ذي قار
15-06-2004, 01:30 AM
صدام حسين .. العزة لك والعار علينا
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ
فزعت فيه بآمالي الى الكذبِ
حتى اذا لم يدع لي صدقه املاً
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
في ذلك الاحد الاسود، كان القلب على موعد مع الفجيعة، والعين على موعد مع البكاء، والروح على موعد مع الانكسار، والقفص الصدري على موعد مع الشهيق بلا زفير، ومع الضيق بلا فرج كما لو انه يتصعد في السماء.
في ذلك الاحد الاسود، تحولت الفضائيات الى جحيم، فقد لوثت حدقات العيون بمشاهد مزيفة، ولكنها متكررة على مدار الساعة، لعملية اصطياد الاسد العراقي الذي غادر الاضواء منذ ثمانية اشهر، وتحول الى ضمير عربي مستتر يقاتل بلا هوادة، ويهيم في البراري وغابات النخيل وافئدة المحبين.
كانت هذه المشاهد التلفزيونية المتكررة، اسلحة دمار شامل، ليس لاغتيال صورة الرئيس صدام ورمزيته فحسب، بل لابادة الروح المعنوية العربية ايضاً .. فقد وقع المستقبل العربي باسره، وليس صدام حسين وحده، في فخ الاسر، ومصيدة الاعتقال .. وبات على العرب حكاماً ومحكومين ان يتحسسوا رؤوسهم، ويتحسبوا كثيراً لقادمات الايام.
كان المناخ السائد مأساوياً والمشهد المتكرر جيفارياً بامتياز، فذات يوم بعيد اهتزت البشرية التقدمية باسرها حين دهمتها اخبار مصرع الثائر الاممي المقدام تشي جيفارا على ايدي المخابرات المركزية الامريكية وعملائها .. كانت اطلالة صدام الملتحي والاسير المضرج بحزنه، لا تختلف كثيراً عن صورة جيفارا الملتحي والقتيل المضرج بدمه .. الم يترك كل منهما المناصب والمكاسب ليعود - كما بدأ - ثائراً على رأس سرايا المقاومة ؟؟ فكما غادر صدام موقعه الرئاسي بالعراق، غادر جيفارا موقعه الوزاري في كوبا.
لم التقِ صدام حسين في حياتي قط، ولم يعجبني الكثير من سياساته وغطرساته، ولم ازر بغداد منذ عام ،1990 غير انني ما احببت، او احترمت احداً في حياتي مثلما احببت واحترمت صدام حسين حين عرضوه اسيراً ذاهلاً يوم الاحد الاسود .. ذلك لان اذلاله بهذه الطريقة السافرة والسافلة والمعدة منذ زمن طويل، هو التعبير الاوضح عن مدى الحقد الانجلو - امريكي - صهيوني على هذا الفارس العربي الذي حاول ان يشكل » جملة معترضة « لقطع سياق المخطط الامبريالي المعادي للامة العربية، والمحابي للمطامع والمشاريع اليهودية.
يا لعذاب الاسود حين تقع في الاسر، وتقبع في الاقفاص .. ويا لحرقة الشجعان حين تهزمهم الظروف الجبانة، والمعادلات الظالمة .. ويا لوجع العظماء حين تعاكسهم الاقدار، وتعاندهم مفارقات التاريخ .. فقد رحل نابليون مسجوناً، ورحل عبد الناصر مهزوماً، ورحل جيفارا مقتولاً، ورحل الشريف حسين بن علي معزولاً .. وها هو صدام حسين يجد نهايته مأسوراً، ومطعوناً في اعز ما يملك .. شجاعته !!
غاب عن صدام حسين الجاه والعز والمال والسلطان .. غاب عنه الاعوان والخلان والاهل والولد .. غاب عنه الرؤساء والزعماء والوزراء والشعراء .. ولكن بقيت له دموع ودعوات البسطاء من ابناء هذه الامة، فالبسطاء الشرفاء المحتكمون ابداً الى فطرتهم الوطنية، وبوصلتهم الشعبية، وروحيتهم النقية، هم الذين ظلوا على وفائهم لهذا الرمز والعنوان والضرغام العربي الاسير .. ففي كل ريف عربي مأتم، وفي كل حي شعبي مناحة، وفي كل مخيم فلسطيني نهر دموع.
لو كان هؤلاء البسطاء يملكون زمام القرار والخيار، لخبأوا صدام حسين في حبات عيونهم، ولاستضافوه في حجرات قلوبهم، ولافتدوه بفلذات اكبادهم، ولناصروه بمثل ما فعل الانصار بالمهاجرين .. ولكن انى لهؤلاء البسطاء الشرفاء ان يفعلوا ما يريدون في ظل انظمة تعبد الدولار، وتحج الى واشنطن ولندن وتل ابيب، وتعتبر الوطنية رجزاً من عمل الشيطان.
عار على امة تسكن تاريخاً عريقاً، وتتربع على تضاريس قارتين واسعتين، وتضم ثلاثمائة مليون اعرابي .. ان تضيق ذرعاً بقائد عربي كبير من وزن صدام حسين، وان تغلق ابوابها في وجهه، وان تضطره للنزول تحت الارض لاكثر من ثمانية اشهر .. فلا تستقبله شقيقاً، ولا تجيره مستجيراً، ولا تستضيفه ضيفاً، ولا تحنو عليه مطارداً وملاحقاً من قوى الصهيونية والصليبية.
عار على امة تنتسب الى سيد الخلق وصحابته الراشدين، وتتغنى بقيم الشرف والنخوة والشهامة والوفاء، وتتباهى بواقعة المؤاخاة بين المهاجرين والانصار، وتتشدق بشعارات السيادة والارادة والاستقلال .. ان تناصر الامريكي على العراقي، وان تشمت بالشقيق لحساب الغريب، وان تتشفى في المناضل الذي خذلته الظروف، وتكالبت عليه صروف الزمان، وليس في المحتل الذي صادر عروبة العراق ومستقبله وتاريخه.
ورحم الله الامام علي وكرم وجهه، فقد سبق ان قال .. »حين يبكي الشجاع، يضحك الجبان« .. وها نحن معشر المحزونين على اسر الرئيس صدام نرى بام العين كيف يضحك الجبناء، ويفرح العملاء، وينتشي الصغار الصغار من بني جلدتنا، جراء انتصار اكبر قوة فوق الارض على مجاهد واحد قابع تحت الارض، ومحاصر من جميع الجهات، ومخذول من امته التي ما بخل عليها يوماً بشيء، ولا تنكر لها في اي وقت.
يعيروننا بان المقاتل صدام حسين قد استسلم بلا مقاومة، واذعن بلا قتال .. وينسون اننا قد سمعنا عنه وليس منه .. سمعنا من اعدائه الذين احترفوا الكذب بشهادة العالم كله، ولم نسمع منه ان كان قد فعلها مخدراً او مختاراً، وان كان ضحية مؤامرة، او اخذ على حين غرة، او احجم عن الانتحار لاعتبارات دينية وايمانية.
ولكن دعونا نفترض ان صدام حسين الذي افاق ليجد نفسه محاصراً بستمائة جندي امريكي، وقطيع من كلاب »البيشمركة« الكردية، قد ارغم على الاستسلام .. افلا يكفيه فخراً انه قد قاتل رئيساً ثم مواطناً لما يناهز تسعة اشهر ؟؟ الم يستسلم معظم الحكام العرب والفرس سلفاً ومسبقاً، ودون قتال، او حتى سؤال ؟؟ الم تستسلم النخب والطلائع والقيادات الشعبية العربية من المحيط الى الخليج ؟؟ الم تنحدر الامة العربية، وربما البشرية باسرها، الى الحضيض ؟؟ فلماذا كل هذه المزايدة على فرد واحد قهرته الاقدار، وغلبته موازين القوى، وخذلته امته والعالم، فانتقل مجاهداً من رحاب القصور الى عتمة الجحور، وانحاز بكامل ارادته الى خيار المصادمة بدل المساومة، ودواعي الفداء والكبرياء عوض الاستخذاء والاستجداء ؟؟
يا الهي، ما اقبح هذه المرحلة، وما افدح فقه الهزيمة وما اصغر واحقر رموزه السياسية والثقافية والاعلامية الذين كشفوا عن وجوههم الشائهة، وتكشفوا عن خزائن للحقد والشماتة والباطنية المريضة، حتى لكأنهم كانوا يتربصون بامتنا الدوائر، وينتظرون وقوع البطل ليتهافتوا عليه بالسكاكين، وليقذفوا من مكنونات صدورهم القذرة، وقلوبهم الحاقدة والجاحدة ما لم يكن يخطر لاحد على بال.
لو كانوا هم اصحاب النصر على صدام لكنا تفهمنا مواقفهم، ولو كان هذا النصر يتم لحسابهم وصالح بلدانهم لكنا التمسنا لهم المبررات والاعذار .. ولكن كيف يسوغون مواقفهم البائسة، ومشاعرهم الشامتة، وهم يعلمون علم اليقين انه انتصار امريكي يتم لصالح العدو الصهيوني ؟؟ كيف يقفون الى جانب امريكا على حد سواء مع شارون الذي كان اول المطلعين على اسر صدام، واول المهنئين بذلك ؟؟
ولكن يبدو ان من شب على شيء شاب عليه، كما يقول المثل القديم، فهؤلاء الشامتون في اسر صدام الآن، هم انفسهم الذين شمتوا وتشفوا في هزيمة عبد الناصر قبل ثلث قرن من الزمان .. وهم انفسهم الذين وقفوا ضد جهود حافظ الاسد لاستعادة وحدة وعروبة لبنان .. وهم انفسهم الذين زينوا لياسر عرفات طريق الصلح والتطبيع، ثم ما لبثوا ان تخلوا عنه، وتركوه وحيداً ومحاصراً في دار المقاطعة برام الله.. وهم انفسهم الذين يدفعون العراق الآن نحو الفتنة والاقتتال والتقسيم، بل يدفعون الشعوب العربية كلها نحو التشرذم والتفكك والتقوقع على مكوناتها التحت وطنية، من عرقية وطائفية وعشائرية وجهوية.
لقد انتهى الرئيس صدام كما ابتدأ .. مناضلاً .. متقشفاً .. وحيداً وعنيداً، فهو رجل استثنائي لم يرتض العيش على هوامش الحياة، ولم يمارس الانحناء طلباً للنجاة والبقاء، ولم يتشبث بالمناصب على حساب المبادئ، ولم يدر خده الايسر لمن ضربه على خده الايمن، ولم يعاقر » الواقعية السياسية « التي لوثت العالم باسره .. بل ظل رجل الاسطورة الطالع للتو من رحم الملاحم والاساطير الاغريقية، والعاشق الابدي للعناء والشقاء والفداء والبأساء وسطور كربلاء.
وداعاً يا ابا عدي، فقد كنت عنواناً للزمن العربي الجميل، وكنت علوياً حقيقياً حين استسلم ادعياء التشيع لسلطان بريمر، وكنت حسينياً وفدائياً حين خانت الحوزات اياها دماء بني هاشم، وكنت فارساً عراقياً حراً وعربياً طموحاً اراد استعادة مجد العرب، لولا ان تكالبت عليه قوى البغي، وخذلته المقادير العمياء !!
وداعاً يا ابا عدي، فقد ضاق العالم كله - وليس العراق وحده - امام العظماء والشرفاء من امثالك .. فلا مكان في عالم اليوم المحكوم بالدونية اليهودية والجاهلية الامريكية، لاصحاب القامات العالية، والرؤوس المرفوعة، والاحلام النهضوية الكبيرة .. واذا كانت دول مرموقة مثل الصين وفرنسا وايران قد خارت، او مثل الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا وافغانستان قد انهارت .. فهل يُعقل ان يظل العراق معقلاً لتخريج العلماء، وموئلاً لنصرة فلسطين، وعريناً لقائد شجاع، ووطناً تخفق على ذراه وفي جنباته راية تحمل دعاء .. » الله اكبر « ؟؟
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ
فزعت فيه بآمالي الى الكذبِ
حتى اذا لم يدع لي صدقه املاً
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
في ذلك الاحد الاسود، كان القلب على موعد مع الفجيعة، والعين على موعد مع البكاء، والروح على موعد مع الانكسار، والقفص الصدري على موعد مع الشهيق بلا زفير، ومع الضيق بلا فرج كما لو انه يتصعد في السماء.
في ذلك الاحد الاسود، تحولت الفضائيات الى جحيم، فقد لوثت حدقات العيون بمشاهد مزيفة، ولكنها متكررة على مدار الساعة، لعملية اصطياد الاسد العراقي الذي غادر الاضواء منذ ثمانية اشهر، وتحول الى ضمير عربي مستتر يقاتل بلا هوادة، ويهيم في البراري وغابات النخيل وافئدة المحبين.
كانت هذه المشاهد التلفزيونية المتكررة، اسلحة دمار شامل، ليس لاغتيال صورة الرئيس صدام ورمزيته فحسب، بل لابادة الروح المعنوية العربية ايضاً .. فقد وقع المستقبل العربي باسره، وليس صدام حسين وحده، في فخ الاسر، ومصيدة الاعتقال .. وبات على العرب حكاماً ومحكومين ان يتحسسوا رؤوسهم، ويتحسبوا كثيراً لقادمات الايام.
كان المناخ السائد مأساوياً والمشهد المتكرر جيفارياً بامتياز، فذات يوم بعيد اهتزت البشرية التقدمية باسرها حين دهمتها اخبار مصرع الثائر الاممي المقدام تشي جيفارا على ايدي المخابرات المركزية الامريكية وعملائها .. كانت اطلالة صدام الملتحي والاسير المضرج بحزنه، لا تختلف كثيراً عن صورة جيفارا الملتحي والقتيل المضرج بدمه .. الم يترك كل منهما المناصب والمكاسب ليعود - كما بدأ - ثائراً على رأس سرايا المقاومة ؟؟ فكما غادر صدام موقعه الرئاسي بالعراق، غادر جيفارا موقعه الوزاري في كوبا.
لم التقِ صدام حسين في حياتي قط، ولم يعجبني الكثير من سياساته وغطرساته، ولم ازر بغداد منذ عام ،1990 غير انني ما احببت، او احترمت احداً في حياتي مثلما احببت واحترمت صدام حسين حين عرضوه اسيراً ذاهلاً يوم الاحد الاسود .. ذلك لان اذلاله بهذه الطريقة السافرة والسافلة والمعدة منذ زمن طويل، هو التعبير الاوضح عن مدى الحقد الانجلو - امريكي - صهيوني على هذا الفارس العربي الذي حاول ان يشكل » جملة معترضة « لقطع سياق المخطط الامبريالي المعادي للامة العربية، والمحابي للمطامع والمشاريع اليهودية.
يا لعذاب الاسود حين تقع في الاسر، وتقبع في الاقفاص .. ويا لحرقة الشجعان حين تهزمهم الظروف الجبانة، والمعادلات الظالمة .. ويا لوجع العظماء حين تعاكسهم الاقدار، وتعاندهم مفارقات التاريخ .. فقد رحل نابليون مسجوناً، ورحل عبد الناصر مهزوماً، ورحل جيفارا مقتولاً، ورحل الشريف حسين بن علي معزولاً .. وها هو صدام حسين يجد نهايته مأسوراً، ومطعوناً في اعز ما يملك .. شجاعته !!
غاب عن صدام حسين الجاه والعز والمال والسلطان .. غاب عنه الاعوان والخلان والاهل والولد .. غاب عنه الرؤساء والزعماء والوزراء والشعراء .. ولكن بقيت له دموع ودعوات البسطاء من ابناء هذه الامة، فالبسطاء الشرفاء المحتكمون ابداً الى فطرتهم الوطنية، وبوصلتهم الشعبية، وروحيتهم النقية، هم الذين ظلوا على وفائهم لهذا الرمز والعنوان والضرغام العربي الاسير .. ففي كل ريف عربي مأتم، وفي كل حي شعبي مناحة، وفي كل مخيم فلسطيني نهر دموع.
لو كان هؤلاء البسطاء يملكون زمام القرار والخيار، لخبأوا صدام حسين في حبات عيونهم، ولاستضافوه في حجرات قلوبهم، ولافتدوه بفلذات اكبادهم، ولناصروه بمثل ما فعل الانصار بالمهاجرين .. ولكن انى لهؤلاء البسطاء الشرفاء ان يفعلوا ما يريدون في ظل انظمة تعبد الدولار، وتحج الى واشنطن ولندن وتل ابيب، وتعتبر الوطنية رجزاً من عمل الشيطان.
عار على امة تسكن تاريخاً عريقاً، وتتربع على تضاريس قارتين واسعتين، وتضم ثلاثمائة مليون اعرابي .. ان تضيق ذرعاً بقائد عربي كبير من وزن صدام حسين، وان تغلق ابوابها في وجهه، وان تضطره للنزول تحت الارض لاكثر من ثمانية اشهر .. فلا تستقبله شقيقاً، ولا تجيره مستجيراً، ولا تستضيفه ضيفاً، ولا تحنو عليه مطارداً وملاحقاً من قوى الصهيونية والصليبية.
عار على امة تنتسب الى سيد الخلق وصحابته الراشدين، وتتغنى بقيم الشرف والنخوة والشهامة والوفاء، وتتباهى بواقعة المؤاخاة بين المهاجرين والانصار، وتتشدق بشعارات السيادة والارادة والاستقلال .. ان تناصر الامريكي على العراقي، وان تشمت بالشقيق لحساب الغريب، وان تتشفى في المناضل الذي خذلته الظروف، وتكالبت عليه صروف الزمان، وليس في المحتل الذي صادر عروبة العراق ومستقبله وتاريخه.
ورحم الله الامام علي وكرم وجهه، فقد سبق ان قال .. »حين يبكي الشجاع، يضحك الجبان« .. وها نحن معشر المحزونين على اسر الرئيس صدام نرى بام العين كيف يضحك الجبناء، ويفرح العملاء، وينتشي الصغار الصغار من بني جلدتنا، جراء انتصار اكبر قوة فوق الارض على مجاهد واحد قابع تحت الارض، ومحاصر من جميع الجهات، ومخذول من امته التي ما بخل عليها يوماً بشيء، ولا تنكر لها في اي وقت.
يعيروننا بان المقاتل صدام حسين قد استسلم بلا مقاومة، واذعن بلا قتال .. وينسون اننا قد سمعنا عنه وليس منه .. سمعنا من اعدائه الذين احترفوا الكذب بشهادة العالم كله، ولم نسمع منه ان كان قد فعلها مخدراً او مختاراً، وان كان ضحية مؤامرة، او اخذ على حين غرة، او احجم عن الانتحار لاعتبارات دينية وايمانية.
ولكن دعونا نفترض ان صدام حسين الذي افاق ليجد نفسه محاصراً بستمائة جندي امريكي، وقطيع من كلاب »البيشمركة« الكردية، قد ارغم على الاستسلام .. افلا يكفيه فخراً انه قد قاتل رئيساً ثم مواطناً لما يناهز تسعة اشهر ؟؟ الم يستسلم معظم الحكام العرب والفرس سلفاً ومسبقاً، ودون قتال، او حتى سؤال ؟؟ الم تستسلم النخب والطلائع والقيادات الشعبية العربية من المحيط الى الخليج ؟؟ الم تنحدر الامة العربية، وربما البشرية باسرها، الى الحضيض ؟؟ فلماذا كل هذه المزايدة على فرد واحد قهرته الاقدار، وغلبته موازين القوى، وخذلته امته والعالم، فانتقل مجاهداً من رحاب القصور الى عتمة الجحور، وانحاز بكامل ارادته الى خيار المصادمة بدل المساومة، ودواعي الفداء والكبرياء عوض الاستخذاء والاستجداء ؟؟
يا الهي، ما اقبح هذه المرحلة، وما افدح فقه الهزيمة وما اصغر واحقر رموزه السياسية والثقافية والاعلامية الذين كشفوا عن وجوههم الشائهة، وتكشفوا عن خزائن للحقد والشماتة والباطنية المريضة، حتى لكأنهم كانوا يتربصون بامتنا الدوائر، وينتظرون وقوع البطل ليتهافتوا عليه بالسكاكين، وليقذفوا من مكنونات صدورهم القذرة، وقلوبهم الحاقدة والجاحدة ما لم يكن يخطر لاحد على بال.
لو كانوا هم اصحاب النصر على صدام لكنا تفهمنا مواقفهم، ولو كان هذا النصر يتم لحسابهم وصالح بلدانهم لكنا التمسنا لهم المبررات والاعذار .. ولكن كيف يسوغون مواقفهم البائسة، ومشاعرهم الشامتة، وهم يعلمون علم اليقين انه انتصار امريكي يتم لصالح العدو الصهيوني ؟؟ كيف يقفون الى جانب امريكا على حد سواء مع شارون الذي كان اول المطلعين على اسر صدام، واول المهنئين بذلك ؟؟
ولكن يبدو ان من شب على شيء شاب عليه، كما يقول المثل القديم، فهؤلاء الشامتون في اسر صدام الآن، هم انفسهم الذين شمتوا وتشفوا في هزيمة عبد الناصر قبل ثلث قرن من الزمان .. وهم انفسهم الذين وقفوا ضد جهود حافظ الاسد لاستعادة وحدة وعروبة لبنان .. وهم انفسهم الذين زينوا لياسر عرفات طريق الصلح والتطبيع، ثم ما لبثوا ان تخلوا عنه، وتركوه وحيداً ومحاصراً في دار المقاطعة برام الله.. وهم انفسهم الذين يدفعون العراق الآن نحو الفتنة والاقتتال والتقسيم، بل يدفعون الشعوب العربية كلها نحو التشرذم والتفكك والتقوقع على مكوناتها التحت وطنية، من عرقية وطائفية وعشائرية وجهوية.
لقد انتهى الرئيس صدام كما ابتدأ .. مناضلاً .. متقشفاً .. وحيداً وعنيداً، فهو رجل استثنائي لم يرتض العيش على هوامش الحياة، ولم يمارس الانحناء طلباً للنجاة والبقاء، ولم يتشبث بالمناصب على حساب المبادئ، ولم يدر خده الايسر لمن ضربه على خده الايمن، ولم يعاقر » الواقعية السياسية « التي لوثت العالم باسره .. بل ظل رجل الاسطورة الطالع للتو من رحم الملاحم والاساطير الاغريقية، والعاشق الابدي للعناء والشقاء والفداء والبأساء وسطور كربلاء.
وداعاً يا ابا عدي، فقد كنت عنواناً للزمن العربي الجميل، وكنت علوياً حقيقياً حين استسلم ادعياء التشيع لسلطان بريمر، وكنت حسينياً وفدائياً حين خانت الحوزات اياها دماء بني هاشم، وكنت فارساً عراقياً حراً وعربياً طموحاً اراد استعادة مجد العرب، لولا ان تكالبت عليه قوى البغي، وخذلته المقادير العمياء !!
وداعاً يا ابا عدي، فقد ضاق العالم كله - وليس العراق وحده - امام العظماء والشرفاء من امثالك .. فلا مكان في عالم اليوم المحكوم بالدونية اليهودية والجاهلية الامريكية، لاصحاب القامات العالية، والرؤوس المرفوعة، والاحلام النهضوية الكبيرة .. واذا كانت دول مرموقة مثل الصين وفرنسا وايران قد خارت، او مثل الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا وافغانستان قد انهارت .. فهل يُعقل ان يظل العراق معقلاً لتخريج العلماء، وموئلاً لنصرة فلسطين، وعريناً لقائد شجاع، ووطناً تخفق على ذراه وفي جنباته راية تحمل دعاء .. » الله اكبر « ؟؟