المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صــراخ القبـــور



العاصفة
15-06-2006, 02:50 PM
تربّع َ الأمير على منصة القضاء ِ ، فجلس عقلاء بلاده عن يمينه ،وشماله ، وعلى وجوههم المتجعدة تنعكس أوجُهُ الكتبِ ،والأسفار .
وانتصب الجند حوله ممتشقين السيوف ،رافعين الرماح َ. ووقف الناس أمامهُ بين متفرّجٍ أتى به حبُ الاستطلاع ، ومرتقب ينتظر الحكم في جريمة قريبة ، وجميعهم قد أحنَوا رقابهم ،وخشعوا بأبصارهم ، وأمسكوا أنفاسهم ، كأن في عيني الأمير قوة توعز الخوف َ ، وتوحي الرعب إلى نفوسهم ،وقلوبهم .

حتى إذا ما اكتمل المجلس ، وأزفت ساعة الدينونة ، رفع الأمير يده وصرخ قائلاً : أحضروا المجرمين أمامي واحدا واحدا ، وأخبروني بذنوبهم ،ومعاصيهم.
فَفُتِحَ بابُ السجن ، وبانت جدرانه المظلمة مثلما تظهر حنجرة ُ الوحش الكاسر .. عندما يفتح فكيه متثائبا .
وتصاعدت من جوانبه قلقلة القيود ،والسلاسل متآلفة مع أنين الحبساء ،ونحيبهم.
فحوّلَ الحاضرون أعينهم ، وتطاولت أعناقهم كأنهم يريدون مسابقة الشريعة بنواظرهم ، ليروا فريسة َ الموت خارجة من أعماق ذلك القبر .

وبعد هنيهةٍ ، خرج من السجن جنديان يقودان فتى متكوف الساعدين يتكلم وجهه العابس ، وملامحه المنقبضة عن عزة في النفس ، وقوة في القلب . وأوقفاه وسط المحكمة وتراجعا قليلا إلى الوراء.
فحدق إليه الأمير دقيقة ً ، ثم سال قائلا : ماجريمة هذا الرجل المنتصب أمامنا برأس مرفوع كأنه في موقف الفخر لا في قبضة الدينونة ؟!!

فأجاب رجل من أعوانه قائلا :
هو قاتل ٌ شرير ٌ قد اعترض بالأمس قائدا من قواد الأمير ، وجندله صريعا .. إذ كان ذاهبا بمهمة بين القرى ، وقد قبض عليه والسيف المغمد بدماء القتيل مازال مشهورا في يده .
فتحرك الأمير غضبا فوق عرشه ، وتطايرت سهام الحنق من عينيه ، وصرخ بأعلى صوته قائلا : أرجعوه إلى الظلمة ، وأثقلوا جسده بالقيود ، وعندما يجيء فجرُ الغدِ اضربوا عنقَهُ بحد سيفهِ ، ثمَّ اطرحوا جثته في البريّة لتجردها العقبان ،والضواري ، وتحمل الرياح رائحة نتانتها إلى أنوف أهله ومحبيه .

أرجَعُوا الشابَ إلى السجن والناس يتبعونه بنظرات الأسف ، والتنهيدات العميقة ... لأنه كان فتًى في ربيع العمر ، حسن المظهر ، قويَّ البُنْيَةِ .
وخرج الجنديان ثانيةً من السجن يقودان صبيّةً جميلةَ الوجه ، ضعيفة َ الجسد ، وقد وشّح َ معانيها اصفرارُ اليأس ، والقنوط ، وغمرت عينيها العبرات ُ ، وألوتْ عنقها الندامة والحَسْرة.
فنظر إليها الأمير قائلاً : ومافعلت هذه المهزولةُ الواقفة أمامنا وقوف الظِّلِّ بجانب الحقيقة ؟!!
فأجابه أحدُ الجنود قائلاً : هي امرأةٌ عاهرةٌ قد فاجأها بعلها ليلاً ، فوجدها بين ذراعيْ خليلها ، فأسلمها للشرطة بعد أن فرّ أليفها هارباً .
فحدَّقَ الأمير إليها وهي مُطْرِقَةٌ خجلاً ، ثم قال بشدةٍ ، وقساوٍة : أرجعوها إلى الظُّلمة ، ومدِّدوها على فراشٍ من الشوك لعلها تَذْكُرُ المضجع الذي دنسته بعيــبِها ، وأسقوها الخَلَّ ممزوجاً بنقيع العلقــم ، عساها تذكر طعم القُبَلِ المحرّمة ، وعند مجيء الفجر جرّوها عارية إلى خارج المدينة ، وارجموها بالحجارة ، واتركوا جسدها هناك لكي تتنعم بِلُحمانِهِ الذئابُ ، وتنخََرَ عظامه الديدانُ ، والحشرات.
توارت الصبية بظلمة السجن والحاضرون ينظرون إليها بين معجب بعدل الأمير ، ومتأسفٍ على جمال وجهها الكئيب ، ورقة نظراتها المحزنة .
وظهر الجنديان ثالثة ً يقودان كهلاً ضعيفا يسحب ركبتيه المرتعشتين .. كأنهما خرقتان من اطراف ثوبه البالي ، ويلتفتُ جَزَعَاً إلى كلَّ ناحيةٍ ، ومن نظراته الموجعة تنبعث اخليةُ البؤس ، والفقر ، والتعاسة .

فالتفت الأمير نحوه ، وقال بلهجة الاشمئزاز : ماذنب هذا القذِرِ الواقف كالميت .. بين الأحيــــاء ؟!!
فأجابه أحد الجنود قائلاً : هو لصٌ سارقق قد دخل الديرَ ليلاً ، فقبض عليه الرُّهبان الأتقياء ، ووجدوا طيَّ أثوابه آنية َ مذابحهم المقدسة .
فنظر إليه الأميرُ نظرةَ النسرِ الجائع إلى عصفورٍ مكسورِ الجناحين ... وصرخ قائلاً : أنزلوه إلى أعماق الظلمة ، وكبوله ُ بالحديد ، وعند مجيء الفجر جرّوه إلى شجرةٍ عاليةٍ واشنقوهُ بحبلٍ من الكتّان ، واتركوا جَسَدَهُ معلقا بين الأرض والسَّماءِ ، فتنثر العناصر أصابعه الأثيمة نثرا ، وتذري الرّياح أعضائه نتفا .
أرجوعوا اللص إلى السجن ، والناس يهمسون بعضهم في آذان بعض قائلين : كيف تجرأ هذا الضعيف الكافرُ على اختلاس آنية الدّيرٍ المقدسة ؟!!
ونزل الأمير عن كرسيِّ القضاء ، فأتبعه العقلاء ومن حوله وسارَ الجُندُ خلفه وأمامه ، وتبدد شمل المتفرجين ، وخلا ذلك المكان إلا من عويل المسجونين وزفرات القانطين المتمايلة كالأخيلة على الجداران .

جرى كل ذلك أمامي وأنا واقفٌ هناك وقوفَ المرآة أمام الأشباح السائرة ، متأملاً بمن جعله الناس حاكما ً ، متعمقا بأسرار الحياة باحثا عن معنى الكيان .
حتى إذا ما تضعضعت أفكاري ، مثلما تتوارى خطوط الشفق ِ بالضباب ، خرجت من ذاك المكان قائلا لذاتي : الأعشاب تمتص عناصر التراب ، والخروف يلتهم الأعشاب ، والذئب يفترس الخروف ، ووحيد القرن يقتل الذئب ، والأسد يصيد وحيد القرن ، والمــــــــــــــوت ينفي الأســـد .
فهل توجد قوة تتغلب على المــــوت ، فتجعل سلسلة هذه المظالم عدلاً سرمديا ً ! .... أتوجد قوةٌ تقبض بكفها على جميع عناصر الحياة ِ ، وتضمها إلى شرع الله وسمته العادلة ، مثلما يرجع البحر السواقي إلى أعماقه مترنما ً؟!!
أتوجد قوةٌ توقف القاتل ، والمقتول ، والزانية ، وخليلها ، والسارق ، والمسروق منه ؟!!












يتبع بإذن الله

صدام العرب
16-06-2006, 02:33 PM
في انتظار المزيد.....

العاصفة
17-06-2006, 10:02 AM
وفي اليوم الثاني ..
خرجتُ من المدينةِ وسرْت بين الحقول حيثُ تُبِيحُ السكينة ُ للنفس ِ ماتسرّه النفسُ ، ويُميتُ ظهرُ الفضاء جراثيم اليأس والقنوط ِ التي تولدها الشّوارعُ الضيّقةُ والمنازلُ المُظْلمة.
ولمَّا بلغت طَرَفَ الوادي .. التفتُّ فإذا بأجواقٍ كثيرةٍ من العُقبان ِ ، والغربان ، والنسور تتطاير تارة ، وتهبط طوراً ، وقد مَلَأت الفضاء بنُعَابِها ، وصفيرها ، وحفيف أجنحَتِها.
فتقدمت قليلاً ، مستطلعاً ، فرأيت أمامي جثّة َ رجل ٍ معلّقةً على شجرة ٍ عالية ، وجثة َ امرأةٍ عاريةٍ مطروحة بين الحجارةِ التي رُجِمَتْ بها ، وجثّةَ فتًى غارقةًَ بالدماءِ المجبولة ِ بالترابِ ، وقد فُصِلَ رأسُها عنها.
وقفتُ وهولُ المشهدِ يُغَشِّي بصيرتي بنقابٍ كثيفٍ مظلم ، ونظرتُ فلم أرَ سوى خيالِ الموتِ المريع منتصباً بين الجثث الملطخة بالدماء. وأصغيتُ فلم أسمعْ غير عويلِ العَدَمِ ممزوجاً بنُعاب الغربان الحائمةِ حولَ فريسةِ شرائع البشر.
ثلاثةٌ من أبناء آدم كانوا بالأمس على أحضان الحياةِ ، فأصبحوا اليوم في قبضةِ الموت.
ثلاثةٌ أساؤوا بعُرف البشر إلى النّاموس ، فمد القضاء الأعمى يده .. وسحقهم بقساوة.
ثلاثةٌ جعلهم الجهلُ مجرمين لأنهم ضعفاء ، فجعلهم القضاء أمواتا لأنه قويّ.
رجلٌ فتك برجلٍ آخر ، فقال الناسُ : هذا قاتل ظالم ، وعندما فتك به الأميرُ قال الناسُ : هذا أميرٌ عادلٌ.
ورجلٌ حاول أن يسلب الدِّيرَ فقال الناسُ : هذا لصٌ شريرٌ ، وعندما سلبهُ الأمير حياتهُ قالوا : هذا أميرٌ فاضلٌ.
وامرأةٌ خانت بعلها فقال الناس : هي زانيةٌ عاهرة. ولكن عندما سيّرها الأميرُ عاريةً ، ورجمها على رؤوس الأشهادِ قالوا : هذا أمير شريفٌ.

سَفَكُ الدماءِ محرمٌ ، ولكنْ .. من حلّلَهُ للأمير ؟!!
سلبُ الأموالِ جريمةٌ ، ولكن .. من جَعَل سلبَ الأرواحِ فضيلة ؟!!
خيانة النساءِ قبيحةٌ ، ولكن .. من صيّر رجمَ الأجساد جميلاً ؟!!

أنقابلُ الشرَّ بشرٍّ أعظم ، ونقول هذه هي الشريعةُ ؟!! ونقاتِلُ الفساد بفسادٍ أعظم أعمَّ ، ونهتف هذا هو النّاموس ؟!! ونغالبُ الجريمةَ بجريمةٍ أكبر ، ونصرخُ .. هذا هو العدلُ ؟!!
أما صَرَعَ الأميرُ عدوًّا في غابِرِ حياته ؟!! أما سلبَ مالاً ، أو عقاراً من أحد تابعيه الضعفاء ؟!! أما راود امرأةً جميلةً عن نفسِها ؟!! هل كان معصوماً عن هذه المحرمات ، فجاز له إعدامُ القاتل ، وشنقُ السّارِق ، ورجمُ الزّانية ؟!!
وَمَنْ هُمُ الذينَ رفعوا هذا اللِّصَّ على الشجرةِ : املائكةٌ نزلوا من السّماءِ ، أم رجالٌ يغتصبونَ ، ويسرقونَ كل ماتصل إليه أيديهم ؟!!
ومن قَطَعَ رأسَ هذا القاتل ؟!! أأنبياءٌ هبطوا مِنَ العلاءِ ، أم جنودٌ يقتلون ، ويسفكونَ الدِّماءَ أينما حلّوا ؟!!
ومن رجَمَ هذه الزانيةَ ؟!! .. أنُسّـاكٌ طاهرون اتوا من صوامِعِهِمْ ، أم بشرٌ يأتون المنكراتِ ، ويفعلون الرذائلَ مختبئينَ بستائرِ الظلامِ ؟!!
وفي أيّ جيلٍ من الأجيالِ سار الملائكةُ بين الناس قائلينَ : ا’حرموا الضُعَفَاء نورَ الحياةِ ، وافنوا السّاقطينِ بحد السيفِ ، ودوسوا الخُطاة بأقدامٍ من حديد ؟!!
وظلّت هذه الأفكارُ تتزاحم على فِكرَتي ، وتتساهمُ عواطفي .. حتى سمعتُ من وطءَ أقدامٍ قريبةٍ مني ، فنظرتُ وإذا بصبيّةٍ قد ظهرتْ من بين الأشجار ِ ، واقتربتْ من الجثَثِ الثلاثِ مُتَحَذِّرَةً متلفّتةً بخوفٍ إلى كل ناحية ٍ ، حتى إذا مارأتْ رأس الفتى المقطوع ، صرخت جزعاً ، وركعت بجانبه ، وطوّقَتهُ بزنديها المرتجفتينِ ، وأخذت تستفرغُ الدموع من عينيها ، وتلامس شعْرهُ الجعديَّ بأطراف أصابعها ، وتنتحب بصوتٍ عميقٍ جارحٍ خارجٍ من صميم الكبد.

ولما انَهَكَها البكاءُ ، وغلبتها الحسراتُ ، أسرعت تحفرُ التراب بيديها. حتى إذا ما حفرت قبراً واسعاً جرّت إليه الفتى المصروعَ ، ومددتهُ على مهلٍ ، ووضعتْ رأسه المضرّجَ بالدماءِ بين كتفيه ، وبعد أن غمرتهُ بالتّرابِ غرَسَتْ نصْلَ السيفِ الذي قطع عنقهُ على قبره. وإذ همّتْ بالإنصرف ِ ، تقدَّمتُ نحوها .. فأجفلتْ ، وارتعشت خوفاً ، ثم أطرقت والدمع السخين يتساقط من مقلتيها كالمطر ِ ،وقالت متنهدةٍ : اشكِني إلى الأميرِ إن شئتَ .. فخيرٌ لي أن أموت ، وألحق بمن خلّصني من قبضة العارِ ، من أن أتركَ جَسَدَهُ طعاما لقشاعم الطير ، والوحوشِ الكواسر .

فأجبتها قائلاً : لا تخافي مني أيّتها المسكينةُ ، فانا قد ندبتُ حظَّ فتاكِ قبلكِ ، بل خبريني كيف أنقذكِ من قبضة العارِ .
فقالت والغُصَصُ تقطع صوتها : جاءَ قائد الأمير إلى حقولنا ليتقاضى الضَّرائبَ ، ويجمعَ الجزية . ولما رآني .. نظر إلى نظرة َ استحسانٍ مخيفةً . ثم فرضَ ضريبةً باهضةً على حقل والدي الفقير يعجزُ الغني عن دفعِها ، فقبض علي ليقتادني قهراً إلى صرح الأمير بدلاً من الذهب ِ ، فاسترحمته بدموعي فلم يحفلْ ، واستحلفته بشيخوخة والدلي فلم يرْحمْ ، فصرخت مستغيثةً برجال القريةِ ، فجاء هذا الشابُ وهو خطيبي وخلّصني من بين يديه القاسيتين ، فاستشاط غضباً وهم أن يفتك به ، فسبقهُ الشابُّ ، وامتشق َ سيفاً قديماً معلقاً على الحائط ، وصرعهُ به مدافعا عن حياته ، وعن عِرضي ، ولِكِبرِ نفسهِ لم يفرَّ هارباً كالقَتَلَةِ المجرمينَ ، بل لبثَ واقفاً بقرب جثّةِ القائد الظلومِ حتى جاءَ الجندُ ، وساقوهُ إلى السّجن مكبّلاً بالقيود.

قالت هذا ، ونظرتْ إلي نظرةً تذيب الفؤادَ ، وتثير الشجونَ ، وولّت مسرعةً ورناتُ صوتِها الموجعةُ تولِّد بين تموّجاتِ الأثيرِ اهتزازاً ، وارتعاشاً .








يتبع بإذن الله

صدام العرب
23-06-2006, 07:20 PM
كذلك متابعون ...

رغم أن بعض الاستفهامات التي وردت في غير محلّها...

العاصفة
23-06-2006, 11:45 PM
أخي صدام العرب .. قد تتفاجئ من بعض الكلمات التي تنم عن تمرد وثورة .. لكن الخلاصة تبين التسرع في إطلاق الأحكام على الآخرين .. وإن كان الثمن أرواحهم ..

العاصفة
23-06-2006, 11:46 PM
وبعد هنيهةٍ ، نظرتُ ، فرأيتُ فتًى في ربيع العُمْرِ يتقدّمُ ساتراً وجهه بأثوابِهِ ، حتى إذا مابلغَ جثّةَ المرأة الزانيةِ ، وقف بقربها ، وخَلَعَ عبائتهُ ، وستر بها أعضائها العارية ، وأخذ يحفُرُ الأرضَ بخنجرٍ كان معه ، ثم حملها بهدوءٍ ، وواراها التُّرابَ ساكباً مع كلّ حفنةٍ .. قطرةً من أجفانه.
ولما انتهى من عمله .. جنى بعض الزهورِ النابتةِ هناكَ ، ووضَعَها على القبرِ منحنيَ الرأسِ منخفضَ الطرْف.
وإذ همَّ بالذهاب أوقفتُهُ قائلاً : مانسبةُ هذه المرأةِ الساقطةِ إليكَ .. حتَّى سعيت مخالفاً إرادة الأمير ، ومخاطراً بحياتِكَ لكي تحمِيَ جَسَدَها المرضوضَ من طيور السماءِ الجوارح ؟!!

فنظر إلي ، وأجفانه المقرَّحَةُ من البكاءِ ، والسهر ، تتكلّمُ عن شدّة حزنه ، ولوعته ، وبصوتٍ مخنوقٍ ترافقه التَّنهُداتُ الأليمةُ .. قال : أنا هو ذلك الرَّجُلُ التَّعِسُ الذي رُجِمَتْ من أجله.
أحببتها وأحبَّتني مذ كنّا صغيريـنِ نلعبُ بين المنازل. نمونا ، ونما الحبّ معنا ، حتى صار سيداً قويَّاً نخدمُهُ بعواطفِ قلبينا ، فيستميلنا إليه ، ونهابُهُ بسَرَائِرِ روحينا ، فيضمُّنا إلى صدرِه .

ففي يوم وقد كنت غائباً عن المدينة زوَّجها والدُها كرهاً من رجلٍ تكرهه ، ولمّا رجعتُ ، وسمعتُ بالخبر ، تحوّلتْ أيّامي إلى ليلٍ طويلٍ حالك ، وصارت حياتي نزاعاً مرَّاً متواصلاً.
وبقيتُ أصارع عواطفي ، وأغالب ميول نفسي .. حتى تَغًَلَّبتْ عليّ ، وقادتني مثلما يقود البصير ضريراً أعمى.
فذهبتُ إلى بيتِ حبيبتي سرَّاً ، وأقصى مرامي أن أرى نور عينيها ، وأسمع نغمةَ صوتِها ، فوجدتها منفردةً تندُبُ حظّها ، وترثي أيّامها.
فجلستُ والسكينة حديثنا ، والعفاف معنا. ولم تمرَّ ساعةٌ حتى دخلَ زوجُها فجأةً ، ولما رآني أوعزتْ إليهِ نِيّاتُهُ القذرةُ فقبض على عنقها الأملس بكفيه القاسيتين ، وصَرَخَ بأعلى صوته : تعالوا ، وانظروا الزّانية وعشيقَها.
فهرول الجيرانُ ، ثم جاءَ الجُندُ مستطلعينَ الخَبَرَ ، فأسلَمَها إلى أيديهِمُ الخَشِنَةِ ، فاقتادوها محلولةَ الشَّعْرِ ممزقةَ الثياب. أما أنا ، فلم يمسّني أحدٌ بضررٍ .. لأن الأحكامَ العمياءَ والتَّقاليدَ الفاسدةَ .. تعاقبُ المرأةَ إذا سقطتْ ، أما الرَّجلُ فتسامحُهُ !

وعاد الشّابُ نحو المدينة ساتراً وجهه بأثوابه ، ولبَثْتُ أنا ناظراً متأملاً متنهداً ، وجثّةُ اللِّصِّ المشنوقِ ترتجفُ قليلاً كلَّما هزَّ الهواءُ أغصان الشجرةِ ، كأنها تسترحمُ بحراكها أرواحَ الفضاءِ لتهبطَ ، وتمدّدَها على صدْرِ الأرض بجانب قتيلِ المروءَةِ ، وشهيدةِ الحُبِّ.








يتبع بإذن الله .. مع المظلوم الثالث.. وألم مكعب.

المهند
24-06-2006, 04:06 PM
حياك الله ابن عمي
نحن لكم متابعون