imran
19-11-2005, 02:44 AM
حوار مهم اجراه موقع (الاسلام اليوم ) مع الاستاذ ربيع الحافظ كاتب وباحث عراقي من (معهد دراسات المشرق العربي وإيران) حول التمدد الصفوي في العراق تاريخيا وحاضرا . .
1- هل تعتقد ان ايران تحاول فعلا استغلال الظرف التاريخي الحالي في العراق باساليب غير نظيفة؟.
إبتداءً أود القول، إنه يغلب على الحديث عن إيران في الصحافة العربية سمة التبسيط والسطحية، وتتسم الأسئلة المثارة عنها بالبراءة. والحديث عن إيران لا يعني بالضرورة الحديث عن التشيع في عمومه، وإن كان هناك قدراً كبيراً من التداخل بين الأثنين.
إن الحديث عن إيران ومصالحها وأدوارها، لاسيما في الظرف الحرج الذي تمر به المنطقة العربية أسئلة كبيرة ومعقدة، لا يجزئ النمط الصحفي في إيجاد إجابات لها.
صحيح أن إيران هي إحدى دول الجوار الجغرافي، إلا أن لهذه الدولة خصوصيات تتداخل بشكل معقد، تميزها عن باقي دول المنطقة، وتنعكس بشكل قوي على أدوارها السياسية والاجتماعية، أو يمنحها قدراً إضافياً من النضوج السياسي المحلي والدولي، وتضعها في مصاف سياسي متقدم على جيرانها.
من هذه الخصوصيات هو أن إيران نظام أقلية في المنطقة ـ عرقياً وسياسياً ومذهبياً في آن واحد ـ في وسط محيط أغلبية سياسية واسع، وتنازعتها في مرحلة مبكرة قوتان متضادتان هما: الإسلام والقومية الساسانية، وأن الهوية السياسية للدولة والمجتمع هو صيغة تسوية بين القوتين المتضادتين، وهو ما يعرف بالتشيع الصفوي، وهو مفهوم سياسي قومي فقهي.
وبناء على هذا المفهوم نرى أن لإيران علاقات متأزمة مع جميع دول الجوار، فهي على حساسية مزمنة مع العرب بسبب "الجين" الشعوبي الداخل في الهوية من جهة المكون القومي الساساني، وفي حساسية تجاه الشعوب التي تدين بمنهج أهل السنة بسبب المذهب الشيعي، ثم تمتد هذه الحساسية لتطال مواطنيها من الشيعة العرب في الأحواز، لأنهم ليسوا فرساً، وتنحاز في سياستها الخارجية إلى جانب الأرمن المسيحيين في نزاعهم ضد الأذريين الشيعة، لأن هؤلاء أتراكاً وليسوا فرساً.
لذا فإن التعامل مع أحد مركبي الهوية الإيرانية بمعزل عن الآخر، يقود إلى أخطاء في فهم النظام السياسي الإيراني وأدواره، وفي أحسن الأحوال إلى صواب مؤقت، وهو الخطأ الذي وقعت فيه المدارس الفكرية الإسلامية والقومية العربية على حد سواء، المرة تلو المرة، وقاد إلى مفاجآت كبيرة.
المشروع القومي الفارسي أثبت تفوقه على نظيره المشروع القومي العربي، الذي اختار الاصطدام مع الدين منذ اليوم الأول، وأدخل المنطقة في أتون حرب ثقافية أهلية استنزفت شعوبها لأكثر من ثمانية عقود، ولهذا السبب انتصر المشروع القومي الفارسي على نظيره العربي في 9 أبريل 2003، ودخل أسوار بغداد مظفراً بين معمم وليبرالي ومدني.
بعد هذه المقدمة، سؤالك مهم، ولكن الإجابة عليه لا ينبغي أن تأخذ شكل: نعم أو لا، ثم يلي ذلك استعراض للأساليب النظيفة أو غير النظيفة. إن ما يهمك التوصل إليه كجار لإيران هو لماذا نظيفة أو غير نظيفة، وهل يمكن أن يستأمن هذا الجار في شراكة ما، ونحو ذلك.
لنرى ماذا يحمل السؤال التالي، فلعل في الإجابة عليه إضاءة على ما نقصد.
2- هل هناك أي خلفيات تاريخية للتدخل الايراني في الشأن العراقي؟ ومتى تحديدا بدات هذه التدخلات؟ وما الاسباب التي تجعل ايران تحرص على لعب ادوار في العراق تحديداً دون غيره؟.
لو ألقيت نظرة على الخريطة السياسية لإيران وجوارها الجغرافي بشيء من التمعن، لبدت لك حقيقة، وهي أن لهذه البقعة السياسية دون الجوار، وللأسباب المذكورة آنفاً، تعيش أزمة مزمنة مع الهوية الجديدة التي جلبها لها الفتح العربي الإسلامي، ما جعلها أشبه بقطرة الزيت التي يصعب مزجها بالماء.
هذه الأزمة أوجدت شعوراً مركباً بالأقلية، فالتشيع الصفوي أقلية فقهية وآيديولوجية وسط التشيع العربي، وأقلية عرقية وسط المحيط العربي، ما يجعلها مدرسة سياسية ذات طموحات عالية، بحظوظ منخفضة للتمكين الإقليمي، بل وحتى للتمكين المحلي، في غياب مؤثر خارجي دولي يقلب موازين القوى.
فقد كان وصول النظام الصفوي إلى سدة الحكم في إيران نفسها نتاج توازنات دولية، حيث وجدت روسيا القيصرية أن أمنها الاستراتيجي يقتضي وجود نظام سياسي في إيران يكون حاجزاً يقطع الاتصال الجغرافي بين الجزيرة العربية وجمهوريات آسيا الوسطى المسلمة السنية الواقعة تحت حكمها، فدعمت وصول الصفويين للحكم الذي نشروا التشيع في إيران بالحديد وأخرجوها من دائرة الحضارة العربية الإسلامية.
أما على الصعيد الدولي فقد كانت إيران، وعلى مر السلالات التي حكمتها منذ الانقلاب الصفوي، حاضرة إلى جانب أوربا في جميع حروبها ضد غريمتها الدولة العثمانية، حتى قال مستشرق بلجيكي: لولا الصفويون لكنا نقرأ القرآن في أوربا كما يقرأه الجزائريون.
قد لا يكون بين التشيع العربي (العلوي) والفارسي (الصفوي) من الفروقات العقدية الشيء المهم، إلا أن للتشيع الصفوي على الدوام أجندة دولية، في مقابل التشيع العلوي الذي هو ظاهرة عاطفية احتجاجية داخلية حول مجريات تشكل النظام السياسي في دولة الحضارة العربية الإسلامية، ويمثل التشيع الصفوي آصرة الوصل بين الاحتجاج الشيعي العربي المحلي وبين الرغبات الدولية في المنطقة.
3- ما حقيقة مايشاع أن ايران تعمل على استتباب الامن في المناطق الشيعية واشعال الازمات في المناطق السنية؟. ماذا تستفيد ايران تحديدا من كل هذا؟ هل تبعد الخطر الامريكي عن نفسها مثلا؟.
لم يعد سراً أن خطة أمريكا لاحتلال العراق كانت حبلى بثلاثة مشاريع، مكنتها من الإقلاع، وبدونها مجتمعة لما كان الاحتلال ممكناً: الأول؛ إسقاط العراق وهدم الدولة وإقامة دولة جديدة مختلفة المعالم بالكامل، وهذه مصلحة إقليمية أمريكية – إيرانية ـ إسرائيلية مشتركة، وطور يشترك في تنفيذه الجميع، وقد عبّر عن هذا الطور في أكثر من مناسبة، وبكل افتخار مسؤولون إيرانيون كبار مثل رفسنجاني وأبطحي وثالث لا يحضرني، حيث قال أبطحي: "لولا إيران ما سقطت بغداد، ولولاها ما سقطت كابول".
حتى هذه المرحلة والاحتلال لازال ضمن دائرة المصالح الإقليمية المشتركة. وقد دخلت إيران في هذا النوع من المشاريع ـ لنفس الأسباب والغايات ـ ثلاثة مرات منذ وصول الحوزة إلى الحكم، وبصرف النظر عن الشريك؛ مرتان في أفغانستان، الأولى مع شريك شيوعي هو الاتحاد السوفييتي، والثانية مع أمريكا بقيادة التيار الصهيو - مسيحي.
بعد أن أنجز الطور الأول، انصرف كل طرف صوب مشروعه: الأمريكان نحو إيجاد الشرق الأوسط الكبير، المعتمد على الهشاشة السياسية للدول، واليبرالية الثقافية، والحيلولة دون وجود محاور قوية في المنطقة. والمشروع الإيراني الذي يريد عراقاً مختلف المعالم، ولكن عراق يهيمن فيه التشيع الصفوي على المؤسسة الدينية والثقافية والأمنية، ويقصى فيه عن انتمائه العروبي، ليكون من الناحية الواقعية نتوءاً إيرانياً داخل العالم العربي.
كما هو واضح على مر الأعوام الثلاثة من الاحتلال، فإن التباين في المصالح النهائية للشريكين الأمريكي والإيراني لم يفسد "للود الإقليمي" قضية، وقد لعب كل طرف بأوراقه الميدانية لانتزاع أكبر قدر من المكاسب النهائية على حساب الآخر، ومن ذلك توظيف إيران الذكي لقلاقل المستنقع العراقي للموازنة بين مشروعها النووي ومكاسبها الإقليمية في العراق الجديد. وقد أثبت الإيرانيون براعتهم في هذا النوع من الصفقات، ونقل لي صديق عن ديبلوماسي غربي وصفه للتفاوض مع الإيرانيين بأنه: " أصعب من خلع ضرس من دون مخدر"
4- انتم كمحللين عراقيين هل تعتقدون ان ايران تسعى لتقسيم العراق.؟ وما حقيقة مايسمى بـ"الحزام الشيعي" الذي يقال ان ايران تسعى لتكوينه بعد تقسيم العراق؟. وهل هو استراتيجية حقيقية (أي الحزام الشيعي)؟.
نظام الأحزمة إستراتيجية أمنية تنتهجها الأقليات في مساحات توسعها، لحسها الذي يدعمه التاريخ، أن كياناتها ومكاسبها السياسية والجغرافية لها صفة التأقيت، ولا تحدث عادة إلا بمؤثر خارجي، وأنها ـ الأقليات ـ ورقة بيد القوى الدولية. لذا فهي في حالة استعداد واستنفار دائمين للحظة عودة الأوضاع السياسية والتوازنات الدولية إلى حالتها الطبيعية.
والأقلية نوعان: ديموغرافية وسيكولوجية، وهذه الأخيرة هي المسؤولة عن استراتيجية الأحزمة، وهي صفة ملازمة للفرد والمجتمع، زاد عدده أو نقص، قوي أم ضعف. والحزام يمكن أن يكون محلياً حول الأحياء السكنية في المدينة متعددة المذاهب، أو حول المدينة بالكامل، ويمكن أن يكون إقليمياً كذلك. وأخذاً بعين الاعتبار استيفاء النظام السياسي في إيران لنوعي الأقلية، فالجواب على السؤال: نعم إن الحزام الشيعي استراتيجية حقيقية مشاهدة لدى إيران والدائرين بفلكها السيكولوجي. ووجه الشبه هنا كبير جداً مع سيكولوجية المشروع الصهيوني واستراتيجيته الأمنية التي تأخذ شكل طوق مستعمرات حول المدن الكبرى لتسهيل الدفاع عنها.
وتتسابق ميليشيات المنظمات الصفوية مع الزمن، في عمليات تطهير عرقي داخل مدن التماس الطائفي في الوسط والجنوب بضمنها بغداد، كما تعمل بكل الوسائل على كسر طوق المدن والقرى السنية المحيطة ببغداد من جهة الجنوب، والتي يسمونها "المستوطنات الصدّامية"، لإيجاد ممر جغرافي يصل الكيان الشيعي في الجنوب بشيعة بغداد، علماً أن أهل السنة يقطنون هذه المدن منذ مئات السنين، وحادثة مدينة المدائن التي قتل فيها أعداد كبيرة من أهل السنة وألقيت جثثهم في نهر دجلة قبل بضعة أشهر هي مثال على استراتيجية الأحزمة.
أما الحزام ـ أو الهلال ـ الإقليمي فأظنه قد اكتمل بسقوط العراق، ويوشك أن يصير بدراً. ورأينا القلق الذي انتاب المنظمات الشيعية في لبنان في أعقاب الانسحاب السوري من لبنان، والذي أحدث خسوفاً جزئياً في الأماكن الجنوبية من لبنان يمكن رؤيته بالعين المجردة. وفي الماضي حقق التمدد الشيعي المزامن للحملات الصليبية في فلسطين وضعف الدولة العباسية كماشة، كانت الدولة العبيدية في مصر إحدى كفتيها، وكانت الأخرى كيان القرامطة الذين وصلوا من الجزيرة إلى بلاد الشام.
يجدر بالذكر أن الأقليات تتشابه في السيكولوجية والأساليب، بغض النظر عن الفكر الذي تحمله الأقلية، ومن ذلك "المظلومية" و "المحرقة"، وهي حجر زاوية في هذه السيكولوجية التي تبقي الحس بالخطر حياً في الذاكرة الجماعية للأقلية، مما يتطلب أحزمة وأهلّة.
5- هل يمكن ان يمتد الدور الايراني الى دول الجوار ايضا (خارج العراق)؟ .
واهم من يعتقد أن التمدد الإيراني في دول الجوار لابد أن يأخذ شكل الأمواج البشرية التي تعبر الحدود السياسية وتسقط النظم السياسية المجاورة كما حاول الخميني أن يفعل في مستهل مشروع تصدير الثورة.
عودة هنا مرة أخرى إلى موضوع الأقليات، وطرائقها في التفكير والتنفيذ التي تختلف عن الأغلبية. فالانخفاض الديموغرافي عند الأقلية يضعها أمام استراتيجيات انتشار تختلف عن استراتيجيات الأغلبيات، ويضع مفهوماً مختلفاً للتمدد. وهنا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام شبه تطابق بين وسائل أقليتين في محيطهما الواسع، تعملان على ساحة المنطقة العربية: المشروع الصفوي، والمشروع الصهيوني. فشعار "من الفرات إلى النيل" يبدو اليوم على الخريطة السياسية أبعد عن الحلم الصهيوني من أي وقت مضى منذ تأسيس الدولة العبرية. ولو أن كافة يهود العالم تم جلبهم إلى فلسطين ما سدوا الحاجة البشرية للسيطرة على هذه المساحة الشاسعة. لكن واقع الحال هو أن إسرائيل ترى في المحطات الاقتصادية والثقافية التي زرعتها في هذه المساحة سر تحكمها بها الذي بلغ مداه.
إن القلق من تمدد إيراني محتمل ليس قاصراً على دول الخليج التي فيها جاليات من أصل فارسي أو شيعية عربية. فإيران وفقهها السياسي حاضر اليوم في عاصمة الأمويين دمشق، والأردن، وهي تشق طرقاً جديدة في مصر، ودول شمال أفريقيا، وكلها مساحات خالية من الوجود الشيعي. لكن محطات إيران هنا هي القبور، حيث يبتدئ النشاط في البقعة المختارة بالإعلان عن وجود جثمان لأحد الأولياء، فيشيد فوقه ضريح، ليبدأ الإيرانيون بشد الرحال إليه.
ليست الغاية الآنية من هذا التمدد هو اعتناق التشيع، ولكن الأحوال المعاشية المحلية المتدهورة تلعب دوراً في تحول الضريح إلى مركز للتبادل التجاري يشهد فيه الناس المحليين منافع لهم، وسرعان ما يتحول المكان إلى مجمع للخدمات الطبية والتعليمية وعلى نحو مفقود في باقي أنحاء الدولة، وتفتح مكاتب الزواج للراغبين من الحجاج الإيرانيين بالاقتران بفتيات عربيات، وتقوم السلطات المحلية بتقديم التسهيلات للظاهرة تحت بند "السياحة الدينية" وجلب العملة الصعبة.
بهذا المفهوم فإن كل جغرافية العالم الإسلامي هي ميدان للتمدد الصفوي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مرجعيات شيعية عربية كبيرة مثل السيد حسين فضل الله لبنان، يشجبون ظاهرة "التمدد القبوري" الصفوي هذه وينعتونه بأشد النعوت.
6- ماذا عن العشرات من مكاتب الاستخبارات التي يقال ان ايران تديرها في مناطق العراق المختلفة؟.
هذا صحيح، هناك العديد من المنظمات الأمنية الإيرانية المنتشرة في مدن الوسط والجنوب، وهي تمسك بالوضع الأمني بشكل كامل. وكان مدير شرطة البصرة قد اشتكى من أفراد شرطته التي لا تدين لمؤسسته بالولاء، وإنما للمنظمات الأمنية المنتشرة في المدينة. كما صرح مدير المخابرات الحالي والمعين من قبل الأمريكان بالقول: لم نتمكن من فتح مكتب واحد للمخابرات في بعض المدن وذكر منها: النجف والناصرية والعمارة والبصرة التي يقول الأهالي إن فيها ما يقرب من عشرة منظمات أمنية إيرانية، من بينها: منظمة ثأر الله، منظمة النخب السياسية، بقيت الله (بالتاء المفتوحة على الطريقة الفارسية)، جند الحسين، ظفر رمضان، قيمي إسلام، قوات الإمام.
ويقف على رأس هذه المنظمات، لواء بدر، وهو ميليشيا إيرانية بالأصل بتمويل وتسليح إيرانيين، وكان أول رئيس لها إيرانياً وليس عراقياً، وينشط لواء بدر قواته في عموم مدن العراق، وإليه تعزى اغتيالات العلماء العراقيين، والطيارين الذين شاركوا في حرب إيران.
7- كيف يمكن ان تحسم مثل هذه التدخلات مستقبلاً؟.
الجواب هو أن لهذه التدخلات أوراق، وحسمها يحتم التعامل مع هذه الأوراق، وإلا فإنها ستتكرر، وهذا الذي يحدث. ليس المقصود بالتدخلات هي الإعدادت النهاية عشية عبور الجيوش الحدود. لقد سقطت عاصمة العباسيين مرتين قبل هذه المرة وعلى نحو كبير الشبه بالذي رأيناه في 9 نيسان/ أبريل 2003. لكن الاختراق الأخير حدث على جبهتين اثنتين، وأبرز حقيقتين يقتضي الإقرار بهما والوقوف عندها، وهو: أن المشروع القومي الفارسي الظافر في هذه الجولة كان أحسن إعداداً من غريمه المشروع القومي العربي، وأن شريكته في المشروع، المؤسسة الدينية الصفوية، كانت أقرب إلى شارعها وأوضح خطاباً من المؤسسة السنية.
حقيقة أخرى، وهي أن الجبهة الإيرانية الداخلية تحقق تماسكاً، بتماهي الفكر الشيعي الصفوي بالقومية الفارسية، يقابل هذا التماسك حرب أهلية ثقافية منذ ثمانية عقود، بين المشروع القومي العربي والمؤسسة الدينية السنية، وقد أنهكت الأمة واستنزف قواها.
من جهة أخرى، صحيح أن الفروقات العقدية بين التشيع العربي (العلوي) والتشيع الصفوي ليست ذي شأن كبير، ولكن ذلك لا يعني أن الشيعة العرب يرون في العيش تحت الخيمة الفارسية، ورؤية مؤسستهم الدينية تحت احتلال المراجع الفرس فردوساً سياسياً. كما لم يعد خافياً على الشيعة العرب المنزلة الاجتماعية الحقيقية التي ينزلهم إياها الفرس، وهم يرون أبناء العمومة عبر خط الحدود في الأحواز، وهم مواطنون من الدرجة الثانية في الدولة الإيرانية.
بالرغم من هذه العوامل السلبية، فقد نجح المشروع الصفوي في تحييد دور الحس العروبي عند الشيعة العرب إلى مدى ليس بالقليل، وفي خلخلة الجبهة الداخلية للعراق.
ما أريد أن أقوله أن الوضع الأمني عالي الحساسية للعراق والمنطقة العربية لم يعد يحتمل فصولاً جديدة من الاحتراب بين قطاعات أهل السنة، والارتفاع إلى مستوى المسؤولية التي أسداها لهم العالم على أنهم الوتد الذي حمى إلى هذه اللحظة المنطقة من الانهيار الكامل. هذا الصف بحاجة إلى خطاب لعموم طيفه السياسي، خالٍ من العموميات التي أصابته في مقتل، ولازمته منذ انطلاقته المعاصرة في بداية القرن الماضي.
وقف التدخلات يحتم البحث عن مساحات مشتركة بين أهل السنة والشيعة العرب. مثل هذه المساحات موجودة، لاسيما بعد تجربة رجل الشارع الشيعي مع أجهزة الأمن الإيرانية، والفساد الخلقي الخانق القادم من إيران الذي تعج به مدنه المقدسة، ونهب المال العام. الشارع الشيعي اليوم أمام مراجعة تاريخية لقناعات متوارثة عن أدوار مرجعية مخطوفة، وعن لافتات صفوية كبيرة تعلو ميدانه السياسي.
8- هل يمكن ان تساهم (الزعزعة) التي تحدث في العراق بسبب ايران وغيرها في دخول جهات اخرى في هذا المناخ الفوضوي مثل اسرائيل مثلا للعب ادوار اخرى لصالحها؟.
الحديث هنا ليس عن شي يحتمل أن يقع، بل وهو واقع.
بطبيعة الحال فإن حصة الأسد من التدخلات تذهب لأصحاب مشروع الاحتلال الأساسيين، وهم الذين كانت حشودهم ترابط على حدود ما كان قد تبقى من الدولة العراقية؛ وتحديداً: الموساد الإسرائيلي في شمال العراق، المنظمات الأمنية الإيرانية خارج وداخل الحدود العراقية، والجيش الأمريكي نفسه. وهذه هي خريطة النفوذ الأجنبي الرئيسي في العراق، أو المحور الـ صهيو ـ أمريكي ـ صفوي. ومعالمه بعضها واضح للعيان كالملامح الفارسية في مجريات الحياة العامة في المدن ذوات الأغلبية الشيعية، من شيوع التحدث بالفارسية، والفساد الخلقي على أرصفة المدن. وبعضه خفي مثل صفقات تجارية وعقارية ضخمة، وشراء مساحات شاسعة من الأراضي، يشك الأهالي المحليون بأنها تذهب لتجار يهود.
لكن منهج "فرق تسد" الذي يمارسه كل محتل، ونظيره "النظام الطائفي" الذي أطلقته وباركته أذرع المرجعية الصفوية، والذي هو للأقليات كالماء للسمكة، هذا التشرذم فتح الباب واسعاً أمام فوضى "الفدرالية"، التي تنادي فيها كل مجموعة عرقية صغيرة، وكل أقلية دينية إلى تمثيل فدرالي، حتى أصبح النسيج الاجتماعي العراقي كالجبنة السويسرية.
9- ما مستقبل التدخلات الايرانية في العراق.؟ وهل يمكن ان تظل تلعب هذه الادوار في السنوات القادمة؟.
كما ذكرت آنفاً، فإن مستقبل هذه التدخلات مرهون بشكل رد فعل العراقين سنة وشيعة على آثار احتلال بلادهم، الذي وجدت فيه أمريكا وإيران وإسرائيل فرصة تاريخية لإحداث تغيير جذري في المنطقة، كل من منطلقه العقدي وغاياته، والضحية هم أهل العراق.
10-مشاهد الدور الايراني في العراق ؟ معلومات عنه
مشاهد هذا الدور متعددة، أهمها المشاهد السياسية، فقد بات العنصر الإيراني مكون أساسي لمؤسسات الدولة. الحقيقة هي أن هذا الإيراني في العراق لم ينقطع منذ أن تحول العراق إلى ساحة للصراع العثماني الصفوي، وإذا كان الحضور العثماني قد انتهى في العراق بجميع أشكاله مع قيام الدولة الحديثة، فإن النفوذ الصفوي استمر فقهياً واقتصادياً وديموغرافياً واجتماعياً وثقافياً. إن النقلة النوعية التي حققها هذا الدور بعد 9/4/2003 هي الإمساك بالفك الثاني للكماشة، وهي الدور السياسي، بعد أن كان ممسكاً بالزمام الروحي للشارع، أما اليوم فالتكامل اكتمل بين المؤسستين الدينية والسياسية، بل أن أروقة المرجعية في النجف أصبحت مكاناً يقصده مسؤولو الدولة لحل المشاكل العالقة.
وظهر نفوذ اللوبي الفارسي في الدولة العراقية في عملية كتابة مسودة الدستور، عندما طالب ممثلو الشيعة باعتبار الفارسية إحدى قوميات الشعب العراقي، في الوقت الذين رفضوا ولا زالوا اعتبار العراق جزءاً من الأمة العربية.
* معهد دراسات المشرق العربي وإيران
rabee@alhafidh.co.uk
المصدر: الإسلام اليوم
من دوريه العراق
1- هل تعتقد ان ايران تحاول فعلا استغلال الظرف التاريخي الحالي في العراق باساليب غير نظيفة؟.
إبتداءً أود القول، إنه يغلب على الحديث عن إيران في الصحافة العربية سمة التبسيط والسطحية، وتتسم الأسئلة المثارة عنها بالبراءة. والحديث عن إيران لا يعني بالضرورة الحديث عن التشيع في عمومه، وإن كان هناك قدراً كبيراً من التداخل بين الأثنين.
إن الحديث عن إيران ومصالحها وأدوارها، لاسيما في الظرف الحرج الذي تمر به المنطقة العربية أسئلة كبيرة ومعقدة، لا يجزئ النمط الصحفي في إيجاد إجابات لها.
صحيح أن إيران هي إحدى دول الجوار الجغرافي، إلا أن لهذه الدولة خصوصيات تتداخل بشكل معقد، تميزها عن باقي دول المنطقة، وتنعكس بشكل قوي على أدوارها السياسية والاجتماعية، أو يمنحها قدراً إضافياً من النضوج السياسي المحلي والدولي، وتضعها في مصاف سياسي متقدم على جيرانها.
من هذه الخصوصيات هو أن إيران نظام أقلية في المنطقة ـ عرقياً وسياسياً ومذهبياً في آن واحد ـ في وسط محيط أغلبية سياسية واسع، وتنازعتها في مرحلة مبكرة قوتان متضادتان هما: الإسلام والقومية الساسانية، وأن الهوية السياسية للدولة والمجتمع هو صيغة تسوية بين القوتين المتضادتين، وهو ما يعرف بالتشيع الصفوي، وهو مفهوم سياسي قومي فقهي.
وبناء على هذا المفهوم نرى أن لإيران علاقات متأزمة مع جميع دول الجوار، فهي على حساسية مزمنة مع العرب بسبب "الجين" الشعوبي الداخل في الهوية من جهة المكون القومي الساساني، وفي حساسية تجاه الشعوب التي تدين بمنهج أهل السنة بسبب المذهب الشيعي، ثم تمتد هذه الحساسية لتطال مواطنيها من الشيعة العرب في الأحواز، لأنهم ليسوا فرساً، وتنحاز في سياستها الخارجية إلى جانب الأرمن المسيحيين في نزاعهم ضد الأذريين الشيعة، لأن هؤلاء أتراكاً وليسوا فرساً.
لذا فإن التعامل مع أحد مركبي الهوية الإيرانية بمعزل عن الآخر، يقود إلى أخطاء في فهم النظام السياسي الإيراني وأدواره، وفي أحسن الأحوال إلى صواب مؤقت، وهو الخطأ الذي وقعت فيه المدارس الفكرية الإسلامية والقومية العربية على حد سواء، المرة تلو المرة، وقاد إلى مفاجآت كبيرة.
المشروع القومي الفارسي أثبت تفوقه على نظيره المشروع القومي العربي، الذي اختار الاصطدام مع الدين منذ اليوم الأول، وأدخل المنطقة في أتون حرب ثقافية أهلية استنزفت شعوبها لأكثر من ثمانية عقود، ولهذا السبب انتصر المشروع القومي الفارسي على نظيره العربي في 9 أبريل 2003، ودخل أسوار بغداد مظفراً بين معمم وليبرالي ومدني.
بعد هذه المقدمة، سؤالك مهم، ولكن الإجابة عليه لا ينبغي أن تأخذ شكل: نعم أو لا، ثم يلي ذلك استعراض للأساليب النظيفة أو غير النظيفة. إن ما يهمك التوصل إليه كجار لإيران هو لماذا نظيفة أو غير نظيفة، وهل يمكن أن يستأمن هذا الجار في شراكة ما، ونحو ذلك.
لنرى ماذا يحمل السؤال التالي، فلعل في الإجابة عليه إضاءة على ما نقصد.
2- هل هناك أي خلفيات تاريخية للتدخل الايراني في الشأن العراقي؟ ومتى تحديدا بدات هذه التدخلات؟ وما الاسباب التي تجعل ايران تحرص على لعب ادوار في العراق تحديداً دون غيره؟.
لو ألقيت نظرة على الخريطة السياسية لإيران وجوارها الجغرافي بشيء من التمعن، لبدت لك حقيقة، وهي أن لهذه البقعة السياسية دون الجوار، وللأسباب المذكورة آنفاً، تعيش أزمة مزمنة مع الهوية الجديدة التي جلبها لها الفتح العربي الإسلامي، ما جعلها أشبه بقطرة الزيت التي يصعب مزجها بالماء.
هذه الأزمة أوجدت شعوراً مركباً بالأقلية، فالتشيع الصفوي أقلية فقهية وآيديولوجية وسط التشيع العربي، وأقلية عرقية وسط المحيط العربي، ما يجعلها مدرسة سياسية ذات طموحات عالية، بحظوظ منخفضة للتمكين الإقليمي، بل وحتى للتمكين المحلي، في غياب مؤثر خارجي دولي يقلب موازين القوى.
فقد كان وصول النظام الصفوي إلى سدة الحكم في إيران نفسها نتاج توازنات دولية، حيث وجدت روسيا القيصرية أن أمنها الاستراتيجي يقتضي وجود نظام سياسي في إيران يكون حاجزاً يقطع الاتصال الجغرافي بين الجزيرة العربية وجمهوريات آسيا الوسطى المسلمة السنية الواقعة تحت حكمها، فدعمت وصول الصفويين للحكم الذي نشروا التشيع في إيران بالحديد وأخرجوها من دائرة الحضارة العربية الإسلامية.
أما على الصعيد الدولي فقد كانت إيران، وعلى مر السلالات التي حكمتها منذ الانقلاب الصفوي، حاضرة إلى جانب أوربا في جميع حروبها ضد غريمتها الدولة العثمانية، حتى قال مستشرق بلجيكي: لولا الصفويون لكنا نقرأ القرآن في أوربا كما يقرأه الجزائريون.
قد لا يكون بين التشيع العربي (العلوي) والفارسي (الصفوي) من الفروقات العقدية الشيء المهم، إلا أن للتشيع الصفوي على الدوام أجندة دولية، في مقابل التشيع العلوي الذي هو ظاهرة عاطفية احتجاجية داخلية حول مجريات تشكل النظام السياسي في دولة الحضارة العربية الإسلامية، ويمثل التشيع الصفوي آصرة الوصل بين الاحتجاج الشيعي العربي المحلي وبين الرغبات الدولية في المنطقة.
3- ما حقيقة مايشاع أن ايران تعمل على استتباب الامن في المناطق الشيعية واشعال الازمات في المناطق السنية؟. ماذا تستفيد ايران تحديدا من كل هذا؟ هل تبعد الخطر الامريكي عن نفسها مثلا؟.
لم يعد سراً أن خطة أمريكا لاحتلال العراق كانت حبلى بثلاثة مشاريع، مكنتها من الإقلاع، وبدونها مجتمعة لما كان الاحتلال ممكناً: الأول؛ إسقاط العراق وهدم الدولة وإقامة دولة جديدة مختلفة المعالم بالكامل، وهذه مصلحة إقليمية أمريكية – إيرانية ـ إسرائيلية مشتركة، وطور يشترك في تنفيذه الجميع، وقد عبّر عن هذا الطور في أكثر من مناسبة، وبكل افتخار مسؤولون إيرانيون كبار مثل رفسنجاني وأبطحي وثالث لا يحضرني، حيث قال أبطحي: "لولا إيران ما سقطت بغداد، ولولاها ما سقطت كابول".
حتى هذه المرحلة والاحتلال لازال ضمن دائرة المصالح الإقليمية المشتركة. وقد دخلت إيران في هذا النوع من المشاريع ـ لنفس الأسباب والغايات ـ ثلاثة مرات منذ وصول الحوزة إلى الحكم، وبصرف النظر عن الشريك؛ مرتان في أفغانستان، الأولى مع شريك شيوعي هو الاتحاد السوفييتي، والثانية مع أمريكا بقيادة التيار الصهيو - مسيحي.
بعد أن أنجز الطور الأول، انصرف كل طرف صوب مشروعه: الأمريكان نحو إيجاد الشرق الأوسط الكبير، المعتمد على الهشاشة السياسية للدول، واليبرالية الثقافية، والحيلولة دون وجود محاور قوية في المنطقة. والمشروع الإيراني الذي يريد عراقاً مختلف المعالم، ولكن عراق يهيمن فيه التشيع الصفوي على المؤسسة الدينية والثقافية والأمنية، ويقصى فيه عن انتمائه العروبي، ليكون من الناحية الواقعية نتوءاً إيرانياً داخل العالم العربي.
كما هو واضح على مر الأعوام الثلاثة من الاحتلال، فإن التباين في المصالح النهائية للشريكين الأمريكي والإيراني لم يفسد "للود الإقليمي" قضية، وقد لعب كل طرف بأوراقه الميدانية لانتزاع أكبر قدر من المكاسب النهائية على حساب الآخر، ومن ذلك توظيف إيران الذكي لقلاقل المستنقع العراقي للموازنة بين مشروعها النووي ومكاسبها الإقليمية في العراق الجديد. وقد أثبت الإيرانيون براعتهم في هذا النوع من الصفقات، ونقل لي صديق عن ديبلوماسي غربي وصفه للتفاوض مع الإيرانيين بأنه: " أصعب من خلع ضرس من دون مخدر"
4- انتم كمحللين عراقيين هل تعتقدون ان ايران تسعى لتقسيم العراق.؟ وما حقيقة مايسمى بـ"الحزام الشيعي" الذي يقال ان ايران تسعى لتكوينه بعد تقسيم العراق؟. وهل هو استراتيجية حقيقية (أي الحزام الشيعي)؟.
نظام الأحزمة إستراتيجية أمنية تنتهجها الأقليات في مساحات توسعها، لحسها الذي يدعمه التاريخ، أن كياناتها ومكاسبها السياسية والجغرافية لها صفة التأقيت، ولا تحدث عادة إلا بمؤثر خارجي، وأنها ـ الأقليات ـ ورقة بيد القوى الدولية. لذا فهي في حالة استعداد واستنفار دائمين للحظة عودة الأوضاع السياسية والتوازنات الدولية إلى حالتها الطبيعية.
والأقلية نوعان: ديموغرافية وسيكولوجية، وهذه الأخيرة هي المسؤولة عن استراتيجية الأحزمة، وهي صفة ملازمة للفرد والمجتمع، زاد عدده أو نقص، قوي أم ضعف. والحزام يمكن أن يكون محلياً حول الأحياء السكنية في المدينة متعددة المذاهب، أو حول المدينة بالكامل، ويمكن أن يكون إقليمياً كذلك. وأخذاً بعين الاعتبار استيفاء النظام السياسي في إيران لنوعي الأقلية، فالجواب على السؤال: نعم إن الحزام الشيعي استراتيجية حقيقية مشاهدة لدى إيران والدائرين بفلكها السيكولوجي. ووجه الشبه هنا كبير جداً مع سيكولوجية المشروع الصهيوني واستراتيجيته الأمنية التي تأخذ شكل طوق مستعمرات حول المدن الكبرى لتسهيل الدفاع عنها.
وتتسابق ميليشيات المنظمات الصفوية مع الزمن، في عمليات تطهير عرقي داخل مدن التماس الطائفي في الوسط والجنوب بضمنها بغداد، كما تعمل بكل الوسائل على كسر طوق المدن والقرى السنية المحيطة ببغداد من جهة الجنوب، والتي يسمونها "المستوطنات الصدّامية"، لإيجاد ممر جغرافي يصل الكيان الشيعي في الجنوب بشيعة بغداد، علماً أن أهل السنة يقطنون هذه المدن منذ مئات السنين، وحادثة مدينة المدائن التي قتل فيها أعداد كبيرة من أهل السنة وألقيت جثثهم في نهر دجلة قبل بضعة أشهر هي مثال على استراتيجية الأحزمة.
أما الحزام ـ أو الهلال ـ الإقليمي فأظنه قد اكتمل بسقوط العراق، ويوشك أن يصير بدراً. ورأينا القلق الذي انتاب المنظمات الشيعية في لبنان في أعقاب الانسحاب السوري من لبنان، والذي أحدث خسوفاً جزئياً في الأماكن الجنوبية من لبنان يمكن رؤيته بالعين المجردة. وفي الماضي حقق التمدد الشيعي المزامن للحملات الصليبية في فلسطين وضعف الدولة العباسية كماشة، كانت الدولة العبيدية في مصر إحدى كفتيها، وكانت الأخرى كيان القرامطة الذين وصلوا من الجزيرة إلى بلاد الشام.
يجدر بالذكر أن الأقليات تتشابه في السيكولوجية والأساليب، بغض النظر عن الفكر الذي تحمله الأقلية، ومن ذلك "المظلومية" و "المحرقة"، وهي حجر زاوية في هذه السيكولوجية التي تبقي الحس بالخطر حياً في الذاكرة الجماعية للأقلية، مما يتطلب أحزمة وأهلّة.
5- هل يمكن ان يمتد الدور الايراني الى دول الجوار ايضا (خارج العراق)؟ .
واهم من يعتقد أن التمدد الإيراني في دول الجوار لابد أن يأخذ شكل الأمواج البشرية التي تعبر الحدود السياسية وتسقط النظم السياسية المجاورة كما حاول الخميني أن يفعل في مستهل مشروع تصدير الثورة.
عودة هنا مرة أخرى إلى موضوع الأقليات، وطرائقها في التفكير والتنفيذ التي تختلف عن الأغلبية. فالانخفاض الديموغرافي عند الأقلية يضعها أمام استراتيجيات انتشار تختلف عن استراتيجيات الأغلبيات، ويضع مفهوماً مختلفاً للتمدد. وهنا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام شبه تطابق بين وسائل أقليتين في محيطهما الواسع، تعملان على ساحة المنطقة العربية: المشروع الصفوي، والمشروع الصهيوني. فشعار "من الفرات إلى النيل" يبدو اليوم على الخريطة السياسية أبعد عن الحلم الصهيوني من أي وقت مضى منذ تأسيس الدولة العبرية. ولو أن كافة يهود العالم تم جلبهم إلى فلسطين ما سدوا الحاجة البشرية للسيطرة على هذه المساحة الشاسعة. لكن واقع الحال هو أن إسرائيل ترى في المحطات الاقتصادية والثقافية التي زرعتها في هذه المساحة سر تحكمها بها الذي بلغ مداه.
إن القلق من تمدد إيراني محتمل ليس قاصراً على دول الخليج التي فيها جاليات من أصل فارسي أو شيعية عربية. فإيران وفقهها السياسي حاضر اليوم في عاصمة الأمويين دمشق، والأردن، وهي تشق طرقاً جديدة في مصر، ودول شمال أفريقيا، وكلها مساحات خالية من الوجود الشيعي. لكن محطات إيران هنا هي القبور، حيث يبتدئ النشاط في البقعة المختارة بالإعلان عن وجود جثمان لأحد الأولياء، فيشيد فوقه ضريح، ليبدأ الإيرانيون بشد الرحال إليه.
ليست الغاية الآنية من هذا التمدد هو اعتناق التشيع، ولكن الأحوال المعاشية المحلية المتدهورة تلعب دوراً في تحول الضريح إلى مركز للتبادل التجاري يشهد فيه الناس المحليين منافع لهم، وسرعان ما يتحول المكان إلى مجمع للخدمات الطبية والتعليمية وعلى نحو مفقود في باقي أنحاء الدولة، وتفتح مكاتب الزواج للراغبين من الحجاج الإيرانيين بالاقتران بفتيات عربيات، وتقوم السلطات المحلية بتقديم التسهيلات للظاهرة تحت بند "السياحة الدينية" وجلب العملة الصعبة.
بهذا المفهوم فإن كل جغرافية العالم الإسلامي هي ميدان للتمدد الصفوي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مرجعيات شيعية عربية كبيرة مثل السيد حسين فضل الله لبنان، يشجبون ظاهرة "التمدد القبوري" الصفوي هذه وينعتونه بأشد النعوت.
6- ماذا عن العشرات من مكاتب الاستخبارات التي يقال ان ايران تديرها في مناطق العراق المختلفة؟.
هذا صحيح، هناك العديد من المنظمات الأمنية الإيرانية المنتشرة في مدن الوسط والجنوب، وهي تمسك بالوضع الأمني بشكل كامل. وكان مدير شرطة البصرة قد اشتكى من أفراد شرطته التي لا تدين لمؤسسته بالولاء، وإنما للمنظمات الأمنية المنتشرة في المدينة. كما صرح مدير المخابرات الحالي والمعين من قبل الأمريكان بالقول: لم نتمكن من فتح مكتب واحد للمخابرات في بعض المدن وذكر منها: النجف والناصرية والعمارة والبصرة التي يقول الأهالي إن فيها ما يقرب من عشرة منظمات أمنية إيرانية، من بينها: منظمة ثأر الله، منظمة النخب السياسية، بقيت الله (بالتاء المفتوحة على الطريقة الفارسية)، جند الحسين، ظفر رمضان، قيمي إسلام، قوات الإمام.
ويقف على رأس هذه المنظمات، لواء بدر، وهو ميليشيا إيرانية بالأصل بتمويل وتسليح إيرانيين، وكان أول رئيس لها إيرانياً وليس عراقياً، وينشط لواء بدر قواته في عموم مدن العراق، وإليه تعزى اغتيالات العلماء العراقيين، والطيارين الذين شاركوا في حرب إيران.
7- كيف يمكن ان تحسم مثل هذه التدخلات مستقبلاً؟.
الجواب هو أن لهذه التدخلات أوراق، وحسمها يحتم التعامل مع هذه الأوراق، وإلا فإنها ستتكرر، وهذا الذي يحدث. ليس المقصود بالتدخلات هي الإعدادت النهاية عشية عبور الجيوش الحدود. لقد سقطت عاصمة العباسيين مرتين قبل هذه المرة وعلى نحو كبير الشبه بالذي رأيناه في 9 نيسان/ أبريل 2003. لكن الاختراق الأخير حدث على جبهتين اثنتين، وأبرز حقيقتين يقتضي الإقرار بهما والوقوف عندها، وهو: أن المشروع القومي الفارسي الظافر في هذه الجولة كان أحسن إعداداً من غريمه المشروع القومي العربي، وأن شريكته في المشروع، المؤسسة الدينية الصفوية، كانت أقرب إلى شارعها وأوضح خطاباً من المؤسسة السنية.
حقيقة أخرى، وهي أن الجبهة الإيرانية الداخلية تحقق تماسكاً، بتماهي الفكر الشيعي الصفوي بالقومية الفارسية، يقابل هذا التماسك حرب أهلية ثقافية منذ ثمانية عقود، بين المشروع القومي العربي والمؤسسة الدينية السنية، وقد أنهكت الأمة واستنزف قواها.
من جهة أخرى، صحيح أن الفروقات العقدية بين التشيع العربي (العلوي) والتشيع الصفوي ليست ذي شأن كبير، ولكن ذلك لا يعني أن الشيعة العرب يرون في العيش تحت الخيمة الفارسية، ورؤية مؤسستهم الدينية تحت احتلال المراجع الفرس فردوساً سياسياً. كما لم يعد خافياً على الشيعة العرب المنزلة الاجتماعية الحقيقية التي ينزلهم إياها الفرس، وهم يرون أبناء العمومة عبر خط الحدود في الأحواز، وهم مواطنون من الدرجة الثانية في الدولة الإيرانية.
بالرغم من هذه العوامل السلبية، فقد نجح المشروع الصفوي في تحييد دور الحس العروبي عند الشيعة العرب إلى مدى ليس بالقليل، وفي خلخلة الجبهة الداخلية للعراق.
ما أريد أن أقوله أن الوضع الأمني عالي الحساسية للعراق والمنطقة العربية لم يعد يحتمل فصولاً جديدة من الاحتراب بين قطاعات أهل السنة، والارتفاع إلى مستوى المسؤولية التي أسداها لهم العالم على أنهم الوتد الذي حمى إلى هذه اللحظة المنطقة من الانهيار الكامل. هذا الصف بحاجة إلى خطاب لعموم طيفه السياسي، خالٍ من العموميات التي أصابته في مقتل، ولازمته منذ انطلاقته المعاصرة في بداية القرن الماضي.
وقف التدخلات يحتم البحث عن مساحات مشتركة بين أهل السنة والشيعة العرب. مثل هذه المساحات موجودة، لاسيما بعد تجربة رجل الشارع الشيعي مع أجهزة الأمن الإيرانية، والفساد الخلقي الخانق القادم من إيران الذي تعج به مدنه المقدسة، ونهب المال العام. الشارع الشيعي اليوم أمام مراجعة تاريخية لقناعات متوارثة عن أدوار مرجعية مخطوفة، وعن لافتات صفوية كبيرة تعلو ميدانه السياسي.
8- هل يمكن ان تساهم (الزعزعة) التي تحدث في العراق بسبب ايران وغيرها في دخول جهات اخرى في هذا المناخ الفوضوي مثل اسرائيل مثلا للعب ادوار اخرى لصالحها؟.
الحديث هنا ليس عن شي يحتمل أن يقع، بل وهو واقع.
بطبيعة الحال فإن حصة الأسد من التدخلات تذهب لأصحاب مشروع الاحتلال الأساسيين، وهم الذين كانت حشودهم ترابط على حدود ما كان قد تبقى من الدولة العراقية؛ وتحديداً: الموساد الإسرائيلي في شمال العراق، المنظمات الأمنية الإيرانية خارج وداخل الحدود العراقية، والجيش الأمريكي نفسه. وهذه هي خريطة النفوذ الأجنبي الرئيسي في العراق، أو المحور الـ صهيو ـ أمريكي ـ صفوي. ومعالمه بعضها واضح للعيان كالملامح الفارسية في مجريات الحياة العامة في المدن ذوات الأغلبية الشيعية، من شيوع التحدث بالفارسية، والفساد الخلقي على أرصفة المدن. وبعضه خفي مثل صفقات تجارية وعقارية ضخمة، وشراء مساحات شاسعة من الأراضي، يشك الأهالي المحليون بأنها تذهب لتجار يهود.
لكن منهج "فرق تسد" الذي يمارسه كل محتل، ونظيره "النظام الطائفي" الذي أطلقته وباركته أذرع المرجعية الصفوية، والذي هو للأقليات كالماء للسمكة، هذا التشرذم فتح الباب واسعاً أمام فوضى "الفدرالية"، التي تنادي فيها كل مجموعة عرقية صغيرة، وكل أقلية دينية إلى تمثيل فدرالي، حتى أصبح النسيج الاجتماعي العراقي كالجبنة السويسرية.
9- ما مستقبل التدخلات الايرانية في العراق.؟ وهل يمكن ان تظل تلعب هذه الادوار في السنوات القادمة؟.
كما ذكرت آنفاً، فإن مستقبل هذه التدخلات مرهون بشكل رد فعل العراقين سنة وشيعة على آثار احتلال بلادهم، الذي وجدت فيه أمريكا وإيران وإسرائيل فرصة تاريخية لإحداث تغيير جذري في المنطقة، كل من منطلقه العقدي وغاياته، والضحية هم أهل العراق.
10-مشاهد الدور الايراني في العراق ؟ معلومات عنه
مشاهد هذا الدور متعددة، أهمها المشاهد السياسية، فقد بات العنصر الإيراني مكون أساسي لمؤسسات الدولة. الحقيقة هي أن هذا الإيراني في العراق لم ينقطع منذ أن تحول العراق إلى ساحة للصراع العثماني الصفوي، وإذا كان الحضور العثماني قد انتهى في العراق بجميع أشكاله مع قيام الدولة الحديثة، فإن النفوذ الصفوي استمر فقهياً واقتصادياً وديموغرافياً واجتماعياً وثقافياً. إن النقلة النوعية التي حققها هذا الدور بعد 9/4/2003 هي الإمساك بالفك الثاني للكماشة، وهي الدور السياسي، بعد أن كان ممسكاً بالزمام الروحي للشارع، أما اليوم فالتكامل اكتمل بين المؤسستين الدينية والسياسية، بل أن أروقة المرجعية في النجف أصبحت مكاناً يقصده مسؤولو الدولة لحل المشاكل العالقة.
وظهر نفوذ اللوبي الفارسي في الدولة العراقية في عملية كتابة مسودة الدستور، عندما طالب ممثلو الشيعة باعتبار الفارسية إحدى قوميات الشعب العراقي، في الوقت الذين رفضوا ولا زالوا اعتبار العراق جزءاً من الأمة العربية.
* معهد دراسات المشرق العربي وإيران
rabee@alhafidh.co.uk
المصدر: الإسلام اليوم
من دوريه العراق