المهند
25-11-2006, 11:58 AM
أدب التوقيعات
من ألوان الكتابة التي استخدمت في العصر الأموي، وزاد اهتمام الكتاب بها في العصر العباسي، هذا اللون المعروف بالتوقيعات.
وقد عاد إلى ذيوعه، تنوع شؤون الدولة، وكثرة حاجات الناس ومطالبهم، وطبيعة المواقف التي تتطلب بثاً سريعاً مع ما اجتمع لبعض الخلفاء والقادة من دقة التفكير والتمكن من اللغة، وقد يكون للأدب الأجنبي وما نقل عنه أثر في ذلك، ولكن للعرب أصالتهم في فن الإيجاز الذي ظهر واضحاً فيما عرف عنهم من أمثال وحكم.
حيث كانت المسائل تعرض على الخلفاء والوزراء وذوي الأمر، فيلمون بما فيها في سرعة ووعي ويعلقون عليها تعليقات تجمع من الإيجاز سلامة العبارة ودقة الفكرة وقوتها بما يغني عن الإطناب والإسترسال بالشرح وهذه التوقيعات تجمع بين الحكمة وآثار التجربة مع إعطاء الحلول للمسائل المعروضة بشكل يأخذ باللباب وكأنها الدواء الشافي للمشكلة المعروضة، جاءت بها وصفة الطبيب المختص والجراح الماهر الذي يضع مبضعة على ذات الداء ثم يصف لها فيجتث الخبيث ويزرع الفلاح ومن ثم يندمل الجرح ويلتئم وتحل المسائل المعروضة بهذه التوقيعات.
أمثلة من هذه التوقيعات
1- شكوت فأشكيناك...
رفع صاحب خراسان إلى المنصور رسالة، بدا للخليفة منها أنه أساء في التصرف فوقَّع عليها بقوله: (... شكوت فأشكيناك، وعتبت فأعتبناك، ثم خرجت على العامة، فتأهب لفراق السلامة...) فالخليفة أبو جعفر المنصور اشتهر عنه سعة الأدب والعقل الراجح وعمق البصيرة، وحسن السيرة وكان يختار حكام الولايات من الدولة العباسية ممن عرفوا بحصافة الفكر وفصاحة اللسان والأمانة في العمل والقدرة في العمل، فلما جاءه والي خراسان يشتكي الرعية هناك، سمع لشكواه وبيان دعواه وانتصر له بمعاقبة المخالفين... وحين أظهر عتبه على الخليفة بأنه يريد المزيد من القوة والحزم وتطاول في باعه على عامة الناس، فلم يسلم منه أحد، بين له سوء حاله وعدم قدرته على مواصلة الحكم بمنتهى الإيجاز والتوقيع السابق وبشره بخلعه عن الحكم.
2- طَهّر عسكرك من الفساد...
وكتب إليه عامله بمصر يشكو من نقصان النيل، فوقّع المنصور على الكتاب وقال: (طهر عسكرك من الفساد، يعطك النيل القياد...) فمعروف أن مصر بنيلها، حيث تعتمد على النيل في ري أراضيها وخصب مزروعاتها، حتى أن فيضان النيل يأتي بالخير العميم وري الأراضي وجلب الطي الغني والصالح للمزروعات، فكون أراضي الدلتا التي تعتبر إلى الآن من أخصب بقاع العالم قاطبة. لذا نرى أن المصريين القدماء قدموا القرابين لهذا النيل وهذا من الخرافات والبدع!؟ فلما جاء الإسلام ربط بين حال الناس وما بهم من نعيم وبين ماهم عليه من أعمال، فبين الإسلام أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فانحباس الأمطار وغلاء الأسعار وانتشار المجاعات جميعها امتحان من الله وإنذار لهؤلاء الناس بأن يحسنوا أعمالهم قبل أن ينالهم عقاب الله بالدنيا والآخرة، فعندما شكا حاكم مصر نقصان مياه النيل بادره المنصور على الفور، قد يكون أعمال العساكر، فطلب منه على الفور تطهير العساكر من الفساد وإصلاح أعمالهم وانفراج أحوالهم... وربط المنصور بين سوء الحال ونقصان مياه النيل وبين فساد العساكر لذاك الحاكم. وهذا تلميح لعامله بظلم عساكره وعجز حكمه.
3- ولكم في القصاص حياة...
ورفعت إلى المهدي قصة رجل حبس في دم فوقّع فيها: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ( البقرة: 179) وهذا التوقيع اقتباس من القرآن الكريم بحكم من استباح دم الناس، فمن أباح دم الناس واستحل حرماتهم أباح الله دمه واستحق القصاص، لأن في القصاص حياة المجتمعات الإسلامية التي تنعم بالأمن والاستقرار، بل إن هذا الحكم الإلهي لا يدركه إلا أولي الألباب وهم أصحاب العقول الكبيرة الذين يتدبرون في هذا القصاص منع لتسرب الجريمة وافشائها، وبالتالي فإن هذا القصاص هو حياة الآمنين في المجتمعات السلمية.
فجاء توقيع المهدي (وهو من خلفاء العصر الذهبي العباسي) باقتباس من القرآن الكريم وهي كلمات موجزة ولكنها تتضمن معاني عميقه.
4- خذ العفو وأمر بالعرف...
وبعث إليه عامل أرمينا يشكو إليه سوء طاعة الرعية فوقع إليه بقوله: (خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين...) فهذا الإيجاز وإن كان اقتباس من القرآن الكريم إلا أنه يضع الحلول للمسائل التي شكى منها عامل أرمينياً، وهي باختصار شديد بين به المهدي أن سوء ما شكى به حاكم أرمينيا سببه حرفية الحكم وحيفه بتطبيق النظام وعدم المرونة في تيسير دفة الحكم، وهذا أصبح علماً بذاته، ومهما اجتهد بهذا العلم تبقى هناك أمور كأنها قواعد اخلاقية لإدارة هذه الشعوب ومنها:
العفو عند المقدرة... فليس المهم المحاسبة على الأخطاء ولكن الأهم من ذلك الوقاية من الوقوع في هذه الأخطاء، والعفو عن المسيء واستئصال الإساءة من قلبه فلا يعود إليها... والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإعراض عن الجهل من شيم النفوس العزيزة والأخلاق النبيلة وبمثل ذلك تساس الرعية، وكلنا نعرف شعر معاوية الذي ما انقطعت بينه وبين خصومه تساس بلاده بالحلم والروية وعفى عند المقدرة وأعطى الهدايا وأعرض عن الجاهلين بما يكسب قلوب العامة وآخى بين الأوس والخزرج وأعرض عن أبي جهل فجاءت سيرته عطرة وشاد حضارة لا تفنى وديناً لا تزعزع، المسلم أخ المسلم كلكم لآدم وآدم من تراب.
5- داو جرحك لا يتسع...
ووقع الرشيد إلى صاحب خراسان، وقد بدأ تذمر الناس عليه... داو جرحك لا يتسع... وقد يغني التلميح عن التصريح... فهذا التلميح يطلب أمير المؤمنين منه واليه بخراسان بأن يقوم ما أعوج من حكمه قبل أن يؤدي اعوجاجه هذا إلى كسره وعزله فاستعار الجرح كناية عن الخلل في طريقة الحكم فإن ترك الجرح بدون دواء تجرثم والتهب وتسبب بالتسمم لسائر أعضاء الجسم فيهزل ويمرض وربما يموت كذلك فإن الحكم يكون بالعدل والتسامح والحزم بدون شدة، واللين بدون ضعف، فأي خلل بهذا الدستور يختل التوازن بهذا الحكم فإن اختل توازن الحكم اعتلت صحته وبالتالي تتسع دائرة العصيان عليه فإذا هي ثورة تتقد وتحرق بنيرانها الحاكم، هذه وصية أمير فهي كالداء إن لم يعالج استفحل وفتك وأهلك.
6- انبتتهم الطاعة، وحصدتهم المعصية...
قيلت بحق البرامكة... وهم أسرة وصلت إلى أعلى قمة المجد والثراء فكان منها الوزراء والحكام ورؤساء البلاط في عهد الخليفة هارون الرشيد، وأصل هذه الأسرة من بلاد فارس، استطاعت بدهائها وعدل هارون أن تصل إلى بلاط الرشيد، وأن تكون الآمرة الناهية في تصريف الكثير من أمور الدولة، ولما استقر بهم الحال أخذتهم جذوة الحكم وثارت في نفوسهم بذور الشر، وتأصلت فيهم نذالة الفرس، فجاروا في الحكم، وطمعوا في السلطة، وظلموا الرعية وامتدت أيديهم إلى أملاك المسلمين فنهبوها واستولوا عليها... وإلى خزانة بيت مال المسلمين فأفرغوها، وإلى أمير المؤمنين فشاركوه السلطة وطمعوا بالاستيلاء عليها، فسارع الرشيد إلى القضاء على هذه الأسرة بعد أن استفحل شرها، وأيقين بعلاقة هذه الأسرة بالمجوسية وعبادة النار ونشر الفساد... فقال جملته المشهورة عنهم: (انبتتهم الطاعة وحصدتهم المعصية)، أي: توصلوا إلى المجد بالطاعة وقضى عليهم حين عصوا أوامر الله، وأوامر أمير المؤمنين.
7- كثر شاكوك... وقل شاكروك...
وقع الخليفة المأمون - المشهور بالعلم والفصاحة - التوقيع السابق في قصة عامل كثرت منه الشكوى والمأمون بهذا التوقيع يذكر عامله ما بلغه من كثرة شاكيه وقلة الراضين عنه... فإن كثرت الشكوى على الولاة دلت أنه غير كفوء للولاية وأجدر به أن يعتذر عن مواصلة الحكم، فكثرة الشكاوي تدل على كثرة المظالم للرعيه، كما أن المبايعة علامة الرضى فإن عدم الرضى يدل على عدم مبايعة الناس وموافقتهم لذلك الوالي، فمع كثرة الشكاوي قل عدد المبايعين والراضين عن ذلك الحاكم، فجاء القول الفصل من أمير المؤمنين... قد كثر شاكوك وقل شاكروك... فإما اعتدلت وإما اعتزلت... فهذه إشارة من أمير المؤمنين الخليفة المأمون إلى عامله وتحذير له بأن يعتدل أي: يقيم العدل، أَوْ عليه أن يعتزل ويترك الحكم، فَوضَعه أمام اختيارين إما الاعتدال أو الإعتزال.
التعليق الأدبي على هذه التوقيعات:
رأيت أن هذه التوقيعات تعتمد على الإيجاز الذي يتميز بالتركيز، وقوة العبارة وجمال التصوير ولطف الإشارة، وكانت هذه التوقيعات تَذِيع ويتناقلها الناس، وكأنها أمثال نفسية تُحفظ وتُدونَ أو مبادئ أخلاقية تلزم وتلهم.
ومن أجل ذيوعها وسرعة انتشارها وتأثيرها في السامع والقارئ حرص كاتبوها على الإجادة فيها، وتباروا في بلوغ أقصى الغاية منها، وأشتهر كثير منهم بالبراعة في كتابتها، وكان من بينهم: الخلفاء العباسيون في عصرهم الذهبي، أمثال: المنصور والمهدي والرشيد والمأمون وكثير من وزراء الدولة وقادتها.
ولما كان قوامها الإيجاز مع البراعة والقوة ذاعت في العصر العباسي الأول ولكنها حين مال النثر الفني إلى الصنعة والإطالة ضعف شأنها.
ولو رجعنا إلى هذه التوقيعات فإننا نجد أن الجمل فيها تختلف في طريقة الأداء مثل:
1- شكوت فأشكيناك، انبتتهم الطاعة وحصدتهم المعصية، كثر شاكوك وقل شاكروك.
2- طهر عسكرك من الفساد، داو جرحك لا يتسع.
ففي القسم الأول ترى المنصور يخبر عامله بأنه تلقى شكواه وأزال سببها، والرشيد يعلن رغبته بعاقبة البرامكة، والمأمون يذكر عامله ما أبلغه من كثرة شاكيه وقلة الراضين عنه، وهكذا نجد أن جُمله تحمل خبراً من الأخبار وتسمى جُملاً خبرية.
أما في القسم الثاني، فنجد جملتين من نوع آخر فقائلهما لم يرد بهما أخباراً وإنما يطلب بكل منهما شيئاً ولهذا تسمى كل منهما جملاً إنشائية مثل: إما اعتدلت وإما اعتزلت... وطهر عسكرك من الفساد، يعطك النيل القياد وهكذا وبهذا نرى الكلام قد يكون خبراً أو إنشاء.
ولو عدنا إلى تأمل أمثلة القسم الأول لوجدنا بعضها يحيط به جو نفسي يحمله معنى آخر غير مجرد الإخبار كما في التهديد الذي يحمله قول المأمون كثر شاكوك وقل شاكروك.
مثل هذا الأدب لا يوجد في لغة غير عربية:
جاء في مقدمة الدكتور عبدالكريم اليافي لكتابه دراسات فنية في الأدب العربي ما نصه...: أما مكانة اللغة العربية بين اللغات فينبغي أن نعرف أنه لا توجد في القديم ولا في الحديث لغة تضاهيها في المزايا وتحاكيها في الخصائص والفضائل، وليس كلامنا من وحي العاطفة، وإن كنا نُجِل العاطفة ولا هو من قبيل الفخار ولا الحماسة، وإن أصبحنا سائغين لغرض التشيع في هذا العصر المضطرب البيان، ولكن كلامنا مبني على تلمس الصفات الموضوعية، فاللغة العربية من أقدم اللغات الحية بل وهي أقدمها على الإطلاق، وقدمها هذا يحبوها تراثاً ثرياً ويهبها مرونة واسعة ويزودها بتجارب كثيرة كبيرة، ولقد نشأت وعاشت واكتملت وعمرت واستمرت الأحقاب الطوال وهي لا تزال في ريعان القوة والنمو على رغم ما قد تصادفه من صعاب، وما ذلك إلا لأنها تحوي فضائل ضمنية ليست للغات ماتت وانقرضت كالفارسية واليونانية...
ومثل هذا الإيجاز الذي نجده في التوقيعات لا يمكن أن يدون بلغة في العالم بهذا الجمال والروعة والإيجاز واتساع المعاني مثل ما دون باللغة العربية، بل إنه خاصة تتميز بها هذه اللغة لغة القرآن لغة الصون والاستمرار والتأييد على مر العصور والأزمان.
من ألوان الكتابة التي استخدمت في العصر الأموي، وزاد اهتمام الكتاب بها في العصر العباسي، هذا اللون المعروف بالتوقيعات.
وقد عاد إلى ذيوعه، تنوع شؤون الدولة، وكثرة حاجات الناس ومطالبهم، وطبيعة المواقف التي تتطلب بثاً سريعاً مع ما اجتمع لبعض الخلفاء والقادة من دقة التفكير والتمكن من اللغة، وقد يكون للأدب الأجنبي وما نقل عنه أثر في ذلك، ولكن للعرب أصالتهم في فن الإيجاز الذي ظهر واضحاً فيما عرف عنهم من أمثال وحكم.
حيث كانت المسائل تعرض على الخلفاء والوزراء وذوي الأمر، فيلمون بما فيها في سرعة ووعي ويعلقون عليها تعليقات تجمع من الإيجاز سلامة العبارة ودقة الفكرة وقوتها بما يغني عن الإطناب والإسترسال بالشرح وهذه التوقيعات تجمع بين الحكمة وآثار التجربة مع إعطاء الحلول للمسائل المعروضة بشكل يأخذ باللباب وكأنها الدواء الشافي للمشكلة المعروضة، جاءت بها وصفة الطبيب المختص والجراح الماهر الذي يضع مبضعة على ذات الداء ثم يصف لها فيجتث الخبيث ويزرع الفلاح ومن ثم يندمل الجرح ويلتئم وتحل المسائل المعروضة بهذه التوقيعات.
أمثلة من هذه التوقيعات
1- شكوت فأشكيناك...
رفع صاحب خراسان إلى المنصور رسالة، بدا للخليفة منها أنه أساء في التصرف فوقَّع عليها بقوله: (... شكوت فأشكيناك، وعتبت فأعتبناك، ثم خرجت على العامة، فتأهب لفراق السلامة...) فالخليفة أبو جعفر المنصور اشتهر عنه سعة الأدب والعقل الراجح وعمق البصيرة، وحسن السيرة وكان يختار حكام الولايات من الدولة العباسية ممن عرفوا بحصافة الفكر وفصاحة اللسان والأمانة في العمل والقدرة في العمل، فلما جاءه والي خراسان يشتكي الرعية هناك، سمع لشكواه وبيان دعواه وانتصر له بمعاقبة المخالفين... وحين أظهر عتبه على الخليفة بأنه يريد المزيد من القوة والحزم وتطاول في باعه على عامة الناس، فلم يسلم منه أحد، بين له سوء حاله وعدم قدرته على مواصلة الحكم بمنتهى الإيجاز والتوقيع السابق وبشره بخلعه عن الحكم.
2- طَهّر عسكرك من الفساد...
وكتب إليه عامله بمصر يشكو من نقصان النيل، فوقّع المنصور على الكتاب وقال: (طهر عسكرك من الفساد، يعطك النيل القياد...) فمعروف أن مصر بنيلها، حيث تعتمد على النيل في ري أراضيها وخصب مزروعاتها، حتى أن فيضان النيل يأتي بالخير العميم وري الأراضي وجلب الطي الغني والصالح للمزروعات، فكون أراضي الدلتا التي تعتبر إلى الآن من أخصب بقاع العالم قاطبة. لذا نرى أن المصريين القدماء قدموا القرابين لهذا النيل وهذا من الخرافات والبدع!؟ فلما جاء الإسلام ربط بين حال الناس وما بهم من نعيم وبين ماهم عليه من أعمال، فبين الإسلام أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فانحباس الأمطار وغلاء الأسعار وانتشار المجاعات جميعها امتحان من الله وإنذار لهؤلاء الناس بأن يحسنوا أعمالهم قبل أن ينالهم عقاب الله بالدنيا والآخرة، فعندما شكا حاكم مصر نقصان مياه النيل بادره المنصور على الفور، قد يكون أعمال العساكر، فطلب منه على الفور تطهير العساكر من الفساد وإصلاح أعمالهم وانفراج أحوالهم... وربط المنصور بين سوء الحال ونقصان مياه النيل وبين فساد العساكر لذاك الحاكم. وهذا تلميح لعامله بظلم عساكره وعجز حكمه.
3- ولكم في القصاص حياة...
ورفعت إلى المهدي قصة رجل حبس في دم فوقّع فيها: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ( البقرة: 179) وهذا التوقيع اقتباس من القرآن الكريم بحكم من استباح دم الناس، فمن أباح دم الناس واستحل حرماتهم أباح الله دمه واستحق القصاص، لأن في القصاص حياة المجتمعات الإسلامية التي تنعم بالأمن والاستقرار، بل إن هذا الحكم الإلهي لا يدركه إلا أولي الألباب وهم أصحاب العقول الكبيرة الذين يتدبرون في هذا القصاص منع لتسرب الجريمة وافشائها، وبالتالي فإن هذا القصاص هو حياة الآمنين في المجتمعات السلمية.
فجاء توقيع المهدي (وهو من خلفاء العصر الذهبي العباسي) باقتباس من القرآن الكريم وهي كلمات موجزة ولكنها تتضمن معاني عميقه.
4- خذ العفو وأمر بالعرف...
وبعث إليه عامل أرمينا يشكو إليه سوء طاعة الرعية فوقع إليه بقوله: (خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين...) فهذا الإيجاز وإن كان اقتباس من القرآن الكريم إلا أنه يضع الحلول للمسائل التي شكى منها عامل أرمينياً، وهي باختصار شديد بين به المهدي أن سوء ما شكى به حاكم أرمينيا سببه حرفية الحكم وحيفه بتطبيق النظام وعدم المرونة في تيسير دفة الحكم، وهذا أصبح علماً بذاته، ومهما اجتهد بهذا العلم تبقى هناك أمور كأنها قواعد اخلاقية لإدارة هذه الشعوب ومنها:
العفو عند المقدرة... فليس المهم المحاسبة على الأخطاء ولكن الأهم من ذلك الوقاية من الوقوع في هذه الأخطاء، والعفو عن المسيء واستئصال الإساءة من قلبه فلا يعود إليها... والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإعراض عن الجهل من شيم النفوس العزيزة والأخلاق النبيلة وبمثل ذلك تساس الرعية، وكلنا نعرف شعر معاوية الذي ما انقطعت بينه وبين خصومه تساس بلاده بالحلم والروية وعفى عند المقدرة وأعطى الهدايا وأعرض عن الجاهلين بما يكسب قلوب العامة وآخى بين الأوس والخزرج وأعرض عن أبي جهل فجاءت سيرته عطرة وشاد حضارة لا تفنى وديناً لا تزعزع، المسلم أخ المسلم كلكم لآدم وآدم من تراب.
5- داو جرحك لا يتسع...
ووقع الرشيد إلى صاحب خراسان، وقد بدأ تذمر الناس عليه... داو جرحك لا يتسع... وقد يغني التلميح عن التصريح... فهذا التلميح يطلب أمير المؤمنين منه واليه بخراسان بأن يقوم ما أعوج من حكمه قبل أن يؤدي اعوجاجه هذا إلى كسره وعزله فاستعار الجرح كناية عن الخلل في طريقة الحكم فإن ترك الجرح بدون دواء تجرثم والتهب وتسبب بالتسمم لسائر أعضاء الجسم فيهزل ويمرض وربما يموت كذلك فإن الحكم يكون بالعدل والتسامح والحزم بدون شدة، واللين بدون ضعف، فأي خلل بهذا الدستور يختل التوازن بهذا الحكم فإن اختل توازن الحكم اعتلت صحته وبالتالي تتسع دائرة العصيان عليه فإذا هي ثورة تتقد وتحرق بنيرانها الحاكم، هذه وصية أمير فهي كالداء إن لم يعالج استفحل وفتك وأهلك.
6- انبتتهم الطاعة، وحصدتهم المعصية...
قيلت بحق البرامكة... وهم أسرة وصلت إلى أعلى قمة المجد والثراء فكان منها الوزراء والحكام ورؤساء البلاط في عهد الخليفة هارون الرشيد، وأصل هذه الأسرة من بلاد فارس، استطاعت بدهائها وعدل هارون أن تصل إلى بلاط الرشيد، وأن تكون الآمرة الناهية في تصريف الكثير من أمور الدولة، ولما استقر بهم الحال أخذتهم جذوة الحكم وثارت في نفوسهم بذور الشر، وتأصلت فيهم نذالة الفرس، فجاروا في الحكم، وطمعوا في السلطة، وظلموا الرعية وامتدت أيديهم إلى أملاك المسلمين فنهبوها واستولوا عليها... وإلى خزانة بيت مال المسلمين فأفرغوها، وإلى أمير المؤمنين فشاركوه السلطة وطمعوا بالاستيلاء عليها، فسارع الرشيد إلى القضاء على هذه الأسرة بعد أن استفحل شرها، وأيقين بعلاقة هذه الأسرة بالمجوسية وعبادة النار ونشر الفساد... فقال جملته المشهورة عنهم: (انبتتهم الطاعة وحصدتهم المعصية)، أي: توصلوا إلى المجد بالطاعة وقضى عليهم حين عصوا أوامر الله، وأوامر أمير المؤمنين.
7- كثر شاكوك... وقل شاكروك...
وقع الخليفة المأمون - المشهور بالعلم والفصاحة - التوقيع السابق في قصة عامل كثرت منه الشكوى والمأمون بهذا التوقيع يذكر عامله ما بلغه من كثرة شاكيه وقلة الراضين عنه... فإن كثرت الشكوى على الولاة دلت أنه غير كفوء للولاية وأجدر به أن يعتذر عن مواصلة الحكم، فكثرة الشكاوي تدل على كثرة المظالم للرعيه، كما أن المبايعة علامة الرضى فإن عدم الرضى يدل على عدم مبايعة الناس وموافقتهم لذلك الوالي، فمع كثرة الشكاوي قل عدد المبايعين والراضين عن ذلك الحاكم، فجاء القول الفصل من أمير المؤمنين... قد كثر شاكوك وقل شاكروك... فإما اعتدلت وإما اعتزلت... فهذه إشارة من أمير المؤمنين الخليفة المأمون إلى عامله وتحذير له بأن يعتدل أي: يقيم العدل، أَوْ عليه أن يعتزل ويترك الحكم، فَوضَعه أمام اختيارين إما الاعتدال أو الإعتزال.
التعليق الأدبي على هذه التوقيعات:
رأيت أن هذه التوقيعات تعتمد على الإيجاز الذي يتميز بالتركيز، وقوة العبارة وجمال التصوير ولطف الإشارة، وكانت هذه التوقيعات تَذِيع ويتناقلها الناس، وكأنها أمثال نفسية تُحفظ وتُدونَ أو مبادئ أخلاقية تلزم وتلهم.
ومن أجل ذيوعها وسرعة انتشارها وتأثيرها في السامع والقارئ حرص كاتبوها على الإجادة فيها، وتباروا في بلوغ أقصى الغاية منها، وأشتهر كثير منهم بالبراعة في كتابتها، وكان من بينهم: الخلفاء العباسيون في عصرهم الذهبي، أمثال: المنصور والمهدي والرشيد والمأمون وكثير من وزراء الدولة وقادتها.
ولما كان قوامها الإيجاز مع البراعة والقوة ذاعت في العصر العباسي الأول ولكنها حين مال النثر الفني إلى الصنعة والإطالة ضعف شأنها.
ولو رجعنا إلى هذه التوقيعات فإننا نجد أن الجمل فيها تختلف في طريقة الأداء مثل:
1- شكوت فأشكيناك، انبتتهم الطاعة وحصدتهم المعصية، كثر شاكوك وقل شاكروك.
2- طهر عسكرك من الفساد، داو جرحك لا يتسع.
ففي القسم الأول ترى المنصور يخبر عامله بأنه تلقى شكواه وأزال سببها، والرشيد يعلن رغبته بعاقبة البرامكة، والمأمون يذكر عامله ما أبلغه من كثرة شاكيه وقلة الراضين عنه، وهكذا نجد أن جُمله تحمل خبراً من الأخبار وتسمى جُملاً خبرية.
أما في القسم الثاني، فنجد جملتين من نوع آخر فقائلهما لم يرد بهما أخباراً وإنما يطلب بكل منهما شيئاً ولهذا تسمى كل منهما جملاً إنشائية مثل: إما اعتدلت وإما اعتزلت... وطهر عسكرك من الفساد، يعطك النيل القياد وهكذا وبهذا نرى الكلام قد يكون خبراً أو إنشاء.
ولو عدنا إلى تأمل أمثلة القسم الأول لوجدنا بعضها يحيط به جو نفسي يحمله معنى آخر غير مجرد الإخبار كما في التهديد الذي يحمله قول المأمون كثر شاكوك وقل شاكروك.
مثل هذا الأدب لا يوجد في لغة غير عربية:
جاء في مقدمة الدكتور عبدالكريم اليافي لكتابه دراسات فنية في الأدب العربي ما نصه...: أما مكانة اللغة العربية بين اللغات فينبغي أن نعرف أنه لا توجد في القديم ولا في الحديث لغة تضاهيها في المزايا وتحاكيها في الخصائص والفضائل، وليس كلامنا من وحي العاطفة، وإن كنا نُجِل العاطفة ولا هو من قبيل الفخار ولا الحماسة، وإن أصبحنا سائغين لغرض التشيع في هذا العصر المضطرب البيان، ولكن كلامنا مبني على تلمس الصفات الموضوعية، فاللغة العربية من أقدم اللغات الحية بل وهي أقدمها على الإطلاق، وقدمها هذا يحبوها تراثاً ثرياً ويهبها مرونة واسعة ويزودها بتجارب كثيرة كبيرة، ولقد نشأت وعاشت واكتملت وعمرت واستمرت الأحقاب الطوال وهي لا تزال في ريعان القوة والنمو على رغم ما قد تصادفه من صعاب، وما ذلك إلا لأنها تحوي فضائل ضمنية ليست للغات ماتت وانقرضت كالفارسية واليونانية...
ومثل هذا الإيجاز الذي نجده في التوقيعات لا يمكن أن يدون بلغة في العالم بهذا الجمال والروعة والإيجاز واتساع المعاني مثل ما دون باللغة العربية، بل إنه خاصة تتميز بها هذه اللغة لغة القرآن لغة الصون والاستمرار والتأييد على مر العصور والأزمان.