منصور بالله
22-02-2006, 07:52 PM
بوش بونابرت.. هزيمة المنتصر
فيصل جلول
يفصح المشهد الأمريكي في العراق عن كوارث بدأت أوصافها تخرج من أفواه في الكونجرس منسوبة إلى الحزبين الجمهوري والديمقراطي بعد أن بلغت حجما يفيض عن قدرة جورج بوش ومساعديه على التلاعب بالوقائع والتبشير بنهايات سعيدة للاحتلال. بل يمكن القول إن الإيجابيات التي كان دونالد رامسفيلد يتهم وسائل الإعلام بحجبها باتت خرافة باهظة الكلفة بحسب تقرير أمريكي حول العراق استمع إليه أعضاء الكونجرس في أوائل فبراير/ شباط الجاري ولهذا التقرير قصة جديرة بأن تروى.
عين الكونجرس الأمريكي نهاية العام 2004 المفتش ستيورات بوين لمراقبة مشاريع إعادة الإعمار التي تتولاها الولايات المتحدة في العراق وللوقوف على تأثير العملية السياسية في الأمن والاستقرار في هذا البلد، وأيضا ولعله الأهم، لمعرفة كيفية إنفاق أموال الحرب وتأثيرها في الأوضاع العراقية.
بعد دراسة مستفيضة لأكثر من عام خرج المفتش المذكور بأرقام مذهلة لم تتوقف عندها كثيرا وسائل الإعلام العربية إذ يؤكد: في العام 2003 قررت إدارة الاحتلال تنفيذ 136 مشروع مياه صالحة للشرب نفذ منها 49 مشروعا فقط وأهمل الباقي ما يعني أن ثلث السكان يستطيع الإفادة من مياه الشفة أي حوالي 8 ملايين نسمة مقابل نصف عدد السكان في عهد الرئيس السابق صدام حسين. وفي مجال الكهرباء تم إنتاج 2200 ميجاوات بدلا من 3400 بحسب الخطة الأصلية ما يعني أن الإنتاج أقل مما كان عليه قبل الاحتلال وبالتالي صارت بغداد تستفيد من حوالي 3 ساعات كهرباء يوميا مقابل 16 إلى 24 ساعة في عهد صدام. في السياق نفسه أدى تدهور البنية التحتية إلى انخفاض عدد السكان الذين يستخدمون المصارف الصحية من ستة ملايين ونصف المليون في العهد السابق إلى حوالي خمسة ملايين في العهد الأمريكي. وفي مجال الطاقة بلغ إنتاج النفط قبل الاحتلال حوالي مليونين و580 ألف برميل في اليوم ويصل اليوم إلى حوالي مليون و700 ألف برميل. في المجال الامني تنفق إدارة الاحتلال من 20 إلى 50 في المائة من موازنة العراق على الإجراءات الأمنية ومع ذلك يرى التقرير أن 138 ألف جندي أمريكي لا يمكنهم أن يوفروا الأمن في هذا البلد وأن 227 ألف جندي عراقي لن يكون حظهم أفضل ولو كانوا أكثر خبرة وتدريبا. ويستنتج التقرير: لا الانتخابات ولا الدستور ولا الحكومة قادرة على حل المشكلات العراقية في ظروف الصراع الراهنة. وهذا الاستنتاج مطابق لما ذهب إليه صندوق النقد الدولي العام الماضي والذي أضاف أن المقاومة العراقية ردعت الاستثمارات وحطمت التجارة في ظل الاحتلال.
ويختم بوين تقريره بالقول إن الفشل الأمريكي في فرض الأمن في العراق أنهك الاقتصاد وأدى إلى زيادة ميزانية الحرب التي كانت مقدرة عام 2003 بين 50 إلى 60 مليار دولار بينما بلغت النفقات الأمريكية حتى الآن 251 مليار دولار. وإذا قررت واشنطن إبقاء قواتها 5 سنوات أخرى فإنها ستكلف بين 200 إلى 270 مليار دولار حتى لو كانت أقل عددا. وإذا ما أضيفت تكاليف معالجة الجرحى واستبدال المعدات العسكرية التالفة أو المستهلكة يمكن لفاتورة الاحتلال أن تصل إلى 1200 مليار دولار ويتعدى هذا الرقم ميزانية كل دول القارة الإفريقية سنويا بل ربما القسم الأكبر من الدول المنتمية إلى الأمم المتحدة.
الراجح أن أرقام الكارثة الأمريكية لن تقف عند هذا الحد فيما لو شمل تقرير المفتش ستيوارت بوين الأضرار الأهم الناجمة عن غزو العراق وفي مقدمتها التراجع الملحوظ في قدرة الغرب الردعية على الصعيد العالمي. فقد فشل في التصدي للمشروع النووي الكوري ويكاد يفقد ماء الوجه في مواجهة المشروع النووي الإيراني وتتكاثر خسائر واشنطن في أمريكا اللاتينية التي تشهد هزائم بالجملة لحلفاء البيت البيض في الاستحقاقات الانتخابية المتتالية ولعل هذا ما فتح شهية روسيا على استعادة نفوذها في الشرق الأوسط ناهيك عن شعور الرئيس الفرنسي جاك شيراك بخطر مكبوت حمله على التذكير بأن بلاده تملك السلاح النووي وأنها مستعدة لاستخدامه في مواجهة الإرهاب أو إذا ما تعذر وصول الإمدادات الحيوية إلى أوروبا.
وقد يفسر الاحساس بتراجع قوة الغرب الردعية جزئيا على الأقل الى اتساع موجة التمرد الإسلامي العالمية على الرسوم المسيئة للرسول العربي واضطرار العديد من العواصم الأوروبية إلى اعتماد مواقف مرنة والبحث عن حلول توافقية بدلا من عقاب الدول التي حرقت فيها سفارات غربية.
تستدعي قراءة منصفة لتقرير ستيورات بوين القول إن جورج بوش بات أسير انتصاره في حرب العراق ويبدو اليوم أشبه بنابليون بونابرت الذي احتل القاهرة خلال ساعتين أواخر القرن الثامن عشر لكنه ما لبث أن أصبح مطوقا في مصر بعد انهيار أسطوله الحربي في معركة أبي قير وفشله في اختراق أسوار عكا وفي السيطرة على مقاومة المصريين فكان أن غادر مصر خفية وفشلت حملته العسكرية بعد اغتيال قائدها الجنرال كليبر واضطر جنوده للعودة إلى بلادهم على متن البواخر البريطانية.
لا أدري إن كان جورج بوش مولعا بالمدونات التاريخية ويعرف بالتالي دروس الحملة الفرنسية على مصر ذلك أن الإمبراطور الفرنسي المحاصر حاول دون جدوى أن يغري المصريين بالتحديث وبخطاب ديماغوجي زعم فيه أنه يحب نبيهم المصطفى أكثر من المماليك. ولعل هذا ما يكرره حرفيا جورج بوش بعد فشله في مجابهة المقاومة العراقية وإسقاط النظامين السوري والإيراني فهو يزعم أيضا أنه ما جاء بجيوشه إلا من أجل نشر الديمقراطية في بلاد الرافدين والشرق الأوسط برمته.
إذا كان من الصعب أن نرى جورج بوش يمضي أيامه الأخيرة منفيا كالإمبراطور الفرنسي في جزيرة القديسة هيلانة فإن من السهل القول قبل تقرير ستيوارت بوين وبعده أن مصير غزو العراق لن يكون أفضل من غزو مصر وأن دروس أكثر من قرنين من الزمن ضاعت سدى، أما التاريخ فهو يتكرر في الحملتين بصيغة مأساوية وهزلية في الآن معاً
***********
رائع
رائع
رائع
فيصل جلول
يفصح المشهد الأمريكي في العراق عن كوارث بدأت أوصافها تخرج من أفواه في الكونجرس منسوبة إلى الحزبين الجمهوري والديمقراطي بعد أن بلغت حجما يفيض عن قدرة جورج بوش ومساعديه على التلاعب بالوقائع والتبشير بنهايات سعيدة للاحتلال. بل يمكن القول إن الإيجابيات التي كان دونالد رامسفيلد يتهم وسائل الإعلام بحجبها باتت خرافة باهظة الكلفة بحسب تقرير أمريكي حول العراق استمع إليه أعضاء الكونجرس في أوائل فبراير/ شباط الجاري ولهذا التقرير قصة جديرة بأن تروى.
عين الكونجرس الأمريكي نهاية العام 2004 المفتش ستيورات بوين لمراقبة مشاريع إعادة الإعمار التي تتولاها الولايات المتحدة في العراق وللوقوف على تأثير العملية السياسية في الأمن والاستقرار في هذا البلد، وأيضا ولعله الأهم، لمعرفة كيفية إنفاق أموال الحرب وتأثيرها في الأوضاع العراقية.
بعد دراسة مستفيضة لأكثر من عام خرج المفتش المذكور بأرقام مذهلة لم تتوقف عندها كثيرا وسائل الإعلام العربية إذ يؤكد: في العام 2003 قررت إدارة الاحتلال تنفيذ 136 مشروع مياه صالحة للشرب نفذ منها 49 مشروعا فقط وأهمل الباقي ما يعني أن ثلث السكان يستطيع الإفادة من مياه الشفة أي حوالي 8 ملايين نسمة مقابل نصف عدد السكان في عهد الرئيس السابق صدام حسين. وفي مجال الكهرباء تم إنتاج 2200 ميجاوات بدلا من 3400 بحسب الخطة الأصلية ما يعني أن الإنتاج أقل مما كان عليه قبل الاحتلال وبالتالي صارت بغداد تستفيد من حوالي 3 ساعات كهرباء يوميا مقابل 16 إلى 24 ساعة في عهد صدام. في السياق نفسه أدى تدهور البنية التحتية إلى انخفاض عدد السكان الذين يستخدمون المصارف الصحية من ستة ملايين ونصف المليون في العهد السابق إلى حوالي خمسة ملايين في العهد الأمريكي. وفي مجال الطاقة بلغ إنتاج النفط قبل الاحتلال حوالي مليونين و580 ألف برميل في اليوم ويصل اليوم إلى حوالي مليون و700 ألف برميل. في المجال الامني تنفق إدارة الاحتلال من 20 إلى 50 في المائة من موازنة العراق على الإجراءات الأمنية ومع ذلك يرى التقرير أن 138 ألف جندي أمريكي لا يمكنهم أن يوفروا الأمن في هذا البلد وأن 227 ألف جندي عراقي لن يكون حظهم أفضل ولو كانوا أكثر خبرة وتدريبا. ويستنتج التقرير: لا الانتخابات ولا الدستور ولا الحكومة قادرة على حل المشكلات العراقية في ظروف الصراع الراهنة. وهذا الاستنتاج مطابق لما ذهب إليه صندوق النقد الدولي العام الماضي والذي أضاف أن المقاومة العراقية ردعت الاستثمارات وحطمت التجارة في ظل الاحتلال.
ويختم بوين تقريره بالقول إن الفشل الأمريكي في فرض الأمن في العراق أنهك الاقتصاد وأدى إلى زيادة ميزانية الحرب التي كانت مقدرة عام 2003 بين 50 إلى 60 مليار دولار بينما بلغت النفقات الأمريكية حتى الآن 251 مليار دولار. وإذا قررت واشنطن إبقاء قواتها 5 سنوات أخرى فإنها ستكلف بين 200 إلى 270 مليار دولار حتى لو كانت أقل عددا. وإذا ما أضيفت تكاليف معالجة الجرحى واستبدال المعدات العسكرية التالفة أو المستهلكة يمكن لفاتورة الاحتلال أن تصل إلى 1200 مليار دولار ويتعدى هذا الرقم ميزانية كل دول القارة الإفريقية سنويا بل ربما القسم الأكبر من الدول المنتمية إلى الأمم المتحدة.
الراجح أن أرقام الكارثة الأمريكية لن تقف عند هذا الحد فيما لو شمل تقرير المفتش ستيوارت بوين الأضرار الأهم الناجمة عن غزو العراق وفي مقدمتها التراجع الملحوظ في قدرة الغرب الردعية على الصعيد العالمي. فقد فشل في التصدي للمشروع النووي الكوري ويكاد يفقد ماء الوجه في مواجهة المشروع النووي الإيراني وتتكاثر خسائر واشنطن في أمريكا اللاتينية التي تشهد هزائم بالجملة لحلفاء البيت البيض في الاستحقاقات الانتخابية المتتالية ولعل هذا ما فتح شهية روسيا على استعادة نفوذها في الشرق الأوسط ناهيك عن شعور الرئيس الفرنسي جاك شيراك بخطر مكبوت حمله على التذكير بأن بلاده تملك السلاح النووي وأنها مستعدة لاستخدامه في مواجهة الإرهاب أو إذا ما تعذر وصول الإمدادات الحيوية إلى أوروبا.
وقد يفسر الاحساس بتراجع قوة الغرب الردعية جزئيا على الأقل الى اتساع موجة التمرد الإسلامي العالمية على الرسوم المسيئة للرسول العربي واضطرار العديد من العواصم الأوروبية إلى اعتماد مواقف مرنة والبحث عن حلول توافقية بدلا من عقاب الدول التي حرقت فيها سفارات غربية.
تستدعي قراءة منصفة لتقرير ستيورات بوين القول إن جورج بوش بات أسير انتصاره في حرب العراق ويبدو اليوم أشبه بنابليون بونابرت الذي احتل القاهرة خلال ساعتين أواخر القرن الثامن عشر لكنه ما لبث أن أصبح مطوقا في مصر بعد انهيار أسطوله الحربي في معركة أبي قير وفشله في اختراق أسوار عكا وفي السيطرة على مقاومة المصريين فكان أن غادر مصر خفية وفشلت حملته العسكرية بعد اغتيال قائدها الجنرال كليبر واضطر جنوده للعودة إلى بلادهم على متن البواخر البريطانية.
لا أدري إن كان جورج بوش مولعا بالمدونات التاريخية ويعرف بالتالي دروس الحملة الفرنسية على مصر ذلك أن الإمبراطور الفرنسي المحاصر حاول دون جدوى أن يغري المصريين بالتحديث وبخطاب ديماغوجي زعم فيه أنه يحب نبيهم المصطفى أكثر من المماليك. ولعل هذا ما يكرره حرفيا جورج بوش بعد فشله في مجابهة المقاومة العراقية وإسقاط النظامين السوري والإيراني فهو يزعم أيضا أنه ما جاء بجيوشه إلا من أجل نشر الديمقراطية في بلاد الرافدين والشرق الأوسط برمته.
إذا كان من الصعب أن نرى جورج بوش يمضي أيامه الأخيرة منفيا كالإمبراطور الفرنسي في جزيرة القديسة هيلانة فإن من السهل القول قبل تقرير ستيوارت بوين وبعده أن مصير غزو العراق لن يكون أفضل من غزو مصر وأن دروس أكثر من قرنين من الزمن ضاعت سدى، أما التاريخ فهو يتكرر في الحملتين بصيغة مأساوية وهزلية في الآن معاً
***********
رائع
رائع
رائع