lkhtabi
07-01-2006, 09:12 PM
مقدمة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد :
فإنه رغم كثرة الجدل حول تقويم النظام السعودي من الناحية الشرعية فإنه لم تنشر أي دراسة تقويمية منهجية منضبطة لتلك القضية، رغم أهمية الموضوع وشدة الحاجة إليه. ويجنح معظم المتصدين لنقاش هذه القضية إلى اختزالها في حديث أو حديثين، ويتعلقون بظواهر بعض النصوص الشرعية دون اعتبار دلالاتها ودون اعتبار غيرها من النصوص الشرعية ولا تصور مقاصد الشريعة في قضية الإمامة والحكم في الإسلام، ولا مقارنة بينها وبين الواقع الذي يعيشه النظام.
وهذا الأسلوب في تناول قضية شرعية حساسة ومتشعبة خطأ كبير، وينبني عليه استنتاجات خاطئة مثله.
الإشكال الثاني أن كثيرا من هذا النقاش دار داخل مجال نفوذ الحكم السعودي مما يعني استحالة حيادية النقاش، وتبعا لذلك لن تكون هناك دقة في الاستنتاج، لأن المشكلة ليست مجرد إرهاب الحكم، بل بسبب وجود مؤسسة دينية تتبنى طريقة معينة في شرعية الحكم السعودي، ويصعب بل يكاد يستحيل معارضة هذه المؤسسة لأن التبعات والمضاعفات على معارضة تلك المؤسسة ستأتي منها قبل أن تأتي من الحكم السعودي نفسه.
الإشكال الآخر الذي يقع فيه باحثو الشرعية السياسية هو تركيزهم على شرعية فرد الحاكم دون اعتبار نظام الحكم نفسه، ومن ثم يُحرجون أنفسهم بخيارين، إما تزكية الحاكم أو تكفيره، وهذا من الاختزال المرفوض لقضية الشرعية وإرهاب فكري ضمني، بل هو بمثابة تحجيم للشريعة ومقاصدها العظيمة في قضايا الحكم والإمامة.
ويشبه هذا الإشكال ربط قضية الشرعية ربطا عضويا بقضية الخروج المسلح على الحاكم، واعتبار رفع السلاح إلزاما فوريا لمن يرى عدم الشرعية.
وقد أدى ربط قضية الشرعية بالتكفير ورفع السلاح، وما لهاتين القضيتين من تداعيات خطيرة إلى تخوف الكثير من طرق هذا الموضوع أو الاكتفاء بطرقه تحت إسقاط هذه التداعيات، وما يترتب على ذلك من غياب العدل والمنهجية في الاستدلال والاستنتاج.
لكل هذه الأسباب كان لابد من تقديم دراسة شاملة منهجية لهذه القضية تتجاوز التحجيم والاختزال في نص شرعي واحد أو الحكم على شخص الحاكم، إلى تصور تفصيلي لتقويم قضية الشرعية من خلال فهم أركان الإمامة الشرعية التي لا يقوم الحكم الإسلامي إلا بها، ومن ثم تطبيق ممارسات النظام السعودي على هذه الأركان وعندها فقط يمكن تحديد موقع النظام السعودي من الشريعة.
وكانت هذه الدراسة قد نشرت على حلقات في نشرة الحقوق الصادرة عن "لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية"، كما نشرت أجزاء منها في مجلة "الشرعية" الصادرة عن نفس الجهة، وكان الرأي أنه من المصلحة جمعها وتنقيحها ومراجعتها وإضافة ما يمكن إضافته إليها في نفس الموضوع، ومن ثم تقديمها في هذا الكتيب.
وقد كان الحرص في هذه الدراسة على تقديمها بشكل منهجي علمي، وعلى الاعتماد على الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وتخريج الأحاديث وعزو أقوال العلماء إلى الكتب الواردة فيها. ولقد جاء ترتيب هذا البحث في عدة أبواب: أولها مقدمة عامة في تثبيت قواعد شرعية ضرورية لفهم بقية البحث، ويتبع ذلك عدة أبواب حول أركان الإمامة الشرعية، وموقع النظام السعودي منها، ثم بعد ذلك حكم المدافعين عن النظام، ثم تمام البحث بالرد على عدد من الشبهات في قضية الشرع.
نسأل الله أن يجعل هذا العمل سببا في إيضاح كثير مما التبس على المسلمين والدعاة في هذه القضية الحساسة، وأن يوفق الجميع ليساهم في إقامة الإمامة الشرعية على وجهها الصحيح، كما نسأله سبحانه أن يعيننا على إخلاص نياتنا وتصويب أعمالنا ويقر عيوننا بتمكين هذا الدين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد على آله وصحبه وسلم.
مقدمة عامة
إن الحكم الشرعي في أي مسألة أو نازلة أوقضية لا يمكن معرفته إلا بفهمين، الأول: معرفة الواقع والثاني: معرفة حكم الله تعالى فيه أو كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والإمارات والعلامات حتى يحيط به علماً، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر) (1).
أو كما قال ابن تيمية عندما سئل عن حكم التتار فبيّن أن الحكم الشرعي مبني على أصلين: أحدهما المعرفة بحالهم، والثاني معرفة حكم الله في أمثالهم (2).
ولقد كان الظن أن إحجام طلبة العلم وأهله عن إصدار الحكم الشرعي في حق النظام السعودي والأنظمة عامة هو لعدم معرفتهم بالشق الأول (فهم الواقع)، وذلك بسبب تلبيس النظام عليهم بتزوير حقيقته وطمسها بمجموعة من المحسّنات الظاهرة، فكان كشف هذه الممارسات والسياسات التي يجهلها طلبة العلم هو الدور الأهم، وقد أجمع العلماء على وجوب كشف المنافقين والمبتدعين (3).
وقد سئل الإمام أحمد: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟، فقال: (إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل) (4).
ومع أن بلاد الحرمين قد كثر فيها طلبة العلم إلا أن انشغالهم بالعلم وطلبه أبعدهم عن معرفة الواقع وحقيقته، وهذا قد يقع من طلبة العلم وأهله كما نبّه جماعة من السلف على ذلك، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث تحدث عن ذلك في مواطن كثيرة من الفتاوى.
ولقد تبين أن كثيراً من أهل العلم وطلبته قد أحجموا عن تنزيل حكم الله تعالى على هذا الواقع، وأسباب هذا الإحجام متفاوتة، فهناك مجموعة منهم رضيت لنفسها مقام (التقليد)، حيث تنتظر من غيرها هذا التنزيل لتكون التالية لا السابقة في هذه الفضيلة، وهناك من يخاف الأثر المترتب على هذا التنزيل، ويزعم أن قول حكم الله تعالى في النظام سيؤدي إلى فتنة لا تدرى نتائجها، وكأن هذا الصنف ظن أن معرفة حكم الله تعالى شر لابدّ من ستره وتغييبه، وفي هؤلاء يقول محمد بن وضاح رحمه الله تعالى: (إنما هلكت بنو إسرائيل على أيدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على أيدي قرائها وفقهائها) (5)، وحكم الله تعالى فيه النجاة والسعادة حقيقة.
وعلى ضوء هذا فإنه من الواجب الحديث بشكل تفصيلي عن حقيقة النظام، وحكم الله تعالى فيه، وأين هو في دين الله تعالى؟ وما هو موقف الأمة منه وكيف تتعامل معه؟ أي الحديث عن كلا الشقين: الواقع والشرع.
وقبل الشروع في هذه الأمور، لابدّ من تحديد بعض الثوابت والمقدمات النظرية حتى لا يلتبس الحال أو تفهم الأمور على غير محلها، وهذه المقدمات هي:
أولاً : أنه لايقبل حكم ولا اعتقاد إلا بدليل شرعي، والدليل الشرعي هو الكتاب والسنة وفهم قواعد الصحابة ومن تبعهم من خير القرون المشهود لها، وما عداه فليس بحجة في ذاته، بل هو محتاج بنفسه إلى دليل، وكل ما هو خارج الكتاب والسنة والإجماع فهو رأي، والرأي يخطئ ويصيب، ويؤخذ منه ويرد عليه ومن ثم فإن البحث في مسألة شرعية النظام كغيرها من المسائل يجب أن يكون مبنياً على الدليل الشرعي وفهم الواقع بدقة، وعلى الرغم من أن هذا الكلام يبدو أمراً لا جدال حوله، إلا أنه في الحقيقة في عداد المهجور رغم ترداد العلماء له بألسنتهم، وترى بعضهم يرفع شعار "كل ما هو خارج النص والإجماع فهو رأي والرأي ليس بملزم"، ثم تجدهم عند التطبيق يتعاملون مع آراء أهل الفتوى والقضاء وكأنها دين يجب التزامه، ويعتبرون الخروج على هذه الآراء معصية بل معصية كبيرة، بل تراهم يضربون بأدلة الشرع عرض الحائط ويستدلون بحجج واهية هي أشبه بكلام العوام كقولهم: "نحن أحسن من غيرنا"، أو كقولهم: "لا تعكروا علينا الأمن والأمان ورغد العيش".
وهذا يلجئهم إلى تصيد الأقوال الساقطة الشاذة التي لا تمت إلى الدليل الشرعي بصلة، لتبرير أفعال النظام وإسباغ الشرعية عليه بطريقة لا تُقبل من مبتدئ في طلب العلم فضلاً عن العلماء، كموقف أحدهم من الربا المستعر والمنتشر في البلاد طولاً وعرضا،َ وغريب أمر هؤلاء، أنهم يتمسكون بالنصوص الشرعية في قضايا الحيض والنفاس وزكاة الفطر، ويعرضون عن الحكم الشرعي في قضايا جليلة القدر في السياسة والحكم والقضاء، وهي قضايا تمسّ الأمة بأجمعها .
ثانياً : أن الحكم على النظام ليس حكماً على أفراده ورجاله، ولكنه حكم على النظام كله بوصفه نظام حكم، وذلك بغض النظر عن كل فرد فيه بعينه، وقد يعود الحكم العام على بعض أفراده ، ولكن هذا لا يلزم أن يعود على جميع أفراده حسب الأحوال والشروط المعتبرة، وهذا أمر معروف لدى طلبة العلم (6)، فالكلام لا يتوجه على أفراد وشخوص بأعيانهم، ولكن البحث ينصرف إلى حكم النظام وموقعه من الإسلام، فلا يعترض مُعترضٌ علىه بوجود بعض أهل الاستقامة فيه، ثمّ لا يقال بعد ذلك ما حكم فلان أو غيره من رجال النظام، لأن البحث هو عن شرعية الكيان كله، ومقدار قربه وبعده عن الشريعة.
ومعلوم أن الطوائف الحاكمة تعامل في دين الله تعالى معاملة عامة بحسب ما اجتمعت عليه بغض النظر عن أفرادها (7).
ثالثاً : حكم الله تعالى في نازلة من النوازل لا يؤخذ من دليل واحد وقد وجد غيره، فلا بدّ من إعمال الأدلة الواردة في المسألة جميعها.
والذين يأخذون ببعض النصوص دون غيرها هم أهل البدع، وأغلب أهل البدع أخذوا بعض النصوص وردوا الباقي، كما هو شأن القدرية والجبرية والخوارج مقلدين في ذلك ومتشبهين باليهود الذي قال الله فيهم: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، وأما أهل السنة فهم أهل الهدى، وسبيلهم إعمال النصوص جميعاً دون إهمال لواحد منها، وذلك بعد ثبوت صحتها.
فهذا الأمر يقال للذين يتجاهلون بعض الأحاديث النبوية الشريفة في سعيهم الشديد للدفاع عن النظام والحكام، فلماذا توضع الأيدي على حديث: “لتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً” (8)، ولماذا يعرض عن أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟، فهذه الأحاديث النبوية نصوص يوافق بعضها بعضاً ، ولابد من استحضارها جميعاً في مجال البحث عن موقف المسلم من الحاكم كائناً من كان هذا الحاكم.
رابعاً : دين الله تعالى، دين شامل، لا يخرج عن هيمنته شيء من شؤون الدنيا والآخرة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمنا كيفية الأكل والشرب، بل ما هو أدق منهما، لا يعقل أن يترك للناس ما هو من عظائم الأمور كشؤون السياسة والحكم ليتلاعب بها الحكام تحت دعوى الضرورة السياسية، أو تحت دعوى المصلحة الموهومة، ولذلك فمن اعتقد أن للحاكم الحق في إصدار التشريعات والقوانين التي تخالف دين الله تعالى، ثم أوجب على الناس التزامها فهو بلاشك كافر زنديق كما قرر أهل العلم، قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: (إن هؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم وجوب الطاعة من دون الله كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، كيف لا؟ وهم يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويسعون في الأرض فساداً بقولهم وفعلهم وتأييدهم، ومن جادل عنهم أو أنكر على من كفّرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلاً فلا يخرجهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لأنه لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم) (9).
ولذلك يجب عرض كل شؤون الحكم والقضاء وأنظمة الاقتصاد والعلاقات الخارجية والشؤون الداخلية على الشرع، ولا يخرج عن الشرع شيء منها ومن ادعى أن شيئاً من ذلك بيد الحاكم ولا سلطان للشرع عليه فهو كافر خارج من الملّة.
خامساً : إن معرفة حكم الله تعالى في النظام والحكم هو أمر واجب، لما يترتب عليه من قضايا هي من صميم الإيمان والتوحيد، أما ما يترتب على ذلك من أحكام فهذا باب آخر، يتعلق بالقدرة والإعداد واستكمال الشروط وانتفاء الموانع، لكن يلزم وجوب بيان حقائق الإسلام جميعها، وأركان التوحيد كلها، حتى يعرف الحق من الباطل والإيمان من الكفر ولا تشتبه المفاهيم والرايات، فالبيان هو عهد الله إلينا، "لتبيننّه للناس ولا تكتمونه" (آل عمران 187)، ومحاولة كتم الحق فيما يتعلق بأهم مسائل الدين تحت أي دعوى مسألة مرفوضة، كمحاولة الإرهاب الفكري الذي يمارسه بعض الشيوخ والعلماء بقولهم: إن كشف حقائق الحكام يؤدي إلى الخروج والفتنة، فهذا أمر مرفوض، لأن الفتنة العظمى هي كتم الحق وتزويره وليس بيانه.
سادساً : إن معرفة حكم الله تعالى في الحكم والنظام مناطها ومرجعها إلى معرفة قيام الحكم بالواجبات التي فرضها الله عليه، فالإمامة إنما شرعت في الإسلام لتحقيق مقاصد شرعية ضرورية ومهمة.
هذه الواجبات والمقاصد سيتم استعراضها والوقوف على أداء النظام ليتم معرفة مدى قربه وبعده عن هذه الواجبات والمقاصد، فهل النظام حقاً قام بما أمره الله به؟ أم أنه تتبع هذه الأوامر فنقضها الواحدة تلو الأخرى، وأتى على ضدها رعاية وصيانة وحماية؟.
إن مقاصد الشريعة لا تتحقق كلها على الوجه المطلوب إلا بتطبيق الأحكام الشرعية، ورأس الأحكام الشرعية هو إقامة الحكم بما أنزل الله ونبذ ما سواه، ثم قيام النظام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة العدل في الأحكام والقضاء، وإقامة شعائر الإسلام الظاهرة ورعايتها، والتعامل مع رعيته وغيرهم على أساس الحكم الشرعي، وحفظ المال العام، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم أجمع وغيرها مما هو مذكور في كتب السياسة الشرعية.
فإذا قصّر الحاكم في هذه الواجبات أو عمل على ضدها وجب على الأمة أن تقصره على الحق قصراً وذلك بكل أسلوب شرعي يؤدي إلى رفع الباطل وإحقاق الحق.
سابعاً : أن أمر مراقبة الحكام، وتطبيق الأمر الشرعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أمر موكول إلى الأمة جميعها، لأن أمره صلى الله عليه وسلم بتغيير المنكر بمراتبه الشرعية المعروفة هو أمر لجميع الأمة ولكل من رأى هذا المنكر، بقوله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم ... الحديث” (10)، وهذا من صيغ العموم لأنه نكرة في سياق الشرط، ولم يأت ما يخصصه، وأما أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على الحكام الظلمة فهو بعدم الخروج عليهم وليس بترك مراقبتهم وأمرهم ونهيهم وهذا من باب إعمال جميع النصوص وعدم إهمال بعضها ولا تعارض بينهما.
وهذا في حق الحاكم المسلم الظالم، وأما من أتى بنواقض الإسلام أو بآحاد هذه النواقض فله شأن آخر سيتم بسطه في موضعه.
ومن الضرورة بمكان استحضار هذه المقدمات عند طرح قضية الشرعية، وذلك لأن كثيراً ممن يجادل في قضية شائكة مثل هذ القضية، ينسى المسلمات الشرعية ويناقش من منطلقات مائعة لا تعد مرجعاً شرعياً يعتد به، فمثلاً رغم أن كثيراً ممن يلج هذا الميدان يدعي الالتزام بطريقة أهل السنة والجماعة فإنك تجده يصبح أشد من المعتزلة في تعطيل النصوص والاعتماد على التقدير العقلي في الدفاع عن الحكام، وأشد من الشيعة في ادعاء عصمة الحكام، وأشد من الصوفية في التسليم للحكام، ولذلك كان لابد من تحديد هذه الثوابت الشرعية والعودة إليها عند الاختلاف وإلا ضاعت القضية وتبعثر الأمر.
--------------------------------------------------------------------------------
1) ابن القيم، إعلام الموقعين ، 1/87-88 .
2) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/544 . وللشاطبي كلام جميل في هذا السياق ، راجع الموافقات، 4/165.
3) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/233.
4) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/233.
5) محمد بن وضاح، البدع والنهي عنها، 59.
6) انظر ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/505.
7) انظر الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 55-56. والفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، 28/349.
8) الحديث رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن .
9) محمد بن عبد الوهاب، الرسائل الشخصية ص 188 .
10) الحديث رواه الخمسة إلا البخاري، انظر مسلم بشرح النووي 2/22.
صندوق الأدوات
حفظ المادة
طباعة
إلى صديق
إلى المفضلة
تنبيه عن خطأ
محرك البحث
بحث في الصفحة
بحث متقدم »
شارك معنا
شارك معنا في نشر إصدارات المجاهدين. . . رسالة إلى كل من يملك كتاباً أو مجلة أو شريطاً . . . تتمة
قريبا في المنبر
مجموعة رسائل لعلماء العراق - من عرب وأكراد - في بيان كفر طائفة الرافضة، منها...
صب العذاب على من سب الأصحاب/ تاليف؛ علامة العراق محمود شكري الآلوسي.
اليمنيات المسلولة على الرافضة المخذولة/ تأليف؛ الشيخ زين العابدين بن يوسف الكردي، مفتي بغداد، من علماء القرن العاشر الهجري.
رسالة في كفر طائفة الرافضة وبيان أن دارهم دار حرب/ تأليف؛ العلامة عبد الله الربتكي الكردي، من علماء القرن العاشر الهجري.
النكت الشنيعة في بيان الخلاف بين الله تعالى والشيعة/ تأليف؛ العلامة إبراهيم بن صبغة الدين الحيدري، مفتي بغداد، من علماء القرن الثاني عشر الهجري.
الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية/ تأليف؛ العلامة محمود شكري الآلوسي.
--------------------------------------------------------------------------------
الحكم بغير ما أنزل الله قبل الحديث عن تقويم النظام السعودي من حيث تحكيم الشريعة أوالحكم بما أنزل الله، نستعرض بعض القواعد الهامة في هذه القضية:
أولاً : وجوب الحكم بما أنزل الله ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بل هو معلوم من الدين بالضرورة، قال تعالى: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً" (النساء، 105).
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (...ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله لا بين المسلمين ولا الكفار ولا غير ذلك إلا بحكم الله ورسوله، ومن ابتغى غير ذلك تناوله قوله تعالى: "أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" (المائدة، 50) وقوله تعالى: "فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما" (النساء، 65) (1).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (وتحكيم شرع الله وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسوله هو المتبع المحكم ما جاء به فقط، ولا جُردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك، والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع ...) (2).
ثانياً : ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله تحاكم إلى الطاغوت، وأن سن التشريعات المخالفة لحكم الله "أياً كان اسمها" هو من الكفر البواح، قال تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" (المائدة، 44)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (... فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر) (3).
وقال: (... والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه، أو حرّم الحلال المجمع عليه، أو بدّل الشرع المجمع عليه كان مرتدا ...ً) (4) .
وقال ابن القيم رحمه الله: (... من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء عن الرسول فقد حكم بالطاغوت وتحاكم إليه، وقد أمرنا سبحانه باجتناب الطاغوت قال سبحانه: "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها" (الزمر17،) فالاحتكام إلى شريعة الطاغوت هو نوع من أنواع العبادة التي أمر الله بهجرها واجتنابها ...) (5).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: (... من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ورغب عنه وجعل لله شريكاً في الطاعة، وخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله تعالى به في قوله: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك" (المائدة، 49) وقوله تعالى : "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً" (النساء، 65)) (6).
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في تفسير هذه الآية: (... وقد نفى الله الإيمان عمن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين كما قال تعالى: "ألم تر إلى الذين آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" (النساء60) (7).
ثالثاً : الالتزام بحكم الله يقتضي هيمنة الشرع على كل نظام وقانون وهيئة ومحكمة ومؤسسة وحاكم وقاض ومدير ومسؤول ومحكوم، وإقرار أي قانون مخالف للشرع حتى لو كان فرعياً أو صغيراً هو من الحكم بغير ما أنزل الله ويترتب عليه من الأوصاف والآثار الشرعية ما يترتب على الحكم بغير ما أنزل الله.
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: (كل بدعة - وإن قلّت - تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون ملحقاً بما هو مشروع، فيكون قادحاً في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامداً لكفر، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير - قل أو كثر - كفر، فلا فرق بين ما قلّ أو كثر ...) (8).
قال الجصاص: (... إن من ردّ شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء ردّه من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع عن التسليم ...) (9).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في رسالته إلى أمير الرياض: (... واعتبار شيء من القوانين للحكم بها ولو في أقل القليل لا شك أنه عدم رضاً بحكم الله ورسوله، ونسبة حكم الله ورسوله إلى النقص، وعدم القيام بالكفاية في حل النزاع وإيصال الحقوق إلى أربابها وحكم القوانين إلى الكمال وكفاية الناس في حل مشاكلهم، واعتقاد هذا كفر ناقل عن الملة والأمر كبير مهم وليس من الأمور الاجتهادية ...) (10) .
رابعاً : سنّ القوانين والأنظمة واللوائح الوضعية وإقامة المحاكم أو الهيئات التي تحكم بها هو لاشك من الحكم بغير ما أنزل الله ويترتب عليه أحكام شرعية عظيمة، قال تعالى: "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" (المائدة، 50).
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية : (ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيره، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد هواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير) (11).
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: (... إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين والرد إليه عند تنازع المتنازعين ...) (12).
ويقول العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (تحكيم النظام المخالف لتشريع خالق السموات والأرض في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها، وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" (الشورى، 21)، "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالا، قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون" (يونس، 59) (13).
ويقول الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله في تعليقاته على كتاب التوحيد، في شأن مُحَكِّم القوانين الوضعية: (... فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه أي اسم تسمى به، ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها ...) (14).
ويقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تحكيم القوانين الوضعية: (فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه ...) (15).
خامساً : إن هناك فرقاً كبيراً بين من يقصّر حيناً، ويتجاوز حينا،ً ويظلم حيناً آخر لجهل أو لمحاباة أو لهوى، وبين من يسن الأنظمة، ويجعلها تشريعاً ملزماً للناس يفرضه عليهم، ويؤسس لها المحاكم والهيئات والمجالس ويعين لها القضاة والحكام، ومن الضروري التفريق بين الصنفين لأن الصنف الأول رغم أنه جريمة كبيرة فقد لا يكون كفراً أكبر ناقلاً عن الملة، أما الثاني فهو بلا شك كفر أكبر.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم في الصنف الأول: (... أما الكفر الذي لا ينقل عن الملة والذي ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه كفر دون كفر، وقوله أيضاً “ليس بالكفر الذي تذهبون”، فذلك مثل أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى، وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملّة فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وغيرها، فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمّها الله كفراً...) (16).
وقال في وصف الصنف الثاني: (...وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعداداً وإمداداً، وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً، وحكماً وإلزاماً ومراجع ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك، فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيّأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم الكتاب والسنة من أحكام ذلك القانون، وتلزم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة لشهادة أن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة ...) (17).
سادساً : مجرد زعم الحاكم أو النظام أنه يحكم بالإسلام ويطبق الشريعة لا يُغني شيئاً إذا كان يحتكم إلى غير شرع الله، قال تعالى: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" (النساء ، 60).
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في تفسير هذه الآية: (فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعاً لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زعم أنه مؤمن، فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله: "يزعمون" من نفي إيمانهم، فإن يزعمون إنما يُقال غالباً لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: "وقد أمروا أن يكفروا به" (النساء، 60)، لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد، كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحداً، والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه، كما أن ذلك بيّنٌ في قوله تعالى: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى" (البقرة، 256)، وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به) (18).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في تفسيرها: (... فإن قوله عز وجل "يزعمون" تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد فكل من حكم بغير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه ...) (19).
وقال رحمه الله في موضع آخر بعبارة أكثر تصريحاً في نفس المعنى "لو قال من حكّم القانون أنا أعتقد أنه باطل، فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان وأعتقد أنها باطل" (20).
ومن هذا المنطلق يمكن تقويم الحكم السعودي، هل جعل السيادة للشرع في الأنظمة والسياسات، واقتصرت مخالفاته على بعض التقصير والتجاوز وبعض المظالم أما لجهل أو لمحاباة أو لهوى، كما وقع لكثير من خلفاء المسلمين في التاريخ الإسلامي؟، أم أن الأصل في حكم آل سعود الحالي هو تعطيل سيادة الشرع وتحكيم القوانين والأنظمة غير الشرعية وحصر المحاكم الشرعية فيما يحال إليها من الحكام ثم تخويل الحكام وأمراء المناطق حق تعطيل الأحكام التي تصدرها تلك المحاكم أو إلغاءها؟.
الواقع :
والمتأمل بدقة للواقع التشريعي وأحوال القوانين والأنظمة في المملكة لا يسعه إلا أن يخرج باستنتاج أكيد أن واقع المملكة ينطبق تماماً وبلا جدال على الحالة الثانية.
ولكن الدولة تتهرب من كلمة تشريعات وقوانين وتستخدم بدلاً من ذلك عبارات أنظمة ولوائح وتعليمات وأوامر ومراسيم، وهي في حقيقتها تشريعات كاملة بما تحويه كلمة تشريع من معنى، ففيها نصوص بالإيجاب، ونصوص بالمنع، ونصوص بالعقوبات، ونصوص بإباحة الحرام وتحريم الحلال، والذي يدعي أنها مجرد أنظمة إجرائية ليس لديه من علم الشريعة ولا القانون شروى نقير.
فمن هذه الأنظمة: نظام الأوراق التجارية ونظام الشركات، ونظام العمل والعمال، ونظام مراقبة البنوك، ونظام الجنسية العربية السعودية، ونظام المطبوعات والنشر، ونظام المؤسسات الصحفية، ونظام الأحكام العامة للتعرفة الجمركية، ونظام الجيش العربي السعودي، ونظام العلم الوطني، وغيرها من القوانين والتشريعات، والمتأمل لهذه الأنظمة يكتشف أن الإسلام في وادٍ وحكم آل سعود في واد آخر، فإن مقدمة كل نظام أو لائحة أو مرسوم تؤكد على أن مصادر تشريعها غربية أو مختلطة المصادر، وقد تكون الشريعة من بيبها ولكن ليست المصدر الوحيد!.
بل وتصل الوقاحة في بعض الأحيان أن تعتبر الشريعة مصدراً احتياطياً للتشريع، كما في نظام هيئة تسوية المنازعات لدول مجلس الخليج العربي وكما في المادة (185) من نظام العمل والعمال هذا من جهة اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً للأحكام، فقد نصت هذه الأنظمة على كل أشكال التشريع المخالف للأسلام أما من جهة الحدود والعقوبات الشرعية فإن نظام الجيش العربي السعودي ونظام الأوراق التجارية ونظام مكافحة الرشوة، وغيرها كثير، فيها عدد كبير من العقوبات لا يمت للإسلام بصلة، أما من جهة المسائل المدنية والتجارية ونظام الأوراق التجارية ونظام الشركات وغيره فإنه يحوي أشكالاً من فض المنازعات وأنماط الصلح المخالفة للشريعة جملة وتفصيلاً، ونظام مراقبة البنوك يبيح بلا تحفظ جميع الأنشطة الربوية التي حرمت بالدليل القاطع من الكتاب والسنة، ويعتبرها محمية من قبل الدولة، بل لقد ورد فيه نصوصاً مخالفةً للشرع من جميع الوجوه، وأعطت الملك حق الربوبية الكامل بلا تحفظ.
تقول المادة (27) من نظام المحاكمات العسكرية: “ولصاحب الولاية (الملك) وحده حق تنفيذ الأحكام أو توقيفها أو استبدال حكم بحكم فيها”.
وسعياً لإمضاء هذه التشريعات والقوانين المسماة أنظمة تهرباً وتلبيساً فقد شكلت الدولة محاكم غير شرعية، أسمتها لجاناً وهيئات ودواوين ومجالس، ويشترط في أعضاء هذه المحاكم أن يكونوا متقنين لما ورد في تلك الأنظمة والقوانين لا أن يكونوا شرعيين، وقد تقصّى أحد الباحثين هذه المحاكم فوجدها أكثر من ثلاثين لجنة أو هيئة كلها تمارس دوراً قضائياً مناهضاً للشرع، منها على سبيل المثال هيئة فض المنازعات المصرفية، والمحاكم التجارية وديوان المحاكم العسكرية، وغيرها كثير.
أما المحاكم الشرعية فهي محصورة عملياً في شؤون محدودة، ومع ذلك فهي نفسها لا تسلم من هيمنة القوانين غير الشرعية، فالقضاة الشرعيون ملزمون تعميمات مجلس الوزراء والوزارات المختصة والإمارات والبلديات، حتى لو خالفت تلك التعليمات الشرع، وأحكام القضاة المخالفة لتلك التعليمات أو للأنظمة المذكورة أعلاه غير نافذة أبداً، بل إن القاضي نفسه لا يمكن أن ينظر في كثير من القضايا إلا "حسب النظام"، والنظام هو تصنيف القضايا بما يضمن حصار الشرع في حدود معينة، وإطلاق يد القانون الوضعي في مساحات كبيرة!.
فهذا هو الواقع إذاً! السيادة ليست للشرع، والهيمنة ليست للإسلام، والقوانين والتشريعات غير الإسلامية والمخالفة للشرع قد سرت في معظم أنظمة الدولة، والقضاة الشرعيون محاصرون في دوائر صغيرة لا يستطيعون تجاوزها؟ فكيف يمكن أن يدعي مدع أن هذه الدولة تطبق الشريعة أو تحكم بالإسلام؟ و كيف يشك طالب حق أن الاحتكام إلى تلك التشريعات احتكام إلى الطاغوت؟.
والثابت هنا أن هذه المعاندة للشرع ليست تجاوزاً عن هوى أو رغبة في الجبروت والظلم مع هيمنة الشرع بل هي إعراض عن شرع الله، وترسيخ لغير شرع الله وحصار لشرع الله، ولكن هل يمكن أن يكون ذلك جهلاً أو غفلة؟.
والإجابة على ذلك سهلة وقصيرة وهي أن الحجة في العلم قد قامت على الحكام بلا شك ولا جدل، فلقد وقف العلماء من أمثال الشيخ بن عتيق والشيخ بن سعدي والمفتي السابق الشيخ محمد بن إبراهيم رحمهم الله جميعاً في وجه تلك التشريعات بشكل صريح، ودوّنت مراسلات الشيخ محمد بن إبراهيم في إنكار تلك القوانين والأنظمة والتحذير منها واحداً واحداً، وبدلاً من أن يرتدع آل سعود، ويعملوا بنصيحة الشيخ محمد بن إبراهيم فقد منعوا "بالقوانين نفسها" وبأمر ملكي طبع وتوزيع مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم حتى لا يفتضح هذا الكفر والنفاق، وحديثاً قدم العلماء لهم النصيحة مرة أخرى بشكل منهجي ومركز في "مذكرة النصيحة" بطريقة لا تدع مجالاً لهم أن يدعوا الجهل وسوء الفهم، ولكنهم أبوا النصح وأصروا على قوانينهم وأنظمتهم، فالحجة قامت عليهم قطعاً بلا جدل.
فهل يجادل أحد من أهل العدل والإنصاف بعد هذا الاستعراض في أن الحكم السعودي يحكم بغير ما أنزل الله، وأن تلك الشعيرة العظيمة معطّلة. وأن الإثم في تعطيلها يقع على الأمة كلها؟ لأن ذلك من فروض الكفاية، والأمة مسؤولة بعد ذلك أن تسعى بما أوتيت من قدرة واستطاعة أن تقيم هذه الشعيرة حتى تسلم من الإثم وتؤدي حق الله عليها.
وبناء على ما سبق فإن الذين يدافعون عن النظام بدعوى زعمه تطبيق الإسلام ويستميتون في ذلك في خطر عظيم، قال تعالى "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً" (النساء، 105،107).
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في تفسير قوله تعالى "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" (التوبة، 31) (... من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم فقد اتخذهم أرباباً ...) (12).
1) ابن تيمية الفتاوى، 35/407-408 .
2) محمد بن إبراهيم، الفتاوى، 12/251 .
3) ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، 3/12 .
4) ابن تيمية، الفتاوى، 3/267 .
5) ابن القيم، إعلام الموقعين، 1/49.
6) عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، فتح المجيد، ص392.
7) محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رسالة تحكيم القوانين (ص8).
8) الإمام الشاطبي، الاعتصام، 2/61.
9) الجصاص، أحكام القرآن، 2/214.
10) مجموع فتاوي الشيخ محمد بن إبراهيم ج12/،251 رسالة تحكيم القوانين الصفحات 15،14،13.
11) انظر تفسير ابن كثير، في تفسير سورة المائدة (ج2/17).
12) محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين (ص5).
13) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، 4/84.
14) انظر فتح المجيد ، شرح كتاب التوحيد، 3/396.
15) أحمد شاكر، عمدة التفسير، 4/157.
16) محمد بن ابراهيم، رسالة تحكيم القوانين، 8.
17) محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين، ص7.
18) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، 393 .
19) انظر محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين (ص 8-9).
20) مجموع الفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (189/6).
12) محمد بن عبد الوهاب، كتاب التوحيد، 146. الولاء والبراء
الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين من لوازم الإيمان، ومعيار صحيح يتميز به المؤمن من المنافق، وقبل استعراض العلاقات الخارجية للنظام السعودي يحسن إيراد الحقائق الشرعية في هذا الموضوع الخطير.
أولاً : ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن علاقات المسلمين مع غيرهم ينبغي أن تبنى على أساس الإسلام، فالإسلام هو الأصل في العلاقة مع الآخرين، وقد بينت الآيات موقف المسلم من أهل الشرك والكفر، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين" (المائدة، 51). ويقول سبحانه: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ، ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير" (آل عمران، 28)، ويقول سبحانه: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله" (المجادلة، 22)، ويقول أيضاً : "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" (البقرة، 120)، وقال كذلك: "ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون" (المجادلة، 14)، وقال سبحانه: "بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أيبتغون عندهم العزة، فإن العزة لله جميعاً" (النساء، 139).
ثانياً : ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن إقامة العلاقات على خلاف الأساس الإسلامي يؤدي إلى الكفر والخروج من ملة الإسلام.
قال ابن جرير رحمه الله: (من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم، ويظاهرهم على المسلمين فليس من الله في شيء، أي قد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ..) ثم قال: (... ومن تولى اليهود والنصارى من دون المؤمنين فإنه منهم، أي من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍ أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه) (1).
وقال ابن حزم رحمه الله: (... صح أن قوله: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" (المائدة، 51)، إنما هو على ظاهره، بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين) (2).
وقال ابن تيمية رحمه الله: (أخبر الله في هذه الآية أن متوليهم هو منهم، فقوله سبحانه: "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء؛ (المائدة، 81)، يدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، فالقرآن يصدق بعضه بعضاً ...) (3).
وقال ابن القيم رحمه الله: (إن الله قد حكم ولا أحسن من حكمه أنه من تولى اليهود والنصارى فهو منهم، "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن، كان لهم حكمهم، وهذا عام ...) (4).
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: (... وأخبر سبحانه وتعالى أن من تولاهم فهو منهم ...) (5).
وقال الشيخ حمد بن عتيق: (... قد دلّ القرآن والسنة على أن المسلم إذا حصلت منه موالاة أهل الشرك والانقياد لهم ارتد بذلك عن دينه ...) (6).
قال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: (... إن كل من استسلم للكفار ودخل بطاعتهم وأظهر موالاتهم فقد حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام ووجب جهاده ولزمت معاداته ...) (7).
ثالثاً : أن من واجبات الدولة المسلمة بناءً على ذلك أن تسعى لنشر الإسلام وتدعم الدعوة في كل مكان وتنصر المسلمين وقضايا المسلمين وتدافع عنهم، فقد قال تعالى : "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوِلدان.." (النساء، 75).
وثبت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله” (8).
وعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أُذِلّ عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذلّه الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة” (9).
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من امرئ ٍ يخذل امرءاً مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يُحبّ فيه نُصرته” (10).
رابعاً : أجمع علماء المسلمين أن الدولة أو الجماعة أو الفرد الذي يظاهر أعداء الإسلام ضد المسلمين بالمال أو بالرجال أو بالسلاح أو بالتجسس والمعلومات فهو خارج من الملة.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: (إن خرج معهم لقتال المسلمين طوعاً واختياراً وأعانهم في بدنه وماله فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر) (11).
قال الشيخ سلمان بن سحمان: (وأعجب من هذا أن بعض من يتولى خدمة من حادّ الله ورسوله، ويحسّن أمرهم، ويرغب في ولائهم، ويقدح في أهل الإسلام، وربما أشار بحربهم، فإذا قدم بلاد بعض أهل الإسلام تلقاه منافقوها وجهالها بما لا يليق إلا مع خواص الموحّدين، فافهم أسباب الشرك ووسائله، ومن كان في قلبه حياة وله رغبة وله غيرة وتوقير لرب الأرباب يأنف ويشمئز مما هو دون ذلك ...) (12).
وقد عد الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين من نواقض الإسلام، قال في تعداد النواقض: (موالاة المشرك والركون إليه ونصرته وإعانته باليد واللسان أو المال كما قال تعالى "فلا تكونّن ظهيراً للكافرين" (القصص، 17) (13).
خامساً : أفتى علماء المسلمين أن الذي يمكّن أعداء الإسلام من المسلمين أفراداً أو جماعات أو يسلمهم لهم فهو مرتد، فقد ذكر البرزلي في كتاب "القضاء" في نوازله (أن أمير المؤمنين علي بن يوسف بن تاشفين اللمتوني استفتى علماء زمانه ـ وهم من هم في علمهم ـ في استنصار ابن عباد الأندلسي بالإفرنج ليعينوه على المسلمين فأجابه جُلّهم بردّته وكفره) (14).
الواقع :
إن سجل آل سعود في حرب الإسلام والتواطؤ مع أعدائه سجل طويل لا يسعنا في هذا المقام الإحاطة به، وهذه بعض النماذج لإثبات تلك الحقيقة، وطلبة العلم يعلمون أن واقعة واحدة من مظاهرة أعداء الإسلام على المسلمين، أو التعامل مع أعداء الإسلام تعامل الولي المناصر القريب، يكفي لنزع الشرعية منه ووصفه بالكفر والنفاق،كما نصّ عليه أئمة الإسلام وخاصة علماء الدعوة من أمثال الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، وهذا ليس مجال نقاش عضوية المنظمات الدولية التي تحارب الإسلام ولا المعاهدات الدولية والإقليمية والعلاقات التي قامت على أساس إسقاط دور الدولة في نشر الدعوة ومسؤوليتها تجاه المسلمين في العالم رغم أن تلك بحد ذاتها تقضي على الشرعية، ليس لعدم القناعة بذلك ولكن لأن كثيراً من المسلمين بل حتى من طلبة العلم استمرأها وتعود عليها، فكانت هذه النتائج والأمثلة أبرز وأخطر من ذلك بكثير حتى لا يجادل فيها مجادل أو مكابر.
النموذج الأول : العلاقة مع الأمريكان: لا يشك عاقل أنها علاقة عمالة وعبودية، وقد يُقال أن الدولة المسلمة لا بأس أن تسدد وتقارب إذا كانت في مرحلة ضعف، لكن لا يمكن أن يقبل مسلم من دولته وضع الانبطاح والعبودية الذي يمارسه آل سعود تجاه الأمريكيين، ويكفي أن الأمريكان هم الذين يرسمون سياسة المملكة بكاملها: السياسة الخارجية والعلاقات، السياسة العسكرية، السياسة الاجتماعية، السياسة المالية والاقتصادية، فالخطط الخمسية التي نفذتها المملكة منذ منتصف السبعينات الميلادية وضعها أساتذة من جامعة هارفرد تحت إشراف المخابرات الأمريكية، والاستراتيجية العسكرية وضعتها وزارة الدفاع الأمريكية وتتضمن تلك الاستراتيجية تحديد من هو العدو للمملكة، وقد حُدّد العدو ببعض الجيران من البلاد الإسلامية وشعب الجزيرة نفسه!، والسياسة الاقتصادية وضعها الأمريكان، وقد رسمت تلك السياسة بحيث تحقق أكبر عملية استنزاف مالي في التاريخ، فضلاً عن التحكم المباشر بأسعار النفط وسياسة تسويقه، والتمكن من ارتهان كل احتياطي النفط في أرض الجزيرة، وتمادى الأمريكان في استعباد آل سعود إلى درجة أن وظفوا أموال المملكة لتأمين العمليات السرية التي تقوم بها المخابرات الأمريكية في نيكاراغوا وأنغولا ولبنان وبلاد أخرى.
وحين وقعت حرب الخليج مكّن آل سعود نصف مليون من الأمريكان من جزيرة العرب ثم من تدمير العراق وحصار شعبه المسلم، وكانت السلطة الوحيدة للملك في تلك الحرب أن سمح له الأمريكان بمعرفة توقيت الضربة الأولى، ثم بعد الحرب بقي عشرات الألوف من الأمريكان اليهود والنصارى منهم ذكورهم وإناثهم، مع سلاحهم وطائراتهم يتصرفون تصرف الأسياد، ويدخلون جزيرة العرب ويخرجون بدون معرفة السلطات السعودية، والنصوص الشرعية والإجماع منعقد على تحريم ذلك تحريماً قطعياً.
قال صلى الله عليه وسلم "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً" رواه مسلم.
وكان آخر الأمثلة على تلك العبودية البيان الرسمي من وزارة الخارجية الموجه للشركات يطالبها فيه بالتوقف عن مقاطعة إسرائيل، ويشير البيان صراحة وبدون خجل إلى أن هذا التعميم تم بناءً على توجيهات أمريكا، وهذه النماذج المذكورة مما عرف واشتهر، أما ما خفي من العلاقات والمعاهدات والاتفاقيات فخطير خطير.
النموذج الثاني : علاقة المملكة مع الأنظمة الجاثمة على صدور المسلمين والتي تحارب الإسلام والدعاة، وخاصة دول شمال أفريقيا، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن آل سعود دعموا تلك الأنظمة بالمال وبالدعم الإعلامي والدعم المعنوي علناً وبكل افتخار وقد إستلم واحد من هذه الأنظمة من آل سعود أكثر من ألفي مليون دولار دفعة واحدة كمحاولة لإنقاذه، واستقبل آل سعود أحد وزراء الدفاع في تلك البلاد الذي لا يُعرف عنه إلا حرب الإسلام استقبال الفاتحين وقلّدوه وسام والدهم الملك عبدالعزيز حتى أصبح الحرم الشريف مزاراً مفتوحاً لكل عدو حاقد على الإسلام، وامتلأت وزارة الداخلية بخبراء القمع وحرب "الأصولية" من تلك البلاد، وكانت أكبر الجرائم التي اقترفت في هذا الميدان والتي نص علماء المسلمين بالإجماع أنها ردة عن الإسلام هي تسليم كثير ممن لاذ بالحرم من الدعاة هرباً من طغاة بلاده لحكام بلادهم لقتلهم والتنكيل بهم، وقد تقدّم كلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في أمثال هذا الفعل الذي لم يجرؤ حتى الجاهليون، ولا حتى الدول الكافرة في الزمان المعاصر على اقترافه.
النموذج الثالث : الدعم الصريح للدول والمؤسسات والجماعات الملحدة التي حاربت الإسلام علناً وتقديم ذلك الدعم لها في معركتها مع الإسلام، فقد استلم "الاتحاد السوفياتي" في أوج الحرب مع المجاهدين أربعة آلاف مليون دولار من آل سعود، ودعم آل سعود النظام الاشتراكي الملحد في اليمن الجنوبي بأكثر من ثلاثة آلاف مليون دولار فضلاً عن الدعم العسكري والبشري والسياسي والإعلامي والمعنوي، بل وحتى بالدواء والغذاء، كما قدم آل سعود الدعم المادي والمعنوي للصليبي المجرم جون قرنق وزودوه بالسلاح وبالدواء والغذاء، وكذلك دعموا حزب الكتائب النصراني الماروني وأخيراً دعموا أسياس أفررقي لاحتلال جزيرة حنيش اليمنية.
النموذج الرابع : ذلك الاندفاع الكبير تجاه مشروع الصلح مع اليهود المغتصبين، حيث يفتخر بندر بن سلطان أن المملكة هي التي دفعت تكاليف مؤتمر "مدريد" كاملة، وقبل ذلك تكفّلت المملكة خلال حرب الخليج بتقديم ثلاثة عشر مليار دولار لإسرائيل مقابل إسكاتها عن ضرب العراق، فضلاً عن الدعم الذي تحظى به مسيرة التطبيع مع العدو، دع عنك موافقة المملكة وتأييدها لكل القرارات الدولية التي أعطت الشرعية لاحتلال اليهود لفلسطين، وهذه كلها مما أُعلن وتداوله الإعلام، أما ما لم يُعلَن فطوام عظيمة تصل إلي حد التنسيق الأمني والعسكري والتواطؤ ضد الحركات والجماعات الإسلامية.
النموذج الخامس : اختراق كل الحركات والجماعات والمراكز والمؤسسات الإسلامية بهدف تشتيتها وإثارة الفتنة بينها وإفشال برامجها وتمييع قضيتها وتشويه الإسلام وجعله قاصراً على بعض المعاني المحدودة، وتحويل عدد كبير من المراكز والمؤسسات الإسلامية إلي مؤسسات عميلة تخدم الدعاية للنظام السعودي، ومن ثم الأهداف الأمريكية واليهودية.
ولقد تبين بالأدلة القاطعة من خلال تتبعنا لسياسة المملكة وخاصة بعد حكم الملك فهد أن ما من مصيبة ألمت بالإسلام والمسلمين والدعوة الإسلامية إلا وكان لآل سعود فيها دور فعّال والعياذ بالله، وعلى الذين يدافعون عن النظام أن يثبتوا أن السياسة الخارجية للمملكة لا تحارب الإسلام، فضلاً عن أن تكون في صالح الإسلام.
وبعد هذا الاستعراض فإنه قد ترسخ لكل طالب حق أن الحكام يوالون أعداء الإسلام ويعادون المسلمين ويكيدون لهم، وأن علاقاتهم مبنية على دعم وتأييد كل عمل يضر بالإسلام والمسلمين، ويكفينا من الشواهد الماضية تسليم الذين يلوذون بالحرم من المجاهدين والمضطهدين لحكومات بلادهم، فهل يُعتبر هذا النظام شرعياً بعد كل ذلك؟.
--------------------------------------------------------------------------------
1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن ج313/6.
2) ابن حزم، المحلى، ج35/13.
3) ابن تيمية، الإيمان، 14.
4) ابن القيم، أحكام أهل الذمة،ج 67/1-69.
5) سليمان بن عبد الله آل الشيخ، أوثق عرى الإيمان، 26ـ27.
6) انظر الرسائل والمسائل النجدية،ج1 ص745، وكذلك مجموع رسائل حمد بن عتيق (100ـ101).
7) عبد الله عبد اللطيف، الدرر السنية، 11/7.
8) رواه مسلم.
9) رواه أحمد بسند حسن.
10) قال الهيثمي إسناده حسن.
11) انظر الرسائل والمسائل النجدية، 134/2-135.
12) المرجع السابق، 52/3.
13) انظر محمد بن عبد الوهاب، مجموع التوحيد، 29، والمرجع السابق.
14) انظر نصيحة أهل الإسلام، 179.
رفع شعائر الإسلام
من المسلمات الشرعية أن المسلمين أفراداً وجماعات ودولة يجب أن يسعوا لإعزاز الإسلام ورفع شعائره، ولكن قبل تقويم أداء النظام في هذا الجانب لابد من التأصيل الشرعي العام لهذه القضية.
أولاً : ثبت بالكتاب والسنة أن التمكين للإسلام، ورفع كلمة الله وإقامة شعائر الإسلام وإظهارها واجب شرعي على من تولى أمر المسلمين، قال تعالى "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" (الحج، 41)، نقل القرطبي عن الضحاك في تفسير هذه الآية قوله: (... هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الله الملك ...) (1).
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (...جميع الولايات مقصودها أن يكون الدين كله لله، فإنه سبحانه إنما خلق الخلق لذلك وذلك هو الخير والبر والتقوى ...) (2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها) (3).
وقال إمام الحرمين الجويني (الغرض من الإمامة استيفاء قواعد الإسلام طوعاً أو كرها،ً والمقصد الدين) (4).
وقال الماوردي رحمه الله: (... الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ...) (5).
وهكذا فإن الغرض الأول الذي شرعت من أجله الإمامة هو تحقيق الدين على مستوى المجتمع والدولة.
ثانياً : ثبت بالكتاب والسنة أن رفع شعائر الإسلام والتمكين لدين الله لا يتحصل إلا بقيام الولاة بالأمر بالمعروف "كل معروف"، والنهي عن المنكر "كل منكر"، ولذا صار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناه الشامل واجباً منوطاً بولي الأمر، إذا قصّر فيه قصّر عن شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، وإذا نقضه نقض مقصود الإمامة في الإسلام، قال تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" (آل عمران110،)، وقال: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" (الحج، 41)، وقال تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" (التوبة، 71)، والإمام وكيل أو نائب عن الأمة في تحقيق عهد المؤمنين مع الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على ذلك بشكل واضح وصريح فقال: (... جميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...) (6).
وقد نقل ابن القيم عبارة الشيخ ابن تيمية تقريباً بقوله: (... وجميع الولايات الإسلامية مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...) (7).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: (... ومما يجب على ولي الأمر تفقد الناس من الوقوع فيما نهى الله عنه ورسوله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بإزالة أسبابها، وكذلك بخس الكيل والميزان والربا ...) (8).
قال شيخ الإسلام في حديثه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (... هذا واجب على كل مسلم قادر وهو فرض على الكفاية، يصير فرض عين على القادر الذي لم يتم به غيره، والقدرة هي السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم ...) (9).
ثالثاً : ثبت بالكتاب والسنة كذلك أن تعطيل هذه الشعائر وإنعاش الباطل، وإضعاف الحق سبب في الهلاك والدمار والعذاب الدنيوي، فضلاً عن الإثم المترتب على ذلك، قال تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً" (الإسراء، 16)، قال القرطبي في تفسيرها (وقيل أمّرنا: جعلناهم أمراء لأن العرب تقول: أمير غير مأمور أي غير مؤمّر، فإذا أراد (الله) إهلاك قرية مع تحقيق وعده على ما قال تعالى أمر مترفيها بالفسق والظلم فحق عليها القول بالتدمير ...) (10).
وقد تضافرت الأحاديث النبوية في هذا المعنى فمنها ما رواه الترمذي وأبي داود عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لما وقع النقص في بني إسرائيل، كان الرجل منهم يرى أخاه يقع على الذنب، فينهاه عنه، فإذا كان الغد، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن، فقال: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانو يعتدون" (المائدة، 78) وقرأ حتى بلغ "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون" (المائدة، 78-81) (11).
وعن قيس بن أبي حازم رضي الله عنه قال، قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (يا أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" (المائدة، 105)، وإنما سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب”، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيّروا ولا يغيّرون، إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب”) (12).
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيّروا عليه ولا يغيّرون، إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا” (13)، وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم” (14).
فهذه الأدلة وغيرها كثير دليل قاطع على أن تقصير الأمة ممثلة في نوابها وعلى رأسهم الحاكم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب مباشر في حلول العذاب الدنيوي، فضلاً عن الإثم والسيئات، فكيف إذا كان الحال أكثر من مجرد تقصير، بل أمر بالمنكر ونهي عن المعروف، وإشاعة للفاحشة، ودفاع عن الباطل، وحرب للدعوة.
رابعاً : نص العلماء على أن الطائفة الممتنعة التي تصر على تعطيل الشرائع الثابتة، أو استحلال الحرام الثابت الذي لا عذر لأحد فيه تعامل معاملة مانعي الزكاة الذين قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، ليس لإنكارهم النبوة ولا القرآن ولا حتى لتركهم الصلاة، بل لمجرد تعطيل تلك الشعائر الثابتة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (... وأيما طائفة ممتنعة انتسبت إلى الإسلام وامتنعت عن بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله ...) (15).
ويقول في موضع آخر: (... فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج، أو التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها ...) (16).
وتأمل قوله "أو التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا"، وأين يقع الربا في ذلك، وتأمل قوله كذلك "وإن كانت مقرة بها"، فلا يكفي الإقرار بل لابد من التطبيق.
وبعد هذا الاستعراض لما يفرضه الإسلام على الدولة من إقامة الشعائر، والتمكين للدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخطر تعطيل ذلك على المجتمع، فكيف كان إنجاز النظام السعودي في هذا الجانب؟ وكيف يمكن تقويمه من هذا المنطلق؟ وعلى الذين يحرصون على إصابة الحق في معتقدهم وعملهم، أن يتأملوا الأمر بحنكة وفطنة، ويتخلوا عن السذاجات والتبسيط وخداع النفس ويقبلوا بحقائق الأمور ولا تغرهم الدعاوى والافتراءات.
الواقع :
عند النظر إلى النظام السعودي الحالي بهذه الطريقة فإن المتأمل يخرج باستنتاج غريب مؤدّاه أن ذلك النظام لم يقصر في ذلك الواجب الشرعي الذي من أجله شرعت الإمامة في الإسلام، بل نقضه نقضاً وعمل على خلافه، ولقد تبين أن تعامل النظام مع قضية التمكين لدين الله في الأرض وإظهار الشعائر والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبارة عن خطة كاملة واستراتيجية عريضة، مؤداها مسخ هذا المجتمع، وبتر الأمة عن إرثها الديني العظيم، وتحويل المسلمين إلى مجرد أفراد من المسلمين كلٌّ دينه بينه وبين ربه، ونزع الجانب الاجتماعي، وجانب الدولة عن الإسلام على الأقل من الناحية العملية، وإليك بعض النماذج لواقع الشعائر الإسلامية في النظام السعودي الحالي:
النموذج الأول : شعيرة الجهاد، والحد الأدنى منها الذي تعتبر بعده معطلةً تعطيلاً كاملاً هو حماية البيضة وتحصين الثغور، حتى يكون المسلمون في أمن على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم.
قال الماوردي في تعداده لمسؤوليات الإمام: (... الثالث: حماية البيضة، والذب عن الحريم لتتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال ...) (17).
وقال إمام الحرمين: (... وأما اعتناء الإمام بسد الثغور فهو من أهم الأمور وذلك بأن يحصن أساس الحصون والقلاع إلى قوله ويرتب على كل ثغر من الرجال ما يليق به...) (18).
ومن المعلوم من الدين بالضرورة وجوب الجهاد وتحقيق أدنى درجاته بما ذكر من حماية الببضة وتحصين الثغور ولاشك أن الإضعاف المتعمد للجيش، وانكشاف البلد أمام الأعداء، والاعتماد الكامل في حماية البلاد على أعداء الإسلام واستقدام قواتهم وتمكينها من ثغور المسلمين وقرب الحرمين، بل جعل الاعتماد على هؤلاء والاحتماء بهم أمراً عادياً والاعتراف به صراحة أمام الناس، وعقد المعاهدات من أجله هو تعطيل صريح ونقض كامل لأدنى مراتب تلك الشعيرة العظيمة، وعندما انكشفت تلك الجريمة النكراء في حرب الخليج الثانية، توقع البعض ممن أحسن الظن بأن الوضع سيصلح، لكن الذي حدث هو التأكيد على هذا الواقع، من خلال بقاء جيوش اليهود والنصارى "قوات الحماية" في بلاد المسلمين، والتوقيع على مزيد من المعاهدات في ذلك مما أوقع جزيرة العرب ومهد الإسلام في احتلال كامل، ولا نزيد تعليقاً على اعتبار هذا الوضع مما ينطبق عليه كلام ابن تيمية في وصف الطوائف الممتنعة، حيث اعتبر رحمه الله مجرد التوقف عن جباية الجزية من تعطيل الشعائر فكيف بما ذكر.
النموذج الثاني : من الشعائر المعطلة بشكل صريح شعيرة تحريم الربا الذي ثبت تحريمه قطعياً في الكتاب والسنة وأصبح تحريمه من المعلوم من الدين بالضرورة، بل نص القرآن على أنه حرب لله ورسوله قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" (البقرة، 279)، وقد ثبت في الحديث أن تحريم الربا أعظم من تحريم ما يستعظمه الناس وهو الزنا، ومع كل ذلك التحريم ومع أنه حرب لله ورسوله، فقد أصر الحكام ليس على مجرد السماح للربا علناً وهو بحد ذاته جريمة كبرى بل لقد اعتبروه أساس التعامل الاقتصادي داخل البلاد وخارجها، ودعموا كل المؤسسات الربوية قانوناً ونظاماً، بل وحتى بالمال حيث أنقذت الدولة بقوتها المالية البنوك أكثر من مرة حين أوشكت على الإفلاس، ولم تكتف الدولة بذلك بل منعت رسمياً وبسلطتها إنشاء المصارف الإسلامية، ومنعت نشر فتاوى العلماء حول البنوك الربوية، ومنعت الأحاديث والإعلانات التي تؤيد المصارف الإسلامية، حتى الموجودة منها في بلاد الكفر، فهل يشك أحد بعد ذلك أن شعيرة تحريم الربا معطلة في بلاد الحرمين.
نعود ونذكر بحديث شيخ الإسلام ابن تيمية عن الطوائف الممتنعة، واعتباره مجرد الإقرار بالوجوب أو التحريم لا يمنع من انطباق الوصف عليها بتعطيل الشعيرة وما يترتب شرعاً على ذلك (19).
النموذج الثالث : للشعائر المعطلة أو المنقوضة هو شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمقصود الشرعي بذلك ليس ما يسمى في بلادنا بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هو قيام الدولة من خلال سلطتها على جميع المستويات بنشر الدعوة والأمر بالمعروف وحمايتهما، ومنع المنكرات كما في كلام ابن تيمية رحمه الله فيما سبق (20)، ولربما تبين لطالب الحق أن الدولة لم تقصر في تلك الشعيرة فحسب، بل لقد سعت ضدها فأمرت بالمنكر، ونهت عن المعروف، وحاربت الدعوة، ولو تأمل المرء طريقة الدولة في التعامل مع الدعوة لاكتشف أن تعاملها عبارة عن برنامج متكامل شبيه ببرامج "تجفيف المنابع" المنفذة في بعض دول شمال أفريقيا، وفي هذا البرنامج سعت الدولة لسد كل المنافذ التي يمكن أن تصل بها كلمة الحق والمعروف إلى الناس، وتسهيل كل الطرق التي يصل بها الباطل والمنكر إلى الناس.
ففي المجال الأول ضيقت الدولة على الدعاة فجعلت الحديث إلى الناس سواء في المسجد أو في المنتديات العامة ممنوعاً إلا بإذن، واستخدم هذا النظام في منع عدد كبير من الدعاة المخلصين، وفي نفس الاتجاه فصلت الدولة عدداً كبيراً من الخطباء والعلماء والدعاة من المساجد، بل وحتى من الجامعات، رغم أن بعضهم لا يتجاوز حديثه الإيمانيات، ثم استكملت الدولة تلك الخطوة باعتقال عدد كبير من العلماء والدعاة ومئات من أتباعهم، وغيّبتهم خلف القضبان بل وعرّضت بعضهم للعذاب، وحرمت الأمة من مجرد رؤيتهم ومقابلتهم، هذا فيما يخص الدعاة والعاملين للإسلام من داخل البلاد، أما فيما يخص من هم خارج البلاد فقد كانت بلاد الحرمين إلى عهد قريب ملاذاً للذين يهربون من الطغاة والظالمين، وأما الآن فقد أصبح من دواعي منع الحصول على تأشيرة لدخول البلد وحتى الحج والعمرة هو الانخراط في نشاط إسلامي سياسي، وأدهى من ذلك جرماً تسليم من يلوذ بالحرم لحكوماتهم لقتلهم والتنكيل بهم، وأما في سياق الحرب على الدعوة، فقد فرضت الدولة حصاراً شديداً على الشريط الإسلامي بإقفال عدد كبير من محلات التسجيلات الإسلامية ومنعت عدداً كبيراً من الأشرطة، وفرضت عقوبات صارمة على من يخالف ذلك، وفي نفس الميدان منعت المجلات الإسلامية بالكامل تقريباً، ومُنِع الإسلاميون من التحدث إلى الأمة من خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، إلا من يلتزم في حدود العبادات الفردية، ومُنع الإسلاميون كذلك من الوصول إلى أي منصب سياسي أو عسكري أو أمني أو تعليمي حساس، وتدخلت الدولة حتى في تعيين عمداء الكليات ورؤساء الأقسام سعياً لمنع الإسلاميين من نشر الخير ورفع لواء الدعوة، ولنفس الغرض وهو حصار الدعوة فقد نفذت حديثاً سياسة إيقاف كل الأنشطة المالية حتى الخيرية، وأقفلت جميع المبرات والمؤسسات الخيرية، وسعت الدولة وبكل قوة لمنع أي شكل من أشكال التجمع لهدف التعاون على البر والتقوى، وتعاملت مع ذلك بكل قسوة وعنف، والمطلع على تفاصيل تنفيذ هذه الخطة يخرج بقناعة أن المقصود منها هو الإسلام ذاته، وليس مجرد الانزعاج من شيخ أو عالم دأب على انتقاد الحكام، وهذه قصة ما يسمى ب"شارع الموت" التي تجسّد فيها مفهوم حرب الدولة للإسلام ذاته، وليس لمن ينتقد الحكام، فقبل بضع سنوات لاحظ عدد من الدعاة والغيورين على الإسلام تجمعات من الشباب المنحرف خارج مدينة الرياض تجتمع للعب بالسيارات، وتداول المخدرات واللواط وغيره، فسعى أولئك الدعاة لإقامة مخيم قريب منهم، ودعوهم بأساليب غاية في الرقة والترغيب، ولم تمض أيام حتى استقطبت تلك الفكرة آلاف من أولئك الشباب المنحرف، وبدأوا يتحولون إلى شباب صالح، ولكن لم تبدأ الفكرة بالانتعاش حتى داهمت قوات الأمن المخيم، وتم تكسيره وطرد المجتمعين بحجة عدم وجود إذن له، فلم ييأس الدعاة وسعوا إلى استصدار إذن شخصي من الشيخ بن باز، وأعادوا تأسيس المخيم، ولم يمض يومان حتى داهمتهم قوات الأمن وحطمت المخيم مرة أخرى، واعتقل الشخص الذي سعى لاستصدار إذن من الشيخ بن باز، ولم يُفرج عنه إلا بعد تعهد بعدم تكرار ما عمل، فبالله عليكم أليس هذا دليلاً على حرب الدعوة ذاتها والسعي في نشر الباطل بكل أشكاله؟.
وفي مقابل حصار الدعوة سعت الدولة حثيثاً لتخريب المجتمع بكل وسائل التخريب ففي الإعلام التخريب الفكري والتخريب الأخلاقي، وخروجاً من الحرج في نشر الرذيلة والانحراف الفكري والخلقي في وسائل الإعلام الرسمية، فقد صدّرت الدولة وسائل إعلامها إلى الخارج لتبث السموم من هناك، وفي مجال السماح لأعداء الإسلام والمنحرفين فكرياً وخلقياً والتمكين لهم، فقد استحوذ هؤلاء على معظم المناصب والأماكن الحساسة في البلد، بل لقد أصبح من ضرورات توظيف الإنسان في مركز حساس أن يثبت عدم التزامه الشرعي، حيث تحول الالتزام الشرعي إلى صفة قادحة فيمن يستلم تلك المسؤوليات، وفي الوقت الذي مُنِع فيه المصلحون عن مخاطبة الأمة، فقد فتح الباب على مصراعيه للمفسدين في وسائل الإعلام، ففي الوقت الذي تمنع فيه المجلات الإسلامية، سمح للمجلات الهابطة والساقطة بغزو البلد وتخريبه، وكذلك الحال بالنسبة للتسجيلات الإسلامية، ومحلات الفيديو، بل لقد دعمت الدولة من خلال المتنفذين من الأمراء وحاشيتهم كل أشكال الفساد من دعارة وخلاعة ومخدرات وخمر ولواط وتحلل وانحراف بل وحمت أصحابها من كل أشكال العقاب، والحكايات في هذا الميدان يشيب لها الولدان، وتصور أن آلاف الأمراء كل أمير يستطيع أن يستورد ويوزع ويبيع ويحمي من يريد، فكيف تريد للبلد أن ينجو من الهلاك دون الأخذ على يديه؟.
بالإضافة إلى ما سبق سعت الدولة إلى حل جذري لتلك القضايا، وذلك من خلال تغيير المناهج التعليمية، حتى ينعزل الطالب عن ارتباطه بالعقيدة والدين، ولا يفرق بعدها بين إسلام وكفر، أو بين سنة وبدعة، ويتحول إلى بهيمة تبحث عن إشباع غرائزها.
بقي أمر واحد وهو الحديث عما يسمى بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحقيقة هذه الهيئات أنها ورطة تورط النظام في إرثها، ولم يستطع التخلص منها خوفاً من ردة الفعل لدى العلماء، فسعى إلى أن يجعلها تؤدي دوراً معاكساً لما يراد منها، وهو تشويه الإسلام وتنفير الناس منه، وحوّلها بعد عدد من الإجراءات إلى مؤسسة عاجزة لا يساوي نفوذها نفوذ أصغر مركز من مراكز الشرطة، وحرمها من كل أشكال التطوير والتنظيم، وفرض عليها عدداً من الموظفين المدربين في المخابرات لتشويه صورة الإسلام، ولولا الجهود العظيمة من قبل بعض المخلصين من داخل هذا الجهاز لكان أثر هذا المشروع في تشويه صورة الإسلام من خلال هذا الجهاز أكبر بكثير من الحاصل حالياً.
فهذا واقع النظام إذاً: برنامج متكامل لحرب الإسلام في المسجد والسوق والمدرسة والتلفاز والمذياع والمجلة والجريدة وعلى مستوى الفرد والجماعة والمجتمع والدولة، برنامج لمسخ الأمة وعزلها عن دينها وحضارتها، فهل يستطيع أحد أن يثبت أن النظام يدافع عن الإسلام والدعوة ويحميها؟ إن ذلك مستحيل!، بل أن يثبت أن وضع النظام مع الدعوة هو مجرد تقصير وعجز!؟. وبعد فقد أقيمت الحجة على أن حرباً غير معلنة قائمة ضد الإسلام والدعوة والدعاة في بلاد الحرمين، فكيف تبقى شرعية بعدئذ لمن نقض شعائر عظيمة مثل شعيرة الجهاد وحماية الثغور وحارب الدعوة وحمى الربا والفساد؟!.
--------------------------------------------------------------------------------
1)القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 7/73.
2) محمد بن عبد الوهاب، المجموعة الكاملة، 9/42.
3) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 139.
4) الجويني، غياث الأمم، 138.
5) الماوردي، الأحكام السلطانية، 5.
6) ابن تيمية، الحسبة، 6.
7) ابن القيم، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، 246.
8) انظر الرسائل والمسائل النجدية، 2/11.
9) ابن تيمية، الحسبة، 6.
10) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 1/230.
11) رواه أبو داود والترمذي.
12) أورده أبو داود والترمذي.
13) رواه أبو داود.
14) رواه الترمذي ورواه مسلم في كتاب الإمارة ووجوب طاعة الأمير.
15) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 108.
16) ابن تيمية، الفتاوى، 28/503.
17) الماوردي، الأحكام السلطانية، 16.
18) الجويني، غياث الأمم، 156.
19) انظر ابن تيمية، الفتاوى، 28/503.
20) انظر ص 40 وما بعدها من هذا البحث .
يتبع
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد :
فإنه رغم كثرة الجدل حول تقويم النظام السعودي من الناحية الشرعية فإنه لم تنشر أي دراسة تقويمية منهجية منضبطة لتلك القضية، رغم أهمية الموضوع وشدة الحاجة إليه. ويجنح معظم المتصدين لنقاش هذه القضية إلى اختزالها في حديث أو حديثين، ويتعلقون بظواهر بعض النصوص الشرعية دون اعتبار دلالاتها ودون اعتبار غيرها من النصوص الشرعية ولا تصور مقاصد الشريعة في قضية الإمامة والحكم في الإسلام، ولا مقارنة بينها وبين الواقع الذي يعيشه النظام.
وهذا الأسلوب في تناول قضية شرعية حساسة ومتشعبة خطأ كبير، وينبني عليه استنتاجات خاطئة مثله.
الإشكال الثاني أن كثيرا من هذا النقاش دار داخل مجال نفوذ الحكم السعودي مما يعني استحالة حيادية النقاش، وتبعا لذلك لن تكون هناك دقة في الاستنتاج، لأن المشكلة ليست مجرد إرهاب الحكم، بل بسبب وجود مؤسسة دينية تتبنى طريقة معينة في شرعية الحكم السعودي، ويصعب بل يكاد يستحيل معارضة هذه المؤسسة لأن التبعات والمضاعفات على معارضة تلك المؤسسة ستأتي منها قبل أن تأتي من الحكم السعودي نفسه.
الإشكال الآخر الذي يقع فيه باحثو الشرعية السياسية هو تركيزهم على شرعية فرد الحاكم دون اعتبار نظام الحكم نفسه، ومن ثم يُحرجون أنفسهم بخيارين، إما تزكية الحاكم أو تكفيره، وهذا من الاختزال المرفوض لقضية الشرعية وإرهاب فكري ضمني، بل هو بمثابة تحجيم للشريعة ومقاصدها العظيمة في قضايا الحكم والإمامة.
ويشبه هذا الإشكال ربط قضية الشرعية ربطا عضويا بقضية الخروج المسلح على الحاكم، واعتبار رفع السلاح إلزاما فوريا لمن يرى عدم الشرعية.
وقد أدى ربط قضية الشرعية بالتكفير ورفع السلاح، وما لهاتين القضيتين من تداعيات خطيرة إلى تخوف الكثير من طرق هذا الموضوع أو الاكتفاء بطرقه تحت إسقاط هذه التداعيات، وما يترتب على ذلك من غياب العدل والمنهجية في الاستدلال والاستنتاج.
لكل هذه الأسباب كان لابد من تقديم دراسة شاملة منهجية لهذه القضية تتجاوز التحجيم والاختزال في نص شرعي واحد أو الحكم على شخص الحاكم، إلى تصور تفصيلي لتقويم قضية الشرعية من خلال فهم أركان الإمامة الشرعية التي لا يقوم الحكم الإسلامي إلا بها، ومن ثم تطبيق ممارسات النظام السعودي على هذه الأركان وعندها فقط يمكن تحديد موقع النظام السعودي من الشريعة.
وكانت هذه الدراسة قد نشرت على حلقات في نشرة الحقوق الصادرة عن "لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية"، كما نشرت أجزاء منها في مجلة "الشرعية" الصادرة عن نفس الجهة، وكان الرأي أنه من المصلحة جمعها وتنقيحها ومراجعتها وإضافة ما يمكن إضافته إليها في نفس الموضوع، ومن ثم تقديمها في هذا الكتيب.
وقد كان الحرص في هذه الدراسة على تقديمها بشكل منهجي علمي، وعلى الاعتماد على الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وتخريج الأحاديث وعزو أقوال العلماء إلى الكتب الواردة فيها. ولقد جاء ترتيب هذا البحث في عدة أبواب: أولها مقدمة عامة في تثبيت قواعد شرعية ضرورية لفهم بقية البحث، ويتبع ذلك عدة أبواب حول أركان الإمامة الشرعية، وموقع النظام السعودي منها، ثم بعد ذلك حكم المدافعين عن النظام، ثم تمام البحث بالرد على عدد من الشبهات في قضية الشرع.
نسأل الله أن يجعل هذا العمل سببا في إيضاح كثير مما التبس على المسلمين والدعاة في هذه القضية الحساسة، وأن يوفق الجميع ليساهم في إقامة الإمامة الشرعية على وجهها الصحيح، كما نسأله سبحانه أن يعيننا على إخلاص نياتنا وتصويب أعمالنا ويقر عيوننا بتمكين هذا الدين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد على آله وصحبه وسلم.
مقدمة عامة
إن الحكم الشرعي في أي مسألة أو نازلة أوقضية لا يمكن معرفته إلا بفهمين، الأول: معرفة الواقع والثاني: معرفة حكم الله تعالى فيه أو كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والإمارات والعلامات حتى يحيط به علماً، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر) (1).
أو كما قال ابن تيمية عندما سئل عن حكم التتار فبيّن أن الحكم الشرعي مبني على أصلين: أحدهما المعرفة بحالهم، والثاني معرفة حكم الله في أمثالهم (2).
ولقد كان الظن أن إحجام طلبة العلم وأهله عن إصدار الحكم الشرعي في حق النظام السعودي والأنظمة عامة هو لعدم معرفتهم بالشق الأول (فهم الواقع)، وذلك بسبب تلبيس النظام عليهم بتزوير حقيقته وطمسها بمجموعة من المحسّنات الظاهرة، فكان كشف هذه الممارسات والسياسات التي يجهلها طلبة العلم هو الدور الأهم، وقد أجمع العلماء على وجوب كشف المنافقين والمبتدعين (3).
وقد سئل الإمام أحمد: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟، فقال: (إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل) (4).
ومع أن بلاد الحرمين قد كثر فيها طلبة العلم إلا أن انشغالهم بالعلم وطلبه أبعدهم عن معرفة الواقع وحقيقته، وهذا قد يقع من طلبة العلم وأهله كما نبّه جماعة من السلف على ذلك، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث تحدث عن ذلك في مواطن كثيرة من الفتاوى.
ولقد تبين أن كثيراً من أهل العلم وطلبته قد أحجموا عن تنزيل حكم الله تعالى على هذا الواقع، وأسباب هذا الإحجام متفاوتة، فهناك مجموعة منهم رضيت لنفسها مقام (التقليد)، حيث تنتظر من غيرها هذا التنزيل لتكون التالية لا السابقة في هذه الفضيلة، وهناك من يخاف الأثر المترتب على هذا التنزيل، ويزعم أن قول حكم الله تعالى في النظام سيؤدي إلى فتنة لا تدرى نتائجها، وكأن هذا الصنف ظن أن معرفة حكم الله تعالى شر لابدّ من ستره وتغييبه، وفي هؤلاء يقول محمد بن وضاح رحمه الله تعالى: (إنما هلكت بنو إسرائيل على أيدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على أيدي قرائها وفقهائها) (5)، وحكم الله تعالى فيه النجاة والسعادة حقيقة.
وعلى ضوء هذا فإنه من الواجب الحديث بشكل تفصيلي عن حقيقة النظام، وحكم الله تعالى فيه، وأين هو في دين الله تعالى؟ وما هو موقف الأمة منه وكيف تتعامل معه؟ أي الحديث عن كلا الشقين: الواقع والشرع.
وقبل الشروع في هذه الأمور، لابدّ من تحديد بعض الثوابت والمقدمات النظرية حتى لا يلتبس الحال أو تفهم الأمور على غير محلها، وهذه المقدمات هي:
أولاً : أنه لايقبل حكم ولا اعتقاد إلا بدليل شرعي، والدليل الشرعي هو الكتاب والسنة وفهم قواعد الصحابة ومن تبعهم من خير القرون المشهود لها، وما عداه فليس بحجة في ذاته، بل هو محتاج بنفسه إلى دليل، وكل ما هو خارج الكتاب والسنة والإجماع فهو رأي، والرأي يخطئ ويصيب، ويؤخذ منه ويرد عليه ومن ثم فإن البحث في مسألة شرعية النظام كغيرها من المسائل يجب أن يكون مبنياً على الدليل الشرعي وفهم الواقع بدقة، وعلى الرغم من أن هذا الكلام يبدو أمراً لا جدال حوله، إلا أنه في الحقيقة في عداد المهجور رغم ترداد العلماء له بألسنتهم، وترى بعضهم يرفع شعار "كل ما هو خارج النص والإجماع فهو رأي والرأي ليس بملزم"، ثم تجدهم عند التطبيق يتعاملون مع آراء أهل الفتوى والقضاء وكأنها دين يجب التزامه، ويعتبرون الخروج على هذه الآراء معصية بل معصية كبيرة، بل تراهم يضربون بأدلة الشرع عرض الحائط ويستدلون بحجج واهية هي أشبه بكلام العوام كقولهم: "نحن أحسن من غيرنا"، أو كقولهم: "لا تعكروا علينا الأمن والأمان ورغد العيش".
وهذا يلجئهم إلى تصيد الأقوال الساقطة الشاذة التي لا تمت إلى الدليل الشرعي بصلة، لتبرير أفعال النظام وإسباغ الشرعية عليه بطريقة لا تُقبل من مبتدئ في طلب العلم فضلاً عن العلماء، كموقف أحدهم من الربا المستعر والمنتشر في البلاد طولاً وعرضا،َ وغريب أمر هؤلاء، أنهم يتمسكون بالنصوص الشرعية في قضايا الحيض والنفاس وزكاة الفطر، ويعرضون عن الحكم الشرعي في قضايا جليلة القدر في السياسة والحكم والقضاء، وهي قضايا تمسّ الأمة بأجمعها .
ثانياً : أن الحكم على النظام ليس حكماً على أفراده ورجاله، ولكنه حكم على النظام كله بوصفه نظام حكم، وذلك بغض النظر عن كل فرد فيه بعينه، وقد يعود الحكم العام على بعض أفراده ، ولكن هذا لا يلزم أن يعود على جميع أفراده حسب الأحوال والشروط المعتبرة، وهذا أمر معروف لدى طلبة العلم (6)، فالكلام لا يتوجه على أفراد وشخوص بأعيانهم، ولكن البحث ينصرف إلى حكم النظام وموقعه من الإسلام، فلا يعترض مُعترضٌ علىه بوجود بعض أهل الاستقامة فيه، ثمّ لا يقال بعد ذلك ما حكم فلان أو غيره من رجال النظام، لأن البحث هو عن شرعية الكيان كله، ومقدار قربه وبعده عن الشريعة.
ومعلوم أن الطوائف الحاكمة تعامل في دين الله تعالى معاملة عامة بحسب ما اجتمعت عليه بغض النظر عن أفرادها (7).
ثالثاً : حكم الله تعالى في نازلة من النوازل لا يؤخذ من دليل واحد وقد وجد غيره، فلا بدّ من إعمال الأدلة الواردة في المسألة جميعها.
والذين يأخذون ببعض النصوص دون غيرها هم أهل البدع، وأغلب أهل البدع أخذوا بعض النصوص وردوا الباقي، كما هو شأن القدرية والجبرية والخوارج مقلدين في ذلك ومتشبهين باليهود الذي قال الله فيهم: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، وأما أهل السنة فهم أهل الهدى، وسبيلهم إعمال النصوص جميعاً دون إهمال لواحد منها، وذلك بعد ثبوت صحتها.
فهذا الأمر يقال للذين يتجاهلون بعض الأحاديث النبوية الشريفة في سعيهم الشديد للدفاع عن النظام والحكام، فلماذا توضع الأيدي على حديث: “لتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً” (8)، ولماذا يعرض عن أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟، فهذه الأحاديث النبوية نصوص يوافق بعضها بعضاً ، ولابد من استحضارها جميعاً في مجال البحث عن موقف المسلم من الحاكم كائناً من كان هذا الحاكم.
رابعاً : دين الله تعالى، دين شامل، لا يخرج عن هيمنته شيء من شؤون الدنيا والآخرة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمنا كيفية الأكل والشرب، بل ما هو أدق منهما، لا يعقل أن يترك للناس ما هو من عظائم الأمور كشؤون السياسة والحكم ليتلاعب بها الحكام تحت دعوى الضرورة السياسية، أو تحت دعوى المصلحة الموهومة، ولذلك فمن اعتقد أن للحاكم الحق في إصدار التشريعات والقوانين التي تخالف دين الله تعالى، ثم أوجب على الناس التزامها فهو بلاشك كافر زنديق كما قرر أهل العلم، قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: (إن هؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم وجوب الطاعة من دون الله كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، كيف لا؟ وهم يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويسعون في الأرض فساداً بقولهم وفعلهم وتأييدهم، ومن جادل عنهم أو أنكر على من كفّرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلاً فلا يخرجهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لأنه لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم) (9).
ولذلك يجب عرض كل شؤون الحكم والقضاء وأنظمة الاقتصاد والعلاقات الخارجية والشؤون الداخلية على الشرع، ولا يخرج عن الشرع شيء منها ومن ادعى أن شيئاً من ذلك بيد الحاكم ولا سلطان للشرع عليه فهو كافر خارج من الملّة.
خامساً : إن معرفة حكم الله تعالى في النظام والحكم هو أمر واجب، لما يترتب عليه من قضايا هي من صميم الإيمان والتوحيد، أما ما يترتب على ذلك من أحكام فهذا باب آخر، يتعلق بالقدرة والإعداد واستكمال الشروط وانتفاء الموانع، لكن يلزم وجوب بيان حقائق الإسلام جميعها، وأركان التوحيد كلها، حتى يعرف الحق من الباطل والإيمان من الكفر ولا تشتبه المفاهيم والرايات، فالبيان هو عهد الله إلينا، "لتبيننّه للناس ولا تكتمونه" (آل عمران 187)، ومحاولة كتم الحق فيما يتعلق بأهم مسائل الدين تحت أي دعوى مسألة مرفوضة، كمحاولة الإرهاب الفكري الذي يمارسه بعض الشيوخ والعلماء بقولهم: إن كشف حقائق الحكام يؤدي إلى الخروج والفتنة، فهذا أمر مرفوض، لأن الفتنة العظمى هي كتم الحق وتزويره وليس بيانه.
سادساً : إن معرفة حكم الله تعالى في الحكم والنظام مناطها ومرجعها إلى معرفة قيام الحكم بالواجبات التي فرضها الله عليه، فالإمامة إنما شرعت في الإسلام لتحقيق مقاصد شرعية ضرورية ومهمة.
هذه الواجبات والمقاصد سيتم استعراضها والوقوف على أداء النظام ليتم معرفة مدى قربه وبعده عن هذه الواجبات والمقاصد، فهل النظام حقاً قام بما أمره الله به؟ أم أنه تتبع هذه الأوامر فنقضها الواحدة تلو الأخرى، وأتى على ضدها رعاية وصيانة وحماية؟.
إن مقاصد الشريعة لا تتحقق كلها على الوجه المطلوب إلا بتطبيق الأحكام الشرعية، ورأس الأحكام الشرعية هو إقامة الحكم بما أنزل الله ونبذ ما سواه، ثم قيام النظام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة العدل في الأحكام والقضاء، وإقامة شعائر الإسلام الظاهرة ورعايتها، والتعامل مع رعيته وغيرهم على أساس الحكم الشرعي، وحفظ المال العام، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم أجمع وغيرها مما هو مذكور في كتب السياسة الشرعية.
فإذا قصّر الحاكم في هذه الواجبات أو عمل على ضدها وجب على الأمة أن تقصره على الحق قصراً وذلك بكل أسلوب شرعي يؤدي إلى رفع الباطل وإحقاق الحق.
سابعاً : أن أمر مراقبة الحكام، وتطبيق الأمر الشرعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أمر موكول إلى الأمة جميعها، لأن أمره صلى الله عليه وسلم بتغيير المنكر بمراتبه الشرعية المعروفة هو أمر لجميع الأمة ولكل من رأى هذا المنكر، بقوله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم ... الحديث” (10)، وهذا من صيغ العموم لأنه نكرة في سياق الشرط، ولم يأت ما يخصصه، وأما أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على الحكام الظلمة فهو بعدم الخروج عليهم وليس بترك مراقبتهم وأمرهم ونهيهم وهذا من باب إعمال جميع النصوص وعدم إهمال بعضها ولا تعارض بينهما.
وهذا في حق الحاكم المسلم الظالم، وأما من أتى بنواقض الإسلام أو بآحاد هذه النواقض فله شأن آخر سيتم بسطه في موضعه.
ومن الضرورة بمكان استحضار هذه المقدمات عند طرح قضية الشرعية، وذلك لأن كثيراً ممن يجادل في قضية شائكة مثل هذ القضية، ينسى المسلمات الشرعية ويناقش من منطلقات مائعة لا تعد مرجعاً شرعياً يعتد به، فمثلاً رغم أن كثيراً ممن يلج هذا الميدان يدعي الالتزام بطريقة أهل السنة والجماعة فإنك تجده يصبح أشد من المعتزلة في تعطيل النصوص والاعتماد على التقدير العقلي في الدفاع عن الحكام، وأشد من الشيعة في ادعاء عصمة الحكام، وأشد من الصوفية في التسليم للحكام، ولذلك كان لابد من تحديد هذه الثوابت الشرعية والعودة إليها عند الاختلاف وإلا ضاعت القضية وتبعثر الأمر.
--------------------------------------------------------------------------------
1) ابن القيم، إعلام الموقعين ، 1/87-88 .
2) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/544 . وللشاطبي كلام جميل في هذا السياق ، راجع الموافقات، 4/165.
3) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/233.
4) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/233.
5) محمد بن وضاح، البدع والنهي عنها، 59.
6) انظر ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/505.
7) انظر الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 55-56. والفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، 28/349.
8) الحديث رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن .
9) محمد بن عبد الوهاب، الرسائل الشخصية ص 188 .
10) الحديث رواه الخمسة إلا البخاري، انظر مسلم بشرح النووي 2/22.
صندوق الأدوات
حفظ المادة
طباعة
إلى صديق
إلى المفضلة
تنبيه عن خطأ
محرك البحث
بحث في الصفحة
بحث متقدم »
شارك معنا
شارك معنا في نشر إصدارات المجاهدين. . . رسالة إلى كل من يملك كتاباً أو مجلة أو شريطاً . . . تتمة
قريبا في المنبر
مجموعة رسائل لعلماء العراق - من عرب وأكراد - في بيان كفر طائفة الرافضة، منها...
صب العذاب على من سب الأصحاب/ تاليف؛ علامة العراق محمود شكري الآلوسي.
اليمنيات المسلولة على الرافضة المخذولة/ تأليف؛ الشيخ زين العابدين بن يوسف الكردي، مفتي بغداد، من علماء القرن العاشر الهجري.
رسالة في كفر طائفة الرافضة وبيان أن دارهم دار حرب/ تأليف؛ العلامة عبد الله الربتكي الكردي، من علماء القرن العاشر الهجري.
النكت الشنيعة في بيان الخلاف بين الله تعالى والشيعة/ تأليف؛ العلامة إبراهيم بن صبغة الدين الحيدري، مفتي بغداد، من علماء القرن الثاني عشر الهجري.
الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية/ تأليف؛ العلامة محمود شكري الآلوسي.
--------------------------------------------------------------------------------
الحكم بغير ما أنزل الله قبل الحديث عن تقويم النظام السعودي من حيث تحكيم الشريعة أوالحكم بما أنزل الله، نستعرض بعض القواعد الهامة في هذه القضية:
أولاً : وجوب الحكم بما أنزل الله ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بل هو معلوم من الدين بالضرورة، قال تعالى: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً" (النساء، 105).
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (...ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله لا بين المسلمين ولا الكفار ولا غير ذلك إلا بحكم الله ورسوله، ومن ابتغى غير ذلك تناوله قوله تعالى: "أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" (المائدة، 50) وقوله تعالى: "فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما" (النساء، 65) (1).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (وتحكيم شرع الله وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسوله هو المتبع المحكم ما جاء به فقط، ولا جُردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك، والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع ...) (2).
ثانياً : ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله تحاكم إلى الطاغوت، وأن سن التشريعات المخالفة لحكم الله "أياً كان اسمها" هو من الكفر البواح، قال تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" (المائدة، 44)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (... فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر) (3).
وقال: (... والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه، أو حرّم الحلال المجمع عليه، أو بدّل الشرع المجمع عليه كان مرتدا ...ً) (4) .
وقال ابن القيم رحمه الله: (... من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء عن الرسول فقد حكم بالطاغوت وتحاكم إليه، وقد أمرنا سبحانه باجتناب الطاغوت قال سبحانه: "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها" (الزمر17،) فالاحتكام إلى شريعة الطاغوت هو نوع من أنواع العبادة التي أمر الله بهجرها واجتنابها ...) (5).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: (... من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ورغب عنه وجعل لله شريكاً في الطاعة، وخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله تعالى به في قوله: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك" (المائدة، 49) وقوله تعالى : "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً" (النساء، 65)) (6).
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في تفسير هذه الآية: (... وقد نفى الله الإيمان عمن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين كما قال تعالى: "ألم تر إلى الذين آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" (النساء60) (7).
ثالثاً : الالتزام بحكم الله يقتضي هيمنة الشرع على كل نظام وقانون وهيئة ومحكمة ومؤسسة وحاكم وقاض ومدير ومسؤول ومحكوم، وإقرار أي قانون مخالف للشرع حتى لو كان فرعياً أو صغيراً هو من الحكم بغير ما أنزل الله ويترتب عليه من الأوصاف والآثار الشرعية ما يترتب على الحكم بغير ما أنزل الله.
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: (كل بدعة - وإن قلّت - تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون ملحقاً بما هو مشروع، فيكون قادحاً في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامداً لكفر، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير - قل أو كثر - كفر، فلا فرق بين ما قلّ أو كثر ...) (8).
قال الجصاص: (... إن من ردّ شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء ردّه من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع عن التسليم ...) (9).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في رسالته إلى أمير الرياض: (... واعتبار شيء من القوانين للحكم بها ولو في أقل القليل لا شك أنه عدم رضاً بحكم الله ورسوله، ونسبة حكم الله ورسوله إلى النقص، وعدم القيام بالكفاية في حل النزاع وإيصال الحقوق إلى أربابها وحكم القوانين إلى الكمال وكفاية الناس في حل مشاكلهم، واعتقاد هذا كفر ناقل عن الملة والأمر كبير مهم وليس من الأمور الاجتهادية ...) (10) .
رابعاً : سنّ القوانين والأنظمة واللوائح الوضعية وإقامة المحاكم أو الهيئات التي تحكم بها هو لاشك من الحكم بغير ما أنزل الله ويترتب عليه أحكام شرعية عظيمة، قال تعالى: "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" (المائدة، 50).
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية : (ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيره، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد هواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير) (11).
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: (... إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين والرد إليه عند تنازع المتنازعين ...) (12).
ويقول العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (تحكيم النظام المخالف لتشريع خالق السموات والأرض في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها، وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" (الشورى، 21)، "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالا، قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون" (يونس، 59) (13).
ويقول الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله في تعليقاته على كتاب التوحيد، في شأن مُحَكِّم القوانين الوضعية: (... فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه أي اسم تسمى به، ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها ...) (14).
ويقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تحكيم القوانين الوضعية: (فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه ...) (15).
خامساً : إن هناك فرقاً كبيراً بين من يقصّر حيناً، ويتجاوز حينا،ً ويظلم حيناً آخر لجهل أو لمحاباة أو لهوى، وبين من يسن الأنظمة، ويجعلها تشريعاً ملزماً للناس يفرضه عليهم، ويؤسس لها المحاكم والهيئات والمجالس ويعين لها القضاة والحكام، ومن الضروري التفريق بين الصنفين لأن الصنف الأول رغم أنه جريمة كبيرة فقد لا يكون كفراً أكبر ناقلاً عن الملة، أما الثاني فهو بلا شك كفر أكبر.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم في الصنف الأول: (... أما الكفر الذي لا ينقل عن الملة والذي ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه كفر دون كفر، وقوله أيضاً “ليس بالكفر الذي تذهبون”، فذلك مثل أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى، وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملّة فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وغيرها، فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمّها الله كفراً...) (16).
وقال في وصف الصنف الثاني: (...وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعداداً وإمداداً، وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً، وحكماً وإلزاماً ومراجع ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك، فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيّأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم الكتاب والسنة من أحكام ذلك القانون، وتلزم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة لشهادة أن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة ...) (17).
سادساً : مجرد زعم الحاكم أو النظام أنه يحكم بالإسلام ويطبق الشريعة لا يُغني شيئاً إذا كان يحتكم إلى غير شرع الله، قال تعالى: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" (النساء ، 60).
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في تفسير هذه الآية: (فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعاً لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زعم أنه مؤمن، فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله: "يزعمون" من نفي إيمانهم، فإن يزعمون إنما يُقال غالباً لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: "وقد أمروا أن يكفروا به" (النساء، 60)، لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد، كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحداً، والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه، كما أن ذلك بيّنٌ في قوله تعالى: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى" (البقرة، 256)، وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به) (18).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في تفسيرها: (... فإن قوله عز وجل "يزعمون" تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد فكل من حكم بغير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه ...) (19).
وقال رحمه الله في موضع آخر بعبارة أكثر تصريحاً في نفس المعنى "لو قال من حكّم القانون أنا أعتقد أنه باطل، فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان وأعتقد أنها باطل" (20).
ومن هذا المنطلق يمكن تقويم الحكم السعودي، هل جعل السيادة للشرع في الأنظمة والسياسات، واقتصرت مخالفاته على بعض التقصير والتجاوز وبعض المظالم أما لجهل أو لمحاباة أو لهوى، كما وقع لكثير من خلفاء المسلمين في التاريخ الإسلامي؟، أم أن الأصل في حكم آل سعود الحالي هو تعطيل سيادة الشرع وتحكيم القوانين والأنظمة غير الشرعية وحصر المحاكم الشرعية فيما يحال إليها من الحكام ثم تخويل الحكام وأمراء المناطق حق تعطيل الأحكام التي تصدرها تلك المحاكم أو إلغاءها؟.
الواقع :
والمتأمل بدقة للواقع التشريعي وأحوال القوانين والأنظمة في المملكة لا يسعه إلا أن يخرج باستنتاج أكيد أن واقع المملكة ينطبق تماماً وبلا جدال على الحالة الثانية.
ولكن الدولة تتهرب من كلمة تشريعات وقوانين وتستخدم بدلاً من ذلك عبارات أنظمة ولوائح وتعليمات وأوامر ومراسيم، وهي في حقيقتها تشريعات كاملة بما تحويه كلمة تشريع من معنى، ففيها نصوص بالإيجاب، ونصوص بالمنع، ونصوص بالعقوبات، ونصوص بإباحة الحرام وتحريم الحلال، والذي يدعي أنها مجرد أنظمة إجرائية ليس لديه من علم الشريعة ولا القانون شروى نقير.
فمن هذه الأنظمة: نظام الأوراق التجارية ونظام الشركات، ونظام العمل والعمال، ونظام مراقبة البنوك، ونظام الجنسية العربية السعودية، ونظام المطبوعات والنشر، ونظام المؤسسات الصحفية، ونظام الأحكام العامة للتعرفة الجمركية، ونظام الجيش العربي السعودي، ونظام العلم الوطني، وغيرها من القوانين والتشريعات، والمتأمل لهذه الأنظمة يكتشف أن الإسلام في وادٍ وحكم آل سعود في واد آخر، فإن مقدمة كل نظام أو لائحة أو مرسوم تؤكد على أن مصادر تشريعها غربية أو مختلطة المصادر، وقد تكون الشريعة من بيبها ولكن ليست المصدر الوحيد!.
بل وتصل الوقاحة في بعض الأحيان أن تعتبر الشريعة مصدراً احتياطياً للتشريع، كما في نظام هيئة تسوية المنازعات لدول مجلس الخليج العربي وكما في المادة (185) من نظام العمل والعمال هذا من جهة اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً للأحكام، فقد نصت هذه الأنظمة على كل أشكال التشريع المخالف للأسلام أما من جهة الحدود والعقوبات الشرعية فإن نظام الجيش العربي السعودي ونظام الأوراق التجارية ونظام مكافحة الرشوة، وغيرها كثير، فيها عدد كبير من العقوبات لا يمت للإسلام بصلة، أما من جهة المسائل المدنية والتجارية ونظام الأوراق التجارية ونظام الشركات وغيره فإنه يحوي أشكالاً من فض المنازعات وأنماط الصلح المخالفة للشريعة جملة وتفصيلاً، ونظام مراقبة البنوك يبيح بلا تحفظ جميع الأنشطة الربوية التي حرمت بالدليل القاطع من الكتاب والسنة، ويعتبرها محمية من قبل الدولة، بل لقد ورد فيه نصوصاً مخالفةً للشرع من جميع الوجوه، وأعطت الملك حق الربوبية الكامل بلا تحفظ.
تقول المادة (27) من نظام المحاكمات العسكرية: “ولصاحب الولاية (الملك) وحده حق تنفيذ الأحكام أو توقيفها أو استبدال حكم بحكم فيها”.
وسعياً لإمضاء هذه التشريعات والقوانين المسماة أنظمة تهرباً وتلبيساً فقد شكلت الدولة محاكم غير شرعية، أسمتها لجاناً وهيئات ودواوين ومجالس، ويشترط في أعضاء هذه المحاكم أن يكونوا متقنين لما ورد في تلك الأنظمة والقوانين لا أن يكونوا شرعيين، وقد تقصّى أحد الباحثين هذه المحاكم فوجدها أكثر من ثلاثين لجنة أو هيئة كلها تمارس دوراً قضائياً مناهضاً للشرع، منها على سبيل المثال هيئة فض المنازعات المصرفية، والمحاكم التجارية وديوان المحاكم العسكرية، وغيرها كثير.
أما المحاكم الشرعية فهي محصورة عملياً في شؤون محدودة، ومع ذلك فهي نفسها لا تسلم من هيمنة القوانين غير الشرعية، فالقضاة الشرعيون ملزمون تعميمات مجلس الوزراء والوزارات المختصة والإمارات والبلديات، حتى لو خالفت تلك التعليمات الشرع، وأحكام القضاة المخالفة لتلك التعليمات أو للأنظمة المذكورة أعلاه غير نافذة أبداً، بل إن القاضي نفسه لا يمكن أن ينظر في كثير من القضايا إلا "حسب النظام"، والنظام هو تصنيف القضايا بما يضمن حصار الشرع في حدود معينة، وإطلاق يد القانون الوضعي في مساحات كبيرة!.
فهذا هو الواقع إذاً! السيادة ليست للشرع، والهيمنة ليست للإسلام، والقوانين والتشريعات غير الإسلامية والمخالفة للشرع قد سرت في معظم أنظمة الدولة، والقضاة الشرعيون محاصرون في دوائر صغيرة لا يستطيعون تجاوزها؟ فكيف يمكن أن يدعي مدع أن هذه الدولة تطبق الشريعة أو تحكم بالإسلام؟ و كيف يشك طالب حق أن الاحتكام إلى تلك التشريعات احتكام إلى الطاغوت؟.
والثابت هنا أن هذه المعاندة للشرع ليست تجاوزاً عن هوى أو رغبة في الجبروت والظلم مع هيمنة الشرع بل هي إعراض عن شرع الله، وترسيخ لغير شرع الله وحصار لشرع الله، ولكن هل يمكن أن يكون ذلك جهلاً أو غفلة؟.
والإجابة على ذلك سهلة وقصيرة وهي أن الحجة في العلم قد قامت على الحكام بلا شك ولا جدل، فلقد وقف العلماء من أمثال الشيخ بن عتيق والشيخ بن سعدي والمفتي السابق الشيخ محمد بن إبراهيم رحمهم الله جميعاً في وجه تلك التشريعات بشكل صريح، ودوّنت مراسلات الشيخ محمد بن إبراهيم في إنكار تلك القوانين والأنظمة والتحذير منها واحداً واحداً، وبدلاً من أن يرتدع آل سعود، ويعملوا بنصيحة الشيخ محمد بن إبراهيم فقد منعوا "بالقوانين نفسها" وبأمر ملكي طبع وتوزيع مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم حتى لا يفتضح هذا الكفر والنفاق، وحديثاً قدم العلماء لهم النصيحة مرة أخرى بشكل منهجي ومركز في "مذكرة النصيحة" بطريقة لا تدع مجالاً لهم أن يدعوا الجهل وسوء الفهم، ولكنهم أبوا النصح وأصروا على قوانينهم وأنظمتهم، فالحجة قامت عليهم قطعاً بلا جدل.
فهل يجادل أحد من أهل العدل والإنصاف بعد هذا الاستعراض في أن الحكم السعودي يحكم بغير ما أنزل الله، وأن تلك الشعيرة العظيمة معطّلة. وأن الإثم في تعطيلها يقع على الأمة كلها؟ لأن ذلك من فروض الكفاية، والأمة مسؤولة بعد ذلك أن تسعى بما أوتيت من قدرة واستطاعة أن تقيم هذه الشعيرة حتى تسلم من الإثم وتؤدي حق الله عليها.
وبناء على ما سبق فإن الذين يدافعون عن النظام بدعوى زعمه تطبيق الإسلام ويستميتون في ذلك في خطر عظيم، قال تعالى "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً" (النساء، 105،107).
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في تفسير قوله تعالى "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" (التوبة، 31) (... من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم فقد اتخذهم أرباباً ...) (12).
1) ابن تيمية الفتاوى، 35/407-408 .
2) محمد بن إبراهيم، الفتاوى، 12/251 .
3) ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، 3/12 .
4) ابن تيمية، الفتاوى، 3/267 .
5) ابن القيم، إعلام الموقعين، 1/49.
6) عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، فتح المجيد، ص392.
7) محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رسالة تحكيم القوانين (ص8).
8) الإمام الشاطبي، الاعتصام، 2/61.
9) الجصاص، أحكام القرآن، 2/214.
10) مجموع فتاوي الشيخ محمد بن إبراهيم ج12/،251 رسالة تحكيم القوانين الصفحات 15،14،13.
11) انظر تفسير ابن كثير، في تفسير سورة المائدة (ج2/17).
12) محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين (ص5).
13) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، 4/84.
14) انظر فتح المجيد ، شرح كتاب التوحيد، 3/396.
15) أحمد شاكر، عمدة التفسير، 4/157.
16) محمد بن ابراهيم، رسالة تحكيم القوانين، 8.
17) محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين، ص7.
18) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، 393 .
19) انظر محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين (ص 8-9).
20) مجموع الفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (189/6).
12) محمد بن عبد الوهاب، كتاب التوحيد، 146. الولاء والبراء
الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين من لوازم الإيمان، ومعيار صحيح يتميز به المؤمن من المنافق، وقبل استعراض العلاقات الخارجية للنظام السعودي يحسن إيراد الحقائق الشرعية في هذا الموضوع الخطير.
أولاً : ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن علاقات المسلمين مع غيرهم ينبغي أن تبنى على أساس الإسلام، فالإسلام هو الأصل في العلاقة مع الآخرين، وقد بينت الآيات موقف المسلم من أهل الشرك والكفر، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين" (المائدة، 51). ويقول سبحانه: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ، ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير" (آل عمران، 28)، ويقول سبحانه: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله" (المجادلة، 22)، ويقول أيضاً : "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" (البقرة، 120)، وقال كذلك: "ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون" (المجادلة، 14)، وقال سبحانه: "بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أيبتغون عندهم العزة، فإن العزة لله جميعاً" (النساء، 139).
ثانياً : ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن إقامة العلاقات على خلاف الأساس الإسلامي يؤدي إلى الكفر والخروج من ملة الإسلام.
قال ابن جرير رحمه الله: (من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم، ويظاهرهم على المسلمين فليس من الله في شيء، أي قد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ..) ثم قال: (... ومن تولى اليهود والنصارى من دون المؤمنين فإنه منهم، أي من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍ أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه) (1).
وقال ابن حزم رحمه الله: (... صح أن قوله: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" (المائدة، 51)، إنما هو على ظاهره، بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين) (2).
وقال ابن تيمية رحمه الله: (أخبر الله في هذه الآية أن متوليهم هو منهم، فقوله سبحانه: "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء؛ (المائدة، 81)، يدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، فالقرآن يصدق بعضه بعضاً ...) (3).
وقال ابن القيم رحمه الله: (إن الله قد حكم ولا أحسن من حكمه أنه من تولى اليهود والنصارى فهو منهم، "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن، كان لهم حكمهم، وهذا عام ...) (4).
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: (... وأخبر سبحانه وتعالى أن من تولاهم فهو منهم ...) (5).
وقال الشيخ حمد بن عتيق: (... قد دلّ القرآن والسنة على أن المسلم إذا حصلت منه موالاة أهل الشرك والانقياد لهم ارتد بذلك عن دينه ...) (6).
قال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: (... إن كل من استسلم للكفار ودخل بطاعتهم وأظهر موالاتهم فقد حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام ووجب جهاده ولزمت معاداته ...) (7).
ثالثاً : أن من واجبات الدولة المسلمة بناءً على ذلك أن تسعى لنشر الإسلام وتدعم الدعوة في كل مكان وتنصر المسلمين وقضايا المسلمين وتدافع عنهم، فقد قال تعالى : "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوِلدان.." (النساء، 75).
وثبت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله” (8).
وعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أُذِلّ عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذلّه الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة” (9).
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من امرئ ٍ يخذل امرءاً مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يُحبّ فيه نُصرته” (10).
رابعاً : أجمع علماء المسلمين أن الدولة أو الجماعة أو الفرد الذي يظاهر أعداء الإسلام ضد المسلمين بالمال أو بالرجال أو بالسلاح أو بالتجسس والمعلومات فهو خارج من الملة.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: (إن خرج معهم لقتال المسلمين طوعاً واختياراً وأعانهم في بدنه وماله فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر) (11).
قال الشيخ سلمان بن سحمان: (وأعجب من هذا أن بعض من يتولى خدمة من حادّ الله ورسوله، ويحسّن أمرهم، ويرغب في ولائهم، ويقدح في أهل الإسلام، وربما أشار بحربهم، فإذا قدم بلاد بعض أهل الإسلام تلقاه منافقوها وجهالها بما لا يليق إلا مع خواص الموحّدين، فافهم أسباب الشرك ووسائله، ومن كان في قلبه حياة وله رغبة وله غيرة وتوقير لرب الأرباب يأنف ويشمئز مما هو دون ذلك ...) (12).
وقد عد الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين من نواقض الإسلام، قال في تعداد النواقض: (موالاة المشرك والركون إليه ونصرته وإعانته باليد واللسان أو المال كما قال تعالى "فلا تكونّن ظهيراً للكافرين" (القصص، 17) (13).
خامساً : أفتى علماء المسلمين أن الذي يمكّن أعداء الإسلام من المسلمين أفراداً أو جماعات أو يسلمهم لهم فهو مرتد، فقد ذكر البرزلي في كتاب "القضاء" في نوازله (أن أمير المؤمنين علي بن يوسف بن تاشفين اللمتوني استفتى علماء زمانه ـ وهم من هم في علمهم ـ في استنصار ابن عباد الأندلسي بالإفرنج ليعينوه على المسلمين فأجابه جُلّهم بردّته وكفره) (14).
الواقع :
إن سجل آل سعود في حرب الإسلام والتواطؤ مع أعدائه سجل طويل لا يسعنا في هذا المقام الإحاطة به، وهذه بعض النماذج لإثبات تلك الحقيقة، وطلبة العلم يعلمون أن واقعة واحدة من مظاهرة أعداء الإسلام على المسلمين، أو التعامل مع أعداء الإسلام تعامل الولي المناصر القريب، يكفي لنزع الشرعية منه ووصفه بالكفر والنفاق،كما نصّ عليه أئمة الإسلام وخاصة علماء الدعوة من أمثال الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، وهذا ليس مجال نقاش عضوية المنظمات الدولية التي تحارب الإسلام ولا المعاهدات الدولية والإقليمية والعلاقات التي قامت على أساس إسقاط دور الدولة في نشر الدعوة ومسؤوليتها تجاه المسلمين في العالم رغم أن تلك بحد ذاتها تقضي على الشرعية، ليس لعدم القناعة بذلك ولكن لأن كثيراً من المسلمين بل حتى من طلبة العلم استمرأها وتعود عليها، فكانت هذه النتائج والأمثلة أبرز وأخطر من ذلك بكثير حتى لا يجادل فيها مجادل أو مكابر.
النموذج الأول : العلاقة مع الأمريكان: لا يشك عاقل أنها علاقة عمالة وعبودية، وقد يُقال أن الدولة المسلمة لا بأس أن تسدد وتقارب إذا كانت في مرحلة ضعف، لكن لا يمكن أن يقبل مسلم من دولته وضع الانبطاح والعبودية الذي يمارسه آل سعود تجاه الأمريكيين، ويكفي أن الأمريكان هم الذين يرسمون سياسة المملكة بكاملها: السياسة الخارجية والعلاقات، السياسة العسكرية، السياسة الاجتماعية، السياسة المالية والاقتصادية، فالخطط الخمسية التي نفذتها المملكة منذ منتصف السبعينات الميلادية وضعها أساتذة من جامعة هارفرد تحت إشراف المخابرات الأمريكية، والاستراتيجية العسكرية وضعتها وزارة الدفاع الأمريكية وتتضمن تلك الاستراتيجية تحديد من هو العدو للمملكة، وقد حُدّد العدو ببعض الجيران من البلاد الإسلامية وشعب الجزيرة نفسه!، والسياسة الاقتصادية وضعها الأمريكان، وقد رسمت تلك السياسة بحيث تحقق أكبر عملية استنزاف مالي في التاريخ، فضلاً عن التحكم المباشر بأسعار النفط وسياسة تسويقه، والتمكن من ارتهان كل احتياطي النفط في أرض الجزيرة، وتمادى الأمريكان في استعباد آل سعود إلى درجة أن وظفوا أموال المملكة لتأمين العمليات السرية التي تقوم بها المخابرات الأمريكية في نيكاراغوا وأنغولا ولبنان وبلاد أخرى.
وحين وقعت حرب الخليج مكّن آل سعود نصف مليون من الأمريكان من جزيرة العرب ثم من تدمير العراق وحصار شعبه المسلم، وكانت السلطة الوحيدة للملك في تلك الحرب أن سمح له الأمريكان بمعرفة توقيت الضربة الأولى، ثم بعد الحرب بقي عشرات الألوف من الأمريكان اليهود والنصارى منهم ذكورهم وإناثهم، مع سلاحهم وطائراتهم يتصرفون تصرف الأسياد، ويدخلون جزيرة العرب ويخرجون بدون معرفة السلطات السعودية، والنصوص الشرعية والإجماع منعقد على تحريم ذلك تحريماً قطعياً.
قال صلى الله عليه وسلم "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً" رواه مسلم.
وكان آخر الأمثلة على تلك العبودية البيان الرسمي من وزارة الخارجية الموجه للشركات يطالبها فيه بالتوقف عن مقاطعة إسرائيل، ويشير البيان صراحة وبدون خجل إلى أن هذا التعميم تم بناءً على توجيهات أمريكا، وهذه النماذج المذكورة مما عرف واشتهر، أما ما خفي من العلاقات والمعاهدات والاتفاقيات فخطير خطير.
النموذج الثاني : علاقة المملكة مع الأنظمة الجاثمة على صدور المسلمين والتي تحارب الإسلام والدعاة، وخاصة دول شمال أفريقيا، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن آل سعود دعموا تلك الأنظمة بالمال وبالدعم الإعلامي والدعم المعنوي علناً وبكل افتخار وقد إستلم واحد من هذه الأنظمة من آل سعود أكثر من ألفي مليون دولار دفعة واحدة كمحاولة لإنقاذه، واستقبل آل سعود أحد وزراء الدفاع في تلك البلاد الذي لا يُعرف عنه إلا حرب الإسلام استقبال الفاتحين وقلّدوه وسام والدهم الملك عبدالعزيز حتى أصبح الحرم الشريف مزاراً مفتوحاً لكل عدو حاقد على الإسلام، وامتلأت وزارة الداخلية بخبراء القمع وحرب "الأصولية" من تلك البلاد، وكانت أكبر الجرائم التي اقترفت في هذا الميدان والتي نص علماء المسلمين بالإجماع أنها ردة عن الإسلام هي تسليم كثير ممن لاذ بالحرم من الدعاة هرباً من طغاة بلاده لحكام بلادهم لقتلهم والتنكيل بهم، وقد تقدّم كلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في أمثال هذا الفعل الذي لم يجرؤ حتى الجاهليون، ولا حتى الدول الكافرة في الزمان المعاصر على اقترافه.
النموذج الثالث : الدعم الصريح للدول والمؤسسات والجماعات الملحدة التي حاربت الإسلام علناً وتقديم ذلك الدعم لها في معركتها مع الإسلام، فقد استلم "الاتحاد السوفياتي" في أوج الحرب مع المجاهدين أربعة آلاف مليون دولار من آل سعود، ودعم آل سعود النظام الاشتراكي الملحد في اليمن الجنوبي بأكثر من ثلاثة آلاف مليون دولار فضلاً عن الدعم العسكري والبشري والسياسي والإعلامي والمعنوي، بل وحتى بالدواء والغذاء، كما قدم آل سعود الدعم المادي والمعنوي للصليبي المجرم جون قرنق وزودوه بالسلاح وبالدواء والغذاء، وكذلك دعموا حزب الكتائب النصراني الماروني وأخيراً دعموا أسياس أفررقي لاحتلال جزيرة حنيش اليمنية.
النموذج الرابع : ذلك الاندفاع الكبير تجاه مشروع الصلح مع اليهود المغتصبين، حيث يفتخر بندر بن سلطان أن المملكة هي التي دفعت تكاليف مؤتمر "مدريد" كاملة، وقبل ذلك تكفّلت المملكة خلال حرب الخليج بتقديم ثلاثة عشر مليار دولار لإسرائيل مقابل إسكاتها عن ضرب العراق، فضلاً عن الدعم الذي تحظى به مسيرة التطبيع مع العدو، دع عنك موافقة المملكة وتأييدها لكل القرارات الدولية التي أعطت الشرعية لاحتلال اليهود لفلسطين، وهذه كلها مما أُعلن وتداوله الإعلام، أما ما لم يُعلَن فطوام عظيمة تصل إلي حد التنسيق الأمني والعسكري والتواطؤ ضد الحركات والجماعات الإسلامية.
النموذج الخامس : اختراق كل الحركات والجماعات والمراكز والمؤسسات الإسلامية بهدف تشتيتها وإثارة الفتنة بينها وإفشال برامجها وتمييع قضيتها وتشويه الإسلام وجعله قاصراً على بعض المعاني المحدودة، وتحويل عدد كبير من المراكز والمؤسسات الإسلامية إلي مؤسسات عميلة تخدم الدعاية للنظام السعودي، ومن ثم الأهداف الأمريكية واليهودية.
ولقد تبين بالأدلة القاطعة من خلال تتبعنا لسياسة المملكة وخاصة بعد حكم الملك فهد أن ما من مصيبة ألمت بالإسلام والمسلمين والدعوة الإسلامية إلا وكان لآل سعود فيها دور فعّال والعياذ بالله، وعلى الذين يدافعون عن النظام أن يثبتوا أن السياسة الخارجية للمملكة لا تحارب الإسلام، فضلاً عن أن تكون في صالح الإسلام.
وبعد هذا الاستعراض فإنه قد ترسخ لكل طالب حق أن الحكام يوالون أعداء الإسلام ويعادون المسلمين ويكيدون لهم، وأن علاقاتهم مبنية على دعم وتأييد كل عمل يضر بالإسلام والمسلمين، ويكفينا من الشواهد الماضية تسليم الذين يلوذون بالحرم من المجاهدين والمضطهدين لحكومات بلادهم، فهل يُعتبر هذا النظام شرعياً بعد كل ذلك؟.
--------------------------------------------------------------------------------
1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن ج313/6.
2) ابن حزم، المحلى، ج35/13.
3) ابن تيمية، الإيمان، 14.
4) ابن القيم، أحكام أهل الذمة،ج 67/1-69.
5) سليمان بن عبد الله آل الشيخ، أوثق عرى الإيمان، 26ـ27.
6) انظر الرسائل والمسائل النجدية،ج1 ص745، وكذلك مجموع رسائل حمد بن عتيق (100ـ101).
7) عبد الله عبد اللطيف، الدرر السنية، 11/7.
8) رواه مسلم.
9) رواه أحمد بسند حسن.
10) قال الهيثمي إسناده حسن.
11) انظر الرسائل والمسائل النجدية، 134/2-135.
12) المرجع السابق، 52/3.
13) انظر محمد بن عبد الوهاب، مجموع التوحيد، 29، والمرجع السابق.
14) انظر نصيحة أهل الإسلام، 179.
رفع شعائر الإسلام
من المسلمات الشرعية أن المسلمين أفراداً وجماعات ودولة يجب أن يسعوا لإعزاز الإسلام ورفع شعائره، ولكن قبل تقويم أداء النظام في هذا الجانب لابد من التأصيل الشرعي العام لهذه القضية.
أولاً : ثبت بالكتاب والسنة أن التمكين للإسلام، ورفع كلمة الله وإقامة شعائر الإسلام وإظهارها واجب شرعي على من تولى أمر المسلمين، قال تعالى "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" (الحج، 41)، نقل القرطبي عن الضحاك في تفسير هذه الآية قوله: (... هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الله الملك ...) (1).
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (...جميع الولايات مقصودها أن يكون الدين كله لله، فإنه سبحانه إنما خلق الخلق لذلك وذلك هو الخير والبر والتقوى ...) (2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها) (3).
وقال إمام الحرمين الجويني (الغرض من الإمامة استيفاء قواعد الإسلام طوعاً أو كرها،ً والمقصد الدين) (4).
وقال الماوردي رحمه الله: (... الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ...) (5).
وهكذا فإن الغرض الأول الذي شرعت من أجله الإمامة هو تحقيق الدين على مستوى المجتمع والدولة.
ثانياً : ثبت بالكتاب والسنة أن رفع شعائر الإسلام والتمكين لدين الله لا يتحصل إلا بقيام الولاة بالأمر بالمعروف "كل معروف"، والنهي عن المنكر "كل منكر"، ولذا صار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناه الشامل واجباً منوطاً بولي الأمر، إذا قصّر فيه قصّر عن شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، وإذا نقضه نقض مقصود الإمامة في الإسلام، قال تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" (آل عمران110،)، وقال: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" (الحج، 41)، وقال تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" (التوبة، 71)، والإمام وكيل أو نائب عن الأمة في تحقيق عهد المؤمنين مع الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على ذلك بشكل واضح وصريح فقال: (... جميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...) (6).
وقد نقل ابن القيم عبارة الشيخ ابن تيمية تقريباً بقوله: (... وجميع الولايات الإسلامية مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...) (7).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: (... ومما يجب على ولي الأمر تفقد الناس من الوقوع فيما نهى الله عنه ورسوله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بإزالة أسبابها، وكذلك بخس الكيل والميزان والربا ...) (8).
قال شيخ الإسلام في حديثه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (... هذا واجب على كل مسلم قادر وهو فرض على الكفاية، يصير فرض عين على القادر الذي لم يتم به غيره، والقدرة هي السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم ...) (9).
ثالثاً : ثبت بالكتاب والسنة كذلك أن تعطيل هذه الشعائر وإنعاش الباطل، وإضعاف الحق سبب في الهلاك والدمار والعذاب الدنيوي، فضلاً عن الإثم المترتب على ذلك، قال تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً" (الإسراء، 16)، قال القرطبي في تفسيرها (وقيل أمّرنا: جعلناهم أمراء لأن العرب تقول: أمير غير مأمور أي غير مؤمّر، فإذا أراد (الله) إهلاك قرية مع تحقيق وعده على ما قال تعالى أمر مترفيها بالفسق والظلم فحق عليها القول بالتدمير ...) (10).
وقد تضافرت الأحاديث النبوية في هذا المعنى فمنها ما رواه الترمذي وأبي داود عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لما وقع النقص في بني إسرائيل، كان الرجل منهم يرى أخاه يقع على الذنب، فينهاه عنه، فإذا كان الغد، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن، فقال: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانو يعتدون" (المائدة، 78) وقرأ حتى بلغ "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون" (المائدة، 78-81) (11).
وعن قيس بن أبي حازم رضي الله عنه قال، قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (يا أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" (المائدة، 105)، وإنما سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب”، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيّروا ولا يغيّرون، إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب”) (12).
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيّروا عليه ولا يغيّرون، إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا” (13)، وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم” (14).
فهذه الأدلة وغيرها كثير دليل قاطع على أن تقصير الأمة ممثلة في نوابها وعلى رأسهم الحاكم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب مباشر في حلول العذاب الدنيوي، فضلاً عن الإثم والسيئات، فكيف إذا كان الحال أكثر من مجرد تقصير، بل أمر بالمنكر ونهي عن المعروف، وإشاعة للفاحشة، ودفاع عن الباطل، وحرب للدعوة.
رابعاً : نص العلماء على أن الطائفة الممتنعة التي تصر على تعطيل الشرائع الثابتة، أو استحلال الحرام الثابت الذي لا عذر لأحد فيه تعامل معاملة مانعي الزكاة الذين قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، ليس لإنكارهم النبوة ولا القرآن ولا حتى لتركهم الصلاة، بل لمجرد تعطيل تلك الشعائر الثابتة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (... وأيما طائفة ممتنعة انتسبت إلى الإسلام وامتنعت عن بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله ...) (15).
ويقول في موضع آخر: (... فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج، أو التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها ...) (16).
وتأمل قوله "أو التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا"، وأين يقع الربا في ذلك، وتأمل قوله كذلك "وإن كانت مقرة بها"، فلا يكفي الإقرار بل لابد من التطبيق.
وبعد هذا الاستعراض لما يفرضه الإسلام على الدولة من إقامة الشعائر، والتمكين للدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخطر تعطيل ذلك على المجتمع، فكيف كان إنجاز النظام السعودي في هذا الجانب؟ وكيف يمكن تقويمه من هذا المنطلق؟ وعلى الذين يحرصون على إصابة الحق في معتقدهم وعملهم، أن يتأملوا الأمر بحنكة وفطنة، ويتخلوا عن السذاجات والتبسيط وخداع النفس ويقبلوا بحقائق الأمور ولا تغرهم الدعاوى والافتراءات.
الواقع :
عند النظر إلى النظام السعودي الحالي بهذه الطريقة فإن المتأمل يخرج باستنتاج غريب مؤدّاه أن ذلك النظام لم يقصر في ذلك الواجب الشرعي الذي من أجله شرعت الإمامة في الإسلام، بل نقضه نقضاً وعمل على خلافه، ولقد تبين أن تعامل النظام مع قضية التمكين لدين الله في الأرض وإظهار الشعائر والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبارة عن خطة كاملة واستراتيجية عريضة، مؤداها مسخ هذا المجتمع، وبتر الأمة عن إرثها الديني العظيم، وتحويل المسلمين إلى مجرد أفراد من المسلمين كلٌّ دينه بينه وبين ربه، ونزع الجانب الاجتماعي، وجانب الدولة عن الإسلام على الأقل من الناحية العملية، وإليك بعض النماذج لواقع الشعائر الإسلامية في النظام السعودي الحالي:
النموذج الأول : شعيرة الجهاد، والحد الأدنى منها الذي تعتبر بعده معطلةً تعطيلاً كاملاً هو حماية البيضة وتحصين الثغور، حتى يكون المسلمون في أمن على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم.
قال الماوردي في تعداده لمسؤوليات الإمام: (... الثالث: حماية البيضة، والذب عن الحريم لتتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال ...) (17).
وقال إمام الحرمين: (... وأما اعتناء الإمام بسد الثغور فهو من أهم الأمور وذلك بأن يحصن أساس الحصون والقلاع إلى قوله ويرتب على كل ثغر من الرجال ما يليق به...) (18).
ومن المعلوم من الدين بالضرورة وجوب الجهاد وتحقيق أدنى درجاته بما ذكر من حماية الببضة وتحصين الثغور ولاشك أن الإضعاف المتعمد للجيش، وانكشاف البلد أمام الأعداء، والاعتماد الكامل في حماية البلاد على أعداء الإسلام واستقدام قواتهم وتمكينها من ثغور المسلمين وقرب الحرمين، بل جعل الاعتماد على هؤلاء والاحتماء بهم أمراً عادياً والاعتراف به صراحة أمام الناس، وعقد المعاهدات من أجله هو تعطيل صريح ونقض كامل لأدنى مراتب تلك الشعيرة العظيمة، وعندما انكشفت تلك الجريمة النكراء في حرب الخليج الثانية، توقع البعض ممن أحسن الظن بأن الوضع سيصلح، لكن الذي حدث هو التأكيد على هذا الواقع، من خلال بقاء جيوش اليهود والنصارى "قوات الحماية" في بلاد المسلمين، والتوقيع على مزيد من المعاهدات في ذلك مما أوقع جزيرة العرب ومهد الإسلام في احتلال كامل، ولا نزيد تعليقاً على اعتبار هذا الوضع مما ينطبق عليه كلام ابن تيمية في وصف الطوائف الممتنعة، حيث اعتبر رحمه الله مجرد التوقف عن جباية الجزية من تعطيل الشعائر فكيف بما ذكر.
النموذج الثاني : من الشعائر المعطلة بشكل صريح شعيرة تحريم الربا الذي ثبت تحريمه قطعياً في الكتاب والسنة وأصبح تحريمه من المعلوم من الدين بالضرورة، بل نص القرآن على أنه حرب لله ورسوله قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" (البقرة، 279)، وقد ثبت في الحديث أن تحريم الربا أعظم من تحريم ما يستعظمه الناس وهو الزنا، ومع كل ذلك التحريم ومع أنه حرب لله ورسوله، فقد أصر الحكام ليس على مجرد السماح للربا علناً وهو بحد ذاته جريمة كبرى بل لقد اعتبروه أساس التعامل الاقتصادي داخل البلاد وخارجها، ودعموا كل المؤسسات الربوية قانوناً ونظاماً، بل وحتى بالمال حيث أنقذت الدولة بقوتها المالية البنوك أكثر من مرة حين أوشكت على الإفلاس، ولم تكتف الدولة بذلك بل منعت رسمياً وبسلطتها إنشاء المصارف الإسلامية، ومنعت نشر فتاوى العلماء حول البنوك الربوية، ومنعت الأحاديث والإعلانات التي تؤيد المصارف الإسلامية، حتى الموجودة منها في بلاد الكفر، فهل يشك أحد بعد ذلك أن شعيرة تحريم الربا معطلة في بلاد الحرمين.
نعود ونذكر بحديث شيخ الإسلام ابن تيمية عن الطوائف الممتنعة، واعتباره مجرد الإقرار بالوجوب أو التحريم لا يمنع من انطباق الوصف عليها بتعطيل الشعيرة وما يترتب شرعاً على ذلك (19).
النموذج الثالث : للشعائر المعطلة أو المنقوضة هو شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمقصود الشرعي بذلك ليس ما يسمى في بلادنا بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هو قيام الدولة من خلال سلطتها على جميع المستويات بنشر الدعوة والأمر بالمعروف وحمايتهما، ومنع المنكرات كما في كلام ابن تيمية رحمه الله فيما سبق (20)، ولربما تبين لطالب الحق أن الدولة لم تقصر في تلك الشعيرة فحسب، بل لقد سعت ضدها فأمرت بالمنكر، ونهت عن المعروف، وحاربت الدعوة، ولو تأمل المرء طريقة الدولة في التعامل مع الدعوة لاكتشف أن تعاملها عبارة عن برنامج متكامل شبيه ببرامج "تجفيف المنابع" المنفذة في بعض دول شمال أفريقيا، وفي هذا البرنامج سعت الدولة لسد كل المنافذ التي يمكن أن تصل بها كلمة الحق والمعروف إلى الناس، وتسهيل كل الطرق التي يصل بها الباطل والمنكر إلى الناس.
ففي المجال الأول ضيقت الدولة على الدعاة فجعلت الحديث إلى الناس سواء في المسجد أو في المنتديات العامة ممنوعاً إلا بإذن، واستخدم هذا النظام في منع عدد كبير من الدعاة المخلصين، وفي نفس الاتجاه فصلت الدولة عدداً كبيراً من الخطباء والعلماء والدعاة من المساجد، بل وحتى من الجامعات، رغم أن بعضهم لا يتجاوز حديثه الإيمانيات، ثم استكملت الدولة تلك الخطوة باعتقال عدد كبير من العلماء والدعاة ومئات من أتباعهم، وغيّبتهم خلف القضبان بل وعرّضت بعضهم للعذاب، وحرمت الأمة من مجرد رؤيتهم ومقابلتهم، هذا فيما يخص الدعاة والعاملين للإسلام من داخل البلاد، أما فيما يخص من هم خارج البلاد فقد كانت بلاد الحرمين إلى عهد قريب ملاذاً للذين يهربون من الطغاة والظالمين، وأما الآن فقد أصبح من دواعي منع الحصول على تأشيرة لدخول البلد وحتى الحج والعمرة هو الانخراط في نشاط إسلامي سياسي، وأدهى من ذلك جرماً تسليم من يلوذ بالحرم لحكوماتهم لقتلهم والتنكيل بهم، وأما في سياق الحرب على الدعوة، فقد فرضت الدولة حصاراً شديداً على الشريط الإسلامي بإقفال عدد كبير من محلات التسجيلات الإسلامية ومنعت عدداً كبيراً من الأشرطة، وفرضت عقوبات صارمة على من يخالف ذلك، وفي نفس الميدان منعت المجلات الإسلامية بالكامل تقريباً، ومُنِع الإسلاميون من التحدث إلى الأمة من خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، إلا من يلتزم في حدود العبادات الفردية، ومُنع الإسلاميون كذلك من الوصول إلى أي منصب سياسي أو عسكري أو أمني أو تعليمي حساس، وتدخلت الدولة حتى في تعيين عمداء الكليات ورؤساء الأقسام سعياً لمنع الإسلاميين من نشر الخير ورفع لواء الدعوة، ولنفس الغرض وهو حصار الدعوة فقد نفذت حديثاً سياسة إيقاف كل الأنشطة المالية حتى الخيرية، وأقفلت جميع المبرات والمؤسسات الخيرية، وسعت الدولة وبكل قوة لمنع أي شكل من أشكال التجمع لهدف التعاون على البر والتقوى، وتعاملت مع ذلك بكل قسوة وعنف، والمطلع على تفاصيل تنفيذ هذه الخطة يخرج بقناعة أن المقصود منها هو الإسلام ذاته، وليس مجرد الانزعاج من شيخ أو عالم دأب على انتقاد الحكام، وهذه قصة ما يسمى ب"شارع الموت" التي تجسّد فيها مفهوم حرب الدولة للإسلام ذاته، وليس لمن ينتقد الحكام، فقبل بضع سنوات لاحظ عدد من الدعاة والغيورين على الإسلام تجمعات من الشباب المنحرف خارج مدينة الرياض تجتمع للعب بالسيارات، وتداول المخدرات واللواط وغيره، فسعى أولئك الدعاة لإقامة مخيم قريب منهم، ودعوهم بأساليب غاية في الرقة والترغيب، ولم تمض أيام حتى استقطبت تلك الفكرة آلاف من أولئك الشباب المنحرف، وبدأوا يتحولون إلى شباب صالح، ولكن لم تبدأ الفكرة بالانتعاش حتى داهمت قوات الأمن المخيم، وتم تكسيره وطرد المجتمعين بحجة عدم وجود إذن له، فلم ييأس الدعاة وسعوا إلى استصدار إذن شخصي من الشيخ بن باز، وأعادوا تأسيس المخيم، ولم يمض يومان حتى داهمتهم قوات الأمن وحطمت المخيم مرة أخرى، واعتقل الشخص الذي سعى لاستصدار إذن من الشيخ بن باز، ولم يُفرج عنه إلا بعد تعهد بعدم تكرار ما عمل، فبالله عليكم أليس هذا دليلاً على حرب الدعوة ذاتها والسعي في نشر الباطل بكل أشكاله؟.
وفي مقابل حصار الدعوة سعت الدولة حثيثاً لتخريب المجتمع بكل وسائل التخريب ففي الإعلام التخريب الفكري والتخريب الأخلاقي، وخروجاً من الحرج في نشر الرذيلة والانحراف الفكري والخلقي في وسائل الإعلام الرسمية، فقد صدّرت الدولة وسائل إعلامها إلى الخارج لتبث السموم من هناك، وفي مجال السماح لأعداء الإسلام والمنحرفين فكرياً وخلقياً والتمكين لهم، فقد استحوذ هؤلاء على معظم المناصب والأماكن الحساسة في البلد، بل لقد أصبح من ضرورات توظيف الإنسان في مركز حساس أن يثبت عدم التزامه الشرعي، حيث تحول الالتزام الشرعي إلى صفة قادحة فيمن يستلم تلك المسؤوليات، وفي الوقت الذي مُنِع فيه المصلحون عن مخاطبة الأمة، فقد فتح الباب على مصراعيه للمفسدين في وسائل الإعلام، ففي الوقت الذي تمنع فيه المجلات الإسلامية، سمح للمجلات الهابطة والساقطة بغزو البلد وتخريبه، وكذلك الحال بالنسبة للتسجيلات الإسلامية، ومحلات الفيديو، بل لقد دعمت الدولة من خلال المتنفذين من الأمراء وحاشيتهم كل أشكال الفساد من دعارة وخلاعة ومخدرات وخمر ولواط وتحلل وانحراف بل وحمت أصحابها من كل أشكال العقاب، والحكايات في هذا الميدان يشيب لها الولدان، وتصور أن آلاف الأمراء كل أمير يستطيع أن يستورد ويوزع ويبيع ويحمي من يريد، فكيف تريد للبلد أن ينجو من الهلاك دون الأخذ على يديه؟.
بالإضافة إلى ما سبق سعت الدولة إلى حل جذري لتلك القضايا، وذلك من خلال تغيير المناهج التعليمية، حتى ينعزل الطالب عن ارتباطه بالعقيدة والدين، ولا يفرق بعدها بين إسلام وكفر، أو بين سنة وبدعة، ويتحول إلى بهيمة تبحث عن إشباع غرائزها.
بقي أمر واحد وهو الحديث عما يسمى بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحقيقة هذه الهيئات أنها ورطة تورط النظام في إرثها، ولم يستطع التخلص منها خوفاً من ردة الفعل لدى العلماء، فسعى إلى أن يجعلها تؤدي دوراً معاكساً لما يراد منها، وهو تشويه الإسلام وتنفير الناس منه، وحوّلها بعد عدد من الإجراءات إلى مؤسسة عاجزة لا يساوي نفوذها نفوذ أصغر مركز من مراكز الشرطة، وحرمها من كل أشكال التطوير والتنظيم، وفرض عليها عدداً من الموظفين المدربين في المخابرات لتشويه صورة الإسلام، ولولا الجهود العظيمة من قبل بعض المخلصين من داخل هذا الجهاز لكان أثر هذا المشروع في تشويه صورة الإسلام من خلال هذا الجهاز أكبر بكثير من الحاصل حالياً.
فهذا واقع النظام إذاً: برنامج متكامل لحرب الإسلام في المسجد والسوق والمدرسة والتلفاز والمذياع والمجلة والجريدة وعلى مستوى الفرد والجماعة والمجتمع والدولة، برنامج لمسخ الأمة وعزلها عن دينها وحضارتها، فهل يستطيع أحد أن يثبت أن النظام يدافع عن الإسلام والدعوة ويحميها؟ إن ذلك مستحيل!، بل أن يثبت أن وضع النظام مع الدعوة هو مجرد تقصير وعجز!؟. وبعد فقد أقيمت الحجة على أن حرباً غير معلنة قائمة ضد الإسلام والدعوة والدعاة في بلاد الحرمين، فكيف تبقى شرعية بعدئذ لمن نقض شعائر عظيمة مثل شعيرة الجهاد وحماية الثغور وحارب الدعوة وحمى الربا والفساد؟!.
--------------------------------------------------------------------------------
1)القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 7/73.
2) محمد بن عبد الوهاب، المجموعة الكاملة، 9/42.
3) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 139.
4) الجويني، غياث الأمم، 138.
5) الماوردي، الأحكام السلطانية، 5.
6) ابن تيمية، الحسبة، 6.
7) ابن القيم، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، 246.
8) انظر الرسائل والمسائل النجدية، 2/11.
9) ابن تيمية، الحسبة، 6.
10) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 1/230.
11) رواه أبو داود والترمذي.
12) أورده أبو داود والترمذي.
13) رواه أبو داود.
14) رواه الترمذي ورواه مسلم في كتاب الإمارة ووجوب طاعة الأمير.
15) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 108.
16) ابن تيمية، الفتاوى، 28/503.
17) الماوردي، الأحكام السلطانية، 16.
18) الجويني، غياث الأمم، 156.
19) انظر ابن تيمية، الفتاوى، 28/503.
20) انظر ص 40 وما بعدها من هذا البحث .
يتبع