت المتناثرة على طول الطريق الى أن وصلنا المخفر الحدودى لتبدأ رحلة الشقاء عبر الأجراءات الرسمية المشدّدة والخالية من كل لياقة. ومنذ تلك اللحظات تدرك أن السيادة ليست سوى مفردة منقرضة فى قاموس الأحتلال. وتواصلت اجراءات السماح بعبورنا من الفجر حتى حلول الظلام، لكن معاناتنا لم تنته وتواصلت مع نقاط تفتيش أخرى عديدة مدجّجة بالسلاح والكراهية.
وحين وصلت، لم أصدق عينيّا، من هول الدمار وكثرة الخرائب، حتى المدرسة التى تعلمت فيها، والمحاذية لدارنا، كانت جدرانا مهدّمة وتحولت أشجار النارنج والدفلى والتوت البرى إلى أكوام من الفحم المنخور... ولا شيء يبعث على الأسى أكثر من أن ترى جزءا من تاريخك يحترق و يتوارى ويتحول الى أطلال.

لقد احالوا العديد من أحياء المدينة إلى ركام، لكنهم بهذا الفعل الشنيع عزّزوا من تلاحم الرجال وصمودهم.
ليجعلوا من الفلوجة مزرعة مترامية الأطراف لمقاومين أشداء لم يكتفوا بالحاق الهزيمة بالغزاة لطردهم من المدينة وانما رسموا أيضا معالم طريق تحرير العراق برمّته وافشال مخطط الامبريالية الأمريكية لاحتواء المنطقة.


العرب اونلاين 24/12/2006