المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دعوة أهل الجهاد إلى الاجتماع والاتحاد



lkhtabi
15-01-2006, 09:49 PM
[الكاتب: أبو المنذر الساعدي] بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً.

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن من المقرر في محكمات الشريعة الغراء أن الله سبحانه وتعالى حرم على عباده التفرق والتنازع، وفرض عليهم أن يعتصموا بحبل الله جميعاً، حتى يكونوا أهلاً للنصر والتمكين في الدنيا، ومستحقين لرضوان الله وجنته في الآخرة.

وقد عرف أعداؤنا أن قوتنا في الاعتصام بحبل الله، فعملوا على إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، تكملة للمسيرة الإبليسية، وإتماماً للرغبة الشيطانية التي يعمل لها عدو الله إبليس ومن تبعه ودخل في حزبه من الإنس والجن في كل مكان وزمان.

عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم) [رواه أحمد ومسلم والترمذي].

وكما أضل إبليس أقواماً فزين لهم الدعوة إلى الخلط بين الحق والباطل والجمع بين الناس على غير كلمة سواء والاعتصام بحبال ما أنزل الله بها من سلطان، فإنه زين لأقوام آخرين أن يفرقوا كلمة المسلمين بسبب أمور اجتهادية، أو فضائل تكميلية، فأفسدوا من حيث يحسبون أنهم مصلحون، ويظنون أنهم مفلحون، وما دروا أن الجماعة والائتلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية.

ومن أجل ما حصل ويحصل من جدل وخلاف حول هذه القضايا رأيت أن أكتب هذه الرسالة، حرصا على وحدة صف العاملين المجاهدين، وتحذيراً من الفرقة والاختلاف، وسميتها "دعوة اهل الجهاد إلى الاجتماع والاتحاد".
{إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}...


* * *

الأدلة على تحريم التفرق ووجوب الاجتماع:

أولاً: من كتاب الله عز وجل:

1) قال الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} [آل عمران: 103].

أي؛ "تمسكوا بدين الله الذي أمركم به وعهده الذي عهده إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق" و "لا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم" [تفسير الطبري 3/378-379].

و "عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {حبل الله}؛ الجماعة... فإن الله يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة، ورحم الله ابن المبارك حيث قال: (إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا)" [تفسير القرطبي 4/102].

2) قال الله تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} [آل عمران 105].

"نهاهم عن سلوك مسلك المتفرقين الذين جاءهم الدين والبينات الموجب لقيامهم به واجتماعهم، فتفرقوا واختلفوا وصاروا شيعاً" [تفسير السعدي].

و "يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف وينذرها عاقبة الذي ن حملوا أمانة منج الله قبلها من أهل الكتاب ثم تفرقوا واختلفوا فنزع الله الراية منهم وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية" [تفسير الظلال 4/445].

3) قال الله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء} [الأنعام].

قال الثعالبي: (في الآية حض للمؤمنين على الائتلاف وترك الاختلاف) [1/571].

و "عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (ليتقِيَنَّ امرؤ ألا يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء)، ثم قرأت هذه الآية..." [الدر المنثور3/403].

4) قال الله تعالى: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} [هود: 118-119].

5) قال الله تعالى: {ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً} [الروم].

"وفي هذا تحذير للمسلمين من تشتتهم وتفرقهم فرقاً، كل فريق يتعصب لما معه من حق وباطل، فيكونون مشابهين بذلك للمشركين في التفرق، بل الدين واحد والرسول واحد والإله واحد، وأكثر الأمور الدينية وقع فيها الإجماع بين العلماء والأئمة، والأخوة الإيمانية قد عقدها الله وربطها أتم ربط، فما بال ذلك كله يُلغَى ويبنى التفرق والشقاق بين المسلمين على مسائل خفية، أو فروع خلافية يضلل بها بعضهم بعضاً ويتميز بها بعضهم على بعض، فهل هذا إلا من أكبر نزغات الشيطان وأعظم مقاصده التي كاد بها المسلمين؟ وهل السعي في جمع كلمتهم وإزالة ما بينهم من الشقاق المبني على ذلك الأصل الباطل إلا من أفضل الجهاد في سبيل الله وأفضل الأعمال المقربة إلى الله؟" [تفسير السعدي].

إن من أبرز سمات أهل الشرك تفرقهم واختلافهم، بخلاف أهل التوحيد والإيمان فإنهم جسد واحد لا تدابر بينهم ولا تباغض لذلك نهى الله عباده المؤمنين عن سلوك طرق المشركين أو التشبه بهم.

6) قال الله تعالى:{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال: 46].

وفي هذا التوجيه الرباني يحذرنا الله عز وجل من التنازع والتفرق الذي يعقبه لا محالة ذهاب القوة، وهذا أمر يدركه العقل وتحسه الفطرة السليمة، وفي ذلك يقول الشاعر:

كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا أفرادا

تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا



وكثيراً ما ينشأ التنازع بسبب وجود رءوس متعددة متناحرة يغذيها الهوى المطاع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، "فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه، وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها، وإنما هو وضع الذات في كفة والحق في كفة، وترجيح الذات على الحق ابتداء، ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة، إنه من عمليات الضبط التي لا بد منها في المعركة، إنها طاعة القيادة العليا فيها، التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها، وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله، ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلاً، والمسافة كبيرة كبيرة..." [الظلال 10/1529].


* * *

ثانياً: من سنة النبي صلى الله عليه وسلم:

1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتو منه ما استطعتم) [متفق عليه].

2) عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذاً إلى اليمن وقال لهما: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا) [أخرجه البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه / باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه وقال الله عز وجل {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهبَ ريحكم}].

3) عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه) [أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه / باب كراهية الاختلاف].

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ أنه سمع رجلاً يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بخلافها، فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(كلاكما محسن فاقرآ) أكبر علمي، قال: (فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) [أخرجه البخاري كتاب فضائل القرآن / باب اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم].

قال الحافظ ابن حجر: (وفي هذا الحديث والذي قبله - أي حديث اقرأوا القرآن... - الحض على الجماعة والألفة، والتحذير من الفرقة والاختلاف، والنهي عن المراء بغير حق) [فتح الباري9/126].

4) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: (إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خيراً لكم، التمسوها في السبع والتسع والخمس).

فانظر يا أخي إلى شؤم الخلاف ورفعه للخير والبركة، قال القاضي عياض: (فيه دليل على أن المخاصمة مذمومة، وأنها سبب في العقوبة المعنوية أي الحرمان؛ وفيه أن المكان الذي يحضره الشيطان ترفع منه البركة والخير) [فتح الباري 1/ 152].

عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلى عثمان بمنى أربعاً، فقال عبد الله - أي ابن مسعود ): (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين)، زاد عن حفص: (ومع عثمان صدراً من إمارته ثم أتمها)، زاد من ههنا عن أبي معاوية: (ثم تفرقت بكم الطرق، فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين)، قال الأعمش: (فحدثني معاوية بن قرة عن أشياخه أن عبد الله صلى أربعاً وقال فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعاً؟ قال: (الخلاف شر) [رواه أبو داود / كتاب المناسك / باب الصلاة بمنى، وأصله في صحيح مسلم دون قوله الخلاف شر].

قال الإمام ابن تيمية: (ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه، ونتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه وبراءة الرسول منهم) [مجموع الفتاوى 1/17]، (فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم وهم لا يجتمعون على ضلالة، بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامهم بحبل الله جميعاً) [1/18-19].

5) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كيف بكم وبزمان، أو يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة، تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا)، وشبك بين أصابعه، فقالوا: كيف بنا يا رسول الله؟ فقال: (تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم) [أخرجه أبو داود / كتاب الملاحم / باب الأمر والنهي، وابن ماجه كتاب الفتن / والحاكم في المستدرك / آخر كتاب الجهاد].

وفيه دليل على أن الاختلاف من علامات الساعة واضطراب الأحوال، وكفى بذلك زاجراً.

والأحاديث والآثار في الحض على الجماعة والألفة، والتحذير من التفرق والاختلاف كثيرة جداً فلتراجع في أبواب الاعتصام والفتن والسنة في مصنفات الحديث.


* * *

ثالثاً: من كلام أهل العلم:

لا إنكار في مسائل الاجتهاد التي اختلف فيها الأئمة:

قال الإمام ابن تيمية: (ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك، ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها؛ لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة، بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات) [3/349].

(وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها، على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك، وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى، ولما سئل عن ذلك قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي.. وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية، كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة) [19/122، 123].

(ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ) [19/123].

(من العلماء من يسلك بالأتباع طريقة ذلك العالم، فتكون هي شرعهم حتى يسمعوا كلام غيره ويروا طريقته فيرجح الراجح منهما، فتتنوع في حقهم الأقوال والأفعال السالفة لهم من هذا الوجه، وهم مأمورون بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، كما أمِرت الرسل بذلك، ومأمورون بأن لا يفرقوا بين الأمة، بل هي أمة واحدة كما أمرت الرسل بذلك، وهؤلاء آكد، فإن هؤلاء تجمعهم الشريعة الواحدة والكتاب الواحد... إن الله أمر كلاً منهم بطلب الحق بقدر وسعه وإمكانه، فإن أصابه وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وقد قال المؤمنون {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وقال الله قد فعلت، وقال تعالى {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} فمن ذمهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدى، ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله وينتصر لها بغير هدى من الله فقد اعتدى واتبع هواه بغير هدى من الله، ومن فعل ما أمر به بحسب حاله: من اجتهاد يقدر عليه، أو تقليد إذا لم يقدر على الاجتهاد، وسلك في تقليده مسلك العدل فهو مقتصد) [19/127-128].

(فالمذاهب والطرائق والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء، ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام: هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء، وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله) [19/126].

ولما تكلم عن مسألة السفر وحَدِّه وما يترتب عليه من أحكام، قرر الراجح عنده ثم قال: (ولكن هذه مسائل اجتهاد، فمن عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر) [24/14].

وسئل عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد هل ينكر عليه أم يهجر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين؟

فأجاب: (الحمد لله، مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان؛ فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين، والله أعلم) [20/207].

قال ابن أبي العز الحنفي: (والأمور التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع إذا لم ترد إلى الله والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم الله أقر بعضهم بعضاً ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد فيقر بعضهم بعضاً، ولا يعتدي ولا يعتدى عليه، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله... فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول إما عادلون وإما ظالمون، فالعادل فيهم؛ الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره، والظالم: الذي يعتدي على غيره، وأكثرهم إنما يظلمون مع علمهم بأنهم يظلمون كما قال تعالى {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم}، وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل أقر بعضهم بعضاً كالمقلدين لأئمة العلم، الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل، فجعلوا أئمتهم نواباً عن الرسول وقالوا هذا غاية ما قدرنا عليه، فالعادل منهم لا يظلم الآخر، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل، مثل أن يدعي أن قول مقلَّده هو الصحيح بلا حجة يبديها، ويذم مخالفه مع أنه معذور) [شرح الطحاوية 513-514].

ترك المستحب مستحب من أجل جمع الكلمة:

(فالعمل الواحد يكون فعله مستحباً‌ تارة، وتركه مستحباً تارة باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية، والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم خوفاً من تنفيرهم عن الإسلام لحدثان عهدهم به، ولذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المأمومين؛ ففعل المفضول لمصلحة الموافقة والتأليف راجحة على مصلحة تلك الفضيلة، وكان ذلك جائزاً) [مجموع الفتاوى 24/195].

تجوز الصلاة خلف المخالف في شروط الصلاة أو أركانها:

فأما المخالف في الشروط أو الأركان؛ (ولقد كان التابعون والفقهاء يصلي بعضهم خلف بعض، وقد يترك الإمام ما يرى وجوبه المأموم، فمذهب أبي حنيفة وأحمد أن خروج النجاسة من غير السبيلين ينقض الوضوء، وقد احتجم الرشيد وصلى خلفه أبو يوسف، فقيل له... فقال أبو يوسف: سبحان الله، أمير المؤمنين ولما سئل الإمام أحمد عن هذا فأفتى بوجوب الوضوء، فقيل له: فإن كان الإمام لا يتوضأ، أصلي خلفه؟ فقال: سبحان الله ‍، ألا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك بن أنس) [الفتاوى20/365].

والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يصلون بكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) [أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة].

وقوله: (الإمام ضامن، فإن أحسن فله ولهم، وإن أساء فعليه ولا عليهم) [أخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث سهل بن سعد، قال ابن المنذر: هذا الحديث يرد على من زعم أن صلاة الإمام إذا فسدت فسدت صلاة من خلفه].

قال ابن جريج: قلت لعطاء: الإمام لا يوفي الصلاة أعتزلُ الصلاة معه؟ قال: (بل صل معه وأوفِ ما استطعت، الجماعة أحب إليّ، فإن رفع رأسه من الركوع ولم يوفِ الركعة فأوفِ أنت، فإن رفع رأسه من السجدة ولم يوفِ فأوفِ أنت، فإن قام وعجل عن التشهد فلا تعجل أنت وأوفِ وإن قام).

وعن إبراهيم النخعي قال: قلت لعلقمة: إمامنا لا يتم الصلاة، قال: (لكننا نتمها) - يعني نصلي معه ونتمها - [انظر المحلى 4/214].

قال الإمام ابن تيمية: (فإذا صلى الإمام باجتهاده فترك ما يعتقد المأموم وجوبه مثل أن يكون الإمام لا يرى وجوب قراءة البسملة، أو لا يرى الوضوء من الدم، أو من القهقهة، أو من مس النساء، والمأموم يرى وجوب ذلك؛ فمذهب مالك صحة صلاة المأموم، وهذا أحد القولين عن أحمد والشافعي، والقول الآخر لا يصح كقول أبي حنيفة، ومذهب أهل المدينة هو الذي لا ريب في صحته، فقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم}، وهذا صريح في المسألة، ولأن الإمام صلى باجتهاده فلا يحكم ببطلان صلاته، ألا ترى أنه ينفذ حكمه باجتهاده؟ فالائتمام به أولى) [20/364-365].

تجوز الصلاة خلف الفاسق والمبتدع:

قال ابن حزم: (ما نعلم أحداً من الصحابة امتنع من الصلاة خلف المختار وعبيد الله بن زياد والحجاج، ولا فاسق أفسق من هؤلاء وقد قال الله عز وجل {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، ولا برَّ أبرُ من الصلاة وجمعها في المساجد، فمن دعا إليها ففرض إجابته وعونه على البر والتقوى الذي دعا إليهما، ولا إثمَ بعد الكفر أعظمُ من تعطيل الصلوات في المساجد، فحرام علينا أن نعين على ذلك، وكذلك الصيام والحج والجهاد، من عمل شيئاً من ذلك عملناه معه، ومن دعانا إلى إثم لم نجبه ولم نعنه عليه، وكل هذا قول أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان - وذكر بإسناده - عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان رضي الله عنه وهو محصور فقال له: "إنك إمام عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلي بنا إمام فتنة ونتحرج". فقال له عثمان: "الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم". وكان ابن عمر يصلي خلف الحجاج ونجدة - أي نجدة الحروري أحد زعماء الخوارج - أحدهما خارجي، والثاني أفسق البرية، وكان ابن عمر يقول: "الصلاة حسنة، ما أبالي من شركني فيها") [المحلى4/213].

وقال البخاري في كتاب الأذان من صحيحه: (باب إمامة المفتون والميتدع، وقال الحسن: صل وعليه بدعته)، ثم ذكر أثر عثمان. وقال ابن حجر عن أثر الحسن: (وصله سعيد بن منصور عن ابن المبارك عن هشام بن حسان أن الحسن...).

تجوز الصلاة خلف من يؤخرها عن أول وقتها:

ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟) قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: (صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلِّ، فإنها لك نافلة).

قال الإمام النووي: (فيه أن الإمام إذا أخرها عن أول وقتها، يستحب للمأموم أن يصليها في أول الوقت منفرداً، ثم يصليها مع الإمام فيجمع فضيلتي أول الوقت والجماعة... وفيه الحث على موافقة الأمراء في غير معصية، لئلا تتفرق الكلمة، وتقع الفتنة) [شرح مسلم 5/150].

و "قال ابن جريج: قلت لعطاء: إمام يؤخر العصر أصليها معه؟ قال: نعم، الجماعة أحب إلي، قلت: وإن اصفرت الشمس للغروب ولحقت برؤوس الجبال؟ قال: نعم، مالم تغب" [المحلى 3/186)187].

وكل هذه الأحكام شرعت من أجل تحقيق الاجتماع، ودفع الاختلاف، وفي ذلك مصلحة المسلمين في دينهم ودنياهم.

الأمير والقاضي ونحوهما يطاع في مسائل الاجتهاد:

قال ابن أبي العز: (وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة، يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف، أعظم من أمر المسائل الجزئية) [شرح الطحاوية: 376].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وعلى الأتباع اتّباع من ولي أمرهم من الأمراء والعلماء فيما ساغ له اتباعه وأمر فيه باتباع اجتهاده) [مجموع الفتاوى 19/124].

وقال الجويني: (ولو لم يتعين اتباع الإمام في مسائل التحري لما تأتى فصل الخصومات في المجتهدات، ولاستمسك كل خصم بمذهبه ومطلبه، وبقي الخصمان في مجال خلاف الفقهاء مرتبكين في خصومات لا تنقطع) [غياث الأمم 217].

ومن المسائل المهمة في موضوع الاختلاف بين المسلمين:

من اجتهد فلم يصل إلى الحق هل يكون آثماً؟ وهل هناك فرق في ذلك بين المسائل العلمية والعملية؟ أو بين الأصول والفروع؟ وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة بياناً شافياً في مجموع الفتاوى [19/203-217].

وخلاصة كلامه ما يأتي:

1) ليس كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق سواء في المسائل العلمية أو في المسائل العملية، ولا يعاتب الله أحداً إلا إذا ترك مأموراً أو فعل محظوراً، واستطاعة الناس في معرفة الحق متفاوتة.

2) أهل السنة لا يبتدعون قولاً ولا يكفرون من اجتهد فأخطأ، وإن كان مخالفاً لهم مستحلاً لدمائهم كالخوارج.

3) القول بأن " كل من اجتهد فلا بد أن يعرف الحق، فإن لم يعرفه فلتفريطه ولذلك يكون المخطئ آثماً "، هذا القول هو قول أهل البدع من القدرية والمعتزلة ومن وافقهم.

4) تقسيم المسائل إلى مسائل أصول يكفر أو يأثم المخالف فيها، ومسائل فروع لا يكفر ولا يأثم المخالف فيها، هو تقسيم مبتدع حادث لم يعرفه الصحابة والتابعون وأئمة الدين، ولم يأت المفرِّق بينهما بفرق صحيح منضبط يميز به بين النوعين.

5) كون المسألة قطعية أو ظنية يختلف من شخص لآخر حسب ذكائه وقوة ذهنه وسرعة إدراكه وقدرته على الاستدلال.

6) المجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفتٍ وغير ذلك إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق للثواب، ولا يعاقبه الله ألبتة، خلافاً للجهمية المجبرة، وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه.

هذا ما يسر الله جمعه، وقد كتبته للعاملين المجاهدين سائلاً الله سبحانه وتعالى أن يمنَّ عليهم بالنصر والعز والتمكين، وأن يهديهم سبل السلام، ويجمع كلمتهم على الحق، إنه سميع قريب مجيب.




وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وكتب الفقير إلى رحمة الله تعالى
أبو المنذر الساعدي
في الثالث من شعبان / سنة 1421هـ