المهند
12-04-2006, 12:37 AM
قتلى الحروب أحكام تغسيلهم والصلاة عليهم
القتلى في أرض المعركة، أو في المنازل، أو الطرقات، أو الملاجئ سواء باشروا القتال أم لم يباشروه من قريب أو بعيد؛ إذا أصيب هؤلاء بآثار جراح من شظايا متطايرة، أو غازات سامة، أو متجرثمة، أو مواد حارقة؛ فماتوا على الفور متفحمين أو متسممين، أوغير ذلك، أو ارتث حال البعض ثم مات بعد حين، فما الحكم في تغسيلهم والصلاة عليهم على اعتبارهم شهداء أو غير شهداء؟
ثم على القول بوجوب الغسل كيف يتم تغسيلهم عند التمزق،أو التفحم من جراء انفجار ألغام أرضية، أو قصف جوي، أو بري، أو حرب مدن؟
بل كيف تتم الصلاة على القتيل بعد تطاير أجزائه، واختفاء بعضها مع احتمال أن توجد بعد أن يصلى على الأعضاء الموجودة؟
كل هذه من الأمور التي ينبغي معرفة حكم الله تعالى فيها لا سيما مع تفشي القتل، وتطور الأسلحة، واقتران ذلك بموت الضمير الإنساني عند مسعري الحروب في هذا الزمان على وجه الخصوص.
وقبل أن نلج في بيان الحكم نود تسليط الضوء على المراد بالشهيد عند الفقهاء حتى يتسنى الفصل في مسائل الغسل والصلاة على هؤلاء القتلى.
من هو الشهيد؟!
الشهيد عند الفقهاء على قسمين :
القسم الأول : شهيد الدنيا والآخرة، و هو الذي يقتل في قتال مع الكفار، مقبلاً غير مدبر؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، دون غرض من أغراض الدنيا، وقد ورد بيان هذا القسم في الأحاديث التالية :
1- عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : " إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال مستفهماً: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله"(1).
القسم الثاني: شهيد الآخرة : وهو المقتول ظلماً من غير قتال، ومن مات بداء البطن، أو بالطاعون، أو بالغرق، والنفساء التي تموت في طلقها، ونحو ذلك . واستثني من الغريق العاصي بركوبه البحر كأن كان الغالب فيه عدم السلامة، أو ركوبه لإتيان معصية من المعاصي، ومن الطلق الحامل بزنى، ويدل على هذا القسم مايلي :
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تَعُدُّونَ الشهيدَ فيكم ؟ قالوا: يا رسول الله، مَنْ قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيدٌ، قال : إنَّ شُهدَاءَ أُمَّتي إذاً لَقليلٌ، قالوا: فَمن هُمْ يا رسولَ الله ؟ قال : من قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيدٌ، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البَطْنِ فهو شهيد، قال ابنُ مِقْسَمٍ : أشهدُ على أبيك- يعني أبا صالح- أنَّهُ قال: والغريق شهيدٌ"(2).
2- عن سعيد بن زيد رضي الله عنه: قال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ قُتلَ دُونَ مالهِ فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهو شهيد، ومن قتلَ دون دِينه فهو شهيد، ومن قُتلَ دُونَ أهْلهِ فِهو شهيد"(3).
3- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطاعون شهادة لكل مسلم"(4).
ثانياً: تغسيل الشهداء على ضوء هذا التقسيم :
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول:
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية(5)، والمالكية(6)، والشافعية(7)، والحنابلة(8)، و الظاهرية(9)، الى أن القسم الأول وهو شهيد الحرب الذي قتله العدو في المعركة فمات محترقاً بعضه، أو كله، أو وجد وقد تفحمت جثته من شدة الاحتراق، أو وجد في مكان المعركة وبه جراح مات على إثرها أنه لايغسل؛ بل يدفن في جراحه، سواء كان ذلك في قصف جوي، أم رمي بري، أم بحري، أم حرب نووية، أم انفجار لغم، أم في غيرها.
واستثنى الحنابلة إذا كان المقتول جنباً، أو امرأة حائضاً، أو نفساء طهرت من حيضها، أو نفاسها فإن هؤلاء يغسلون لما سيأتي من الأدلة .
قال الإمام السرخسي رحمه الله تعالى: "وإذا أغار أهل الحرب على قرية من قرى المسلمين فقتلوا الرجال، والنساء، والصبيان، فلا خلاف أنه لا يغسل النساء كما لا يغسل الرجال؛ لأنهن مخاطبات يخاصمن يوم القيامة من قتلهن، فيبقى عليهن أثر الشهادة؛ ليكون شاهداً لهن كالرجال"(10).
قلت : وهذا باعتبار القرية أو المدينة - مكان الغارة - أرضاً للمعركة لحصول القتل من الأعداء في هذا المكان، فأخذ قتلاها حكم من خرج للقتال عند القائلين بشهادتهم، فلو أنه سقط من دابته، أو رفسته أو وجد ميتاً ولا أثر به، أو سقط من شاهق في القتال، أو دهسته عربة فمات منها، أو عاد إليه سلاحه فيها، فالصحيح عند المالكية، والشافعية، والحنابلة، أنه يغسل ما لم يكن من فعل به ذلك هو العدو.
والسبب :
أنه لم يمت بفعل العدو مباشرة، ولا تسبباً، أشبه من مات مريضاً. والأصل وجوب الغسل والصلاة، فلا يسقط بالشك في مسقطه(11).
وخالف في ذلك أهل العلم من الحنفية فرأوا أن المقتول ظلماً بأي سبب ولو من لصوص، أو قطاع طرق، أو بغاة شهيد لايغسل (12) وهو أصح الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله.
الأدلة على عدم غسل هؤلاء الشهداء ما يلي :
1-عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد، ولم يغسلهم"(13).
2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد، ولم يغسلهم"(14).
3- عن ابن أبي الصغير: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على قتلى أحد فقال: شهدت على هؤلاء فزملوهم بدمائهم، وكلومهم"(15).
- آثار الصحابة :(16)
وردت جملة من الآثار عن بعض الصحابة، والسلف الصالح تدل على أنهم لا يرون غسل المقتول في أرض المعركة أو خارجها بسبب العدو، وهذه بعضها :
1- عن قيس بن أبي حازم عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: "ادفنوني في ثيابي فإني مخاصم .-أي مخاصم من قتلني".
2- عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال سعد بن عبيد القارئ يوم القادسية: "إنا ملاقوا العدو غداً إن شاء الله وإنا مستشهدون، فلا تغسلوا عنا دماً ولا نكفن إلا في ثوب كان علينا".
3- عن ثابت بن عمارة قال سمعت غنيم بن قيس يقول: "الشهيد يدفن في ثيابه ولا يغسل".
4- عن أبي إسحاق أن رجلاً من أصحاب عبد الله قتله العدو فدفناه في ثيابه.
القول الثاني :
يغسل الشهيد في سبيل الله في هذه الحرب وهو مقتضى قول الحسن البصري، وسعيد بن المسيب(17) وسواء كان في أرض المعركة أم خارجها. بفعل العدو أم بغير فعله.
أدلتهم :
1-عن الحسن: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحمزة حين استشهد فغسل"(18).
2- عن عامر أن حنظلة بن الراهب طهرته الملائكة(19).
3- عن قتادة عن سعيد بن المسيب والحسن قالا: "الشهيد يغسل، ما مات ميت إلا جنب"(20).
4-عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: "غسل عمر وكفن وحنط"(21).
وجه الدلالة :
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مات مقتولاً ومع هذا غسل وكفن وحنط فدل على جواز الغسل في حق الشهيد .
قلت : وقد وافقهما (أي الحسن وابن المسيب) بعض الحنفية في غسل الصبيان المتأثرين بجراحات الحرب، فأثر عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنهم يغسلون(22).
ودليله:
1-أنه ليس للصبي ذنب يمحوه السيف، فالقتل في حقه والموت حتف أنفه سواء فيغسل(23).
2- أن الصبي غير مكلف ولا يخاصم بنفسه في حقوقه في الدنيا، والخصم في حقوقه في الآخرة هو خالقه سبحانه وتعالى، والله غني عن الشهود فلا حاجة إلى إبقاء الشهادة عليه(24).
وخالفه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فقالا: لا يغسل الصبي(25).
ودليلهم :
1-لأن حال الصبيان في الطهارة فوق حال البالغين، فإذا لم يغسل البالغ إذا استشهد؛ لأنه قد تطهر فالصبي أولى(26).
ولا يخفى عليك ما في قول هذين الصاحبين من قوة خلافاً لإمامهما. فليس هناك دليل واضح يفرق بين الصبيان وغيرهم إذا قتلوا جميعاً في أرض المعركة بيد العدو.
أما دليل الحنابلة ومن وافقهم على استثناء الغسل للمقتول إن كان جنباً أو المرأة الحائض ونحوها فهو مايلي:
1- ماروي أن حنظلة بن الراهب رضي الله عنه قتل يوم أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما شأن حنظلة ؟ فإني رأيت الملائكة تغسله . فقالوا : إنه جامع، ثم سمع الهيعة فخرج إلى القتال"(27).
2- عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، قَالَ: "أُصِيبَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ الْراهِبِ، وَهُمَا جُنُبَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام : إنَّى رَأَيْت الْمَلائِكَةَ تُغَسِّلُهُم"(28).
3- أَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً غَيْرَ رَافِعَةٍ فَلا تَرْفَعُ الْجَنَابَةَ(29).
4- عن إسحاق بن الحارث قال: "رأيت خالد بن الحواري رجلاً من أهل الحبشة من أصحاب النبي { أتى أهله فلما حضره الوفاة قال: اغسلوني غسلتين غسلة للجنابة وغسلة للموت"(30).
وجه الدلالة:
حيث دل هذا الدليل على أن غسل الجنابة لا يسقط عن الميت.
5-لأنه غسل واجب لغير الموت، فلم يسقط بالموت كغسل الجنابة(31).
قلت:
أما غسل الملائكة لحمزة رضي الله عنه فقد رواه الطبراني في الكبير قال ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ثني عمي القاسم ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعدتنا شريك عن حجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: "أصيب حمزة بن عبدالمطلب وحنظلة الراهب وهما جنب فقال رسول الله {: رأيت الملائكة تغسلهما"(32).
قال ابن حجر: "غريب في ذكر حمزة"(33).
وأما غسل حنظلة فلا يعني ذلك وجوب غسل الشهيد؛ إذ إن الغاسل له هم الملائكة، وبماء المزن، وبين السماء والأرض، وهذا من كرامة الله تعالى له، وهذه أمور متعلقة بالآخرة، ولو كان الأمر وجوباً لغسله النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر به أصحابه حتى ولو غسلته الملائكة؛ لاختلاف الغسلين فليتأمل هذا جيداً(34).
وأما كون الشهادة غير رافعة للجنابة فيرد عليه بقصة أصيرم الذي أسلم وحمل سيفه وقاتل، ولم ينقل عنه -فيما نعلم - غسل. بل لم ينقل عنه أي عمل بعد إسلامه بنطق الشهادتين سوى حمل سيفه والقتال به، والكفر أعظم من الجنابة، وكل من أسلم يؤمر بالغسل، ومع هذا لم يؤثر غسل النبي صلى الله عليه وسلم له، ولا أمره لصحابته بذلك فكيف لا يقال به هنا ويقال به في غسل جنابة الجماع؟!
وأما كونه غسلاً وجب لغير الموت فلا نعلم دليلاً في الشرع يوجب قضاء الغسل عن الميت، ولو وجد لنقل واشتهر وتواتر؛ بل إن أعظم الأمور وهي الصلاة التي تجب في أحلك الساعات، وأصعب الظروف لم نجد لها دليلاً يوجب قضاءها عمّن لم يصلها للعذر أو لغيره، ولم يوجد دليل إلا في قضاء صيام النذر فيجب الوقوف عند النصوص.
الترجيح :
من خلال استعراض أقوال الفقهاء في حكم غسل القتلى في الحرب، ومن الذي يطلق عليه لفظ الشهادة منهم، ومن لا يطلق عليه هذا اللفظ تبين لنا أن هناك فريقاً من أهل العلم يرون أن كل من تسبب العدو في قتله فهو شهيد؛ في حين ذهب البعض منهم إلى أن الشهيد من مات ظلماً ولو لم يكن في قتال العدو بشرط أن لايكون له عوض مالي كما هو مذهب أهل العلم من الحنفية؛ وجميع هؤلاء لايغسلون لانصراف حكم الشهادة عليهم
في حين ذهب الحنابلة إلى أن الجنب، والنفساء، والحائض، يغسلون لا لأجل أنهم ليسوا شهداء بل لأجل ما ألم بهم من آثار الجنابة، والحيض، والنفاس.
والذي أراه راجحاً - والله أعلم بالصواب - أن الشهيد الذي لايغسل هو شهيد المعركة الذي جاهد لإعلاء كلمة الله فقط، وسواء كانت شهادته في أرض المعركة أو بعد خروجه من أرض المعركة متأثراً بجراحات بالغة كانت هي السبب في وفاته. وأما غيره من المصابين في غير أرض المعركة فلا ينصرف عليه اسم شهيد المعركة، فيغسل، ويكفن، ويصلى عليه ولو مات حريقاً، أو مسموماً بآثار الغازات السامة، مالم تكن هذه السموم من الغازات أصابته وهو في ساحة القتال، أو في حالة تربصه بالكفار لقتالهم، ويدل على ما أرجحه مايلي :
أولاً : أن هذا الشهيد هو الذي تنصرف إليه أدلة الشهادة في سبيل الله لإعلاء كلمته.
ثانياً: لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما نعلم - أنه ترك غسل غيره من القتلى.
ثالثا: توفي النبي صلوات الله وسلامه عليه وهو يجد أثر السم الذي سمته به اليهودية بخيبر ومع هذا غسله الصحابة وصلوا عليه بأمره عليه السلام، وقد علمنا أن السم مما يقتل لكن كان هذا في غير ساحة المعركة، ولو كان لايغسل الميت بالسم في غير المعركة لنبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم
رابعاً: لو وسعنا دائرة الشهادة بلا دليل وخصوصاً مع تطور الأسلحة المدمرة واستخدامها في هذا الزمان لدخل فيها الكثير ممن ليس لهم أدنى شيء في الدفاع عن الدين، بل سوف يطلق لفظ الشهادة على المتهاون في أمور كثيرة كمن يتهاون في عمود الإسلام الصلاة أو ربما يتركها أحياناً. خامساً: حينما طعن الفاروق بخنجر أبي لؤلؤة المجوسي، وسقط مضرحاً بدمائه في المحراب حمله الصحابه، وغسلوه، وصلوا عليه وهذا الفعل من الصحابة إجماع فكان دليلاً على اختصاص عدم الغسل بشهيد أرض المعركة فقط.
سادساً: لعل في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإرجاع القتلى في غزوة أحد إلى مكان المعركة، ودفنهم فيها دليل على اختصاص المعركة بأحكام أخرى ومنها أن شهيدها فقط هو الذي لاينقل فكذلك حكم عدم غسله والصلاة عليه.
سابعاً: شهيد المعركة عاش لهيبها، واصطلى بنارها، وأصر على عدم تركها؛ إعلاء لكلمة الله، فاستحق أن يتميز عن باقي الشهداء بأن لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ لثبوت حياته عند ربه كما أنه يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويؤمن من فتنة القبر، إلى غير ذلك من الأمور التي تختص به، ولا يشاركه غيره.
مسألة: ومما يتعلق بمسألة عدم الغسل لشهيد المعركة:
إذا رفع من أرض المعركة قبل أن يموت، ثم مات بعدذلك، فقد اختلف العلماء في حكمه على قولين:
القول الأول: أنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وإليه ذهب أهل العلم من الحنفية (35)، والمالكية(36)، والشافعية في غير المشهور عندهم(37).
قال في شرح السير الكبير: "فَإِذَا حُمِلَ مِنْ مَصْرَعِهِ حَيًّا فَمَاتَ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ أَوْ مَرِضَ فِي خَيْمَتِهِ فَهُوَ مُرْتَثٌّ؛ لأَنَّهُ نَالَ بَعْضَ الرَّاحَةِ"(38).
الأدلة على ذلك :
1- "تَغْسِيلُهُ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ"(39).
ووجه الدلالة:
أنه غسله، وسبب وفاته هي إصابته في غزوة الخندق(40).
2- لأن الأصْل وُجُوبُ الْغُسْلِ وَالصَّلاةِ وقدخَفَّ عليه أَثَرُ الظُّلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ الَّذِي يَمُوتُ فِي أَرْضِهَا
القول الثاني : أنه يعامل معاملة الشهيد.
الأدلة: (41)
1-عن زيد بن صوحان لما أصيب في المعركة ولم يمت الا بعد مدة أنه قال : لا تنزعوا عني ثوباً إلا الخفين، ولا تغسلوا عني دماً، وارمسوني في الأرض رمساً؛ فإني رجل محاج أحاج يوم القيامة من قتلني .
وجه الدلالة :
فيه دليل على أنه لا ينزع عن الشهيد من ثيابه إلا ماليس من جنس الكفن، وأنه لا يغسل ليكون ما عليه من الدم شاهداً له يوم القيامة.
2 - عن مغيرة عن إبراهيم قال : "إذا رفع القتيل دفن في ثيابه، وإذا رفع وبه رمق صنع به ما يصنع بغيره".
3- عن هشام بن حسان قال: "كان محمد إذا سئل عن الشهيد يغسل؟ حدث عن حجر بن عدي إذ قتله معاوية قال : قال حجر: لا تطلقوا عني حديداً وتغسلوا عني دماً، ادفنوني في وثاقي ودمي، ألقى معاوية عند الجادة غداً".
القتلى في أرض المعركة، أو في المنازل، أو الطرقات، أو الملاجئ سواء باشروا القتال أم لم يباشروه من قريب أو بعيد؛ إذا أصيب هؤلاء بآثار جراح من شظايا متطايرة، أو غازات سامة، أو متجرثمة، أو مواد حارقة؛ فماتوا على الفور متفحمين أو متسممين، أوغير ذلك، أو ارتث حال البعض ثم مات بعد حين، فما الحكم في تغسيلهم والصلاة عليهم على اعتبارهم شهداء أو غير شهداء؟
ثم على القول بوجوب الغسل كيف يتم تغسيلهم عند التمزق،أو التفحم من جراء انفجار ألغام أرضية، أو قصف جوي، أو بري، أو حرب مدن؟
بل كيف تتم الصلاة على القتيل بعد تطاير أجزائه، واختفاء بعضها مع احتمال أن توجد بعد أن يصلى على الأعضاء الموجودة؟
كل هذه من الأمور التي ينبغي معرفة حكم الله تعالى فيها لا سيما مع تفشي القتل، وتطور الأسلحة، واقتران ذلك بموت الضمير الإنساني عند مسعري الحروب في هذا الزمان على وجه الخصوص.
وقبل أن نلج في بيان الحكم نود تسليط الضوء على المراد بالشهيد عند الفقهاء حتى يتسنى الفصل في مسائل الغسل والصلاة على هؤلاء القتلى.
من هو الشهيد؟!
الشهيد عند الفقهاء على قسمين :
القسم الأول : شهيد الدنيا والآخرة، و هو الذي يقتل في قتال مع الكفار، مقبلاً غير مدبر؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، دون غرض من أغراض الدنيا، وقد ورد بيان هذا القسم في الأحاديث التالية :
1- عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : " إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال مستفهماً: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله"(1).
القسم الثاني: شهيد الآخرة : وهو المقتول ظلماً من غير قتال، ومن مات بداء البطن، أو بالطاعون، أو بالغرق، والنفساء التي تموت في طلقها، ونحو ذلك . واستثني من الغريق العاصي بركوبه البحر كأن كان الغالب فيه عدم السلامة، أو ركوبه لإتيان معصية من المعاصي، ومن الطلق الحامل بزنى، ويدل على هذا القسم مايلي :
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تَعُدُّونَ الشهيدَ فيكم ؟ قالوا: يا رسول الله، مَنْ قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيدٌ، قال : إنَّ شُهدَاءَ أُمَّتي إذاً لَقليلٌ، قالوا: فَمن هُمْ يا رسولَ الله ؟ قال : من قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيدٌ، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البَطْنِ فهو شهيد، قال ابنُ مِقْسَمٍ : أشهدُ على أبيك- يعني أبا صالح- أنَّهُ قال: والغريق شهيدٌ"(2).
2- عن سعيد بن زيد رضي الله عنه: قال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ قُتلَ دُونَ مالهِ فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهو شهيد، ومن قتلَ دون دِينه فهو شهيد، ومن قُتلَ دُونَ أهْلهِ فِهو شهيد"(3).
3- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطاعون شهادة لكل مسلم"(4).
ثانياً: تغسيل الشهداء على ضوء هذا التقسيم :
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول:
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية(5)، والمالكية(6)، والشافعية(7)، والحنابلة(8)، و الظاهرية(9)، الى أن القسم الأول وهو شهيد الحرب الذي قتله العدو في المعركة فمات محترقاً بعضه، أو كله، أو وجد وقد تفحمت جثته من شدة الاحتراق، أو وجد في مكان المعركة وبه جراح مات على إثرها أنه لايغسل؛ بل يدفن في جراحه، سواء كان ذلك في قصف جوي، أم رمي بري، أم بحري، أم حرب نووية، أم انفجار لغم، أم في غيرها.
واستثنى الحنابلة إذا كان المقتول جنباً، أو امرأة حائضاً، أو نفساء طهرت من حيضها، أو نفاسها فإن هؤلاء يغسلون لما سيأتي من الأدلة .
قال الإمام السرخسي رحمه الله تعالى: "وإذا أغار أهل الحرب على قرية من قرى المسلمين فقتلوا الرجال، والنساء، والصبيان، فلا خلاف أنه لا يغسل النساء كما لا يغسل الرجال؛ لأنهن مخاطبات يخاصمن يوم القيامة من قتلهن، فيبقى عليهن أثر الشهادة؛ ليكون شاهداً لهن كالرجال"(10).
قلت : وهذا باعتبار القرية أو المدينة - مكان الغارة - أرضاً للمعركة لحصول القتل من الأعداء في هذا المكان، فأخذ قتلاها حكم من خرج للقتال عند القائلين بشهادتهم، فلو أنه سقط من دابته، أو رفسته أو وجد ميتاً ولا أثر به، أو سقط من شاهق في القتال، أو دهسته عربة فمات منها، أو عاد إليه سلاحه فيها، فالصحيح عند المالكية، والشافعية، والحنابلة، أنه يغسل ما لم يكن من فعل به ذلك هو العدو.
والسبب :
أنه لم يمت بفعل العدو مباشرة، ولا تسبباً، أشبه من مات مريضاً. والأصل وجوب الغسل والصلاة، فلا يسقط بالشك في مسقطه(11).
وخالف في ذلك أهل العلم من الحنفية فرأوا أن المقتول ظلماً بأي سبب ولو من لصوص، أو قطاع طرق، أو بغاة شهيد لايغسل (12) وهو أصح الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله.
الأدلة على عدم غسل هؤلاء الشهداء ما يلي :
1-عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد، ولم يغسلهم"(13).
2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد، ولم يغسلهم"(14).
3- عن ابن أبي الصغير: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على قتلى أحد فقال: شهدت على هؤلاء فزملوهم بدمائهم، وكلومهم"(15).
- آثار الصحابة :(16)
وردت جملة من الآثار عن بعض الصحابة، والسلف الصالح تدل على أنهم لا يرون غسل المقتول في أرض المعركة أو خارجها بسبب العدو، وهذه بعضها :
1- عن قيس بن أبي حازم عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: "ادفنوني في ثيابي فإني مخاصم .-أي مخاصم من قتلني".
2- عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال سعد بن عبيد القارئ يوم القادسية: "إنا ملاقوا العدو غداً إن شاء الله وإنا مستشهدون، فلا تغسلوا عنا دماً ولا نكفن إلا في ثوب كان علينا".
3- عن ثابت بن عمارة قال سمعت غنيم بن قيس يقول: "الشهيد يدفن في ثيابه ولا يغسل".
4- عن أبي إسحاق أن رجلاً من أصحاب عبد الله قتله العدو فدفناه في ثيابه.
القول الثاني :
يغسل الشهيد في سبيل الله في هذه الحرب وهو مقتضى قول الحسن البصري، وسعيد بن المسيب(17) وسواء كان في أرض المعركة أم خارجها. بفعل العدو أم بغير فعله.
أدلتهم :
1-عن الحسن: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحمزة حين استشهد فغسل"(18).
2- عن عامر أن حنظلة بن الراهب طهرته الملائكة(19).
3- عن قتادة عن سعيد بن المسيب والحسن قالا: "الشهيد يغسل، ما مات ميت إلا جنب"(20).
4-عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: "غسل عمر وكفن وحنط"(21).
وجه الدلالة :
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مات مقتولاً ومع هذا غسل وكفن وحنط فدل على جواز الغسل في حق الشهيد .
قلت : وقد وافقهما (أي الحسن وابن المسيب) بعض الحنفية في غسل الصبيان المتأثرين بجراحات الحرب، فأثر عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنهم يغسلون(22).
ودليله:
1-أنه ليس للصبي ذنب يمحوه السيف، فالقتل في حقه والموت حتف أنفه سواء فيغسل(23).
2- أن الصبي غير مكلف ولا يخاصم بنفسه في حقوقه في الدنيا، والخصم في حقوقه في الآخرة هو خالقه سبحانه وتعالى، والله غني عن الشهود فلا حاجة إلى إبقاء الشهادة عليه(24).
وخالفه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فقالا: لا يغسل الصبي(25).
ودليلهم :
1-لأن حال الصبيان في الطهارة فوق حال البالغين، فإذا لم يغسل البالغ إذا استشهد؛ لأنه قد تطهر فالصبي أولى(26).
ولا يخفى عليك ما في قول هذين الصاحبين من قوة خلافاً لإمامهما. فليس هناك دليل واضح يفرق بين الصبيان وغيرهم إذا قتلوا جميعاً في أرض المعركة بيد العدو.
أما دليل الحنابلة ومن وافقهم على استثناء الغسل للمقتول إن كان جنباً أو المرأة الحائض ونحوها فهو مايلي:
1- ماروي أن حنظلة بن الراهب رضي الله عنه قتل يوم أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما شأن حنظلة ؟ فإني رأيت الملائكة تغسله . فقالوا : إنه جامع، ثم سمع الهيعة فخرج إلى القتال"(27).
2- عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، قَالَ: "أُصِيبَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ الْراهِبِ، وَهُمَا جُنُبَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام : إنَّى رَأَيْت الْمَلائِكَةَ تُغَسِّلُهُم"(28).
3- أَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً غَيْرَ رَافِعَةٍ فَلا تَرْفَعُ الْجَنَابَةَ(29).
4- عن إسحاق بن الحارث قال: "رأيت خالد بن الحواري رجلاً من أهل الحبشة من أصحاب النبي { أتى أهله فلما حضره الوفاة قال: اغسلوني غسلتين غسلة للجنابة وغسلة للموت"(30).
وجه الدلالة:
حيث دل هذا الدليل على أن غسل الجنابة لا يسقط عن الميت.
5-لأنه غسل واجب لغير الموت، فلم يسقط بالموت كغسل الجنابة(31).
قلت:
أما غسل الملائكة لحمزة رضي الله عنه فقد رواه الطبراني في الكبير قال ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ثني عمي القاسم ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعدتنا شريك عن حجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: "أصيب حمزة بن عبدالمطلب وحنظلة الراهب وهما جنب فقال رسول الله {: رأيت الملائكة تغسلهما"(32).
قال ابن حجر: "غريب في ذكر حمزة"(33).
وأما غسل حنظلة فلا يعني ذلك وجوب غسل الشهيد؛ إذ إن الغاسل له هم الملائكة، وبماء المزن، وبين السماء والأرض، وهذا من كرامة الله تعالى له، وهذه أمور متعلقة بالآخرة، ولو كان الأمر وجوباً لغسله النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر به أصحابه حتى ولو غسلته الملائكة؛ لاختلاف الغسلين فليتأمل هذا جيداً(34).
وأما كون الشهادة غير رافعة للجنابة فيرد عليه بقصة أصيرم الذي أسلم وحمل سيفه وقاتل، ولم ينقل عنه -فيما نعلم - غسل. بل لم ينقل عنه أي عمل بعد إسلامه بنطق الشهادتين سوى حمل سيفه والقتال به، والكفر أعظم من الجنابة، وكل من أسلم يؤمر بالغسل، ومع هذا لم يؤثر غسل النبي صلى الله عليه وسلم له، ولا أمره لصحابته بذلك فكيف لا يقال به هنا ويقال به في غسل جنابة الجماع؟!
وأما كونه غسلاً وجب لغير الموت فلا نعلم دليلاً في الشرع يوجب قضاء الغسل عن الميت، ولو وجد لنقل واشتهر وتواتر؛ بل إن أعظم الأمور وهي الصلاة التي تجب في أحلك الساعات، وأصعب الظروف لم نجد لها دليلاً يوجب قضاءها عمّن لم يصلها للعذر أو لغيره، ولم يوجد دليل إلا في قضاء صيام النذر فيجب الوقوف عند النصوص.
الترجيح :
من خلال استعراض أقوال الفقهاء في حكم غسل القتلى في الحرب، ومن الذي يطلق عليه لفظ الشهادة منهم، ومن لا يطلق عليه هذا اللفظ تبين لنا أن هناك فريقاً من أهل العلم يرون أن كل من تسبب العدو في قتله فهو شهيد؛ في حين ذهب البعض منهم إلى أن الشهيد من مات ظلماً ولو لم يكن في قتال العدو بشرط أن لايكون له عوض مالي كما هو مذهب أهل العلم من الحنفية؛ وجميع هؤلاء لايغسلون لانصراف حكم الشهادة عليهم
في حين ذهب الحنابلة إلى أن الجنب، والنفساء، والحائض، يغسلون لا لأجل أنهم ليسوا شهداء بل لأجل ما ألم بهم من آثار الجنابة، والحيض، والنفاس.
والذي أراه راجحاً - والله أعلم بالصواب - أن الشهيد الذي لايغسل هو شهيد المعركة الذي جاهد لإعلاء كلمة الله فقط، وسواء كانت شهادته في أرض المعركة أو بعد خروجه من أرض المعركة متأثراً بجراحات بالغة كانت هي السبب في وفاته. وأما غيره من المصابين في غير أرض المعركة فلا ينصرف عليه اسم شهيد المعركة، فيغسل، ويكفن، ويصلى عليه ولو مات حريقاً، أو مسموماً بآثار الغازات السامة، مالم تكن هذه السموم من الغازات أصابته وهو في ساحة القتال، أو في حالة تربصه بالكفار لقتالهم، ويدل على ما أرجحه مايلي :
أولاً : أن هذا الشهيد هو الذي تنصرف إليه أدلة الشهادة في سبيل الله لإعلاء كلمته.
ثانياً: لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما نعلم - أنه ترك غسل غيره من القتلى.
ثالثا: توفي النبي صلوات الله وسلامه عليه وهو يجد أثر السم الذي سمته به اليهودية بخيبر ومع هذا غسله الصحابة وصلوا عليه بأمره عليه السلام، وقد علمنا أن السم مما يقتل لكن كان هذا في غير ساحة المعركة، ولو كان لايغسل الميت بالسم في غير المعركة لنبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم
رابعاً: لو وسعنا دائرة الشهادة بلا دليل وخصوصاً مع تطور الأسلحة المدمرة واستخدامها في هذا الزمان لدخل فيها الكثير ممن ليس لهم أدنى شيء في الدفاع عن الدين، بل سوف يطلق لفظ الشهادة على المتهاون في أمور كثيرة كمن يتهاون في عمود الإسلام الصلاة أو ربما يتركها أحياناً. خامساً: حينما طعن الفاروق بخنجر أبي لؤلؤة المجوسي، وسقط مضرحاً بدمائه في المحراب حمله الصحابه، وغسلوه، وصلوا عليه وهذا الفعل من الصحابة إجماع فكان دليلاً على اختصاص عدم الغسل بشهيد أرض المعركة فقط.
سادساً: لعل في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإرجاع القتلى في غزوة أحد إلى مكان المعركة، ودفنهم فيها دليل على اختصاص المعركة بأحكام أخرى ومنها أن شهيدها فقط هو الذي لاينقل فكذلك حكم عدم غسله والصلاة عليه.
سابعاً: شهيد المعركة عاش لهيبها، واصطلى بنارها، وأصر على عدم تركها؛ إعلاء لكلمة الله، فاستحق أن يتميز عن باقي الشهداء بأن لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ لثبوت حياته عند ربه كما أنه يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويؤمن من فتنة القبر، إلى غير ذلك من الأمور التي تختص به، ولا يشاركه غيره.
مسألة: ومما يتعلق بمسألة عدم الغسل لشهيد المعركة:
إذا رفع من أرض المعركة قبل أن يموت، ثم مات بعدذلك، فقد اختلف العلماء في حكمه على قولين:
القول الأول: أنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وإليه ذهب أهل العلم من الحنفية (35)، والمالكية(36)، والشافعية في غير المشهور عندهم(37).
قال في شرح السير الكبير: "فَإِذَا حُمِلَ مِنْ مَصْرَعِهِ حَيًّا فَمَاتَ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ أَوْ مَرِضَ فِي خَيْمَتِهِ فَهُوَ مُرْتَثٌّ؛ لأَنَّهُ نَالَ بَعْضَ الرَّاحَةِ"(38).
الأدلة على ذلك :
1- "تَغْسِيلُهُ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ"(39).
ووجه الدلالة:
أنه غسله، وسبب وفاته هي إصابته في غزوة الخندق(40).
2- لأن الأصْل وُجُوبُ الْغُسْلِ وَالصَّلاةِ وقدخَفَّ عليه أَثَرُ الظُّلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ الَّذِي يَمُوتُ فِي أَرْضِهَا
القول الثاني : أنه يعامل معاملة الشهيد.
الأدلة: (41)
1-عن زيد بن صوحان لما أصيب في المعركة ولم يمت الا بعد مدة أنه قال : لا تنزعوا عني ثوباً إلا الخفين، ولا تغسلوا عني دماً، وارمسوني في الأرض رمساً؛ فإني رجل محاج أحاج يوم القيامة من قتلني .
وجه الدلالة :
فيه دليل على أنه لا ينزع عن الشهيد من ثيابه إلا ماليس من جنس الكفن، وأنه لا يغسل ليكون ما عليه من الدم شاهداً له يوم القيامة.
2 - عن مغيرة عن إبراهيم قال : "إذا رفع القتيل دفن في ثيابه، وإذا رفع وبه رمق صنع به ما يصنع بغيره".
3- عن هشام بن حسان قال: "كان محمد إذا سئل عن الشهيد يغسل؟ حدث عن حجر بن عدي إذ قتله معاوية قال : قال حجر: لا تطلقوا عني حديداً وتغسلوا عني دماً، ادفنوني في وثاقي ودمي، ألقى معاوية عند الجادة غداً".