المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من صدام الى صدام... الطريق الى حكم العراق



الأمل
18-07-2006, 12:54 PM
منقول عن دورية العراق

من صدام الى صدام... الطريق الى حكم العراق
على الصراف

http://www.baghdadalrashid.com/vb3/images/imgcache/notfound.gif

القول ان العراقيين لا يُحكمون إلا بالقوة ولا يؤخذون إلا بالقسوة والعنف، هو واحد من افتراضات جزئية وساذجة كثيرة بشأن الطريقة الأمثل لقيادة بلد "صعب" كالعراق. وفي الواقع، فان صورة القوة والعنف والقسوة التي بدا وكأن نظام الرئيس صدام حسين يقوم عليها، هي أحد مصادر ذلك الافتراض.
ومع انه ما يزال من السهل رمي ذلك النظام بكل سهام الاتهامات والأعاجيب والخرافات (والوقائع أيضا)، إلا أن الطابع الجزئي لهذه الصورة هو مصدر سذاجتها.

وأمر السذاجة ما كان ليبرر قلق أي أحد، لو أنها كانت مجردَ سجالٍ بين أغبياء في مقهى. ولكن هناك اليوم الكثير من الشواهد التي تبرر الاعتقاد بان العنف والقسوة أصبحا الفلسفة الوحيدة لحكومة المليشيات الطائفية في العراق. ذلك ان روّاد مقهى المنطقة الخضراء، مثل سادتهم روّاد مقهى البيت الأبيض، يؤمنون بنظرية تقول: بما أن صدام حكم العراق بهذه الوسيلة فانهم إذا أفظعوا وأبدعوا بممارستها فان الغَلبة ستكون لهم، وان النصر سيكون حليفهم في النهاية.

والحال، فان جرائم القتل وأعمال التعذيب التي تمارسها المليشيات التابعة لحكومة الاحتلال لم تبلغ هذا المستوى القياسي من الوحشية لمجرد أن هناك قتلة يتصرفون ككلاب مسعورة تحظى بدعم وتستر رسمي، بل لان هناك وراءهم حظيرة مسعورين من أنصار الاحتلال عادت الى العراق من المنفى وهي لا تملك سوى فكرتين او ثلاثة، كل واحدة منها أكثر سطحية من الأخرى، عن السبيل لحكم العراق.

ولكن هل سيكون كافيا، لإثارة القليل من صدمة الوعي، القول إن العراق بلد غير صعب، وقيادته سهلة، وشعبه ليس شعب وحوش، ولا هم قومٌ غلاظ القلوب، بل بالعكس، و... صدام، على رغم كل الانطباعات السائدة عن نظامه، لم يحكمهم بالعنف والقسوة، أو لنقل، لم يحكمهم بهما وحدهما، ولا هو ابتدأ سلطته معهم بهما، ولا اجتذبهم الى دعمه بالخوف، ولا سَلّط عليهم، في بادئ أمره، أجهزة مخابراته، كما تفعل "فرق الموت" اليوم، ولا هو تولاهم "ولية المخانيث"، كما يفعل طراطير بول بريمر وزلماي خليلزاد، تحت غطاء دبابات الاحتلال، ولا هو حوّل دولتهم، منذ ربع الساعة الأول، الى دولة لصوص ونصابين.

ولعل ميزة صدام الحقيقية، التي يشهد له بها خصومه من العراقيين قبل مؤيديه، هو انه "يعرفهم" و"ينهل من طباعهم"، وهو متغطرسٌ مثلهم، في الضعف والقوة، متعالٍ، وكرامته فوق كل اعتبار. وهو يجسد، بهذا المعنى، الكثير من جوانب شخصيتهم الاجتماعية.

***

العراقيون لم يكونوا أمة شعر، من ملاحم السومريين الى بدر شاكر السيّاب، لانهم "غلاظ القلوب".

لا أمة، طلع فيها شاعر مثل أبي الطيب المتنبي، ثم حشد لا ينتهي من شعراء-أعلام وعباقرة، ويجوز القول فيها انهم قومُ قسوةٍ وعنف.

لا أمة، تملك هذا المقدار الهائل من التراث الغنائي، شعرا وموسيقى ومقامات، من ٍ"الأغاني" التي جمعها أبو فرج الأصفهاني الى زرياب الموصلي، ويجوز القول فيها انها أمةٌ "لا تُحكم الا بالقوة".

وحيال واقع كهذا، فان العراق قد يُحكم بالشعر أكثر بكثير مما يُحكم بالقوة.

لقد خاض العراق حربا طاحنة على امتداد 8 سنوات مع إيران، فبماذا كسبها؟

السُذّج وحدهم هم الذين سيقولون إن العراق كسبها بالقوة. والحقيقة هي أن العراق كسب الحرب بالشعر والأغاني والأهازيج ليس بأقل مما كسبها بالقوة. ولقد مثلت تلك السنوات "عصرا ذهبيا" للشعراء والمغنين الذي أعادوا صهر العزيمة الوطنية في بوتقة الصبر وتحمل الأعباء، فكان النصر نصرا للقوافي أكثر منه نصراً للقذائف.

القوة وحدها لا تؤسس سلطة. وصدام لم يؤسس سلطته على القهر والقوة.

هراء كهذا، قد يفيد في جعل مناقشات الحمقى تبدو وكأنها مناقشات "مثقفين"، إلا أنها لا تنطوي على مثقال ذرةٍ من الدراية، دع عنك الثقافة، بالطبيعة الاجتماعية للعراق.

العراقيون، على العكس، يؤخذون، بل يُسحرون، بحشد من قيم الطيبة والكرم والإخلاص والشهامة والعدل والوطنية والشجاعة والرجولة والنخوة.

ولئن كان فيهم من طباع البداوة وقسوتها وعنف تقلباتها الكثير، فهي طباعٌ شذّبتها حواضرٌ ومدنٌ كثيرة في تاريخهم، أبقت لهم منها كل ما يجعل القلب لين العريكة، مهيض الجناح. صوتهم قد يبدو جهورا بالحق، إلا أن دمعتهم اقرب الى الخد من الجفن. يخطئون ويندمون، ولكن لا شيء أسهل من أخذهم بالكلمة الطيبة والسلوك الحسن، وهم، إذا شيّمتهم (استعنت بشيمهم) "أخذت عباءتهم" (أي صار من السهل أن تنزع عنهم أعز ردائهم عليهم).

وهم شجعان لا يهابون الموت، إذا اندفعوا. أبو طيبهم المتنبي ذهب الى حتفه، فقط لان غريمه ناداه لما رآه يعود القهقرى: "من القائل: الخيلُ والليلُ والبيداء تعرفني/ والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ"، فأدار الشاعر صهوة جواده ليخوض قتالا كان يعرف انه سيقضي فيه. وقضى.

صديقهم صديقٌ الى الموت، وعدوّهم عدوٌ.. الى الموت أيضا. وشرفهم غالٍ عليهم بإفراط. والموت عندهم سهلٌ دونه. لا يتحصنون وراء امرأة، ولا يتخفون وراء أجنبي. ولا يطيقون العملاء. والجبن عارٌ عندهم، والموت أشرف لهم منه. والرجل عندهم، إما ان يكون رجلاً "أخو أَخيْتَه"، كما يقولون، فيقف وقفته بشجاعة، او لا يكون.

ولئن كان لزاما على إمامهم ان يكون عادلا، وأن يُرى كإمام عادل، فلا بد ان يكون قادرا على ان يضرب بقوة، وإلا سموّه "أبو الخِرَقْ". وهو إذ يضرب، فبيده، لا كما يضرب الجبناء بأيدي الغرباء، على نحو ما يفعل زبانية الاحتلال والمستظلين بظله في المنطقة الخضراء.

ولي العراقيين الأقرب الى القلب "مستبد عادل"، متبوع لا تابع، آمر لا مأمور، وسيد نفسه. وسيفه على الأقربين منه أولاً، قبل الأبعدين.

وهم يواجهون، اذا واجهوا، رجلاً لرجل. ولا يتولون غريمهم "ولية المخانيث" (حيث يضرب الجبان خصمه مكتوفا من جانب طرف ثالث أقوى، كما يفعل أزلام رامسفيلد).

***

صدام لم يحكم العراقيين بالعنف والقسوة وحدهما. لم يبدأ بهما أصلا.

في حدود المتاح من مفاهيم الشرعية السياسية في ذلك الزمان (1968)، اكتسب نظام صدام شرعيته من الإنجاز التحرري والتنموي لبناء عراق حر ومستقل.

وهو أطلق على انقلابه اسم "الثورة البيضاء" لانه لم يشأ ان يقتل أي أحد من أركان النظام الذي سبقه. وبدلا من حشد السجون بمئات الآلاف من الأبرياء، كما يفعل اتباع الاحتلال اليوم، أطلق سراح السجناء السياسيين، وأعاد إليهم حقوقهم، وفتح الباب، ولو بمقدار، لتعددية سياسية اشترط عليها الوطنية (الإخلاص للعراق، لا لواشنطن ولا لموسكو او طهران).

وقبل قمعه، أظهر صدام للعراقيين حنوه وتعاطفه مع مطالب أبسط البسطاء منهم. فتح بابه للجميع، ودخل بيوت الجميع، وشاركهم مأكلهم ومنامهم.

ومع قسوته، على غدر، او المخاوف من غدر، المقربين منه، أظهر للعراقيين عدله، فأنصف المظلوم ومنح المحروم وأشفق على الضعيف ولوى ذراع القوي ليُلقن الجميع درسا في العدل والاستبداد.

وكان كريما إذا أعطى، قاسيا إذا ضرب، وذلك جريا على قول العراقيين "إذا أردت أن تُطعم أُشبع، وإذا أردت أن تضرب أوجع".

وقد يختلف المتناظرون في دكتاتوريته، إلا أن أحدا لن يختلف في شجاعته الشخصية وجرأته وشهامته ونخوته.

كان معظم الدافع لغزو الكويت، أصلا، هو أن المسؤولين الكويتيين استفزوا رجولته بالقول انهم سيعملون على "جعل العراقية بدينار". فثارت ثائرته، وانقلبت الدنيا عليه وعلينا. إنما من أجل شرف العراقيات.

ولعمري، فلو سئل صدام اليوم إن كان هذا الشرف يستحق عاقبته، لقال وهو في سجنه: بلى، يستحق.

فأين مأجورو الاحتلال، اليوم من شرف تلك الصبية، عبير قاسم، وغيرها، عندما تحولوا، بعد صمتٍ مخز، الى "وعّاظ" يقدمون النصح، بخجل، للقيادة الأميركية بضرورة تلقين جيوشهم بعض الدروس عن الأخلاق؟

هل كان يمكن لانعدام الشرف ان يكون هو السبيل الى السلطة، في حاضرة العباسيين، كما هو الحال اليوم، في "خرابة" الطائفيين؟

وفي الواقع، فقد مارس صدام مقدارا كبيرا من سلطته بالقهر والقوة، إنما بعد أن خلع عليها، مسبقا، مقدارا أكبر من شرعية الإنجاز والموقف والرؤية.

وفي مقابل قرقوزات يثيرون الخجل في كل مجمع، لا تليق حتى ملابسهم عليهم، كان صدام ذا شخصية "كاريزمية" نافذة. ثاقب ومخيف في نظرته. وكان الكثير من زعماء التفاهة العرب يهابونه او يرتعدون منه ويودون التخلص منه لانه، بعلو قامته، كان يكشف صغرهم ويعري ضعفهم ويُخزي وضاعتهم. وكان من الطبيعي أن يتحينوا له الفرص. ونجحوا. انتصروا عليه، وعلى العراق، بوضاعتهم نفسها، من دون أن يعلوا شبرا فوق ما كانوا عليه، بل زادهم انحطاط العراق ضعفاً وتفككاً وخزياً حتى لم يعدوا قادرين على أن ينبسوا ببنت شفة أمام أسيادهم.

بصفات من النخوة والشهامة والوطنية ومناهضة إسرائيل والإمبريالية الجديدة، حكم صدام العراق. وهو وجد قيادته سهلةً لانه كان يجسد، بالكثير من سياساته، ما يهيمن على وعي العراقيين وضمائرهم حيال وطنهم ومستقبل أمتهم.

وهو، لئن انقلب الى قوة بطش ظالمة فلانه، مثل الأسد الجريح، أصيب، بين حربين ضاريتين وحصارٍ وحشي، بما لم يُصَب أحدٌ به من قبل.

ومع ذلك، ظل يُعمّر ويبني ويناور. ولكنه وقع. كبى جواده، وكانت كبوةُ الشاطر كبوة.

لو كان أيٌ من طراطير الاحتلال يملك عشر معشار شرعية صدام أو عشر معشار وطنيته، أو عشر معشار شهامته وشجاعته ورجولته، لما وجدوا حكم العراق صعبا، ولما اضطروا، بين سوء الفهم وانحطاط الدراية، ان يتحولوا الى قصابين او أن يحولوا العراق الى "متحف للجثث".

آه، كم كان من السهل، لو لم يكونوا طراطير، أن يلوذوا بشهامة العراقيين وطيبة قلوبهم. وكم كان من السهل أن يبدأوا بالمغفرة والتسامح ليطووا صفحة الظلم والقسوة. وكم كان من السهل ان يقولوا للعراقيين هذا بلدنا جميعا، سنبنيه من أجلنا لا من اجل مصالح الغزاة. وسنطالب برحيل قواتهم فور، أو حتى من قبل، أن نتفق على مشروع وطني للتآخي والوحدة والتضامن والمساواة والديمقراطية، من دون أن نقصي أحدا، ومن دون أن نعطي لأحد ما لا يستحق. وكم كان من السهل ان يقولوا لبعضهم البعض ما يقولونه دائما: "نحن شيعة، إنما من شيعة عُمر. ونحن سنة، إنما من سُنة علي". وكم كان من السهل أن يظهر رجلٌ-رجلٌ يقول لمجرمي الاحتلال ولمرتكبي أعمال القتل العشوائية: لعنة الله عليكم، إن لم تكفّوا قاتلناكم بالسكاكين والأحذية.

ولكن لم يكن هناك رجل. طراطير ولصوص و... "مخانيث" فقط، يؤمنون، ملء عقولهم الفارغة، أن العراق "لا يُحكم الا بالقوة". وإذ لم يروا، من كل الصورة، الا جُزئية العنف والقسوة، فقد جالوا بها فوق رؤوس العراقيين جولة لم يسبق لها مثيل، حتى حولوا العراق الى حمام دم.

... إن للباطل جولة.

ولكن، بدلا من صدام، "كان العراق وما يزال بحاجة الى صدام". هذا ما يقوله اليوم ملايين العراقيين.

لماذا؟

لانه يعرفهم، ولانهم يعرفوه. ولانه مثلهم، ولانهم مثله، قومٌ ذوو كرامةٍ، متغطرسون بالضعف والقوة، ولكن يؤخذون بالشهامة والوطنية والشجاعة والنخوة، لا بالعنف والقسوة.
================
تعليق الدورية: لقد وصف الكاتب العراقيين والرئيس صدام حسين كما لم يصفهما احد بهذا العمق والصدق من قبل .