المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أزمة حرية التعبير في أوربا من خلال إريفنج وليفنجستون



منصور بالله
04-03-2006, 12:13 PM
أزمة حرية التعبير في أوربا من خلال إريفنج وليفنجستون

«يا إلهي.. اعطني الحرية أو الموت».. الوطني الأميركي: باتريك هنري.
عجيبة هي الأحداث.. وعجيب تناغمها الزمني!!.. فلم تكد قضية (قداسة حرية التعبير) تتفجر في أوربا، حتى انثالت ـ في الوقت ذاته ـ وقائع تثبت أن حرية التعبير ـ على جلالها وأهميتها ـ ليست في تلك الصورة (الطوباوية) التي صورت بها، وعلى نحو يجعل قداستها تفويضا مطلقا بالاساءة للآخرين.

وهذه الوقائع لم تتناغم زمنيا فحسب، بل اتحدت ايقاعاتها الموضوعية والتطبيقية كذلك، وفي المجال نفسه. ففي حين فُلسف العدوان على قيم قوم: باسم حرية التعبير، (كبتت) الحرية ذاتها عندما صورّت بأنها اساءة لقوم آخرين.

ولنثبت الوقائع أولا.. ثم نقفي عليها بالنظر والتحليل والتقويم.. ونختار من الوقائع اثنتين:

1 ـ الحكم على المؤرخ البريطاني ديفيد إريفنج ـ منذ أيام ـ بتهمة أنه نفى محرقة اليهود (الهلوكوست) في العهد النازي. فقد حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات في النمسا.

2 ـ الواقعة الثانية ـ التي حدثت متزامنة مع سابقتها ـ هي: ايقاف عمدة لندن: كين ليفنجستون عن العمل لمدة شهر بتهمة سب صحافي يهودي أو تشبيهه بأنه كأحد حراس معسكرات الاعتقال النازية.

ويلحظ: أن الوقائع تختص باليهود.

وبين يدي التحليل والتقويم: نود أن نثبت سطورا من منهجنا في هذا المقام.. فنحن المسلمين يسرنا انصاف اليهود المظلومين والدفاع عنهم، وذلك في سياق محبة العدل والانصاف للناس كافة.. وبالنسبة لليهود:

أ ـ أنصف القرآن قوما أمناء عدولا من اليهود إذ شهد لهم بالأمانة: «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده اليك».. فهذه الآية نزلت في (أمناء) اليهود.. وهذا انصاف أدبي قاطع وسمح وأمين وجميل: مجرد من العنصرية والتعصب العرقي والديني.

ب ـ ودافع القرآن عن يهودي مظلوم في المدينة، إذ اتهم ـ بهتانا ـ بأنه سرق، ولم يك بسارق، بل كان السارق مسلما!!.. ولأجل رفع الشبهة والتهمة، وتبرئة اليهودي المتهم بالزور ووصم متهميه بالخيانة والاثم والبهتان، لأجل ذلك: تنزلت 9 آيات بينات في سورة النساء: «إنا أنزلنا الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما آراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. واستغفر الله ان الله كان غفورا رحيما. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ان الله لا يحب من كان خوانا أثيما. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا. ها أنتم جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا. ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما. ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما. ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا. ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما».

بخ.. بخ للانصاف لكل انسان.. وليحيا العدل لليهود وغير اليهود.. لكن السؤال العادل الواجب هو: لماذا يتحرك العالم كله من أجل انصاف اليهود وحدهم؟.. لماذا تكبت (حرية التعبير) إذا مسَّت شيئا يهوديا؟.. وتقدس اذا غدت اساءة للأغيار؟.. أليس هذا (التمييز) ظلما من الظلم؟.. ونفاقا من النفاق؟.. وابتذالا شنيعا لحرية التعبير نفسها؟.. مثلا: في مجال حقوق الانسان: حق الحياة مكفول لكل إنسان، فإذا حفظ حق الحياة لإنسان في حين أهدر هذا الحق نفسه لإنسان آخر، فإن مصطلح حقوق الإنسان يبتذل ويفقد معناه واحترامه وطعمه ومكانته وهيبته.. وكذلك الحال في مجال حق حرية التعبير. فإنه يسقط ـ موضوعا وشكلا ـ: إذا اعتراه التمييز الهواوي الظلوم المتخلف الموغل في العنصرية.

ماذا فعل ديفيد اريفنج حتى يسجن؟.. لم يسرق.. ولم يتهرب من الضرائب.. ولم يخن بلده.. كل ما فعله: انه قال بحكم تخصصه ـ اذ هو مؤرخ معروف ـ: إن المحرقة لم تكن موجودة بالصورة المرسومة في بعض المراجع، وفي الادبيات السياسية والثقافية والاعلانية.. قال ذلك عام 1989.. وبعد عامين عدّل رأيه بعد الاطلاع على ملفات جديدة، أو بضغوط هائلة تعرض لها، أو بمقتضى العاملين معا.. ماذا في الانكار بإطلاق، أو في اسقاط المبالغة في المسألة؟.. انه (مجرد رأي) أو (مجرد حرية تعبير).. ولكنه (سجن) لأنه (مارس حرية التعبير).. وأين؟.. في أوربا نفسها!!
والمفهوم المخيف في القضية هو: إباحة حرية تعبير الاساءة للآخرين في ذات الوقت الذي تصادر فيه (حرية البحث العلمي).. ولقد دافع اريفنج عن نفسه أمام المحكمة فقال: «ان التهمة الموجهة اليّ تعني مصادرة حقي العلمي في حرية التعبير».

والمخيف أيضا: ان هذه حالة تعيد أو ترد الناس الى حالات غابرة: شقي الناس فيها بكبت حرية البحث العلمي.. فمن المتعارف عليه علميا ومنهجيا: ان العالم ـ في أي حقل ـ ينبغي ان يتمتع بصفات تلازمه أبدا، ومنها: الاستقلال.. والحياد.. والتجرد من الأهواء.. والنزعة النقدية.. ولنضرب للصفة الأخيرة ـ أي النزعة النقدية ـ مثلا..

فالعالم أو الباحث يتوجب عليه أن يخضع المسلّمات السائدة التي لا يسندها دليل معتبر. ان يخضعها للمناقشة والنقد: ابتغاء تمحيصها، فيثبت منها ما قام عليه البرهان، ويسقط ما لا برهان عليه، حتى وإن أطبق الناس على التسليم به، ولذلك يقول ديكارت: «ان معظم العلوم ليست علوما بالمعنى الدقيق فهي مبنية في كثير من الأحوال على مسلّمات خاطئة ولذلك امتلأ العالم بالجهل، ولا سبيل الى اصلاح ذلك الا باخضاع المسلمات الشائعة للتمحيص والنقد».. وهذا ما فعله السجين المسكين ديفيد اريفنج. ونحن نقول: إن الحرية ليست خطرا على المعرفة والصواب، بل هي طريق اليهما. وإنما الحرية خطر على الدجل والخرافة والجهل والبهتان.. ونعما الخطر هي!!.

أما الواقعة الثانية فهي ايقاف عمدة لندن عن العمل لمدة شهر بتهمة تشبيه صحافي يهودي بأحد حراس معسكرات الاعتقال النازي.. ونحن مع صون كرامة كل إنسان من الهمز واللمز، وضد ميولات (التنابز بالالقاب). فليس من الخلق، ولا احترام الإنسان: استعمال هذا النوع من الأساليب. بيد أن عمدة لندن لم يقذف الصحافي اليهودي بقنبلة، وإنما تلفظ بلسانه ـ فحسب ـ تجاهه.. ومع ذلك مادت الأرض من تحت أقدام العمدة حيث تقدم مجلس زعماء الطائفة اليهودية في لندن بشكوى ضد العمدة، وقررت لجنة قضائية بريطانية ايقافه عن العمل. وقال رئيس هذه اللجنة: «إنه أصدر قرار الإيقاف عن العمل بسبب رفض عمدة لندن كين ليفنجستون الاعتذار عن تصريحاته».. وفي دفاعه عن موقفه قال العمدة: «إنه كان يعبر عن رأيه السياسي لا أكثر».

وهذه الواقعة تثبت: ان (حرية التعبير) يجب ان تكون مقيدة بحقوق الآخرين وقيمهم.. وتثبت أن قوانين أوربا تعاقب من يسيء استخدام حرية التعبير.. وتثبت ان الاعتذار مطلوب حين تقع الاساءة، ولذلك قال رئيس مجلس زعماء الطائفة اليهودية في لندن ادريان كوهين: «ان اعتذارا بسيطا كان يمكن ان يصلح المسألة».. كما قال رئيس اللجنة القضائية التي دانت ليفنجستون: «ان قرار الايقاف عن العمل صدر بسبب رفض ليفنجستون الاعتذار عن تصريحاته».

في ضوء ذلك كله: أليس من الكذب السافر، والنفاق الكامل، والظلم البواح: أن يقال لنا، بل يحاولون اقناعنا بأن (حرية التعبير) مطلقة، وان القوانين لا تقيدها، وأن الاعتذار عن سوء استعمالها أمر غير وارد، بل مستهجن؟!

لقد اتهم المؤرخ البريطاني ديفيد اريفنج بأنه (مزور تاريخ). أليس من (تزوير الواقع): نفي (عودة محاكم التفتيش) الى أوربا فيما يتعلق بـ (عصمة الهلوكوست) من التناول والبحث والنقد؟

ما هي وظائف محاكم التفتيش الغابرة؟

هي حماية (مسلّمات وهمية)، أي من اختراع رجال دين: لم تنزل من السماء، ولم يعتمدها السيد المسيح عليه السلام.. ومن هذه المسلّمات الوهمية:

أ ـ «ان تكريس الجهد لدراسة الظواهر الطبيعية بدلا من العكوف على دراسة تعاليم السماء: سلوك مفسد للقوى العقلية».

ب ـ «احتكار الحقيقة في الكونيات».

ج ـ «ان الفلسفة قد اكتملت ولم يعد هناك شيء آخر تمكن معرفته».

وحين ضبط العالم الانجليزي الكبير: روجرز بيكون متلبسا بمناقشة هذه المسلمات: طورد واضطهد وسجن 15 عاما ولم يطلق سراحه الا وقد بلغ الثمانين عاما، ولم يكن الرجل ملحدا، وانما اضطهد لأنه رفض ـ مثلا ـ الاقتناع بمقولة: ان الفلسفة قد اكتملت.

وفي أوربا اليوم محاكم تفتيش جديدة تحظر البحث في الهلوكوست وتمحيص وقائعه بمقياس المنهج العلمي الحر.. ومن ضبط متلبسا بهذا المحظور: شوه وحوكم وسجن.. وكأن الزمن الفاصل بين القرن الثالث عشر والقرن الحادي والعشرين قد ألغي!
ومع ذلك يريدون إكراهنا على الاقتناع بأن (حرية التعبير) مصونة مقدسة لا تمس حتى وان غدت أداة اساءة طويلة المدى لما يقرب من ربع سكان الكوكب الأرضي من البشر.

فعلى أي قاعدة عقلية، وعلى أي اصل علمي منهجي، وعلى أي ركيزة اخلاقية، وعلى أي اساس عدلي، يقوم هذا الموقف او السلوك المتناهي في الاضطراب، بل المتناهي في التناقض؟

ولا يتناقض سلوك إلا بقدر ما فيه من هوى باطل وظلم.