المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العالم العربي والعودة للدين



lkhtabi
03-01-2006, 06:31 PM
الاثنين 2 ذي الحجة 1426هـ – 2 يناير 2006م





د. محمد يحيى



مفكرة الإسلام: تثور في العالم العربي ومن خلال العديد من المنابر الإعلامية والثقافية والسياسية قضية تكاد تكون دائمة وهي التساؤل حول أسباب الصحوة الدينية والعودة للدين بأشكال متعددة. ويتفق جميع من يطرحون هذه الظاهرة للتناول وهم في غالبيتهم من العلمانيين المعادين للدين كموقف مبدئي على أن العودة للدين في البلاد الإسلامية أمر سلبي وسيئ وأنه ينم عن ردة حضارية كما تسمى، ونكوصاً على مبادئ الحداثة والتقدم والعصرية وعودة إلى الماضي المتخلّف. كما يطرح المناقشون للقضية أسباباً متعددة لهذه الردة تصف كلها الأمة بصفات ربما كان الجهل هو أقلها سوءاً.



كذلك تتشعب تلك المناقشات لتصل إلى 'حلول' عديدة لمشكلة تصب كلها في خانة مقاومة التدين وتجفيف منابعه والطعن والتشكيك في كل الأفكار والتعاليم الدينية بما فيها العقائد والترويج للقيم والمفاهيم والتوجهات العلمانية المتغربة والدعوة إلى تعميق التبعية والالتحاق بالغرب في حركة العولمة أو على درب التحديث كوسائل لمحاربة هذه الردة الدينية.

واللافت للنظر في هذا الطرح الذي يحول الدين إلى المشكلة الرئيسية والوحيدة التي تعاني منها الشعوب العربية هو أنه يقصر هذه المشكلة على الإسلام وحده ولا يرى أية مشكلة في تمسك أصحاب الأديان الأخرى في العالم العربي أو خارجه بأديانهم أو عودتهم إليها بعد غيبة أو زيادة التزامهم بطقوسها بل وتعصبهم لها تعصباً مقيتاً يقرن بالحرب على المسلمين. وعلى هذا، فعندما تقوم وعلى مدى ما يزيد عن الربع قرن حركات إحياء ديني كبيرة عند بعض الأقليات المسيحية في البلاد العربية [مصر كنموذج رئيسي] لا يعتبرها أحد بمثابة مشكلة بل على العكس ينظر إليها الكثير من العلمانيين على أنها تطور إيجابي يجب أن يلقى الترحيب لا لشيء إلا باعتباره قوة تواجه قوة المشكلة الإسلامية وتوازنها إن لم تحد منها وتردها إلى الوراء. بل يطالب العلمانيون ممن يعتبرون الصحوة الإسلامية مشكلة بالتحالف مع تلك الأقليات المتمردة والمتنمرة ضد التيارات الإسلامية على الرغم من أن صحوات تلك الأقليات هي ذات طابع ديني فوق أنها متحالفة مع الدول الغربية المتربصة بالعالم العربي والمساعدة لإسرائيل والمحتلة للعراق وأفغانستان والغازية لعالم وسط آسيا الإسلامي. هنا يصل التناقض لمداه عندما يشتد هجوم العلمانيين العرب من ناحية على الحركة الدينية الإسلامية بينما يشتد مديحهم على الناحية الأخرى للحركة الدينية المسيحية عند الأقليات إما في ذاتها أو لأنهم يرون فيها سلاحاً ضد العدو المسلم بينما يسكتون من الناحية الثالثة إزاء الهجمة اليهودية الجارفة التي يلعب فيها الدين الدور الأساسي.



والأكثر غرابة وخطورة هو أن الهجمة على الصحوة والحركات الإسلامية والتي تعتبر أن الدين ووجوده في الحياة الاجتماعية يمثل مشكلة خطيرة وعبئاً جسيماً لابد أن يحل باللجوء للعلمانية المتغربة لا تجد أية مشكلة ولا عيب في العودة المتزايدة للدين على طول وعرض العالم الغربي أو بالأصح ما أصبح الآن يسمى بالعالم المسيحي من أمريكا إلى روسيا مروراً بأوروبا غربها وشرقها ووصولاً إلى استراليا وآسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية.

وهذه العودة العالمية للدين لا تقتصر على العالم المسيحي وحده بل لها وجود ملحوظ ونشط في الأديان الهندوسية والبوذية وفي عقائد أخرى بل وفي بعض المذاهب الضالة مثل البهائية أو مذاهب انشقت عن الكنائس المسيحية الكبرى.



وتتخذ العودة للدين في الغرب أكثر من مظهر وتتعدد درجاتها لكن التدين الفردي وتعميق الممارسة الشعائرية والإيمانية هو أقل مظاهرها [رغم أنه هو المظهر الذي يثير حنق العلمانيين في العالم العربي] أما المظاهر الأخرى فإنها توجد في دنيا السياسة والفكر والمجتمع والثقافة والإعلام والسياسات والخطط العامة وتنعكس هذه المظاهر ـ وهذا هو الأهم ـ على أفكار وتوجهات المؤسسات المسماة بالدولية ـ والمفترض أنها محايدة عقائدياً ـ والتي أصبحت تأخذ ببعض أشكال القيم والتوجهات الدينية المسيحية وتتبناها على أنها قيم إنسانية عالمية خاصة بكل البشر كما يحدث مثلاً عند تناول موضوعات الزواج والأسرة بجانب إدخال المفاهيم الشاذة الجديدة. والعودة إلى المسيحية في الغرب من خلال هذه المظاهر تمثل مشكلة حقيقية للفكر العلماني في العالم الإسلامي لأن مبادئ العلمانية الأساسية نشأت وتطورت في البيئة الاجتماعية والفكرية للغرب وهي تعد أصلية وحاكمة هناك على مدى القرون الأربعة الماضية بينما هي في العالم العربي تعد نبتاً وافداً ومستزرعاً بالقوة الجبرية تحت النفوذ الغربي ومن خلال النخب الحاكمة، ولذلك فإن فشل وسقوط المشروع العلماني في بيئته الأصلية وصعود الدين المسيحي ليحل محله بشكل متزايد كان يجب أن يلفت النظر على الأقل لحقيقة أن العودة للدين لا تمثل مشكلة من أي نوع بل إن التمسك المريض بالعلمانية رغم فشلها في موطنها الأصلي هو المشكلة.



كما كان يجب أن يلفت النظر إلى أن العودة للدين في العالم العربي بالذات لا تمثل أية مشكلة لاسيما وأن الدين لم يغب عن الحياة العامة هناك وإن كان قد نُحي وأُضعف نفوذه بدرجات متفاوتة على مدى ما يزيد عن القرن تحت وطأة المؤثرات الاستعمارية وقهر النخب المتغربة. لكن هذه العودة الصارخة للدين المسيحي في حياة الغرب وصولاً إلى قلب الأوضاع السياسية حيث يجب أن تكون العلمانية الصارمة هي الحاكمة وفق دساتير وقوانين تلك البلدان وممارساتها على مدى القرون الماضية لا تثير أي فكر عند العلمانيين العرب المهاجمين للصحوة الإسلامية ولا يحرك فيهم أية رغبة في مراجعة هذا الموقف بل على العكس يبدو أنه يزيد من رغبتهم في التحالف مع هذا الغرب الديني لضرب الدين في بلادهم هم.



ووسط هذا الموقف المتناقض إلى حد المهزلة لا يجد البعض أية مشكلة مثلاً في أن تعلن بعض دوائر الأمن عن ملاحقة من يرفعون شعارات دينية في حفلات ومواكب الأفراح في نفس اليوم الذي يعلن فيه السكرتير العام للحزب المسيحي الديموقراطي المشارك في الحكومة الراهنة في ألمانيا عن ضرورة تشجيع التلاميذ على الصلاة في المدارس بدلاً من إلغاء هذه الدروس ووضع مادة علمانية تسمى الأخلاق محلها [وهو ما حدث بالفعل في أحد البلدان العربية الكبرى].

ولم يكن غريباً والوضع كذلك أن الخبرين المشار إليهما نشرا في نفس اليوم وفي نفس الصحيفة اليومية.