عبدالغفور الخطيب
23-04-2006, 11:07 PM
معتقل المنطقة الخضراء
عندما دخلت القوات الأمريكية بغداد (صبيحة التاسع من أبريل من العام 2003)، "فاتحة"، منتشية بنصر "نهائي" يسير ومزهوة باختراقها لساحة الفردوس حيث ينتصب التمثال الشامخ للرئيس صدام حسين، أطلقت العنان لشتى ضروب النهب والسلب والتدمير وحرضت "الجماهير الغاضبة" على استهداف كل ما يرمز إلى "عهد الديكتاتورية" أو يمثلها أو يوحي إليها جوهرا أو بالمظهر.
كان كل شيء ببغداد، في صبيحة اليوم إياه، يشي بفوضى عارمة استبيحت في ظلها كبرى مرافق الدولة العراقية ومآثر حضارة الرافدين ولم يسلم من أذاها إلا ما قامت على حمايته قوى الاحتلال وحالت دونه ودون بلوغه من لدن "الغوغاء".
بالتزامن مع ذلك، اختارت القوى إياها لنفسها، بقلب بغداد، "مجالا ترابيا" كان من ذي قبل (من قبل الاحتلال أعني) مجالا سياديا بامتياز حيث المجمع الرئاسي الذي من بين ظهرانيه كان الرئيس العراقي يباشر قيادة البلاد ويتدبر شؤون محافظاتها.
لم تطلق قوى الاحتلال على المجال إياه تسمية "المنطقة الخضراء" جزافا، بل لكونه يضم مساحات شاسعة من الحدائق والبساتين تقدر سعتها الإجمالية بحوالي عشرة كيلومترات مربعة كانت من ذي قبل مكمن السيادة وفضاء القرار الحر.
هي عبارة عن فضاء مستطيل يحده من الشرق نهر دجلة ومن الغرب حديقة الجندي المجهول ومن الجنوب جسر 14 يوليوز/ يوليو ومن الشمال جسر الجمهورية الذي أقيم تيمنا رمزيا بسقوط النظام الملكي في العام 1958.
لم تختر قوات الاحتلال المنطقة الخضراء (يطلق عليها من لدنهم أيضا المنطقة الدولية) اعتبارا فقط لتميز موقعها أو للهيبة الرمزية التي مثلتها زمن الرئيس صدام حسين، بل وبالأساس للإيحاء المادي المباشر بأن مركز المنظومة السياسية التي كانت تجسدها المنطقة من ذي قبل قد تهاوى وولى بدليل السيطرة على أقوى معاقلها واشدها تحصينا على الإطلاق.
وعلى الرغم من التحصينات الكبرى التي كانت، قبل سقوط بغداد، مقامة لحماية المجمع (بحكم التواجد الرسمي لأركان الدولة به)، فإن الاحتلال عمد إلى تشديدها وتقوية الحراسة على مداخلها برا وجوا ومن الداخل أيضا. فشيد بذلك (من حولها) جدارا إسمنتيا بعلو أربعة أمتار متعذر الاختراق وأقام بداخلها الحواجز المتعرجة وأحاط الكل بشبكة من الأسلاك الشائكة وأجهزة الرقابة الألكترونية وعشرات الدبابات المدججة بالرشاشات الثقيلة وكفل أمر تسييرها لشركة خاصة (كلوبال سترتيجيز غروب) هي ذاتها التي تسير مطار بغداد (مطار صدام الدولي سابقا).
قد تبدو المنطقة الخضراء (على الأقل للناظر من الخارج) قلعة عسكرية محصنة لا يلجها إلا من توفرت لديه بطاقة ما أو احتمى بترخيص. لكنها أكثر من ذلك بكثير بحكم حساسية المرافق المقامة بجوفها وطبيعة المهام المناطة بها وهي "قلب الدولة الجديد" بكل الأحوال:
· فهي تضم سفارتي قوى الاحتلال (السفارة الأمريكية اتخذت لها مرافق القصر الجمهوري إمعانا في الإهانة) وسفارة إسرائيل، ومقار إقامة العديد من السفراء وجنرالات الاحتلال وخبرائهم ومستشاريهم وطواقم إداراتهم ومترجميهم وخدمهم واختصاصيي تسليتهم بنواد للترفيه والتسلية بكل اللغات والألوان.
· وهي تضم مقار الحكومة التي نصبها الاحتلال (الوزارات الحساسة قبل غيرها) وغرفة "البرلمان المنتخب" و"رئاسة الجمهورية" ومقرات العديد من "الأحزاب السياسية" ومعظم فضائيات "العهد الجديد" وما سواها.
· وهي تضم، فضلا عن كل ذلك، فندق الرشيد الشهير و"المحكمة الجنائية" التي أقامها الاحتلال لمحاكمة الرئيس صدام حسين ونفر من رفاقه على وقائع منتقاة ودونما مراعاة لحصانته أو لواقع الاحتلال الذي ترزح البلاد تحت وطأته.
لا يعرف المرء بالضبط كم هي نسبة الكثافة السكانية بهذه المنطقة (يوجد بها ومن حولها أكثر من عشرة آلاف جندي) ولا جنسية العديد من قاطنيها ولا هوية العديد من الوافدين إليها ليل نهار، ناهيك عن المهمات الموكولة إليهم وهكذا. لكن المؤكد حقا أن قادة الاحتلال المباشر وحفنة العملاء القادمين معهم (وهم نفر أضحوا معروفين ومموسطين بالفضائيات) هم الذين يقررون من داخل هذه المنطقة، في حال ومآل ما يفوق الخمسة والعشرين مليون عراقي.
وإذا كان من غير المبالغ فيه القول بأن المنطقة الخضراء إنما هي دولة الاحتلال بامتياز، فإنه من غير المبالغة أيضا القول بأنها نادرا ما لا تتعرض لضربات المقاومة عبر الصواريخ أو بالعبوات الناسفة على مداخلها أو بالعمليات الفدائية التي يقوم بها عناصرها:
· فنائب وزير الدفاع الأمريكي (بول وولفويتز) افلت من موت محقق بفندق الرشيد حيث كان مقيما ولم ينفع في استهدافه لا الأسلاك الشائكة ولا كاميرات المراقبة ولا عشرات الجنود المحيطين بالفندق (توفي ضابط أمريكي برتبة عقيد في أعقابها).
· و"حكام العراق الجدد" لا يستطيعون التجول بالمنطقة إياها دونما حراسة شخصية مشددة ونادرا ما "يتجولون" بها دونما التفات ذات اليمين وذات اليسار، بل إن "رئيس جمهورية الاحتلال" لا يشعر بالأمان والاطمئنان إلا وهو ببلدته بكردستان.
· وبلوغها من لدن الزوار الكبار الخارجيين (أمريكان وإنجليز وغيرهم) غالبا ما يتم في السر المطبق وتجند له المروحيات عوض ولوج المنطقة من أحد مداخلها البرية المتعددة، بل إن اجتماعات "البرلمان" غالبا ما تسبقها إجراءات رقابة ومراقبة ندر مثيلها في "بلد مفتوح".
قد تكون منطقة المجمع الرئاسي خضراء حقا ببساتينها وحدائقها والمياه الجارية من بين أحضانها، وقد تكون مريحة بفضائها الشاسع ومكاتبها الرئاسية الفاخرة، لكنها تأكيدا سجنا كبيرا تعتقل به المقاومة العراقية قادة الاحتلال والعملاء التي رضيت عنهم فأقامت لهم مقار ومساكن من بين ظهرانيها.
وعلى هذا الأساس، فإذا كانت قوات الاحتلال وعملاءها يدعون السيطرة على البلاد عبر سيطرتهم على المنطقة الخضراء، فإنهم باتوا يدركون أن إقامتهم بالمنطقة إياها إنما هو من إقامة السجين بسجنه... والتحصينات المقامة من حولهم إنما هي أولا وبالمحصلة النهائية من حماية السجناء ليس إلا.
د. يحي اليحياوي- باحث وأكاديمي من المغرب
تاريخ الماده:- 2006-04-23
عندما دخلت القوات الأمريكية بغداد (صبيحة التاسع من أبريل من العام 2003)، "فاتحة"، منتشية بنصر "نهائي" يسير ومزهوة باختراقها لساحة الفردوس حيث ينتصب التمثال الشامخ للرئيس صدام حسين، أطلقت العنان لشتى ضروب النهب والسلب والتدمير وحرضت "الجماهير الغاضبة" على استهداف كل ما يرمز إلى "عهد الديكتاتورية" أو يمثلها أو يوحي إليها جوهرا أو بالمظهر.
كان كل شيء ببغداد، في صبيحة اليوم إياه، يشي بفوضى عارمة استبيحت في ظلها كبرى مرافق الدولة العراقية ومآثر حضارة الرافدين ولم يسلم من أذاها إلا ما قامت على حمايته قوى الاحتلال وحالت دونه ودون بلوغه من لدن "الغوغاء".
بالتزامن مع ذلك، اختارت القوى إياها لنفسها، بقلب بغداد، "مجالا ترابيا" كان من ذي قبل (من قبل الاحتلال أعني) مجالا سياديا بامتياز حيث المجمع الرئاسي الذي من بين ظهرانيه كان الرئيس العراقي يباشر قيادة البلاد ويتدبر شؤون محافظاتها.
لم تطلق قوى الاحتلال على المجال إياه تسمية "المنطقة الخضراء" جزافا، بل لكونه يضم مساحات شاسعة من الحدائق والبساتين تقدر سعتها الإجمالية بحوالي عشرة كيلومترات مربعة كانت من ذي قبل مكمن السيادة وفضاء القرار الحر.
هي عبارة عن فضاء مستطيل يحده من الشرق نهر دجلة ومن الغرب حديقة الجندي المجهول ومن الجنوب جسر 14 يوليوز/ يوليو ومن الشمال جسر الجمهورية الذي أقيم تيمنا رمزيا بسقوط النظام الملكي في العام 1958.
لم تختر قوات الاحتلال المنطقة الخضراء (يطلق عليها من لدنهم أيضا المنطقة الدولية) اعتبارا فقط لتميز موقعها أو للهيبة الرمزية التي مثلتها زمن الرئيس صدام حسين، بل وبالأساس للإيحاء المادي المباشر بأن مركز المنظومة السياسية التي كانت تجسدها المنطقة من ذي قبل قد تهاوى وولى بدليل السيطرة على أقوى معاقلها واشدها تحصينا على الإطلاق.
وعلى الرغم من التحصينات الكبرى التي كانت، قبل سقوط بغداد، مقامة لحماية المجمع (بحكم التواجد الرسمي لأركان الدولة به)، فإن الاحتلال عمد إلى تشديدها وتقوية الحراسة على مداخلها برا وجوا ومن الداخل أيضا. فشيد بذلك (من حولها) جدارا إسمنتيا بعلو أربعة أمتار متعذر الاختراق وأقام بداخلها الحواجز المتعرجة وأحاط الكل بشبكة من الأسلاك الشائكة وأجهزة الرقابة الألكترونية وعشرات الدبابات المدججة بالرشاشات الثقيلة وكفل أمر تسييرها لشركة خاصة (كلوبال سترتيجيز غروب) هي ذاتها التي تسير مطار بغداد (مطار صدام الدولي سابقا).
قد تبدو المنطقة الخضراء (على الأقل للناظر من الخارج) قلعة عسكرية محصنة لا يلجها إلا من توفرت لديه بطاقة ما أو احتمى بترخيص. لكنها أكثر من ذلك بكثير بحكم حساسية المرافق المقامة بجوفها وطبيعة المهام المناطة بها وهي "قلب الدولة الجديد" بكل الأحوال:
· فهي تضم سفارتي قوى الاحتلال (السفارة الأمريكية اتخذت لها مرافق القصر الجمهوري إمعانا في الإهانة) وسفارة إسرائيل، ومقار إقامة العديد من السفراء وجنرالات الاحتلال وخبرائهم ومستشاريهم وطواقم إداراتهم ومترجميهم وخدمهم واختصاصيي تسليتهم بنواد للترفيه والتسلية بكل اللغات والألوان.
· وهي تضم مقار الحكومة التي نصبها الاحتلال (الوزارات الحساسة قبل غيرها) وغرفة "البرلمان المنتخب" و"رئاسة الجمهورية" ومقرات العديد من "الأحزاب السياسية" ومعظم فضائيات "العهد الجديد" وما سواها.
· وهي تضم، فضلا عن كل ذلك، فندق الرشيد الشهير و"المحكمة الجنائية" التي أقامها الاحتلال لمحاكمة الرئيس صدام حسين ونفر من رفاقه على وقائع منتقاة ودونما مراعاة لحصانته أو لواقع الاحتلال الذي ترزح البلاد تحت وطأته.
لا يعرف المرء بالضبط كم هي نسبة الكثافة السكانية بهذه المنطقة (يوجد بها ومن حولها أكثر من عشرة آلاف جندي) ولا جنسية العديد من قاطنيها ولا هوية العديد من الوافدين إليها ليل نهار، ناهيك عن المهمات الموكولة إليهم وهكذا. لكن المؤكد حقا أن قادة الاحتلال المباشر وحفنة العملاء القادمين معهم (وهم نفر أضحوا معروفين ومموسطين بالفضائيات) هم الذين يقررون من داخل هذه المنطقة، في حال ومآل ما يفوق الخمسة والعشرين مليون عراقي.
وإذا كان من غير المبالغ فيه القول بأن المنطقة الخضراء إنما هي دولة الاحتلال بامتياز، فإنه من غير المبالغة أيضا القول بأنها نادرا ما لا تتعرض لضربات المقاومة عبر الصواريخ أو بالعبوات الناسفة على مداخلها أو بالعمليات الفدائية التي يقوم بها عناصرها:
· فنائب وزير الدفاع الأمريكي (بول وولفويتز) افلت من موت محقق بفندق الرشيد حيث كان مقيما ولم ينفع في استهدافه لا الأسلاك الشائكة ولا كاميرات المراقبة ولا عشرات الجنود المحيطين بالفندق (توفي ضابط أمريكي برتبة عقيد في أعقابها).
· و"حكام العراق الجدد" لا يستطيعون التجول بالمنطقة إياها دونما حراسة شخصية مشددة ونادرا ما "يتجولون" بها دونما التفات ذات اليمين وذات اليسار، بل إن "رئيس جمهورية الاحتلال" لا يشعر بالأمان والاطمئنان إلا وهو ببلدته بكردستان.
· وبلوغها من لدن الزوار الكبار الخارجيين (أمريكان وإنجليز وغيرهم) غالبا ما يتم في السر المطبق وتجند له المروحيات عوض ولوج المنطقة من أحد مداخلها البرية المتعددة، بل إن اجتماعات "البرلمان" غالبا ما تسبقها إجراءات رقابة ومراقبة ندر مثيلها في "بلد مفتوح".
قد تكون منطقة المجمع الرئاسي خضراء حقا ببساتينها وحدائقها والمياه الجارية من بين أحضانها، وقد تكون مريحة بفضائها الشاسع ومكاتبها الرئاسية الفاخرة، لكنها تأكيدا سجنا كبيرا تعتقل به المقاومة العراقية قادة الاحتلال والعملاء التي رضيت عنهم فأقامت لهم مقار ومساكن من بين ظهرانيها.
وعلى هذا الأساس، فإذا كانت قوات الاحتلال وعملاءها يدعون السيطرة على البلاد عبر سيطرتهم على المنطقة الخضراء، فإنهم باتوا يدركون أن إقامتهم بالمنطقة إياها إنما هو من إقامة السجين بسجنه... والتحصينات المقامة من حولهم إنما هي أولا وبالمحصلة النهائية من حماية السجناء ليس إلا.
د. يحي اليحياوي- باحث وأكاديمي من المغرب
تاريخ الماده:- 2006-04-23