المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في اقتصاد المقاومة



عبدالغفور الخطيب
27-06-2006, 04:01 PM
في اقتصاد المقاومة

ليست المقاومة (مقاومة الاحتلال تحديدا في هذا المقام) ترفا أو مقامرة ولا هي (ولا كانت يوما) خيارا ذاتيا أو معطى عفويا سرعان ما يضمر وتتلاشى خيوطه بضمور ما في المشروع (مشروع المقاومة) أو تلاشي ما من لدن القائمين عليه جراء الضغط أو تشديد الخناق أو المحاصرة أو التضييق.

المقاومة حالة اجتماعية عارمة، وبالوقت ذاته حالة نفسية يكون للمقاوم بموجبها القابلية على وضع روحه بين يديه فما بالك بمعيشه اليومي أو معيش أهله وذويه. والسبب في ذلك لا ينحصر أصلا في كونه (المقاوم أقصد) يستهين بروحه أو بقوت صغاره، ولكن اساسا كون الذي يدفع به ويقدمه قربانا له إنما يتجاوز النفس والمعيش ليطاول جانبي الحرية والكرامة اللذان لا يقلان عن النفس والمعيش قيمة ولا إلحاحية.

وإذا كان من المزايدة الخالصة حقا الادعاء بأن زمن المقاومة (المسلحة تحديدا) قد ولى بسبب اختلاف الأزمان وتباين الظروف و"استحالة" هزم المحتل المدجج بالتكنولوجيا الحربية المتطورة والأقمار الصناعية الملتقطة للمتناهي الصغر والطائرات الموجهة بالحواسيب، فإنه من المزايدة الخالصة أيضا القول بإمكانية قهر المقاومة (أية مقاومة) إذا كانت مسنودة بفكرة ومرتكزة على تصور ومحتمية، فضلا عن كل هذا وذاك، بشرائح عريضة من المجتمع تستهجن الاحتلال وتتقزز من تواجده فما بالك إن كان عدواني الطبع، استفزازي السلوك، غير مكترث بأخلاق الشعب المحتل ولا مبال بتميز عاداته وتقاليده.

ليس ثمة من شك إذن أن المقاومة ثقافة بامتياز ناهيك عن كونها فعل حضاري راق وإلا فما معنى أن تعترف لها الديانات والقوانين الوضعية بالمشروعية والشرعية ووجوب السلوك كائنة ما تكن فلسفة الجهة الثاوية خلفها المتبنية للعمل المسلح كما الدافعة بالبعد المسالم كما العاملة على المزاوجة بينهما عبر خلق الأجنحة المختصة أو التوزيع المبطن للوظائف والأدوار.

ولما كانت كذلك (أو هكذا تبدو لنا)، فإن من الشروط الموضوعية لاستمراريتها وضمان النفس الطويل من بين ظهراني عناصرها (أفرادا وتنظيمات) إنما ضرورة ارتكازها على "بنية مادية" تضمن لها الحد الأدنى في البقاء وتؤمن لها سبل الحماية المعنوية التي لا مقاومة بدونها أو بعدم توفرها.

المقاومة ليست دولة قائمة (حتى وإن كان ذات الحلم يراودها عندما يندحر الاحتلال) بإمكانها فرض جبايات أو تحصيل إتاوات أو الحصول على مداخيل "سلطانية" تتأتى لها بقوة النار والسلاح. وهي ليست حزبا أو طائفة أو ميليشيا تستجلب مصادر تمويلها من الاشتراكات أو من التبرعات أو من تقاسم لمصادر الغنيمة مع هذا الطرف أو ذاك. هي أبعد عن تكون هاته أو تلك، ليس فقط كونها مشروعا تحريريا (تطوعيا في جانب كبير منه)، ولكن أيضا لأنها لا تبني اقتصادها على المصادر "المستجدة" التي تعتمل بداخل اقتصادات الدول المستقلة أو القائمة:

* فهي راهنت و تراهن، في اقتصادها، على التقشف الصرف في تدبير ما وفرته من موارد عندما تبين لها أن "زمن الاحتلال" قادم لا محالة فوجب التهيؤ له والاستعداد لمواجهته كما كان الحال مع المقاومة العراقية التي رتبت قبليا لما كانت مقتنعة بأنه آت... فأتي حقا بمجرد انقضاء اليوم التاسع من أبريل من العام 2003.

* وهي راهنت، ولا تزال تراهن، على كبرياء أبنائها (المقاتلين بالبندقية كما المرابطين حول الحرمات) على "شد الحزام" (كما هو الحال المشترك بين المقاومة العراقية والمقاومة بفلسطين). فإن تحصلت لهم وجبة أكل استحبوها ووجهوا مقابل الوجبتين لتقوية عضد المقاومة وإن لم يتسن لهم ذلك اعتبروه ثمن المقاومة أو في أخف الأحوال تضامنا معنويا معها.

* وهي راهنت، ولا تزال تراهن، على ما توفر لها من سلاح بدائي (بالأجساد في الغالب الأعم) أو ما اغتنمته من قوى الاحتلال أو ما تسنى لبعض الجيران تسريبه لها أو تمريره لبعض من عناصرها خفية ودونما موسط إعلامية قد تفسد عليها النهج.

ولئن بات الحال (بفلسطين كما بالعراق) يشي بمهادنة معلنة (حالة العراق) أو مضمرة (حالة فلسطين) لبعض من "ابناء الوطن" لقوى الاحتلال اعتبارا لتقاطع المصالح أو كنية في مقاومة يدعون أن ولاءها لهذه الجهة أو تلك، فإن واقع الحال يشي أيضا بأن ذلك إنما اضحى عنوان الممانعة الأساس المرفوع بوجه المقاومة بالعراق كما بفلسطين:

- فالقوى السنية المحسوبة تجاوزا على المقاومة العراقية (فما بالك بالقوى المتحالفة أصلا مع الاحتلال) لم تعد تحيل في مرجعياتها الخطابية على المقاومة، بل اضحت جزءا من عملية سياسية ثوت خلفها ورتبت لها قوى الاحتلال (وادعت أنها المدخل "لديموقراطية العراق الجديد") واعتبرت بالتالي أن ما تقوم به المقاومة إنما يجد تجسيده في حالة الحصار والتدمير والتخريب التي يتعرض لها الشعب العراقي، في حين (تقول ذات القوى) أن اللجوء للمقاومة السلمية أولى وأفيد وأقل ضررا.

لا تستقرأ أحداث المعيش اليومي هنا (قطع الكهرباء والماء، انقطاع الناس عن مزاولة نشاطهم، تعذر التزود بالمواد الطاقية الأساس وما سوى ذلك)، لا تستقرأ في كونها جزءا من سلوك للاحتلال يود من خلاله تشويه صورة المقاومة، بل وأيضا للتمويه بأن الذي جرى ويجري إنما سببه المقاومة وليس الاحتلال. وهو أمر يجانب الصواب ولا يقترب من حقيقة المجريات على الإطلاق.

* وحكومة حماس (حكومة الشعب الفلسطيني أقصد) لا تستقرأ إجراءاتها في كونها جزءا من اقتصاد مقاوم يتغيأ قطع الانفصام مع اقتصاد الاحتلال وبناء اقتصاد يعتمد القدرات الذاتية، بل يعتبر (من لدن مناوئيها من حركة فتح تحديدا) في كونه تجويعا للشعب وقطعا لأرزاق مواطنية العاملين بإسرائيل وتجاوزا (يقول هؤلاء) على "حقيقة أن الاقتصاد الفلسطيني اقتصاد معونات خارجية بامتياز".

لم ينحصر الأمر عند هذا الحد، بل ذهب لدرجة مصادرة أموال (متبرع بها) أتى بها أعضاء من حركة حماس لتسديد رواتب موظفي "السلطة" فإذا بهم يقتادون لمخافر الشرطة تماما كمهربي العملة أو المتهربين من الضرائب أو الباحثين عن سبل الاستثمار الريعي.

وإذا كان القول بأن إدخال بعض من المال للشعب الفلسطيني (عبر المعابر) دونما علم للسلطة هو "مخالفة قانونية" تستوجب العقاب، فإنه من الغباء حقا (والحيف أيضا) تصنيف عناصر حماس ضمن المهربين أو اعتبار بحثهم عن مصادر القوت لأبناء طينتهم ضربا من ضروب التجاوز على القانون؟

عن أي قانون يتحدث هؤلاء وهم يعلمون أن من بينهم من باعت شركاته الإسمنت لبناء الجدار العازل علنا وجهارة؟ وعن أي قانون يتحدثون وهم يعلمون علم اليقين أن ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي قد جعل الأول رهينة للثاني وجعل الفلسطينيين مجرد مستهلكين لبضائع إسرائيل؟

ليس من الطوباوية في شيء المطالبة ببناء اقتصاد للمقاومة بالعراق كما بفلسطين (موازيا للاقتصاد "الرسمي")، وليس من نسج الخيال الاعتقاد بضرورة قطع سبل التعامل مع الاحتلال. ليس ذلك طوبى ولا نسج خيال، بل هو المدخل الأساس للتحايل على اقتصاد الاحتلال ومحاصرته من حيث لا يدري...





د. يحي اليحياوي- باحث وأكاديمي من المغرب
تاريخ الماده:- 2006-06-26