خالدحسن
15-01-2006, 12:27 AM
أبلغ ما ألقاه الشيخ علي القرني من المواعظ بلسان عربي فصيح
سمو ماضينا وسماوة حاضرنا
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخِرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المجاهدين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ناشري لواء الدين، وعلى من تبعهم من سلف هذه الأمة وخلَفها ممن جاهد وبذل ورافق ونافح في كل وقت وحين.
معشر الإخوة والأخوات والبنين: حياكم الله وأحياكم، وأطال أعماركم، وأحسن أعمالكم، وذخراً للأمة أعدَّكم، تُعْلُون صروحها، وتضمدون جروحها، وتداوون قرُوحها، وللمِلَّة تسْمُون في سماها، وتحمون حماها، وترمون من رماها.
تحية أنفاس الرياض وشى بها **** نسيمُ هدوء والنواضر هُجَّعُ
فجاءت كأن المسك خالط نفحها **** لها في أنوف الناشقين تَضُوُّعُ
السماء والسماوة: رمزان لا خفاء.
أيها السُّماة للسماء: السماء رمز الرفعة والسمو والعلاء، والسماوة رمز الشُّقَّة والسَّموم والهلكة والتيه والبيداء، على حد قول ابن الصحراء :
وجشمها بطن السماوة قائظاً **** وقد أوقدت نار السموم الهواجر
فضرباً معي الليلة في بيداء السماوة بحثاً عن مراقي الشمم والإباء، وكشفاً عن أسرار ومعارج ومدارج السمو للسماء، بعون الله رب الأرض والسماء.
بيد أنه قد يطول الحديث.. ذلك أن المريض الذي يئن يأرِزُ إلى تسلية نفسه بالحديث، والطبيب مهما كان بارعاً فإن وصفه علمي، والمريض أدرى منه بمرضه وألََمِه، فلعلي أن أقف بكم على الأسباب، وأرتقي السحاب، وأصفي الحساب، وأميز القشر عن اللباب، بدليل الكتاب، وفعل النبي والأصحاب، وذوي الألباب.
فإن وفَيت فحق ذاك في عنقي **** وإن أقصِّر لأنتم أهل إعذار
وشتان بين السماوة والسما!
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً.
************************************
حقيقة سماوة حاضرنا
معشر الإخوة: إن تفكيراً بعمق وحق، وإرجاعاً للبصر والبصيرة كرَّة بعد أخرى في سماوة واقعنا بعد سمو وسماء ماضينا العريق المنير؛ يجعل البصر يرتد خاسئاً وهو حسير، إذ يرى عموم الأمة دون آحادها اليوم في داجية لا صباح لها يتخبطون يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126]^ لا ينقُلون إلى الأمام قدماً مقبِلين إلا رجعوا إلى الوراء أقداماً مدبِرين، أنزلوا أنفسهم من الأمم منزلة الأَمَة من الحرائر؛ عجزت أن تتسامى لعُلاهن، أو تتحلى بحُلاهُن، فحصرت همها في إثارة غيرة حرة على حرة، وتسخير نفسها لخدمة ضرة نكاية في ضرة، أشربوا في قلوبهم الذل.. فرضوا الضيم والمهانة، واستحبوا الحياة الدنيا فرضوا بفتاتها في إسفاف وسفالة، نزل الشرف من قلوبهم بدار غريبة فلم يُقِم، ونزل الهوان من نفوسهم بدار إقامة فلم يضعن ولم يرم، يحسبون كل صيحة عليهم، ويتوهمون كل حركة من عدوهم شبحاً من الموت يهجم عليهم.
فلو أن برغوثاً على ظهر قملة **** يكر على الصفين منهم لولَّتِ
اتخذوا الدين قشوراً بلا لباب، وألفاظاً بلا معانٍ، وهيكلاً بلا روح.. عمدوا إلى روحه فأزهقوها بالتعطيل، وإلى وعيده وزواجره فأرهقوها بالتأويل، وإلى هدايته فموهوها بالتضليل، وإلى وحدته فمزقوها بالطرق والنِّحَل والشيع والتحزب والأباطيل، وإلى البراء من عدو الله فميَّعوه باسم التسامح والتقريب، نصَبوا من الأموات هياكل بها يفتتنون، وحولها يقتتلون، ولأجلها يتعادَون.
كعمل الكفار بالأصنامِ **** قد لعب الشيطان بالأحلامِ
ذُهلوا عن أنفسهم، فلم يحفلوا بحاضرهم، ولم يفكروا في مستقبلهم؛ لأنهم زعموا الغيب، والغيب لله، وصدق الله وكذبوا، ما كانت أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحاضر فحسب، وما غرس شجرة الإسلام ليأكل هو وأصحابه ثمارها، بل زرعها للأولين والآخرين.
ولما بلغت الأمة هذه المرتبة الدنية طوقهم عدوهم بأطواق الحديد، فسامهم العذاب الشديد، وأخرجهم من زمرة الأحرار إلى حظيرة العبيد، فأصبحوا غرباء، في ديارهم تعساء، حظهم من الريادة والسيادة والسعادة الحظ الأوكس، وجزاؤهم فيها الجزاء الأبخس، غطَّاها سحاب الذلة؛ لأنهم أخطئوا طريق العزة، ظنوها في التقدم المادي والتقني فحسب، فذهبوا وراءها:
فإذا السفينة غارقة في أوحالها **** ودار ابن لقمان على حالها
نسوا أن سبيلهم للعزة عودتهم إلى الدين، كيف وقد قال رسولهم صلوات الله وسلامه عليه: {إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم }^ ففعلوا موجبات ذلهم وخذلانهم:
ما هم بأمة أحمد **** لا والذي فطر السماء
ما هم بأمة خير خلـ **** ـق الله بدءاً وانتهاء
إن يزرعوا فحصادهم **** يا حسرتاه كان الهواء
إن يقتلوا فقتيلهم **** كان المودة والإخاء
ولو استرسل المرء مع خواطره لخشي أن يُفضي به التفكير إلى أن ييأس فيضل في بيداء السماوة، فيهلك أو يُجَن فيرفع عنه القلم فيستريح، وما كلاهما مريح، وما عانٍ كمستريح:
بي منكِ ما لو غدا بالشمس مـا طَلَعَتْ **** من الكآبة أو بالبرق ما ومضا
************************************
سمو ماضينا... وأسرار السمو
ولخشية ذلك كله فإني أنقل نفسي وإياكم إلى سماء القرن الأول؛ لنقف على أسرار سموه للسماء لنقول: هذه هي المراقي فارتقِ.. هذا هو النموذج لا غيره والمثال... فصلاحه ضُرِبَت به الأمثال، وقدمت عليه البراهين، وقام غائبه مقام العيان، وخلدته بطون التواريخ، واعترف به الموافق والمخالف، ولَهَج به الراضي والساخط، وسجلته الأرض والسماء، فلو نَطَقَت الأرض لأخبرت أنها لم تشهد مذْ دحاها الله وطحاها وبراها أمةً أصلب على الحق وأهدى به من أول هذه الأمة، ولم تشهد فئةً اتحدت سرائرُها وظواهرُها على الخير مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد مذ مهَّدها الله أمةً وحدت الله فاتحدت قواها على الخير قبل هذه الطبقة الأولى من هذه الأمة.
هذه شهادة الأرض تؤديها صامتة، فيكون صمتها أبلغ في الدلالة من نطق جميع الناطقين، ثم يشرح هذه الشهادةَ الواقعُ، ويفسرُها العيان التي لم تحجبه بضعة عشر قرناً من الزمان.
إنها حقائق تاريخية ناطقة ينبغي الوقوف أمامها في كل مكان وزمان.
فقد تنطق الأشياء وهي صوامتٌ **** وما كل نطق المخبرين كلامُ
لقد خرَّجَتْ تلك الدعوة جيلاً في ذلك القرن فريداً مميزاً في تاريخ الإسلام؛ بل في تاريخ البشرية جميعه.. جيلاً فريداً في تصوره.. وشعوره.. وانتمائه.. ووضوحه.. جيلاً اختاره الله لحمل رسالته، ولصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم.. جيلاً جاءه الوحي على وعي، فتأسس على توحيد، وانطلق بعقيدة، وسار على منهج صحيح.
حمل فكراً سامياً لغاية أسمى.. زاده التقوى، وشعاره الجهاد، وحصنه الإيمان، وعدته الصبر، وخلقه القرآن، وقدوته سيد الأنام عليه الصلاة والسلام.
أمنيته الشهادة في سبيل الله؛ ليكون الدين كله لله، وغايته تلك مع الجنة ورضوان الله، والذي لا إله إلا هو لولا النقل الصحيح المتواتر القطعي لقيل:
ذاك طيف من خيال
بل هو الشيء المحال
قد تقولون: مُحال!
ذاك ضرب من خيال
قد تقولون.. ولكني أقول:
إنها تربية السبع الطوال..!
لا محال ...
إنه هدي الكتاب
لا محال ...
فعلى وقع التلاوات تخضَرُّ التلال
لا محال ...
إنهم جيل المصاحف
لا محال ...
إنه جيل المحاريب وأساد النبال
إنهم شم الجبال
لا محال ...
والسؤال:
لِمَ لَمْ تعُد الأمة تخرِّج مثل ذلك الطراز؟!
أما إنه قد يوجد أفراد وفئة من ذلك الطراز على مدى التاريخ؛ لكنه لا يحدث أن تَجمَّع مثل ذلك العدد الضخم في مكان واحد كما وقع في القرن الأول، هذه ظاهرة واضحة ذات مدلول؛ تستحق أن نقف أمامها لعلنا نهتدي إلى السر، كما يقول سيد .
معشر الإخوة: إن قرآن تلك الدعوة في ذلك الجيل لم يزل بين يدينا محفوظاً، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه العملي وسيرته الكريمة بين أيدينا كذلك، لم يغِب سوى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذا هو السر؟!
أما إنه لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حتمياً لقيام هذه الدعوة وإيتائها ثمراتها ما جعلها الله دعوة للعالمين، وما جعلها آخر رسالة لأهل الأرض أجمعين.
إن الله قد تكفل بحفظ الذكر، وبيَّن أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تؤتي ثمارها، فاختاره الله سبحانه وتعالى إلى جواره، وأبقى هذا الدين من بعده إلى آخر الزمان؛ وعلى هذا فإن غَيبة شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفسر تلك الظاهرة، فما السر إذاً مرة أخرى؟!
هل تغير النبع؟!
هل تغير المنهج الذي تربوا عليه؟!
مهما تقادم جوهر في عتقه **** فهو الثمين وليس يبرح جوهرا
إن السر يكمن في أمور:
خذها إليك درة من الدرر **** من كاتب راز الأمور وخبر
تستطيع الاستماع من هنا وتحميل الملف الصوتي أثناء قراءة الموضوع
السماء والسماوة (http://64.254.153.100:8080/lecturs/Ali_karnee/42/42.rm)
سمو ماضينا وسماوة حاضرنا
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخِرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المجاهدين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ناشري لواء الدين، وعلى من تبعهم من سلف هذه الأمة وخلَفها ممن جاهد وبذل ورافق ونافح في كل وقت وحين.
معشر الإخوة والأخوات والبنين: حياكم الله وأحياكم، وأطال أعماركم، وأحسن أعمالكم، وذخراً للأمة أعدَّكم، تُعْلُون صروحها، وتضمدون جروحها، وتداوون قرُوحها، وللمِلَّة تسْمُون في سماها، وتحمون حماها، وترمون من رماها.
تحية أنفاس الرياض وشى بها **** نسيمُ هدوء والنواضر هُجَّعُ
فجاءت كأن المسك خالط نفحها **** لها في أنوف الناشقين تَضُوُّعُ
السماء والسماوة: رمزان لا خفاء.
أيها السُّماة للسماء: السماء رمز الرفعة والسمو والعلاء، والسماوة رمز الشُّقَّة والسَّموم والهلكة والتيه والبيداء، على حد قول ابن الصحراء :
وجشمها بطن السماوة قائظاً **** وقد أوقدت نار السموم الهواجر
فضرباً معي الليلة في بيداء السماوة بحثاً عن مراقي الشمم والإباء، وكشفاً عن أسرار ومعارج ومدارج السمو للسماء، بعون الله رب الأرض والسماء.
بيد أنه قد يطول الحديث.. ذلك أن المريض الذي يئن يأرِزُ إلى تسلية نفسه بالحديث، والطبيب مهما كان بارعاً فإن وصفه علمي، والمريض أدرى منه بمرضه وألََمِه، فلعلي أن أقف بكم على الأسباب، وأرتقي السحاب، وأصفي الحساب، وأميز القشر عن اللباب، بدليل الكتاب، وفعل النبي والأصحاب، وذوي الألباب.
فإن وفَيت فحق ذاك في عنقي **** وإن أقصِّر لأنتم أهل إعذار
وشتان بين السماوة والسما!
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً.
************************************
حقيقة سماوة حاضرنا
معشر الإخوة: إن تفكيراً بعمق وحق، وإرجاعاً للبصر والبصيرة كرَّة بعد أخرى في سماوة واقعنا بعد سمو وسماء ماضينا العريق المنير؛ يجعل البصر يرتد خاسئاً وهو حسير، إذ يرى عموم الأمة دون آحادها اليوم في داجية لا صباح لها يتخبطون يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126]^ لا ينقُلون إلى الأمام قدماً مقبِلين إلا رجعوا إلى الوراء أقداماً مدبِرين، أنزلوا أنفسهم من الأمم منزلة الأَمَة من الحرائر؛ عجزت أن تتسامى لعُلاهن، أو تتحلى بحُلاهُن، فحصرت همها في إثارة غيرة حرة على حرة، وتسخير نفسها لخدمة ضرة نكاية في ضرة، أشربوا في قلوبهم الذل.. فرضوا الضيم والمهانة، واستحبوا الحياة الدنيا فرضوا بفتاتها في إسفاف وسفالة، نزل الشرف من قلوبهم بدار غريبة فلم يُقِم، ونزل الهوان من نفوسهم بدار إقامة فلم يضعن ولم يرم، يحسبون كل صيحة عليهم، ويتوهمون كل حركة من عدوهم شبحاً من الموت يهجم عليهم.
فلو أن برغوثاً على ظهر قملة **** يكر على الصفين منهم لولَّتِ
اتخذوا الدين قشوراً بلا لباب، وألفاظاً بلا معانٍ، وهيكلاً بلا روح.. عمدوا إلى روحه فأزهقوها بالتعطيل، وإلى وعيده وزواجره فأرهقوها بالتأويل، وإلى هدايته فموهوها بالتضليل، وإلى وحدته فمزقوها بالطرق والنِّحَل والشيع والتحزب والأباطيل، وإلى البراء من عدو الله فميَّعوه باسم التسامح والتقريب، نصَبوا من الأموات هياكل بها يفتتنون، وحولها يقتتلون، ولأجلها يتعادَون.
كعمل الكفار بالأصنامِ **** قد لعب الشيطان بالأحلامِ
ذُهلوا عن أنفسهم، فلم يحفلوا بحاضرهم، ولم يفكروا في مستقبلهم؛ لأنهم زعموا الغيب، والغيب لله، وصدق الله وكذبوا، ما كانت أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحاضر فحسب، وما غرس شجرة الإسلام ليأكل هو وأصحابه ثمارها، بل زرعها للأولين والآخرين.
ولما بلغت الأمة هذه المرتبة الدنية طوقهم عدوهم بأطواق الحديد، فسامهم العذاب الشديد، وأخرجهم من زمرة الأحرار إلى حظيرة العبيد، فأصبحوا غرباء، في ديارهم تعساء، حظهم من الريادة والسيادة والسعادة الحظ الأوكس، وجزاؤهم فيها الجزاء الأبخس، غطَّاها سحاب الذلة؛ لأنهم أخطئوا طريق العزة، ظنوها في التقدم المادي والتقني فحسب، فذهبوا وراءها:
فإذا السفينة غارقة في أوحالها **** ودار ابن لقمان على حالها
نسوا أن سبيلهم للعزة عودتهم إلى الدين، كيف وقد قال رسولهم صلوات الله وسلامه عليه: {إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم }^ ففعلوا موجبات ذلهم وخذلانهم:
ما هم بأمة أحمد **** لا والذي فطر السماء
ما هم بأمة خير خلـ **** ـق الله بدءاً وانتهاء
إن يزرعوا فحصادهم **** يا حسرتاه كان الهواء
إن يقتلوا فقتيلهم **** كان المودة والإخاء
ولو استرسل المرء مع خواطره لخشي أن يُفضي به التفكير إلى أن ييأس فيضل في بيداء السماوة، فيهلك أو يُجَن فيرفع عنه القلم فيستريح، وما كلاهما مريح، وما عانٍ كمستريح:
بي منكِ ما لو غدا بالشمس مـا طَلَعَتْ **** من الكآبة أو بالبرق ما ومضا
************************************
سمو ماضينا... وأسرار السمو
ولخشية ذلك كله فإني أنقل نفسي وإياكم إلى سماء القرن الأول؛ لنقف على أسرار سموه للسماء لنقول: هذه هي المراقي فارتقِ.. هذا هو النموذج لا غيره والمثال... فصلاحه ضُرِبَت به الأمثال، وقدمت عليه البراهين، وقام غائبه مقام العيان، وخلدته بطون التواريخ، واعترف به الموافق والمخالف، ولَهَج به الراضي والساخط، وسجلته الأرض والسماء، فلو نَطَقَت الأرض لأخبرت أنها لم تشهد مذْ دحاها الله وطحاها وبراها أمةً أصلب على الحق وأهدى به من أول هذه الأمة، ولم تشهد فئةً اتحدت سرائرُها وظواهرُها على الخير مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد مذ مهَّدها الله أمةً وحدت الله فاتحدت قواها على الخير قبل هذه الطبقة الأولى من هذه الأمة.
هذه شهادة الأرض تؤديها صامتة، فيكون صمتها أبلغ في الدلالة من نطق جميع الناطقين، ثم يشرح هذه الشهادةَ الواقعُ، ويفسرُها العيان التي لم تحجبه بضعة عشر قرناً من الزمان.
إنها حقائق تاريخية ناطقة ينبغي الوقوف أمامها في كل مكان وزمان.
فقد تنطق الأشياء وهي صوامتٌ **** وما كل نطق المخبرين كلامُ
لقد خرَّجَتْ تلك الدعوة جيلاً في ذلك القرن فريداً مميزاً في تاريخ الإسلام؛ بل في تاريخ البشرية جميعه.. جيلاً فريداً في تصوره.. وشعوره.. وانتمائه.. ووضوحه.. جيلاً اختاره الله لحمل رسالته، ولصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم.. جيلاً جاءه الوحي على وعي، فتأسس على توحيد، وانطلق بعقيدة، وسار على منهج صحيح.
حمل فكراً سامياً لغاية أسمى.. زاده التقوى، وشعاره الجهاد، وحصنه الإيمان، وعدته الصبر، وخلقه القرآن، وقدوته سيد الأنام عليه الصلاة والسلام.
أمنيته الشهادة في سبيل الله؛ ليكون الدين كله لله، وغايته تلك مع الجنة ورضوان الله، والذي لا إله إلا هو لولا النقل الصحيح المتواتر القطعي لقيل:
ذاك طيف من خيال
بل هو الشيء المحال
قد تقولون: مُحال!
ذاك ضرب من خيال
قد تقولون.. ولكني أقول:
إنها تربية السبع الطوال..!
لا محال ...
إنه هدي الكتاب
لا محال ...
فعلى وقع التلاوات تخضَرُّ التلال
لا محال ...
إنهم جيل المصاحف
لا محال ...
إنه جيل المحاريب وأساد النبال
إنهم شم الجبال
لا محال ...
والسؤال:
لِمَ لَمْ تعُد الأمة تخرِّج مثل ذلك الطراز؟!
أما إنه قد يوجد أفراد وفئة من ذلك الطراز على مدى التاريخ؛ لكنه لا يحدث أن تَجمَّع مثل ذلك العدد الضخم في مكان واحد كما وقع في القرن الأول، هذه ظاهرة واضحة ذات مدلول؛ تستحق أن نقف أمامها لعلنا نهتدي إلى السر، كما يقول سيد .
معشر الإخوة: إن قرآن تلك الدعوة في ذلك الجيل لم يزل بين يدينا محفوظاً، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه العملي وسيرته الكريمة بين أيدينا كذلك، لم يغِب سوى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذا هو السر؟!
أما إنه لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حتمياً لقيام هذه الدعوة وإيتائها ثمراتها ما جعلها الله دعوة للعالمين، وما جعلها آخر رسالة لأهل الأرض أجمعين.
إن الله قد تكفل بحفظ الذكر، وبيَّن أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تؤتي ثمارها، فاختاره الله سبحانه وتعالى إلى جواره، وأبقى هذا الدين من بعده إلى آخر الزمان؛ وعلى هذا فإن غَيبة شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفسر تلك الظاهرة، فما السر إذاً مرة أخرى؟!
هل تغير النبع؟!
هل تغير المنهج الذي تربوا عليه؟!
مهما تقادم جوهر في عتقه **** فهو الثمين وليس يبرح جوهرا
إن السر يكمن في أمور:
خذها إليك درة من الدرر **** من كاتب راز الأمور وخبر
تستطيع الاستماع من هنا وتحميل الملف الصوتي أثناء قراءة الموضوع
السماء والسماوة (http://64.254.153.100:8080/lecturs/Ali_karnee/42/42.rm)