منصور بالله
28-11-2005, 07:01 PM
قدس برس" تخترق الحصار على حديثة وترصد واقعها الصعب .. سياسة "الأرض المحروقة" تحول المدينة إلى خراب .. وجثث لا تزال تحت الأنقاض
حديثة (العراق) - خدمة قدس برس
عندما تتجه إلى الغرب من بغداد، وتروم الذهاب إلى محافظة الأنبار المترامية الأطراف، فإن أهم ما يلفت انتباهك هو ذلك الحشد العسكري الأمريكي المنتشر على جميع مداخل ومخارج المحافظة، بل إن حدسك لن يخطئ إذا ما خمن بأن ثلاثة أرباع القوات الأمريكية موجودة هنا، ولهذا ما يبرره كما يقول محللون، فالمحافظة صارت شوكة في حلق "الثور" الأمريكي الهائج، ومعظم أعمال المقاومة تتم على أرضها.
"حديثة" الواقعة في أعالي حوض الفرات غربا، تعد واحدة من مدن الأنبار الصغيرة، من حيث مساحتها، ونهر الفرات يقسم المدينة إلى قسمين، يربط جسران بينهما، طالما اعتمد عليهما الناس في تدبير أمورهم الحياتية، لكن العمليات العسكرية الواسعة النطاق، التي نفذتها قوات الاحتلال الأمريكي، جعلت من الجسرين أثرا بعد عين.
وقد تمكنت وكالة "قدس برس" من الدخول إلى منطقة "بروانه" في حديثة، التي تعذر وصولنا إلى مركزها الرئيسي، بسبب الحصار المفروض عليها من قبل القوات الأمريكية منذ عدة أسابيع. والتقى موفد الوكالة مع أهالي المدينة، وشاهد آثار العمليات الأمريكية فيها، واستمع إلى قصص مرعبة عما حل بهذه المدينة، التي كانت يوما ما وادعة.
إذ يقول جمعة الحديثي، وهو أحد سكان منطقة بروانة "في أول يوم من أيام شهر رمضان في 5 تشرين أول (أكتوبر) 2005، بدأت القوات الأمريكية عملياتها الواسعة، التي أطلقت عليها بوابة النهر.. لم أشهد في حياتي قوات بهذا الحجم، ولا قصفا بمثل هذه الكثافة!!، كانوا يقصفون كل شيء، سارعوا بقصف الجسرين، الأمر الذي أدى إلى تدهور الأوضاع بشكل كبير، فمستشفى حديثة يقع في الجانب الآخر، مما اضطرنا إلى الاستعانة بالقوارب النهرية، ولكنه وللأسف حتى هذه لم تسلم من الأمريكان، الذين قاموا بقصفها أو ثقبها".
ويتابع جمعة حديثه قائلا "أحد الجيران كان يعاني من احتصار وآلم حاد في جهاز البول، ذهب إلى المضمد القريب فأعطاه علاجا مؤقتا، على أمل أن يصل المستشفى، غير أنه لم يعش طويلا، ومات بعد يومين، بسبب عدم تمكنه من الوصول إلى الضفة الأخرى".
مدينة تحت الأنقاض!
عند دخولنا المدينة شاهدنا على امتداد الشوارع والأزقة الكثير من البنايات وقد سويت بالأرض تماما، وأكد لنا أغلب الأهالي، الذين قابلناهم، أن القوات الأمريكية استخدمت أسلوب الأرض المحروقة في حربها على المدينة الصغيرة. وأوضحوا أن هذه القوات كانت تعلن عبر مكبرات الصوت أنها سوف تقوم بقصف وتدمير ما مساحته 100 متر مربع في أي منطقة تتعرض فيها دورياتها إلى الهجوم.
ويتهم جمعة الحديثي القوات الأمريكية بارتكابها "جرائم بشعة في حديثة"، بسبب سياستها الحربية تلك، إذ يقول: "قبل أسبوع انفجر لغم أرضي في الحي العسكري، دمر عربة همفي، قتل فيها جنرال أمريكي كبير، وبعد ذلك وأثناء توجه قوة أخرى إلى المنطقة، انفجر لغم أرضي ثان، فقامت بتفتيش ومداهمة عدد من المنازل القريبة، غير أنها لم تكتف بذلك، بل قامت بعد خروجها من تلك المنازل، بإلقاء عدد من القنابل، الأمر الذي أدى إلى مقتل أربعة عائلات كاملة في أربع منازل، بينهم نساء وأطفال وشيوخ" ويضيف أنه "إمعانا في التنكيل، قامت تلك القوات بجمع أشلاء الضحايا، ورميها في حديقة مستشفى حديثة، وهذا بشهادة أطباء يعملون في المستشفى، الذين شاهدوا أشلاء وبقايا، نحو أربعين جثة".
"التنكيل الأمريكي" كما يصفه الحديثي، وهو ضابط سابق في الجيش العراقي، لم يقف عند هذا الحد، "فقد عمدت تلك القوات إلى قتل خمسة مدنيين من طلبة المعهد التقني، كانوا في طريقهم إلى المعهد، إذ أوقفتهم عند أحد حواجز التفتيش، وطلبت منهم الانبطاح على الأرض، من أجل تفتيشهم، وقامت بعدها بإطلاق النار عليهم، وهم على الأرض، وبينهم شقيقين".
سياسة "الأرض المحروقة" هذه، أحالت المدينة إلى ما يشبه الركام، فالقصف استهدف عددا كبيرا من مساكنها، وأدى إلى مقتل العشرات من المدنيين، لا يزال بعضهم تحت الأنقاض، ولم تتمكن فرق الإنقاذ من استخراجهم، بسبب حظر التجوال المفروض على حركة السيارات، إلى جانب حظر التجوال الذي يبدأ منذ الساعة السادسة مساء يوميا، وحتى الساعة الثامنة صباحا.
لا مدارس ولا تعليم.. وجنود يرقصون فوق الجثث!!
على الرغم من أن العام الدراسي في العراق بدأ منذ ما يزيد على شهرين، وأن المدارس في أغلب المدن الأخرى تستعد لامتحانات نصف السنة، إلا أن مدينة حديثة المحاصرة لا يزال تلاميذها يترقبون بشغف عودتهم للمدارس.
تقول "أم محمد"، وهي معلمة في إحدى في مدارس براونة "أوضاعنا صعبة جدا، وقد أدى الحصار إلى إغلاق المدارس.. طلبة المدارس والمعاهد والكليات، الذين يدرسون خارج المدينة، لم يتمكنوا، بعد نسف الجسرين الرئيسين من الالتحاق بكلياتهم، ومن يريد منهم الوصول إلى معهده، فسوف يضطر للسير على الأقدام مسافة 10 كم يوميا، من أجل أن يصل إلى كراج "الخفاجية"، ليتنقل بعد ذلك إلى محافظة الأنبار".
المدينة التي تعيش منذ اليوم الأول في رمضان، حصارا شديد الوطأة، بسبب الإجراءات الأمنية المشددة، والعمليات العسكرية، التي تستهدف كل شيء، غابت عنها تماما وسائل الإعلام، التي لم تتمكن من دخولها، حسب قول أحد المسنين، رفض الكشف عن هويته، مؤكدا لنا بأن وكالة "قدس برس" هي أول وسيلة إعلامية يقابلها.
ويقول المسن العراقي "نحن أول مرة نقابل فيها وسيلة إعلام هنا.. ولو أن هناك وسائل إعلام لما تمكن الجيش الأمريكي من القيام بعملياته الوحشية تلك.. وما كان ليقتل الأبرياء بدم بارد.. وينتهك حرمة الشهر الفضيل!". وعندما سألناه هل حقا حصل شيء من ذلك؟ أطرق الشيخ وقال لنا والعبرة تخنقه "لقد قام الجنود بعمليات قتل بشعة، بل إن بعضهم شاهدناهم وهم يضحكون فوق جثث الموتى المدنيين، وما سمعتموه من قصص لا يعبر إلا عن القليل، فما حصل أبشع من ذلك بكثير!"، على حد قوله.
وأضاف الشيخ "لقد منعوا الاتصالات بجميع أشكالها، فمنذ اليوم الأول من شهر رمضان ونحن نعيش بلا أي اتصال، والسبب معروف حتى لا ينفضحوا، وحتى تتصرف قواتهم بعيدا عن أعين العالم والإعلام.. ما جرى في حديثة يفوق الوصف، نحن نسألهم متى ستنتهي عملية بوابة النهر؟ فيقولون لا نعلم!!".
في عراق ما قبل الاحتلال، كانت المناطق الواقعة في أعالي الفرات والتي تضم حديثة، وهيت، وراوة، وعانة، والقائم، وكبيسة، والوس، وغيرها من النواحي والمدن الصغيرة، تعد منجما ذهبيا بشريا، يغذي العراق بأكمله، فليس هناك من منطقة، كما يقول أعيان المدينة، خرجت أطباء، ومهندسين، وعلماء، وأساتذة، وخبراء في مختلف التخصصات مثل هذه المدن، لكن اليوم وكما يقول مراقبون، فإن "الديمقراطية الأمريكية" قد حولت تلك الأماكن إلى مقابر، وأهلها إلى أشباح داخل مقبرة كبيرة اسمها حديثة.
حديثة (العراق) - خدمة قدس برس
عندما تتجه إلى الغرب من بغداد، وتروم الذهاب إلى محافظة الأنبار المترامية الأطراف، فإن أهم ما يلفت انتباهك هو ذلك الحشد العسكري الأمريكي المنتشر على جميع مداخل ومخارج المحافظة، بل إن حدسك لن يخطئ إذا ما خمن بأن ثلاثة أرباع القوات الأمريكية موجودة هنا، ولهذا ما يبرره كما يقول محللون، فالمحافظة صارت شوكة في حلق "الثور" الأمريكي الهائج، ومعظم أعمال المقاومة تتم على أرضها.
"حديثة" الواقعة في أعالي حوض الفرات غربا، تعد واحدة من مدن الأنبار الصغيرة، من حيث مساحتها، ونهر الفرات يقسم المدينة إلى قسمين، يربط جسران بينهما، طالما اعتمد عليهما الناس في تدبير أمورهم الحياتية، لكن العمليات العسكرية الواسعة النطاق، التي نفذتها قوات الاحتلال الأمريكي، جعلت من الجسرين أثرا بعد عين.
وقد تمكنت وكالة "قدس برس" من الدخول إلى منطقة "بروانه" في حديثة، التي تعذر وصولنا إلى مركزها الرئيسي، بسبب الحصار المفروض عليها من قبل القوات الأمريكية منذ عدة أسابيع. والتقى موفد الوكالة مع أهالي المدينة، وشاهد آثار العمليات الأمريكية فيها، واستمع إلى قصص مرعبة عما حل بهذه المدينة، التي كانت يوما ما وادعة.
إذ يقول جمعة الحديثي، وهو أحد سكان منطقة بروانة "في أول يوم من أيام شهر رمضان في 5 تشرين أول (أكتوبر) 2005، بدأت القوات الأمريكية عملياتها الواسعة، التي أطلقت عليها بوابة النهر.. لم أشهد في حياتي قوات بهذا الحجم، ولا قصفا بمثل هذه الكثافة!!، كانوا يقصفون كل شيء، سارعوا بقصف الجسرين، الأمر الذي أدى إلى تدهور الأوضاع بشكل كبير، فمستشفى حديثة يقع في الجانب الآخر، مما اضطرنا إلى الاستعانة بالقوارب النهرية، ولكنه وللأسف حتى هذه لم تسلم من الأمريكان، الذين قاموا بقصفها أو ثقبها".
ويتابع جمعة حديثه قائلا "أحد الجيران كان يعاني من احتصار وآلم حاد في جهاز البول، ذهب إلى المضمد القريب فأعطاه علاجا مؤقتا، على أمل أن يصل المستشفى، غير أنه لم يعش طويلا، ومات بعد يومين، بسبب عدم تمكنه من الوصول إلى الضفة الأخرى".
مدينة تحت الأنقاض!
عند دخولنا المدينة شاهدنا على امتداد الشوارع والأزقة الكثير من البنايات وقد سويت بالأرض تماما، وأكد لنا أغلب الأهالي، الذين قابلناهم، أن القوات الأمريكية استخدمت أسلوب الأرض المحروقة في حربها على المدينة الصغيرة. وأوضحوا أن هذه القوات كانت تعلن عبر مكبرات الصوت أنها سوف تقوم بقصف وتدمير ما مساحته 100 متر مربع في أي منطقة تتعرض فيها دورياتها إلى الهجوم.
ويتهم جمعة الحديثي القوات الأمريكية بارتكابها "جرائم بشعة في حديثة"، بسبب سياستها الحربية تلك، إذ يقول: "قبل أسبوع انفجر لغم أرضي في الحي العسكري، دمر عربة همفي، قتل فيها جنرال أمريكي كبير، وبعد ذلك وأثناء توجه قوة أخرى إلى المنطقة، انفجر لغم أرضي ثان، فقامت بتفتيش ومداهمة عدد من المنازل القريبة، غير أنها لم تكتف بذلك، بل قامت بعد خروجها من تلك المنازل، بإلقاء عدد من القنابل، الأمر الذي أدى إلى مقتل أربعة عائلات كاملة في أربع منازل، بينهم نساء وأطفال وشيوخ" ويضيف أنه "إمعانا في التنكيل، قامت تلك القوات بجمع أشلاء الضحايا، ورميها في حديقة مستشفى حديثة، وهذا بشهادة أطباء يعملون في المستشفى، الذين شاهدوا أشلاء وبقايا، نحو أربعين جثة".
"التنكيل الأمريكي" كما يصفه الحديثي، وهو ضابط سابق في الجيش العراقي، لم يقف عند هذا الحد، "فقد عمدت تلك القوات إلى قتل خمسة مدنيين من طلبة المعهد التقني، كانوا في طريقهم إلى المعهد، إذ أوقفتهم عند أحد حواجز التفتيش، وطلبت منهم الانبطاح على الأرض، من أجل تفتيشهم، وقامت بعدها بإطلاق النار عليهم، وهم على الأرض، وبينهم شقيقين".
سياسة "الأرض المحروقة" هذه، أحالت المدينة إلى ما يشبه الركام، فالقصف استهدف عددا كبيرا من مساكنها، وأدى إلى مقتل العشرات من المدنيين، لا يزال بعضهم تحت الأنقاض، ولم تتمكن فرق الإنقاذ من استخراجهم، بسبب حظر التجوال المفروض على حركة السيارات، إلى جانب حظر التجوال الذي يبدأ منذ الساعة السادسة مساء يوميا، وحتى الساعة الثامنة صباحا.
لا مدارس ولا تعليم.. وجنود يرقصون فوق الجثث!!
على الرغم من أن العام الدراسي في العراق بدأ منذ ما يزيد على شهرين، وأن المدارس في أغلب المدن الأخرى تستعد لامتحانات نصف السنة، إلا أن مدينة حديثة المحاصرة لا يزال تلاميذها يترقبون بشغف عودتهم للمدارس.
تقول "أم محمد"، وهي معلمة في إحدى في مدارس براونة "أوضاعنا صعبة جدا، وقد أدى الحصار إلى إغلاق المدارس.. طلبة المدارس والمعاهد والكليات، الذين يدرسون خارج المدينة، لم يتمكنوا، بعد نسف الجسرين الرئيسين من الالتحاق بكلياتهم، ومن يريد منهم الوصول إلى معهده، فسوف يضطر للسير على الأقدام مسافة 10 كم يوميا، من أجل أن يصل إلى كراج "الخفاجية"، ليتنقل بعد ذلك إلى محافظة الأنبار".
المدينة التي تعيش منذ اليوم الأول في رمضان، حصارا شديد الوطأة، بسبب الإجراءات الأمنية المشددة، والعمليات العسكرية، التي تستهدف كل شيء، غابت عنها تماما وسائل الإعلام، التي لم تتمكن من دخولها، حسب قول أحد المسنين، رفض الكشف عن هويته، مؤكدا لنا بأن وكالة "قدس برس" هي أول وسيلة إعلامية يقابلها.
ويقول المسن العراقي "نحن أول مرة نقابل فيها وسيلة إعلام هنا.. ولو أن هناك وسائل إعلام لما تمكن الجيش الأمريكي من القيام بعملياته الوحشية تلك.. وما كان ليقتل الأبرياء بدم بارد.. وينتهك حرمة الشهر الفضيل!". وعندما سألناه هل حقا حصل شيء من ذلك؟ أطرق الشيخ وقال لنا والعبرة تخنقه "لقد قام الجنود بعمليات قتل بشعة، بل إن بعضهم شاهدناهم وهم يضحكون فوق جثث الموتى المدنيين، وما سمعتموه من قصص لا يعبر إلا عن القليل، فما حصل أبشع من ذلك بكثير!"، على حد قوله.
وأضاف الشيخ "لقد منعوا الاتصالات بجميع أشكالها، فمنذ اليوم الأول من شهر رمضان ونحن نعيش بلا أي اتصال، والسبب معروف حتى لا ينفضحوا، وحتى تتصرف قواتهم بعيدا عن أعين العالم والإعلام.. ما جرى في حديثة يفوق الوصف، نحن نسألهم متى ستنتهي عملية بوابة النهر؟ فيقولون لا نعلم!!".
في عراق ما قبل الاحتلال، كانت المناطق الواقعة في أعالي الفرات والتي تضم حديثة، وهيت، وراوة، وعانة، والقائم، وكبيسة، والوس، وغيرها من النواحي والمدن الصغيرة، تعد منجما ذهبيا بشريا، يغذي العراق بأكمله، فليس هناك من منطقة، كما يقول أعيان المدينة، خرجت أطباء، ومهندسين، وعلماء، وأساتذة، وخبراء في مختلف التخصصات مثل هذه المدن، لكن اليوم وكما يقول مراقبون، فإن "الديمقراطية الأمريكية" قد حولت تلك الأماكن إلى مقابر، وأهلها إلى أشباح داخل مقبرة كبيرة اسمها حديثة.