الأمين
08-03-2006, 02:03 AM
الصليبية الجديدة : مسيحية الهوى؟ ام راسمالية الهوية؟
شبكة البصرة
صلاح المختار
نبش قبر هنتنغتون
تتعالى عواءات ذئاب (الاصولية المسيحية) في الغرب ، معيدة تحشيد الناس هناك خلف شعارات صليبية جديدة ، يحمل راياتها (المحافظون الجدد) ، ذوي القبعات اليهودية الذين يصرون على استخدامها ، لاخفاء العقل البورجوازي المشغل بداينمو نووي ابدي اسمه عبادة الدولار ، وفي مقدمة تلك الرايات ابادة او استعباد من يملك الدولار ، او النبع الذي يتدفق منه الدولار لاجل الاستحواذ عليه ! هل نحن بأزاء تصادم حضارات مفتعل واصطناعي فبركته نخب تختبئ تحت قبعات دينية ، لكنها ، في الواقع ، لا تعرف دينا حقيقيا ، ولا تعترف باله سوى صنم اسمه الدولار ؟ هذا السؤال جوابه نعم ، كما سنرى ، نحن بازاء فبركة صراع حضارات لمنح الحملات الصليبية الجديدة زخما شعبيا غربيا يحرك في الجماهير مطمع غزو العالم كله، بجعلها تعتقد مخدوعة ان مسيحها يسرق ويحرق من قبل (برابرة الصحراء).
وبقوة وتأثير التحدي المميت الذي فرضته الصليبية الجديدة علينا استيقظت اصولية اسلامية كرد فعل دفاعي طبيعي على هجمات مسعورة على اسلامنا ونبينا ، وفقا للقاعدة الفيزياوية التي تقول (لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه) . ولكن، بما أننا نعيش في مجتمع بشري، وليس ميكانيكي او حيواني غير بشري ، فان الفعل ورد الفعل البشريان لا يخضعان لقاعدة التساوي بل تحكمهما آليات صراعات بشرية اشد وحشية وتخلفا من الصراعات الحيوانية في الغابة ، كما اثبتت تجربة الغرب الواغل في الانانية السابقة لمرحلة الحيوانية .
وهناك حقيقة بارزة ومهمة جدا يجب اخذها بنظر الاعتبار دائما وهي اننا لم نعرف تصادم الحضارات ، طبقا للصورة النمطية التي طرحها هنتنغتون ، حتى مطلع التسعينيات ، أي عند ظهور نظرية هنتنغتون المسماة (تصادم الحضارات) ، والتي تقول بان الصراعات الجديدة بعد زوال الشيوعية تتمحور حول التناقض بين الحضارات الشرقية ، وبالاخص الاسلامية ، والغربية ، لان النظرية التي كنت سائدة وقتها هي نظرية فرانسيس فوكوياما ، التي اطلق عليها اسم (نهاية التاريخ) ، تيمنا بما اعتقده فوكوياما ، ومعه امريكته ، من ان صراعات التاريخ قد انتهت بانتصار الليبرالية الامريكية وسقوط الشيوعية ، وبدأ ما أطلق عليه أمريكيون كبار تسمية (القرن الامريكي)، واقعين أسرى فرح مفرط في سذاجته ، كما وصفنا تلك النظرية عند ظهورها في مطلع التسعينيات ، وأثبتت الوقائع فيما بعد صحة وصفنا.
وشيئا فشيئا طبقت امريكا خطط مرسومة لتحويل الصراعات من صراعات طبقية بين المستغل (بكسر الغين) والمستغل (بفتح الغين) ، ومن صراعات تحررية بين الناهب والمنهوب ، الى صراعات دينية حضارية ، بعد ان تبين لها ان تأريخ الصراع لم ينتهي بانتصار الليبرالية الامريكية ، كما تمنت امريكا وعبر عن ذلك فوكوياما ، بل ثبت لها (ان العالم مازال غابة فيها وحوش وأفاع خطرة) ، كما قالت شخصية امريكية في عهد بيل كلنتون . وبتطبيق خطط شيطنة وعزل واجتثاث القوى الوطنية والقومية التقدمية من جهة ، وتصعيد الحملات الصليبية ضد المسلمين والاسلام من جهة ثانية ، بدأت طبيعة الصراع تتغير في العالم .
لقد شهدنا منذ النصف الثاني من التسعينيات تصادم ارادات اللصوص الغربيين ، وهم نخب الاستعمار ، مع ارادات من قرروا ان يردوا على (تصادم الحضارات) الغربية بان يحافظوا على الذات والهوية ، من خلال العودة الى الاسلام بصورته الاصلية . فماذا حدث ؟ لقد حل اللاهوت محل الناسوت ، وبما ان اللاهوت طقس قدسي لا يمس ، ويعرف بالفاظ فخمة عصية على التعريف والتعرف على كنهها ، لذلك فهو غير قابل للتحديد الدقيق ومحصن ضد النقد والتشريح بل وحتى التلويح ، فنقع في مطب العجز عن الاتفاق ، ويصبح صراعنا حول الدين ، من منه هو الصح ومن منه هو الخطأ ، ويطير اليقين ، من يدنا بعد ان كنا نمسك به بقوة حقنا في العراق وفلسطين ! مقابل ذلك كنا نجد ان الناسوت جسم مادي قابل للوصف والتدقيق ، فنستطيع لمسه وشمه وفحصه ،غير هيابين من قدسية ولا حائرين في جنسه ، فنعرف اين نقف ومتى يجب ان نفتح الابواب او نغلقها ، دون روادع المقدس غير الخاضع للقياس! وهذا التناقض ، غير الجدلي ، بين اللاهوت والناسوت اسقط العالم في مستنقع العجز عن الرؤية الشفافة ، بعد ان كان كل انسان يعرف من هو عدوه الحقيقي ! منذ النصف الثاني من التسعينيات حلت الشياطين والملائكة ضيوفا متحكمة على مسرح الصراع في العالم ، وبدخول مخلوقات السماء حلبة الصراع فقد ابن الارض الفاني ، وهو الانسان الحر دوره ، وصار اسير المقدس مقابل المدنس ، واصبح عليه ان يختار بين اثنين لا ثالث لهما : اما المقدس او المدنس ، والمقدس هو الدين اما المدنس فهو الناسوت الدنيوي !
لقد تراجعت الافكار الوطنية والقومية ، لانها الابنة الشرعية للناسوت ، والتي كانت تركز على تحرير الوطن واستعادة الثروات والسيادة والاستقلال وبناء الاشتراكية القومية ، وهي اهداف عملية كانت ممهورة بارواح وارادات عشرات الملايين من اصحاب الحقوق المنهوبة، وتجد من يتعاطف معها في الغرب وغيره ويسندها القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة رغم تضاؤل تأثيرهما . وانحسرت الصراعات الطبقية في العالم بين من نهبت ثرواته ومن نهبها ، او بين من استغل االناس ، فافقرهم وامرضهم واذلهم ، وبين الضحايا المنهوكين . واخذت اجراس عالية الصوت والصدى ترن وتشق طبلات الآذان ، وهي اجراس الاصوليات الدينية التي حل صراعها محل صراع الطبقات ، وصراع المستعمرين مع ثوار المستعمرات ، وهكذا سلطت سيوف حشاشي حسن الصباح البتارة على رؤوس البشر كلهم خوفا من زلة لسان ، او قفزة حصان ، في حضرة الملائكة الذين يقاتلون الشيطان !
لقد دخل العالم كله نفقا مظلما يعج بوحوش لم يشهد تاريخ الوحشية في العالم كله مثيلا لها في القسوة ، هربت من ستوديوهات (هولي وود) في لوس انجلوس ، بعد ان خلقت لاجل انتاج افلام رعب متطرف لا حدود لقسوته ولا نظير له في الواقع ، وفي مقدمة هذه الوحوش كتائب المحافظون الجدد و الليبراليون الجدد .
لقد تغير العالم ، وتبدلت اتجاهات رياحه ، وفقد قباطنة السفن كافة انواع البوصلات التقليدية التي كانت تحدد مساراته رغم كل العواصف العاتية ، فيعرف الضحية انه نهب بعد ان غلف ذلك باسم التمدن ونشر الحضارة الغربية ، لذلك يحشد كل طاقاته ضد الناهب المعروف الهوية . اما الان فان الناهب يأتي للنهب ، لكنه يرطن بآيات شيطانية ، ينسبها زورا للكتاب المقدس ، بدل نسبتها الحقيقية لادم سميث ، ويصرخ بمس مرضي : انه الخطر الاخضر ، أي الاسلام ، ياتينا بعد زوال الخطر الاحمر ! الناهب اعتمر القلنسوة اليهودية وحمل الصليب بيده ووقف امام كنيسة عتيقة يدعو لنصرة المسيح ضد (البرابرة الجدد) ، وهم حسب رايه المسلمون ، فاخذ يحشد الالاف خلفه مشحونين باحقاد مدمرة ضد العرب والمسلمين، بعد ان فقد الغرب الراسمالي دعم جماهيره اثناء الصراع ضد الشيوعية وحركات التحرر، حينما اكتشفت تلك الجماهير انها مجرد حطب لنار صراع لا صلة له بالدين او الوطن ، بل هو حملات نهب للاخرين ، فاجبر ذلك الراسمالية على التوقف عن الغزو لافتقارها للدعم الجماهيري !
ماذا تفعل راسمالية ، لا تعيش الا وفق حتميات قانونها الاعظم وهو مضاعفة النهب في كل دورة انتاج او كلما جاء (الحيض الشهري) لها ليفرض غزوة جديدة اكبر من سابقتها ، ماذا تفعل حينما تفقد جاذبتها الجماهيرية بعد ان كشفت عن فجورها وعهرها ونهبها للناس حد اعدامهم جوعا ؟ كان طبيعيا ان تطور الراسمالية ، في بلدان تغير حكامها طبقا لصناديق الاقتراع ، بديلا يضمن لها استمرار النهب ، من خلال جر القسم الاكبر من الناس في الغرب الى حلبة صراع تضليلي ، ينسيهم ان البورجوازي ، وليس غيره ، هو العدو الحقيقي لهم ، فاخترعت تصادم الحضارات ، بصفته فيلم المواسم كلها والذي يستمر عرضه اجيالا ، خصوصا وانه اخرج على يد ستيفن سبيلبيرج ، اعظم مخرج في عصر السينما في مجال الخيال العلمي ، والذي يفقد الانسان القدرة على التمييز بين الواقع والخيال والملائكة والشياطين بعد مشاهدة افلامه !
لذلك احتاجت امريكا الى عدد كبير من المخرجين المبدعين مثل سبيلبيرج ، ومن كتاب قصص الخبال السياسي (الخبال وليس الخيال) ، بمستوى من كتب واخرج افلام (يوم الاستقلال) و(حرب النجوم) و(أي تي) ، لاجل منحنا فرصة الثمل لنفقد القدرة على التمييز بين الواقع والخيال وبين العقل والخبال ، لان ذلك هو المقدمة البيئية للخبال الجماعي والاضطرار لتعاطي المخدرات بصفتها العالم الوحيد الذي يسمح لنا برؤية الخبال وقد صار عقلا ! وها نحن الان نشهد ثمرة افلام الخبال السياسي الامريكي منذ عرض اعظم الافلام التي اخرجتها عبقرية ستيفن سبيلبيرج وهو (ليلة 11 – سبتمبر) ، والذي رغم انه خبال واضح الا ان (عقلاء الغرب) بغالبيتهم اصطفوا بالالاف لمشاهدته ، وخرجوا وهم متيقنين انه حقيقة وليس فيلما مثل فيلم (يوم الاستقلال) ، الذي صور الرئيس الامريكي طيارا بطلا مع انه طرطور يخشى ظله ! بدخول المخرج سبيلبيرج عالم السياسة حل الخبال محل المنطق ، وكان من اعظم ما صنعه هذا المخرج اليهودي العظيم ، بالتعاون مع زميله ريتشارد بيرل مخرج فيلم (غزو العراق) هو شخصية جورج بوش الابن الذي اسند اليه دور خلط اللبن بالعسل واقناع المشاهد انه يأكل موزة صومالية تعشقها كوندي وكان يجب عليه إعطاءها لها.
جدلية نبش القبور
لقد اصبحت اصبحت بلاد المسلمين عرضة للغزو، وصارت ابادة لمسلمين لاتقيدها حدود بعد ان ازيلت ، بفضل عظمة افلام هولي وود ، الحدود بين اللص والضحية باسم الدفاع عن النفس ضد (الارهابيين) فولدت الصليبية الجديدة . وهكذا دفع المسلم الى حافة الاجتثاث الجسدي واجتثاث الهوية ، فتفجرت تيارات اصولية اسلامية طبيعية ما كان لها ان تتقوى لولا التحدي الصليبي ، الذي بشر به وغذاه فكر هنتنغتون وتبنته ادارة بوش الابن رسميا . لقد صار ظاهريا امام مغسولي الدماغ من الامريكيين ان (رب بوش) هو الراية والمحفز ، وليس رأس المال ، الذي انكشفت حيوانيته وجشعه ولم يعد يستطيع خداع الراي العام ، وأخذ رب بوش يتكلم ويثرثر أمرا اياه بقتل المسلمين وغزوهم لانهم (اعداء المسيح) ! واقتنع الملايين ان بوش ينفذ امر ربه ، تماما مثلما اقتنع الكثير من المراهقين في امريكا ، بعد مشاهدة فيلم سوبرمان، بان سوبرمان يطير فعلا فحاولوا تقليده بالقاء انفسهم من شبابيك شققهم ، التي تقع دائما فوق الطابق السابع ، فوجدوا انفسهم يدخلون جنة الفارسي القح حسن الصباح !
وهكذا صرنا نعيش في عالم شعاراته الطاغية محض لاهوت ، مزيف او حقيقي، تقرر خطب وعظه احداث افلام سينمية . والفضل كل الفضل في ذلك لمخرج عبقري تفوق على كل زملاءه في هولي وود ، بما في ذلك سبيلبيرج ، اسمه ريتشارد بيرل ، والذي لقب ب(أمير الظلام) لنجاحه التام في اقناع رب بوش باصدار فتوى ، كفتاوي زميليه الايرانيين خميني وسيستاني ، تقول بان من يغزو العراق سيدخل الجنة !
وفي سعار الصراع هذا ضاعت الحدود بين الضحية والجزار ، وانقلبت المعايير ، وتجاوز زمن (القرية الالكترونية) كل ما انتجه العالم من بوصلات هداية تقليدية تعود الناس على استخدامها لتحديد الطريق الصحيح . لقد اختفى الناسوت خوفا من لعنة الشياطين والابالسة ومن فتاوى السناتور سيستاني وشطحات اية الله العظمى بوش، ولم يعد لدينا الا نداء اللاهوت يأتينا من كهوف عقول بشر اعادونا الى ما قبل الحيوانية ، بفضل عبقرية خلق شخصيات يهز رعبها الانسان من جذوره لعظمة تخليقها ودقة تلقينها في الاستوديو ! وهذا بالضبط هو اعظم انجازات الراسمالية في مرحلة هبوطها الى اسفل درجات الردة عن كل ما هو انساني وخير . لقد نجحت في جر العالم الى عواءات بشر يستحيلون في الليالي المقمرة ذئابا ، والى طنين كلمات تنداح من فضائيات استحال مديروها ذبابا ، ولم نعد نميز بين افلام الخبال السياسي والعهر الوسواسي ، فاضطر المسيحي الجيد ان يقف مع المسيحي الشرير خوفا من المسلم الجيد ، الذي ، بدوره ، اضطر ان يصطف مع المسلم الشرير دفعا لشرور (امراء الظلام) في طهران وفتاوى ايات الله العظام في واشنطن وتل ابيب ، التي لا تجد افضل من الافتاء بدخول النار لمن لا يرطن بالفارسية وصنوها العبرية ! اين العدالة ؟ اين حقوق الشعوب المنهوبة كفلسطين ؟ من يحمي الشعوب المنكوبة كالعراق ؟ اين عقاب القاتل ؟ اين حق الضحية ؟ لا جواب واضح سوى القول : ان نبش قبور الشر بفتح (صناديق باندورا) قد اصبح مهنة اغلبية ايات الله العظام، خصوصا في الغرب (المتحضر)!
لقد ضاعت جهود الديانات التوحيدية ، اليهودية والمسيحية والاسلام ، ومعها الهندوسية والبوذية ، والتي هذبت المخلوق الحيواني المسمى (انسان)، المنفرد من بين كل مخلوقات الله بانه ميال بقوة لقتل كل مخلوق اخر، انسانا او حيوانا، دون حاجة مادية . عليكم ، لتدركوا كم يختزن الانسان من شرور، ان تتذكروا ان كل المخلوقات تقتل فقط اما للحصول على القوت او للدفاع عن نفسها ، الا الانسان فهو يقتل وبطنه متخمة ، ويسرق وخزائنه ملآنة ، ويزني بنساء غيره وهو متعب من الممارسة الجنسية ، ويعتدي وهو امن ! وكلما تأملت في اعمال الغرب الاجرامية ، خصوصا المقابر الملايينية ، وليس الجماعية فقط ، التي حفرتها امريكا لشعوب كاملة ، يستحوذ على عقلي سؤال منطقي مهم : هل الشيطان الذي تحدثت عنه كل الاديان بصفته مصدر الشرور هو الانسان الاشقر بالذات وليس غيره والذي يجلس ممثله المنتخب في البيت الابيض ؟
لقد جاءت تلك الديانات لتهدي هذا المخلوق ، ولتضع له الحدود والضوابط التي تردعه وتمنعه من القتل والابادة غير المبررة لكل المخلوقات الاخرى . وبقوة الدين التعاطفية والانسانية تحددت وتقيدت نزعة الابادة لدى الانسان ، لعدة قرون حكمت فيها العالم شعوب الشرق المتحضرة وذات القلب الانساني الرحيم . لكن ما ان بزغ عصر شقر الغرب حتى رأينا نخبه تستخدم مخلوق ما قبل الحيوانية داخل الانسان ، وتطلق قواه التدميرية محررة اياها من كل قيد ديني او انساني باسم الفردية واحترام الفردية ، تارة لمصلحة الاقطاع وتارة اخرى لمصلحة الراسمالية ! بل اننا الان نجد الرجل الاشقر في الغرب ، وبعبقرية شيطانية ، يستخدم رب بوش لاصدار فتاوى بقتل الملايين من البشر الامنين والابرياء ، وبيده اليمنى قنابل ذرية وفي اليسرى كتاب من مؤلفات الخبال السياسي اسمه (آيات شيطانية حول حقوق الانسان) !
وها نحن نواجه اغرب ظاهرة سوسيولوجية ولغوية ، وهي القول باننا نعيش عصر الليبرالية المتوحشة ! في هذه الثنائية اللغوية المتناقضة نرى الرحم الذي ولد منه المحافظون الجدد ، والثدي الذي يرضع منه بوش وربه وعاشقة الموز الصومالي كوندي ، فلقد وضع وحوش ماقبل الحيوانية العالم بازاء اوحش فصول التاريخ ومزقوا الكتاب المقدس قبل ان يمزقوا القران الكريم ! انظروا امامكم ستجدون ان شعوب امريكا واوربا ، هي اكثر شعوب الارض رفاهية وثراء وتخمة ، ومع ذلك فان مخلوقاتها هي اكثر المخلوقات في الحاضر وفي التاريخ قسوة وانانية واحتقارا للحياة الانسانية والحيوانية ولنظافة البيئة ! ثم لا تنسوا انه لولا نهب القارات الثلاث ، اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية ، لما تمتعت اوربا بثرائها ورفاهيتها الحاليتين ، على حساب تلك الشعوب التي صارت فقيرة ومازالت فقيرة تعاني من الموت جوعا ومرضا ، فلقد سرقت بريطانيا ، مثلا ، من الهند فقط ثروات تعادل ما كان في كل اوربا من ثروات انذاك ، كما قال كارل ماركس ، في كتابه (في الاستعمار) !
اذن نحن نواجه تغييرا قسريا لمسالك الصراع الطبيعي بين الناهب والمنهوب ، أي الاستعمار وبين العربي الذي فقد ارضه ووطنه في العراق وفلسطين ، وفقد ثروته بكافة اشكالها ، فانتفض لاستعادة حقوقه ، لكنه اليوم يجد ان اجندة الصراع قد ابتعدت عن الناهب والمنهوب وصارت اجندة الغالب والمغلوب ، في صراعات الهوية (الحضارية) وليس صراعات الحقوق ! وأذا انتبهنا الى ان صراعات الهوية الدينية والحضارية زلقة الملمس وغائمة الملامح ومتغيرة الصفات كالزئبق ، عرفنا اننا غادرنا عصر صراعات الحقوق ، التي تتسم بانها واضحة المعالم ويمكن لمسها والامساك بذيلها وراسها وتحديد طبيعتها ، واصبحنا نحاول الامساك بسمكة اصطدناها لتونا ، فرحين لاننا سنطعم اطفالنا الجائعين ، فتتزحلق من بين ايدينا وتعود ساقطة في نهر احزاننا ، او نحاول ، عبثا وعبثا ، الامساك بالزئبق وهو يترجرج فوق راحة يدنا !
ما هي الصرخة المناسبة لهذه الحقيقة ؟ الويل، ثم الويل ، لمن غاص في صراعات الهويات دون ان يفهم الاليات الحقيقية التي تحكمها ! لذلك ولنخرج من مستنقع صراعات الهوية علينا ان ننبش قبور امريكا واوربا ، واجدادهما ، ونسلط الضوء على جراثيم عالمنا الجديدة، التي صنعتها امريكا للتعجيل بمضاعفة المقابر الملايينية ، خصوصا جرثومة ايدز صراع الحضارات ، وثقافة التخويف الكامنة في فايروس انفلونزا الطيور ، والموت البطيء المخبوء في اجنة التهاب الكبد الفايروسي . كما يجب علينا ان ننبش اكوام الخلط عمدا بين عوالم سبيلبيرج وآيات الله العظام ، المختبئين في كهوف لا يصلها الكهرباء ابدا في قم وتل ابيب والبيت الابيض، وبين مآسي المنهوبين والمنكوبين من شعوب العالم الثالث . ومن بين اهم ما يجب التعامل معه هو الاسئلة التالية : من احدث هذا التغيير في العالم ؟ ولماذا احدثه؟ هل للمسيحية دور اساسي فيه ؟ كيف يجب ان نفهم التحرشات المفضوحة بالمسلمين في الدنمارك وغيرها ؟ ولماذا تركز امريكا كل جهودها منذ غزو العراق على احداث فتنة طائفية بين السنة والشيعة ، وفتنة اثنية بين العرب والتركمان من جهة والاكراد من جهة ثانية ؟ هل هي محض نزوة صليبية عدوانية ضد نبينا الكريم ؟ ام انها تستبطن هدفا او اكثر تنتمي لسلسلة اهداف تغيير الصراع من صراع طبقات واحتلالات فيه ناهب ومنهوب الى صراع هويات وديانات فيه غالب ومغلوب ؟ ما الفرق بين المسيحية والصليبية ؟ دعونا ننبش قبر الاسرار ، واولها قبر نظرية هنتنغتون الغارق في روائح الجثث والموت ، لنرى ما فيه من بقايا جثث وعظام والغام ووهم وايهام .
نبش جثة مهملة : لماذا حروب امريكا ؟
كي نبقى في قلب الموضوع دعونا ننبش قبر هنتنغتون مرة اخرى لنعثر على عظام اجداده لان السبب المباشر لصعود الاصولية المسيحية محفور عليها ، وبالطبع فان جدلية هذا الصعود تحتم تصعيد كل الاصوليات الدينية ، بما فيها الاصولية الاسلامية ، طبقا للمثل الذي يقول : (اليد الواحدة لا تصفق) . لن يصبح التصفيق عاصفا ل(مسرحية الاصوليات الدينية) الا اذا برزت اصوليات متعددة وقوية . هناك جزء اساس في نظرية هنتنغتون يتم القفز من فوقه من قبل الانتلجنسيا العربية والاسلامية غالبا ، وهو الجزء الذي يفسر حوافز النخبة الامريكية الحاكمة من خلف الستار في امريكا والتي تدفعها للغزو والحروب . في دراسة معروفة لصموئيل هنتنغتون عنوانها (تأكل مفهوم المصلحة القومية) نشرت في عام 1998على ما اتذكر ، يعترف هنتنغنتون بان على امريكا ان تخلق عدوا جديدا لها بعد ان تلاشى العدو الشيوعي ، اذا ارادت ان تمنع تفكهها وزوالها كدولة موحدة . ويفسر الامر على النحو التالي : ان مجتمعنا يتوحد ويتقوى عند وجود خطر خارجي والدليل، طبقا له ، هو ان زوال الخطر الشيوعي قد أيقظ آليات تفكيكية داخل امريكا اذا استمرت فسوف تعرض امريكا الى التقسيم ثم التلاشي . ويضرب مثالا على ذلك التفكك بالقول بان الامريكيين من اصل صيني قد اخذوا يتاجرون مع الصين اكثر مما يتاجرون مع ولاية امريكية مجاورة ، وهذا ينسحب على النشاطات الثقافية وغيرها .
تسييد ثقافة الخوف : لماذا ؟
لماذا حصل ذلك ؟ سأفسر نظرية هنتنغتون بمفرداتي وافكاري الخاصة دون ان اشوه ما قصده ابدا ، لانه يفترض ان هناك (امة امريكية) وهذا خطأ فاحش وفق كل المعايير التي تحدد الامة . ان الشعور بالطمأنينة وعدم وجود تهديد خارجي خطير يحرر الانسان الامريكي من ضرورات الامن ، التي هي عامل التوحيد الاساس للامريكيين كما يعترف هنتنغتون ، ويبدأ بالتصرف وفقا لما يفضله ، فيكون طبيعيا ان يختار ماضيه للتعبير عن وجوده ، والماضي في امريكا هو الاصول التي مازالت حية وقوية وتتعارض مع وحدة امريكا وتماسكها ، وتلك هي لعنة امريكا ، بخلاف كل الامم المتكونة والطبيعية التي تزدهر في ظل الامن والاستقرار وانعدام الخوف من الخارج . كيف نفسر هذه المفارقة الغريبة ؟ ان المجتمع الامريكي هو مجتمع ما قبل الامة ، أي انه خليط هجين من عدة ثقافات وقوميات واديان وسايكولوجيات لم تنصهر بعد في شخصية واحدة مستقرة ،لان تبلور شخصية قومية وبروزها كممثل لابناء المجتمع يستغرق مئات السنين واحيانا الاف السنين ، لذلك فان الخيارات في امريكا ، بلد ما قبل الامة ، تختلف والمصالح تتعدد والامزجة تتناقض .
وغياب التهديد الخارجي يشغل الية تفكيك وحدة امريكا ويعزز ثقافة الجاليات ، على حساب ما يسمى خطئا في امريكا (الثقافة الوطنية) ، بما في ذلك غلبة اللغات الاصلية ، كالاسبانية ، على اللغة الانكليزية اللغة الرسمية الالزامية ، والتي يقدر انها ستكون لغة الاغلبية بدل الانكليزية في غضون اقل من نصف قرن . متى يحصل ذلك ؟ انه يحصل حينما يشعر الامريكي انه امن وان لا تهديد خارجي خطير يقلقه فيبدأ بالبحث ، في مزابل الراحة والطمأنينة ، عن دفاتره العتيقة ومنها صلاته بوطنه الاصلي ، وعندها يكتشف الامريكي من اصل صيني ان الصيني في بكين اقرب اليه ثقافيا من الامريكي من اصل الماني في ولايته، والاخير يبدأ، بفضل ترف مزابل الراحة والامن ، بتقوية لغته الالمانية واعادة الجسور مع اصوله في فرانكفورت ! وتلك هي سمة اساسية من سمات مجتمع ما قبل الامة .
وما يجب ان نوضحه هنا ، وتغافل عنه هنتنغتون ، هو حقيقة ان امريكا ليست فقط مجتمع ماقبل الامة بل هي اسوأ من ذلك في اطار تشكيل امة جديدة ، وهي ان سكان امريكا ليسوا سكانا اصليين منقسمين الى قبائل تتجه ، في تطور موضوعي، نحو الوحدة بصيغة اعلى من القبيلة هي الامة ، كما حصل في تطور الامم الطبيعية ، بل هي عبارة عن فندق كبير اجر كل واحد منهم غرفة فيه لانه اما حصل على عمل قربه او انه يبحث عن عمل قربه . ما هي نتيجة هذه الحقيقة التاريخية ؟ ببساطة المواطن الامريكي اما هارب من اضطهاد ديني ، لذلك فهو يحمل عقدة الاضطهاد والارتياب ، او انه فقير فقد فرصة العمل في بريطانيا او فرنسا فهاجر الى امريكا للحصول على عمل حرم منه في وطنه ، لذلك فهو اسير عقدة الخوف من المستقبل ، واما انه مجرم ضاقت به سجون بريطانيا فنفي الى العالم الجديد ، أي امريكا ، تخلصا منه ، لذلك فهو يحمل في أحشاءه لغم عوامل تفجير المجتمع وليس رص صفوفه . هذا هو الاختلاف الجذري في تكوينات اجداد امريكا ، والتي توارثها وكرسها الابناء ، وصارت المكون الاساس في الشخصية الامريكية ، وهو مكون متناقض السايكولوجيات انعكس بشكل اضطرابات سلوكية وتناقضات صارخة في الشخصية الامريكية تحاول تمويهها بالعجرفة والتجاوز على الاخر غير الامريكي ، ومن ثم فان اصل امريكا هو محض تجميع اجزاء متناقضة لا يربط بينها سوى الحصول على فرصة عيش او مراكمة الارباح .
هذا الفندق الكبير وان زال وحلت محله شركة كبرى اسمها امريكا ، الا ان سايكولوجيا الفندق ، القائمة على السكن الوقتي ، ما زالت قائمة وفعالة بل هي اقوى ما في مكونات السايكولوجيا الامريكية ، لان الامريكي لا يرى في امريكا الا فرصة عمل واستقرار ورفاهية تعوض عن القلق والخوف والاغتراب وكل العقد المرتبطة بها والرابضة بقوة اسد في ذاكرته الجمعية . بين الامة غير الموجودة ، والتي عمادها الشعور العميق بان الارض التي يسكنها الانسان هي ارضه وان البشر الذين يعيش معهم هم مواطنيه وشركاء ثقافته واقرباءه في النسب والتاريخ المشترك والميل المشترك ، وبين مفهوم الفندق او الشركة الكبرى ، وهما مفهمان يقومان على الوقتية والمصلحة المباشرة بين اناس لا تربطهم صلات حميمية ولا تاريخ مشترك تنصهر في اتونه مياسمهم الاصلية وتبلور منها ميسما جديدا مشتركا يشدهم الى مشروع ابدي مستمر ، بل ان مايربطهم هو المصلحة ولا شيء غير المصلحة ، والامة ليست مصلحة فحسب بل هي قبل ذلك رابطة معنوية ثقافية متجذرة في اعماق الانسان ووعيه السائد .
اذن ، ما يستنتجه هنتنغتون ، وفي قعر ذاكرته حقيقة ان امريكا هي مزيج مشترك من سايكولوجيا الفندق وسايكولوجيا الشركة الكبرى ، هو ان المطلوب هو توفير حافز اصطناعي للوحدة في المجتمع الامريكي ، الميال بطبيعته للتفكك عند الشعور بالامن ، لانه مجتمع ما زال يقوم ، في اللاشعور الجمعي على الاقل ،على الدافع الوقتي او المباشر، وهذا الحافز هو اختراع عدو خارجي لملا الفراغ الذي احدثه زوال الشيوعية ، لاجل ان تسود ثقافة الخوف وتوحد الامريكيين وتغلب الغريزة . ان اول تجليات ثقافة الخوف هي الرغبة الطاغية في ضمان العمل والربح ، وهيمنتها على الوعي الثقافي . ويتابع هنتنغتون تفسيره لنظريته فيقول ان الاسلام هو العدو الجديد القادم ، ويجب ان نستعد له ونواجهه ! هذا هو الاصل في تصادم الحضارات ، وعلينا دائما كعرب ان نتذكره كي لانقع في خطأ فادح هو عدم فهم ان لامريكا مصلحة اساسية وجوهرية في تعزز الاصولية الاسلامية وطغيانها على الاصولية القومية وفرعها الاصولية الوطنية ، كشرط لازم لدفع الاصوليتين المسيحية واليهودية الى امام في تماسكهما وتصاعد قوتهما ، ولتوفير وحدة امريكا وبناء حافز جماهيري لغزواتها في بيئة محاربة ما يسمى (الارهاب الاسلامي) .
في هذا الجزء من قبر هنتنغتون نشم روائح الحروب والموت لا لشيء الا لابقاء امريكا موحدة ولتوفير دافع يؤمن دعم اغلبية امريكية لغزوات الراسمالية الامريكية . ولعل اقوى الروائح العفنة في القبر هي ان من مصلحة امريكا بروز الاصوليات الدينية بما فيها الاسلامية لتصبح سيده المشاهد السياسية في العالم ، ومن ثم يتولى الاعلام تسويق الخوف داخل امريكا من الاصولية الاسلامية لاجل ابقاء وحدتها ، وهو المدخل لبدء الغزوات الخارجية القائمة على اساس ان امريكا يجب ان تهاجم العدو في عقر داره وتدميره قبل ان يهاجمنا ! ألم يأمر رب بوش تابعه بذلك ؟! هذا درس وتلك حقيقة يجب ان نتذكرهما دائما لنؤمن الوقوف فوق صخرة الحقيقة ، وهو درس يجعلنا نعيد النظر في الاسباب التي تجعل من دعاة اسلاميين نجوما في الفضائيات العربية ، في حين يتم تغييب متعمد لنجوم الفكر القومي والوطني . انه امر امريكي صريح!
التدين : محيطات الشرق وسواقي الغرب
في ضوء الملاحظات التمهيدية السابقة ، حول وظيفة الدين السياسية والتعبوية والعسكرية في دعم مصالح النخب الراسمالية في الغرب ، وما شرحناه من خصائص مميزة لامريكا ، علينا ان ندرس ونحلل ما يجري الان ، خصوصا شن حرب ابادة ضد المسلمين وتعمد الإساءة للنبي الكريم . قبل كل شيء يجب ان نسلط الضوء على خطأ يقع فيه الكثير من المتعاملين مع الغرب ، وهو الاعتقاد بان الغرب ، الرسمي والمؤسسي، في علاقاته معنا، مدفوع بتأثيرات مسيحية، خصوصا بعد وصول ادارة جورج بوش الابن واعتماده على المحافظين الجدد والمسيحية الصهيونية . ان هذه المسألة تشكل لغما خطيرا يجب تفجيره في صحراء الجدل ، وليس وسط جمهرة المحملقين في مشهد الاحداث الصاخب ، لتجنب الخسائر الاعتبارية والبشرية . وهنا علينا ان نتعامل مع حقيقة يجب ان تتحكم في تعاملنا مع الغرب وهي ان الغرب ، اذا استثنينا افرادا او كتل صغيرة جدا ، ونظرنا اليه ككتلة غالبة وتوجه عام ، لا ديانة عميقة وحقيقية له .
وما نراه من مظاهر تدين ليس سوى قميص رقيق لا علاقة له بعمق الانسان الغربي ودوافعه وروادعه وقيمه ، بل انه في زمن التمدن الحالي هو مجرد قميص جميل يخفي نزعات حيوانية ووحشية لا مثيل لضراوتها في كل التاريخ الانساني . ان ما نشاهده من افلام رعب امريكية هو تنفيس مبرمج ومنضبط لحالة مجتمع يكتظ بالشر الى درجة الاختناق ، لذلك يستطيع توزيع الشر على التاريخ كله منذ ظهر اول عنف فيه ، وعلى جغرافية القارات كلها ، ومع ذلك يبقى فائض مرعب من الشر الامريكي ! ان ما يملأ الانسان الغربي بزخم المبادرة ، تجاه الفرد الغربي الاخر وتجاهنا وتجاه العالم ، في تاريخه ويومه وقرن حياته ، هو الشبق الوحشي للحياة اليومية ، في مجتمع قاس لا يرحم ولا يساعد الفقير او الضعيف بل يسحقهما بلا تردد او خوف من عقاب الهي او ثأر دنيوي .
وبتأثير ذلك فان الذي يقرر قيم ودوافع واهداف الانسان الغربي هو الرغبة الطاغية في ضمان غده ، في عالم وحشي كل فرد فيه ممسوس بيقين انه قد يفترس غدا من قبل الانسان الاخر وليس من قبل وحوش الغابة الحيوانية المعروفة ، ، سواء كان ذلك الضمان مشروعا او مناقضا للحق والعدالة او الدين او أي قيم عليا . وهذا الوضع هو نقيض حالتنا نحن في الشرق (عرب وهنود وصينيين)، حيث تخضع شعوبه في حياتها لمفاهيم وقيم راسخة وعميقة يتعلمها الانسان منذ ولادته وحتى مماته ، سواء كانت قيم دينية او دنيوية مثلتها افكار الفلاسفة والمصلحين . وهذه الحقيقة تتطلب تسليط الضوء على الفرق بين الايمان الديني في الغرب والشرق .
أن الحقيقة التي يجب ان لا تغيب عن بالنا ، نحن العرب ، كي لا نقع في فخ جهل حوافز العدو ومحركاته الحقيقية تجاهنا، وافتراض ما ليس فيه ، خصوصا وان الجدل يدور الان حول دوافع نشر رسومات مسيئة للرسول الكريم ، هي ان مانشر في اوربا من رسومات امر لا يقترب من الغرابة بل هو جزء من طبيعة تركيب اوربا الاجتماعي والثقافي وليس الديني، لان الدين في اوربا غالبا ديكور للظواهر الاخرى الاهم بالنسبة للأوربيين . أما بالنسبة لنا
نحن العرب فان الدين ليس مجرد طقوس عبادة يجب ان تحترم ، بل هو قبل هذا نمط تشكيل الحياة والثقافة وقاعدة الوعي الاجتماعي للفرد العربي ، سواء كان مؤمنا او ضعيف الايمان . وحينما نقول الدين فاننا نقصد الاسلام والمسيحية وبقية الديانات الشرقية الاصغر وربما الاقدم . ما معنى ذلك تحديدا ؟
لو قارنا بين تدين العربي المسلم والعربي المسيحي بتدين الاوربي والامريكي المسيحيين ، لوجدنا ظاهرة مهمة جدا تلعب دورا خطيرا في مسار العالم منذ ظهر الاستعمار الاوربي ، وهي ان التدين المسيحي في الغرب بشكل عام سطحي ولا يتغلغل في اعماق وعي الانسان وحوافزه ومحركاته الاساسية ، وانما هو غالبا موجة او وراثة ميكانيكية لمعتقدات لاهوتية يرتديها الفرد كالقميص وينزعها عند النوم او العمل او التعامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتجاري، فتكون النتيجة هي اننا نواجه مجتمعات وافراد رادعهم الاول ومقرر سلوكهم الاعظم ليس قيم الدين المسيحي ، رغم انه الديانة السائدة عدديا ، بل هو المنفعة واللذة والربح والراحة حتى لو توفرت على حساب الاخرين وبؤسهم وقتلهم ، بل وابادتهم كليا.
ان ابرز الامثلة على عنف النزعة الانانية الوحشية والابادية للغربيين ، هو ما حصل حينما اباد الاوربيون المهاجرون الى امريكا مائة واثنا عشر مليون هندي احمر كانوا سكان امريكا الشمالية الأصليين عند الهجرة اليها ! ومن بين اساليب الابادة المحسوبة نشر الامراض عمدا، واهمها الطاعون بتوزيع بطانيات ملوثة بجراثيمه على السكان الاصليين ، والقضاء على اهم مصادر عيشهم وهو الجاموس الامريكي المسمى (بوفالو) ، فقتلوا خمسين مليون جاموسة كانت تشكل عماد حياتهم ، اضافة للابادة بالرصاص ! كما ان ما فعلوه في فلسطين واستراليا ونيوزيلندا وجنوب افريقيا، من ابادة مماثلة للسكان الاصليين ، واستعباد من تبقى منهم ، تشكل اضافة (حضارية) للارث الغربي الاجرامي . وفي كل تلك الحالات لم يشكل الناس الذين تمت ابادتهم تهديدا للمهاجرين ابدا ، بل على العكس قام السكان الأصليون بمد يد العون للمهاجرين ، وعلموهم كل ما يحتاجون اليه ، للعيش في بيئة جديدة مجهولة .
ان العلمانية الغربية ، وهي تعني فصل الدين عن الدولة وجعل الدولة تتصرف وفق المصالح وليس تنفيذا لتعاليم الدين ، هي ثمرة طبيعية للنزعة الوحشية الفردية التي تسود ثقافة تلك المجتمعات ، لان وجود المسيحية الحقيقية ، بقيمها الانسانية التي جاء بها السيد المسيح عليه السلام ، وهي دين الاغلبية في الغرب الراسمالي ، يحد من الانانية المفرطة للنزعة الفردية . لهذا السبب ما كان ممكنا في المجتمعات الغربية اعادة تشكيل ضميرها الجمعي والفردي ليخدم اهدافا متناقضة مع اصول المسيحية ، مثل تسويق نهب وابادة الاخرين والتعامل معهم كمخلوقات من الدرجة الثانية او الثالثة ، في سلوك عنصري ينقض بشدة جوهر المسيحية القائم على المساواة بين البشر والمحبة بدل القتل ، نقول ما كان ذلك ممكنا الا بتشويه المسيحية وتحويلها الى غطاء للغزو والقتل والابادة ، وهو ما فعلته الكنيسة التي حولت المسيحية الى غول يفترس الناس المسيحيين ابتداء ، فقبل الحروب الصليبية ، والتي كانت بداية الاستعمار الاوربي ، وبعدها نشأت حروب دامية وطويلة بين الاوربيين المسيحيين انفسهم كانت الاكثر وحشية ودموية في التاريخ الانساني حتى وقت وقوعها ، ومع غير المسيحيين ، بتأثير امراء الاقطاع .
عقلية ابادة الاخر ، وهي نتاج تزاوج اكثر وحوش التاريخ شراسة وهما الوحشية الغربية المتطرفة والوحشية الراسمالية الاكثر تطرفا ، اخترعت نظرية دينية لتبرير ابادة الاخر غير المسيحي مشتقة من التلمود ، تقوم على التشكيك في كونه انسانا تنطبق عليه القيم المسيحية ورحمتها ، فقالوا ان الهنود الحمر مخلوقات حيوانية وليسوا بشرا لذلك لا ضرر في ابادتهم! او انها عدت الشعوب الاخرى التي لم تستطيع انكار ادميتها ، عدوة للمسيح ، ومن ثم بالامكان القضاء عليها ، كما فعل اقطاعيوا اوربا عند الاعداد للحروب الصليبية ضد المسلمين ، وكما فعل رأسماليوا امريكا واوربا ويفعلون الان ضد المسلمين ، خصوصا في العراق وفلسطين وافغانستان ، مستغلين اسم المسيحية والدفاع عنها ضد الاسلام ، مع ان الحقيقة تؤكد ان الدافع الحقيقي هو نهب المسلمين واستعمارهم . وفي كل الاحوال فان التسويق الديني لابادة الاخر كان محض قميص شفاف استخدم لتجميل الابادة وتوفير جنود يقومون بها كي تستطيع شركة هاليبيرتون وشقيقاتها مضاعفة نهب الاصفر (الذهب) والاسود (النفط) .
دور النزعة الفردية
من يقوم باعادة التشكيل الدورية لوعي الغربيين في اوربا وامريكا الشمالية ؟ بالطبع انها قوانين الراسمالية التي تدق الجدران النحاسية ، وهي عالية الصوت والرنين ، للوحشية والانانية والحيوانية في جذر الطبع الانساني ، بجعل الانانية قاعدة اجتماعية ودستورية للسلوك يحميها القانون رسميا ويشجعها تحت تسمية مضللة وهي الحرية الفردية ، لان ميل الانسان للخير هو توأم ميله للشر ، وما لم تستثار النزعات الانانية لآخر الشعوب التي تعاملت مع الحضارة الانسانية ، وهي الشعوب الاوربية ، فان وحشية الراسمالية وابنها الشرعي الاستعمار ، لن ينجحا في تسويقها ، أي الانانية الحيوانية ، وسترفض بفضل خيرية الدين وثقافته ، القائمة على المحبة واحترام الكائن الانساني ، بغض النظر عن هويته.
ان التركيز على الجنس والجريمة ، بشكليها المنظم وغير المنظم ، واباحة كل شيء ، واعطاء الانسان الفرد حق تقرير الخطأ والصواب بمعزل عن الروادع الدينية والاجتماعية والعرفية السائدة ، وتحويل مفهوم الكتلة الاجتماعية من حالة نوعية مندمجة بالتفاعل الطويل الامد تعبر عنها شخصية اجتماعية متميزة ، الى حالة كمية هي حاصل جمع افراد ليس بينهم الا المصالح الانانية المشتركة ، يعبر عنها بنزعات فردية منفصلة تجعل الانسان كائنا منعزلا قائما بذاته ومنغلقا على ذاته ، ان ذلك كله يفضي الى حقيقة ان الشعوب الاوربية والامريكية الشمالية هي محض جماعات لا رابط بينها سوى المصلحة الانانية المجردة من قيم العدالة والرحمة ، والمتحركة بحافز واحد ، غالبا ،هو تنمية مصالحها ومنع الاضرار بها حتى لو تطلب ذلك ابادة الاخر ! هذه الحقيقة تجد تجسيدها الواقعي في ان الافلام الامريكية، وهي تعبر بدقة عن حالة المجتمع الامريكي ، تركز وبنسبة تزيد على 98 % من افلامها على موضوعي الجريمة والجنس ، لذلك فان من يراها يتلبسه اعتقاد جازم بان امريكا هي اكبر مقر للعصابات والمجرمين واللصوص في العالم وفي التاريخ الانساني ، وانها حي ضخم متخصص في تجارة الجنس .
وتزداد ضراوة ووحشية الغربيين حينما يكون وضعهم في العالم هو وضع المسيطر الناهب لثروات الاخرين ، عند ذاك نجد ان الغرب يتفنن في وسائل الابادة والقتل والشيطنة التي يلحقها بصاحب الحق المنهوب ، كالنفط والمواد الخام في العالم الثالث ، لمنعه من الحصول حتى على جزء بسيط من حقوقه ! وما يجري الان للعرب من قتل وابادة ، خصوصا في العراق وفلسطين ، هو تجسيد تام لهذه الحقيقة ، حيث يشكل هدف الابقاء على النفط العربي تابعا للغرب اهم هدف غربي مشترك على الاطلاق ، ولاجله تستخدم الدولة الامريكية واجهزة اعلامها وكبار شخصياتها الكذب المطلق لتبرير الغزو وابادة الملايين من الناس . وحينما يكتشف الكذب بعد قتل مئات الالاف وتدمير دول بالكامل ، مثلما حصل حينما اكتشف الأمريكيون كذب التهم التي استخدمت لاقناعهم بغزو العراق لم يصدر رد فعل رسمي وشعبي يتلاءم مع حجم جريمة امريكا وبقي رئيسها الذي كذب بلا حساب او عقاب ، تماما كما حصل للرئيس الذي سبقه وهو بيل كلنتون ، الذي كذب وهو تحت القسم وزنى ومع ذلك زادت شعبيته ولم يعاقب ايضا !
كيف نفسر هذه الظاهرة ؟ لا تفسير لهذه الظاهرة سوى انها تعكس وتجسد القاع الوحشي البالغ العمق للانسان الامريكي والذي لا يعرف سوى الافتراس ولا يهم من هو الذي افترسه ولماذا افترسه ، لان المهم هو ان يخضع الامريكي لنزوة القتل والابادة التي تتحكم فيه وتقرر خياراته ومساراته .
قبل الرأسمالية كان النظام الايديولوجي الذي يغذي وحشية وانانية الغرب هو الاقطاع ، والذي استخدم الكنيسة غطاء لاهوتيا لغزواته التوسعية وابرزها الحروب الصليبية ، اما اليوم فان الراسمالية ، وليس الكنيسة المسيحية التي عزلت وتستخدم كغطاء للتوسع الاستعماري ، هي التي تشكل وعي الغربيين وتحدد سلوكهم وانماط حياتهم وردود فعلهم خصوصا عبر الاعلام الجماهيري القائد الفعلي للناس هناك والمبلور لقناعاتهم . ومن يدرس تاريخ الاستعمار الاوربي وابنه الشرعي الاكثر وحشية الاستعمار الامريكي ، سيدرك تماما معنى وصحة ما قلناه . ولئن كان الاستعمار ظاهرة رأسمالية كونية ميزتها الابرز هي نزعة ابادة من يعترض طريق نهبه ، فانه جسد الطلاق والتناقض مع قيم الاديان السماوية التوحيدية، من خلال سياسة النهب والابادة المنظمتين للجنس البشري ، من جهة ، والتنظيم العمدي لحصول اخطر ردة رجعية في تاريخ التطور الانساني وهي ارتداد المجتمعات الغربية الى عهد الوحشية بصيغته الاقدم والاوحش ، مع تغليف وجهها ، أي الراسمالية ، بقناع المجتمع الالكتروني ، من جهة ثانية .
اليوم نجد الانسان الذي حقق اعظم تقدم مدني (علمي – تكنولوجي) يمسك بيده بقنبلة نووية يهدد باستخدامها ، كانه يتناول طعامه، ضد من يريد استعادة حقوقه ! وهو يجلس على مائدة مصنوعة من جماجم وعظام الملايين من ضحاياه من البشر ومع ذلك يستطيع الابتسام ، ويصر على القول انه يدافع عن حقوق الانسان والحيوان !
وفي قلب هذه الحقيقية التاريخية والاجتماعية يوجد تفسير لظاهرتين : الاولى ان العلمانية الغربية ولدت في اوربا المسيحية في عصر صعود الراسمالية ، وكان المطلوب وقتها هو عزل الدين عن الدولة ليس للقضاء على الاستبداد الكنيسي فقط ، بعد ان اصبح قيدا على الراسمالية المنطلقة بجموح ، بل ايضا لاجل اطلاق كافة النوازع الانانية والشريرة التي تقوم على ابادة وتدمير الاخر او استعباده لضمان النجاح في نهبه او منعه من استعادة حقوقه . وفي هذا الاطار نرى ان امريكا ومعها قسم من اوربا يعدان الفساد والجريمة جزء طبيعي لا يمكن ازالته من الطبع الانساني والظواهر الاجتماعية الدائمة ، لذلك يجب تقليصهما والسيطرة عليهما فقط وعدم محاولة ازالتهما لانها عبثية !
ان الديانة المسيحية ، مهما كانت خاضعة للسلطان، تبقى في عصر الراسمالية المتطرفة الوحشية ، مصدرا لادانة قتل ونهب البشر حينما تتجاوز الراسمالية كل الحدود ، في عصر يسمى العالم فيه (القرية الالكترونية) . اما الظاهرة الثانية فهي ان الايمان المسيحي الاوربي ، ومن ثم الامريكي الشمالي ، هو ايمان سطحي لا يتجاوز جلد الانسان ، لذلك فانه ، وبشكل عام ، ايمان لا يؤثر على ضمير الانسان ولا يحدد سلوكه بروادع قوية بل يترك للحيوانية ، باسم تقديس الفردية ، ان تهيمن عليه ، حتى وان بدا في غاية التمدن بلباسه واسلوب تصرفه الظاهري ! ان اوربا الاستعمارية قد نظفت نفسها من الخارج ، فاصبحت تتقيد باللبس النظيف والكلام المحسوب بالاتيكيت ، لكن روح وحوافز نخبها الحاكمة ازدادت قذارة وانانية ووحشية.
هذه الاشكالية الاوربية وجدت وتجد تعبيرها المرضي في امريكا حيث لا حدود للوحشية ونزعة ابادة الاخر . والدليل على صحة هذه الحقيقة نراه في ظاهرة ان اشرس حروب وغزوات التاريخ واكثرها وحشية ودموية قامت بها اوربا او وقعت في اوربا ، وفي مقدمتها الحربين العالميتين الاولى والثانية ، وبروز امريكا بصفتها الامبراطورية التي قتلت اكبر عدد ممكن من البشر في كل التاريخ الانساني . وفي مقدمة اساليب الابادة الغربية استخدام امريكا للقنبلة الذرية
وابادة عشرات الملايين من البشر بحروب استعمارية من فيتنام الى العراق ، اضافة لغزو اوطان الاخرين وتهجيرهم ، كما حصل للفلسطينيين ، او ابادتهم كما حصل للهنود الحمر، او استعبادهم كما حصل للسود في افريقيا .
ولاجل ان نختتم هذه الفقرة باثباتها ، لابد ان نذكر بان الانتقال من المسيحية الى الديانات الاخرى كالاسلام والبوذية في اوربا وامريكا الشمالية يكاد ان يكون شارعا باتجاه واحد ، وليس باتجاهين ، بتعبير اخر : ان اعتناق الاسلام يزداد نموا في اوربا واميركا على حساب المسيحية هناك ، كما البوذية تجد جاذبية هناك ، ومن بين من اعتنقوها وهجروا المسيحية الممثل المعروف ريتشارد جير . والسؤال المهم هنا هو : لماذا ؟ لنناقش الاسلام ليس بصفته دينا فقط بل بصفته ثقافة متبلورة قبل ظهوره الزمني كدين ايضا .
كان محمدا كل العرب فليكن كل العرب محمدا
لا مفر من الجزم بان اعظم وصف قدم ، وابلغ تحديد وضع للعلاقة بين النبي محمد (ص) والعرب ، هو ما قاله في الأربعينيات قائد ومفكر عربي مسيحي ، وقبل ان يعتنق الاسلام في الثمانينيات ، وهو المرحوم احمد ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي . ماذا قال عفلق ؟ في نهاية الاربعينيات ، وفي فجر البعث ، قال القائد المؤسس المسيحي العربي : (كان محمدا كل العرب فليكن اليوم كل العرب محمدا) . هل قال مسلم ، عربيا او اجنبيا ، كلاما بهذه الدقة والبلاغة في وصف النبي العربي الكريم ؟ انني اتحدى كل كتاب ومفكري العرب والمسلمين ان يذكروا وصفا ادق ، وينطوي على معنى فلسفي عميق جدا يجسد ويحدد واجب العرب حاليا تجاه نبيهم الكريم والاسلام ، اعظم مما قاله عفلق المسيحي انذاك . مامعنى ذلك ؟
خلاصة ما قاله عفلق هو ان النبي العربي (ص) قد قدم للعرب ما نزل عليه من الله سبحانه وتعالى ، وما مارسه من سيرة عطرة وما غرس في نفوسهم من قيم سامية ، وتجسد كل ذلك في رسالتهم الخالدة ، على نحو انتج خلال عقود قليلة نمطا جديدا من الحياة العربية والانسانية ، انتشرت في العالم وصارت قاعدة لاعظم امبراطوريات التاريخ تقدما وانسانية . لذلك ، ولان من المستحيل معايشة النبي بعد انتقاله الى الرفيق الاعلى، فان اعظم تمسك بما جاء به ونشره هو ان يجسد العرب في سيرتهم اليوم ، وقد عاد الاسلام غريبا ، مبادئ محمد وتعاليم ما جاء به من قيم الهية اوحي اليه بها .
والسؤال هنا هو التالي : كيف يقول مسيحي كلاما عن الرسول عجز عن الاتيان به عباقرة المسلمين وهم كثر ؟ ان الجواب باختصار شديد هو ان عفلق كان عربيا بانتمائه والتزامه ومبادئه وتربيته وخلقه وسيرته العطرة ، وبما ان العروبة هي سايكولوجيا وثقافة وتربية عميقة الجذور ، بالاصل والجوهر، فان ما قاله عفلق كان نتاجا طبيعيا لانتمائه القومي ، والذي يشكل الاسلام جوهره وروحه ، كما اكد هو ايضا وكرر القول منذ نشأ البعث . ان المسيحي العربي ، كالصابئي العربي ، يعد الاسلام مكونا اساسيا لثقافته وسايكولوجيته وروح قوميته العربية ، وهذا اعظم ما انتجه تلاحم العروبة بالاسلام .
من المؤكد ان ما قاله عفلق هو نتاج طبيعي لثقافة قومية عربية متجذرة في نفس كل عربي، سواء كان مسلما او غير مسلم . فالقومية العربية ليست هوية عرقية ، كما انها ليست ابتداعا اوربيا ، كما يظن خطئا بعض الإسلاميين ، لانها اقدم من اوربا بالاف السنين ، واوسع واعمق بكثير من ذلك ، ولا هي ديانة معينة لانها اقدم من كل الديانات التوحيدية التي ظهرت في ارض العرب . ان القومية العربية ، وفقا لمفهوم البعث ، نتاج تفاعلات عمرها الاف السنين بدأت قبل الاسلام بزمن طويل ، يصل الى اكثر من خمسة الاف عام ، كان فيها العربي يبلور هويته استنادا الى اداة نطقه ، أي اللغة العربية .
ورغم ان العروبة اتخذت شكل القبيلة قبل الاسلام ، الا ان تلك كانت مرحلة تطورية طبيعية مرت بها عملية نشوء الامة العربية اتسمت بانقسام العرب الى قبائل تربطها اللغة لكنها كانت متفرقة . واذا اردنا معرفة قدم العروبة يمكننا بالاستناد الى عامل واحد فقط ، من بين عوامل جوهرية عديدة اخرى ، ان نثبت انها تعود لالاف السنين ، هذا العامل هو اللغة العربية التي تعد اللغة الاكثر ثراء وتعقيدا من بين لغات العالم ، من حيث تغطيتها لمختلف احتياجات الحياة . ان اللغة لا تنشأ في قرن من الزمان لانها تحتاج لقرون طويلة ، واحيانا تحتاج لالاف السنين لتكتمل قاعدتها الاساسية ، وتتحول الى اداة تخاطب طاغية وكافية للتعبير عن واقع الحياة اليومية . ويزداد عمر اللغة كلما كانت مفرداتها ثرية وكبيرة ، لانها تعكس واقعا قائما . فأنت لا تستطيع وصف شيئا الا اذا كان موجودا ، مادام اللاشيء مستحيل الوصف لغويا . من هنا فان حجم وكمية مفردات اللغة وعمقها ودقتها في التحديد ما هي الا ثمرة وصف لواقع قائم كان موجود ، او ما زال موجودا ، وتطلبت الاحتياجات العملية التعبير عنه بكلمات ، فكانت الاسماء ، والاوصاف والافعال ، انعكاسا لواقع قائم . فمثلا انت لا تستطيع وصف الاسد الا اذا رايته ، ولا تستطيع معرفة معنى كلمة فارس الا اذا سمعت به او رايته يقاتل .
يترتب على هذه الحقيقة اللغوية وضع عملي : ان ظهور اللغة يتطلب زمنا طويلا ، واحيانا طويلا جدا حينما يتعلق الامر بلغة ثرية ومعقدة ، كاللغة العربية ، في مناخ اجتماعي منسجم باصوله ومكونات هويته . فاللغة تستخدم في محيط انساني ، ولخدمة المحيط وادامة علاقاته المختلفة ، لذلك تنمو مع اللغة صلات اضافية توفرها اللغة بحكم تمكينها للافراد ان يتخاطبوا ويعبروا عن افكارهم وتطلعاتهم. ان اللغة ، بالياتها المعقدة، أداة تسمح بانتاج الشعر والفلسفة والعلوم والقانون والحلول الاجتماعية ، وبها تحفظ الانساب والتراث . وهي لذلك ليست محض اداة ووسيلة التفكير بل هي ايضا اعظم عوامل ارتقاء التفكير وانتقالاته النوعية . ان الفكر بدون اللغة يضمر ويتوقف عن العمل الابداعي ، ويصبح مجرد احدى اليات الحفاظ على الذات ، تماما كما هي حال المخلوقات الادنى من الانسان التي تستخدم منظومات اشارية محددة . بهذا المعنى فان اللغة هي بداية تشكيل أي جماعة صعودا الى انبثاق الامة ، والتي تعد اللغة محور ثقافتها ومعين اندماجها المستمر .
اذن فان العربي ، سواء كان مسيحيا او مسلما او صابئيا ، ينشأ على ثقافة قومية عربية منذ ولادته ، وتمتزج هذه الثقافة بخلاياه المكونة ، وتصبح تلقائيا جزء اساسيا من وعيه الفردي ، ثم وعيه الوطني والقومي وموقفه من العالم ، وتقع مبادئ وتعاليم الاسلام في قلبها وتشكل روحها الديناميكية . كذلك فان المسيحية التي ولدت في الوطن العربي ، تشربت باصول ثقافة العرب وتقاليدهم وقامت قيمها الانسانية عليها . لذلك نرى ان الصلة بين المسيحية والاسلام هي صلة تكامل وليس صلة تناقض ، فما جاء به الاسلام كان تكملة لما جاء به السيد المسيح . وهذه الحقيقة تجعل العربي المسيحي يتعامل مع الاسلام كمقوم أساس من مكونات هويته القومية وكدين شقيق وليس كدين معاد . وكما توجد خلافات بين الاشقاء لابد من وجود خلافات بين العرب المسلمين والمسيحيين ، بل ان كلا الديانتين فيهما طوائف مختلفة ، ففي المسيحية هناك الكاثوليك والبروتستانت والارثودوكس ، وفي الاسلام هناك السنة والشيعة ...الخ ، وتلك الواقعة هي تعبير واضح عن تجاوز الدين لاي تفسير معطى وسموه فوق الفرق والطوائف ، انطلاقا من كونه ، أي الدين ، ثمرة تعاليم الله والفروع نتاج التفسير البشري .
واذا استخدمنا مصطلحات علم النفس لابد من القول بان هناك طبيعة ثانية للانسان العربي تكونت عبر الاف السنين ، كان الانسان فيها يولد في بيئة ثقافية غنية وشديدة التاثير ، فيتعلم الايمان الديني ومتطلبات القانون والعدالة والرأفة والقيم السامية ، كالايثار والصدق وخوف الله والتقيد بتقاليد وقيم المجتمع ومساعدة الفقراء والرحمة واحترام قيمة المخلوق الانساني ومنع استعباده او خداعه والشجاعة والتضحية بالذات من اجل الجماعة واحترام الصغير للكبير ورعاية الكبير للصغير ...الخ . ان هذه الصفات التي يكتسبها الانسان منذ الولادة ويتقيد بها طوال حياته ما هي الا ثقافة عميقة الجذور وطاغية التاثير، تدفع الانسان الى العيش في عالم الجماعة ، بعكس الانسان الغربي ، والذي عرفناه وهو يتسلط علينا وعلى غيرنا من البشر ، الذي يعيش في عالم الفرد الاناني المنعزل ، والذي لا يعرف معنى الصلة الرحمية بالاب والام والاخ والقريب ، ولا معنى الصلة الانسانية بين البشر ، وان عرفها فانها ضعيفة جدا . كما انه لايعرف معنى التضحية من اجل الغير او الجماعة ، ويجهل مشاعر الرحمة والرأفة ويرفض تضحية الجيل الحاضر من اجل الاجيال القادمة ...الخ .
ما هو السبب في هذا الفرق الجوهري ؟ انه ببساطة يعود الى ان الانسان الغربي حديث التعامل مع الحضارة ، فلقد قفز من الوحشية الى التمدن ، دون المرور بمرحلة الحضارة ، التي تعني اول ما تعني تهذيب النفس والروح واخضاعها لقيم عليا حاكمة ومتحكمة في السلوك الفردي والاجتماعي ، وليس اتقان التقاليد المدنية مثل الامساك بالشوكة والسكين او التهذيب الاجتماعي او التقيد بالضوابط القانونية والادارية .
وتلك الحقائق تفضي الى واقع راسخ وهو ان انسان الشرق لم تحكمه قيم الدين فجاة، بعد ان خرج ما الغابة ، بل مر بمراحل تطور حضارية امتدت الاف السنين ، عاش خلالها خارج
الغابة وقوانينها وقيمها ، تعرض فيها الانسان الشرقي لعمليات تهذيب شاملة وطويلة وبطيئة، فادى ذلك الى خضوع الانسان الى منظومة قيم الزامية يؤدي التجاوز عليها الى العار والاحتقار والتكفير قبل ان يتدخل القانون للعقاب . وهذه الحقيقة تفسر ظاهرة تبدو غريبة ، لمن لا يعرف معنى التاريخ والحضارة ، وهي انه حتى الامي العربي يعرف القيم العليا ويتمسك بها ويموت من اجلها ويمتلك الحكمة والادراك لواجباته تجاه الاخر . لقد شهد العراقيون القدماء تطبيق اول شريعة قانونية (شريعة حمورابي) قبل اكثر من الف عام على ظهور اليهودية ، وهذه الحقيقة التاريخية تعني ان الوعي الاخلاقي والتضامن الاجتماعي والتحضر في الشرق سبقت الديانات التوحيدية الكبرى زمنيا ومفهوميا . ومن مظاهر هذه الحقيقة اننا نجد في الكتاب المقدس قصصا عراقية اقدم منه ، مثل قصة الخلق البابلية والطوفان ...الخ .
لذلك حينما جاءت الديانات التوحيدية كانت تتويجا لتطور طويل في حوافز الانسان وليست بدايته ، وكان الانسان قبل ظهورها قد عرف حضارات عظمى كالسومرية والبابلية والاشورية والفرعونية والصينية والهندية . اما في اوربا فان وصول المسيحية كان بداية تعامل الاوربيين مع المفاهيم الانسانية والاخلاقية والدينية ، فهم ما ان خرجوا من الغابة حتى صدمتهم وأدهشتهم المسيحية ، التي أتت بقيم سامية تدعوا للأثرة وتقييد الانانية الفردية. لقد كانوا اسرى ثقافة قوانين الغابة ، وفي مقدمتها الانانية والوحشية ، حتى وجدوا المسيحية امامهم ثم فرضت عليهم ، دون هضمها جيدا ، لان ملكة الادراك الحضاري كانت معدومة او ضعيفة جدا ، فارتدوا المسيحية قميصا جميلا لكنه ، بصفته قميصا ، لم يكن قادرا على تغيير ما تحته ، وهو وحشية الاوربي وانانيته والذي لم يعرف سوى ثقافة الغابة.
لقد تلامس القميص المسيحي مع الطبع الوحشي للاوربي فرايناه يخرج من الغابة وهو يرتدي القميص الجميل الذي يخفي وحش الغابة لكنه لا يسيطر عليه ! ووحش الغابة هذا ما ان قفز من الاقطاع الى الراسمالية ، والتي عبرت قوانينها عن اذكى اشكال الوحشية لانها طورت اليات قتل بطيء للانسان ، حتى وجد في الانجازات التكنولوجية والعلمية اسلحة جبارة يستطيع بها تحقيق مالم يستطع اباطرة الغرب الدمويين ، ومثالهم كاليغولا ، في الماضي تحقيقه من نهب شامل للاخرين ، من جهة ، وتطوير اساليب القهر لهم بامتلاك اسلحة دمار شامل تستطيع انهاء الصراعات لصالحه بسرعة بعد ان يتمكن من ابادة العدو بسرعة هائلة ، من جهة ثانية .
ان الفرق الجوهري بين الاوربي ، وامتداده المسخ الامريكي ، هو ان الامي الشرقي يعرف التقاليد ويتقيد بها لانه يرثها من اسرة وقبيلة ومجتمع شديد التماسك وقديم التطور، عمره اكثر من اربعة الاف عام على الاقل ، بعكس المثقف الاوربي ، ومسخه المثقف الامريكي، اللذان مهما تعلما وتثقفا يبقيان اسرى الطبع الوحشي والاناني، لانهما لم يخرجا من الغابة الا قبل بضعة مئات من السنين . لذلك وفي ضوء هذه الحقيقة نفهم لم يبدو الايمان المسيحي الغربي ضحلا وسطحيا ويساعد على الانتقال من دين الى اخر، ومن فكر الى نقيضه ، ولم كانت البراغماتية ، والتي هي افضل تعبير عن ثقافة انسان الغاب الذي يعد ذاته الفردية مركز الكون والقيم ، هي الفلسفة الطاغية على سلوك النخب الغربية ، ولم يتصرف الغربي بطريقة وحشية تتناقض مع ديانته المسيحية بسهولة لا نجدها في الايمان الاسلامي والمسيحي في الوطن العربي .
الحضارة والمدنية : ما الفرق ؟
ما معنى هذا على صعيد التطور الانساني ؟ يمكن التاكيد على ان شعوب الشرق، ومن ثم ديانات الشرق ، كانت بيئة اول الحضارات الانسانية ، فالعراق ومصر والصين والهند شهدت ولادة الحضارات حينما كانت اوربا عبارة عن غابة وحشية تماما ، تعيش فيها وحوش تنتمي الى مختلف المخلوقات بما فيها المخلوق الذي نسميه الانسان . فاوربا لم تعرف معنى التحضر او التمييز النوعي الحقيقي بين الانسان وبقية الحيوانات حتى هذه اللحظة ، والدليل الساطع هو ارتداد اوربا عن موقفها المرن والمعتدل الذي تبنته اثناء الحرب الباردة ، وتحولها الى اداة امريكية ضد الشعوب، كما حصل في العراق ، منذ فرض الحصار وحتى غزوه بدعم اوربي فعلي ، وبغض النظر عن النقد الذي قامت به اوساط اوربية للسياسة الامريكية من منطلقات لا صلة لها بالقيم الانسانية والاخلاقية والقانونية .
ان سكوت اوربا على جرائم الابادة والتدمير المنظم للعراق ، والاغتصاب الجنسي للنساء والرجال والاطفال وتدمير مدنا كاملة وتحويل سكانها الى لاجئين ، لم يحرك الضمير الاوربي ابدا ! اكثر من ذلك اعترفت اوربا بنتائج غزو العراق وقدمت العون الكامل لامريكا للبقاء فيه استخباريا وعسكريا ودبلوماسيا وتدريبيا وماليا ، وساهمت في تعذيب الاسرى لدى امريكا بتوفير مكان لها في دول اوربية وبعلم الاتحاد الاوربي مسبقا ! لكن اوربا هذه ، وقبل امريكا وبأمر من امريكا ، تهدد سوريا بشن الحرب عليها بتهمة الارهاب ووتهمة قتل الحريري وتهمة عدم تنفيذ القرارات الدولية ، وهي تهم لم يقدم دليل واحد عليها ! وتنطوي هذه الحقيقة العيانية على معنى بارز وهو ان حضارة اوربا ليست سوى قميص شفاف لا يؤثر على الطبيعة الوحشية والانانية لها .
وهنا يجب ان نوضح ما نقصد. ان الحضارة هي الارتقاء في السلوك الانساني فوق الوحشية والانانية وايجاد ضوابط صارمة للسيطرة على الانانية وتقليص مساحة تاثيرها ، وتغليب الغيرية في المجتمع من خلال التربية الاجتماعية والعائلية ، وبلورة قيم عليا يتعلمها الطفل عند ولادته تحقر الانانية وتمجد الغيرية ، وتربط الانانية بالشر والشيطان والغيرية بالله وانبيائه . وهكذا نجد ان التحضر هو القدرة على تجاوز الانانية وتقليص مساحتها وتحقير قيمها ، مقابل الوحشية التي تمجد الانانية والفردية ، وهما ابرز مصادر ومظاهر قوانين التمدن في ظل التقدم العلمي التكنولوجي ، في مجتمعات لم تعرف معنى الحضارة والتحضر بل عبرت من الوحشية الى التمدن دون المرور بالحضارة .
وهنا يجب ان ننبه الى ان هذه المقولة قد قيلت عن امريكا قبل عقود وقائلها مفكر اوربي ، ولكننا الان، نرى اوربا ترتد عن نهج التعقل الذي اتبعته اثناء الحرب الباردة ، وجعلها تبدو مختلفة مع مواقف امريكا وقريبة من العالم الثالث ، وتسير خلف امريكا بتضامن كامل ، من حيث الجوهر، مع خطط واعمال امريكا الاجرامية ، خصوصا في العراق وفلسطين . لقد ارتدت اوربا عن مواقف سابقة ميزتها عن امريكا وعادت الى عقلية وممارسات الاستعمار الانانية المتطرفة ، لان العاملين الرادعين لها ، وهما وجود قوة عظمى كانت تهدد الغرب كله ، وهو الاتحاد السوفيتي ، ووجود حركات تحرر ، اجبراها على التظاهر بالمرونة والتعقل . اما بعد زوال الاتحاد السوفيتي واضعاف حركات التحرر فان اوربا قد عادت الى عقلية وممارسات عهد الاستعمار الاوربي ، وهذا بالضبط هو اهم تجل للافتقار الى عامل التحضر، المتجسد بوجود قيم اخلاقية وانسانية لا تسمح للانسان ان يكون قردا يرقص على انغام المنتصرين . ان اوربا تخضع الان لعامل التوحش والانانية بعد ان تحررت من عقدة الردع المقابل ، وغدا حينما سيعود الردع المقابل ستعود اوربا متملقة وترقص على انغام المنتصرين الجدد .
لذلك لا مفر من التاكيد القوي على ان اوربا ايضا ، وليس امريكا فقط ، لم تمر بالحضارة
بل قفزت للمدنية من قبر الوحشية وهي تحمل جيفه ودوده ، وان كانت اقل وحشية من امريكا من الناحية الدرجية وليس النوعية . ان انتهازية اوربا في تعاملها مع العالم خصوصا مع العرب تثبت انها لا تملك حضارة لان من اهم سمات التحضر احترام الكلمة والتمسك بالمبادئ بغض النظر عن المصلحة الحيوانية ، اما التقلب طبقا للتيارات السائدة فهي من سمات المرحلة الحيوانية من التطور .
وبهذا المعنى فان المدنية تتميز بوجود تقدم علمي تكنولوجي كبيرين دون ان يقترن ذلك بتقدم قيمي انساني . والقاعدة المتحكمة في المجتمع المتمدن هي القوانين والضوابط الادارية الموضوعة لتهذيب الانانية ولضمان سير الانتاج بصورة مربحة ومنتجة . ولهذا لا يهتم هذا المجتمع بضحايا الاستغلال ويعد الانسان مجرد مسمار في الة الانتاج . وفي حالة الاهتمام بالضحايا ، كما هو الحال في نظام المعونة الاجتماعية في بعض بلدان اوربا، فان هذا النظام ليس سوى احد اهم متطلبات ضمان سيرورة العمل وازالة عوامل الاضطراب في المجتمع ، وليست ثمرة وجود ضمير او التعاطف الانساني اومفاهيم العدالة الاجتماعية .
وكما ان الاستقرار والنظام والصحة الجيدة في المعمل هي من اهم شروط الانتاج الجيد ، تماما مثلما ان تزييت وصيانة اجزاء الالة ضرورة لبقاءها تعمل ، فان استقرار المجتمع والحد من عوامل انتاج الجريمة وعدم الاستقرار فيه ، كالفقر الحاد والمرض والامية ، ضرورة عملية وليس حتمية حضارية (اخلاقية او انسانية) . ان اعظم المصادر الحديثة لايقاظ الوحشية الغربية وتنميتها هو النظام الراسمالي الذي تقوم قوانينه ومحركاته الاساسية على اطلاق النوازع الفردية والانانية وتشجيعها وعدها غريزية ولا جدوى من محاولة ضبطها او التحكم في تجلياتها السلوكية العامة ، كالفساد والجريمة والعدوان …الخ والتي تعدها الراسمالية جزء طبيعيا من الطبع الانساني ، وبالتبعية جزء اساسيا من الحقائق الاجتماعية التي يجب تقييدها وليس ازالتها .
ما تأثير ذلك على الايمان الديني ؟ طبقا لما اوردناه فاننا حينما نقول حضارة لا نقصد التمدن، بل نقصد الارتقاء الانساني فوق الحيوانية . فالمدنية هي انجازات مادية علمية تكنولوجية تقترن بقواعد سلوك تحكمها الاوامر ونظم العقوبات وتقاليد العمل ، وليس تربية اجتماعية متوارثة لعدة الاف من السنين . ان العامل في معمل سيارات ، مثلا في ديترويت في الولايات المتحدة الامريكية ، عليه ان يتعلم الانضباط وفق الجدول الزمني في الحضور وانجاز عمله . كما ان عليه ان يتعلم كيفية اداء عمله ضمن الضوابط الفنية الصارمة ، وان تكون صحته جيدة ليواصل العمل دون توقف ، والا وجد نفسه عاطلا يهدده الموت . وفي المجتمع عليه ان يحدد سكنه وعلاقاته ومواضيع اهتمامه طبقا لنوعية عمله . اما قيمه الاجتماعية والاخلاقية فتفرضها ظروف العمل . وهكذا نجد منظومة قيم وضوابط عامة تتشكل بسرعة تلبية لاحتياجات العمل او علاقات العمل او مصالح العمل ، وليس استجابة لتعاليم دين او احتراما لقيم عليا .
واذا اردنا تحديد درجة تأثير هذه القيم بامكاننا ان نؤكد انها تعليمات مكتوبة على جلد الاوربي او الامريكي كالوشم ، ولاتصل الى عمق روحه ، وهو يتقيد بها ليس لانه مؤمن بها بل لانها ضمانة حصوله على مصدر عيش وانسجام مع بيئة العيش . فاذا ربطنا ذلك بعدم مرور اوربا باي حضارة واقتصار انجازاتها على الابداع المدني ، نتيقن ان الاوربي وامتداده السرطاني المسخ الامريكي ، لا تحكمه ضوابط اخلاقية سامية او قيم عليا ، سواء كانت دينية او دنيوية ، بل هو اسير القانون الوضعي والمواضعات والضوابط البراغماتية الصرفة . ولكي نكون منصفين يجب ان نشير الى ان اوربا قد تفاعلت لفترة محدودة مع الحضارة التي اخذتها من اليونان بواسطة العرب ، لكنها بدل ان تجعل منها مدخلا للتحضر حولتها الى قوة جبارة للابداع المدني غير المقترن بتقدم انساني ، فتضاءلت قيم التحضر وسادت فيها قيم التمدن ، والتي تجعل انسان النخب الحاكمة نظيفا من الخارج لكنه اصبح اكثر قذارة من الداخل نتيجة قوانين النظام الراسمالي ، القائمة على شرعنة النهب ، و بتأثير ما قدمته المدنية من انجازات تكنولوجية وعلوم وطب توسع نطاق انانيته وجرائمه وتحسنت صحته .
لقد طمرت الراسمالية ، لسوء حظ الانسانية المعذبة نتيجة وحشية الغرب ، كل التاثيرات الحضارية اليونانية والعربية ، وفرضت قيم انانية حيوانية بشعة جعلت الاوربي اشرس مخلوق ظهر على وجه الارض واكثرها حيوانية ، لان القانون الاساس للراسمالية هو تحقيق الربح بطرق الاغتيال البطيء للبشر ، وهو الاستغلال . وبتزاوج اعظم الانجازات المدنية ، اي العلوم والتكنولوجيا ، مع اكثر اشكال الوحشية قسوة وانانية المنحدرة من بدائية التكون الاوربي ، ظهر الغرب الاستعماري المتجرد من أي قيم انسانية سامية والخاضع للانانية المفرطة . والمسيحية تقع وسط معمعة الجذور الانانية الحيوانية للانسان والطبيعة الوحشية للراسمالية . لذلك وجدنا انها تتحول من ديانة انسانية توحيدية شعارها الأساس هو المحبة والتاخي الانساني الى ديانة استغلت ، اولا، لتغطية لصوصية الاقطاع وتطلعاته للغزو الخارجي ، ثم استغلتها ، ثانيا ، الراسمالية لتبرير الغزوات الاستعمارية .
لقد وجد النداء التوسعي تجاوبا من قبل الاغلبية في اوربا وامريكا لان قيم الحضارة الانسانية معدومة او ضعيفة جدا في الغرب بحيث لا تؤثر على مسار السلوك الانساني ، ولم يحرك الاوربي او الامريكي سوى الدافع الاناني المقترن بتقدم مدني مذهل جعل الوحشية الغربية تمتلك اقوى اساليب القهر والابادة والتضليل الجماعي ، خصوصا من خلال الاعلام الجماهيري ، الذي يعد ، من حيث التاثير ، الرب الثاني للغرب بعد الرب الاول وهو الدولار ، بعد ان اصبح الاعلام الكترونيا في مرحلتي التلفزيون والانترنيت .
حرية راي ام نزعة حيوانية ؟
في ضوء ما تقدم ، كيف يجب ان نفهم وقاحة الاعلام الدنماركي بشكل خاص والاوربي بشكل عام ، والمتجسدة في رسوم الكاريكتير التي تسخر من نبينا العظيم ؟ ان اول ما يجب الانتباه اليه هو ان التهجمات والإساءات لنا ولنبينا ليس مصدرها ايمان مسيحي بل نزعات حيوانية انانية لنوع من المخلوقات الخاضعة لاحط واقدم اشكال الانانية الحيوانية . ما هو الدليل ؟ لو كان الايمان المسيحي هو الدافع لتمسك هؤلاء بالمسيحية وقيمها، لكنهم ليسوا كذلك فهم كانوا ، ومازالوا ، يسخرون من السيد المسيح عليه السلام قبل ان يتجرؤوا على نبينا ، بل انهم وصلوا في وقاحتهم وإلحادهم حد انهم اتهموا السيد المسيح بالشذوذ الجنسي ، في فيلم سينمي مشهور اثار ضجة خمدت بعد فترة وكأن شيئا لم يكن ! اضافة لذلك فان التحلل والشذوذ الجنسيين واقرار الزواج المثلي يتعارضان جذريا مع تعاليم سيدنا المسيح عليه السلام ومع تعاليم الكنيسة .
ولادراك معنى هذا الوضع الغريب يجب ان نذكر بان قسما من الحيوانات ، بما فيها الدنيا الاقل تطورا ، لا تعرف الشذوذ وتأنف من ممارسته ، ناهيك عن حقيقة ان الحيوانات العليا يخضع قسم كبير منها لوحدانية الشريك . وقد اكتشف العلماء ان الغوريلا لايضاجع حتى من تربت معه دون وجود صلة رحم معها . وفق هذا المعيار يبدو ان الاوربي ، خصوصا الاوربي الاسكندنافي ، اشد حيوانية وتخلفا من هذه الحيوانات في سلم التطور ، لان اسكندنافيا موطن اشد انواع الشذوذ الجنسي والاجتماعي واكثرها تناقضا مع تعاليم السيد المسيح .
لماذا ؟ ان الاوربيين بشكل عام ، والاسكندنافيين بشكل خاص ، لم يعرفوا التحضر حتى الان وخرجوا من الغابة الى المدنية مباشرة ، فاجبرتهم الحاجات والقوانين الراسمالية على تنظيم حياتهم على نحو عقلاني وعملي صرف . لذلك بقي الحيوان البدائي كامل القوة والتاثير فيهم مختبئا تحت جلودهم مباشرة ، ويخرج عند اول فرصة تتاح له . ان ما يقيد الاوربي ويحركه هو مصلحته الانانية الفردية ، وليس القيم العليا سواء كانت دينية او دنيوية ، وهي لذلك مصلحة تتلاءم مع متطلبات وقوانين الغريزة ، وفي مقدمتها قانون الاشباع التام لما يرغب به الانسان ، دون التفات للقيم العامة ، باسم الحرية الفردية واحترام الخصوصية .
وهذا الانسان ، وبهذه المواصفات ، وجد نفسه متقدما مدنيا واقتصاديا مقارنة بالانسان الاخر الشرقي ، المتقدم حضاريا ولكن المتخلف علميا وتكنولوجيا ، فحصل نفس ما حصل للهندي الاحمر مع المهاجر الاوربي الى امريكا الشمالية ، حيث اعتبره حيوانا ادنى من الانسان لذلك استباحه بالابادة والاستعباد . وطبعا تنسحب هذه النظرة على قيم الانسان الضحية ، الخاضع لقوة منتجات المدنية الاوربية ، فديانته ليست سوى (ابتداع محمدي) لا صلة له بالله ، كما تقول اوساط اوربية ويهودية ، ومن ثم يمكن اهانة ونهب المسلمين واستعبادهم كما نهب الاوربيون الهندي الاحمر وابادوه ، وكما استعبدوا الانسان الاسود !
وحينما تمتزج الرشوة المالية ، باي صيغة قدمت ، مع النظرة الاستعلائية المبنية على التفوق العرقي ، المسوق بغطاء التفوق المدني، تنتج نظرة تحقيرية لكل ما يتصل بالاخر المسلم ، وهذا بالضبط هو الذي جعل الصحيفة الدنماركية تتجرأ من حيث الاستعداد على نبينا الكريم . اما السبب المباشر لنشر الرسوم فهو يتعلق بما يظن اصحاب المدنية انه حقهم، وهو استغلال فرصة انفراد الغربيين بالعالم وعدم وجود رادع لهم عند القضاء على الاخر واكمال نهبه واستعباده . فالاخر ثروة مشاعة ليس ثمة من يدافع عنها ، وان وجد المدافع فانه ، بحكم تخلفه المدني ، أي العلمي – التكنولوجي ، لا يستطيع ان يهزم الغرب المتقدم علميا وتكنولوجيا والمتفوق ماليا .
ان نشر الرسوم يأتي في نفس اطار تلفيق احداث 11 – سبتمبر عام 2001 في امريكا ، وفي نفس سياق اعداد العراق للحرب الاهلية ، بقيام عملاء ايران بتنفيذ خطة امريكا المعدة، في حال فشل الغزو بفضل المقاومة العراقية ، وهي اشعال حرب اهلية في العراق عن طريق تفجير مرقد الامام الهادي عليه السلام . ان المطلوب هو اشعال الفتن والازمات مادام الانسان الغربي متفوقا ماديا ، لاجل استغلالها لمد سيطرته وتوسيع نطاق نهبه ولصوصيته . انها الراسمالية وهي تكشف عن أقبح ما فيها وكانت تخفيه في السابق ، وهي نفسها التي وصفت الدين ك(افيون للشعوب). لذلك لا يجوز ان نقع في الفخ الامريكي باعتقادنا ان الاساءة لرسولنا المصطفى نابعة من موقف مسيحي لانها ، اولا واخيرا ، نابعة من ، وخادمة لهدف استعماري صرف لمخلوقات لا ديانة لها سوى عبادة الدولار .
يجب ان نتجنب أي صراع على اساس ديني وان نقتنع ان هجمة الغرب الصليبية علينا مبعثها اقتصادي امبريالي توسعي ، حتى وان استخدمت المسيحية غطاء لها. ان من يزني ويسرق ، وينتهك المحرمات المسيحية ، الزواج المثلي مثلا ، ويصنع الحروب العدوانية لا ينتمي للمسيحية الحقيقية ، بل هو من حزب الشيطان دون ادنى شك . ان علينا ان نميز الخنادق وان لا نسمح بتداخلها ، لان ذلك هو اهم تكتيكات امريكا واسرائيل وايران وهي القوى المتحالفة ، موضوعيا او ذاتيا او كلاهما ، وتمثل اشد اعداء العرب والمسلمين خطورة.
salahalmukhtar@hotmail.com
مطلع اذار 2006
ملاحظة : لقد استخدمت تعبير (قبر هنتنغتون) مرارا، رغم انه لم يمت بعد، والسبب هو ان نظريته ليست سوى مقبرة اعدت خصيصا لانتاج الموت والغزو والدمار، لذلك يمكن نبشها للعثور على ما تحويه من جراثيم الموت.
شبكة البصرة
الثلاثاء 6 صفر 1427 / 7 آذار 2006
يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
شبكة البصرة
صلاح المختار
نبش قبر هنتنغتون
تتعالى عواءات ذئاب (الاصولية المسيحية) في الغرب ، معيدة تحشيد الناس هناك خلف شعارات صليبية جديدة ، يحمل راياتها (المحافظون الجدد) ، ذوي القبعات اليهودية الذين يصرون على استخدامها ، لاخفاء العقل البورجوازي المشغل بداينمو نووي ابدي اسمه عبادة الدولار ، وفي مقدمة تلك الرايات ابادة او استعباد من يملك الدولار ، او النبع الذي يتدفق منه الدولار لاجل الاستحواذ عليه ! هل نحن بأزاء تصادم حضارات مفتعل واصطناعي فبركته نخب تختبئ تحت قبعات دينية ، لكنها ، في الواقع ، لا تعرف دينا حقيقيا ، ولا تعترف باله سوى صنم اسمه الدولار ؟ هذا السؤال جوابه نعم ، كما سنرى ، نحن بازاء فبركة صراع حضارات لمنح الحملات الصليبية الجديدة زخما شعبيا غربيا يحرك في الجماهير مطمع غزو العالم كله، بجعلها تعتقد مخدوعة ان مسيحها يسرق ويحرق من قبل (برابرة الصحراء).
وبقوة وتأثير التحدي المميت الذي فرضته الصليبية الجديدة علينا استيقظت اصولية اسلامية كرد فعل دفاعي طبيعي على هجمات مسعورة على اسلامنا ونبينا ، وفقا للقاعدة الفيزياوية التي تقول (لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه) . ولكن، بما أننا نعيش في مجتمع بشري، وليس ميكانيكي او حيواني غير بشري ، فان الفعل ورد الفعل البشريان لا يخضعان لقاعدة التساوي بل تحكمهما آليات صراعات بشرية اشد وحشية وتخلفا من الصراعات الحيوانية في الغابة ، كما اثبتت تجربة الغرب الواغل في الانانية السابقة لمرحلة الحيوانية .
وهناك حقيقة بارزة ومهمة جدا يجب اخذها بنظر الاعتبار دائما وهي اننا لم نعرف تصادم الحضارات ، طبقا للصورة النمطية التي طرحها هنتنغتون ، حتى مطلع التسعينيات ، أي عند ظهور نظرية هنتنغتون المسماة (تصادم الحضارات) ، والتي تقول بان الصراعات الجديدة بعد زوال الشيوعية تتمحور حول التناقض بين الحضارات الشرقية ، وبالاخص الاسلامية ، والغربية ، لان النظرية التي كنت سائدة وقتها هي نظرية فرانسيس فوكوياما ، التي اطلق عليها اسم (نهاية التاريخ) ، تيمنا بما اعتقده فوكوياما ، ومعه امريكته ، من ان صراعات التاريخ قد انتهت بانتصار الليبرالية الامريكية وسقوط الشيوعية ، وبدأ ما أطلق عليه أمريكيون كبار تسمية (القرن الامريكي)، واقعين أسرى فرح مفرط في سذاجته ، كما وصفنا تلك النظرية عند ظهورها في مطلع التسعينيات ، وأثبتت الوقائع فيما بعد صحة وصفنا.
وشيئا فشيئا طبقت امريكا خطط مرسومة لتحويل الصراعات من صراعات طبقية بين المستغل (بكسر الغين) والمستغل (بفتح الغين) ، ومن صراعات تحررية بين الناهب والمنهوب ، الى صراعات دينية حضارية ، بعد ان تبين لها ان تأريخ الصراع لم ينتهي بانتصار الليبرالية الامريكية ، كما تمنت امريكا وعبر عن ذلك فوكوياما ، بل ثبت لها (ان العالم مازال غابة فيها وحوش وأفاع خطرة) ، كما قالت شخصية امريكية في عهد بيل كلنتون . وبتطبيق خطط شيطنة وعزل واجتثاث القوى الوطنية والقومية التقدمية من جهة ، وتصعيد الحملات الصليبية ضد المسلمين والاسلام من جهة ثانية ، بدأت طبيعة الصراع تتغير في العالم .
لقد شهدنا منذ النصف الثاني من التسعينيات تصادم ارادات اللصوص الغربيين ، وهم نخب الاستعمار ، مع ارادات من قرروا ان يردوا على (تصادم الحضارات) الغربية بان يحافظوا على الذات والهوية ، من خلال العودة الى الاسلام بصورته الاصلية . فماذا حدث ؟ لقد حل اللاهوت محل الناسوت ، وبما ان اللاهوت طقس قدسي لا يمس ، ويعرف بالفاظ فخمة عصية على التعريف والتعرف على كنهها ، لذلك فهو غير قابل للتحديد الدقيق ومحصن ضد النقد والتشريح بل وحتى التلويح ، فنقع في مطب العجز عن الاتفاق ، ويصبح صراعنا حول الدين ، من منه هو الصح ومن منه هو الخطأ ، ويطير اليقين ، من يدنا بعد ان كنا نمسك به بقوة حقنا في العراق وفلسطين ! مقابل ذلك كنا نجد ان الناسوت جسم مادي قابل للوصف والتدقيق ، فنستطيع لمسه وشمه وفحصه ،غير هيابين من قدسية ولا حائرين في جنسه ، فنعرف اين نقف ومتى يجب ان نفتح الابواب او نغلقها ، دون روادع المقدس غير الخاضع للقياس! وهذا التناقض ، غير الجدلي ، بين اللاهوت والناسوت اسقط العالم في مستنقع العجز عن الرؤية الشفافة ، بعد ان كان كل انسان يعرف من هو عدوه الحقيقي ! منذ النصف الثاني من التسعينيات حلت الشياطين والملائكة ضيوفا متحكمة على مسرح الصراع في العالم ، وبدخول مخلوقات السماء حلبة الصراع فقد ابن الارض الفاني ، وهو الانسان الحر دوره ، وصار اسير المقدس مقابل المدنس ، واصبح عليه ان يختار بين اثنين لا ثالث لهما : اما المقدس او المدنس ، والمقدس هو الدين اما المدنس فهو الناسوت الدنيوي !
لقد تراجعت الافكار الوطنية والقومية ، لانها الابنة الشرعية للناسوت ، والتي كانت تركز على تحرير الوطن واستعادة الثروات والسيادة والاستقلال وبناء الاشتراكية القومية ، وهي اهداف عملية كانت ممهورة بارواح وارادات عشرات الملايين من اصحاب الحقوق المنهوبة، وتجد من يتعاطف معها في الغرب وغيره ويسندها القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة رغم تضاؤل تأثيرهما . وانحسرت الصراعات الطبقية في العالم بين من نهبت ثرواته ومن نهبها ، او بين من استغل االناس ، فافقرهم وامرضهم واذلهم ، وبين الضحايا المنهوكين . واخذت اجراس عالية الصوت والصدى ترن وتشق طبلات الآذان ، وهي اجراس الاصوليات الدينية التي حل صراعها محل صراع الطبقات ، وصراع المستعمرين مع ثوار المستعمرات ، وهكذا سلطت سيوف حشاشي حسن الصباح البتارة على رؤوس البشر كلهم خوفا من زلة لسان ، او قفزة حصان ، في حضرة الملائكة الذين يقاتلون الشيطان !
لقد دخل العالم كله نفقا مظلما يعج بوحوش لم يشهد تاريخ الوحشية في العالم كله مثيلا لها في القسوة ، هربت من ستوديوهات (هولي وود) في لوس انجلوس ، بعد ان خلقت لاجل انتاج افلام رعب متطرف لا حدود لقسوته ولا نظير له في الواقع ، وفي مقدمة هذه الوحوش كتائب المحافظون الجدد و الليبراليون الجدد .
لقد تغير العالم ، وتبدلت اتجاهات رياحه ، وفقد قباطنة السفن كافة انواع البوصلات التقليدية التي كانت تحدد مساراته رغم كل العواصف العاتية ، فيعرف الضحية انه نهب بعد ان غلف ذلك باسم التمدن ونشر الحضارة الغربية ، لذلك يحشد كل طاقاته ضد الناهب المعروف الهوية . اما الان فان الناهب يأتي للنهب ، لكنه يرطن بآيات شيطانية ، ينسبها زورا للكتاب المقدس ، بدل نسبتها الحقيقية لادم سميث ، ويصرخ بمس مرضي : انه الخطر الاخضر ، أي الاسلام ، ياتينا بعد زوال الخطر الاحمر ! الناهب اعتمر القلنسوة اليهودية وحمل الصليب بيده ووقف امام كنيسة عتيقة يدعو لنصرة المسيح ضد (البرابرة الجدد) ، وهم حسب رايه المسلمون ، فاخذ يحشد الالاف خلفه مشحونين باحقاد مدمرة ضد العرب والمسلمين، بعد ان فقد الغرب الراسمالي دعم جماهيره اثناء الصراع ضد الشيوعية وحركات التحرر، حينما اكتشفت تلك الجماهير انها مجرد حطب لنار صراع لا صلة له بالدين او الوطن ، بل هو حملات نهب للاخرين ، فاجبر ذلك الراسمالية على التوقف عن الغزو لافتقارها للدعم الجماهيري !
ماذا تفعل راسمالية ، لا تعيش الا وفق حتميات قانونها الاعظم وهو مضاعفة النهب في كل دورة انتاج او كلما جاء (الحيض الشهري) لها ليفرض غزوة جديدة اكبر من سابقتها ، ماذا تفعل حينما تفقد جاذبتها الجماهيرية بعد ان كشفت عن فجورها وعهرها ونهبها للناس حد اعدامهم جوعا ؟ كان طبيعيا ان تطور الراسمالية ، في بلدان تغير حكامها طبقا لصناديق الاقتراع ، بديلا يضمن لها استمرار النهب ، من خلال جر القسم الاكبر من الناس في الغرب الى حلبة صراع تضليلي ، ينسيهم ان البورجوازي ، وليس غيره ، هو العدو الحقيقي لهم ، فاخترعت تصادم الحضارات ، بصفته فيلم المواسم كلها والذي يستمر عرضه اجيالا ، خصوصا وانه اخرج على يد ستيفن سبيلبيرج ، اعظم مخرج في عصر السينما في مجال الخيال العلمي ، والذي يفقد الانسان القدرة على التمييز بين الواقع والخيال والملائكة والشياطين بعد مشاهدة افلامه !
لذلك احتاجت امريكا الى عدد كبير من المخرجين المبدعين مثل سبيلبيرج ، ومن كتاب قصص الخبال السياسي (الخبال وليس الخيال) ، بمستوى من كتب واخرج افلام (يوم الاستقلال) و(حرب النجوم) و(أي تي) ، لاجل منحنا فرصة الثمل لنفقد القدرة على التمييز بين الواقع والخيال وبين العقل والخبال ، لان ذلك هو المقدمة البيئية للخبال الجماعي والاضطرار لتعاطي المخدرات بصفتها العالم الوحيد الذي يسمح لنا برؤية الخبال وقد صار عقلا ! وها نحن الان نشهد ثمرة افلام الخبال السياسي الامريكي منذ عرض اعظم الافلام التي اخرجتها عبقرية ستيفن سبيلبيرج وهو (ليلة 11 – سبتمبر) ، والذي رغم انه خبال واضح الا ان (عقلاء الغرب) بغالبيتهم اصطفوا بالالاف لمشاهدته ، وخرجوا وهم متيقنين انه حقيقة وليس فيلما مثل فيلم (يوم الاستقلال) ، الذي صور الرئيس الامريكي طيارا بطلا مع انه طرطور يخشى ظله ! بدخول المخرج سبيلبيرج عالم السياسة حل الخبال محل المنطق ، وكان من اعظم ما صنعه هذا المخرج اليهودي العظيم ، بالتعاون مع زميله ريتشارد بيرل مخرج فيلم (غزو العراق) هو شخصية جورج بوش الابن الذي اسند اليه دور خلط اللبن بالعسل واقناع المشاهد انه يأكل موزة صومالية تعشقها كوندي وكان يجب عليه إعطاءها لها.
جدلية نبش القبور
لقد اصبحت اصبحت بلاد المسلمين عرضة للغزو، وصارت ابادة لمسلمين لاتقيدها حدود بعد ان ازيلت ، بفضل عظمة افلام هولي وود ، الحدود بين اللص والضحية باسم الدفاع عن النفس ضد (الارهابيين) فولدت الصليبية الجديدة . وهكذا دفع المسلم الى حافة الاجتثاث الجسدي واجتثاث الهوية ، فتفجرت تيارات اصولية اسلامية طبيعية ما كان لها ان تتقوى لولا التحدي الصليبي ، الذي بشر به وغذاه فكر هنتنغتون وتبنته ادارة بوش الابن رسميا . لقد صار ظاهريا امام مغسولي الدماغ من الامريكيين ان (رب بوش) هو الراية والمحفز ، وليس رأس المال ، الذي انكشفت حيوانيته وجشعه ولم يعد يستطيع خداع الراي العام ، وأخذ رب بوش يتكلم ويثرثر أمرا اياه بقتل المسلمين وغزوهم لانهم (اعداء المسيح) ! واقتنع الملايين ان بوش ينفذ امر ربه ، تماما مثلما اقتنع الكثير من المراهقين في امريكا ، بعد مشاهدة فيلم سوبرمان، بان سوبرمان يطير فعلا فحاولوا تقليده بالقاء انفسهم من شبابيك شققهم ، التي تقع دائما فوق الطابق السابع ، فوجدوا انفسهم يدخلون جنة الفارسي القح حسن الصباح !
وهكذا صرنا نعيش في عالم شعاراته الطاغية محض لاهوت ، مزيف او حقيقي، تقرر خطب وعظه احداث افلام سينمية . والفضل كل الفضل في ذلك لمخرج عبقري تفوق على كل زملاءه في هولي وود ، بما في ذلك سبيلبيرج ، اسمه ريتشارد بيرل ، والذي لقب ب(أمير الظلام) لنجاحه التام في اقناع رب بوش باصدار فتوى ، كفتاوي زميليه الايرانيين خميني وسيستاني ، تقول بان من يغزو العراق سيدخل الجنة !
وفي سعار الصراع هذا ضاعت الحدود بين الضحية والجزار ، وانقلبت المعايير ، وتجاوز زمن (القرية الالكترونية) كل ما انتجه العالم من بوصلات هداية تقليدية تعود الناس على استخدامها لتحديد الطريق الصحيح . لقد اختفى الناسوت خوفا من لعنة الشياطين والابالسة ومن فتاوى السناتور سيستاني وشطحات اية الله العظمى بوش، ولم يعد لدينا الا نداء اللاهوت يأتينا من كهوف عقول بشر اعادونا الى ما قبل الحيوانية ، بفضل عبقرية خلق شخصيات يهز رعبها الانسان من جذوره لعظمة تخليقها ودقة تلقينها في الاستوديو ! وهذا بالضبط هو اعظم انجازات الراسمالية في مرحلة هبوطها الى اسفل درجات الردة عن كل ما هو انساني وخير . لقد نجحت في جر العالم الى عواءات بشر يستحيلون في الليالي المقمرة ذئابا ، والى طنين كلمات تنداح من فضائيات استحال مديروها ذبابا ، ولم نعد نميز بين افلام الخبال السياسي والعهر الوسواسي ، فاضطر المسيحي الجيد ان يقف مع المسيحي الشرير خوفا من المسلم الجيد ، الذي ، بدوره ، اضطر ان يصطف مع المسلم الشرير دفعا لشرور (امراء الظلام) في طهران وفتاوى ايات الله العظام في واشنطن وتل ابيب ، التي لا تجد افضل من الافتاء بدخول النار لمن لا يرطن بالفارسية وصنوها العبرية ! اين العدالة ؟ اين حقوق الشعوب المنهوبة كفلسطين ؟ من يحمي الشعوب المنكوبة كالعراق ؟ اين عقاب القاتل ؟ اين حق الضحية ؟ لا جواب واضح سوى القول : ان نبش قبور الشر بفتح (صناديق باندورا) قد اصبح مهنة اغلبية ايات الله العظام، خصوصا في الغرب (المتحضر)!
لقد ضاعت جهود الديانات التوحيدية ، اليهودية والمسيحية والاسلام ، ومعها الهندوسية والبوذية ، والتي هذبت المخلوق الحيواني المسمى (انسان)، المنفرد من بين كل مخلوقات الله بانه ميال بقوة لقتل كل مخلوق اخر، انسانا او حيوانا، دون حاجة مادية . عليكم ، لتدركوا كم يختزن الانسان من شرور، ان تتذكروا ان كل المخلوقات تقتل فقط اما للحصول على القوت او للدفاع عن نفسها ، الا الانسان فهو يقتل وبطنه متخمة ، ويسرق وخزائنه ملآنة ، ويزني بنساء غيره وهو متعب من الممارسة الجنسية ، ويعتدي وهو امن ! وكلما تأملت في اعمال الغرب الاجرامية ، خصوصا المقابر الملايينية ، وليس الجماعية فقط ، التي حفرتها امريكا لشعوب كاملة ، يستحوذ على عقلي سؤال منطقي مهم : هل الشيطان الذي تحدثت عنه كل الاديان بصفته مصدر الشرور هو الانسان الاشقر بالذات وليس غيره والذي يجلس ممثله المنتخب في البيت الابيض ؟
لقد جاءت تلك الديانات لتهدي هذا المخلوق ، ولتضع له الحدود والضوابط التي تردعه وتمنعه من القتل والابادة غير المبررة لكل المخلوقات الاخرى . وبقوة الدين التعاطفية والانسانية تحددت وتقيدت نزعة الابادة لدى الانسان ، لعدة قرون حكمت فيها العالم شعوب الشرق المتحضرة وذات القلب الانساني الرحيم . لكن ما ان بزغ عصر شقر الغرب حتى رأينا نخبه تستخدم مخلوق ما قبل الحيوانية داخل الانسان ، وتطلق قواه التدميرية محررة اياها من كل قيد ديني او انساني باسم الفردية واحترام الفردية ، تارة لمصلحة الاقطاع وتارة اخرى لمصلحة الراسمالية ! بل اننا الان نجد الرجل الاشقر في الغرب ، وبعبقرية شيطانية ، يستخدم رب بوش لاصدار فتاوى بقتل الملايين من البشر الامنين والابرياء ، وبيده اليمنى قنابل ذرية وفي اليسرى كتاب من مؤلفات الخبال السياسي اسمه (آيات شيطانية حول حقوق الانسان) !
وها نحن نواجه اغرب ظاهرة سوسيولوجية ولغوية ، وهي القول باننا نعيش عصر الليبرالية المتوحشة ! في هذه الثنائية اللغوية المتناقضة نرى الرحم الذي ولد منه المحافظون الجدد ، والثدي الذي يرضع منه بوش وربه وعاشقة الموز الصومالي كوندي ، فلقد وضع وحوش ماقبل الحيوانية العالم بازاء اوحش فصول التاريخ ومزقوا الكتاب المقدس قبل ان يمزقوا القران الكريم ! انظروا امامكم ستجدون ان شعوب امريكا واوربا ، هي اكثر شعوب الارض رفاهية وثراء وتخمة ، ومع ذلك فان مخلوقاتها هي اكثر المخلوقات في الحاضر وفي التاريخ قسوة وانانية واحتقارا للحياة الانسانية والحيوانية ولنظافة البيئة ! ثم لا تنسوا انه لولا نهب القارات الثلاث ، اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية ، لما تمتعت اوربا بثرائها ورفاهيتها الحاليتين ، على حساب تلك الشعوب التي صارت فقيرة ومازالت فقيرة تعاني من الموت جوعا ومرضا ، فلقد سرقت بريطانيا ، مثلا ، من الهند فقط ثروات تعادل ما كان في كل اوربا من ثروات انذاك ، كما قال كارل ماركس ، في كتابه (في الاستعمار) !
اذن نحن نواجه تغييرا قسريا لمسالك الصراع الطبيعي بين الناهب والمنهوب ، أي الاستعمار وبين العربي الذي فقد ارضه ووطنه في العراق وفلسطين ، وفقد ثروته بكافة اشكالها ، فانتفض لاستعادة حقوقه ، لكنه اليوم يجد ان اجندة الصراع قد ابتعدت عن الناهب والمنهوب وصارت اجندة الغالب والمغلوب ، في صراعات الهوية (الحضارية) وليس صراعات الحقوق ! وأذا انتبهنا الى ان صراعات الهوية الدينية والحضارية زلقة الملمس وغائمة الملامح ومتغيرة الصفات كالزئبق ، عرفنا اننا غادرنا عصر صراعات الحقوق ، التي تتسم بانها واضحة المعالم ويمكن لمسها والامساك بذيلها وراسها وتحديد طبيعتها ، واصبحنا نحاول الامساك بسمكة اصطدناها لتونا ، فرحين لاننا سنطعم اطفالنا الجائعين ، فتتزحلق من بين ايدينا وتعود ساقطة في نهر احزاننا ، او نحاول ، عبثا وعبثا ، الامساك بالزئبق وهو يترجرج فوق راحة يدنا !
ما هي الصرخة المناسبة لهذه الحقيقة ؟ الويل، ثم الويل ، لمن غاص في صراعات الهويات دون ان يفهم الاليات الحقيقية التي تحكمها ! لذلك ولنخرج من مستنقع صراعات الهوية علينا ان ننبش قبور امريكا واوربا ، واجدادهما ، ونسلط الضوء على جراثيم عالمنا الجديدة، التي صنعتها امريكا للتعجيل بمضاعفة المقابر الملايينية ، خصوصا جرثومة ايدز صراع الحضارات ، وثقافة التخويف الكامنة في فايروس انفلونزا الطيور ، والموت البطيء المخبوء في اجنة التهاب الكبد الفايروسي . كما يجب علينا ان ننبش اكوام الخلط عمدا بين عوالم سبيلبيرج وآيات الله العظام ، المختبئين في كهوف لا يصلها الكهرباء ابدا في قم وتل ابيب والبيت الابيض، وبين مآسي المنهوبين والمنكوبين من شعوب العالم الثالث . ومن بين اهم ما يجب التعامل معه هو الاسئلة التالية : من احدث هذا التغيير في العالم ؟ ولماذا احدثه؟ هل للمسيحية دور اساسي فيه ؟ كيف يجب ان نفهم التحرشات المفضوحة بالمسلمين في الدنمارك وغيرها ؟ ولماذا تركز امريكا كل جهودها منذ غزو العراق على احداث فتنة طائفية بين السنة والشيعة ، وفتنة اثنية بين العرب والتركمان من جهة والاكراد من جهة ثانية ؟ هل هي محض نزوة صليبية عدوانية ضد نبينا الكريم ؟ ام انها تستبطن هدفا او اكثر تنتمي لسلسلة اهداف تغيير الصراع من صراع طبقات واحتلالات فيه ناهب ومنهوب الى صراع هويات وديانات فيه غالب ومغلوب ؟ ما الفرق بين المسيحية والصليبية ؟ دعونا ننبش قبر الاسرار ، واولها قبر نظرية هنتنغتون الغارق في روائح الجثث والموت ، لنرى ما فيه من بقايا جثث وعظام والغام ووهم وايهام .
نبش جثة مهملة : لماذا حروب امريكا ؟
كي نبقى في قلب الموضوع دعونا ننبش قبر هنتنغتون مرة اخرى لنعثر على عظام اجداده لان السبب المباشر لصعود الاصولية المسيحية محفور عليها ، وبالطبع فان جدلية هذا الصعود تحتم تصعيد كل الاصوليات الدينية ، بما فيها الاصولية الاسلامية ، طبقا للمثل الذي يقول : (اليد الواحدة لا تصفق) . لن يصبح التصفيق عاصفا ل(مسرحية الاصوليات الدينية) الا اذا برزت اصوليات متعددة وقوية . هناك جزء اساس في نظرية هنتنغتون يتم القفز من فوقه من قبل الانتلجنسيا العربية والاسلامية غالبا ، وهو الجزء الذي يفسر حوافز النخبة الامريكية الحاكمة من خلف الستار في امريكا والتي تدفعها للغزو والحروب . في دراسة معروفة لصموئيل هنتنغتون عنوانها (تأكل مفهوم المصلحة القومية) نشرت في عام 1998على ما اتذكر ، يعترف هنتنغنتون بان على امريكا ان تخلق عدوا جديدا لها بعد ان تلاشى العدو الشيوعي ، اذا ارادت ان تمنع تفكهها وزوالها كدولة موحدة . ويفسر الامر على النحو التالي : ان مجتمعنا يتوحد ويتقوى عند وجود خطر خارجي والدليل، طبقا له ، هو ان زوال الخطر الشيوعي قد أيقظ آليات تفكيكية داخل امريكا اذا استمرت فسوف تعرض امريكا الى التقسيم ثم التلاشي . ويضرب مثالا على ذلك التفكك بالقول بان الامريكيين من اصل صيني قد اخذوا يتاجرون مع الصين اكثر مما يتاجرون مع ولاية امريكية مجاورة ، وهذا ينسحب على النشاطات الثقافية وغيرها .
تسييد ثقافة الخوف : لماذا ؟
لماذا حصل ذلك ؟ سأفسر نظرية هنتنغتون بمفرداتي وافكاري الخاصة دون ان اشوه ما قصده ابدا ، لانه يفترض ان هناك (امة امريكية) وهذا خطأ فاحش وفق كل المعايير التي تحدد الامة . ان الشعور بالطمأنينة وعدم وجود تهديد خارجي خطير يحرر الانسان الامريكي من ضرورات الامن ، التي هي عامل التوحيد الاساس للامريكيين كما يعترف هنتنغتون ، ويبدأ بالتصرف وفقا لما يفضله ، فيكون طبيعيا ان يختار ماضيه للتعبير عن وجوده ، والماضي في امريكا هو الاصول التي مازالت حية وقوية وتتعارض مع وحدة امريكا وتماسكها ، وتلك هي لعنة امريكا ، بخلاف كل الامم المتكونة والطبيعية التي تزدهر في ظل الامن والاستقرار وانعدام الخوف من الخارج . كيف نفسر هذه المفارقة الغريبة ؟ ان المجتمع الامريكي هو مجتمع ما قبل الامة ، أي انه خليط هجين من عدة ثقافات وقوميات واديان وسايكولوجيات لم تنصهر بعد في شخصية واحدة مستقرة ،لان تبلور شخصية قومية وبروزها كممثل لابناء المجتمع يستغرق مئات السنين واحيانا الاف السنين ، لذلك فان الخيارات في امريكا ، بلد ما قبل الامة ، تختلف والمصالح تتعدد والامزجة تتناقض .
وغياب التهديد الخارجي يشغل الية تفكيك وحدة امريكا ويعزز ثقافة الجاليات ، على حساب ما يسمى خطئا في امريكا (الثقافة الوطنية) ، بما في ذلك غلبة اللغات الاصلية ، كالاسبانية ، على اللغة الانكليزية اللغة الرسمية الالزامية ، والتي يقدر انها ستكون لغة الاغلبية بدل الانكليزية في غضون اقل من نصف قرن . متى يحصل ذلك ؟ انه يحصل حينما يشعر الامريكي انه امن وان لا تهديد خارجي خطير يقلقه فيبدأ بالبحث ، في مزابل الراحة والطمأنينة ، عن دفاتره العتيقة ومنها صلاته بوطنه الاصلي ، وعندها يكتشف الامريكي من اصل صيني ان الصيني في بكين اقرب اليه ثقافيا من الامريكي من اصل الماني في ولايته، والاخير يبدأ، بفضل ترف مزابل الراحة والامن ، بتقوية لغته الالمانية واعادة الجسور مع اصوله في فرانكفورت ! وتلك هي سمة اساسية من سمات مجتمع ما قبل الامة .
وما يجب ان نوضحه هنا ، وتغافل عنه هنتنغتون ، هو حقيقة ان امريكا ليست فقط مجتمع ماقبل الامة بل هي اسوأ من ذلك في اطار تشكيل امة جديدة ، وهي ان سكان امريكا ليسوا سكانا اصليين منقسمين الى قبائل تتجه ، في تطور موضوعي، نحو الوحدة بصيغة اعلى من القبيلة هي الامة ، كما حصل في تطور الامم الطبيعية ، بل هي عبارة عن فندق كبير اجر كل واحد منهم غرفة فيه لانه اما حصل على عمل قربه او انه يبحث عن عمل قربه . ما هي نتيجة هذه الحقيقة التاريخية ؟ ببساطة المواطن الامريكي اما هارب من اضطهاد ديني ، لذلك فهو يحمل عقدة الاضطهاد والارتياب ، او انه فقير فقد فرصة العمل في بريطانيا او فرنسا فهاجر الى امريكا للحصول على عمل حرم منه في وطنه ، لذلك فهو اسير عقدة الخوف من المستقبل ، واما انه مجرم ضاقت به سجون بريطانيا فنفي الى العالم الجديد ، أي امريكا ، تخلصا منه ، لذلك فهو يحمل في أحشاءه لغم عوامل تفجير المجتمع وليس رص صفوفه . هذا هو الاختلاف الجذري في تكوينات اجداد امريكا ، والتي توارثها وكرسها الابناء ، وصارت المكون الاساس في الشخصية الامريكية ، وهو مكون متناقض السايكولوجيات انعكس بشكل اضطرابات سلوكية وتناقضات صارخة في الشخصية الامريكية تحاول تمويهها بالعجرفة والتجاوز على الاخر غير الامريكي ، ومن ثم فان اصل امريكا هو محض تجميع اجزاء متناقضة لا يربط بينها سوى الحصول على فرصة عيش او مراكمة الارباح .
هذا الفندق الكبير وان زال وحلت محله شركة كبرى اسمها امريكا ، الا ان سايكولوجيا الفندق ، القائمة على السكن الوقتي ، ما زالت قائمة وفعالة بل هي اقوى ما في مكونات السايكولوجيا الامريكية ، لان الامريكي لا يرى في امريكا الا فرصة عمل واستقرار ورفاهية تعوض عن القلق والخوف والاغتراب وكل العقد المرتبطة بها والرابضة بقوة اسد في ذاكرته الجمعية . بين الامة غير الموجودة ، والتي عمادها الشعور العميق بان الارض التي يسكنها الانسان هي ارضه وان البشر الذين يعيش معهم هم مواطنيه وشركاء ثقافته واقرباءه في النسب والتاريخ المشترك والميل المشترك ، وبين مفهوم الفندق او الشركة الكبرى ، وهما مفهمان يقومان على الوقتية والمصلحة المباشرة بين اناس لا تربطهم صلات حميمية ولا تاريخ مشترك تنصهر في اتونه مياسمهم الاصلية وتبلور منها ميسما جديدا مشتركا يشدهم الى مشروع ابدي مستمر ، بل ان مايربطهم هو المصلحة ولا شيء غير المصلحة ، والامة ليست مصلحة فحسب بل هي قبل ذلك رابطة معنوية ثقافية متجذرة في اعماق الانسان ووعيه السائد .
اذن ، ما يستنتجه هنتنغتون ، وفي قعر ذاكرته حقيقة ان امريكا هي مزيج مشترك من سايكولوجيا الفندق وسايكولوجيا الشركة الكبرى ، هو ان المطلوب هو توفير حافز اصطناعي للوحدة في المجتمع الامريكي ، الميال بطبيعته للتفكك عند الشعور بالامن ، لانه مجتمع ما زال يقوم ، في اللاشعور الجمعي على الاقل ،على الدافع الوقتي او المباشر، وهذا الحافز هو اختراع عدو خارجي لملا الفراغ الذي احدثه زوال الشيوعية ، لاجل ان تسود ثقافة الخوف وتوحد الامريكيين وتغلب الغريزة . ان اول تجليات ثقافة الخوف هي الرغبة الطاغية في ضمان العمل والربح ، وهيمنتها على الوعي الثقافي . ويتابع هنتنغتون تفسيره لنظريته فيقول ان الاسلام هو العدو الجديد القادم ، ويجب ان نستعد له ونواجهه ! هذا هو الاصل في تصادم الحضارات ، وعلينا دائما كعرب ان نتذكره كي لانقع في خطأ فادح هو عدم فهم ان لامريكا مصلحة اساسية وجوهرية في تعزز الاصولية الاسلامية وطغيانها على الاصولية القومية وفرعها الاصولية الوطنية ، كشرط لازم لدفع الاصوليتين المسيحية واليهودية الى امام في تماسكهما وتصاعد قوتهما ، ولتوفير وحدة امريكا وبناء حافز جماهيري لغزواتها في بيئة محاربة ما يسمى (الارهاب الاسلامي) .
في هذا الجزء من قبر هنتنغتون نشم روائح الحروب والموت لا لشيء الا لابقاء امريكا موحدة ولتوفير دافع يؤمن دعم اغلبية امريكية لغزوات الراسمالية الامريكية . ولعل اقوى الروائح العفنة في القبر هي ان من مصلحة امريكا بروز الاصوليات الدينية بما فيها الاسلامية لتصبح سيده المشاهد السياسية في العالم ، ومن ثم يتولى الاعلام تسويق الخوف داخل امريكا من الاصولية الاسلامية لاجل ابقاء وحدتها ، وهو المدخل لبدء الغزوات الخارجية القائمة على اساس ان امريكا يجب ان تهاجم العدو في عقر داره وتدميره قبل ان يهاجمنا ! ألم يأمر رب بوش تابعه بذلك ؟! هذا درس وتلك حقيقة يجب ان نتذكرهما دائما لنؤمن الوقوف فوق صخرة الحقيقة ، وهو درس يجعلنا نعيد النظر في الاسباب التي تجعل من دعاة اسلاميين نجوما في الفضائيات العربية ، في حين يتم تغييب متعمد لنجوم الفكر القومي والوطني . انه امر امريكي صريح!
التدين : محيطات الشرق وسواقي الغرب
في ضوء الملاحظات التمهيدية السابقة ، حول وظيفة الدين السياسية والتعبوية والعسكرية في دعم مصالح النخب الراسمالية في الغرب ، وما شرحناه من خصائص مميزة لامريكا ، علينا ان ندرس ونحلل ما يجري الان ، خصوصا شن حرب ابادة ضد المسلمين وتعمد الإساءة للنبي الكريم . قبل كل شيء يجب ان نسلط الضوء على خطأ يقع فيه الكثير من المتعاملين مع الغرب ، وهو الاعتقاد بان الغرب ، الرسمي والمؤسسي، في علاقاته معنا، مدفوع بتأثيرات مسيحية، خصوصا بعد وصول ادارة جورج بوش الابن واعتماده على المحافظين الجدد والمسيحية الصهيونية . ان هذه المسألة تشكل لغما خطيرا يجب تفجيره في صحراء الجدل ، وليس وسط جمهرة المحملقين في مشهد الاحداث الصاخب ، لتجنب الخسائر الاعتبارية والبشرية . وهنا علينا ان نتعامل مع حقيقة يجب ان تتحكم في تعاملنا مع الغرب وهي ان الغرب ، اذا استثنينا افرادا او كتل صغيرة جدا ، ونظرنا اليه ككتلة غالبة وتوجه عام ، لا ديانة عميقة وحقيقية له .
وما نراه من مظاهر تدين ليس سوى قميص رقيق لا علاقة له بعمق الانسان الغربي ودوافعه وروادعه وقيمه ، بل انه في زمن التمدن الحالي هو مجرد قميص جميل يخفي نزعات حيوانية ووحشية لا مثيل لضراوتها في كل التاريخ الانساني . ان ما نشاهده من افلام رعب امريكية هو تنفيس مبرمج ومنضبط لحالة مجتمع يكتظ بالشر الى درجة الاختناق ، لذلك يستطيع توزيع الشر على التاريخ كله منذ ظهر اول عنف فيه ، وعلى جغرافية القارات كلها ، ومع ذلك يبقى فائض مرعب من الشر الامريكي ! ان ما يملأ الانسان الغربي بزخم المبادرة ، تجاه الفرد الغربي الاخر وتجاهنا وتجاه العالم ، في تاريخه ويومه وقرن حياته ، هو الشبق الوحشي للحياة اليومية ، في مجتمع قاس لا يرحم ولا يساعد الفقير او الضعيف بل يسحقهما بلا تردد او خوف من عقاب الهي او ثأر دنيوي .
وبتأثير ذلك فان الذي يقرر قيم ودوافع واهداف الانسان الغربي هو الرغبة الطاغية في ضمان غده ، في عالم وحشي كل فرد فيه ممسوس بيقين انه قد يفترس غدا من قبل الانسان الاخر وليس من قبل وحوش الغابة الحيوانية المعروفة ، ، سواء كان ذلك الضمان مشروعا او مناقضا للحق والعدالة او الدين او أي قيم عليا . وهذا الوضع هو نقيض حالتنا نحن في الشرق (عرب وهنود وصينيين)، حيث تخضع شعوبه في حياتها لمفاهيم وقيم راسخة وعميقة يتعلمها الانسان منذ ولادته وحتى مماته ، سواء كانت قيم دينية او دنيوية مثلتها افكار الفلاسفة والمصلحين . وهذه الحقيقة تتطلب تسليط الضوء على الفرق بين الايمان الديني في الغرب والشرق .
أن الحقيقة التي يجب ان لا تغيب عن بالنا ، نحن العرب ، كي لا نقع في فخ جهل حوافز العدو ومحركاته الحقيقية تجاهنا، وافتراض ما ليس فيه ، خصوصا وان الجدل يدور الان حول دوافع نشر رسومات مسيئة للرسول الكريم ، هي ان مانشر في اوربا من رسومات امر لا يقترب من الغرابة بل هو جزء من طبيعة تركيب اوربا الاجتماعي والثقافي وليس الديني، لان الدين في اوربا غالبا ديكور للظواهر الاخرى الاهم بالنسبة للأوربيين . أما بالنسبة لنا
نحن العرب فان الدين ليس مجرد طقوس عبادة يجب ان تحترم ، بل هو قبل هذا نمط تشكيل الحياة والثقافة وقاعدة الوعي الاجتماعي للفرد العربي ، سواء كان مؤمنا او ضعيف الايمان . وحينما نقول الدين فاننا نقصد الاسلام والمسيحية وبقية الديانات الشرقية الاصغر وربما الاقدم . ما معنى ذلك تحديدا ؟
لو قارنا بين تدين العربي المسلم والعربي المسيحي بتدين الاوربي والامريكي المسيحيين ، لوجدنا ظاهرة مهمة جدا تلعب دورا خطيرا في مسار العالم منذ ظهر الاستعمار الاوربي ، وهي ان التدين المسيحي في الغرب بشكل عام سطحي ولا يتغلغل في اعماق وعي الانسان وحوافزه ومحركاته الاساسية ، وانما هو غالبا موجة او وراثة ميكانيكية لمعتقدات لاهوتية يرتديها الفرد كالقميص وينزعها عند النوم او العمل او التعامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتجاري، فتكون النتيجة هي اننا نواجه مجتمعات وافراد رادعهم الاول ومقرر سلوكهم الاعظم ليس قيم الدين المسيحي ، رغم انه الديانة السائدة عدديا ، بل هو المنفعة واللذة والربح والراحة حتى لو توفرت على حساب الاخرين وبؤسهم وقتلهم ، بل وابادتهم كليا.
ان ابرز الامثلة على عنف النزعة الانانية الوحشية والابادية للغربيين ، هو ما حصل حينما اباد الاوربيون المهاجرون الى امريكا مائة واثنا عشر مليون هندي احمر كانوا سكان امريكا الشمالية الأصليين عند الهجرة اليها ! ومن بين اساليب الابادة المحسوبة نشر الامراض عمدا، واهمها الطاعون بتوزيع بطانيات ملوثة بجراثيمه على السكان الاصليين ، والقضاء على اهم مصادر عيشهم وهو الجاموس الامريكي المسمى (بوفالو) ، فقتلوا خمسين مليون جاموسة كانت تشكل عماد حياتهم ، اضافة للابادة بالرصاص ! كما ان ما فعلوه في فلسطين واستراليا ونيوزيلندا وجنوب افريقيا، من ابادة مماثلة للسكان الاصليين ، واستعباد من تبقى منهم ، تشكل اضافة (حضارية) للارث الغربي الاجرامي . وفي كل تلك الحالات لم يشكل الناس الذين تمت ابادتهم تهديدا للمهاجرين ابدا ، بل على العكس قام السكان الأصليون بمد يد العون للمهاجرين ، وعلموهم كل ما يحتاجون اليه ، للعيش في بيئة جديدة مجهولة .
ان العلمانية الغربية ، وهي تعني فصل الدين عن الدولة وجعل الدولة تتصرف وفق المصالح وليس تنفيذا لتعاليم الدين ، هي ثمرة طبيعية للنزعة الوحشية الفردية التي تسود ثقافة تلك المجتمعات ، لان وجود المسيحية الحقيقية ، بقيمها الانسانية التي جاء بها السيد المسيح عليه السلام ، وهي دين الاغلبية في الغرب الراسمالي ، يحد من الانانية المفرطة للنزعة الفردية . لهذا السبب ما كان ممكنا في المجتمعات الغربية اعادة تشكيل ضميرها الجمعي والفردي ليخدم اهدافا متناقضة مع اصول المسيحية ، مثل تسويق نهب وابادة الاخرين والتعامل معهم كمخلوقات من الدرجة الثانية او الثالثة ، في سلوك عنصري ينقض بشدة جوهر المسيحية القائم على المساواة بين البشر والمحبة بدل القتل ، نقول ما كان ذلك ممكنا الا بتشويه المسيحية وتحويلها الى غطاء للغزو والقتل والابادة ، وهو ما فعلته الكنيسة التي حولت المسيحية الى غول يفترس الناس المسيحيين ابتداء ، فقبل الحروب الصليبية ، والتي كانت بداية الاستعمار الاوربي ، وبعدها نشأت حروب دامية وطويلة بين الاوربيين المسيحيين انفسهم كانت الاكثر وحشية ودموية في التاريخ الانساني حتى وقت وقوعها ، ومع غير المسيحيين ، بتأثير امراء الاقطاع .
عقلية ابادة الاخر ، وهي نتاج تزاوج اكثر وحوش التاريخ شراسة وهما الوحشية الغربية المتطرفة والوحشية الراسمالية الاكثر تطرفا ، اخترعت نظرية دينية لتبرير ابادة الاخر غير المسيحي مشتقة من التلمود ، تقوم على التشكيك في كونه انسانا تنطبق عليه القيم المسيحية ورحمتها ، فقالوا ان الهنود الحمر مخلوقات حيوانية وليسوا بشرا لذلك لا ضرر في ابادتهم! او انها عدت الشعوب الاخرى التي لم تستطيع انكار ادميتها ، عدوة للمسيح ، ومن ثم بالامكان القضاء عليها ، كما فعل اقطاعيوا اوربا عند الاعداد للحروب الصليبية ضد المسلمين ، وكما فعل رأسماليوا امريكا واوربا ويفعلون الان ضد المسلمين ، خصوصا في العراق وفلسطين وافغانستان ، مستغلين اسم المسيحية والدفاع عنها ضد الاسلام ، مع ان الحقيقة تؤكد ان الدافع الحقيقي هو نهب المسلمين واستعمارهم . وفي كل الاحوال فان التسويق الديني لابادة الاخر كان محض قميص شفاف استخدم لتجميل الابادة وتوفير جنود يقومون بها كي تستطيع شركة هاليبيرتون وشقيقاتها مضاعفة نهب الاصفر (الذهب) والاسود (النفط) .
دور النزعة الفردية
من يقوم باعادة التشكيل الدورية لوعي الغربيين في اوربا وامريكا الشمالية ؟ بالطبع انها قوانين الراسمالية التي تدق الجدران النحاسية ، وهي عالية الصوت والرنين ، للوحشية والانانية والحيوانية في جذر الطبع الانساني ، بجعل الانانية قاعدة اجتماعية ودستورية للسلوك يحميها القانون رسميا ويشجعها تحت تسمية مضللة وهي الحرية الفردية ، لان ميل الانسان للخير هو توأم ميله للشر ، وما لم تستثار النزعات الانانية لآخر الشعوب التي تعاملت مع الحضارة الانسانية ، وهي الشعوب الاوربية ، فان وحشية الراسمالية وابنها الشرعي الاستعمار ، لن ينجحا في تسويقها ، أي الانانية الحيوانية ، وسترفض بفضل خيرية الدين وثقافته ، القائمة على المحبة واحترام الكائن الانساني ، بغض النظر عن هويته.
ان التركيز على الجنس والجريمة ، بشكليها المنظم وغير المنظم ، واباحة كل شيء ، واعطاء الانسان الفرد حق تقرير الخطأ والصواب بمعزل عن الروادع الدينية والاجتماعية والعرفية السائدة ، وتحويل مفهوم الكتلة الاجتماعية من حالة نوعية مندمجة بالتفاعل الطويل الامد تعبر عنها شخصية اجتماعية متميزة ، الى حالة كمية هي حاصل جمع افراد ليس بينهم الا المصالح الانانية المشتركة ، يعبر عنها بنزعات فردية منفصلة تجعل الانسان كائنا منعزلا قائما بذاته ومنغلقا على ذاته ، ان ذلك كله يفضي الى حقيقة ان الشعوب الاوربية والامريكية الشمالية هي محض جماعات لا رابط بينها سوى المصلحة الانانية المجردة من قيم العدالة والرحمة ، والمتحركة بحافز واحد ، غالبا ،هو تنمية مصالحها ومنع الاضرار بها حتى لو تطلب ذلك ابادة الاخر ! هذه الحقيقة تجد تجسيدها الواقعي في ان الافلام الامريكية، وهي تعبر بدقة عن حالة المجتمع الامريكي ، تركز وبنسبة تزيد على 98 % من افلامها على موضوعي الجريمة والجنس ، لذلك فان من يراها يتلبسه اعتقاد جازم بان امريكا هي اكبر مقر للعصابات والمجرمين واللصوص في العالم وفي التاريخ الانساني ، وانها حي ضخم متخصص في تجارة الجنس .
وتزداد ضراوة ووحشية الغربيين حينما يكون وضعهم في العالم هو وضع المسيطر الناهب لثروات الاخرين ، عند ذاك نجد ان الغرب يتفنن في وسائل الابادة والقتل والشيطنة التي يلحقها بصاحب الحق المنهوب ، كالنفط والمواد الخام في العالم الثالث ، لمنعه من الحصول حتى على جزء بسيط من حقوقه ! وما يجري الان للعرب من قتل وابادة ، خصوصا في العراق وفلسطين ، هو تجسيد تام لهذه الحقيقة ، حيث يشكل هدف الابقاء على النفط العربي تابعا للغرب اهم هدف غربي مشترك على الاطلاق ، ولاجله تستخدم الدولة الامريكية واجهزة اعلامها وكبار شخصياتها الكذب المطلق لتبرير الغزو وابادة الملايين من الناس . وحينما يكتشف الكذب بعد قتل مئات الالاف وتدمير دول بالكامل ، مثلما حصل حينما اكتشف الأمريكيون كذب التهم التي استخدمت لاقناعهم بغزو العراق لم يصدر رد فعل رسمي وشعبي يتلاءم مع حجم جريمة امريكا وبقي رئيسها الذي كذب بلا حساب او عقاب ، تماما كما حصل للرئيس الذي سبقه وهو بيل كلنتون ، الذي كذب وهو تحت القسم وزنى ومع ذلك زادت شعبيته ولم يعاقب ايضا !
كيف نفسر هذه الظاهرة ؟ لا تفسير لهذه الظاهرة سوى انها تعكس وتجسد القاع الوحشي البالغ العمق للانسان الامريكي والذي لا يعرف سوى الافتراس ولا يهم من هو الذي افترسه ولماذا افترسه ، لان المهم هو ان يخضع الامريكي لنزوة القتل والابادة التي تتحكم فيه وتقرر خياراته ومساراته .
قبل الرأسمالية كان النظام الايديولوجي الذي يغذي وحشية وانانية الغرب هو الاقطاع ، والذي استخدم الكنيسة غطاء لاهوتيا لغزواته التوسعية وابرزها الحروب الصليبية ، اما اليوم فان الراسمالية ، وليس الكنيسة المسيحية التي عزلت وتستخدم كغطاء للتوسع الاستعماري ، هي التي تشكل وعي الغربيين وتحدد سلوكهم وانماط حياتهم وردود فعلهم خصوصا عبر الاعلام الجماهيري القائد الفعلي للناس هناك والمبلور لقناعاتهم . ومن يدرس تاريخ الاستعمار الاوربي وابنه الشرعي الاكثر وحشية الاستعمار الامريكي ، سيدرك تماما معنى وصحة ما قلناه . ولئن كان الاستعمار ظاهرة رأسمالية كونية ميزتها الابرز هي نزعة ابادة من يعترض طريق نهبه ، فانه جسد الطلاق والتناقض مع قيم الاديان السماوية التوحيدية، من خلال سياسة النهب والابادة المنظمتين للجنس البشري ، من جهة ، والتنظيم العمدي لحصول اخطر ردة رجعية في تاريخ التطور الانساني وهي ارتداد المجتمعات الغربية الى عهد الوحشية بصيغته الاقدم والاوحش ، مع تغليف وجهها ، أي الراسمالية ، بقناع المجتمع الالكتروني ، من جهة ثانية .
اليوم نجد الانسان الذي حقق اعظم تقدم مدني (علمي – تكنولوجي) يمسك بيده بقنبلة نووية يهدد باستخدامها ، كانه يتناول طعامه، ضد من يريد استعادة حقوقه ! وهو يجلس على مائدة مصنوعة من جماجم وعظام الملايين من ضحاياه من البشر ومع ذلك يستطيع الابتسام ، ويصر على القول انه يدافع عن حقوق الانسان والحيوان !
وفي قلب هذه الحقيقية التاريخية والاجتماعية يوجد تفسير لظاهرتين : الاولى ان العلمانية الغربية ولدت في اوربا المسيحية في عصر صعود الراسمالية ، وكان المطلوب وقتها هو عزل الدين عن الدولة ليس للقضاء على الاستبداد الكنيسي فقط ، بعد ان اصبح قيدا على الراسمالية المنطلقة بجموح ، بل ايضا لاجل اطلاق كافة النوازع الانانية والشريرة التي تقوم على ابادة وتدمير الاخر او استعباده لضمان النجاح في نهبه او منعه من استعادة حقوقه . وفي هذا الاطار نرى ان امريكا ومعها قسم من اوربا يعدان الفساد والجريمة جزء طبيعي لا يمكن ازالته من الطبع الانساني والظواهر الاجتماعية الدائمة ، لذلك يجب تقليصهما والسيطرة عليهما فقط وعدم محاولة ازالتهما لانها عبثية !
ان الديانة المسيحية ، مهما كانت خاضعة للسلطان، تبقى في عصر الراسمالية المتطرفة الوحشية ، مصدرا لادانة قتل ونهب البشر حينما تتجاوز الراسمالية كل الحدود ، في عصر يسمى العالم فيه (القرية الالكترونية) . اما الظاهرة الثانية فهي ان الايمان المسيحي الاوربي ، ومن ثم الامريكي الشمالي ، هو ايمان سطحي لا يتجاوز جلد الانسان ، لذلك فانه ، وبشكل عام ، ايمان لا يؤثر على ضمير الانسان ولا يحدد سلوكه بروادع قوية بل يترك للحيوانية ، باسم تقديس الفردية ، ان تهيمن عليه ، حتى وان بدا في غاية التمدن بلباسه واسلوب تصرفه الظاهري ! ان اوربا الاستعمارية قد نظفت نفسها من الخارج ، فاصبحت تتقيد باللبس النظيف والكلام المحسوب بالاتيكيت ، لكن روح وحوافز نخبها الحاكمة ازدادت قذارة وانانية ووحشية.
هذه الاشكالية الاوربية وجدت وتجد تعبيرها المرضي في امريكا حيث لا حدود للوحشية ونزعة ابادة الاخر . والدليل على صحة هذه الحقيقة نراه في ظاهرة ان اشرس حروب وغزوات التاريخ واكثرها وحشية ودموية قامت بها اوربا او وقعت في اوربا ، وفي مقدمتها الحربين العالميتين الاولى والثانية ، وبروز امريكا بصفتها الامبراطورية التي قتلت اكبر عدد ممكن من البشر في كل التاريخ الانساني . وفي مقدمة اساليب الابادة الغربية استخدام امريكا للقنبلة الذرية
وابادة عشرات الملايين من البشر بحروب استعمارية من فيتنام الى العراق ، اضافة لغزو اوطان الاخرين وتهجيرهم ، كما حصل للفلسطينيين ، او ابادتهم كما حصل للهنود الحمر، او استعبادهم كما حصل للسود في افريقيا .
ولاجل ان نختتم هذه الفقرة باثباتها ، لابد ان نذكر بان الانتقال من المسيحية الى الديانات الاخرى كالاسلام والبوذية في اوربا وامريكا الشمالية يكاد ان يكون شارعا باتجاه واحد ، وليس باتجاهين ، بتعبير اخر : ان اعتناق الاسلام يزداد نموا في اوربا واميركا على حساب المسيحية هناك ، كما البوذية تجد جاذبية هناك ، ومن بين من اعتنقوها وهجروا المسيحية الممثل المعروف ريتشارد جير . والسؤال المهم هنا هو : لماذا ؟ لنناقش الاسلام ليس بصفته دينا فقط بل بصفته ثقافة متبلورة قبل ظهوره الزمني كدين ايضا .
كان محمدا كل العرب فليكن كل العرب محمدا
لا مفر من الجزم بان اعظم وصف قدم ، وابلغ تحديد وضع للعلاقة بين النبي محمد (ص) والعرب ، هو ما قاله في الأربعينيات قائد ومفكر عربي مسيحي ، وقبل ان يعتنق الاسلام في الثمانينيات ، وهو المرحوم احمد ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي . ماذا قال عفلق ؟ في نهاية الاربعينيات ، وفي فجر البعث ، قال القائد المؤسس المسيحي العربي : (كان محمدا كل العرب فليكن اليوم كل العرب محمدا) . هل قال مسلم ، عربيا او اجنبيا ، كلاما بهذه الدقة والبلاغة في وصف النبي العربي الكريم ؟ انني اتحدى كل كتاب ومفكري العرب والمسلمين ان يذكروا وصفا ادق ، وينطوي على معنى فلسفي عميق جدا يجسد ويحدد واجب العرب حاليا تجاه نبيهم الكريم والاسلام ، اعظم مما قاله عفلق المسيحي انذاك . مامعنى ذلك ؟
خلاصة ما قاله عفلق هو ان النبي العربي (ص) قد قدم للعرب ما نزل عليه من الله سبحانه وتعالى ، وما مارسه من سيرة عطرة وما غرس في نفوسهم من قيم سامية ، وتجسد كل ذلك في رسالتهم الخالدة ، على نحو انتج خلال عقود قليلة نمطا جديدا من الحياة العربية والانسانية ، انتشرت في العالم وصارت قاعدة لاعظم امبراطوريات التاريخ تقدما وانسانية . لذلك ، ولان من المستحيل معايشة النبي بعد انتقاله الى الرفيق الاعلى، فان اعظم تمسك بما جاء به ونشره هو ان يجسد العرب في سيرتهم اليوم ، وقد عاد الاسلام غريبا ، مبادئ محمد وتعاليم ما جاء به من قيم الهية اوحي اليه بها .
والسؤال هنا هو التالي : كيف يقول مسيحي كلاما عن الرسول عجز عن الاتيان به عباقرة المسلمين وهم كثر ؟ ان الجواب باختصار شديد هو ان عفلق كان عربيا بانتمائه والتزامه ومبادئه وتربيته وخلقه وسيرته العطرة ، وبما ان العروبة هي سايكولوجيا وثقافة وتربية عميقة الجذور ، بالاصل والجوهر، فان ما قاله عفلق كان نتاجا طبيعيا لانتمائه القومي ، والذي يشكل الاسلام جوهره وروحه ، كما اكد هو ايضا وكرر القول منذ نشأ البعث . ان المسيحي العربي ، كالصابئي العربي ، يعد الاسلام مكونا اساسيا لثقافته وسايكولوجيته وروح قوميته العربية ، وهذا اعظم ما انتجه تلاحم العروبة بالاسلام .
من المؤكد ان ما قاله عفلق هو نتاج طبيعي لثقافة قومية عربية متجذرة في نفس كل عربي، سواء كان مسلما او غير مسلم . فالقومية العربية ليست هوية عرقية ، كما انها ليست ابتداعا اوربيا ، كما يظن خطئا بعض الإسلاميين ، لانها اقدم من اوربا بالاف السنين ، واوسع واعمق بكثير من ذلك ، ولا هي ديانة معينة لانها اقدم من كل الديانات التوحيدية التي ظهرت في ارض العرب . ان القومية العربية ، وفقا لمفهوم البعث ، نتاج تفاعلات عمرها الاف السنين بدأت قبل الاسلام بزمن طويل ، يصل الى اكثر من خمسة الاف عام ، كان فيها العربي يبلور هويته استنادا الى اداة نطقه ، أي اللغة العربية .
ورغم ان العروبة اتخذت شكل القبيلة قبل الاسلام ، الا ان تلك كانت مرحلة تطورية طبيعية مرت بها عملية نشوء الامة العربية اتسمت بانقسام العرب الى قبائل تربطها اللغة لكنها كانت متفرقة . واذا اردنا معرفة قدم العروبة يمكننا بالاستناد الى عامل واحد فقط ، من بين عوامل جوهرية عديدة اخرى ، ان نثبت انها تعود لالاف السنين ، هذا العامل هو اللغة العربية التي تعد اللغة الاكثر ثراء وتعقيدا من بين لغات العالم ، من حيث تغطيتها لمختلف احتياجات الحياة . ان اللغة لا تنشأ في قرن من الزمان لانها تحتاج لقرون طويلة ، واحيانا تحتاج لالاف السنين لتكتمل قاعدتها الاساسية ، وتتحول الى اداة تخاطب طاغية وكافية للتعبير عن واقع الحياة اليومية . ويزداد عمر اللغة كلما كانت مفرداتها ثرية وكبيرة ، لانها تعكس واقعا قائما . فأنت لا تستطيع وصف شيئا الا اذا كان موجودا ، مادام اللاشيء مستحيل الوصف لغويا . من هنا فان حجم وكمية مفردات اللغة وعمقها ودقتها في التحديد ما هي الا ثمرة وصف لواقع قائم كان موجود ، او ما زال موجودا ، وتطلبت الاحتياجات العملية التعبير عنه بكلمات ، فكانت الاسماء ، والاوصاف والافعال ، انعكاسا لواقع قائم . فمثلا انت لا تستطيع وصف الاسد الا اذا رايته ، ولا تستطيع معرفة معنى كلمة فارس الا اذا سمعت به او رايته يقاتل .
يترتب على هذه الحقيقة اللغوية وضع عملي : ان ظهور اللغة يتطلب زمنا طويلا ، واحيانا طويلا جدا حينما يتعلق الامر بلغة ثرية ومعقدة ، كاللغة العربية ، في مناخ اجتماعي منسجم باصوله ومكونات هويته . فاللغة تستخدم في محيط انساني ، ولخدمة المحيط وادامة علاقاته المختلفة ، لذلك تنمو مع اللغة صلات اضافية توفرها اللغة بحكم تمكينها للافراد ان يتخاطبوا ويعبروا عن افكارهم وتطلعاتهم. ان اللغة ، بالياتها المعقدة، أداة تسمح بانتاج الشعر والفلسفة والعلوم والقانون والحلول الاجتماعية ، وبها تحفظ الانساب والتراث . وهي لذلك ليست محض اداة ووسيلة التفكير بل هي ايضا اعظم عوامل ارتقاء التفكير وانتقالاته النوعية . ان الفكر بدون اللغة يضمر ويتوقف عن العمل الابداعي ، ويصبح مجرد احدى اليات الحفاظ على الذات ، تماما كما هي حال المخلوقات الادنى من الانسان التي تستخدم منظومات اشارية محددة . بهذا المعنى فان اللغة هي بداية تشكيل أي جماعة صعودا الى انبثاق الامة ، والتي تعد اللغة محور ثقافتها ومعين اندماجها المستمر .
اذن فان العربي ، سواء كان مسيحيا او مسلما او صابئيا ، ينشأ على ثقافة قومية عربية منذ ولادته ، وتمتزج هذه الثقافة بخلاياه المكونة ، وتصبح تلقائيا جزء اساسيا من وعيه الفردي ، ثم وعيه الوطني والقومي وموقفه من العالم ، وتقع مبادئ وتعاليم الاسلام في قلبها وتشكل روحها الديناميكية . كذلك فان المسيحية التي ولدت في الوطن العربي ، تشربت باصول ثقافة العرب وتقاليدهم وقامت قيمها الانسانية عليها . لذلك نرى ان الصلة بين المسيحية والاسلام هي صلة تكامل وليس صلة تناقض ، فما جاء به الاسلام كان تكملة لما جاء به السيد المسيح . وهذه الحقيقة تجعل العربي المسيحي يتعامل مع الاسلام كمقوم أساس من مكونات هويته القومية وكدين شقيق وليس كدين معاد . وكما توجد خلافات بين الاشقاء لابد من وجود خلافات بين العرب المسلمين والمسيحيين ، بل ان كلا الديانتين فيهما طوائف مختلفة ، ففي المسيحية هناك الكاثوليك والبروتستانت والارثودوكس ، وفي الاسلام هناك السنة والشيعة ...الخ ، وتلك الواقعة هي تعبير واضح عن تجاوز الدين لاي تفسير معطى وسموه فوق الفرق والطوائف ، انطلاقا من كونه ، أي الدين ، ثمرة تعاليم الله والفروع نتاج التفسير البشري .
واذا استخدمنا مصطلحات علم النفس لابد من القول بان هناك طبيعة ثانية للانسان العربي تكونت عبر الاف السنين ، كان الانسان فيها يولد في بيئة ثقافية غنية وشديدة التاثير ، فيتعلم الايمان الديني ومتطلبات القانون والعدالة والرأفة والقيم السامية ، كالايثار والصدق وخوف الله والتقيد بتقاليد وقيم المجتمع ومساعدة الفقراء والرحمة واحترام قيمة المخلوق الانساني ومنع استعباده او خداعه والشجاعة والتضحية بالذات من اجل الجماعة واحترام الصغير للكبير ورعاية الكبير للصغير ...الخ . ان هذه الصفات التي يكتسبها الانسان منذ الولادة ويتقيد بها طوال حياته ما هي الا ثقافة عميقة الجذور وطاغية التاثير، تدفع الانسان الى العيش في عالم الجماعة ، بعكس الانسان الغربي ، والذي عرفناه وهو يتسلط علينا وعلى غيرنا من البشر ، الذي يعيش في عالم الفرد الاناني المنعزل ، والذي لا يعرف معنى الصلة الرحمية بالاب والام والاخ والقريب ، ولا معنى الصلة الانسانية بين البشر ، وان عرفها فانها ضعيفة جدا . كما انه لايعرف معنى التضحية من اجل الغير او الجماعة ، ويجهل مشاعر الرحمة والرأفة ويرفض تضحية الجيل الحاضر من اجل الاجيال القادمة ...الخ .
ما هو السبب في هذا الفرق الجوهري ؟ انه ببساطة يعود الى ان الانسان الغربي حديث التعامل مع الحضارة ، فلقد قفز من الوحشية الى التمدن ، دون المرور بمرحلة الحضارة ، التي تعني اول ما تعني تهذيب النفس والروح واخضاعها لقيم عليا حاكمة ومتحكمة في السلوك الفردي والاجتماعي ، وليس اتقان التقاليد المدنية مثل الامساك بالشوكة والسكين او التهذيب الاجتماعي او التقيد بالضوابط القانونية والادارية .
وتلك الحقائق تفضي الى واقع راسخ وهو ان انسان الشرق لم تحكمه قيم الدين فجاة، بعد ان خرج ما الغابة ، بل مر بمراحل تطور حضارية امتدت الاف السنين ، عاش خلالها خارج
الغابة وقوانينها وقيمها ، تعرض فيها الانسان الشرقي لعمليات تهذيب شاملة وطويلة وبطيئة، فادى ذلك الى خضوع الانسان الى منظومة قيم الزامية يؤدي التجاوز عليها الى العار والاحتقار والتكفير قبل ان يتدخل القانون للعقاب . وهذه الحقيقة تفسر ظاهرة تبدو غريبة ، لمن لا يعرف معنى التاريخ والحضارة ، وهي انه حتى الامي العربي يعرف القيم العليا ويتمسك بها ويموت من اجلها ويمتلك الحكمة والادراك لواجباته تجاه الاخر . لقد شهد العراقيون القدماء تطبيق اول شريعة قانونية (شريعة حمورابي) قبل اكثر من الف عام على ظهور اليهودية ، وهذه الحقيقة التاريخية تعني ان الوعي الاخلاقي والتضامن الاجتماعي والتحضر في الشرق سبقت الديانات التوحيدية الكبرى زمنيا ومفهوميا . ومن مظاهر هذه الحقيقة اننا نجد في الكتاب المقدس قصصا عراقية اقدم منه ، مثل قصة الخلق البابلية والطوفان ...الخ .
لذلك حينما جاءت الديانات التوحيدية كانت تتويجا لتطور طويل في حوافز الانسان وليست بدايته ، وكان الانسان قبل ظهورها قد عرف حضارات عظمى كالسومرية والبابلية والاشورية والفرعونية والصينية والهندية . اما في اوربا فان وصول المسيحية كان بداية تعامل الاوربيين مع المفاهيم الانسانية والاخلاقية والدينية ، فهم ما ان خرجوا من الغابة حتى صدمتهم وأدهشتهم المسيحية ، التي أتت بقيم سامية تدعوا للأثرة وتقييد الانانية الفردية. لقد كانوا اسرى ثقافة قوانين الغابة ، وفي مقدمتها الانانية والوحشية ، حتى وجدوا المسيحية امامهم ثم فرضت عليهم ، دون هضمها جيدا ، لان ملكة الادراك الحضاري كانت معدومة او ضعيفة جدا ، فارتدوا المسيحية قميصا جميلا لكنه ، بصفته قميصا ، لم يكن قادرا على تغيير ما تحته ، وهو وحشية الاوربي وانانيته والذي لم يعرف سوى ثقافة الغابة.
لقد تلامس القميص المسيحي مع الطبع الوحشي للاوربي فرايناه يخرج من الغابة وهو يرتدي القميص الجميل الذي يخفي وحش الغابة لكنه لا يسيطر عليه ! ووحش الغابة هذا ما ان قفز من الاقطاع الى الراسمالية ، والتي عبرت قوانينها عن اذكى اشكال الوحشية لانها طورت اليات قتل بطيء للانسان ، حتى وجد في الانجازات التكنولوجية والعلمية اسلحة جبارة يستطيع بها تحقيق مالم يستطع اباطرة الغرب الدمويين ، ومثالهم كاليغولا ، في الماضي تحقيقه من نهب شامل للاخرين ، من جهة ، وتطوير اساليب القهر لهم بامتلاك اسلحة دمار شامل تستطيع انهاء الصراعات لصالحه بسرعة بعد ان يتمكن من ابادة العدو بسرعة هائلة ، من جهة ثانية .
ان الفرق الجوهري بين الاوربي ، وامتداده المسخ الامريكي ، هو ان الامي الشرقي يعرف التقاليد ويتقيد بها لانه يرثها من اسرة وقبيلة ومجتمع شديد التماسك وقديم التطور، عمره اكثر من اربعة الاف عام على الاقل ، بعكس المثقف الاوربي ، ومسخه المثقف الامريكي، اللذان مهما تعلما وتثقفا يبقيان اسرى الطبع الوحشي والاناني، لانهما لم يخرجا من الغابة الا قبل بضعة مئات من السنين . لذلك وفي ضوء هذه الحقيقة نفهم لم يبدو الايمان المسيحي الغربي ضحلا وسطحيا ويساعد على الانتقال من دين الى اخر، ومن فكر الى نقيضه ، ولم كانت البراغماتية ، والتي هي افضل تعبير عن ثقافة انسان الغاب الذي يعد ذاته الفردية مركز الكون والقيم ، هي الفلسفة الطاغية على سلوك النخب الغربية ، ولم يتصرف الغربي بطريقة وحشية تتناقض مع ديانته المسيحية بسهولة لا نجدها في الايمان الاسلامي والمسيحي في الوطن العربي .
الحضارة والمدنية : ما الفرق ؟
ما معنى هذا على صعيد التطور الانساني ؟ يمكن التاكيد على ان شعوب الشرق، ومن ثم ديانات الشرق ، كانت بيئة اول الحضارات الانسانية ، فالعراق ومصر والصين والهند شهدت ولادة الحضارات حينما كانت اوربا عبارة عن غابة وحشية تماما ، تعيش فيها وحوش تنتمي الى مختلف المخلوقات بما فيها المخلوق الذي نسميه الانسان . فاوربا لم تعرف معنى التحضر او التمييز النوعي الحقيقي بين الانسان وبقية الحيوانات حتى هذه اللحظة ، والدليل الساطع هو ارتداد اوربا عن موقفها المرن والمعتدل الذي تبنته اثناء الحرب الباردة ، وتحولها الى اداة امريكية ضد الشعوب، كما حصل في العراق ، منذ فرض الحصار وحتى غزوه بدعم اوربي فعلي ، وبغض النظر عن النقد الذي قامت به اوساط اوربية للسياسة الامريكية من منطلقات لا صلة لها بالقيم الانسانية والاخلاقية والقانونية .
ان سكوت اوربا على جرائم الابادة والتدمير المنظم للعراق ، والاغتصاب الجنسي للنساء والرجال والاطفال وتدمير مدنا كاملة وتحويل سكانها الى لاجئين ، لم يحرك الضمير الاوربي ابدا ! اكثر من ذلك اعترفت اوربا بنتائج غزو العراق وقدمت العون الكامل لامريكا للبقاء فيه استخباريا وعسكريا ودبلوماسيا وتدريبيا وماليا ، وساهمت في تعذيب الاسرى لدى امريكا بتوفير مكان لها في دول اوربية وبعلم الاتحاد الاوربي مسبقا ! لكن اوربا هذه ، وقبل امريكا وبأمر من امريكا ، تهدد سوريا بشن الحرب عليها بتهمة الارهاب ووتهمة قتل الحريري وتهمة عدم تنفيذ القرارات الدولية ، وهي تهم لم يقدم دليل واحد عليها ! وتنطوي هذه الحقيقة العيانية على معنى بارز وهو ان حضارة اوربا ليست سوى قميص شفاف لا يؤثر على الطبيعة الوحشية والانانية لها .
وهنا يجب ان نوضح ما نقصد. ان الحضارة هي الارتقاء في السلوك الانساني فوق الوحشية والانانية وايجاد ضوابط صارمة للسيطرة على الانانية وتقليص مساحة تاثيرها ، وتغليب الغيرية في المجتمع من خلال التربية الاجتماعية والعائلية ، وبلورة قيم عليا يتعلمها الطفل عند ولادته تحقر الانانية وتمجد الغيرية ، وتربط الانانية بالشر والشيطان والغيرية بالله وانبيائه . وهكذا نجد ان التحضر هو القدرة على تجاوز الانانية وتقليص مساحتها وتحقير قيمها ، مقابل الوحشية التي تمجد الانانية والفردية ، وهما ابرز مصادر ومظاهر قوانين التمدن في ظل التقدم العلمي التكنولوجي ، في مجتمعات لم تعرف معنى الحضارة والتحضر بل عبرت من الوحشية الى التمدن دون المرور بالحضارة .
وهنا يجب ان ننبه الى ان هذه المقولة قد قيلت عن امريكا قبل عقود وقائلها مفكر اوربي ، ولكننا الان، نرى اوربا ترتد عن نهج التعقل الذي اتبعته اثناء الحرب الباردة ، وجعلها تبدو مختلفة مع مواقف امريكا وقريبة من العالم الثالث ، وتسير خلف امريكا بتضامن كامل ، من حيث الجوهر، مع خطط واعمال امريكا الاجرامية ، خصوصا في العراق وفلسطين . لقد ارتدت اوربا عن مواقف سابقة ميزتها عن امريكا وعادت الى عقلية وممارسات الاستعمار الانانية المتطرفة ، لان العاملين الرادعين لها ، وهما وجود قوة عظمى كانت تهدد الغرب كله ، وهو الاتحاد السوفيتي ، ووجود حركات تحرر ، اجبراها على التظاهر بالمرونة والتعقل . اما بعد زوال الاتحاد السوفيتي واضعاف حركات التحرر فان اوربا قد عادت الى عقلية وممارسات عهد الاستعمار الاوربي ، وهذا بالضبط هو اهم تجل للافتقار الى عامل التحضر، المتجسد بوجود قيم اخلاقية وانسانية لا تسمح للانسان ان يكون قردا يرقص على انغام المنتصرين . ان اوربا تخضع الان لعامل التوحش والانانية بعد ان تحررت من عقدة الردع المقابل ، وغدا حينما سيعود الردع المقابل ستعود اوربا متملقة وترقص على انغام المنتصرين الجدد .
لذلك لا مفر من التاكيد القوي على ان اوربا ايضا ، وليس امريكا فقط ، لم تمر بالحضارة
بل قفزت للمدنية من قبر الوحشية وهي تحمل جيفه ودوده ، وان كانت اقل وحشية من امريكا من الناحية الدرجية وليس النوعية . ان انتهازية اوربا في تعاملها مع العالم خصوصا مع العرب تثبت انها لا تملك حضارة لان من اهم سمات التحضر احترام الكلمة والتمسك بالمبادئ بغض النظر عن المصلحة الحيوانية ، اما التقلب طبقا للتيارات السائدة فهي من سمات المرحلة الحيوانية من التطور .
وبهذا المعنى فان المدنية تتميز بوجود تقدم علمي تكنولوجي كبيرين دون ان يقترن ذلك بتقدم قيمي انساني . والقاعدة المتحكمة في المجتمع المتمدن هي القوانين والضوابط الادارية الموضوعة لتهذيب الانانية ولضمان سير الانتاج بصورة مربحة ومنتجة . ولهذا لا يهتم هذا المجتمع بضحايا الاستغلال ويعد الانسان مجرد مسمار في الة الانتاج . وفي حالة الاهتمام بالضحايا ، كما هو الحال في نظام المعونة الاجتماعية في بعض بلدان اوربا، فان هذا النظام ليس سوى احد اهم متطلبات ضمان سيرورة العمل وازالة عوامل الاضطراب في المجتمع ، وليست ثمرة وجود ضمير او التعاطف الانساني اومفاهيم العدالة الاجتماعية .
وكما ان الاستقرار والنظام والصحة الجيدة في المعمل هي من اهم شروط الانتاج الجيد ، تماما مثلما ان تزييت وصيانة اجزاء الالة ضرورة لبقاءها تعمل ، فان استقرار المجتمع والحد من عوامل انتاج الجريمة وعدم الاستقرار فيه ، كالفقر الحاد والمرض والامية ، ضرورة عملية وليس حتمية حضارية (اخلاقية او انسانية) . ان اعظم المصادر الحديثة لايقاظ الوحشية الغربية وتنميتها هو النظام الراسمالي الذي تقوم قوانينه ومحركاته الاساسية على اطلاق النوازع الفردية والانانية وتشجيعها وعدها غريزية ولا جدوى من محاولة ضبطها او التحكم في تجلياتها السلوكية العامة ، كالفساد والجريمة والعدوان …الخ والتي تعدها الراسمالية جزء طبيعيا من الطبع الانساني ، وبالتبعية جزء اساسيا من الحقائق الاجتماعية التي يجب تقييدها وليس ازالتها .
ما تأثير ذلك على الايمان الديني ؟ طبقا لما اوردناه فاننا حينما نقول حضارة لا نقصد التمدن، بل نقصد الارتقاء الانساني فوق الحيوانية . فالمدنية هي انجازات مادية علمية تكنولوجية تقترن بقواعد سلوك تحكمها الاوامر ونظم العقوبات وتقاليد العمل ، وليس تربية اجتماعية متوارثة لعدة الاف من السنين . ان العامل في معمل سيارات ، مثلا في ديترويت في الولايات المتحدة الامريكية ، عليه ان يتعلم الانضباط وفق الجدول الزمني في الحضور وانجاز عمله . كما ان عليه ان يتعلم كيفية اداء عمله ضمن الضوابط الفنية الصارمة ، وان تكون صحته جيدة ليواصل العمل دون توقف ، والا وجد نفسه عاطلا يهدده الموت . وفي المجتمع عليه ان يحدد سكنه وعلاقاته ومواضيع اهتمامه طبقا لنوعية عمله . اما قيمه الاجتماعية والاخلاقية فتفرضها ظروف العمل . وهكذا نجد منظومة قيم وضوابط عامة تتشكل بسرعة تلبية لاحتياجات العمل او علاقات العمل او مصالح العمل ، وليس استجابة لتعاليم دين او احتراما لقيم عليا .
واذا اردنا تحديد درجة تأثير هذه القيم بامكاننا ان نؤكد انها تعليمات مكتوبة على جلد الاوربي او الامريكي كالوشم ، ولاتصل الى عمق روحه ، وهو يتقيد بها ليس لانه مؤمن بها بل لانها ضمانة حصوله على مصدر عيش وانسجام مع بيئة العيش . فاذا ربطنا ذلك بعدم مرور اوربا باي حضارة واقتصار انجازاتها على الابداع المدني ، نتيقن ان الاوربي وامتداده السرطاني المسخ الامريكي ، لا تحكمه ضوابط اخلاقية سامية او قيم عليا ، سواء كانت دينية او دنيوية ، بل هو اسير القانون الوضعي والمواضعات والضوابط البراغماتية الصرفة . ولكي نكون منصفين يجب ان نشير الى ان اوربا قد تفاعلت لفترة محدودة مع الحضارة التي اخذتها من اليونان بواسطة العرب ، لكنها بدل ان تجعل منها مدخلا للتحضر حولتها الى قوة جبارة للابداع المدني غير المقترن بتقدم انساني ، فتضاءلت قيم التحضر وسادت فيها قيم التمدن ، والتي تجعل انسان النخب الحاكمة نظيفا من الخارج لكنه اصبح اكثر قذارة من الداخل نتيجة قوانين النظام الراسمالي ، القائمة على شرعنة النهب ، و بتأثير ما قدمته المدنية من انجازات تكنولوجية وعلوم وطب توسع نطاق انانيته وجرائمه وتحسنت صحته .
لقد طمرت الراسمالية ، لسوء حظ الانسانية المعذبة نتيجة وحشية الغرب ، كل التاثيرات الحضارية اليونانية والعربية ، وفرضت قيم انانية حيوانية بشعة جعلت الاوربي اشرس مخلوق ظهر على وجه الارض واكثرها حيوانية ، لان القانون الاساس للراسمالية هو تحقيق الربح بطرق الاغتيال البطيء للبشر ، وهو الاستغلال . وبتزاوج اعظم الانجازات المدنية ، اي العلوم والتكنولوجيا ، مع اكثر اشكال الوحشية قسوة وانانية المنحدرة من بدائية التكون الاوربي ، ظهر الغرب الاستعماري المتجرد من أي قيم انسانية سامية والخاضع للانانية المفرطة . والمسيحية تقع وسط معمعة الجذور الانانية الحيوانية للانسان والطبيعة الوحشية للراسمالية . لذلك وجدنا انها تتحول من ديانة انسانية توحيدية شعارها الأساس هو المحبة والتاخي الانساني الى ديانة استغلت ، اولا، لتغطية لصوصية الاقطاع وتطلعاته للغزو الخارجي ، ثم استغلتها ، ثانيا ، الراسمالية لتبرير الغزوات الاستعمارية .
لقد وجد النداء التوسعي تجاوبا من قبل الاغلبية في اوربا وامريكا لان قيم الحضارة الانسانية معدومة او ضعيفة جدا في الغرب بحيث لا تؤثر على مسار السلوك الانساني ، ولم يحرك الاوربي او الامريكي سوى الدافع الاناني المقترن بتقدم مدني مذهل جعل الوحشية الغربية تمتلك اقوى اساليب القهر والابادة والتضليل الجماعي ، خصوصا من خلال الاعلام الجماهيري ، الذي يعد ، من حيث التاثير ، الرب الثاني للغرب بعد الرب الاول وهو الدولار ، بعد ان اصبح الاعلام الكترونيا في مرحلتي التلفزيون والانترنيت .
حرية راي ام نزعة حيوانية ؟
في ضوء ما تقدم ، كيف يجب ان نفهم وقاحة الاعلام الدنماركي بشكل خاص والاوربي بشكل عام ، والمتجسدة في رسوم الكاريكتير التي تسخر من نبينا العظيم ؟ ان اول ما يجب الانتباه اليه هو ان التهجمات والإساءات لنا ولنبينا ليس مصدرها ايمان مسيحي بل نزعات حيوانية انانية لنوع من المخلوقات الخاضعة لاحط واقدم اشكال الانانية الحيوانية . ما هو الدليل ؟ لو كان الايمان المسيحي هو الدافع لتمسك هؤلاء بالمسيحية وقيمها، لكنهم ليسوا كذلك فهم كانوا ، ومازالوا ، يسخرون من السيد المسيح عليه السلام قبل ان يتجرؤوا على نبينا ، بل انهم وصلوا في وقاحتهم وإلحادهم حد انهم اتهموا السيد المسيح بالشذوذ الجنسي ، في فيلم سينمي مشهور اثار ضجة خمدت بعد فترة وكأن شيئا لم يكن ! اضافة لذلك فان التحلل والشذوذ الجنسيين واقرار الزواج المثلي يتعارضان جذريا مع تعاليم سيدنا المسيح عليه السلام ومع تعاليم الكنيسة .
ولادراك معنى هذا الوضع الغريب يجب ان نذكر بان قسما من الحيوانات ، بما فيها الدنيا الاقل تطورا ، لا تعرف الشذوذ وتأنف من ممارسته ، ناهيك عن حقيقة ان الحيوانات العليا يخضع قسم كبير منها لوحدانية الشريك . وقد اكتشف العلماء ان الغوريلا لايضاجع حتى من تربت معه دون وجود صلة رحم معها . وفق هذا المعيار يبدو ان الاوربي ، خصوصا الاوربي الاسكندنافي ، اشد حيوانية وتخلفا من هذه الحيوانات في سلم التطور ، لان اسكندنافيا موطن اشد انواع الشذوذ الجنسي والاجتماعي واكثرها تناقضا مع تعاليم السيد المسيح .
لماذا ؟ ان الاوربيين بشكل عام ، والاسكندنافيين بشكل خاص ، لم يعرفوا التحضر حتى الان وخرجوا من الغابة الى المدنية مباشرة ، فاجبرتهم الحاجات والقوانين الراسمالية على تنظيم حياتهم على نحو عقلاني وعملي صرف . لذلك بقي الحيوان البدائي كامل القوة والتاثير فيهم مختبئا تحت جلودهم مباشرة ، ويخرج عند اول فرصة تتاح له . ان ما يقيد الاوربي ويحركه هو مصلحته الانانية الفردية ، وليس القيم العليا سواء كانت دينية او دنيوية ، وهي لذلك مصلحة تتلاءم مع متطلبات وقوانين الغريزة ، وفي مقدمتها قانون الاشباع التام لما يرغب به الانسان ، دون التفات للقيم العامة ، باسم الحرية الفردية واحترام الخصوصية .
وهذا الانسان ، وبهذه المواصفات ، وجد نفسه متقدما مدنيا واقتصاديا مقارنة بالانسان الاخر الشرقي ، المتقدم حضاريا ولكن المتخلف علميا وتكنولوجيا ، فحصل نفس ما حصل للهندي الاحمر مع المهاجر الاوربي الى امريكا الشمالية ، حيث اعتبره حيوانا ادنى من الانسان لذلك استباحه بالابادة والاستعباد . وطبعا تنسحب هذه النظرة على قيم الانسان الضحية ، الخاضع لقوة منتجات المدنية الاوربية ، فديانته ليست سوى (ابتداع محمدي) لا صلة له بالله ، كما تقول اوساط اوربية ويهودية ، ومن ثم يمكن اهانة ونهب المسلمين واستعبادهم كما نهب الاوربيون الهندي الاحمر وابادوه ، وكما استعبدوا الانسان الاسود !
وحينما تمتزج الرشوة المالية ، باي صيغة قدمت ، مع النظرة الاستعلائية المبنية على التفوق العرقي ، المسوق بغطاء التفوق المدني، تنتج نظرة تحقيرية لكل ما يتصل بالاخر المسلم ، وهذا بالضبط هو الذي جعل الصحيفة الدنماركية تتجرأ من حيث الاستعداد على نبينا الكريم . اما السبب المباشر لنشر الرسوم فهو يتعلق بما يظن اصحاب المدنية انه حقهم، وهو استغلال فرصة انفراد الغربيين بالعالم وعدم وجود رادع لهم عند القضاء على الاخر واكمال نهبه واستعباده . فالاخر ثروة مشاعة ليس ثمة من يدافع عنها ، وان وجد المدافع فانه ، بحكم تخلفه المدني ، أي العلمي – التكنولوجي ، لا يستطيع ان يهزم الغرب المتقدم علميا وتكنولوجيا والمتفوق ماليا .
ان نشر الرسوم يأتي في نفس اطار تلفيق احداث 11 – سبتمبر عام 2001 في امريكا ، وفي نفس سياق اعداد العراق للحرب الاهلية ، بقيام عملاء ايران بتنفيذ خطة امريكا المعدة، في حال فشل الغزو بفضل المقاومة العراقية ، وهي اشعال حرب اهلية في العراق عن طريق تفجير مرقد الامام الهادي عليه السلام . ان المطلوب هو اشعال الفتن والازمات مادام الانسان الغربي متفوقا ماديا ، لاجل استغلالها لمد سيطرته وتوسيع نطاق نهبه ولصوصيته . انها الراسمالية وهي تكشف عن أقبح ما فيها وكانت تخفيه في السابق ، وهي نفسها التي وصفت الدين ك(افيون للشعوب). لذلك لا يجوز ان نقع في الفخ الامريكي باعتقادنا ان الاساءة لرسولنا المصطفى نابعة من موقف مسيحي لانها ، اولا واخيرا ، نابعة من ، وخادمة لهدف استعماري صرف لمخلوقات لا ديانة لها سوى عبادة الدولار .
يجب ان نتجنب أي صراع على اساس ديني وان نقتنع ان هجمة الغرب الصليبية علينا مبعثها اقتصادي امبريالي توسعي ، حتى وان استخدمت المسيحية غطاء لها. ان من يزني ويسرق ، وينتهك المحرمات المسيحية ، الزواج المثلي مثلا ، ويصنع الحروب العدوانية لا ينتمي للمسيحية الحقيقية ، بل هو من حزب الشيطان دون ادنى شك . ان علينا ان نميز الخنادق وان لا نسمح بتداخلها ، لان ذلك هو اهم تكتيكات امريكا واسرائيل وايران وهي القوى المتحالفة ، موضوعيا او ذاتيا او كلاهما ، وتمثل اشد اعداء العرب والمسلمين خطورة.
salahalmukhtar@hotmail.com
مطلع اذار 2006
ملاحظة : لقد استخدمت تعبير (قبر هنتنغتون) مرارا، رغم انه لم يمت بعد، والسبب هو ان نظريته ليست سوى مقبرة اعدت خصيصا لانتاج الموت والغزو والدمار، لذلك يمكن نبشها للعثور على ما تحويه من جراثيم الموت.
شبكة البصرة
الثلاثاء 6 صفر 1427 / 7 آذار 2006
يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس