المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مناسبة حسب التقويم الهجري



عبدالغفور الخطيب
21-10-2005, 01:00 AM
في ذكرى وفاة خالد ابن الوليد

18/ رمضان /21 هـ


هو "أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة"، ينتهي نسبه إلى "مرة بن كعب بن لؤي" الجد السابع للنبي (صلى الله عليه وسلم) و"أبي بكر الصديق" رضي الله عنه.

وأمه هي "لبابة بنت الحارث بن حزن الهلالية"، وقد ذكر "ابن عساكر" – في تاريخه – أنه كان قريبًا من سن "عمر بن الخطاب".

أسرة عريقة ومجد تليد

وينتمي خالد إلى قبيلة "بني مخزوم" أحد بطون "قريش" التي كانت إليها "القبة" و"الأعنة"، وكان لها شرف عظيم ومكانة كبيرة في الجاهلية، وكانت على قدر كبير من الجاه والثراء، وكانت بينهم وبين قريش مصاهرة متبادلة.

وكان منهم الكثير من السابقين للإسلام؛ منهم: "أبو سلمة بن عبد الأسد"، وكان في طليعة المهاجرين إلى الحبشة، و"الأرقم بن أبي الأرقم" الذي كانت داره أول مسجد للإسلام، وأول مدرسة للدعوة الإسلامية.

وكانت أسرة "خالد" ذات منزلة متميزة في بني مخزوم؛ فعمه "أبو أمية بن المغيرة" كان معروفًا بالحكمة والفضل، وكان مشهورًا بالجود والكرم، وهو الذي أشار على قبائل قريش بتحكيم أول من يدخل عليهم حينما اختلفوا على وضع الحجر الأسود وكادوا يقتتلون، وقد مات قبل الإسلام.

وعمه "هشام بن المغيرة" كان من سادات قريش وأشرافها، وهو الذي قاد بني مخزوم في "حرب الفجار".

وكان لخالد إخوة كثيرون بلغ عددهم ستة من الذكور هم: "العاص" و"أبو قيس" و"عبد شمس" و"عمارة" و"هشام" و"الوليد"، اثنتين من الإناث هما: "فاطمة" و"فاضنة".

أما أبوه فهو "عبد شمس الوليد بن المغيرة المخزومي"، وكان ذا جاه عريض وشرف رفيع في "قريش"، وكان معروفًا بالحكمة والعقل؛ فكان أحدَ حكام "قريش" في الجاهلية، وكان ثَريًّا صاحب ضياع وبساتين لا ينقطع ثمرها طوال العام.

فارس عصره

وفي هذا الجو المترف المحفوف بالنعيم نشأ "خالد بن الوليد"، وتعلم الفروسية كغيره من أبناء الأشراف، ولكنه أبدى نبوغًا ومهارة في الفروسية منذ وقت مبكر، وتميز على جميع أقرانه، كما عُرف بالشجاعة والجَلَد والإقدام، والمهارة وخفة الحركة في الكرّ والفرّ.

واستطاع "خالد" أن يثبت وجوده في ميادين القتال، وأظهر من فنون الفروسية والبراعة في القتال ما جعله فارس عصره بلا منازع.

معاداته للإسلام والمسلمين

وكان "خالد" –كغيره من أبناء "قريش"– معاديًا للإسلام ناقمًا على النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين الذين آمنوا به وناصروه، بل كان شديد العداوة لهم شديد التحامل عليهم، ومن ثَم فقد كان حريصًا على محاربة الإسلام والمسلمين، وكان في طليعة المحاربين لهم في كل المعارك التي خاضها الكفار والمشركون ضد المسلمين.

وكان له دور بارز في إحراز النصر للمشركين على المسلمين في غزوة "أحد"، حينما وجد غِرَّة من المسلمين بعد أن خالف الرماة أوامر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وتركوا مواقعهم في أعلى الجبل، ونزلوا ليشاركوا إخوانهم جمع غنائم وأسلاب المشركين المنهزمين، فدار "خالد" بفلول المشركين وباغَتَ المسلمين من خلفهم، فسادت الفوضى والاضطراب في صفوفهم، واستطاع أن يحقق النصر للمشركين بعد أن كانت هزيمتهم محققة.

كذلك فإن "خالدا" كان أحد صناديد قريش يوم الخندق الذين كانوا يتناوبون الطواف حول الخندق علهم يجدون ثغرة منه؛ فيأخذوا المسلمين على غرة، ولما فشلت الأحزاب في اقتحام الخندق، وولوا منهزمين، كان "خالد بن الوليد" أحد الذين يحمون ظهورهم حتى لا يباغتهم المسلمون.

وفي "الحديبية" خرج "خالد" على رأس مائتي فارس دفعت بهم قريش لملاقاة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، ومنعهم من دخول مكة، وقد أسفر الأمر عن عقد معاهدة بين المسلمين والمشركين عرفت باسم "صلح الحديبية".

وقد تجلت كراهية "خالد" للإسلام والمسلمين حينما أراد المسلمون دخول مكة في عمرة القضاء؛ فلم يطِق خالد أن يراهم يدخلون مكة –رغم ما بينهم من صلح ومعاهدة– وقرر الخروج من مكة حتى لا يبصر أحدًا منهم فيها.

إسلامه

أسلم خالد في (صفر 8 هـ= يونيو 629م)؛ أي قبل فتح مكة بستة أشهر فقط، وقبل غزوة مؤتة بنحو شهرين.

ويروى في سبب إسلامه: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال للوليد بن الوليد أخيه، وهو في عمرة القضاء: "لو جاء خالد لقدّمناه، ومن مثله سقط عليه الإسلام في عقله"، فكتب "الوليد" إلى "خالد" يرغبه في الإسلام، ويخبره بما قاله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه، فكان ذلك سبب إسلامه وهجرته.

وقد سُرَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) بإسلام خالد، وقال له حينما أقبل عليه: "الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير".

وفرح المسلمون بانضمام خالد إليهم، فقد أعزه الله بالإسلام كما أعز الإسلام به، وتحول عداء خالد للإسلام والمسلمين إلى حب وتراحم، وانقلبت موالاته للكافرين إلى عداء سافر، وكراهية متأججة، وجولات متلاحقة من الصراع والقتال.

سيف الله في مؤتة

وكانت أولى حلقات الصراع بين خالد والمشركين –بعد التحول العظيم الذي طرأ على حياة خالد وفكره وعقيدته– في (جمادى الأولى 8هـ = سبتمبر 629م) حينما أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) سرية الأمراء إلى "مؤتة" للقصاص من قتلة "الحارث بن عمير" رسوله إلى صاحب بصرى.

وجعل النبي (صلى الله عليه وسلم) على هذا الجيش: "زيد بن حارثة" ومن بعده "جعفر بن أبي طالب"، ثم "عبد الله بن رواحة"، فلما التقى المسلمون بجموع الروم، استشهد القادة الثلاثة الذين عينهم النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأصبح المسلمون بلا قائد، وكاد عقدهم ينفرط وهم في أوج المعركة، وأصبح موقفهم حرجًا، فاختاروا "خالدًا" قائدًا عليهم.

واستطاع "خالد" بحنكته ومهارته أن يعيد الثقة إلى نفوس المسلمين بعد أن أعاد تنظيم صفوفهم، وقد أبلى "خالد" – في تلك المعركة – بلاء حسنًا، فقد اندفع إلى صفوف العدو يعمل فيهم سيفه قتلاً وجرحًا حتى تكسرت في يده تسعة أسياف.

وقد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه باستشهاد الأمراء الثلاثة، وأخبرهم أن "خالدًا" أخذ اللواء من بعدهم، وقال عنه: "اللهم إنه سيف من سيوفك، فأنت تنصره". فسمي خالد "سيف الله" منذ ذلك اليوم.

وبرغم قلة عدد جيش المسلمين الذي لا يزيد عن ثلاثة آلاف فارس، فإنه استطاع أن يلقي في روع الروم أن مددًا جاء للمسلمين بعد أن عمد إلى تغيير نظام الجيش بعد كل جولة، فتوقف الروم عن القتال، وتمكن خالد بذلك أن يحفظ جيش المسلمين، ويعود به إلى المدينة استعدادًا لجولات قادمة.

خالد والدفاع عن الإسلام

وحينما خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) في نحو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار؛ لفتح "مكة" في (10 من رمضان 8هـ = 3 من يناير 630م)، جعله النبي (صلى الله عليه وسلم) على أحد جيوش المسلمين الأربعة، وأمره بالدخول من "الليط" في أسفل مكة، فكان خالد هو أول من دخل من أمراء النبي (صلى الله عليه وسلم)، بعد أن اشتبك مع المشركين الذين تصدوا له وحاولوا منعه من دخول البيت الحرام، فقتل منهم ثلاثة عشر مشركًا، واستشهد ثلاثة من المسلمين، ودخل المسلمون مكة – بعد ذلك – دون قتال.

وبعد فتح مكة أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) خالدًا في ثلاثين فارسًا من المسلمين إلى "بطن نخلة" لهدم "العزى" أكبر أصنام "قريش" وأعظمها لديها.

ثم أرسله – بعد ذلك – في نحو ثلاثمائة وخمسين رجلاً إلى "بني جذيمة" يدعوهم إلى الإسلام، ولكن "خالدًا" – بما عُرف عنه من البأس والحماس – قتل منهم عددًا كبيرًا برغم إعلانهم الدخول في الإسلام؛ ظنًا منه أنهم إنما أعلنوا إسلامهم لدرء القتل عن أنفسهم، وقد غضب النبي (صلى الله عليه وسلم) لما فعله خالد وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، وأرسل "عليًا بن أبي طالب" لدفع دية قتلى "بني جذيمة".

وقد اعتبر كثير من المؤرخين تلك الحادثة إحدى مثالب "خالد"، وإن كانوا جميعًا يتفقون على أنه أخطأ متأولاً، وليس عن قصد أو تعمد. وليس أدل على ذلك من أنه ظل يحظى بثقة النبي (صلى الله عليه وسلم)، بل إنه ولاه – بعد ذلك – إمارة عدد كبير من السرايا، وجعله على مقدمة جيش المسلمين في العديد من جولاتهم ضد الكفار والمشركين.

ففي "غزوة حنين" كان "خالد" على مقدمة خيل "بني سليم" في نحو مائة فارس، خرجوا لقتال قبيلة "هوازن" في (شوال 8هـ = فبراير 630م)، وقد أبلى فيها "خالد" بلاءً حسنًا، وقاتل بشجاعة، وثبت في المعركة بعد أن فرَّ من كان معه من "بني سليم"، وظل يقاتل ببسالة وبطولة حتى أثخنته الجراح البليغة، فلما علم النبي (صلى الله عليه وسلم) بما أصابه سأل عن رحله ليعوده.

سيف على أعداء الله

ولكن هذه الجراح البليغة لم تمنع خالدًا أن يكون على رأس جيش المسلمين حينما خرج إلى "الطائف" لحرب "ثقيف" و"هوازن".

ثم بعثه النبي (صلى الله عليه وسلم) – بعد ذلك – إلى "بني المصطلق" سنة (9هـ = 630م)، ليقف على حقيقة أمرهم، بعدما بلغه أنهم ارتدوا عن الإسلام، فأتاهم "خالد" ليلاً، وبعث عيونه إليهم، فعلم أنهم على إسلامهم، فعاد إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فأخبره بخبرهم.

وفي (رجب 9هـ = أكتوبر 630م) أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) "خالدًا" في أربعمائة وعشرين فارسًا إلى "أكيدر بن عبد الملك" صاحب "دومة الجندل"، فاستطاع "خالد" أسر "أكيدر"، وغنم المسلمون مغانم كثيرة، وساقه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فصالحه على فتح "دومة الجندل"، وأن يدفع الجزية للمسلمين، وكتب له النبي (صلى الله عليه وسلم) كتابًا بذلك.

وفي (جمادى الأولى 1هـ = أغسطس 631م) بعث النبي (صلى الله عليه وسلم) "خالدًا" إلى "بني الحارث بن كعب" بنجران في نحو أربعمائة من المسلمين، ليخيرهم بين الإسلام أو القتال، فأسلم كثير منهم، وأقام "خالد" فيهم ستة أشهر يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، ثم أرسل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يخبره بإسلامهم، فكتب إليه النبي يستقدمه مع وفد منهم.

يقاتل المرتدين ومانعي الزكاة

وبعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) شارك "خالد" في قتال المرتدين في عهد "أبي بكر الصديق" – رضي الله عنه – فقد ظن بعض المنافقين وضعاف الإيمان أن الفرصة قد أصبحت سانحة لهم – بعد وفاة النبي – للانقضاض على هذا الدين، فمنهم من ادعى النبوية، ومنهم من تمرد على الإسلام ومنع الزكاة، ومنهم من ارتد عن الإسلام. وقد وقع اضطراب كبير، واشتعلت الفتنة التي أحمى أوارها وزكّى نيرانها كثير من أعداء الإسلام.

وقد واجه الخليفة الأول تلك الفتنة بشجاعة وحزم، وشارك خالد بن الوليد بنصيب وافر في التصدي لهذه الفتنة والقضاء عليها، حينما وجهه أبو بكر لقتال "طليحة بن خويلد الأسدي" وكان قد تنبأ في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) حينما علم بمرضه بعد حجة الوداع، ولكن خطره تفاقم وازدادت فتنته بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) والتفاف كثير من القبائل حوله، واستطاع خالد أن يلحق بطليحة وجيشه هزيمة منكرة فر "طليحة" على إثرها إلى "الشام"، ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وكان له دور بارز في حروب الفرس، وقد استشهد في عهد عمر بن الخطاب.

وبعد فرار طليحة راح خالد يتتبع فلول المرتدين، فأعمل فيهم سيفه حتى عاد كثير منهم إلى الإسلام.

مقتل مالك بن نويرة وزواج خالد من امرأته

ثم سار خالد ومن معه إلى مالك بن نويرة الذي منع الزكاة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فلما علم مالك بقدومه أمر قومه بالتفرق حتى لا يظفر بهم خالد، ولكن خالدا تمكن من أسره في نفر من قومه، وكانت ليلة شديدة البرودة، فأمر خالد مناديًا أن أدفئوا أسراكم، وظن الحرس -وكانوا من كنانة- أنه أراد قتل الأسرى – على لغتهم- فشرعوا فيهم سيوفهم بالقتل، حتى إذا ما انتبه خالد كانوا قد فرغوا منهم.

وأراد خالد أن يكفّر عن ذلك الخطأ الذي لم يعمده فتزوج من امرأة مالك؛ مواساة لها، وتخفيفًا عن مصيبتها في فقد زوجها الفارس الشاعر.

القضاء على فتنة مسيلمة الكذاب

وخرج خالد – بعد ذلك – لقتال مسيلمة الكذاب الذي كان من أشد أولئك المتنبئين خطرًا، ومن أكثرهم أعوانًا وجندًا، ودارت معركة عنيفة بين الجانبين، انتهت بهزيمة "بني حنيفة" ومقتل "مسيلمة"، وقد استشهد في تلك الحرب عدد كبير من المسلمين بلغ أكثر من ثلاثمائة وستين من المهاجرين والأنصار، وكان أكثرهم من السابقين إلى الإسلام، وحفظه القرآن، وهو الأمر الذي دعا أبا بكر إلى التفكير في جمع القرآن الكريم؛ خوفًا عليه من الضياع بعد موت هذا العدد الكبير من الحفاظ.

فتوحات خالد في العراق

ومع بدايات عام (12هـ = 633م) بعد أن قضى أبو بكر على فتنة الردة التي كادت تمزق الأمة وتقضي على الإسلام، توجه الصديق ببصره إلى العراق يريد تأمين حدود الدولة الإسلامية، وكسر شوكة الفرس المتربصين بالإسلام.

وكان خالد في طليعة القواد الذين أرسلهم أبو بكر لتلك المهمة، واستطاع خالد أن يحقق عددًا من الانتصارات على الفرس في "الأبلة" و"المذار" و"الولجة" و"أليس"، وواصل خالد تقدمه نحو "الحيرة" ففتحها بعد أن صالحه أهلها على الجزية، واستمر خالد في تقدمه وفتوحاته حتى فتح جانبًا كبيرًا من العراق، ثم اتجه إلى "الأنبار" ليفتحها، ولكن أهلها تحصنوا بها، وكان حولها خندق عظيم يصعب اجتيازه، ولكن خالدًا لم تعجزه الحيلة، فأمر جنوده برمي الجنود المتحصنين بالسهام في عيونهم، حتى أصابوا نحو ألف عين منهم، ثم عمد إلى الإبل الضعاف والهزيلة، فنحرها وألقى بها في أضيق جانب من الخندق، حتى صنع جسرًا استطاع العبور عليه هو وفرسان المسلمين تحت وابل من السهام أطلقه رماته لحمايتهم من الأعداء المتربصين بهم من فوق أسوار الحصن العالية المنيعة.. فلما رأى قائد الفرس ما صنع خالد وجنوده، طلب الصلح، وأصبحت الأنبار في قبضة المسلمين.

يواصل فتوحاته في العراق

واستخلف خالد "الزبرقان بن بدر" على الأنبار واتجه إلى "عين التمر" التي اجتمع بها عدد كبير من الفرس، تؤازرهم بعض قبائل العرب، فلما بلغهم مقدم "خالد" هربوا، والتجأ من بقي منهم إلى الحصن، وحاصر خالد الحصن حتى استسلم من فيه، فاستخلف "عويم بن الكاهل الأسلمي" على عين التمر، وخرج في جيشه إلى دومة الجندل ففتحهما.

وبسط خالد نفوذه على الحصيد والخنافس والمصيخ، وامتد سلطانه إلى الفراض وأرض السواد ما بين دجلة والفرات.

الطريق إلى الشام

ثم رأى أبو بكر أن يتجه بفتوحاته إلى الشام، فكان خالد قائده الذي يرمي به الأعداء في أي موضع، حتى قال عنه: "والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"، ولم يخيب خالد ظن أبي بكر فيه، فقد استطاع أن يصل إلى الشام بسرعة بعد أن سلك طريقًا مختصرًا، مجتازًا المفاوز المهلكة غير المطروقة، متخذًا "رافع بن عمير الطائي" دليلاً له، ليكون في نجدة أمراء أبي بكر في الشام: "أبي عبيدة عامر الجراح"، و"شرحبيل بن حسنة" و"عمرو بن العاص"، فيفاجئ الروم قبل أن يستعدوا له.. وما إن وصل خالد إلى الشام حتى عمد إلى تجميع جيوش المسلمين تحت راية واحدة، ليتمكنوا من مواجهة عدوهم والتصدي له.

وأعاد خالد تنظيم الجيش، فقسمه إلى كراديس، ليكثروا في عين عدوهم فيهابهم، وجعل كل واحد من قادة المسلمين على رأس عدد من الكراديس، فجعل أبا عبيدة في القلب على (18) كردسا، ومعه عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو، وجعل عمرو بن العاص في الميمنة على 10 كراديس ومعه شرحبيل بن حسنة، وجعل يزيد بن أبي سفيان في الميسرة على 10 كراديس.

والتقى المسلمون والروم في وادي اليرموك وحمل المسلمون على الروم حملة شديدة، أبلوا فيها بلاء حسنا حتى كتب لهم النصر في النهاية. وقد استشهد من المسلمين في هذه الموقعة نحو ثلاثة آلاف، فيهم كثير من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

وتجلت حكمة خالد وقيادته الواعية حينما جاءه رسول برسالة من عمر بن الخطاب تحمل نبأ وفاة أبي بكر الصديق وتخبره بعزله عن إمارة الجيش وتولية أبي عبيدة بدلا منه، وكانت المعركة لا تزال على أشدها بين المسلمين والروم، فكتم خالد النبأ حتى تم النصر للمسلمين، فسلم الرسالة لأبي عبيدة ونزل له عن قيادة الجيش.

خالد بين القيادة والجندية

ولم ينته دور خالد في الفتوحات الإسلامية بعزل عمر له وتولية أبي عبيدة أميرا للجيش، وإنما ظل خالد يقاتل في صفوف المسلمين، فارسا من فرسان الحرب وبطلا من أبطال المعارك الأفذاذ المعدودين.

وكان له دور بارز في فتح دمشق وحمص وقنسرين، ولم يفت في عضده أن يكون واحدا من جنود المسلمين، ولم يوهن في عزمه أن يصير جنديا بعد أن كان قائدا وأميرا؛ فقد كانت غايته الكبرى الجهاد في سبيل الله، ينشده من أي موقع وفي أي مكان.

وفاة الفاتح العظيم

وتوفي خالد بحمص في (18 من رمضان 21هـ = 20 من أغسطس 642م). وحينما حضرته الوفاة، انسابت الدموع من عينيه حارة حزينة ضارعة، ولم تكن دموعه رهبة من الموت، فلطالما واجه الموت بحد سيفه في المعارك، يحمل روحه على سن رمحه، وإنما كان حزنه وبكاؤه لشوقه إلى الشهادة، فقد عزّ عليه –وهو الذي طالما ارتاد ساحات الوغى فترتجف منه قلوب أعدائه وتتزلزل الأرض من تحت أقدامهم- أن يموت على فراشه، وقد جاءت كلماته الأخيرة تعبر عن ذلك الحزن والأسى في تأثر شديد: "لقد حضرت كذا وكذا زحفا وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء".

وحينا يسمع عمر بوفاته يقول: "دع نساء بني مخزوم يبكين على أبي سليمان، فإنهن لا يكذبن، فعلى مثل أبي سليمان تبكي البواكي".

عبدالغفور الخطيب
23-10-2005, 01:33 AM
خيانة على أسوار فيينا

(في ذكرى هزيمة المسلمين: 20 رمضان 1094هـ)


الدولة العثمانية من أطول الإمبراطوريات في التاريخ؛ إذ استطاع العثمانيون الحفاظ على وجودهم على مسرح الأحداث العالمية طيلة ستة قرون وربع قرن، خاضوا خلالها مئات الحروب والمعارك، حققوا خلالها أعظم الانتصارات، ولم تخلُ هذه الحروب من هزائم وانكسارات كان لها انعكاساتها على مسار التاريخ لهذه الدولة العريقة.

وتأتي هزيمة العثمانيين أمام أسوار فيينا في (20 من رمضان 1094هـ = 12 سبتمبر 1683م) لتشكل مرحلة جديدة في تاريخ الدولة العثمانية؛ إذ كانت فيينا آخر ما وصلت إليه الدولة العثمانية في فتوحاتها في أوروبا، وكانت هزيمتها أمام هذه الأسوار المنيعة بداية التوقف في تاريخ العثمانيين.

وهذه الملحمة الكبيرة لها بدايات سبقتها بحوالي 154 عاما؛ فالعثمانيون حاصروا فيينا مرتين: الأولى في عهد السلطان "سليمان القانوني"، والثانية في عهد السلطان محمد الرابع، إلا أنهم لم يتمكنوا منها في المرة الأولى بسبب نقص الذخيرة وقدوم الشتاء القارس، والثانية بسبب بعض الخيانات في الجيش، وتحالف أوروبا ضد الدولة العثمانية التي فقدت ديناميكية الهجوم والتوسع بعد هذه الهزيمة القاسية.

الحصار الأول

سليمان القانوني من أعظم سلاطين الدولة العثمانية، وأطولهم حكما؛ فقد حكم الدولة ستًا وأربعين سنة، وكان عهده قمة العهود العثمانية في الجهاد والنواحي العلمية والمعمارية والتنظيمية، وكان يؤثر في السياسة الأوروبية تأثيرا عظيما، فاستطاع أن يفتح أهم مدن البلقان، وهي: بلجراد سنة (928هـ = 1521م)، واتخذها قاعدة حربية لحملاته في أوروبا، وفي رمضان (936هـ = مايو 1529م) بدأ القانوني حملته لفتح فيينا؛ إذ خرج من إستانبول في جيش كبير حمل معداته حوالي 22 ألف جمل، أما عدد الجنود فكان حوالي 250 ألف جندي، ويرجع سبب هذه الحملة إلى أن سليمان القانوني استطاع فتح المجر في (ذي الحجة 932هـ = سبتمبر 1526م) ونصب عليها ملكا تابعا له يدعى "جان زابولي"، غير أن "فرديناد" ملك النمسا ادعى أحقيته في أن يكون ملكًا على بلاد المجر، وسار بجنوده لمحاربة زابولي، واستطاع أن يهزمه، فاستنجد زابولي بالسلطان سليمان الذي وعد بمساعدته، واستعد العثمانيون للحرب وجمعوا الجيوش والذخائر، وعين السلطان سليمان إبراهيم باشا الصدر الأعظم قائدا عاما للجيش؛ وكان الغرض من الحملة استرجاع مدينة "بوادبست" وإخراج الألمان من المجر، وقد فرض العثمانيون حصارًا قويًّا محكمًا على "بوادبست"، ففر الملك فرديناد منها إلى فيينا، وسلم الألمان المدينة وقلاعها إلى العثمانيين، وتم إعادة زابولي إلى عرش بلاد المجر.




اتجه سليمان القانوني وزابولي لفتح فيينا، وسلط مدافعه على أسوارها، فهدم جزءا منها، وهجمت الجنود العثمانيون ثلاثة أيام متتالية على المدينة الحصينة، وفي اليوم الرابع الموافق (20 صفر = 13 أكتوبر) عادت القوات العثمانية إلى معسكرها دون أن تقوى على دخول المدينة، ولما رأى السلطان سليمان أن الذخيرة بدأت تقترب من النفاد، وأن الشتاء قد اقترب بثلوجه وبرودته الشديدة، أصدر أوامره بالرجوع عن فيينا في هذه السنة، وإعداد الجيوش لمعاودة الكرة عليها في أقرب وقت، وكانت تلك هي المرة الأولى التي لم يفز فيها السلطان سليمان بالنصر، وكانت خسائر العثمانيين 14 ألف شهيد وجريح.

محاولة لم تكتمل

وفي (19 رمضان 938هـ = 25 من إبريل 1532م) سار السلطان سليمان القانوني بقواته قاصدا فيينا لفتحها، ومحو ما لحقه من الفشل أمام أسوارها، فلما وصل إلى مدينة "نيش" ببلاد الصرب وجد في انتظاره سفراء من قبل "فرديناد" أرشيدق النمسا فقابلهم مقابلة باهتة على عكس مقابلته للسفير الفرنسي الجديد، ثم تحرك بقواته البالغة 200 ألف مقاتل وفتح في طريقه إلى فيينا عددًا من الحصون والقلاع، ولما اقترب منها مال إلى جهة اليسار قاصدا إقليم "إستيريا"، ومنها عاد إلى بلجراد مرة أخرى بدون أن يحاصر فيينا بعدما علم باستعدادات ملكها للدفاع عنها وجمعه لقوات كبيرة للتصدي للعثمانيين، بالإضافة إلى اقتراب فصل الشتاء الذي لا يمكن معه استمرار الحصار بكيفية تضمن فتح المدينة.

الحصار الثاني

وصلت الدولة العثمانية إلى درجة كبيرة من القوة مع نهاية القرن السابع عشر الميلادي، وهو ما أقلق أوروبا وبث الخوف فيها، لذلك سعت للتخلص من العثمانيين، غير أن مساعيها باءت بالفشل. أما النمسا فشعرت بقلق شديد بعد استيلاء العثمانيين على سلوفاكيا بالكامل، بالإضافة إلى 28 قلعة بالمنطقة. وكانت ألمانيا وراء سياسة استعادة سلوفاكيا، وبسط سيطرتها على منطقة ترانسلفانيا، وذلك دون أن تدخل مع الدولة العثمانية في حرب شاملة، وكانت هذه السياسة تغضب الصدر الأعظم "قرة مصطفى باشا"، وأخذت تسيطر عليه فكرة توجيه ضربة قوية لألمانيا لكف يدها عن التدخل في شئون المجر.

محاربة ألمانيا

استطاع الصدر الأعظم قرة مصطفى باشا إقناع السلطان العثماني محمد الرابع والديوان الهمايوني (مجلس الوزراء) بإعلان الحرب على ألمانيا، واتُّخذ هذا القرار في شعبان (1093هـ = 1682م) وتحرك الجيش العثماني وعلى رأسه السلطان من أدرنة حتى بلجراد، التي بقى فيها السلطان، أما الجيش فتحرك تحت قيادة الصدر الأعظم من بلجراد في جمادى الأولى (1094هـ = 1683م) للاستيلاء على النمسا، وقد وُصف هذا الجيش بأنه لم تتمكن أية دولة حتى ذلك التاريخ من أن تجمع جيشا مثله، وتسبب ذلك في قلق العالم المسيحي في أوروبا وعلى رأسه ألمانيا.

وأخذت الحرب بين العثمانيين والألمان طابع الحرب بين الإسلام والمسيحية، فوعد الملك الفرنسي لويس الرابع عشر بتقديم قوات فرنسية للألمان للقتال إلى جانبهم، وساندت إنجلترا ألمانيا ضد العثمانيين وكذلك هولندا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال، ووجه بابا روما دعوة إلى كافة المسيحيين للجهاد المقدس ضد العثمانيين، فانضمت بولونيا والبندقية والدانمارك إلى هذا التحالف المقدس.

مجلس الحرب

جمع الصدر الأعظم قرة مصطفى باشا مجلس الحرب في جيشه وأعلن أنه سيستولي على فيينا، وأنه سيملي شروطه على ألمانيا في هذه المدينة العنيدة (فيينا)؛ لأن الاستيلاء على "يانق قلعة" المدينة التي تعتبر مفتاح فيينا وتقع على بعد 80 كم شرقي فيينا على الضفة الغربية لنهر راب، لا يمكن أن يخضع ألمانيا ويجعلها تكف يدها عن شئون المجر.

أثار قرار قرة مصطفى باشا حيرة الوزراء وجدلهم، واعترض عليه الوزير إبراهيم باشا الذي أكد أن رغبة السلطان هي الاستيلاء على "يانق قلعة" ومناوشة أوروبا الوسطى بواسطة كتائب الصاعقة العثمانية، وأن الحملة على فيينا يحتمل أن تكون في العام المقبل، فأجابه قرة مصطفى باشا بأنه من الصعب أن يتجمع جيش مرة ثانية بمثل هذه الكثافة والقوة، وهذا الأمر يقتضي إنزال ضربة قوية قاضية بالألمان، وإلا فإن الحرب ستطول معهم، خاصة أن ألمانيا عقدت صلحا مع فرنسا، وأصبحت آمنة من الجانب الغربي، وأن الإمبراطور "ليوبولد" اتفق مع الملك البولوني "سوبياسكي" على استعادة منطقة بادوليا، وأن البندقية لا بد أن تكون ضمن هذا الاتفاق، وبالتالي ستنضم روسيا وبقية الدول الأوروبية لهذا التحالف المسيحي إلى جانب ألمانيا، وهذا يقتضي كسره وتحطيم هذا التحالف الوليد في ذلك العام وإلا فإن الحرب ستطول إلى أجل غير معلوم.

بداية الحصار

بدأ قرة مصطفى باشا حصاره لفيينا في (18 رجب 1094هـ = 14 يوليو 1683م) دون أن يعلم السلطان محمد الرابع بتوجيه حملته إلى فيينا، وأبلغه بذلك الأمر بعد بدء الحصار بستة أيام، ولما علم السلطان قال: "لو كنت أعلم ذلك مقدما لما أذنت به"، وعلى هذا انقسم رجال الدولة العثمانية إلى قسمين: الأول وعلى رأسه السلطان، ويرى أن تهديد فيينا هذه العاصمة الإمبراطورية سيخيف أوروبا بأسرها ويكتلها ضد الدولة العثمانية في حرب دينية شرسة، ويحرضها على بناء تحالفات تصبغها الصبغة الدينية المقدسة بعد مباركة البابا لها، وهو أمر لا تريده الدولة العثمانية ولا ترغب فيه، خاصة أنها هي الدولة الإسلامية الوحيدة في العالم.

أما الاتجاه الثاني ويتزعمه قرة مصطفى باشا فيرى ضرورة فتح فيينا استفادة من هذا الجيش الكثيف القوي قبل أن يقوم تحالف أوروبي كبير تدخل فيه روسيا ويجعل الحرب تطول زمنيا.

المهم أن العثمانيين بدءوا في فرض حصارهم على فيينا واستطاعت وحدات الصاعقة العثمانية أن تستولي على الكثير من الآليات النمساوية، ونصبوا سرادقا في المكان الذي نصب فيه السلطان سليمان القانوني سرادقه قبل 154 سنة أثناء حصاره لفيينا، واستطاعت بعض الفرق العثمانية الدخول إلى سويسرا، وبدأ الحصار العثماني على فيينا بحوالي 60 ألف جندي ووزع قرة مصطفى باشا بقية جيشه على ساحة واسعة جدا بقصد قطع طريق المساعدات القادمة للمدينة المحاصرة، غير أن هذا الأمر كان خطأ عسكريا فادحا؛ لأنه شتت القوات العثمانية في مساحة واسعة من الأرض وهو ما أفقدها ميزتها في الكثافة العددية.

أما الإمبراطور ليوبولد الأول فترك فيينا، فقام الشعب الغاضب بنهب قصره، وبدأت الجيوش النمساوية والأوروبية تتجمع للدفاع عن المدينة التي كانت تعتمد على مدافعها التي تعد بالآلاف، وأسوارها المتينة، وخنادقها العميقة والإمدادات التي تصلها.

وقد استطاع أحد القادة العثمانيين فتح مدينة "براتسلافا" والاستيلاء على تاج إمبراطور ألمانيا الموجود فيها، وتبعد هذه المدينة 30 كم شرق فيينا.

واستطاع أيضا العثمانيون هزيمة دوق المورين بعد ساعتين من القتال الشرس فدخل العثمانيون مدينة "ديوبولد" وأحرقوا قصر الإمبراطور الصيفي.

قوة الجيشين

كان قرة مصطفى باشا متأكدا من سقوط فيينا، غير أن الأيام الأخيرة من حصارها بدأت تشهد سقوط آلاف الشهداء العثمانيين، فقد كان الجيش يتكون من 162 ألف جندي، منهم 60 ألفا مشتركون في الحصار، أما باقي الجيش فينتشر في ساحة واسعة، أما المدافعون عن فيينا فكانوا في بداية الحصار أكثر من 11 ألف مقاتل، وانخفض هذا العدد إلى 5500 مقاتل، إلا أن الإمدادات الأوروبية القادمة لنجدة فيينا كانت كبيرة فكان لدى دوق لورين 85 ألف جندي، والملك سوبياسكي 35 ألف جندي على وشك الانضمام إلى الجيش الألماني البالغ عدده 135 ألف مقاتل، منهم 40 ألف خيال، بالإضافة إلى تدفق المساعدات من كافة أنحاء أوروبا.

كانت جاذبية فيينا تسيطر على عقل قرة مصطفى باشا، فبدلا من أن يشتت الجيش الألماني الذي لا يبعد عن فيينا أكثر من 15 كم حتى لا يكون نواة تتجمع حولها القوات الأوروبية، انتظر أن تسقط المدينة، حتى لا ينهبها الجيش، فقد كان القانون الدولي آنذاك ينص على ألا تُنهب المدن التي تستلم لحالها.

الخيانة الكبرى

وعندما التأمت الجيوش الأوروبية ترك دوق لورين القيادة العامة للملك سوبياسكي واكتملت استعداداتهم يوم الجمعة الموافق (19 رمضان = 11 سبتمبر) بعدما شعروا أن سقوط فيينا ليس أمامه إلا أيام قليلة؛ لذلك أقدم الأوروبيون على عبور جسر "الدونة" الذي يسيطر عليه العثمانيون بالقوة مهما كلفهم من خسائر، حيث لم يكن بالإمكان إيصال الإمدادات إلى فيينا دون عبور هذا الجسر.

وكان مصطفى باشا قد كلف "مراد كيراي" حاكم القرم في الجيش بمهمة حراسة الجسر، ونسفه عند الضرورة وعدم السماح للأوروبيين بعبوره مهما كانت الأمور، وقد كان مصطفى باشا يكره مراد كيراي، ويعامله معاملة سيئة، أما مراد فكان يعتقد أن فشل مصطفى باشا في فيينا سيسقطه من السلطة ومن منصب الصدارة، ولم يخطر ببال هذا القائد الخائن أن خسارة العثمانيين أمام فيينا ستغير مجرى التاريخ العالمي، لذلك قرر مراد أن يظل متفرجا على عبور القوات الأوروبية جسر الدونة، ليفكوا الحصار المفروض على فيينا، دون أن يحرك ساكنا، يضاف إلى ذلك أن هناك وزراء وبكوات في الجيش العثماني كانوا لا يرغبون في أن يكون قرة مصطفى باشا هو فاتح فيينا التي فشل أمامها السلطان سليمان القانوني.

المعركة الفاصلة

وفي يوم السبت الموافق (20 رمضان 1094هـ = 12 سبتمبر 1683م) تقابل الجيشان أمام أسوار فيينا وكان الأوروبيون فرحين لعبورهم جسر الدونة دون أن تُسكب منهم قطرة دم واحدة، إلا أن هذا الأمر جعلهم على حذر شديد، أما العثمانيون فكانوا في حالة من السأم لعدم تمكنهم من فتح فيينا، وحالة من الذهول لرؤيتهم الأوروبيين أمامهم بعد عبور جسر الدونة، بالإضافة إلى ما ارتكبوه من ذنوب ومعاصٍ من شرب الخمر ومعاشرة النساء، وانشغال بعض فرق الجيش بحماية غنائمها وليس القتال لتحقيق النصر، وتوترت العلاقة بين الصدر الأعظم وبعض قواد جيشه وظهرت نتائج ذلك مع بداية المعركة؛ فقد سحب الوزير "قوجا إبراهيم باشا" قائد الجناح الأيمن في الجيش قواته أثناء المعركة وانفصل بها، في الوقت الذي لم تكن هناك أية علامات لهزيمة العثمانيين؛ وهو ما تسبب في انتشار الوهن في القلوب والتولي من ميدان الجهاد، وقد كانت هذه الخيانة هي السبب الرئيسي في الهزيمة، فهجم العدو بكامل قواته على العثمانيين ولم تمض ساعات قليلة حتى كان الأوروبيون في سرادق الصدر الأعظم الفخم، فأمر مصطفى باشا بالانسحاب ورفع الحصار عن فيينا، واستشهد من العثمانيين حوالي 10 آلاف، وقُتل من الأوروبيين مثلهم، ووضع مصطفى باشا خطة موفقة للانسحاب حتى لا يضاعف خسائره، وأخذ الجيش العثماني معه أثناء الانسحاب 81 ألف أسير.

وهكذا غادر العثمانيون أرض المعركة ومعهم آلاف الأسرى بعدما تركوا المهمات الثقيلة للعدو، ومنها السرادق الذي يقارب حجمه حجم القصر الكبير وبه حمامات وحدائق وتحف فنية، وانتهى الحصار الذي استمر 59 يوما، وفقدت الدولة العثمانية بهزيمتها أمام فيينا ديناميكية الهجوم والتوسع في أوروبا، وكانت الهزيمة نقطة توقف في تاريخ الدولة.

وعاد الجيش العثماني وعُزل إبراهيم باشا الذي كان السبب الأول في الهزيمة، ووبّخه مصطفى باشا قائلا له: "أيها الشيخ الملعون فررت، وبقرارك كنت السبب الكلي في هزيمة العساكر الإسلامية كافة"، وأمر بقتله وقال للسياف عند قطع رأسه: قل للسلطان لا أحد يستطيع أن يتلافى ما حدث غير مصطفى باشا.

وأعدم مصطفى باشا الخائن مراد كيراي، أما هو فإن السلطان محمد الرابع أرسل أحد رجال حاشيته فقتله.

وفي تلك الأثناء كانت كنائس أوروبا تدق أجراسها فرحا بهذا النصر الكبير، وتحرك جيش التحالف المسيحي لاقتطاع بعض الأجزاء من الأملاك العثمانية في أوروبا، ووقعت معركة "جكردلن" بين أحد القادة العثمانيين وقواته البالغة 30 ألف مقاتل وبين الملك سوبياسكي وقواته البالغة 60 ألف مقاتل، وانتهت بتراجع سوبياسكي، وتوالت المعارك العثمانية في أوروبا، وفقدت الدولة بعض مراكزها الهامة بسبب هزيمتها أمام فيينا التي كانت هزيمة من النوع الثقيل تاريخيا أكثر منه عسكريا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
من مصادر الدراسة:

يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية- منشورات مؤسسة فيصل للتمويل- تركيا- 1988.

محمد فريد وجدي: تاريخ الدولة العلية العثمانية- تحقيق إحسان عباس- دار النفائس ببيروت- الطبعة الثامنة- 1419هـ = 1998م.

محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة- دار القلم- دمشق- الطبعة الثانية- 1419هـ = 1999م.

المهند
23-10-2005, 06:22 PM
بارك الله بك اخي عبد الغفور
على هذا الجهد

عبدالغفور الخطيب
24-10-2005, 01:27 AM
في ذكرى وفاته: 21 من رمضان 95 هـ)

الحجـــــاج بن يوســــــف الثـــــــــــقفي

احتل الحجاج بن يوسف الثقفي مكانة متميزة بين أعلام الإسلام، ويندر أن تقرأ كتابًا في التاريخ أو الأدب ليس فيه ذكر للحجاج الذي خرج من سواد الناس إلى الصدارة بين الرجال وصانعي التاريخ بملكاته الفردية ومواهبه الفذة في القيادة والإدارة.

وعلى قدر شهرة الحجاج كانت شهرة ما نُسب إليه من مظالم؛ حتى عده كثير من المؤرخين صورة مجسمة للظلم، ومثالا بالغا للطغيان، وأصبح ذكر اسمه يستدعي في الحال معاني الظلم والاستبداد، وضاعت أعمال الحجاج الجليلة بين ركام الروايات التي تروي مفاسده وتعطشه للدماء، وإسرافه في انتهاكها، وأضافت بعض الأدبيات التاريخية إلى حياته ما لم يحدث حتى صار شخصية أسطورية بعيدة كل البعد عن الحقيقة والواقع، وقليل من المؤرخين من أنصف الحجاج، ورد له ما يستحق من تقدير.

وإذا كان الجانب المظلم قد طغى على صورة الحجاج، فإننا سنحاول إبراز الجانب الآخر المشرق في حياته، والمؤثر في تاريخ المسلمين حتى تستبين شخصية الحجاج بحلوها ومرها وخيرها وشرها.

المولد والنشأة

في الطائف كان مولد الحجاج بن يوسف الثقفي في سنة (41 هـ = 661م)، ونشأ بين أسرة كريمة من بيوت ثقيف، وكان أبوه رجلا تقيًّا على جانب من العلم والفضل، وقضى معظم حياته في الطائف، يعلم أبناءها القرآن الكريم دون أن يتخذ ذلك حرفة أو يأخذ عليه أجرا.

حفظ الحجاج القرآن على يد أبيه ثم تردد على حلقات أئمة العلم من الصحابة والتابعين، مثل: عبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وغيرهم، ثم اشتغل وهو في بداية حياته بتعليم الصبيان، شأنه في ذلك شأن أبيه.

وكان لنشأة الحجاج في الطائف أثر بالغ في فصاحته؛ حيث كان على اتصال بقبيلة هذيل أفصح العرب، فشب خطيبا، حتى قال عنه أبو عمرو بن العلاء: "ما رأيت أفصح من الحسن البصري، ومن الحجاج"، وتشهد خطبه بمقدرة فائقة في البلاغة والبيان.

الحجاج وابن الزبير

لفت الحجاج أنظار الخليفة عبد الملك بن مروان، ورأى فيه شدة وحزما وقدرة وكفاءة، وكان في حاجة إليه؛ حتى ينهي الصراع الدائر بينه وبين عبد الله بن الزبير الذي كان قد أعلن نفسه خليفة سنة (64هـ = 683م) بعد وفاة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ودان له بالولاء معظم أنحاء العالم الإسلامي، ولم يبق سوى الأردن التي ظلت على ولائها للأمويين، وبايعت مروان بن الحكم بالخلافة، فنجح في استعادة مصر من قبضة ابن الزبير، ثم توفي تاركا لابنه عبد الملك استكمال المهمة، فانتزع العراق، ولم يبق في يد عبد الله بن الزبير سوى الحجاز؛ فجهز عبد الملك حملة بقيادة الحجاج؛ للقضاء على دولته تماما.

حاصر الحجاج مكة المشرفة، وضيّق الخناق على ابن الزبير المحتمي بالبيت، وكان أصحابه قد تفرقوا عنه وخذلوه، ولم يبق سوى قلة صابرة، لم تغنِ عنه شيئا، ولم تستطع الدفاع عن المدينة المقدسة التي يضربها الحجاج بالمنجنيق دون مراعاة لحرمتها وقداستها؛ حتى تهدمت بعض أجزاء من الكعبة، وانتهى القتال باستشهاد ابن الزبير والقضاء على دولته، وعودة الوحدة للأمة الإسلامية التي أصبحت في ذلك العام (73 هـ = 693م) تدين بالطاعة لخليفة واحد، وهو عبد الملك بن مروان.

وكان من أثر هذا الظفر أن أسند الخليفة إلى الحجاج ولاية الحجاز مكافأة له على نجاحه، وكانت تضم مكة والمدينة والطائف، ثم أضاف إليه اليمن واليمامة فكان عند حسن ظن الخليفة وأظهر حزما وعزما في إدارته؛ حتى تحسنت أحوال الحجاز، فأعاد بناء الكعبة، وبنى مسجد ابن سلمة بالمدينة المنورة، وحفر الآبار، وشيد السدود.

الحجاج في العراق

بعد أن أمضى الحجاج زهاء عامين واليًا على الحجاز نقله الخليفة واليا على العراق بعد وفاة أخيه بشر بن مروان، وكانت الأمور في العراق بالغة الفوضى والاضطراب، تحتاج إلى من يعيد الأمن والاستقرار، ويسوس الناس على الجادة بعد أن تقاعسوا عن الخروج للجهاد وركنوا إلى الدعة والسكون، واشتدت معارضتهم للدولة، وازداد خطر الخوارج، وقويت شكوتهم بعد أن عجز الولاة عن كبح جماحهم.

ولبى الحجاج أمر الخليفة وأسرع في سنة (75هـ = 694م) إلى الكوفة، وفي أول لقاء معهم خطب في المسجد خطبة عاصفة أنذر فيها وتوعد المخالفين والخارجين على سلطان الخليفة والمتكاسلين عن الخروج لقتال الخوارج الأزارقة، وخطبة الحجاج هذه مشهورة متداولة في كتب التاريخ، ومما جاء فيها: "… يا أهل الكوفة إني لأرى أرؤسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، وإن أمير المؤمنين –أطال الله بقاءه- نثر كِنانته (جعبة السهام) بين يديه، فعجم عيدانها (اختبرها)، فوجدني أمرّها عودا، وأصلبها مكْسِرًا فرماكم بي؛ لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مراقد الضلالة، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلّب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلّف بعد أخذ عطائه ثلاثة أيام إلا ضربت عنقه".

وأتبع الحجاج القول بالفعل ونفذ وعيده بقتل واحد ممن تقاعسوا عن الخروج للقتال، فلما رأى الناس ذلك تسارعوا نحو قائدهم المهلب لمحاربة الخوارج الأزارقة، ولما اطمأن الحجاج إلى استقرار الأوضاع في الكوفة، ذهب إلى البصرة تسبقه شهرته في الحزم، وأخذ الناس بالشدة والصرامة وخطب فيهم خطبة منذرة زلزلت قلوبهم، وحذرهم من التخلف عن الخروج مع المهلب قائلا لهم: "إني أنذر ثم لا أنظر، وأحذر ثم لا أعذر، وأتوعد ثم لا أعفو…".

ولم يكتف الحجاج بحشد الجيوش مع المهلب بل خرج في أهل البصرة والكوفة إلى "رشتقباذ" ليشد من أزر قائده المهلب ويساعده إن احتاج الأمر إلى مساعدة، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ حدثت حركة تمرد في صفوف الجيش، وتزعم الثورة رجل يدعى "ابن الجارود" بعد أن أعلن الحجاج عزمه على إنقاص المحاربين من أهل العراق 100 درهم، ولكن الحجاج تمكن من إخماد الفتنة والقضاء على ابن الجارود وأصحابه.

وما كاد الحجاج يقضي على فتنة الخوارج حتى شبت ثورة عارمة دامت ثلاث سنوات (81-83 هـ = 700-702م) زعزعت استقرار الدولة، وكادت تعصف بها، وكان يقودها "عبد الرحمن بن الأشعث" أحد رجالات الحجاج الذي أرسله على رأس حملة جرارة لإخضاع الأجزاء الشرقية من الدولة، وبخاصة سجستان لمحاربة ملكها "زنبيل".

وبعد أن حقق ابن الأشعث عددا من الانتصارات غرّه ذلك، وأعلن العصيان، وخلع طاعة الخليفة، وكان في نفسه عجب وخيلاء واعتداد كريه، وبدلا من أن يكمل المهمة المنوط بها عاد ثائرا على الدولة الأموية مدفوعا بطموحه الشخصي وتطلعه إلى الرئاسة والسلطان.

ووجد في أهل العراق ميلا إلى الثورة والتمرد على الحجاج، فتلاقت الرغبتان في شخصه، وآزره عدد من كبار التابعين انغروا بدعوته، مستحلّين قتال الحجاج بسبب ما نُسب إليه من أعمال وأفعال، وحالف النصر ابن الأشعث في جولاته الأولى مع الحجاج، واضطرب أمر العراق وسقطت البصرة في أيدي الثوار، غير أن الحجاج نجح في أن يسترد أنفاسه، وجاء المدد من دمشق وواصل قتاله ضد ابن الأشعث، ودارت معارك طاحنة حسمها الحجاج لصالحه، وتمكن من سحق عدوه في معركة دير الجماجم سنة (83 هـ = 702م)، والقضاء على فتنته.

الفتوحات الإسلامية


فتوحات قتيبة بن مسلم

تطلع الحجاج بعد أن قطع دابر الفتنة، وأحل الأمن والسلام إلى استئناف حركة الفتوحات الإسلامية التي توقفت بسبب الفتن والثورات التي غلت يد الدولة، وكان يأمل في أن يقوم الجيش الذي بعثه تحت قيادة ابن الأشعث بهذه المهمة، وكان جيشا عظيما أنفق في إعداده وتجهيزه أموالا طائلة حتى أُطلق عليه جيش الطواويس، لكنه نكص على عقبيه وأعلن الثورة، واحتاج الحجاج إلى سنوات ثلاثة حتى أخمد هذه الفتنة العمياء.

ثم عاود الحجاج سياسة الفتح، وأرسل الجيوش المتتابعة، واختار لها القادة الأكفاء، مثل قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي ولاه الحجاج خراسان سنة (85هـ = 704م)، وعهد إليه بمواصلة الفتح وحركة الجهاد؛ فأبلى بلاء حسنا، ونجح في فتح العديد من النواحي والممالك والمدن الحصينة، مثل: بلخ، وبيكند، وبخارى، وشومان، وكش، والطالقان، وخوارزم، وكاشان، وفرغانه، والشاس، وكاشغر الواقعة على حدود الصين المتاخمة لإقليم ما وراء النهر وانتشر الإسلام في هذه المناطق وأصبح كثير من مدنها مراكز هامة للحضارة الإسلامية مثل بخارى وسمرقند.

وبعث الحجاج بابن عمه محمد بن القاسم الثقفي لفتح بلاد السند، وكان شابا صغير السن لا يتجاوز العشرين من عمره، ولكنه كان قائدا عظيما موفور القدرة، نجح خلال فترة قصيرة لا تزيد عن خمس سنوات (89-95هـ = 707-713م) في أن يفتح مدن وادي السند، وكتب إلى الحجاج يستأذنه في فتح قنوج أعظم إمارات الهند التي كانت تمتد بين السند والبنغال فأجابه إلى طلبه وشجعه على المضي، وكتب إليه أن "سر فأنت أمير ما افتتحته"، وكتب إلى قتيبة بن مسلم عامله على خراسان يقول له: "أيكما سبق إلى الصين فهو عامل عليها".

وكان الحجاج يتابع سير حملات قادته يوفر لها ما تحتاجه من مؤن وإمدادات، ولم يبخل على قادتها بالنصح والإرشاد؛ حتى حققت هذه النتائج العظيمة ووصلت رايات الإسلام إلى حدود الصين والهند.

إصلاحات الحجاج

وفي الفترة التي قضاها الحجاج في ولايته على العراق قام بجهود إصلاحية عظيمة، ولم تشغله الفترة الأولى من ولايته عن القيام بها، وشملت هذه الإصلاحات النواحي الاجتماعية والصحية والإدارية وغيرها؛ فأمر بعدم النوح على الموتى في البيوت، وبقتل الكلاب الضالة، ومنع التبول أو التغوط في الأماكن العامة، ومنع بيع الخمور، وأمر بإهراق ما يوجد منها، وعندما قدم إلى العراق لم يكن لأنهاره جسور فأمر ببنائها، وأنشأ عدة صهاريج بالقرب من البصرة لتخزين مياه الأمطار وتجميعها لتوفير مياه الشرب لأهل المواسم والقوافل، وكان يأمر بحفر الآبار في المناطق المقطوعة لتوفير مياه الشرب للمسافرين.

ومن أعماله الكبيرة بناء مدينة واسط بين الكوفة والبصرة، واختار لها مكانا مناسبا، وشرع في بنائها سنة (83هـ = 702م)، واستغرق بناؤها ثلاث سنوات، واتخذها مقرا لحكمه.

وكان الحجاج يدقق في اختيار ولاته وعماله، ويختارهم من ذوي القدرة والكفاءة، ويراقب أعمالهم، ويمنع تجاوزاتهم على الناس، وقد أسفرت سياسته الحازمة عن إقرار الأمن الداخلي والضرب على أيدي اللصوص وقطاع الطرق.

ويذكر التاريخ للحجاج أنه ساعد في تعريب الدواوين، وفي الإصلاح النقدي للعملة، وضبط معيارها، وإصلاح حال الزراعة في العراق بحفر الأنهار والقنوات، وإحياء الأرض الزراعية، واهتم بالفلاحين، وأقرضهم، ووفر لهم الحيوانات التي تقوم بمهمة الحرث؛ وذلك ليعينهم على الاستمرار في الزراعة.

نقط المصحف

ومن أجلِّ الأعمال التي تنسب إلى الحجاج اهتمامه بنقط حروف المصحف وإعجامه بوضع علامات الإعراب على كلماته، وذلك بعد أن انتشر التصحيف؛ فقام "نصر بن عاصم" بهذه المهمة العظيمة، ونُسب إليه تجزئة القرآن، ووضع إشارات تدل على نصف القرآن وثلثه وربعه وخمسه، ورغّب في أن يعتمد الناس على قراءة واحدة، وأخذ الناس بقراءة عثمان بن عفان، وترك غيرها من القراءات، وكتب مصاحف عديدة موحدة وبعث بها إلى الأمصار.

الحجاج في التاريخ
اختلف المؤرخون القدماء والمحدثون في شخصية الحجاج بن يوسف بين مدح وذم، وتأييد لسياسته ومعارضة لها، ولكن الحكم عليه دون دراسة عصره المشحون بالفتن والقلاقل ولجوء خصوم الدولة إلى السيف في التعبير عن معارضتهم لسياسته أمر محفوف بالمزالق، ويؤدي إلى نتيجة غير موضوعية بعيدة عن الأمانة والنزاهة.

ولا يختلف أحد في أنه اتبع أسلوبا حازما مبالغا فيه، وأسرف في قتل الخارجين على الدولة، وهو الأمر الذي أدانه عليه أكثر المؤرخين، ولكن هذه السياسة هي التي أدت إلى استقرار الأمن في مناطق الفتن والقلاقل التي عجز الولاة من قبله عن التعامل معها.

ويقف ابن كثير في مقدمة المؤرخين القدماء الذين حاولوا إنصاف الحجاج؛ فيقول: "إن أعظم ما نُقِم على الحجاج وصح من أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله، وقد كان حريصا على الجهاد وفتح البلاد، وكانت فيه سماحة إعطاء المال لأهل القرآن؛ فكان يعطي على القرآن كثيرا، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا 300 درهم".

وقد وضعت دراسات تاريخية حديثه عن الحجاج، وبعضها كان أطروحات علمية حاولت إنصاف الحجاج وتقديم صورته الحقيقية التي طمس معالمها وملامحها ركام الروايات التاريخية الكثيرة.. وتوفي الحجاج بمدينة واسط في (21 من رمضان 95هـ = 9 من يونيو 714م).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
من مصادر الدراسة:

الطبري محمد بن جرير: تاريخ الرسل والملوك – تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – دار المعارف- القاهرة- 1971م.

ابن خلكان: وفيات الأعيان- تحقيق إحسان عباس – دار صادر – بيروت – 1979م.

إحسان صدقي العمد: الحجاج بن يوسف الثقفي– دار الثقافة- بيروت- 1973م.

عبد الواحد ذنون طه: العراق في عهد الحجاج بن يوسف الثقفي– منشورات مكتبة باسل – الموصل – العراق- (1405 هـ = 1985م).

علي حسني الخربوطلي: تاريخ العراق في ظل الحكم الأموي – دار المعارف- القاهرة- 1959م.

عبدالغفور الخطيب
25-10-2005, 12:56 AM
ابن ماجه.. صاحب السنن

(في ذكرى وفاته: 22 من رمضان 273هـ)



فتحت قزوين في خلافة عثمان بن عفان، وأصبح البراء بن عازب الصحابي الجليل أول والٍ عليها سنة (24هـ= 644م) ومنذ ذلك الحين دخلها الإسلام، واستوطنها الفاتحون العرب، وتسرب إليها اللسان العربي، وما كاد يطل القرن الثالث الهجري حتى اكتسبت قزوين شهرة كبيرة في فن الحديث، وبرز فيه عدد كبير من المحدثين، مثل: الحافظ علي بن محمد أبي الحسن الطنافسي المتوفى سنة (233هـ= 847م)، والحافظ عمرو بن رافع البجلي المتوفى سنة (237هـ= 851م)، وإسماعيل بن توبة المتوفى سنة (247هـ=861م)، وابن ماجه صاحب السنن موضع حديثنا.

وبلغ من مكانة قزوين واتساع الحركة العلمية فيها أن خصها بعض أبنائها بالتأريخ لها، وترجمة أعيانها وعلمائها، ومن أشهر هذه الكتب: التدوين في أخبار قزوين للحافظ الرافعي المتوفى سنة (622هـ= 1225م).

استقبلت قزوين مولد أبي عبد الله محمد بن يزيد الربعي، المعروف بابن ماجه سنة (209هـ= 824م) وكانت آنذاك حاضرة من حواضر العلم تموج بالحركة والنشاط العلمي، وتزخر بحلقات العلماء والفقهاء، شأنها في ذلك شأن المراكز العلمية الأخرى ذات الإشعاع الحضاري، مثل: بغداد، والكوفة، والبصرة، ومرو، وأصفهان، وكانت الدولة العباسية تعيش أزهى فتراتها قوة وحضارة، وكان المأمون رجل المرحلة، ورائد النهضة ومفجر الطاقات.

في هذا الجو العلمي عاش ابن ماجه حياته الأولى؛ فحفظ القرآن الكريم، وتردد على حلقات المحدثين التي امتلأت بها مساجد قزوين، حتى حصّل قدرًا كبيرًا من الحديث ثم تطلع إلى الرحلة في طلب الحديث، وكانت من تقاليد العصر التي التزمها كبار المحدثين لملاقاة الشيوخ، استنادًا إلى نصوص الحديث التي تحث على طلب العلم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة"، وقد صدّر الإمام البخاري كتاب العلم في صحيحه بباب الخروج في طلب العلم، وجاء في مقدمة الباب: "ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد". وبلغ من أهمية الرحلة في طلب الحديث أن وضع فيها مؤلفات تضم الأصول والإرشادات التي على طالب العلم المرتحل أن يتتبعها، ويلتزم بها.

الرحلة في طلب الحديث

ولم يشذ ابن ماجه عن هذا التقليد العلمي المتبع، فخرج سنة (230هـ = 844م) وهو في الثانية والعشرين من عمره في طلب الحديث ومشافهة الشيوخ والتلقي عليهم، فرحل إلى خراسان، والبصرة والكوفة، وبغداد ودمشق، ومكة والمدينة، ومصر، ومن شيوخه إبراهيم بن المنذر تلميذ البخاري المتوفى سنة (236هـ= 850م)، والحافظ الحلواني أبو محمد حسن بن علي بن محمد الخلال، والحافظ الزبير بن بطار، وسلمة بن شبيب، والحافظ يعقوب بن حميد، وإسماعيل بن موسى الفزاري، وحرملة بن يحيي، وزهير بن حرب.

وبعد رحلة شاقة استغرقت أكثر من خمسة عشر عامًا عاد ابن ماجه إلى قزوين، واستقر بها، منصرفًا إلى التأليف والتصنيف، ورواية الحديث بعد أن طارت شهرته، وقصده الطلاب من كل مكان، من أمثال: إبراهيم بن دينار الجرشي، وإسحاق بن محمد القزويني، وسليمان بن يزيد القزويني، وابن الحسن بن قطان، وأبي بكر حامد الأبهري وغيرهم.

مؤلفاته

كان ابن ماجه موضع ثقة معاصريه وتقديرهم، معدودًا في كبار الأئمة وفحول المحدثين، فيصفه صاحب كتاب التدوين في تاريخ قزوين بأنه "إمام من أئمة المسلمين، كبير متقن، مقبول باتفاق". ويقول عنه الذهبي: "إنه حافظ صدوق واسع العلم". ولم تكن شهادة المؤرخين له بالسبق والتقدم إلا لسعة علمه ولما ترك من كتب ومصنفات، غير أن معظمها قد امتدت إليه يد الإهمال والنسيان، فضاع مع ما ضاع من ذخائر تراثنا العظيم، فكان له تفسير للقرآن وصفه ابن كثير في كتابه البداية بأنه تفسير حافل، وأشار إليه السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن"، وله أيضًا كتاب في التاريخ ظل موجودًا بعد وفاته مدة طويلة، فقد شاهده الحافظ ابن طاهر المقدسي المتوفى سنة (507هـ= 1113م)، ورأى عليه تعليقًا بخط جعفر بن إدريس تلميذ ابن ماجه، وقال عنه ابن كثير بأنه تاريخ كامل، ووصفه ابن خلكان بأنه تاريخ مليح.

سنن ابن ماجه

غير أن كتابه "السنن" هو ما بقي من كتبه، وقد طبقت شهرته الآفاق، وبه عرف ابن ماجه، واحتل مكانته المعروفة بين كبار الحفاظ والمحدثين، وقد عد الكتاب رابع كتب السنن المعروفة، وهي سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ومتمم للكتب الستة التي تشمل إلى ما سبق صحيح البخاري ومسلم، وهي المراجع الأصول للسنة النبوية.

والمتقدمون من العلماء كانوا يعدون هذه الكتب الأصول خمسة ليس من بينها سنن ابن ماجه، غير أن المتأخرين أدخلوها ضمن الكتب الستة المعتمدة، وأول من جعلها كذلك هو الإمام الحافظ ابن طاهر المقدسي، الذي وضع كتابًا في شروط الأئمة الستة، وآخر في أطراف الكتب الستة، أي في جميع الأحاديث التي تشتمل عليها، وبعد ذلك اتفق معه في الرأي جميع الأئمة.

وكان العلماء قد بحثوا أي المصنفين يكون السادس بين كتب الصحاح: موطأ الإمام مالك أم سنن ابن ماجه، ويجيب على هذا العلامة المحدث عبد الغني النابلسي المتوفى سنة (1143هـ= 1730م)، فيقول في مقدمة كتابه: "ذخائر المواريث في الدلالة على موضع الحديث": "وقد اختُلف في السادس، فعند المشارقة هو كتاب السنن لأبي عبد الله محمد بن ماجه القزويني، وعند المغاربة الموطأ للإمام مالك بن أنس، ولكن عامة المتأخرين اتفقوا على أن سنن ابن ماجه هو أولى من الموطأ، وهو السادس في الصحاح". وقال السخاوي: "وقدموه على الموطأ لكثرة زوائده على الخمسة بخلاف الموطأ".

خصائص سنن ابن ماجه وشروحه

اشتهر الكتاب بدقة تبويبه وكثرتها، فهو يشتمل على مقدمة وسبعة وثلاثين كتابًا، وألف وخمسمائة باب، تضم أربعة آلاف وثلاثمائة وواحدا وأربعين حديثًا، ومن هذه الأحاديث 3002 حديث اشترك معه في تخريجها أصحاب الكتب الخمسة، وانفرد هو بتخريج 1329 حديثًا، وهي الزوائد على ما جاء في الكتب الخمسة، من بينها 428 حديثًا صحيح الإسناد و119 حديثًا حسن الإسناد، وهذا ما أشار إليه ابن حجر بقوله: "إنه انفرد بأحاديث كثيرة صحيحة".

وقد لقي الكتاب عناية من كبار الحفاظ والمحدثين فأولوه عناية بالشرح، ومن هذا الشروح:

شرح سنن ابن ماجه، للحافظ علاء الدين مغلطاي، المتوفى سنة (762هـ= 1360م)

ما تمس إليه الحاجة على سنن ابن ماجه، لسراج الدين عمر بن علي بن الملقن، المتوفى سنة (804هـ- 1401م)، واقتصر فيه على شرح الأحاديث التي انفرد بروايتها ابن ماجه، ولم تدرج في كتب الصحاح الخمسة.

الديباجة في شرح سنن ابن ماجه، للشيخ كمال الدين محمد بن مرسي الدبيري، المتوفى سنة (808هـ= 1405م).

مصباح الزجاجة في شرح سنن ابن ماجه، للجلال الدين السيوطي، المتوفى سنة (911هـ= 1505م)

شرح سنن ابن ماجه، للمحدث محمد بن عبد الهادي السندي، المتوفى سنة ( 1138هـ= 1725م)

وقد طبع الكتاب مبكرًا، فكان من أوائل الكتب التي أخرجتها المطابع العربية، فنُشر في الهند بدلهي سنة (1264هـ= 1847م)، وعليه حاشيتان، إحداهما: مصباح الزجاجة للسيوطي، والأخرى: إنجاح الحاجة لمولوي عبد الغني الدهلوي، ثم نشر بالقاهرة سنة (1313هـ= 1895م) وعليه حاشية السندي، وهو شرح مختصر يُعْنى بضبط غريب الألفاظ وبيان الإعراب بصفة خاصة، ثم نشرت السنن وحققها تحقيقا علميا العالم الجليل محمد فؤاد عبد الباقي، ورقّم كتبها وأبوابها وأحاديثها في سنة (1371هـ= 1951م)، وقد صدرت في مجلدين ومزودة بفهارس متعددة تعين الباحث على الوصول إلى الحديث في سهولة ويسر.

وفاة ابن ماجه

أمضى ابن ماجه بقية عمره في قزوين خادمًا للحديث معنيًا بروايته، مقبلا على تلاميذه حتى توفي يوم الإثنين، ودفن يوم الثلاثاء الموافق (22 من رمضان 273هـ= 20 من نوفمبر 886هـ).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
من مصادر الدراسة:

ابن ماجه ـ سنن ابن ماجه ـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ـ دار الحديث ـ القاهرة ـ بدون تاريخ.

الذهبي ـ سير أعلام النبلاء ـ تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت .

ابن خلكان ـ وفيات الأعيان ـ تحقيق إحسان عباس ـ دار صادر ـ بيروت ـ (1398هـ= 1978م)

المقريزي ـ المقفى الكبير ـ تحقيق محمد اليعلاوي ـ دار الغرب الإسلامي ـ بيروت ـ (1411 هـ- 1991م)

عبد العزيز عزت عبد الجليل ـ الإمام ابن ماجه صاحب السنن ـ مطبوعات مجلة الأزهرـ القاهرة 1410هـ.

عبد الرحمن عتر ـ معالم السنة النبوية ـ مكتبة المنارـ الأردن ـ (1406هـ= 1986م)

عبدالغفور الخطيب
26-10-2005, 01:29 AM
ابن طولون ودولته في مصر والشام

(في ذكرى مولده: 23 من رمضان 220هـ)




حدود الدولة الطولونية

يقسم المؤرخون العصر العباسي إلى فترتين رئيسيتين؛ الأولى تمتد منذ قيام الدولة العباسية سنة (132هـ = 749م) إلى سنة (232هـ = 847م)، ويطلقون على هذه الفترة الزاهرة "العصر العباسي الأول" أو "العصر الذهبي"، وحكم خلاله تسعة خلفاء من أعظم رجالات المسلمين، وحسبك أن يكون من بينهم "أبو جعفر المنصور"، و"هارون الرشيد"، و"المأمون".

أما الفترة الأخرى فتمتد أكثر من أربعة قرون من سنة (232 هـ = 847م) حتى سقوط بغداد على أيدي المغول سنة (656هـ = 1258م)، وهذه الفترة يقسمها المؤرخون إلى أربعة عصور رئيسية، تبدأ بعصر نفوذ الأتراك الذي امتد أكثر من قرن من الزمان (232-334هـ = 847-945م)، ثم عصر البويهيين (334-447هـ = 945-1055م)، ثم عصر نفوذ السلاجقة (447-590هـ = 1055-1194م)، ثم عصر ما بعد السلاجقة، الذي يمتد حتى سقوط الخلافة.

وشهدت الفترة الأولى من العصر العباسي الثاني -أو ما يُسمَّى بعصر نفوذ الأتراك- ظهور الدول المستقلة، بعد أن ضعفت قبضة الخلافة، وتولى أمرها مَن لم يكن في قدرة الخلفاء العباسيين الأوائل كفاءةً وحزمًا؛ فانفلت الأمر من أيديهم إلى قوادهم الأتراك الذين كانت الدولة تستعين بهم في تسيير أمورها وقيادة جيوشها، وظهر منهم شخصيات كبيرة استأثرت بالأمر دون الخليفة الشرعي، وتدخلت في تعيين الخلفاء وعزلهم؛ ولذلك لم يكن غريبًا أن يستأثر بعض الولاة بما تحت أيديهم، وينشئوا دولا مستقلة -وإن كانت ترتبط بالخلافة- ويحكموا من خلالها، لكن النفوذ الفعلي في الولاية كان لحكامها لا للخليفة العباسي الموجود في بغداد. ومن أبرز الدول التي ظهرت في هذا العصر الدولة الطولونية التي قامت في مصر والشام والحجاز.

مولد أحمد بن طولون

تعود جذور أحمد بن طولون إلى أصول تركية، وكان أبوه من مماليك "نوح بن أسد" والي "بخارى"؛ فأعتقه لِمَا رأى فيه من قدرة وكفاءة، ثم أرسله إلى الخليفة المأمون؛ فأعجب به، وألحقه ببلاط الخلافة، وتدرَّج في المناصب العسكرية حتى صار رئيسًا لحرس الخليفة.

وفي مدينة "بغداد" عاصمة دولة الخلافة وُلِد أحمد بن طولون في (23 من رمضان 220هـ = 20 من سبتمبر 835م)، وعُني به أبوه عناية فائقة؛ فعلمه الفنون العسكرية، وتلقى الفقه والحديث، وتردد على حلقات العلماء ينهل منها، ورُزق حسن الصوت في قراءة القرآن، وكان من أدرس الناس له وأعلمهم به، ثم رحل إلى طرسوس بعد أن تولى بعض أمورها بناء على رغبته؛ ليكون على مقربة من علمائها الذين اشتهروا بالفقه والحديث والتفسير، وبعد رجوعه صار موضع ثقة الخلفاء العباسيين لعلمه وشجاعته، والتحق بخدمة الخليفة "المستعين بالله" في (248-252هـ = 862-866م)، وصار موقع ثقته وتقديره.

ولاية مصر

كان من عادة الولاة الكبار، الذين يعينهم الخليفة للأقاليم الخاضعة له أن يبقوا في عاصمة الخلافة؛ لينعموا بالجاه والسلطان، والقرب من مناطق السيادة والنفوذ، وفي الوقت نفسه ينيبون عنهم في حكم تلك الولايات من يثقون فيهم من أتباعهم وأقاربهم، ويجدون فيهم المهارة والكفاءة. وكانت مصر في تلك الفترة تحت ولاية القائد التركي "باكباك" زوج أم أحمد بن طولون، فأناب عنه وفقًا لهذه العادة ابن زوجته "أحمد" في حكم مصر، وأمدَّه بجيش كبير دخل مصر في (23 من رمضان 254هـ = 16 من سبتمبر 868م).

وما إن نزل مصر حتى واجهته مصاعب عديدة ومشكلات مستعصية، وشغله أصحاب المصالح بإشعال ثورات تصرفه عما جاء من أجله، لكن ابن طولون لم يكن كمن سبقه من الولاة؛ فسرعان ما اشتد نفوذه، وأخمد الفتن التي اشتعلت بكل حزم، وأجبر ولاة الأقاليم على الرضوخ له وتنفيذ أوامره، وكانوا من قبل يستهينون بالولاة، ولا يعبئون بقراراتهم؛ استخفافًا بهم، ويعملون على ما يحلو لهم.

وازدادت قدم ابن طولون رسوخًا، وقويَ سلطانه بعد أن أسندت ولاية مصر إلى "يارجوخ" والد زوجة ابن طولون، فعمل على تثبيت صهره، وزاده نفوذًا بأن أضاف إليه حكم الإسكندرية، ولم يكتفِ ابن طولون بما حقق من نفوذ في مصر؛ فتطلع إلى أن تكون أعمال الخراج في يده، وكان عامل الخراج يُعيَّن من قِبَل الخليفة العباسي، ولم يكن لوالي مصر سلطان عليه، غير أن أحمد بن طولون نجح في أن يستصدر من الخليفة "المعتمد على الله" في (256-279هـ = 870-892م) قرارًا بأن يضيف إليه أعمال الخراج؛ فجمع بهذا بين السلطتين المالية والسياسية، وقويت شوكته، وعظم سلطانه، وكان أول عمل قام به أن ألغى المكوس والضرائب التي أثقل بها عامل الخراج السابق كاهل الشعب.

ضمّ الشام إلى ولايته

ولما كثرت اعتداءات الدولة البيزنطية على ثغور الشام في أنطاكية وطرسوس والمصيصة، وغيرها.. لم يجد الخليفة المعتمد أفضل من ابن طولون يوليه أمر الشام؛ لدفع هذا الخطر، ورد البيزنطيين، خاصة أن دولة الخلافة كانت مشغولة بالقضاء على فتنة للزنج في البصرة، حيث شبت كالحريق الهائل، وأصبحت تهدد كيان الدولة وتهز أركانها.

وفي سنة (264هـ = 878م) خرج ابن طولون بحملة عسكرية إلى الشام لتثبيت نفوذه وتأديب البيزنطيين وحماية حدود الدولة الشمالية، وفي هذه الحملة دخلت في طاعته مدن الشام الكبرى كدمشق، وحمص، وحلب، وأنطاكية. وواصل زحفه حتى مدينة الرقة، وبينما هو يستعد لمحاربة البيزنطيين وافته الأنباء بأن ابنه العباس، الذي تركه في مصر نائبًا عنه، قد أعلن الثورة عليه، وانفرد بالحكم دونه؛ فقفل راجعًا إلى مصر، وحاول بالطرق السلمية أن يضع حدًّا لهذه المشكلة مع ابنه، الذي فرّ مع أتباعه إلى برقه بليبيا، ونصحه بالعودة إليه، ووعده بالعفو عنه، لكنه ركب رأسه وغرَّته قوته، ورفض النصح، ولم يعد أمام ابن طولون سوى سلاح القوة، بعد أن أخفقت سياسة اللين، فنجح في القبض عليه، والزجّ به في السجن سنة (268هـ = 882م).

ابن طولون والخليفة المعتمد

وعلى الرغم من أن "المعتمد على الله" كان يتولى منصب الخلافة فإنه لم يكن له من الأمر شيء!! وكانت مقاليد الأمور في يد أخيه "الموفق" ولي عهده. وحاول ابن طولون بعد أن امتد سلطانه، واتسع نفوذه أن يغري الخليفة المعتمد بالقدوم عليه في مصر، وأن يجعل من مصر مقرًا لدولة الخلافة؛ فكتب إليه بهذا الشأن في سنة (268هـ = 882م)، ووعده بالنصر والحماية، لكن الخليفة لم يُجبه إلى عرضه إلا بعد ذلك بعام، فأرسل إليه يخبره بأنه خارج إليه، وكان ابن طولون في دمشق يستعد لقمع فتنة شبَّتْ في طرسوس، غير أن محاولة الخليفة اللحاق بأحمد بن طولون فشلت، وتمكن الموفق من رد الخليفة إلى "سامراء" عاصمة الخلافة، وإثنائه عن محاولته.

وترتب على هذا أن قام الموفق بعزل ابن طولون عن مصر، لكن القرار لم يلقَ قبولاً من ابن طولون الحاكم القوي وصاحب النفوذ والسلطان. ولم يكتفِ بعدم التنفيذ، بل عقد اجتماعًا في دمشق جمع فيه القضاة والفقهاء والأشراف من أنحاء ولايته، وأعلن خلع الموفق عن ولاية العهد؛ لتحكمه في الخليفة الشرعي واستبداده بالأمر دونه، وكتب بذلك إلى عماله في أنحاء مصر والشام، غير أن صوت العقل تدخل بين الطرفين، وعُقد بينهما صلح، وأقر ابن طولون على ما تحت يديه من البلاد.

مظاهر الحضارة

كان أحمد بن طولون رجل دولة من الطراز الأول؛ فعُنيَ بشؤون دولته؛ وما يتصل بها من مناحي الحياة، ولم تشغله طموحاته في التوسع وزيادة رقعة دولته عن جوانب الإصلاح والعناية بما يحقق الحياة الكريمة لرعيته؛ ولذا شملت إصلاحاته وإسهاماته شؤون دولته المختلفة.

وكان أول ما عُني به إنشاء عاصمة جديدة لدولته شمالي "الفسطاط" سنة (256هـ = 870م) عُرِفت بـ"القطائع"، وقد بناها على غرار نظام مدينة "سامراء" عاصمة الخلافة العباسية، واختار مكانها على جبل "يشكر" بين الفسطاط وتلال المقطم، وبنى بها قصرًا للإمارة، وجعل أمامه ميدانًا فسيحًا يستعرض فيه جيوشه الجرارة، ويطمئن على تسليحها وإعداده، ثم اختطّ حول القصر ثكنات حاشيته وقواده وجنوده، وجعل لكل فئة من جنوه قطعة خاصة بهم؛ فللجنود من السودان قطعة، وللأتراك قطعة، وكذلك فعل مع أرباب الحرف والصناعات. ومن هنا جاءت تسمية المدينة الجديدة بـ"القطائع"، وهي العاصمة الثالثة لمصر بعد الفسطاط والعسكر.



مسجد أحمد بن طولون

وأنشأ في وسط المدينة مسجده المعروف باسمه إلى اليوم؛ وهو من أكبر المساجد، وتبلغ سعته 8487 مترًا مربعًا، ولا يزال شاهدًا على ما بلغته الدولة الطولونية من رقي وازدهار في فنون العمارة، ويعد من أقدم الأبنية الإسلامية التي بقيت على ما كانت عليه، واشتهر المسجد بمئذنته الملوية التي تشبه مئذنة مسجد سامراء. وقد انتهى ابن طولون من بنائه سنة (265هـ = 879م)، وبلغ من عنايته به أن عين له طبيبًا خاصًّا، وجعل به خزانة بها بعض الأدوية والأشربة لإسعاف المصلين من رواد المساجد في الحالات الطارئة.

وأنشأ ابن طولون "بيمارستانا" سنة (259هـ = 873م) لمعالجة المرضى مجانًا دون تمييز بينهم؛ حيث يلقون عناية فائقة، وتقدَّم لهم الأدوية، ويُستبقَى منهم من يحتاج إلى رعاية ومتابعة داخل البيمارستان، ولم يكن المرضى يدخلون بثيابهم العادية، وإنما كانت تقدم لهم ثياب خاصة، كما هي الحال الآن، وكان المريض يودع ما معه من مال وحاجات عند أمين البيمارستان، ثم يلحق بالمكان المخصص له إلى أن يتم شفاؤه فيسترد ما أودعه. وكان ابن طولون يتفقد المرضى، ويتابع أعمال الأطباء.

واهتم ابن طولون بالزراعة؛ فعُني بتطهير نهر النيل، وشق الترع، وإقامة الجسور، وشجع الفلاحين على امتلاك الأراضي حتى تزداد عنايتهم بها، وخصص لذلك ديوان الأملاك، كما أصلح مقياس النيل في الروضة لمتابعة الزيادة والنقصان في منسوب مياه نهر النيل، وأمدّ الفلاحين بما يحتاجونه من البذور والآلات الزراعية، وكان من شأن هذا أن ازدادت رقعة الأراضي حتى بلغت نحو مليون فدان.

وازدهرت الصناعة في عهده، وخاصة صناعة النسيج التي كانت أهم الصناعات في عهده، وتقدمت صناعة الورق والصابون والسكر وصناعة الأسلحة، كما نشطت التجارة في مصر والشام؛ نظرًا لموقعهما المتميز في طرق التجارة العالمية.

وكان من نتيجة هذه النهضة أن عمَّ الرخاء، وازدادت مالية الدولة، وامتلأت خزانة الدولة بفائض من المال، استغله ابن طولون في تحسين أحوال الناس المعيشية، وفي بناء جيش قوي بلغ -في بعض الروايات- مائة ألف جندي، وأنشأ أسطولاً بحريًّا لحماية شواطئ الدولة، وإقامة الحصون المنيعة في يافا والإسكندرية وعكا.

وفاته

بعد عقد صلح بين ابن طولون والموفق، وحلول الصلح بينهما، زحف ابن طولون سنة ليقمع الفتنة التي شبت في طرسوس، فلما وصل إلى هناك، وكان الوقت شتاء والثلج كثيرًا، لم يعُقْه ذلك عن نصب المجانيق على سور طرسوس لإخماد الثورة، لكنه مرض ولم يستطع الاستمرار في الحصار؛ فأسرع بالعودة إلى مصر، حيث لقي ربه في (10 من ذي القعدة 270هـ = 10 من مايو 883م).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مصادر الدراسة:

ابن الأثير: الكامل في التاريخ- دار صادر- بيروت (1399هـ = 1979م).

ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة- دار الكتب المصرية- القاهرة (1351هـ = 1932م).

ابن خلكان: وفيات الأعيان- تحقيق. إحسان عباس- دار صادر- بيروت (1398 – 1978م).

البلوي: سيرة أحمد بن طولون- تحقيق. محمد كرد علي- مكتبة الثقافة الدينية- القاهرة (بدون تاريخ).

سيدة إسماعيل الكاشف: أحمد بن طولون- سلسلة أعلام العرب- المؤسسة المصرية للتأليف- القاهرة (بدون تاريخ).

جمال الدين الشيال: تاريخ مصر الإسلامية- دار المعارف- القاهرة (1967م).

عبدالغفور الخطيب
26-10-2005, 01:38 AM
ابن طولون ودولته في مصر والشام

(في ذكرى مولده: 23 من رمضان 220هـ)




حدود الدولة الطولونية

يقسم المؤرخون العصر العباسي إلى فترتين رئيسيتين؛ الأولى تمتد منذ قيام الدولة العباسية سنة (132هـ = 749م) إلى سنة (232هـ = 847م)، ويطلقون على هذه الفترة الزاهرة "العصر العباسي الأول" أو "العصر الذهبي"، وحكم خلاله تسعة خلفاء من أعظم رجالات المسلمين، وحسبك أن يكون من بينهم "أبو جعفر المنصور"، و"هارون الرشيد"، و"المأمون".

أما الفترة الأخرى فتمتد أكثر من أربعة قرون من سنة (232 هـ = 847م) حتى سقوط بغداد على أيدي المغول سنة (656هـ = 1258م)، وهذه الفترة يقسمها المؤرخون إلى أربعة عصور رئيسية، تبدأ بعصر نفوذ الأتراك الذي امتد أكثر من قرن من الزمان (232-334هـ = 847-945م)، ثم عصر البويهيين (334-447هـ = 945-1055م)، ثم عصر نفوذ السلاجقة (447-590هـ = 1055-1194م)، ثم عصر ما بعد السلاجقة، الذي يمتد حتى سقوط الخلافة.

وشهدت الفترة الأولى من العصر العباسي الثاني -أو ما يُسمَّى بعصر نفوذ الأتراك- ظهور الدول المستقلة، بعد أن ضعفت قبضة الخلافة، وتولى أمرها مَن لم يكن في قدرة الخلفاء العباسيين الأوائل كفاءةً وحزمًا؛ فانفلت الأمر من أيديهم إلى قوادهم الأتراك الذين كانت الدولة تستعين بهم في تسيير أمورها وقيادة جيوشها، وظهر منهم شخصيات كبيرة استأثرت بالأمر دون الخليفة الشرعي، وتدخلت في تعيين الخلفاء وعزلهم؛ ولذلك لم يكن غريبًا أن يستأثر بعض الولاة بما تحت أيديهم، وينشئوا دولا مستقلة -وإن كانت ترتبط بالخلافة- ويحكموا من خلالها، لكن النفوذ الفعلي في الولاية كان لحكامها لا للخليفة العباسي الموجود في بغداد. ومن أبرز الدول التي ظهرت في هذا العصر الدولة الطولونية التي قامت في مصر والشام والحجاز.

مولد أحمد بن طولون

تعود جذور أحمد بن طولون إلى أصول تركية، وكان أبوه من مماليك "نوح بن أسد" والي "بخارى"؛ فأعتقه لِمَا رأى فيه من قدرة وكفاءة، ثم أرسله إلى الخليفة المأمون؛ فأعجب به، وألحقه ببلاط الخلافة، وتدرَّج في المناصب العسكرية حتى صار رئيسًا لحرس الخليفة.

وفي مدينة "بغداد" عاصمة دولة الخلافة وُلِد أحمد بن طولون في (23 من رمضان 220هـ = 20 من سبتمبر 835م)، وعُني به أبوه عناية فائقة؛ فعلمه الفنون العسكرية، وتلقى الفقه والحديث، وتردد على حلقات العلماء ينهل منها، ورُزق حسن الصوت في قراءة القرآن، وكان من أدرس الناس له وأعلمهم به، ثم رحل إلى طرسوس بعد أن تولى بعض أمورها بناء على رغبته؛ ليكون على مقربة من علمائها الذين اشتهروا بالفقه والحديث والتفسير، وبعد رجوعه صار موضع ثقة الخلفاء العباسيين لعلمه وشجاعته، والتحق بخدمة الخليفة "المستعين بالله" في (248-252هـ = 862-866م)، وصار موقع ثقته وتقديره.

ولاية مصر

كان من عادة الولاة الكبار، الذين يعينهم الخليفة للأقاليم الخاضعة له أن يبقوا في عاصمة الخلافة؛ لينعموا بالجاه والسلطان، والقرب من مناطق السيادة والنفوذ، وفي الوقت نفسه ينيبون عنهم في حكم تلك الولايات من يثقون فيهم من أتباعهم وأقاربهم، ويجدون فيهم المهارة والكفاءة. وكانت مصر في تلك الفترة تحت ولاية القائد التركي "باكباك" زوج أم أحمد بن طولون، فأناب عنه وفقًا لهذه العادة ابن زوجته "أحمد" في حكم مصر، وأمدَّه بجيش كبير دخل مصر في (23 من رمضان 254هـ = 16 من سبتمبر 868م).

وما إن نزل مصر حتى واجهته مصاعب عديدة ومشكلات مستعصية، وشغله أصحاب المصالح بإشعال ثورات تصرفه عما جاء من أجله، لكن ابن طولون لم يكن كمن سبقه من الولاة؛ فسرعان ما اشتد نفوذه، وأخمد الفتن التي اشتعلت بكل حزم، وأجبر ولاة الأقاليم على الرضوخ له وتنفيذ أوامره، وكانوا من قبل يستهينون بالولاة، ولا يعبئون بقراراتهم؛ استخفافًا بهم، ويعملون على ما يحلو لهم.

وازدادت قدم ابن طولون رسوخًا، وقويَ سلطانه بعد أن أسندت ولاية مصر إلى "يارجوخ" والد زوجة ابن طولون، فعمل على تثبيت صهره، وزاده نفوذًا بأن أضاف إليه حكم الإسكندرية، ولم يكتفِ ابن طولون بما حقق من نفوذ في مصر؛ فتطلع إلى أن تكون أعمال الخراج في يده، وكان عامل الخراج يُعيَّن من قِبَل الخليفة العباسي، ولم يكن لوالي مصر سلطان عليه، غير أن أحمد بن طولون نجح في أن يستصدر من الخليفة "المعتمد على الله" في (256-279هـ = 870-892م) قرارًا بأن يضيف إليه أعمال الخراج؛ فجمع بهذا بين السلطتين المالية والسياسية، وقويت شوكته، وعظم سلطانه، وكان أول عمل قام به أن ألغى المكوس والضرائب التي أثقل بها عامل الخراج السابق كاهل الشعب.

ضمّ الشام إلى ولايته

ولما كثرت اعتداءات الدولة البيزنطية على ثغور الشام في أنطاكية وطرسوس والمصيصة، وغيرها.. لم يجد الخليفة المعتمد أفضل من ابن طولون يوليه أمر الشام؛ لدفع هذا الخطر، ورد البيزنطيين، خاصة أن دولة الخلافة كانت مشغولة بالقضاء على فتنة للزنج في البصرة، حيث شبت كالحريق الهائل، وأصبحت تهدد كيان الدولة وتهز أركانها.

وفي سنة (264هـ = 878م) خرج ابن طولون بحملة عسكرية إلى الشام لتثبيت نفوذه وتأديب البيزنطيين وحماية حدود الدولة الشمالية، وفي هذه الحملة دخلت في طاعته مدن الشام الكبرى كدمشق، وحمص، وحلب، وأنطاكية. وواصل زحفه حتى مدينة الرقة، وبينما هو يستعد لمحاربة البيزنطيين وافته الأنباء بأن ابنه العباس، الذي تركه في مصر نائبًا عنه، قد أعلن الثورة عليه، وانفرد بالحكم دونه؛ فقفل راجعًا إلى مصر، وحاول بالطرق السلمية أن يضع حدًّا لهذه المشكلة مع ابنه، الذي فرّ مع أتباعه إلى برقه بليبيا، ونصحه بالعودة إليه، ووعده بالعفو عنه، لكنه ركب رأسه وغرَّته قوته، ورفض النصح، ولم يعد أمام ابن طولون سوى سلاح القوة، بعد أن أخفقت سياسة اللين، فنجح في القبض عليه، والزجّ به في السجن سنة (268هـ = 882م).

ابن طولون والخليفة المعتمد

وعلى الرغم من أن "المعتمد على الله" كان يتولى منصب الخلافة فإنه لم يكن له من الأمر شيء!! وكانت مقاليد الأمور في يد أخيه "الموفق" ولي عهده. وحاول ابن طولون بعد أن امتد سلطانه، واتسع نفوذه أن يغري الخليفة المعتمد بالقدوم عليه في مصر، وأن يجعل من مصر مقرًا لدولة الخلافة؛ فكتب إليه بهذا الشأن في سنة (268هـ = 882م)، ووعده بالنصر والحماية، لكن الخليفة لم يُجبه إلى عرضه إلا بعد ذلك بعام، فأرسل إليه يخبره بأنه خارج إليه، وكان ابن طولون في دمشق يستعد لقمع فتنة شبَّتْ في طرسوس، غير أن محاولة الخليفة اللحاق بأحمد بن طولون فشلت، وتمكن الموفق من رد الخليفة إلى "سامراء" عاصمة الخلافة، وإثنائه عن محاولته.

وترتب على هذا أن قام الموفق بعزل ابن طولون عن مصر، لكن القرار لم يلقَ قبولاً من ابن طولون الحاكم القوي وصاحب النفوذ والسلطان. ولم يكتفِ بعدم التنفيذ، بل عقد اجتماعًا في دمشق جمع فيه القضاة والفقهاء والأشراف من أنحاء ولايته، وأعلن خلع الموفق عن ولاية العهد؛ لتحكمه في الخليفة الشرعي واستبداده بالأمر دونه، وكتب بذلك إلى عماله في أنحاء مصر والشام، غير أن صوت العقل تدخل بين الطرفين، وعُقد بينهما صلح، وأقر ابن طولون على ما تحت يديه من البلاد.

مظاهر الحضارة

كان أحمد بن طولون رجل دولة من الطراز الأول؛ فعُنيَ بشؤون دولته؛ وما يتصل بها من مناحي الحياة، ولم تشغله طموحاته في التوسع وزيادة رقعة دولته عن جوانب الإصلاح والعناية بما يحقق الحياة الكريمة لرعيته؛ ولذا شملت إصلاحاته وإسهاماته شؤون دولته المختلفة.

وكان أول ما عُني به إنشاء عاصمة جديدة لدولته شمالي "الفسطاط" سنة (256هـ = 870م) عُرِفت بـ"القطائع"، وقد بناها على غرار نظام مدينة "سامراء" عاصمة الخلافة العباسية، واختار مكانها على جبل "يشكر" بين الفسطاط وتلال المقطم، وبنى بها قصرًا للإمارة، وجعل أمامه ميدانًا فسيحًا يستعرض فيه جيوشه الجرارة، ويطمئن على تسليحها وإعداده، ثم اختطّ حول القصر ثكنات حاشيته وقواده وجنوده، وجعل لكل فئة من جنوه قطعة خاصة بهم؛ فللجنود من السودان قطعة، وللأتراك قطعة، وكذلك فعل مع أرباب الحرف والصناعات. ومن هنا جاءت تسمية المدينة الجديدة بـ"القطائع"، وهي العاصمة الثالثة لمصر بعد الفسطاط والعسكر.



مسجد أحمد بن طولون

وأنشأ في وسط المدينة مسجده المعروف باسمه إلى اليوم؛ وهو من أكبر المساجد، وتبلغ سعته 8487 مترًا مربعًا، ولا يزال شاهدًا على ما بلغته الدولة الطولونية من رقي وازدهار في فنون العمارة، ويعد من أقدم الأبنية الإسلامية التي بقيت على ما كانت عليه، واشتهر المسجد بمئذنته الملوية التي تشبه مئذنة مسجد سامراء. وقد انتهى ابن طولون من بنائه سنة (265هـ = 879م)، وبلغ من عنايته به أن عين له طبيبًا خاصًّا، وجعل به خزانة بها بعض الأدوية والأشربة لإسعاف المصلين من رواد المساجد في الحالات الطارئة.

وأنشأ ابن طولون "بيمارستانا" سنة (259هـ = 873م) لمعالجة المرضى مجانًا دون تمييز بينهم؛ حيث يلقون عناية فائقة، وتقدَّم لهم الأدوية، ويُستبقَى منهم من يحتاج إلى رعاية ومتابعة داخل البيمارستان، ولم يكن المرضى يدخلون بثيابهم العادية، وإنما كانت تقدم لهم ثياب خاصة، كما هي الحال الآن، وكان المريض يودع ما معه من مال وحاجات عند أمين البيمارستان، ثم يلحق بالمكان المخصص له إلى أن يتم شفاؤه فيسترد ما أودعه. وكان ابن طولون يتفقد المرضى، ويتابع أعمال الأطباء.

واهتم ابن طولون بالزراعة؛ فعُني بتطهير نهر النيل، وشق الترع، وإقامة الجسور، وشجع الفلاحين على امتلاك الأراضي حتى تزداد عنايتهم بها، وخصص لذلك ديوان الأملاك، كما أصلح مقياس النيل في الروضة لمتابعة الزيادة والنقصان في منسوب مياه نهر النيل، وأمدّ الفلاحين بما يحتاجونه من البذور والآلات الزراعية، وكان من شأن هذا أن ازدادت رقعة الأراضي حتى بلغت نحو مليون فدان.

وازدهرت الصناعة في عهده، وخاصة صناعة النسيج التي كانت أهم الصناعات في عهده، وتقدمت صناعة الورق والصابون والسكر وصناعة الأسلحة، كما نشطت التجارة في مصر والشام؛ نظرًا لموقعهما المتميز في طرق التجارة العالمية.

وكان من نتيجة هذه النهضة أن عمَّ الرخاء، وازدادت مالية الدولة، وامتلأت خزانة الدولة بفائض من المال، استغله ابن طولون في تحسين أحوال الناس المعيشية، وفي بناء جيش قوي بلغ -في بعض الروايات- مائة ألف جندي، وأنشأ أسطولاً بحريًّا لحماية شواطئ الدولة، وإقامة الحصون المنيعة في يافا والإسكندرية وعكا.

وفاته

بعد عقد صلح بين ابن طولون والموفق، وحلول الصلح بينهما، زحف ابن طولون سنة ليقمع الفتنة التي شبت في طرسوس، فلما وصل إلى هناك، وكان الوقت شتاء والثلج كثيرًا، لم يعُقْه ذلك عن نصب المجانيق على سور طرسوس لإخماد الثورة، لكنه مرض ولم يستطع الاستمرار في الحصار؛ فأسرع بالعودة إلى مصر، حيث لقي ربه في (10 من ذي القعدة 270هـ = 10 من مايو 883م).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مصادر الدراسة:

ابن الأثير: الكامل في التاريخ- دار صادر- بيروت (1399هـ = 1979م).

ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة- دار الكتب المصرية- القاهرة (1351هـ = 1932م).

ابن خلكان: وفيات الأعيان- تحقيق. إحسان عباس- دار صادر- بيروت (1398 – 1978م).

البلوي: سيرة أحمد بن طولون- تحقيق. محمد كرد علي- مكتبة الثقافة الدينية- القاهرة (بدون تاريخ).

سيدة إسماعيل الكاشف: أحمد بن طولون- سلسلة أعلام العرب- المؤسسة المصرية للتأليف- القاهرة (بدون تاريخ).

جمال الدين الشيال: تاريخ مصر الإسلامية- دار المعارف- القاهرة (1967م).

عبدالغفور الخطيب
28-10-2005, 01:16 AM
عين جالوت.. واإسلاماه!!
(في ذكرى نشوبها: 25 من رمضان 658هـ)
لم تتعرض دولة الإسلام لأوقات عصيبة وعواصف منذرة ورياح مرعبة مثلما تعرضت في القرن السابع الهجري؛ حيث دمّرت جيوش المغول بقيادة جنكيز خان حواضر الإسلام الكبرى في المشرق الإسلامي، وسفكت دماء المسلمين، وأتت على معالم الحضارة والمدنية، ولم تستطع قوة إسلامية أن توقف هذا الزحف الكاسح، وانهارت الجيوش الإسلامية وتوالت هزائمها، وتتابع سقوط الدول والمدن الإسلامية كأوراق الشجر في موسم الخريف.
وأطمع ضعف المسلمين وخور عزائمهم المغول في أن يتطلعوا إلى مواصلة الزحف تجاه الغرب، وإسقاط الخلافة العباسية وتقويض دعائمها، ولم تكن الخلافة في وقت من الأوقات أضعف مما كانت عليه وقت الغزو المغولي؛ فخرج هولاكو سنة (651هـ= 1253م) على رأس حملة جرارة، تضم مائة وعشرين ألف جندي من خيرة جنود المغول، المدربين تدريبًا عاليًا على فنون القتال والنزال، والمزودين بأسلحة الحرب وأدوات الحصار، تسبقهم شهرتهم المرعبة في القتل وسفك الدماء، ومهارتهم الفائقة في الحرب، وشجاعتهم وقوة بأسهم في ميادين القتال.
سقوط الخلافة العباسية
اجتاحت قوات المغول الأراضي الإيرانية، ولم تجد ما يعوق حركتها حتى وصلت إلى بغداد، فضربت حصارًا عليها، ولم يكن لها قدرة على رفع هذه الجيوش الجرارة؛ فاستسلمت في خنوع إلى الغازي الفاتك فدخلها في (4 من صفر 656 هـ = 10 من فبراير 1258م)، واستباح جنوده المدينة المنكوبة، وقتلوا السواد الأعظم من أهلها الذين قدروا بنحو مليون قتيل، ولم يكن خليفة المسلمين وأسرته بأسعد حال من أهالي المدينة، حيث لقوا حتفهم جميعًا، وأضرم التتار النار في أحياء المدينة، وهدموا مساجدها وقصورها، وخربوا مكتباتها، وأتلفوا ما بها من تراث إنساني، وأصبحت المدينة التي كانت عاصمة الدنيا وقبلة الحضارة أثرًا بعد عين.
أوضاع الشام قبل حملة هولاكو
كانت بلاد الشام في أثناء تلك المحنة يحكم الأيوبيون أجزاء كبيرة منها، ولم تكن العلاقات بينهم ودية على الرغم من انتسابهم إلى بيت واحد وأسرة كريمة هي أسرة صلاح الدين الأيوبي، وبدلا من أن توحدهم المحنة وتجمع بين قلوبهم ويقفوا صفًا واحدًا هرول بعضهم إلى هولاكو يعلن خضوعه له، مثلما فعل الناصر يوسف الأيوبي صاحب دمشق وحلب، وكان أقوى الأمراء الأيوبيين وأكثرهم قدرة على مواجهة هولاكو لو رغب، لكنه لم يفعل وأرسل ابنه العزيز إلى هولاكو يحمل إليه الهدايا، ويعلن خضوعه له، ويطلب منه أن يساعده على الاستيلاء على مصر وتخليصها من حكم دولة المماليك الناشئة التي انتزعت الملك من بيته.
لكن هولاكو رأى في عدم قدوم الناصر إليه بنفسه استهانة به، فكتب إليه رسالة غاضبة يأمره بالإسراع إليه وتقديم آيات الولاء والخضوع دون قيد أو شرط، فانزعج الناصر، وأدرك أن مسعاه قد خاب، واستعد استعداد الخائف لمواجهة المغول، وبعث بأسرته إلى مصر.
حملة هولاكو
خرج هولاكو في رمضان (657هـ= 1259م) من عاصمة دولته مراغة في أذربيحان، متجهًا إلى الشام، معه حلفاؤه من أمراء جورجيا وأرمينيا، يقود طلائعه قائده "كيتوبوقا"، متجهين إلى الشام، وكانت ميافارقين بديار بكر أول ما تبتدئ به الحملة الغازية، فصمدت المدينة للحصار مدة طويلة دون أن يفلح المغول في اقتحامها، غير أن طول الحصار ونفاد المؤن وانتشار الأوبئة وهلاك معظم السكان دفع إلى استسلام المدينة.
وفي أثناء الحصار كانت جيوش المغول تستولي على المدن المجاورة، فسقطت ماردين، وحران، والرها وسروج والبيرة، ثم واصل الجيش زحفه إلى حلب وحاصرها حصارًا شديدًا، حتى استسلمت في (9 من صفر 658هـ- 25 من يناير 1260م)، وأباح هولاكو المدينة لجنوده سبعة أيام فعاثوا فيها فسادًا، ونشروا الخراب في كل أرجائها، ولم تكد تصل هذه الأنباء المفجعة إلى دمشق حتى آثر أهلها السلامة بعد أن فر حاكمها الناصر يوسف الأيوبي، وسارعوا إلى تسليم المدينة، وشاءت الأقدار أن يغادر هولاكو الشام ويعود إلى بلاده تاركًا مهمة إكمال الغزو لقائده "كيتوبوقا" فدخل دمشق في (15 من ربيع الأول 658هـ= 1 من مارس 1260م).
الأوضاع في مصر
وكان من نتيجة هذا الغزو أن فر كثير من أهل الشام إلى مصر التي كانت تحت سلطان دولة المماليك، ويحكمها سلطان صبي هو الملك "المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك"، وفي هذه الأثناء بعث الملك الناصر يوسف الذي أفاق بعد فوات الأوان برسول إلى مصر يستنجد بعساكرها للوقوف ضد الزحف المغولي، وكانت أخبار المغول قد انتشرت في مصر وأحدثت رعبًا وهلعًا.
ولما كان سلطان مصر غير جدير بتحمل مسئولية البلاد في مواجهة الخطر القادم، فقد أقدم نائبه "سيف الدين قطز" على خلعه، محتجًا بأنه لا بد من سلطان قاهر يقاتل هذا العدو، والملك الصبي صغير لا يعرف تدبير المملكة، ولم يجد قطز معارضة لما أقدم عليه؛ فالخطر محدق بالبلاد، والسلطان قد ازدادت مفاسده وانفض الجميع من حوله.
رسالة هولاكو
بدأ السلطان قطز يوطد أركان دولته ويثبت دعائم حكمه، فعين من يثق فيهم في مناصب الدولة الكبيرة، وقبض على أنصار السلطان السابق، وأخذ يستعد للجهاد وملاقاة المغول، وسمح برجوع بعض أمراء المماليك من خصومه وكانوا بالشام، وعلى رأسهم بيبرس البندقداري فرحب به، وأحسن معاملته، وأقطعه قليوب ومناطق الريف المجاورة لها، وأغرى قوات الناصر يوسف الأيوبي ـ الذي فر من دمشق وطلب نجدة المماليك بمصر ـ بالانضمام إلى جيشه وكانت بالقرب من غزة، فاستجابت لدعوته.
وفي تلك الأثناء وصلت رسل هولاكو إلى القاهرة تحمل خطابا تقطر كبرا وغطرسة، ويمتلئ بالتهديد والوعيد، ومما جاء فيه: ".. إنا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وسلموا إلينا أمركم.. فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكا.. فما لكم من سيوفنا خلاص ولا من أيدينا مناص، فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق...".
الاجتماع التاريخي
وأمام هذا الخطر الداهم عقد السلطان قطز مجلسًا من كبار الأمراء، واستقر الرأي على مقابلة وعيد المغول بالاستعداد للحرب، وعزز ذلك بقتل رسل المغول؛ ردًا على تهديد هولاكو وكان هذا التصرف إعلانًا للحرب وإصرارًا على الجهاد، وفي الوقت نفسه بدأ قطز يعمل على حشد الجيوش وجمع الأموال اللازمة للإنفاق على الاستعدادات والتجهيزات العسكرية، وقبل أن يفرض ضرائب جديدة على الأهالي جمع ما عنده وعند أمرائه من الحلي والجواهر، واستعان بها في تجهيز الجيش، استجابة لفتوى الشيخ "العز بن عبد السلام" أقوى علماء عصره.
ولم يقتصر الأمر على هذا، بل لقي صعوبة في إقناع كثير من الأمراء بالخروج معه لقتال التتار، فأخذ يستثير نخوتهم ويستنهض شجاعتهم بقوله: "يا أمراء المسلمين لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته فإن الله مطلع عليه..."؛ فأثرت هذه الكلمة في نفوسهم، وقوت من روحهم، فخرجوا معه وتعاهدوا على القتال.
الخروج إلى القتال
وفي (رمضان 658هـ= أغسطس 1260م) خرج قطز من مصر على رأس الجيوش المصرية ومن انضم إليه من الجنود الشاميين وغيرهم، وترك نائبا عنه في مصر هو الأتابك فارس الدين أقطاي المستعرب، وأمر الأمير بيبرس البندقداري أن يتقدم بطليعة من الجنود ليكشف أخبار المغول، فسار حتى لقي طلائع لهم في غزة، فاشتبك معهم، وألحق بهم هزيمة كان لها أثر في نفوس جنوده، وأزالت الهيبة من نفوسهم، ثم تقدم السلطان قطز بجيوشه إلى غزة، فأقام بها يومًا واحدًا، ثم رحل عن طريق الساحل إلى عكا، وكانت لا تزال تحت سيطرة الصليبيين، فعرضوا عليه مساعدتهم، لكنه رفض واكتفى منهم بالوقوف على الحياد، وإلا قاتلهم قبل أن يقابل المغول، ثم وافى قطز الأمير بيبرس عند عين جالوت بين بيسان ونابلس.
وكان الجيش المغولي يقوده كيتوبوقا (كتبغا) بعد أن غادر هولاكو الشام إلى بلاده للاشتراك في اختيار خاقان جديد للمغول، وجمع القائد الجديد قواته التي كانت قد تفرقت ببلاد الشام في جيش موحد، وعسكر بهم في عين جالوت.
اللقاء المرتقب
اقتضت خطة السلطان قطز أن يخفي قواته الرئيسية في التلال والأحراش القريبة من عين جالوت، وألا يظهر للعدو المتربص سوى المقدمة التي كان يقودها الأمير بيبرس، وما كاد يشرق صباح يوم الجمعة (25 من رمضان 658هـ= 3 من سبتمبر 1260م) حتى اشتبك الفريقان، وانقضت قوات المغول كالموج الهائل على طلائع الجيوش المصرية؛ حتى تحقق نصرًا خاطفًا، وتمكنت بالفعل من تشتيت ميسرة الجيش، غير أن السلطان قطز ثبت كالجبال، وصرخ بأعلى صوته: "واإسلاماه!"، فعمت صرخته أرجاء المكان، وتوافدت حوله قواته، وانقضوا على الجيش المغولي الذي فوجئ بهذا الثبات والصبر في القتال وهو الذي اعتاد على النصر الخاطف، فانهارت عزائمه وارتد مذعورا لا يكاد يصدق ما يجري في ميدان القتال، وفروا هاربين إلى التلال المجاورة بعد أن رأوا قائدهم كيتوبوقا يسقط صريعًا في أرض المعركة.
ولم يكتفِ المسلمون بهذا النصر، بل تتبعوا الفلول الهاربة من جيش المغول التي تجمعت في بيسان القريبة من عين جالوت، واشتبكوا معها في لقاء حاسم، واشتدت وطأة القتال، وتأرجح النصر، وعاد السلطان قطز يصيح صيحة عظيمة سمعها معظم جيشه وهو يقول: "واإسلاماه!" ثلاث مرات ويضرع إلى الله قائلا: "... يا ألله!! انصر عبدك قطز".. وما هي إلا ساعة حتى مالت كفة النصر إلى المسلمين، وانتهى الأمر بهزيمة مدوية للمغول لأول مرة منذ جنكيز خان.. ثم نزل السلطان عن جواده، ومرغ وجهه على أرض المعركة وقبلها، وصلى ركعتين شكرًا لله.
نتائج المعركة
كانت معركة عين جالوت واحدة من أكثر المعارك حسمًا في التاريخ، أنقذت العالم الإسلامي من خطر داهم لم يواجه بمثله من قبل، وأنقذت حضارته من الضياع والانهيار، وحمت العالم الأوروبي أيضًا من شر لم يكن لأحد من ملوك أوروبا وقتئذ أن يدفعه.
وكان هذا النصر إيذانًا بخلاص الشام من أيدي المغول؛ إذ أسرع ولاة المغول في الشام بالهرب، فدخل قطز دمشق على رأس جيوشه الظافرة في (27 من رمضان 658 هـ)، وبدأ في إعادة الأمن إلى نصابه في جميع المدن الشامية، وترتيب أحوالها، وتعيين ولاة لها، وأثبتت هذه المعركة أن الأمن المصري يبدأ من بلاد الشام عامة، وفي فلسطين خاصة، وهو أمر أثبتته التجارب التاريخية التي مرت على المنطقة طوال تاريخها، وكانت النتيجة النهائية لهذه المعركة هي توحيد مصر وبلاد الشام تحت حكم سلطان المماليك على مدى ما يزيد عن نحو مائتين وسبعين سنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من مصادر الدراسة:
المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك- تحقيق محمد مصطفى زيادة- طبعة مصورة عن طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة- بدون تاريخ.
ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة- الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر- القاهرة- 1968م.
عبد السلام عبد العزيز فهمي: تاريخ الدولة المغولية في إيران- دار المعارف- القاهرة- 1981م.
أحمد مختار العبادي: قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام- دار النهضة العربية- بيروت- 1969م.
قاسم عبده قاسم: عصر سلاطين المماليك- عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية القاهرة- 1998م.

عبدالغفور الخطيب
29-10-2005, 01:24 AM
تبوك.. الرسول صلى الله عليه وسلم ، مقاطعًا

(في ذكرى عودة النبي من تبوك: 26 رمضان 9 هـ)







في ظل الظروف التي تعيشها أمتنا العربية والإسلامية بدأ طرح المقاطعة يأخذ أبعادًا مختلفة، فلم يعد مفهوم المقاطعة مقصورًا على المقاطعة الاقتصادية فحسب، إنما تعداه إلى الجوانب الثقافية والاجتماعية... وهذا الموضوع الذي بين أيدينا يطرح جانبًا مهمًّا من جوانب المقاطعة، وهو المقاطعة الهَجْرية، وذلك من خلال وقائع غزوة تبوك.

وتبدأ وقائع غزوة تبوك عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتجهز والخروج إلى الروم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا أظهر أنه يريد غيرها، إلا غزوة تبوك فإنه قال: "أيها الناس إني أريد الروم".

وكانت هناك عقبات في طريق الخروج إلى الغزوة تتمثل في:

1- الجهد والمشقة لإتمام التمويل اللازم لتجهيز الجيش، وقد انتدب الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين للتبرع لتجهيز الجيش وحضهم على ذلك، وتسابق المسلمون في الجهاد بأموالهم، فها هو أبو بكر الصديق يأتي بكل ماله، وعمر بن الخطاب يأتي بنصف ماله، وتبارى القوم في التبرع في صورة تُظهر ما في قلوبهم من إيمان راسخ ونفوس سخية، ولم ينفق أحد أعظم نفقة من ذي النورين عثمان بن عفان الذي جهز ثلث الجيش وحده، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" قالها مرارًا.

2- الحر الشديد حيث الصحراء اللاهبة والشمس المحرقة وقلة الماء؛ وهو ما يؤدي إلى عسر المسير ومشقة الرحيل، حيث يصور لنا القرآن هذا الأمر: {وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا}.

3- ثمارهم قد أينعت وحان وقت قطافها.

4- طول المسافة، حيث تبلغ المسافة من المدينة -عاصمة الإسلام آنذاك- إلى تبوك على تخوم الروم أكثر من تسعمائة كيلومتر، والرحلة تستغرق شهرًا ذهابًا وإيابًا.

5- شدة بأس العدو، فالعدو هو الروم إحدى القوتين العظميين في العالم آنذاك، وإحدى طبقي الرحى التي تطبق على العالم احتلالاً واستغلالاً؛ فأعدادهم عظيمة، وأسلحتهم كثيرة، وجيوشهم جرارة.

ومع هذه العقبات سارع المسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز والخروج والتبرع بأموالهم لسد العجز في التمويل؛ إيمانًا منهم بقدسية الغاية وربانية الهدف.

ولطول المسافة تحتم أن يكون الجيش من الفرسان وراكبي الإبل، وبعد التجهز خرج الرسول صلى الله عليه وسلم يقود جيشًا قوامه أكثر من 30 ألفًا من المسلمين ما بين 10 آلاف فارس وبقية الجيش يتعاقب كل ثلاثة على بعير واحد.

وعانى الصف الإسلامي قبل الخروج من إرجاف المنافقين ومحاولتهم الدنيئة تثبيط همة المسلمين وشق صفهم وبذر الوهن في قلوبهم، ولكن هيهات أن يتحقق ذلك في صف ارتبط بخالقه وارتضى برسوله وآمن بعقيدته؛ ففشِلت كل محاولات الطابور الخامس -أهل النفاق والزيغ- وكانت الغزوة فرصة عظيمة لتميز الأمة في مبادئها ولتمايزها في صفها، فأصبح المجتمع كالآتي:

1- أهل السبق والإيمان من المهاجرين والأنصار الذين تباروا في الخروج للغزو والتبرع لتجهيز إخوانهم الذين لا يملكون النفقة.

2- أهل الإيمان الذين قصرت بهم النفقة لفقرهم فلم يستطيعوا الخروج وهم البكاؤون "... الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ".

3- أهل إيمان، ولكن أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخلفوا عن الخروج من غير شك ولا ارتياب منهم.

4- المنافقون أهل الزيغ والضلال الذين تعاونوا مع العدو وتجسسوا على أهل الإيمان، وقد رجع أكثرهم من الغزو واعتذر بعضهم عن الخروج مخافة الفتنة كما زعم. وخروج البعض منهم محاولين استغلال الفرص لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم.

الطريق إلى تبوك
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وبدأ التحرك بالجيش الإسلامي نحو تبوك يوم الخميس قبل منتصف شهر رجب سنة 9هـ حيث وصل إلى تبوك في شعبان سنة 9هـ وأقام فيها مدة عشرين يومًا ولم يلاق حشود الروم الذين جبنوا عن التقدم للقاء الجيش الإسلامي.

فظل الرسول صلى الله عليه وسلم مدة إقامته يعقد معاهدات مع أمراء المناطق وقبائلها، وأرسل سرية بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى دومة الجندل فأسرت أكيدر ملك دومة الجندل وقدم به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليعاهده.

وحققت الغزوة أهدافها سواء من تحدي الروم وإظهار جبنهم وإثارة الرعب في القبائل النصرانية التي تساعد الروم، ثم -وهو الأهم- إعلان ظهور دولة الإسلام كدولة قوية تستطيع تحدي الروم ومهاجمة أراضيهم.

عاد الرسول صلى الله عليه وسلم بالجيش الإسلامي قافلاً نحو المدينة حيث وصلها في شهر رمضان سنة 9هـ.

تحقيق وحساب للمخلفين
وهنا حان وقت التحقيق والحساب مع الذين تخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كما يحكيها أحد المخلفين، وهو كعب بن مالك رضي الله عنه "...غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حيث طابت الثمار والظلال وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئًا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه. فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئًا؛ فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئًا. ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئًا. فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو(فات وقته وتقدم)، وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم- فطفت فيهم - أحزنني أنني لا أرى إلا رجلاً مغموصًا (محتقرا) عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء...

فلما بلغني أنه توجه قافلاً حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدًا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل لي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادمًا زاح عني الباطل وعرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدًا فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمًا وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، فجئت فلما سلمت، تبسم تبسم المغضب ثم قال: "تعال" فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قلت بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أُعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه أني لأرجو فيه عقبى الله، لا والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. وثار رجال من بني سلمة.. ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي.

ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم، رجلان، قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا، فيهما أسوة. فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها(نحن) الثلاثة من بين من تخلف عنه".

المقاطعة.. مطلب شرعي

وحين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بمقاطعة الثلاثة الذين صدقوا حديثهم، وعدم الكلام معهم، بدأت قصة تربيتهم وصقلهم وفرض العزل الاجتماعي عليهم، فالمقاطعة التربوية التي وقعت على هؤلاء الثلاثة: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية لها منافع عظيمة وجسيمة في تربية المجتمع الإسلامي على الاستقامة وقوة الإرادة والوفاء الثابت ولمنع أفراد هذا المجتمع من التورط في المخالفات سواء كان ذلك بترك شيء من الواجبات، أو فعل شيء من المحرمات، أو كان بالتسويف في الأمر إلى حد التفريط، حيث يتوقع الذي يفعل ذلك أنه سيكون مهجورًا من جميع أفراد المجتمع؛ فلا يفكر في الفعل المخالف لأوامر القيادة قط.

فالمقاطعة التربوية هنا نوع من الهجر الديني الذي هو مطلب شرعي يثاب فاعله، وهو غير الهجر الدنيوي فهو مكروه، وإذا زاد عن ثلاثة أيام فإنه يكون محرمًا. ويحدثنا كعب بن مالك عن الآلام النفسية المبرحة التي عاناها وصاحبيه نتيجة المقاطعة التربوية التي فرضها الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم وبلغت من المدة خمسين يومًا فيقول: "... فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أَشبّ القوم وأجلدهم فكنت أخرج. فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة مع المسلمين فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك علي من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي. فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت. فعدت فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني دفع إلي كتابًا من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال لا بل اعتزلها لا تقربنها. أرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي: ألحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر".

المقاطعة.. ابتلاء وتمحيص

تمت المقاطعة التربوية لهؤلاء الثلاثة ابتلاء للصف الإسلامي ليثبت مدى استجابته للأمر والتحامه مع قيادته ومفاصله الثلاثة في أروع ما يحمل التاريخ من صور الاستجابة لدرجة أن أبا قتادة وهو ابن عم كعب وصديقه وأحب الناس إليه لا يرد عليه السلام ولا يبادله الكلام، كأننا نلحظ صراعا نفسيا داخل أبي قتادة بين قربه وحبه لكعب وصلته الإنسانية به وبين التزامه بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما ينتصر الالتزام الديني على الصلة والصداقة فلا يرد عليه سلام.

وأعظم ما في هذه المفاضلة الأمر الأخير لزوجاتهم بالمقاطعة فتسرع الزوجات بالاستجابة في علو إيمان وشدة التزام تهزم صلة الزوجية والرابطة القوية بينهم، وقد نجحت الخطة، وتحققت المقاطعة الكاملة لهم في صورة غير مسبوقة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، وقد عاش المجتمع الإسلامي مأساة إخوته الثلاثة في أشد ما يكون يقظة والتزامًا وألمًا وتأثرًا، ولك أن تتخيل أثر المقاطعة النفسي على الثلاثة الذين خلفوا وعلى المجتمع حولهم بما فيه من صلات قربى وصداقة ومودة، خاصة أن المقاطعة كانت في رمضان شهر زيادة الصلة والرابطة بين المسلمين، ويمر عليهم عيد الفطر مناسبة الود والتزاور بينهم. والمقاطعة التي تأبى على المسلمين أن يذكروا اسم كعب للنبطي، بل يكتفون بالإشارة إليه عن سؤالهم عنه؛ مما يعطينا صورة واضحة عن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي ومتانة بنائها وصفاء عناصرها ونصاعة تصورها لمعنى الجماعة ولتكاليف الدعوة ولقيمة الأوامر الصادرة ولضرورة الطاعة؛ حتى إن التوبة لما نزلت ما تمالك صارخ أن يصرخ من الفجر بأعلى صوته على قمة الجبل مبشرًا كعب، فأروع ما في الأمر تمام الانضباط مع تمام العاطفة.

وظل المخلفون يحفهم هذا الجو المكروب بالكربة واليأس والضيق لا مخرج منه إلا بالالتجاء إلى الله مفرج الكروب ثم يجيء الفرج بعد خمسين يومًا من الضيق فينزل الوحي بآيات بينات: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم" [التوبة: 118].

كيف تلقى المخلفون الثلاثة أمر نزول توبتهم؟

يحكي كعب بن مالك عن ذلك فيقول: "... فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا، قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرج وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، وذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسًا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني سمعت صوته يبشرني، نزعت ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه والله! ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنئوني بالتوبة".

إن توبة كعب وصاحبيه وما حملت في آفاقها من معاني السمو والاعتراف بالخطأ -الذي هو من أعظم الشجاعة- وتعاليهم عن الدنيا التي تتراقص لهم بدعوة ملك غسان لكعب، بل الصبر على عقوبة الله تعالى -علامة على الوفاء منهم لدعوتهم ووفاء لا يعدو عليه تلون ولا غدر- والصبر هنا ليس يومًا أو يومين، بل خمسين ليلة على هذا الحال، منها عشر ليال بمقاطعة زوجاتهم لهم إلى أن جاءهم الفرج.

ضوابط المقاطعة التربوية

فإذا علمنا أن المخلفين الثلاثة من الطبقة الثالثة في المجتمع؛ حيث يسبقهم:

أ- السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.

ب- البكاؤون الذين لا يجدون ما يحملهم.

فإذا كان هذا هو مستوى الطبقة الثالثة في الصدق والولاء لله ولرسوله والالتزام في تنفيذ أشد العقوبات عليهم واستعدادهم لطلاق زوجاتهم أدركنا ذلك المستوى الإيماني التربوي الرفيع للمجتمع المسلم آنذاك.

وقد خرج المخلفون من محنتهم أقوى إيمانًا وأصفى روحًا وأكرم أخلاقًا، وصفة أخرى في المخلفين أثناء محنتهم أن الله حاضر في ضمائرهم مع خطئهم، ومراقبة الله أقوى، وتقوى الله أعمق، والرجاء في الله أوثق.

مع وجوب ملاحظة أن تطبيق هذه المقاطعة التربوية، وهذا الهجر التقويمي يجب أن يكون مع:

1- مجتمع قوي مترابط راسخ الإيمان شديد الانضباط.

2- أفراد مؤمنين ملتزمين يؤمن عليهم من الوقوع في الفتنة.

3- قيادة حكيمة في أسلوبها بصيرة بهدفها حازمة في تطبيق قراراتها.

وتمضي قصة المخلفين عبرة للمجتمع الإسلامي عبر الزمان والمكان تحكي أسلوبًا من أساليب الإسلام -هو المقاطعة التربوية- تجاه الأخطاء التي تقع؛ فتقوِّم المعوج، وتصحح للمخطئ، فنتعلم منها كيف نتربى ونربي.

عبدالغفور الخطيب
31-10-2005, 12:58 AM
شذونة.. الطريق إلى الأندلس

(في ذكرى نشوبها: 28 من رمضان 92 هـ)





انتصار المسلمين في معاركهم نتاج إيمانهم واتقانهم

أتم المسلمون فتح بلاد المغرب، واستقرت الأوضاع بها بعد جهاد طويل من قبل الفاتحين، حتى كتب الله التمكين للمسلمين على يد موسى بن نصير، وأقبل سكان المغرب على الإسلام أفواجًا يذوقون حلاوته وينعمون بعدله، ولم يبق من شمال المغرب سوى "سبتة" التي استطاعت لمناعتها ويقظة حاكمها الكونت يوليان أن تقف أمام طموحات الفاتحين المسلمين.

وفي الوقت الذي كان يفكر فيه موسى بن نصير بمد الفتح إلى الأندلس وعبور المضيق إليها جاءته رسالة من الكونت يوليان يعرض فيها تسليم سبتة، ويغريه بفتح إسبانيا ويهون عليه الأمر، وكانت العلاقة بين يوليان ولذريق ملك إسبانيا سيئة جدا، فعزز ذلك ما كان يستعد من أجله موسى بن نصير، ويشاور الخلافة الأموية في سبيل تحقيقه، ولم يكتف موسى بن نصير بالمراسلة، بل اجتمع هو ويوليان في سفينة في عرض البحر للاتفاق والمفاوضة، وكان يوليان قد عرض على موسى بن نصير تقديم سفنه لنقل المسلمين إلى إسبانيا، ومعاونته بالجند والإرشاد، بالإضافة إلى تسليم سبتة، وباقي معاقلها إلى المسلمين.

وكان العرض مغريًا يدعو إلى الإقدام عليه، لكن موسى بن نصير لم يكن يملك الموافقة النهائية دون الرجوع إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك، فكتب إليه بأمر هذا العرض، فأجابه بأن يتأنى ويتمهل وأن يختبر الأمر بحملة صغيرة توقفه على حقيقة الأمر، قبل أن يخوض أهوال البحر.

حملة طريف

واستجابة لأمر الخليفة بدأ موسى بن نصير في تجهيز حملة صغيرة لعبور البحر إلى إسبانيا، وكان قوامها خمسمائة جندي يقودهم قائد من البربر يدعى "طريف بن مالك"؛ لاستكشاف الأمر واستجلاء أرض الأسبان، وقدم يوليان لهذه الحملة أربع سفن أقلتهم إلى إسبانيا، فعبرت البحر ونزلت هناك في منطقة سميت بجزيرة طريف، نسبة إلى قائد الحملة، وكان ذلك في (رمضان 91هـ= يوليو 710م) وجاست الحملة خلال الجزيرة الخضراء، وغنمت كثيرًا ودرست أحوال إسبانيا، ثم قفلت راجعة إلى المغرب، وقدم قائدها إلى موسى بن نصير نتائج حملته.

حملة طارق

بعد مرور أقل من عام من عودة حملة طريف بن الأندلس كان موسى بن نصير قد استعد للأمر، وحشد جنوده، وجهز سفنه، واختار قائدًا عظيمًا لهذه المهمة الجليلة هو طارق بن زياد والي طنجة، وهو من أصل بربري دخل آباؤه الإسلام فنشأ مسلمًا صالحًا، وتقدمت به مواهبه العسكرية إلى الصدارة، وهيأت له ملكاته أن يكون موضع ثقة الفاتح الكبير موسى بن نصير، فولاه قيادة حملته الجديدة على الأندلس.

خرج طارق بن زياد في سبعة آلاف جندي معظمهم من البربر المسلمين، وعبر مضيق البحر المتوسط إلى إسبانيا، وتجمع الجيش الإسلامي عند جبل صخري عرف فيما بعد باسم جبل طارق في (5 من رجب 92هـ= 27 من إبريل 711م).

سار الجيش الإسلامي مخترقًا المنطقة المجاورة غربًا بمعاونة يوليان وزحف على ولاية الجزيرة الخضراء؛ فاحتل قلاعها، وترامت أنباء هذا الفتح إلى أسماع لذريق، وكان مشغولا بمحاربة بعض الثائرين عليه في الشمال، فترك قتالهم وهرع إلى طليطلة عاصمته، واستعد لمواجهة هذا الخطر الداهم على عرشه، وبعث بأحد قادته لوقف الجيش الإسلامي، لكنه أخفق في مهمته.

وكان طارق بن زياد قد صعد بجيشه شمالا صوب طليطلة، وعسكرت قواته في منطقة واسعة يحدها من الشرق نهر وادي لكة، ومن الغرب نهر وادي البارباتي، وفي الوقت نفسه أكمل لذريق استعداداته، وجمع جيشًا هائلا بلغ مائة ألف، وأحسن تسليحه، وسار إلى الجنوب للقاء المسلمين، وهو واثق إلى النصر مطمئن إلى عدده وعتاده، ولما وقف طارق على خبر هذا الجيش كتب إلى موسى نصير يخبره بالأمر، ويطلب منه المدد؛ فوافاه على عجل بخمسة آلاف مقاتل من خيرة الرجال، فبلغ المسلمون بذلك اثني عشر ألفًا.

اللقاء المرتقب

وكان لا بد من الصدام، فالتقى الفريقان جنوبي بحيرة خندة المتصلة بنهر بارباتي الذي يصب في المحيط الأطلسي بالقرب من مدينة "شذونة"، وكان لقاء عاصفًا ابتدأ في (28 من رمضان 92هـ= 18 من يوليو 711م) وظل مشتعلا ثمانية أيام، أبلى المسلمون خلالها بلاء حسنًا، وثبتوا في أرض المعركة كالجبال الراسيات، ولم ترهبهم القوى النصرانية، ولا حشودهم الضخمة، واستعاضوا عن قلة عددهم ـ إذا ما قورنوا بضخامة جيش عدوهم ـ بحسن الإعداد والتنظيم، وبراعة الخطط والتنفيذ، وبشجاعة الأفئدة والقلوب، وبقوة الإيمان واليقين، والرغبة في الموت والشهادة.

نجح المسلمون في الصمود والثبات ثمانية أيام عصبية، حتى مالت كفة النصر إلى صالحهم، وتحول جيش لذريق العرمرم إلى غثاء كغثاء السيل، لا خير فيه ولا غناء، فقد كان على ضخامته متفرق الكلمة موزع الأهواء، تمزق صفوفه الخيانة؛ ولذلك لم يكن عجيبا أن يحقق المسلمون النصر على ضآلة عددهم؛ لأنهم التمسوا أسباب النصر وعوامل الفوز، فتحقق لهم في اليوم الثامن بعد جهاد شاق، وفر لذريق آخر ملوك القوط عقب الموقعة، ولم يُعثر له على أثر، ويبدو أنه فقد حياته في المعركة التي فقد فيها ملكه، أو مات غريقًا في أحد الأنهار عند فراره.

نتائج النصر



بعد هذا النصر تعقب طارق فلول الجيش المنهزم الذي لاذ بالفرار، وسار الجيش فاتحا بقية البلاد، ولم يلق مقاومة عنيفة في مسيرته نحو الشمال، وفي الطريق إلى طليطة بعث طارق بحملات صغيرة لفتح المدن، فأرسل مغيثًا الرومي إلى قرطبة في سبعمائة فارس، فاقتحم أسوارها الحصينة واستولى عليها دون مشقة، وأرسل حملات أخرى إلى غرناطة والبيرة ومالقة، فتمكنت من فتحها.

وسار طارق في بقية الجيش إلى طليطلة مخترقًا هضاب الأندلس، وكانت تبعد عن ميدان المعركة بما يزيد عن ستمائة كيلومتر، فلما وصلها كان أهلها من القوط قد فروا منها نحو الشمال بأموالهم، ولم يبق سوى قليل من السكان، فاستولى طارق عليها، وأبقى على من ظل بها من أهلها وترك لأهلها كنائسهم، وجعل لأحبارهم ورهبانهم حرية إقامة شعائرهم، وتابع طارق زحفه شمالا فاخترق قشتالة ثم ليون، وواصل سيره حتى أشرف على ثغر خيخون الواقع على خليج بسكونية، ولما عاد إلى طليطلة تلقى أوامر من موسى بن نصير بوقف الفتح حتى يأتي إليه بقوات كبيرة ليكمل معه الفتح.

عبور ابن نصير إلى الأندلس

كان موسى بن نصير يتابع سير الجيش الإسلامي في الأندلس، حتى إذا أدرك أنه في حاجة إلى مدد بعد أن استشهد منه في المعارك ما يقرب من نصفه، ألزم طارقًا بالتوقف؛ حرصًا على المسلمين من مغبة التوغل في أراض مجهولة، وحتى لا يكون بعيدًا عن مراكز الإمداد في المغرب، ثم عبر هو في عشرة آلاف من العرب وثمانية آلاف من البربر إلى الجزيرة الخضراء في (رمضان 93هـ= يونيه 712م)، وسار بجنوده في غير الطريق الذي سلكه طارق، ليكون له شرف فتح بلاد جديدة، فاستولى على شذونة، ثم اتجه إلى قرمونة وهي يومئذ من أمنع معاقل الأندلس ففتحها، ثم قصد إشبيلية وماردة فسقطتا في يده، واتجه بعد ذلك على مدينة طليطلة حيث التقي بطارق بن زياد في سنة (94هـ= 713م).

وبعد أن استراح القائدان قليلا في طليطلة عاودا الفتح مرة ثانية، وزحفا نحو الشمال الشرقي، واخترقا ولاية أراجون، وافتتحا سرقطة وطركونة وبرشلونة وغيرها من المدن، ثم افترق الفاتحان، فسار طارق ناحية الغرب، واتجه موسى شمالا، وبينما هما على هذا الحال من الفتح والتوغل، وصلتهما رسالة من الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي، يطلب عودتهما إلى دمشق، فتوقف الفتح عند النقطة التي انتهيا إليها، وعاد الفاتحان إلى دمشق، تاركين المسلمين في الأندلس تحت قيادة عبد العزيز بن موسى بن نصير، الذي شارك أيضا في الفتح، بضم منطقة الساحل الواقعة بين مالقة وبلنسبة، وأخمد الثورة في إشبيلية وباجة، وأبدى في معاملة البلاد المفتوحة كثيرًا من الرفق والتسامح.

وبدأت الأندلس منذ أن افتتحها طارق تاريخها الإسلامي، وأخذت في التحول إلى الدين الإسلامي واللغة العربية، وظلت وطنا للمسلمين طيلة ثمانية قرون، كانت خلالها مشعلا للحضارة ومركزًا للعلم والثقافة، حتى سقطت غرناطة آخر معاقلها في يدي الإسبان المسيحيين سنة (897هـ = 1492م).
ــــــــــــــــــــــــــــ
من مصادر الدراسة:

ابن الأثير: الكامل في التاريخ- دار صادر- بيروت- (1399هـ= 1979م).

المقري: نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب- تحقيق إحسان عباس- دار صادر- بيروت- 1968م.

محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس- مكتبة الخانجي- القاهرة- (1408 هـ= 1988م).

حسين مؤنس: فجر الأندلس- الدار السعودية للنشر والتوزيع- جدة- الطبعة الثانية (مصورة عن الطبعة الأولى بالقاهرة)- (1405هـ= 1985م).

عبد الفتاح مقلد: كيف ضاع الإسلام من الأندلس- القاهرة- (1413هـ= 1993م).

عبدالغفور الخطيب
02-11-2005, 12:45 AM
البخاري.. رحلة مع الخلود

(في ذكرى وفاته: 30 رمضان 256هـ)



نهض بالحديث النبوي دراية ورواية رجال نابهون من العرب أو من أصول غير عربية، لكن الإسلام رفع أصلهم، وأعلى العلم ذكرهم، وبوأهم ما يستحقون من منزلة وتقدير؛ فهم شيوخ الحديث وأئمة الهدى، ومراجع الناس فيما يستفتون.

وكان الإمام البخاري واحدًا من هؤلاء، انتهت إليه رئاسة الحديث في عصره، وبلغ تصنيف الحديث القمة على يديه، ورُزِق كتابه الجامع الصحيح إجماع الأمة بأنه أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، واحتل مكانته في القلوب؛ فكان العلماء يقرءونه في المساجد كما تتلى المصاحف، وأوتي مؤلفه من نباهة الصيت مثلما أوتي أصحاب المذاهب الأربعة، وكبار القادة والفاتحين.

المولد والنشأة

في مدينة "بخارى" وُلد "محمد بن إسماعيل البخاري" بعد صلاة الجمعة في (13 من شوال 194هـ = 4 من أغسطس 810م)، وكانت بخارى آنذاك مركزًا من مراكز العلم تمتلئ بحلقات المحدِّثين والفقهاء، واستقبل حياته في وسط أسرة كريمة ذات دين ومال؛ فكان أبوه عالمًا محدِّثًا، عُرِف بين الناس بحسن الخلق وسعة العلم، وكانت أمه امرأة صالحة، لا تقل ورعًا وصلاحًا عن أبيه.

والبخاري ليس من أرومة عربية، بل كان فارسيَّ الأصل، وأول من أسلم من أجداده هو "المغيرة بن برد زبة"، وكان إسلامه على يد "اليمان الجعفي" والي بخارى؛ فنُسب إلى قبيلته، وانتمى إليها بالولاء، وأصبح "الجعفي" نسبًا له ولأسرته من بعده.

نشأ البخاري يتيمًا؛ فقد تُوفِّيَ أبوه مبكرًا، فلم يهنأ بمولوده الصغير، لكن زوجته تعهدت وليدها بالرعاية والتعليم، تدفعه إلى العلم وتحببه فيه، وتزين له الطاعات؛ فشب مستقيم النفس، عفَّ اللسان، كريم الخلق، مقبلا على الطاعة، وما كاد يتم حفظ القرآن حتى بدأ يتردد على حلقات المحدثين.

وفي هذه السنِّ المبكرة مالت نفسه إلى الحديث، ووجد حلاوته في قلبه؛ فأقبل عليه محبًا، حتى إنه ليقول عن هذه الفترة: "ألهمت حفظ الحديث وأنا في المكتب (الكُتّاب)، ولي عشر سنوات أو أقل". كانت حافظته قوية، وذاكرته لاقطة لا تُضيّع شيئًا مما يُسمع أو يُقرأ، وما كاد يبلغ السادسة عشرة من عمره حتى حفظ كتب ابن المبارك، ووكيع، وغيرها من كتب الأئمة المحدثين.

الرحلة في طلب الحديث

ثم بدأت مرحلة جديدة في حياة البخاري؛ فشدَّ الرحال إلى طلب العلم، وخرج إلى الحج وفي صحبته أمه وأخوه حتى إذا أدوا جميعًا مناسك الحج؛ تخلف البخاري لطلب الحديث والأخذ عن الشيوخ، ورجعت أمه وأخوه إلى بخارى، وكان البخاري آنذاك شابًّا صغيرًا في السادسة عشرة من عمره.

وآثر البخاري أن يجعل من الحرمين الشريفين طليعة لرحلاته؛ فظل بهما ستة أعوام ينهل من شيوخهما، ثم انطلق بعدها ينتقل بين حواضر العالم الإسلامي؛ يجالس العلماء ويحاور المحدِّثين، ويجمع الحديث، ويعقد مجالس للتحديث، ويتكبد مشاق السفر والانتقال، ولم يترك حاضرة من حواضر العلم إلا نزل بها وروى عن شيوخها، وربما حل بها مرات عديدة، يغادرها ثم يعود إليها مرة أخرى؛ فنزل في مكة والمدينة وبغداد وواسط والبصرة والكوفة، ودمشق وقيسارية وعسقلان، وخراسان ونيسابور ومرو، وهراة ومصر وغيرها…

ويقول البخاري عن ترحاله: "دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة مرتين، وإلى البصرة أربع مرات، وأقمت بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد".

شيوخه

ولذلك لم يكن غريبًا أن يزيد عدد شيوخه عن ألف شيخ من الثقات الأعلام، ويعبر البخاري عن ذلك بقوله: "كتبت عن ألف ثقة من العلماء وزيادة، وليس عندي حديث لا أذكر إسناده". ويحدد عدد شيوخه فيقول: "كتبت عن ألف وثمانين نفسًا ليس فيهم إلا صاحب حديث".

ولم يكن البخاري يروي كل ما يأخذه أو يسمعه من الشيوخ، بل كان يتحرى ويدقق فيما يأخذ، ومن شيوخه المعروفين الذين روى عنهم: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، وقتيبة بن سعيد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو حاتم الرازي.

العودة إلى الوطن

وبعد رحلة طويلة شاقة لقي فيها الشيوخ ووضع مؤلفاته العظيمة، رجع إلى نيسابور للإقامة بها، لكن غِيْرَة بعض العلماء ضاقت بأن يكون البخاري محل تقدير وإجلال من الناس؛ فسعوا به إلى والي المدينة، ولصقوا به تهمًا مختلفة؛ فاضطر البخاري إلى أن يغادر نيسابور إلى مسقط رأسه في بخارى، وهناك استقبله أهلها استقبال الفاتحين؛ فنُصبت له القباب على مشارف المدينة، ونُثرت عليه الدراهم والدنانير.

ولم يكد يستقر ببخارى حتى طلب منه أميرها "خالد بن أحمد الدهلي" أن يأتي إليه ليُسمعه الحديث؛ فقال البخاري لرسول الأمير: "قل له إنني لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانت له حاجة إلى شيء فليحضرني في مسجدي أو في داري، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان، فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة أني لا أكتم العلم".

لكن الحاكم المغرور لم يعجبه رد البخاري، وحملته عزته الآثمة على التحريض على الإمام الجليل، وأغرى به بعض السفهاء ليتكلموا في حقه، ويثيروا عليه الناس، ثم أمر بنفيه من المدينة؛ فخرج من بخارى إلى "خرتنك"، وهي من قرى سمرقند، وظل بها حتى تُوفِّيَ فيها، وهي الآن قرية تعرف بقرية "خواجة صاحب".

مؤلفاته

تهيأت أسباب كثيرة لأن يكثر البخاري من التأليف؛ فقد منحه الله ذكاءً حادًّا، وذاكرة قوية، وصبرًا على العلم ومثابرة في تحصيله، ومعرفة واسعة بالحديث النبوي وأحوال رجاله من عدل وتجريح، وخبرة تامة بالأسانيد؛ صحيحها وفاسدها. أضف إلى ذلك أنه بدأ التأليف مبكرًا؛ فيذكر البخاري أنه بدأ التأليف وهو لا يزال يافع السن في الثامنة عشرة من عمره، وقد صنَّف البخاري ما يزيد عن عشرين مصنفًا، منها:

الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسننه وأيامه، المعروف بـ الجامع الصحيح.

الأدب المفرد: وطُبع في الهند والأستانة والقاهرة طبعات متعددة.

التاريخ الكبير: وهو كتاب كبير في التراجم، رتب فيه أسماء رواة الحديث على حروف المعجم، وقد طبع في الهند سنة (1362هـ = 1943م).

التاريخ الصغير: وهو تاريخ مختصر للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ومن جاء بعدهم من الرواة إلى سنة (256هـ = 870م)، وطبع الكتاب لأول مرة بالهند سنة (1325هـ = 1907م).

خلق أفعال العباد: وطبع بالهند سنة (1306هـ = 1888م).

رفع اليدين في الصلاة: وطبع في الهند لأول مرة سنة (1256هـ = 1840م) مع ترجمة له بالأوردية.

الكُنى: وطبع بالهند سنة (1360هـ = 1941م).

وله كتب مخطوطة لم تُطبع بعد، مثل: التاريخ الأوسط، والتفسير الكبير.

صحيح البخاري

هو أشهر كتب البخاري، بل هو أشهر كتب الحديث النبوي قاطبة. بذل فيه صاحبه جهدًا خارقًا، وانتقل في تأليفه وجمعه وترتيبه وتبويبه ستة عشر عامًا، هي مدة رحلته الشاقة في طلب الحديث. ويذكر البخاري السبب الذي جعله ينهض إلى هذا العمل، فيقول: كنت عند إسحاق ابن راهويه، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع "الجامع الصحيح".

وعدد أحاديث الكتاب 7275 حديثًا، اختارها من بين ستمائة ألف حديث كانت تحت يديه؛ لأنه كان مدقِّقًا في قبول الرواية، واشترط شروطًا خاصة في رواية راوي الحديث، وهي أن يكون معاصرًا لمن يروي عنه، وأن يسمع الحديث منه، أي أنه اشترط الرؤية والسماع معًا، هذا إلى جانب الثقة والعدالة والضبط والإتقان والعلم والورع.

وكان البخاري لا يضع حديثًا في كتابه إلا اغتسل قبل ذلك وصلى ركعتين، وابتدأ البخاري تأليف كتابه في المسجد الحرام والمسجد النبوي، ولم يتعجل إخراجه للناس بعد أن فرغ منه، ولكن عاود النظر فيه مرة بعد أخرى، وتعهده بالمراجعة والتنقيح؛ ولذلك صنفه ثلاث مرات حتى خرج على الصورة التي عليها الآن.

وقد استحسن شيوخ البخاري وأقرانه من المحدِّثين كتابه، بعد أن عرضه عليهم، وكان منهم جهابذة الحديث، مثل: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين؛ فشهدوا له بصحة ما فيه من الحديث، ثم تلقته الأمة بعدهم بالقبول باعتباره أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى.

وقد أقبل العلماء على كتاب الجامع الصحيح بالشرح والتعليق والدراسة، بل امتدت العناية به إلى العلماء من غير المسلمين؛ حيث دُرس وتُرجم، وكُتبت حوله عشرات الكتب.

ومن أشهر شروح صحيح البخاري:

"أعلام السنن" للإمام أبي سليمان الخطابي، المُتوفَّى سنة (388هـ)، ولعله أول شروح البخاري.

"الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" لشمس الدين الكرماني، المتوفَّى سنة (786هـ = 1348م).

"فتح الباري في شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر، المتوفَّى سنة (852هـ = 1448م).

"عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني سنة (855هـ = 1451م).

"إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري" للقسطلاني، المتوفَّى (923هـ= 1517م).

وفاة البخاري

شهد العلماء والمعاصرون للبخاري بالسبق في الحديث، ولقّبوه بأمير المؤمنين في الحديث، وهي أعظم درجة ينالها عالم في الحديث النبوي، وأثنوا عليه ثناءً عاطرًا..

فيقول عنه ابن خزيمة: "ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل البخاري".

وقال قتيبة بن سعيد: "جالست الفقهاء والعباد والزهاد؛ فما رأيت -منذ عقلت- مثل محمد بن إسماعيل، وهو في زمانه كعمر في الصحابة".

وقبَّله تلميذه النجيب "مسلم بن الحجاج" -صاحب صحيح مسلم- بين عينيه، وقال له: "دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذِين، وسيد المحدِّثين، وطبيب الحديث في علله".

وعلى الرغم من مكانة البخاري وعِظَم قدره في الحديث فإن ذلك لم يشفع له عند والي بخارى؛ فأساء إليه، ونفاه إلى "خرتنك"؛ فظل بها صابرًا على البلاء، بعيدًا عن وطنه، حتى لقي الله في (30 رمضان 256هـ = 31 أغسطس 869م)، ليلة عيد الفطر المبارك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مصادر الدراسة:

الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد- مكتبة الخانجي- القاهرة (1349هـ= 1931م).

السبكي: طبقات الشافعية الكبرى- دار هجر- القاهرة (1413هـ= 1992م).

ابن حجر العسقلاني: فتح الباري في شرح صحيح البخاري (المقدمة)- دار الريان للتراث- القاهرة (1409هـ = 1988م).

يوسف الكتاني: الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث- مطبوعات مجلة الأزهر- القاهرة (1418هـ).

عبدالغفور الخطيب
05-11-2005, 01:42 AM
"المتوكل على الله"..

(في ذكرى وفاته: 3 من شوال 247هـ)




يُعَدُّ عهد الخليفة "المتوكل" هو بداية عصر ضعف الدولة العباسية وانحلالها، والذي انتهى بسقوطها على أيدي "التتار" سنة (656هـ = 1258م).

وكان من أهم أسباب ضعف الدولة العباسية اعتماد العباسيين على العناصر الأجنبية في النواحي العسكرية والإدارية في الدولة، وهو ما قوّى شوكتهم ونفوذهم في بلاد الخلافة على حساب العرب الذين ضعفت عصبيتهم، وتدنَّت منزلتهم في الدولة، ولم يَعُد لهم مكان في المناصب العليا فيها.

وقد أدى استبداد تلك العناصر بالحكم إلى إثارة حفيظة العرب عليهم، واشتعال نار الحقد والعداوة في نفوسهم؛ وهو ما أجَّج الصراع والعداء بينهم. وكثرت الفتن والصراعات في المجتمع، وظهر العديد من الفرق والمذاهب التي ساهمت في بثِّ الفرقة والانقسام بين المسلمين وتفتيت وحدة الأمة وتعريضها للخطر؛ فظهر الملاحدة والزنادقة كالخرمية والراوندية، كما ظهرت طوائف المتكلمين كالمعتزلة وغيرهم.

وضع "المتوكل" في خلافة أخيه

وُلِد "أبو الفضل المتوكل على الله جعفر بن المعتصم" بـ"فم الصلح" -على نهر دجلة– في (شوال 206هـ = مارس 822م) لأم خوارزمية الأصل اسمها "شجاع"، وكان له أخوان هما "محمد" و"الواثق" الذي تولى الخلافة بعد وفاة أبيه "المعتصم".


ولم يكن "المتوكل" يحظى بثقة أخيه الخليفة "الواثق" حتى إنه وكَّل به رجلين من حاشيته يراقبانه ويسجلان له أخباره في كل حين، وقد جرَّأ هذا المسلك عليه رجال الدولة، فكانوا يعاملونه بجفاء، وكانوا يتعنتون معه في صرف أرزاقه التي كانت تجرى له كغيره من أبناء بيت الخلافة.

الخليفة "الواثق" وولاية العهد

وحينما مرض "الواثق" مرضه الأخير سأل رجال الدولة أن يوصي بالخلافة، وزين له بعضهم أن يعهد بها لابنه "محمد" الذي كان صبيًّا صغيرًا لا يصلح للخلافة، ولكن الواثق أبى أن يوصي بها لأحد، ورأى أن يجعل ذلك الأمر لاختيار أهل الشورى من المسلمين من بعده، مقتديًا في ذلك بالفاروق "عمر بن الخطاب"، وقال كلمته الشهيرة: "لا يراني الله أتقلدها حيًّا وميتًا".

وربما كان "الواثق" لا يجد في أبناء البيت العباسي –في ذلك الوقت– من يصلح لتولي خلافة المسلمين، وتحمل تلك التبعة الخطيرة؛ فربأ بنفسه أن يوليها من لا يستحقها وهو في آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة.

الطريق إلى الخلافة

لما تُوفِّي الواثق اجتمع نفر من كبار رجال الدولة، وتشاوروا فيمن يتولى أمور الخلافة، ووقع اختيارهم في البداية على محمد بن الواثق، وكادوا يولونه ويعلنون البيعة له، فلما أجلسوه وألبسوه ثوب الخلافة وجدوا فيه طفلاً صغيرًا لا يصلح للإمامة في الصلاة، فضلاً عن إمامة دولة وقيادة أمة، فرجعوا عن عزمهم، واختاروا "المتوكل" فبايعوه بالخلافة في (24 من ذي الحجة 232هـ = 11 من أغسطس 847م)، وهو اليوم نفسه الذي توفِّي فيه "الواثق".

المتوكل وإحياء السنة

كان "المتوكل" يميل إلى أهل السنة، ويعلي من شأنهم، وينتصر لهم، ويُروى أنه ضرب رجلاً بالسياط؛ لأنه سبَّ "أبا بكر" و"عمر" و"عائشة" و"حفصة". كما عمل على إحياء السنة وإظهارها، ودعا إلى نشرها، واهتم بعلمائها، وهو الذي أطلق الإمام "أحمد بن حنبل" من محبسه، وقضى على المعتزلة، ولقي ذلك تقدير الناس؛ فلقي حبهم، وزادت منزلته في قلوبهم، كما عظَّمه بذلك العلماء، بل وبالغوا في الثناء حتى جعلوه في منزلة "أبي بكر الصديق" و"عمر بن عبد العزيز" فقالوا: "الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في ردة المظالم، والمتوكل في إحياء السنة".

عداء المتوكل للعلويين

إلا أن سياسة الشدة والعنف التي انتهجها المتوكل في معاملة العلويين أثارت ضده حفيظة كثير من المسلمين، خاصة بعدما أمر بهدم قبر "الحسين بن علي" بكربلاء سنة (237هـ = 851م)، وهدم ما حوله من الدور والمنازل، وحوَّل مكانه إلى حديقة كبيرة، ومنع الناس من زيارته، وتوعَّد من يخالفه بالسجن، وناصب العلويين العداء وتعقب أئمتهم بإبعادهم والإساءة إليهم، فأثار ذلك ضده العامة وخاصة من العلويين وأشياعهم.

بين المتوكل ووزرائه

كان أول وزير في عهد الخليفة المتوكل هو "محمد بن عبد الملك الزيات" الذي كان وزيرًا لأخيه وأبيه من قبل، ولكن المتوكل كان ناقمًا على هذا الوزير لسوء معاملته له في حياة أخيه، ولم ينسَ له المتوكل أنه هو الذي رشَّح "محمد بن الواثق" للخلافة بعد وفاة أبيه، وسنحت له الفرصة لتصفية حساباته مع الوزير والانتقام منه في (7 من صفر 233هـ = 22 من سبتمبر 847م)، فقبض عليه وصادر جميع أمواله وممتلكاته، وأنزل به من العذاب والمهانة ما لم تحتمله نفسه وبدنه، حتى مات تحت وطأة العذاب، وهو من هو في المكانة والشهرة وعلو الشأن!!.

ثم استوزر –بعد ذلك– "محمد الفضل الجرجرائي" وكان أديبًا فاضلاً وشاعرًا بليغًا، فاستمر في الوزارة نحو ثلاثة أعوام، حتى غضب عليه المتوكل، واختار من بعده "عبيد الله بن يحيى بن خاقان" وزيرًا له، وكان رجلاً كريمًا حسن الخلق عفيفًا، فأحبته العامة واحترمه الجند، وقد ظلَّ هذا الرجل وزيرًا للمتوكل إلى أن مات.

المتوكل والأتراك

أدرك المتوكل مدى توغل الأتراك في الدولة، وسيطرتهم على جميع المناصب الإدارية والعسكرية، وتدخلهم في أمور الحكم، واستبدادهم بأمور الخلافة وإدارة الجيش، فأراد أن يضعف شوكتهم ويقلل من نفوذهم، ويحجم من سلطانهم الذي يكاد يطغى على سلطان الخليفة وهيبته؛ فاحتال حتى استطاع القبض على "إيتاخ" الذي كان يستأثر بالعديد من المناصب، ويحشد حوله الكثير من الأعوان والأنصار؛ فهو على رأس الجيش والمغاربة والأتراك والموالي والبريد والحجابة... وغيرها، فسجنه هو وابنيه "منصور" و"مظفر" وبعض أعوانه المقربين، ولكنه لم يحتمل وطأة السجن والهوان فتُوفِّي سنة (235هـ = 849م).

الحوادث والاضطرابات في عهد المتوكل

حدثت في عهد المتوكل بعض الحوادث والفتن والاضطرابات التي استطاع إخمادها والقضاء عليها؛ من أشهرها: تمرد "محمد بن البعيث بن حليس" على الخلافة، وتحصنه بمدينة "مرند" في "أذربيجان"، فأرسل المتوكل عدة حملات للقضاء على تمرده والقبض عليه، ولكنها لم تفلح جميعًا حتى أرسل إليه "عمرو بن سيسل بن كال" في عدد من القواد الذين سبقوا إلى الزحف على تلك المدينة، فاستطاعوا أَسْرَه والقضاء على أنصاره، وسيق إلى المتوكل مع مَن تم أَسْرهم من رجاله، فأمر المتوكل بحبسهم جميعًا، ثم أمر بضرب عنق ابن البعيث، ولكنه عفا عنه في اللحظة الأخيرة بعدما سمع حسن استعطافه، ورقة اعتذاره، وتوسله إليه.

كما استطاع أيضًا إخماد حركة التمرد في "أرمينية"، وقضى على الاضطرابات التي قام بها أهلها، بعد أن ثاروا على "يوسف بن محمد" عامل الخليفة عليهم وقتلوه، فبعث المتوكل "بغا الشرابي" إلى "أرمينية"، فقاتلهم حتى انتصر عليهم، وقضى على رؤوس الفتنة والتمرد.

كذلك فقد شهد عهد المتوكل بعض الحوادث والكوارث التي أودت بحياة الكثيرين، فقد وقعت عاصفة شديدة على "بغداد"، و"البصرة"، و"الكوفة"... وغيرها من مدن العراق، فاحترق الزرع، وهلكت الماشية؛ وهو ما أدى إلى حدوث المجاعات، وانتشار الأوبئة، وموت كثير من الناس.

الصراع بين الروم والخلافة العباسية

وقد شجعت الحالة المتردية التي أصابت الدولة في عهد المتوكل الروم على الإغارة على الدولة العباسية، فأغاروا على مصر من جهة دمياط في سنة (238هـ = 852م)، في نحو (300) مركب؛ فدخلوا المدينة، وأفسدوا فيها، وأحرقوا الكثير من الدور والمساجد، وسَبُوا كثيرًا من نساء المسلمين، وسلبوا كل ما استطاعوا الوصول إليه من المغانم.

وفي سنة (242هـ = 856م) أغار الروم على "شمشاط" ونهبوا عدة قرى، وأسروا عددًا كبيرًا من المسلمين. ثم عادوا في سنة (245هـ = 859م) فأغاروا على "سميساط"، وقتلوا وأسروا نحو (500) من المسلمين.

وكان المتوكل يرسل بالصوائف إلى الروم في محاولة للرد على هجماتهم، فيأسرون منهم من يستطيعون أَسْره؛ ليتم بعد ذلك تبادل الأسرى، والفداء بين الفريقين.

مكانة العلماء والأدباء في بلاط المتوكل

وبالرغم من كل ما مرّ بعهد المتوكل من حوادث وفتن واضطرابات، وما ماج به عصره من صراعات ومحن، فقد شهدت الخلافة العباسية في عهد المتوكل –الذي دام نحو خمس عشرة سنة- قدرًا كبيرًا من الرفاهية والأمن والرخاء.

وحظي العلماء والشعراء والأدباء في ظل خلافته بقسط وافر من الرعاية والتكريم؛ فقد كان "المتوكل" محبًّا للعلم والعلماء، شغوفًا بالشعر والأدب، يجزل العطاء للشعراء ويشجع الأدباء، فحفل مجلسه بنوابغ الشعراء والعلماء والأدباء، كما شهد المذهب السني في عهده بعثًا وإحياءً جديدًا لم يشهده على مر سنوات طوال.

فتنة ولاية العهد

وفي سنة (235هـ = 850م) أراد المتوكل أن يعقد ولاية العهد لأبنائه من بعده، وقرر أن يقدم ابنه عبد الله (المعتز) على أخويه محمد (المنتصر) وإبراهيم (المؤيد)، بعدما نجح رجال بلاطه في الإيعاز إليه بإقصائهما، وتقديم المعتز عليهما. وقد أدى ذلك إلى غضب المنتصر فدبَّر مع بعض عناصر الأتراك المقربين من الخليفة مؤامرة لاغتيال أبيه، والوثوب على العرش، فتمكنوا من اغتياله في (3 من شوال 247هـ = 10 من ديسمبر 861م)، وسار المنتصر إلى العرش على دماء أبيه. وقد صوَّر البحتري تلك المأساة تصويرًا رائعًا ينضح بالمرارة والأسى، فقال:

أكان وليُّ العهدِ أضمرَ غدرَهُ
فمن عجبٍ أنَّ وليَّ العهد غادرَهُ؟

فلا مَلَكَ الباقي تراثَ الذي مَضى
ولا حملَتْ ذاك الدعاء منابـره!


وبرغم تعجل المنتصر الخلافة وغدره بأبيه في سبيل الوثوب إليها والظفر بها، فإنه لم يهنأ بمقعده فيها أكثر من ستة أشهر، حتى أصابته العلة التي قضت عليه سريعًا!!.


منقول

عبدالغفور الخطيب
07-11-2005, 12:50 AM
جمال الدين الأفغاني.. مصلح رغم الجدل

(في ذكرى وفاته: 5 من شوال 1314هـ)

سمير حلبي




ترجع نهضة الأمم والدول إلى جهود المصلحين المخلصين من أبنائها الذين يسعون دائمًا إلى توحيد أبناء الأمة، وإيقاظ وعيهم بقضايا ومشكلات أمتهم، وتحريك همتهم نحو الإصلاح والتجديد، والوقوف صفًا واحدًا في وجه أطماع المستعمرين والطامعين.

وفي أواسط القرن التاسع عشر قام رجال مصلحون من أبناء الشرق الإسلامي، دقّوا ناقوس الخطر لأمتهم، وحذّروا ملوكهم وحكامهم من الخطر الوشيك الذي يتربص بالأمة الإسلامية، وتعالت أصواتهم بالدعوة إلى التعجيل بالإصلاح قبل وقوع الخطر، وكان من هؤلاء الرواد: مصطفى رشيد باشا في تركيا، وميلكم خان في إيران، وأمير علي في الهند، وخير الدين باشا في تونس، وكان جمال الدين الأفغاني أحد هؤلاء الرواد المصلحين الذين وقفوا حياتهم كلها على الدعوة إلى توحيد العالم الإسلامي، وتحرير شعوبه من الاستعمار والاستغلال.

ولكن كانت دعوة كل واحد من هؤلاء وتأثيره محدودين بحدود بلاده، ولم يكن صوته الإصلاحي يتجاوز أبناء وطنه، أما جمال الدين الأفغاني فقد تجاوز صدى دعوته حدود الأوطان والقوميات، واتسع ليشمل العالم الإسلامي كله.

الميلاد والنشأة

ولد السيد جمال الدين الأفغاني في ( شعبان 1254هـ= أكتوبر 1838م)، لأسرة أفغانية عريقة ينتهي نسبها إلى الحسين بن علي (رضي الله عنه)، ونشأ في كابول عاصمة الأفغان. وتعلم في بداية تلقيه العلم اللغتين العربية والفارسية، ودرس القرآن وشيئًا من العلوم الإسلامية، وعندما بلغ الثامنة عشرة أتم دراسته للعلوم، ثم سافر إلى الهند لدراسة بعض العلوم العصرية، وقصد الحجاز وهو في التاسعة عشرة لأداء فريضة الحج سنة (1273هـ= 1857م)، ثم رجع إلى أفغانستان حيث تقلد إحدى الوظائف الحكومية، وظل طوال حياته حريصًا على العلم والتعلم، فقد شرع في تعلم الفرنسية وهو كبير، وبذل كثيرًا من الجهد والتصميم حتى خطا خطوات جيدة في تعلمها.

وحينما وقع خلاف بين الأمراء الأفغان انحاز جمال الدين إلى محمد أعظم خان الذي كان بمثابة وزير دولة، وحدث صدام بينه وبين الإنجليز، فرحل جمال الدين عن أفغانستان سنة (1285هـ= 1868م)، ومر بالهند في طريقه إلى مصر حيث أقام بها مدة قصيرة تردد في أثنائها على الأزهر، وكان بيته مزارًا لكثير من الطلاب والدارسين خاصة السوريين. ثم سافر إلى "الأستانة" في عهد الصدر عال باشا، فعظم أمره بها، وذاعت شهرته وارتفعت منزلته، ولقيت دعوته بضرورة التعجيل بالإصلاح صدى طيبًا لدى العثمانيين، حتى قال المستر بلنت الإنجليزي: "إن سعي العثمانيين في تحويل دولتهم إلى دستورية في بادئ الأمر قد ينسب إلى شيء من تأثير جمال الدين، فقد أقام في عاصمتهم يحاورهم ويخطب فيهم".

في مصر

وعُيِّن جمال الدين وهو في الأستانة عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، وهناك لقي معارضة وهجومًا من بعض علماء الأستانة وخطباء المساجد الذين لم يرقهم كثير من آرائه وأقواله؛ فخرج من الأستانة إلى مصر، فلقي في مصر من الحفاوة والتكريم من أهلها ما حمله على البقاء بها، وكان لجرأته وصراحته أكبر الأثر في التفاف الناس حوله، فأصبح له مريدون كثيرون، فحسده الشيوخ لحظوته عند الناس.

وخاض الأفغاني غمار السياسة المصرية، ودعا المصريين إلى ضرورة تنظيم أمور الحكم، وقد أدى ذلك إلى تنكر ولاة الأمور له، ونفورهم منه، وتوجسهم به، خاصة أنه كان يعلن عن بغضه للإنجليز، ولا يخفي عداءه لهم في أية مناسبة.

مع محمد عبده في باريس

وكانت مقالاته مثار غضب شديد من الإنجليز ومن الحكام في مصر على حد سواء. فلما تولى الخديوي توفيق باشا حكم البلاد أخرجه من مصر، فانتقل الأفغاني إلى الهند سنة (1296هـ= 1879م)، بعد أن أقام في مصر نحو ثماني سنوات.

ثم غادر الهند إلى لندن، ومنها انتقل إلى باريس حيث اتصل بالشيخ محمد عبده، وأصدرا معًا جريدة "العروة الوثقى"، ولكنها ما لبثت أن توقفت عن الصدور بعد أن أوصدت أمامها أبواب كل من مصر والسودان والهند. ولكن الأفغاني لم يتوقف عن الكتابة في السياسة، فكانت صحف باريس منبرًا لمقالاته السياسية النقدية الساخنة.

في إيران

ودعاه شاه إيران "ناصر الدين" للحضور إلى طهران واحتفى به وقربه، وهناك نال الأفغاني تقدير الإيرانيين وحظي بحبهم، ومالوا إلى تعاليمه وأفكاره، ولكن الشاه أحس بخطر أفكار الأفغاني على العرش الإيراني، وتغيرت معاملته له، وشعر الأفغاني بذلك، فاستأذنه في السفر، وذهب إلى موسكو ثم بطرسبرج، وكان يلقى التقدير والاحترام في كل مكان ينزله، ويجذب الكثيرين من المؤيدين والمريدين.

وحينما زار الأفغاني معرض باريس سنة (1307هـ= 1889م) التقى هناك بالشاه ناصر الدين، وأظهر له الشاه من الود والتقدير ما دعاه إلى العودة مرة أخرى إلى طهران، ولكن ما لبث الشاه أن تغير عليه ثانية، خاصة بعدما راح يصرح برأيه في إصلاح الحكومة، ويجاهر بنقده للأوضاع السياسية في الدولة. ولم يطق الشاه صبرًا، ورأى في بقاء الأفغاني خطرًا محققًا على أركان عرشه، فأرسل إليه قوة عسكرية، فساقوه من فراش مرضه إلى حدود تركيا.

اتجه الأفغاني إلى البصرة، ومنها إلى لندن حيث اتخذ من جريدة "ضياء الخافقين" منبرًا للهجوم على الشاه، وكشف ما آلت إليه أحوال إيران في عهده، وكان تأثير الأفغاني قويًا على الإيرانيين، حتى بلغ من تأثيره أنه استطاع أن يحمل بعض علماء إيران على إصدار فتوى بتحريم "شرب" الدخان، فأصدر الميرزا "محمد حسن الشيرازي" فتوى حرّم فيها على الإيرانيين شرب الدخان، فامتنعوا عن شربه امتناعًا شديدًا، حتى إن العامة ثاروا على الشاه، وأحاطوا بقصره، وطلبوا منه إلغاء الاتفاق مع إحدى الشركات العربية لتأسيس شركة "ريجي" في إيران؛ فاضطر الشاه إلى فسخ الاتفاق، وتعويض الشركة بمبلغ نصف مليون ليرة إنجليزية.

دسائس الوشاة ومكائد الحاقدين

وكان ذلك أحد الأسباب التي جعلت الشاه يلجأ إلى السلطان عبد الحميد ليوقف الأفغاني عن الهجوم عليه، واستطاع السلطان أن يجذب الأفغاني إلى نزول الأستانة سنة (1310هـ=1892م)، وأراد السلطان أن يُنعم على الأفغاني برتبة قاضي عسكر، ولكن الأفغاني أبى، وقال لرسول السلطان: "قل لمولاي السلطان إن جمال الدين يرى أن رتبة العلم أعلى المراتب".

وفي أثناء وجود الأفغاني بالأستانة زارها الخديوي عباس حلمي، والتقى بالأفغاني لقاءً عابرًا، ولكن الوشاة والحاسدين من أعداء الأفغاني المقربين إلى السلطان وجدوا في ذلك اللقاء العابر فرصة سانحة للوقيعة بينه وبين السلطان، فبالغوا في وصف ذلك اللقاء، وأضفوا عليه ظلالاً من الريبة والغموض، وأوعزوا إلى السلطان أنهما تحادثا طويلاً في شئون الخلافة، وحذّروه من الخطر الذي يكمن وراء تلك المقابلة؛ فاستدعى السلطان العثماني جمال الدين الأفغاني وأطلعه على تلك الأقوال، فأوضح له الأفغاني حقيقة الموقف بجرأة، وانتقد هؤلاء الوشاة بشجاعة لم تعهد لغيره.

منهج الأفغاني في الإصلاح الديني

كانت الدعوة إلى القرآن الكريم والتبشير به من أكبر ما يطمح إليه "الأفغاني" في حياته، وكان يرى أن القاعدة الأساسية للإصلاح وتيسير الدين للدعوة هي الاعتماد على القرآن الكريم، ويقول: "القرآن من أكبر الوسائل في لفت نظر الإفرنج إلى حسن الإسلام، فهو يدعوهم بلسان حاله إليه. لكنهم يرون حالة المسلمين السوأى من خلال القرآن فيقعدون عن اتباعه والإيمان به". فالقرآن وحده سبب الهداية وأساس الإصلاح، والسبيل إلى نهضة الأمة: "ومن مزايا القرآن أن العرب قبل إنزال القرآن عليهم كانوا في حالة همجية لا توصف؛ فلم يمض عليهم قرن ونصف قرن حتى ملكوا عالم زمانهم، وفاقوا أمم الأرض سياسة وعلمًا وفلسفة وصناعة وتجارة".. فالإصلاح الديني لا يقوم إلا على القرآن وحده أولاً، ثم فهمه فهمًا صحيحًا حرًا، وذلك يكون بتهذيب علومنا الموصلة إليه، وتمهيد الطريق إليها، وتقريبها إلى أذهان متناوليها.

جمال الدين بين السنية والتشيع

يرى بعض الباحثين أن جمال الدين كان إيرانيًا من "أسد آباد" بالقرب من همدان، وأنه كان شيعيًا جعفري المذهب، وذلك بالرغم من اشتهار أمر جمال الدين بانتسابه إلى بلاد الأفغان وأنه سني المذهب، وبالرغم من حرصه على تلقيب نفسه بالأفغاني، وانخراطه في علماء أهل السنة في جميع البلدان الإسلامية التي زارها أو أقام فيها.

ويحاول هؤلاء إيجاد الأدلة، وتدبيج البراهين التي تعضد موقفهم، وتؤيد ما ذهبوا إليه، ومن ذلك:

- وجود عائلة جمال الدين في إيران، وعدم وجود أي أثر لها في أفغانستان.

- إن اسم والد جمال الدين "صفدر"، وهو اسم إيراني شيعي يعني: البطل ممزق الصفوف.

- اهتمام جمال الدين بإيران ومشكلاتها أكثر من اهتمامه بأي قطر إسلامي آخر.

- إجادة جمال الدين اللغة الفارسية باللهجة الإيرانية.

- تمجيد جمال الدين للإيرانيين وإشادته بذكائهم.

وهي في مجملها قرائن لا ترقى إلى الأدلة الجازمة، أو البراهين القاطعة تنقضها كتابات جمال الدين وسيرة حياته، التي توضح أنه كان أفغانيًا سنيًا لا إيرانيًا شيعيًا.

فهو في كتابه "تتمة البيان في تاريخ الأفغان" ينتقد الشيعة في انصرافهم عن بعض أركان الدين إلى ظواهر غريبة عنه وعادات محدثة، فيقول: "وجميع الأفغانيين متمذهبون بمذهب أبي حنيفة، لا يتساهلون رجالاً ونساءً وحضريين وبدويين في الصلاة والصوم، سوى طائفة (نوري)، فإنهم متوغلون في التشيع، يهتمون بأمر مأتم الحسين (رضي الله عنه) في العشر الأول من محرم، ويضربون ظهورهم وأكتافهم بالسلاسل مكشوفة".

وقد تصدى لهذا الزعم عدد من الباحثين والمفكرين، في مقدمتهم د. "محمد عمارة" الذي رأى أن الرجل لن يعيبه أن يكون إيرانيًا أو أفغانيًا، ولن ينقص من قدره أن يكون شيعيًا أو سنيًا؛ لأنه مسلم تشرف به كل أقاليم الإسلام وجميع مذاهبه.

وأن الذي جعل قضية الخلاف حول موطن جمال الدين وحول المذهب الديني الذي تمذهب به تأخذ بعدًا آخر، أخرجها من هذا الإطار المألوف، هو أن الذين ادعوا إيرانيته وشيعته قد أرادوا –من وراء هذه الدعوى- إثبات كذب الرجل، فقد قال عن نفسه بأنه أفغاني، ونطقت أفكاره وكتاباته بأنه سني، فالمقصد من وراء تلك الدعوة هو هدم الرجل (الرمز) الذي يعتز به الجميع.

الأفغاني والماسونية

انتظم جمال الدين في سلك الماسونية؛ لينفسح له المجال أمام الأعمال السياسية، وقد انتخب رئيسًا لمحفل "كوكب الشرق" سنة (1395هـ=1878م)، ولكنه حينما اكتشف جبن هذا المحفل عن التصدي للاستعمار والاستبداد، ومسايرته لمخطط الإنجليز في مصر استقال منه، وقد سجل الأفغاني تجربته تلك في كلمته التي أدان فيها ماسونية ذلك المحفل الذي يتستر تحت شعارات براقة وأهداف عريضة، لكنه في الحقيقة لا يخرج في ذلك كله عن حيز القول إلى الفعل، بل ربما كان أدنى إلى تحقيق أهداف المستعمر وترسيخ أطماعه بعيدا عن تأكيد مبادئ الحق والحرية والمساواة التي يرفعها مجرد شعار.

هل مات مسمومًا؟

وتوفي الأفغاني في الأستانة –بعد حياة شاقة مليئة بالمتاعب والصعاب- عن عمر بلغ نحو ستين عامًا، وكما حفلت حياته بالجدل والإثارة، فقد ثار الجدل أيضًا حول وفاته، وشكك البعض في أسبابها، وأشار آخرون إلى أنه اغتيل بالسم.

فبالرغم من أن الشيخ عبد الرشيد إبراهيم –الرحالة الروسي الشهير- يؤكد أنه كان مريضًا، وأنه توفي متأثرًا بمرضه، وكان قد زاره قبيل ساعتين من وفاته، فإن ابن أخته "ميرزا لطف الله خان" يزعم أنه مات مسمومًا، ويتهم الحكومة الإيرانية بقتله، ويذكر أن الحكومة الإيرانية أوفدت "ناصر الملك" لقتل "جمال الدين" بعدما رفضت الدولة العثمانية تسليمه لها.. وكانت وفاته في (5 من شوال 1314هـ= 10 من مارس 1897م).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أهم مصادر الدراسة:

تتمة البيان في تاريخ الأفغان: السيد جمال الدين الأفغاني- مطبعة الموسوعات – القاهرة- (1318هـ=1901م).

جمال الدين الأسد آبادي (المعروف بالأفغاني): ميرزا لطف الله خان الأسد آبادي- ترجمه وقدم له وعلق عليه: د. عبد النعيم محمد حسنين- دار الكتاب اللبناني– بيروت- (1393هـ=1973م).

جمال الدين الأفغاني.. ذكريات وأحاديث: عبد القادر المغربي- دار المعارف بمصر– القاهرة- [د. ت]. سلسلة [اقرأ: 68].

جمال الدين الأفغاني المفترى عليه: د. محمد عمارة- دار الشروق – القاهرة- (1404هـ=1984م).

جمال الدين الأفغاني والثورة الشاملة: السيد يوسف- الهيئة المصرية العامة للكتاب– القاهرة- (1420هـ=1999م)- سلسلة [تاريخ المصريين: 151].

زعماء الإصلاح في العصر الحديث: أحمد أمين- مكتبة النهضة المصرية– القاهرة- (1367هـ=1948م).

عبدالغفور الخطيب
09-11-2005, 01:43 AM
مجمع اللغة العربية بدمشق.. نهوض باللغة وإحياء للتراث

(في ذكرى إنشائه: 7 من شوال 1338هـ)




بعد قيام الحكومة العربية في دمشق في (29 من ذي الحجة 1336هـ= 5 من أكتوبر 1918م) واجهت الدولة قضية اللغة العربية، وكانت بالغة الأهمية؛ فاللغة التركية هي لغة البلاد الرسمية في الحكومة والتدريس، والأتراك يتولون معظم رئاسات المصالح والدوائر الحكومية، والموظفون العرب أنفسهم يجهلون الإنشاء العربي؛ فكان لا بد من تدارك الموقف وعلاجه؛ فأنشأت الحكومة الوليدة شُعَبًا إدارية وفنية لمختلف أعمال الدولة أشبه ما تكون بالوزارات، كان من بينها شعبة للترجمة والتأليف، ضمت إليها أمور المعارف، وجعلتها كلها ديوانًا للمعارف، وعهدت برئاسته إلى العالم الكبير "محمد كرد علي" في (1 من ربيع الأول 1338هـ = 24 من نوفمبر 1919م).

وعهدت الحكومة إلى الديوان بالعناية بأمر اللغة العربية، ونشر الثقافة بين الموظفين، واستبدال المصطلحات العربية بالتركية في الجيش ودوائر الحكومة؛ فنهض الديوان لهذه المهمة، واستعان في تحقيقها بأساتذة اللغة العربية وأدبائها، واستحدث دروسًا خاصة للموظفين لتعليم الإنشاء العربي، ومراجعة الكتب العربية القديمة ونشرات الحكومة المصرية؛ لإيجاد المصطلحات وتقرير أفصح الأساليب التي تليق بحكومة عربية واعدة.

ونهض الديوان بتنظيم ميزانية المدارس، وتصحيح الكتب المدرسية المعدة للطبع، وإنشاء المدارس وتعيين المعلمين، والنظر في القوانين المتعلقة بالمعارف وترجمتها، والعناية بأساليب التربية الحديثة، والاهتمام برفع شأن اللغة العربية بالمدارس.

ظهور المجمع العلمي العربي

ونظرًا لاتساع أعمال ديوان المعارف، وازدياد حركة التأليف والترجمة قامت الحكومة العربية في دمشق بتقسيم الديوان قسمين في (7 من شوال 1338هـ= 8 من يونيو 1919م)؛ اختص الأول بأعمال المعارف العامة، واختص الثاني بأمور إصلاح اللغة العربية، وتنشيط التأليف والتعريف، والإشراف على المكتبات والآثار، وسُمي هذا القسم "المجمع العلمي"، وعُهد برئاسته إلى محمد كرد علي، وكان هذا إيذانًا بميلاد مجمع اللغة العربية الدمشقي.

وضمّ المجمع عند تأسيسه عددًا من فحول اللغة والأدب، وهم: محمد كرد علي، وأمين سويد، وأنيس سلوم، وسعيد الكرمي، ومتري قندلفت، وعيسى إسكندر معلوف، وعبد القادر المغربي، وعز الدين علم الدين، وطاهر الجزائري.

أهداف المجمع وغاياته

كان أعضاء المجمع يعقدون جلساتهم في إحدى الغرف العلوية بدار الحكومة العربية، حتى تسلم المجمع مبنى المدرسة العادلية القديمة؛ فقام بترميمها وإعادتها إلى طرازها العربي القديم، وعقد أولى جلساته فيها في (3 من ذي القعدة 1337هـ= 30 من يوليو 1919م)، ثم أصدر المجمع أهدافه في بيان نشره تضمن ما يلي:

- النظر في اللغة العربية وأوضاعها العصرية، ونشر آدابها وإحياء مخطوطاتها، وتعريب ما ينقصها من كتب العلوم والصناعات والفنون من اللغات الأوربية، وتأليف ما تحتاج إليه من الكتب.

- العناية بجمع الآثار القديمة، وخاصة العربية والمخطوطات القديمة الشرقية والمطبوعات العربية والإفرنجية، وتأسيس دار كتب عامة.

- جمع الآثار القديمة عربية وغير عربية، وتأسيس متحف لها.

- إصدار مجلة للمجمع لنشر أعماله وأفكاره؛ لتكون رابطة بينه وبين دور الكتب والمجامع العلمية، وعلى الفور أتبع المجمع القول بالعمل؛ فعمد إلى ترجمة المصطلحات الإدارية إلى اللغة العربية، وبعث بها إلى رؤساء الدواوين ورجال الصحافة لاستعمالها، وقام بترجمة وتنقيح كثير من القوانين، وإصلاح الكتب المدرسية، واستعان بأهل الاختصاص من أساتذة المعاهد العليا للعمل على وضع المصطلحات الفنية الحديثة التي تستعملها مدرستا "الطب" و"الحقوق".

دار الكتب الظاهرية

بعد أن استقل المجمع عن ديوان المعارف، وضعت دار الكتب الظاهرية تحت إشرافه، وكانت تضم آلاف الكتب المخطوطة والمطبوعة، وتحتوي على نفائس المخطوطات، وقام المجمع بوضع نظام داخلي للدار، وسعى إلى تزويدها بالكتب الجديدة، وعمل على اجتذاب القراء إليها، ووضع فهرسًا لها، وعهد المجمع إلى الشيخ "طاهر الجزائري" بإدارتها، وظل بها حتى وفاته في (جمادى الأولى 1338هـ= فبراير 1920م)، ثم أُسندت إلى "حسني الكسم"، وبقي يشرف على الدار حتى سنة (1355هـ= 1936م)، وكان المجمع يندب أحد أعضائه للإشراف على سير المكتبة.

متحف الآثار العربية

وكان من جملة أهداف المجمع العلمي العناية بجمع الآثار القديمة وخاصة العربية، وكانت الآثار تُنقل خلال العهد العثماني إما إلى الغرب عن طريق البعثات الأثرية، أو إلى متحف إستانبول الذي أُسس في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وقد خُصصت لهذا المتحف الناشئ أربع غرف في المدرسة العادلية، وكانت المجموعة الأثرية المخزونة في مستودع مديرية المعارف هي النواة الأولى للمتحف، وبدأ العمل في جمع الآثار المبعثرة في المساجد والمؤسسات الرسمية؛ ونظرًا لعدم وجود علماء أثريين تألفت لجنة للآثار في المجمع من بعض الأجانب وتجار الآثار، كانت تفتش عن الآثار أو تشتريها لحساب المتحف، كما كانت تقوم بتصنيف الآثار وعرضها في الغرف المخصصة لها وفقًا لموضوعها ومادتها المصنوعة منها.

أنشطة المجمع العلمية

كان المجمع العلمي وافر النشاط، سباقا إلى جعل الآذان تعتاد الفصحى في وقت لم تكن فيه إذاعة أو تلفاز؛ فعمد إلى إقامة المحاضرات الدورية في قاعة خُصصت لهذا الغرض في مقر المجمع، وكانت المحاضرة الأولى من نصيب العالم الكبير "عبد القادر المغربي"، وذلك في (8 من شعبان 1339هـ= 17 من إبريل 1921م)، ثم توالت المحاضرات، وتزايد إقبال الناس على سماعها، واستمر إلقاء هذه المحاضرات حتى سنة (1365هـ= 1946م)، وكانت تلقى مرة كل أسبوعين، ولم يقتصر إلقاء المحاضرات على الرجال، بل نُظمت محاضرات للنساء في موضوعات علمية وأخلاقية وأدبية، وفي اليوم المخصص لمثل هذه المحاضرات النسائية كان يخلى المجمع من الرجال.

وكان المحاضرون من أعضاء المجمع، أو ممَّن يكلفهم المجمع بإلقاء المحاضرات من الرجال والنساء؛ من سوريا أو من الأشقاء العرب أو المستشرقين، وقد زادت تلك المحاضرات في تلك المواسم على الأربعمائة، طُبعت مختارات منها في مجلدات.

وأقام المجمع مهرجانًا لشاعر العربية الأكبر "أبي الطيب المتنبي" سنة (1355هـ = 1936م) استمر أسبوعًا، وبعد ثمانية أعوام أقام مهرجانًا للشاعر الفيلسوف "أبي العلاء المعري" سنة (1363هـ= 1944م) بمناسبة مرور ألف عام على مولده استمر أيضًا أسبوعًا، وشارك في المهرجانين وفود من أقطاب "الأدب" من مختلف البلاد العربية.

وحرص المجمع على تأبين الراحلين من أعضائه، مثل: الشيخ طاهر الجزائري، وأحمد كمال باشا، ومحمود شكري الآلوسي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، ومحمد رشيد رضا، كما أقام حفلات تكريم لأحمد شوقي وحافظ إبراهيم.

مجلة المجمع ومطبوعاته

كانت فكرة إنشاء مجلة للمجمع قديمة صاحبَت إنشاءه، وصدر العدد الأول منها في (21 من ربيع الآخر 1339هـ= يناير 1921م) في اثنين وثلاثين صفحة، متضمنًا عددًا من المقالات بأقلام أعضائه، وظلت تصدر شهرية عدة سنوات، لكنها جابهت صعوبات مادية، جعلتها تصدر كل شهرين بدءًا من سنة (1351هـ= 1931م)، ثم أخذت المجلة تصدر فصلية ابتداء من سنة (1379هـ = 1949م).

ولا تزال تصدر حتى اليوم على هذا النحو؛ ونظرًا لأهمية موضوعات المجلة وصعوبة الوصول إلى مقالاتها ذات القيمة العلمية؛ فقد قام العالم الموسوعي السوري "عمر رضا كحالة" بإعداد فهارس خاصة لكل عشر سنوات من عمرها، وصدر المجلد الأول سنة (1375هـ= 1956م) لهذا الفهرس الضخم، ويتضمن الفهرس ما صدر من المجلة في السنوات العشر الأولى، ثم توالت الأجزاء الأخرى من الفهرس.

وتضمن نشاط المجمع إحياء التراث العربي، وكان هذا هدفًا من أهدافه التي تناولها بيانه الأول، وقد توالى صدور الكتب التي قام المجمع على إحيائها؛ مثل: "رسالة الملائكة" لأبي العلاء المعري، و"الدارس في تاريخ المدارس" للنعيمي، وديوان الوأواء الدمشقي، على أن المشروع الكبير الذي ينهض المجمع به هو تحقيق كتاب "تاريخ مدينة دمشق" لابن عساكر، وهو كتاب ضخم جدًا، وقد صدر منه ما يزيد على عشرة مجلدات، وما يزال المتبقي من الكتاب يحتاج إلى مزيد من الجهد حتى يتم نشره كاملاً. والجدير بالذكر أن مطبوعات المجمع قد تجاوزت أكثر من مائتي كتاب.

أعضاء المجمع ورؤساؤه

يتألف المجمع من عشرين عضوًا عاملاً من سوريا، يشكلون لجان المجمع، مثل: لجنة المخطوطات وإحياء التراث، ولجنة المصطلحات، ولجنة المجلة والمطبوعات، ولجنة اللهجات العربية المعاصرة، ولجنة ألفاظ العربية.

وإلى جانب هؤلاء الأعضاء العاملين يوجد عدد غير محدود من الأعضاء المراسلين من العرب أو من غيرهم، وقد ضمّ المجمع منذ إنشائه كوكبة من أعلام اللغة والأدب في العالم العربي، من أمثال: مصطفى لطفي المنفلوطي، وأحمد تيمور، وحافظ إبراهيم، والرافعي، والمازني، والعقاد والزيات، وطه حسين من مصر. والطاهر بن عاشور وحسن حسني عبد الوهاب من تونس. والزهاوي، ومعروف الرصافي ومحمد رضا الشبيبي من العراق. وإسعاف النشاشيبي وخليل السكاكيني وعادل زعيتر من فلسطين. ولويس شيخو، وأمين الريحاني، وشكيب أرسلان من لبنان، وحمد الجاسر من السعودية.

ويُنتخَب رئيس المجمع لمدة أربع سنوات من قِبل أعضائه، وقد تعاقب على المجمع منذ إنشائه خمسة من كبار الأدباء والعلماء في المشرق العربي هم:

- محمد كرد علي، وهو مؤسس المجمع وأول رئيس له، وكان واسع العلم والاطلاع موفور النشاط على كبر سنه، وهو من أعلام الفكر في القرن الرابع عشر الهجري، من أهم كتبه: "خطط الشام" في ستة مجلدات، وقد دامت فترة رئاسته حتى وفاته سنة (1372هـ = 1953م).

- خليل مردم بك، وهو الرئيس الثاني للمجمع، وهو شاعر محلق، جمع إلى جانب موهبته في الشعر غزارة العلم والمعروفة، تولى وزارة المعارف والخارجية، وتولى رئاسة المجمع بعد محمد كرد علي، وظل رئيسًا للمجمع حتى وفاته سنة (1379هـ= 1959م).

- مصطفى الشهابي، وهو الرئيس الثالث للمجمع، انتُخب عقب وفاة خليل مردوم بك، وكان متخصصًا في الزراعة، وله معجم مشهور بعنوان "معجم الألفاظ الزراعية"، وقد أهدى المجمعَ أَنفَسَ ما في مكتبته من مطبوع ومخطوط، وظل رئيسًا للمجمع حتى وفاته سنة (1388هـ= 1968م).

- حسني سبح، وهو الرئيس الرابع للمجمع، وهو طبيب يحسن التركية والفرنسية والإنجليزية والألمانية، وله نشاط معجمي بارز، انتُخب رئيسًا للمجمع عقب وفاة مصطفى الشهابي، وظل رئيسًا للمجمع حتى وفاته سنة (1407هـ= 1986م).

- شاكر الفحام، وهو الرئيس الحالي للمجمع، انتُخب بعد وفاة حسني سبح، وهو متخصص في الأدب، وله نتاج معروف في هذا الشأن.

تطور في حياة المجمع

تأسس المجمع باسم "المجمع العلمي العربي" بدمشق، وسُميت مجلته بهذا الاسم، ثم عدلت التسمية إلى "مجمع اللغة العربية" تأسيًا بالمجامع العربية الأخرى، وذلك في سنة (1386هـ= 1967م)، وقد تم توحيد هذا المجمع مع نظيره في القاهرة سنة (1380هـ= 1960م) بعد قيام الوحدة السورية مع مصر، فصدر قرار جمهوري بتوحيد مجمعيْ القاهرة ودمشق، واعتبارهما فرعين لمجمع واحد مقره القاهرة، يتكون أعضاؤه من ثمانين عضوًا عاملاً؛ نصفهم من المصريين، وعشرون من السوريين، وعشرون من ممثلي البلاد العربية الأخرى، غير أن هذا الاندماج لم يدُم طويلاً، فانفكّت عراه بعد انهيار الوحدة المصرية السورية، وانفصل المجمعان، وعاد كل منهما إلى ما كان عليه من الاستقلال.

وظل المجمع قائمًا في المدرسة العادلية وسط دمشق القديمة، حتى ضاقت غرفه بدوائر المجمع ولجانه المتزايدة، وقد تم بناء مقر حديث للمجمع ذي طوابق متعددة، نُقل إليه سنة (1400هـ= 1980م)، وإن بقيت بعض دوائره تشغل المبنى القديم.

ولا يزال المجمع يقوم برسالته في خدمة اللغة العربية، وإحياء التراث العربي، ووضع المصطلحات الجديدة للمستحدثات الجديدة

عبدالغفور الخطيب
10-11-2005, 01:11 AM
البيمارستان العضدي.. رعاية فوق العادة

(في ذكرى وفاة منشئه: 8 من شوال 372هـ)



ظهر بنو بويه في أوائل القرن الرابع الهجري، وتمكنوا من تأسيس دولة لهم في بلاد فارس، ثم أغراهم ما كانت عليه الخلافة العباسية من ضعف وهزال إلى تطلع السيطرة عليها، ولم يجد أحمد بن بويه -أحد الإخوة الثلاثة الذين قامت على أكتافهم الدولة البويهية- صعوبة في دخول بغداد والسيطرة عليها دون قتال في (11 من جمادى الأولى 334 هـ = 19 يناير 946م)..

وبدخول أحمد بن بويه عاصمة الخلافة ابتدأ عصر نفوذ البويهيين الذي استمر أكثر من مائة عام، خضع لهم أثناءها خلفاء بني العباس، ولم يبق لهم من النفوذ والسلطان إلا بعض المظاهر الدينية كالدعاء لهم في الخطب، وكتابة أسمائهم على السكة، بينما استأثر البويهيون بالحكم وتلقبوا بألقاب الملوك والسلاطين.

ويعد عماد الدولة علي بن بويه مؤسس هذه الدولة، وكان متصفًا بالحكمة والأناة، اتخذ من شيراز قاعدة لدولته، وخص أخويه بمنطقة يحكمها كل واحد منهما باسمه، فكان الجزء الشمالي من بلاد فارس تحت حكم ركن الدولة حسن بن بويه، أما العراق فكان يحكمها أخوه الأصغر أحمد بن بويه.

وبعد موته انتقلت رئاسة البيت البويهي إلى ركن الدولة سنة (338هـ = 949م)، وانتقلت عاصمة البويهيين إلى "الري" حيث كان يقيم ركن الدولة، وتولى ابنه عضد الدولة حكم شيراز.

بروز عضد الدولة

برز عضد الدولة بعد وفاة عمه عماد الدولة، حيث خلفه في حكم أصبهان وشيراز وبلاد الكرج، وتطلعت طموحاته إلى الاستيلاء على العراق التي كانت تحت يد ابن عمه بختيار بن معز الدولة، لكنها كانت تصطدم بيقظة أبيه ركن الدولة الراغب في أن يعم السلام أسرة بني بويه، فلما توفي في سنة (36هـ = 9769) آلت رئاسة البيت البويهي إلى ابنه عضد الدولة، وانفتح الباب أمامه لانتزاع العراق من ابن عمه بختيار، فزحف إليه، واشتعلت بينهما عدة معارك انتهت لصالح عضد الدولة، وتمكن من القبض على بختيار وقتله في سنة (367هـ = 978م)، واستولى على ما تحت يديه، واستقر في بغداد، وأصبحت عاصمة الخلافة عاصمة لبني بويه، وخُطب له على منابرها إلى جانب الخليفة العباسي.

وبعد ذلك شرع في مواصلة سياسة التوسع الإقليمي، فاستولى على الموصل وديار بكر وديار ربيعة وما حولها من الحمدانيين، وضم الأقاليم الخاضعة لأخيه فخر الدولة بسبب وقوفه إلى جانب بختيار، فاستولى على همدان والري وما بينهما من البلاد، وبسط نفوذه إلى بلاد جرجان وطبرستان، فتعاظم بذلك نفوذ عضد الدولة وذاع صيته، وخلع عليه الخليفة الطائع العباسي ما لم يخلعه على غيره، وعقد له لواءين، ولقبه بالملك وبتاج الملك، وأمر أن يُخطب له على منابر بغداد، فكان أول من خطب له بعد الخلفاء.

الإنجازات الحضارية

بلغت الدولة البويهية شأنًا كبيرًا في عهد عضد الدولة، وشهدت إنجازات حضارية راقية على يديه، إلى جانب نجاحه في توحيد مناطق الدولة وجمعها تحت نفوذه، فبعد دخوله في بغداد بدأ في عمارتها وإعادة ما تهدم من مساجدها وأسواقها، وأقام الميادين، والمتنزهات، وأصلح الطريق بين مكة والعراق، وأقام سد السهيلة بالقرب من مدينة النهروان بالعراق، وأعاد حفر الأنهار التي اندثرت وهو ما أسهم في ازدهار الزراعة، وشيد مشهدًا عظيمًا على قبر الإمام علي رضي الله عنه.

ويذكر له أنه أمر بإخراج أموال الصدقات وتسليمها للقضاة والأعيان، لإعانة من يستحق من الفقراء وذوي الحاجات، وإعانة العاطلين الذين لا يجدون أعمالاً يقتاتون منها.

وشهدت الحياة العلمية في عهده ازدهارًا واسعًا، حيث قرب إليه العلماء، وأكرم وفادتهم، وأغدق عليهم العطاء وأحاطهم بكل مظاهر التكريم والتبجيل، وكان مجلسه منتدى يجتمع فيه الفقهاء والمحدثون والنحاة، والأدباء والشعراء، والأطباء والمهندسون، تدور فيه المناقشات العلمية، وتطرح القضايا على مائدة البحث، يدلي كل منهم بما عنده، وكان عضد الدولة يشترك معهم في هذه المناقشات.

ومن أبرز من اتصلوا به: أبو علي الفارسي وهو واحد من أكبر علماء العربية، ألّف له كتاب "الإيضاح" و"التكملة" في النحو، وكان عضد الدولة يقول: أنا غلام أبي علي في النحو، ومنهم أيضا أبو إسحاق الصابي الذي ألف له كتاب "التاجي في أخبار بني بويه"، وعلي بن العباسي المجوسي الذي صنف "الكناش العضدي" في الطب، وأبو الحسن ابن عمر الرازي، وكان فلكيًا كبيرًا صنع لعضد الدولة كرة كبيرة تمثل السماء بما فيها من نجوم وكواكب.

وكان عضد الدولة يحب الشعر ويتذوقه، ويغمر الشعراء بكريم عطاياه، فقصدوا بلاطه، ويأتي في مقدمتهم أبو الطيب المتنبي الذي خصه بمدائح عظيمة، وأبو الحسن السلامي أبرز شعراء العراق في ذلك الوقت، وكان عضد الدولة يقول عنه: "إذا رأيت السلامي في مجلسي ظننت أن عطارد قد نزل من الفلك إليَّ ووقف بين يدي".

البيمارستان العضدي

غير أن أعظم إنجازات عضد الدولة البويهي إنشاؤه لبيمارستان كبير نسب إليه، فعرف باسم البيمارستان العضدي، أقامه سنة (371هـ = 192م) في الجانب الغربي من بغداد، وزوده بما يحتاج إليه من الأطباء والممرضين والخدم والطباخين والأدوات والأدوية، وألحق به بيمارستانًا للمجانين، وكان يعمل به ما يزيد عن ستين طبيبًا في مختلف الاختصاصات، استقدم بعضهم عضد الدولة للعمل في البيمارستان من أماكن مختلفة، ومن هؤلاء الأطباء: جبرائيل بن عبيد الله بختيشوع، وأبو يعقوب الأهوازي، وأبو عيسى بقية، والكحال أبو نصر الرحبي، وأبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة، وكان يتولى رئاسة الأطباء في البيمارستان.

والبيمارستان كلمة فارسية الأصل تعني المستشفى أو دار المرضى، وهي مركبة من كلمتين: بيمار وتعني المريض، وستان وتعني الدار. وقد تحولت الكلمة مع مرور الزمن إلى "مارستان" التي لا تزال تطلق الآن على مستشفى الأمراض العقلية. ويعد البيمارستان العضدي واحدا من أشهر المؤسسات العلاجية التي أنشئت في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية.

وكانت تلك البيمارستانات تسير وفق نظام دقيق وترتيب غاية في الإحكام، فهي تنقسم إلى قسمين منفصلين، أحدهما للذكور والآخر للإناث، ويضم كل قسم قاعات فسيحة لمختلف التخصصات الطبية كالأمراض الباطنية، والجراحة، والكحال (الرمد)، والتجبير (العظام).

ولكل قسم من هذه الأقسام مجموعة من الأطباء الاختصاصيين في مختلف فروع الطب يتناوبون العمل فيما بينهم، ويقوم على كل طائفة منهم رئيس لإدارتها وتفقد أحوال المرضى، ويعاون الأطباء مساعدون من الممرضين والمشرفين والخدم يقومون على خدمة المرضى وتقديم الطعام والعلاج لهم.

وإلى جانب هذا النظام الداخلي لعلاج المرضى كان يوجد عيادات خارجية تقوم على خدمة المرضى وعلاجهم مما لا تحتاج حالتهم إلى استبقائهم داخل البيمارستان، فكان الطبيب يجلس على دكة، يكتب لمن يرد عليه من المرضى أوراقًا يعتمدون عليها، ويأخذون بها الأدوية والأشربة من صيدلية البيمارستان ليتابع العلاج في بيته، وهي تعد جزءًا مهمًا من مرافق البيمارستانات يقوم عليها الصيادلة، وتحتوي على أنواع مختلفة من الأدوية والأشربة والمعاجين.

رسالة من مريض إلى أبيه

ويحسن هنا أن أنقل ما كتبته المستشرقة الألمانية "سيجريد هونكه" في كتابها "شمس العرب تطلع على الغرب" عن مريض كان يعالج في أحد مستشفيات قرطبة كتب رسالة إلى أبيه يصف له ما وجده من غيابه في المستشفى، يقول:

"لقد سجلوا اسمي هناك بعد المعاينة، وعرضوني على رئيس الأطباء، ثم حملني ممرض إلى قسم الرجال، فحمّني حمامًا ساخنًا، وألبسني ثيابًا نظيفة من المستشفى، وحينما تصل ترى إلى يسارك مكتبة ضخمة وقاعة كبيرة حيث يحاضر الرئيس في الطلاب، وإذا ما نظرت وراءك يقع نظرك على ممر يؤدي إلى قسم النساء، ولذلك عليك أن تظل سائرًا نحو اليمين، فتمر بالقسم الداخلي والقسم الخارجي مرورا عابرا، فإذا سمعت موسيقى أو غناء ينبعثان من قاعة ما، فادخلها وانظر بداخلها، فلربما كنت أنا هناك في قاعة النُقَّه (جمع ناقه) حيث تشنف آذاننا الموسيقى الجميلة ونمضي الوقت بالمطالعة المفيدة.. واليوم صباحًا جاء كالعادة رئيس الأطباء مع رهط كبير من معاونيه. ولما فحصني أملى على طبيب القسم شيئًا لم أفهمه، وبعد ذهابه أوضح لي الطبيب أنه بإمكاني النهوض صباحًا، وبوسعي الخروج قريبًا من المستشفى صحيح الجسم معافى، وإني والله لكاره هذا الأمر، فكل شيء جميل للغاية ونظيف جدًا، الأسِرّة وثيرة وأغطيتها من الدمقس الأبيض، والملاء بغاية النعومة والبياض كالحرير، وفي كل غرفة من غرف المستشفى تجد الماء جاريًا فيها على أشهى ما يكون، وفي الليالي القارسة تدفأ كل الغرف...".

وكانت تلك البيمارستانات تُرصد لها الأوقاف؛ ليصرف من ريعها على رواتب الأطباء والعاملين، علاج المرضى، وخصص لإدارتها ناظر يقوم على أمرها وعلى الأموال والأوقاف المخصصة لها، وكان هذا المنصب من الوظائف الديوانية العظيمة في الدولة لا يُختار له إلا الأكفاء من ذوي القدرة والأمانة.

وفاة عضد الدولة

لم تطل الحياة بعضد الدولة بعد أن قام بتلك الأعمال بعد توحيده العراق وفارس تحت حكمه وازداد نفوذه، فتوفي بداء الصرع في بغداد في (8 من شوال 372هـ = 26 من مارس 983م) عن ثمانية وأربعين عامًا.

عبدالغفور الخطيب
11-11-2005, 12:43 AM
ابن سيرين.. رائد تفسير الأحلام

(ذكرى وفاته: 9 من شوال 110هـ)


عُرف محمد بن سيرين بالزهد والورع، وكان محدثًا بارعًا وفقيهًا متمكنًا، وقد اجتمع على حبه أهل زمانه، حيث وجدوا فيه من العلم والحكمة والأدب والزهد والتواضع ما جعله يتربع في أفئدتهم ونفوسهم وعقولهم ويحظى بتلك المنزلة الرفيعة.

الميلاد والنشأة

ولد أبو بكر محمد بن سيرين البصري الأنصاري في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة (33 هـ = 653م)، فهو من التابعين الذين عُرفوا بالزهد والورع، وكان إمام عصره في علوم الدين، وقد اشتهر بالعلم والفقه وتعبير الرؤيا.

وكان أبوه مولى لأنس بن مالك، وهو من سبي "عين التمر"، وقد كاتبه أنس على عشرين ألف درهم، فأداها وعُتِقَ. وكانت أمه صفية مولاة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه.

شيوخه وتلاميذه

وقد سمع محمد بن سيرين من عدد من الصحابة منهم: عبد الله بن عمر، وجندب بن عبد الله البجلي، وأبو هريرة، وعبد الله بن الزبير، وعمران بن حصين، وعدي بن حاتم، وسليمان بن عامر، وأم عطية الأنصارية.

كما سمع من عدد من التابعين منهم: عبيدة السلماني، ومسلم بن يسار، وشريح، وقيس بن عباد، وعلقمة، والربيع بن خيثم، ومعبد بن خيثم، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأخته حفصة بنت أبي بكر، وغيرهم كثيرون.

وذكر أنه أدرك ثلاثين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وروى عنه عدد كبير من التابعين، منهم: الشعبي وأيوب، وقتادة وسليمان التيمي وغيرهم.

زهده وورعه

كانت حياة ابن سيرين تفيض بالروحانية وتشع بالزهد والورع، فقد كان كثير الصوم والذكر، يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان اليوم الذي يفطر فيه يتغدى ولا يتعشى، ثم يتسحر ويصبح صائمًا.

وكان دائم الذكر والدعاء لله ، وكان له سبعة أوراد يقرؤها بالليل، فإذا فاته منها شيء قرأه في النهار، وكان يحيي الليل في رمضان.

روى هشام بن حسان قال: "ربما سمعت بكاء محمد بن سيرين في جوف الليل وهو يصلي،

وكان إذا ذُكر الموت مات كل عضو منه على حِدَتِهِ، وتغيّر لونه واصفر، وكأنه ليس بالذي كان". وقد وصفه الحافظ أبو نعيم في طبقاته بقوله: "كان ذا ورع وأمانة وحيطة وحسانة، كان بالليل بكّاء، وبالنهار بسّامًا سائحًا، يصوم يومًا ويفطر يومًا". وقال عنه بكر بن عبد الله المزني: "من سره أن ينظر إلى أورع أهل زمانه؛ فلينظر إلى محمد بن سيرين، فوالله ما أدركنا من هو أورع منه".

قدوة حتى في السجن

وكان ابن سيرين على قدر من الثراء، وكان له ثلاثون ولدًا، ولكنه امتُحن بفقد المال والولد؛ فقد توفي أبناؤه جميعًا فلم يبق منهم غير عبد الله.

كما فقد أمواله حينما أصيب بخسارة كبيرة في تجارته، وقد تعرض للسجن، فقد حُبس في دين ركبه لغريمٍ له، فقد كان اشترى زيتًا بأربعين ألف درهم، فوجد في زقٍ من هذه الصفقة فأرة، فما كان منه إلا أن صب الزيت كله، ولم يبع شيئًا منه، فقد أبت عليه أمانته وخلقه وورعه أن يطعمه الناس أو يبيعهم إياه؛ حيث ظن أن الفأرة كانت في المعصرة.

وقد ضرب ابن سيرين أروع الأمثلة في الأمانة والصدق وحسن الخلق حتى وهو في سجنه، حيث إنه لمّا حبس في دينه، وهو من هو في زهده وورعه وعلمه، وكانت شهرته قد طبقت الآفاق وعرفه الناس وعلموا فضله ومكانته، فقد تعاطف معه سجانه، وأبت عليه مروءته أن يبات هذا العالم الجليل في جنبات السجن، وأن يقضي ليله خلف القضبان كالمجرمين، فقال له: "إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك، وإذا أصبحت فتعال"، فما كان من ذلك العالم القدوة إلا أن أجابه بثقة وإيمان: "لا والله لا أعينك على خيانة السلطان".

وتجلت أمانته وصدقه في موقف آخر تعرض له وهو في سجنه أيضا؛ فحينما حضرت الوفاة أنس بن مالك أوصى أن يغسّله محمد بن سيرين، فلما أتوه في ذلك قال: "أنا محبوس"! قالوا: قد استأذنّا الأمير فأذن لك. فإذا به يجيبهم بتلك الهمة العالية، والوعي الشديد: "إن الأمير لم يحبسني، وإنما حبسني الذي له الحق"، فلما أذن له صاحب الحق خرج فغسّله.

في حياته الخاصة

كان ابن سيرين مثالا صادقًا للمسلم الحق وللخلق الرفيع، وكانت حياته حافلة بالصور الرائعة للأمانة والزهد والبر والتواضع، يقدم في حياته وسلوكه القدوة والنموذج للداعية الواعي والعابد المخلص والصديق الناصح والابن البار والعالم المجتهد والتاجر الأمين.

لقد كان بارًا بأمه شديد اللين والتواضع لها، يخفض لها جناح الذل والرحمة حتى لا يُسمع له صوت بحضرتها ولا يكلمها إلا عن ضعف وخضوع، حتى قال عنه بعض آل سيرين: "ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه إلا وهو يتضرع".

تغلب ابن سيرين على محنته بالصبر والإيمان والتسليم بقضاء الله ، فحينما ركبه الدين لم يقنط ولم ييئس، وإنما كان صابرًا شاكرًا، ووجد في الزهد الدواء لكل داء، ووجد في الذكر والدعاء البرء والشفاء، فخفّف من مطعمه حتى كان أكثر أدمه السمك الصغار، ووصل ليله بنهاره في الصلاة والذكر والدعاء.

ثناء العلماء والفقهاء عليه

نال ابن سيرين حب وثناء وتقدير الكثير من العلماء ممن عاصروه وممن جاءوا من بعده، وشهد له كثيرون بالفضل والزهد والورع والعلم والفقه.

فقال عنه الخطيب البغدادي في تاريخه: "كان ابن سيرين أحد الفقهاء المذكورين بالورع في وقته". وقال عنه مورق العجلي: "ما رأيت رجلا أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين". وقال ابن عون: "كان ابن سيرين من أرجى الناس لهذه الأمة وأشدهم أزرًا على نفسه". وقال عثمان البتي: "لم يكن بهذه البلدة أحد أعلم بالقضاء من محمد بن سيرين". وقال خلف: "كان محمد بن سيرين قد أُعطي هديًا وسمتًا وخشوعًا فكان الناس إذا رأوه ذكروا الله". وقال يونس بن عبيد: "أما ابن سيرين فإنه لم يعرض له أمران في دينه إلا أخذ بأوثقهما". وقال سفيان بن عيينة: لم يكن في كوفي ولا بصرى ورع مثل ورع محمد بن سيرين".

رواياته من الحديث

روى محمد بن سيرين عددًا من الأحاديث، فقد سمع عن عدد من الصحابة وروى عنهم، ومما أسند ابن سيرين من أحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم) ما رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل ناسيًا وهو صائم فليتم فإنما أطعمه الله وسقاه" أخرجه البخاري.

وروى أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله خيرًا إلا أعطاه" أخرجه البخاري. وروى عنه أيضا قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من هم بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب وإن عملها كتبت" أخرجه مسلم.. وقد بلغ عدد مروياته في الكتب التسعة (874) حديثًا.

آثاره ومؤلفاته

عرف ابن سيرين بالحكمة والزهد، وكان بليغًا فصيحًا في مواعظه، ومن أقواله التي صارت تجري مجرى الأمثال لفصاحتها وبلاغتها، ويسرها: "إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرًا جعل له واعظًا من قلبه يأمره وينهاه".. "ظلمٌ لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم وتكتم خيره".. "الكلام أوسع من أن يكذب فيه ظريف".. "لا تكرم أخاك بما يشق عليك".. "العزلة عبادة".

تفسير الأحلام

ويعد ابن سيرين الرائد الأول لعلم تفسير الأحلام، وهو أول من أفرد له التصانيف، وجعله علمًا له أدواته وأصوله وقواعده وشروطه.

وقد صنف ابن سيرين كتابين يعدان أساسًا لمن صنّف بعده في هذا الفن وهما: تعبير الرؤيا، وتفسير الأحلام الكبير. وقد طبعا مرارًا.

منهجه في تفسير الأحلام

أوضح ابن سيرين في مقدمة كتابه "تعبير الرؤيا" شروط تعبير الرؤيا التي يجب أن يكون عليها من يتعرض لهذا الفن، فيقول: "إن الرؤيا لما كانت جزءًا من ستة وأربعين جزءا من النبوة، لزم أن يكون المعبر عالمًا بكتاب الله ، حافظًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيرًا بلسان العرب واشتقاق الألفاظ، عارفًا بهيئات الناس، ضابطًا لأصول التعبير، عفيف النفس، طاهر الأخلاق، صادق اللسان؛ ليوفقه الله لما فيه الصواب ويهديه لمعرفة معارف أولي الألباب".

ويرى ابن سيرين أن الرؤيا قد تُعبّر باختلاف أحوال الأزمنة والأوقات، فتارة تعبر من كتاب الله ، وتارة تعبر من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما قد تعبر بالمثل السائر. فأما التأويل من القرآن فكالبيض يُعبّر عنها بالنساء ، لقوله تعالى: "كأنهن بيض مكنون"، وكالحجارة يعبر عنها بالقسوة، لقوله تعالى: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة".

وأما التأول من حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) فكالضلع يعبر عنه بالمرأة؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "المرأة خُلقت من ضلع أعوج"، وكالفأرة يعبر عنها بالمرأة الفاسقة لقوله (صلى الله عليه وسلم) "الفأرة فاسقة"، وكالغراب الذي يعبر عنه بالرجل الفاسق؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) سمّاه فاسقًا.

نماذج من تفسير الرؤيا عنده

جعل ابن سيرين لكل رمز من الرموز التي يراها النائم في منامه معنى يدل عليه في سياق الجو الذي يحيط به والملابسات والحوادث التي يظهر من خلالها؛ فمن رأى أنه دخل الجنة، فإنه يدخلها، وهي بشارة له بما تقدم من صالح الأعمال، فإن رأى أنه يأكل ثمارها، أو أعطاها غيره فإن ثمار الجنة كلام طيب، مثل كلام البر والخير بقدر ذلك.

أما رؤيا المطر فإنها دليل غيث ورحمة، وكذلك الغمام، فإن كان خاصًا في موضع دار أو محلة دون غيرها كان ذلك أوجاعًا أو أمراضًا، أو خسارة في الدنيا تقع بأهل ذلك الموضع المخصوص بها.

ورؤية الحية تأويلها عدو كاتم العداوة مبالغ فيها بقدر عظم الحية وهيبتها في المنظر. والنور في التأويل هداية. والظلمة ضلال. والطريق طريق الحق، والميل عنه ميل إلى الباطل. والأسد عدو متسلط ذو سلطان وبأس شديد. أما الكلب فعدو غير بالغ في عدواته، وقد ينقلب صديقًا، ولكنه دنيء النفس قليل المروءة.

وفاته

توفي ابن سيرين بالبصرة في (9 من شوال 110هـ = 15 من يناير 729م) عن عمر بلغ نحو ثمانين عامًا.

عبدالغفور الخطيب
12-11-2005, 12:49 AM
سبع خطوات سلطانية لـ"شيخ الإسلام"

(في ذكرى وفاة شيخ الإسلام أسعد أفندي: 10 من شوال 1166هـ)





السلطان محمد الفاتح أول من أطلق هذا المنصب

عرفت الدولة العثمانية منصب شيخ الإسلام في فترة مبكرة من تاريخها، ترجع إلى عهد السلطان محمد الفاتح، فبعد أن فتح مدينة القسطنطينية أطلق عليها اسم "إسلام بول" الذي تحرف مع الوقت إلى إستانبول، أي "دار السلام"، وجعلها عاصمة لدولته، ونقل إليها مؤسسات الدولة، وأحدث تغييرات في مناصب الدولة، كان من بينها أن أطلق على مفتي العاصمة أو المفتي الأكبر لقب شيخ الإسلام؛ تقديرا لمهامه التي يقوم بها، وتمييزا له عن سائر رجال الإفتاء الذين يعملون في الأقاليم والمدن الكبرى في أنحاء الدولة العثمانية.

ويعد شيخ الإسلام أكبر شخصية دينية في الدولة العثمانية، والرئيس الفعلي للهيئة الدينية التي كانت تضم القضاة بمختلف فئاتهم ودرجاتهم والمفتين وأساتذة الشريعة وهيئات التدريس في المدارس الإسلامية.

اختصاصات شيخ الإسلام

وكان الصدر الأعظم والوزراء يلتمسون رأيه في بعض القضايا الهامة والمسائل العاجلة، ويعرضون عليه مشروعات القوانين الوضعية ومدى ملاءمتها لمبادئ الشريعة الإسلامية قبل إقرارها بصفة نهائية، وكانت تحال عليه القضايا الجنائية التي صدر حكم بإعدام المتهم فيها ليرى رأيه قبل تنفيذ الحكم، ويطمئن على سلامة الإجراءات والتحقيق وصدق الأدلة الثابتة على المتهم.

وبلغ من اتساع اختصاصات شيخ الإسلام أن السلطان كان لا يقدم على الدخول في حرب من الحروب دون أن يستصدر فتوى من شيخ الإسلام أن هذه الحرب لا تتعارض مع الدين، وأن لها أسبابا قوية توجب الدخول فيها، وكان شيخ الإسلام يوفد الوعاظ إلى سائر الأنحاء للإعلان أن الحرب التي تخوضها الدولة إنما هي حرب دينية تستلزم تأييد الناس لها ووقفوهم في جانبها.

وحين حاول السلطان الأول تخيير رعاياه المسيحيين بين اعتناق الإسلام أو القتل، وقف له شيخ الإسلام، وأصدر فتوى أن الشريعة الإسلامية تسمح للمسيحيين وغيرهم من أهل الكتاب الخاضعين للدولة الإسلامية بالبقاء على دينهم، ما داموا يدفعون الجزية باعتبارها بديلا نقديا يعفيهم من التجنيد بممارسة شعائر دينهم في حرية تامة، وأن تقوم الدولة بالمحافظة على أرواحهم وممتلكاتهم ما داموا ملتزمين بقوانين الدولة، وإزاء هذه الفتوى القوية أذعن السلطان لها، وتراجع عما كان ينوي الإقدام عليه.

وكان لشيخ الإسلام دون سواه الحق في إصدار الفتوى بعزل السلطان القائم بالحكم إذا بدا منه انحراف عن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية تطبيقا سليما، أو ثبت إصابته بمرض لا يرجى شفاؤه، ومن السلاطين العثمانيين الذين صدرت فتاوى من شيخ الإسلام بعزلهم: إبراهيم خان الأول، وسليم الثالث، وعبد العزيز خان، ومراد الخامس.

شيخ الإسلام والصدر الأعظم

بلغ من تكريم الدولة لشيخ الإسلام أنه كان هو والصدر الأعظم الوحيدين في الدولة اللذين يتسلمان قرار تعيينهما في منصبهما من يد السلطان، وكان من التقاليد المتبعة في الاحتفالات الرسمية ألا يتقدم أحدهما على الآخر بل كانا يسيران جنبا إلى جنب، وإذا قام أحدهما بزيارة رسمية للآخر اتبع في استقباله وتوديعه مراسم التكريم والتشريف التي تتبع في استقبال الآخر وتوديعه، وكان شيخ الإسلام إذا ذهب لمقابلة السلطان خفّ لاستقباله متقدما سبع خطوات، في حين لم يكن يتقدم لاستقبال الصدر الأعظم أو الوزراء سوى ثلاث خطوات.

وظل هذا المنصب قائما محاطا بكل أنواع التكريم من قبل السلطان أو الرعية حتى ألغي مع إلغاء نظام السلطنة في سنة (1341 هـ= 1922م)، وكان آخر من تولى هذا المنصب الجليل هو العلامة "مصطفى صبري".

هذه مقدمة موجزة جدا عن منصب شيخ الإسلام قبل أن نتناول ترجمة أسعد أفندي، وهو واحد ممن تولوا هذا المنصب في الدولة العثمانية.

مولد أسعد أفندي ونشأته

ولد أسعد أفندي في مدينة إستانبول في ذي القعدة (1096 هـ= أكتوبر 1685م)، ونشأ في بيت علم وفضل؛ فأبوه أبو إسحاق إسماعيل أفندي كان يتولى مشيخة الإسلام، وجده الشيخ إبراهيم العلائي واحد من كبار علماء الدولة، وعلى يدي هذين تلقى أسعد أفندي أول دروسه في العلم، ثم انتقل إلى غيرهما من العلماء للتلمذة عليهم.

وقد أظهر التلميذ النابه نبوغا مبكرا وتفوقا في تحصيل العلوم الشرعية، من فقه وحديث وتفسير وأصول وتفسير، حتى نال رتبة "الملازمة العلمية"، وهي شهادات مرموقة أتاحت له التدريس في مدرسة "جلطة سراي".

العمل بالقضاء

وبعد فترة من عمله بالتدريس انتقل إلى سلك القضاء، وتدرج في مناصبه، فعين في تفتيش الحرمين وفي أمانة الفتوى الملحقة بمكتب شيخ الإسلام، التي تقوم ببحث المسائل الشرعية التي يطلب إلى شيخ الإسلام إصدار فتاوى بشأنها، ثم تولى قضاء مدينة سلانيك ثم المدينة المنورة سنة (1146 هـ= 1732م)، ثم انتقل إلى مكة وتولى قضاءها سنة (1147هـ= 1734م)، وكان أخوه إسحاق أفندي في تلك الفترة يتولى مشيخة الإسلام في إستانبول.

المشاركة في الغزو

وفي عهد السلطان محمود الأول عين أسعد أفندي في (ذي القعدة 1150هـ= مارس 1737م) قاضيا للجيش العثماني، وشارك من خلال منصبه بالجهاد في أوربا؛ فشهد الحرب التي خاضتها الدولة العثمانية ضد النمسا وألحقت بها هزيمة كبيرة وأجبرتها على الجلاء من بلاد البوسنة والصرب والتقهقر إلى ما وراء نهر الدانوب في سنة (1152هـ= 1739م)، واضطرت النمسا إلى طلب الصلح، وكان أسعد أفندي من ضمن الفريق المكلف بالتباحث وعقد الصلح بين البلدين، وبمقتضاه تنازلت النمسا عن مدينة بلجراد للدولة العثمانية، فدخلها الفاتحون العثمانيون في (جمادى الآخرة 1152هـ= سبتمبر 1739م).

قاضي عسكر الرومللي

ثم تولى سعد أفندي منصب قاضي عسكر الرومللي فيما بين سنتي (1157– 1159هـ= 1744-1746م)، وكان شاغل هذا المنصب يتولى تعيين جميع القضاة الذين يعملون في أوربا، والعاملين في المساجد التي أقيمت في الولايات العثمانية الأوروبية، كما كان يصحب الجيش العثماني حين يتوغل في أوربا ويخوض المعارك.

وكان قاضي عسكر الرومللي وزميله قاضي عسكر الأناضول الذي يليه في المنزلة، ويمارس اختصاصاته فيما يختص بالأقاليم العثمانية في آسيا، يليان شيخ الإسلام في الرتبة، ويشتركان مع الصدر الأعظم الذي يتولى رئاسة الديوان في نظر القضايا التي تعرض عليه.

شيخ الإسلام

ثم اختير أسعد أفندي ليتولى منصب شيخ الإسلام في (24 من رجب 1161هـ=20 من يوليو 1748م) بعد أن سبقه لتولي هذا المنصب أبوه وأخوه، وكان ذلك في عهد السلطان محمود الأول السلطان الرابع والعشرين في سلسلة سلاطين الدولة العثمانية، ولكن الشيخ لم يبق في منصبه مدة طويلة، حيث عُزل عن منصبه بعد أكثر من عام في (شعبان 1162هـ= أغسطس 1749م)؛ بسبب شدته في الحق، وأبعد عن العاصمة إلى مدينة سينوب ثم غاليبوني، ثم عاد إلى إستانبول في (ربيع الآخر 1165هـ= مارس 1752)، وقضى بها ما تبقى من عمره محاطا بكل تقدير من الناس الذين رأوا فيه صدقا في الخلق وسعة في العلم وشجاعة في الحق والتزاما بالواجب.

وفاته

كان الشيخ إلى جانب علمه الواسع في الشريعة وقدرته على الإفتاء متبحرا في التركية، وله فيها مؤلفات قيمة أشهرها معجمه المعروف "لهجة اللغات"، وقد طبع في إستانبول سنة (1216هـ= 1810م)، وكان له إلمام عميق بالموسيقى والألحان، وترك في تناول ذلك أكثر من كتاب، منها "أطرب الآثار في تذكرة عرفاء الأدوار"، وهو يشمل ترجمة لمائة من علماء الموسيقى، وطبع في إستانبول سنة (1311هـ= 1893م).

وبعد عودته إلى إستنابول لم تطل به الحياة فلقي الله وهو في السبعين من عمره في (10 من شوال 1166هـ= 10 من أغسطس 1753م)، ودفن في فناء المسجد الذي بناه والده.

عبدالغفور الخطيب
15-11-2005, 02:01 AM
الخوارزميون ومواجهة الإعصار المغولي

(في ذكرى وفاة علاء الدين خوارزم: 13 من شوال 617هـ)






نشأت الدولة الخوارزمية بين أحضان دولة السلاجقة التي حكمت مناطق واسعة في الشرق الإسلامي، فقد ظهر في عهد السلطان السلجوقي "ملكشاه" مملوك نابه في بلاطه، يسمى "أنوشتكين" نجح في أن يحظى بتقدير السلطان ونيل ثقته، فجعله واليًا على إقليم خوارزم، وظل على ولايته حتى وفاته سنة (490هـ=1097م)، فخلفه ابنه محمد وكان على مقدرة وكفاية مثل أبيه، فظل يحكم باسم الدولة السلجوقية ثلاثين عامًا، نجح في أثنائها في تثبيت سلطانه، ومد نفوذه، وتأسيس دولته وعُرف باسم خوارزم شاه، أي أمير خوارزم، والتصق به اللقب وعُرف به.

وبعد وفاته سنة (522هـ=1128م) خلفه ابنه "أتسز" بموافقة السلطان السلجوقي سنجر، وكان أتسز واليًا طموحًا مد بصره فرأى دولة السلاجقة توشك على الانهيار، فتطلع إلى بسط نفوذه على حسابها، واقتطاع أراضيها وإخضاعها لحكمه، ودخل في حروب مع السلطان سنجر الذي وقف بالمرصاد لطموحات أتسز، ولم يمكنه من تحقيق أطماعه، وأجبره على الاعتراف بتبعيته له، وظل يحكم خوارزم تحت سيادة السلاجقة حتى وفاته في سنة (551هـ=1156م).

وفي الوقت الذي بدأ الضعف يدب في أوصال الدولة السلجوقية كانت الدولة الخوارزمية تزداد قوة وشبابًا، حتى تمكنت من إزاحة دولة السلاجقة والاستيلاء على ما كان تحت يديها من بلاد، وكان السلطان "تكش" بطل هذه المرحلة، وتعد فترة حكمه التي امتدت أكثر من ربع قرن (568-596هـ=1173-1200م) العصر الذهبي للدولة الخوارزمية.

علاء الدين

ولما توفي "تكش" سنة (596هـ=1199م) خلفه ابنه "علاء الدين محمد"، وكان كأبيه طموحًا يتطلع إلى توسيع دولته وبسط نفوذها، فدخل في حروب مع جيرانه، فاستولى على معظم إقليم خراسان، وقضى على دولة الخطا سنة (606هـ=1209م)، واستولى على بلاد ما وراء النهر، وأخضع لسلطانه مكران وكرمان والأقاليم الواقعة غربي نهر السند، وسيطر على ممتلكات دولة الغور في أفغانستان، وبلغت بذلك الدولة أقصى اتساعها في عهده، حيث امتدت من حدود العراق العربي غربًا إلى حدود الهند شرقًا، ومن شمال بحر قزوين وبحر آرال شمالاً إلى الخليج العربي والمحيط الهندي جنوبًا.

ظهور جنكيزخان

وتزامن مع اتساع الدولة الخوارزمية وازدياد نفوذها ظهور المغول وبروز دولتهم على يد "تيموجين" المعروف بجنكيزخان الذي نجح في السيطرة على قبائل المغول، وإحكام قبضته عليهم، وما كاد يهل عام (602هـ=1206م) حتى كان قد أخضع لسلطانه كل بدو صحراء جوبي، واتخذ من مدينة "قراقورم" مقرًا له، ووضع للقبائل الخاضعة لها نظامًا يحكمها وقوانين يحتكمون إليها، سميت بالياسا، وهو دستور اجتماعي وعسكري صارم، أساسه الطاعة العمياء للسلطان.

وبعد أن رسخت أقدام جنكيزخان ووثق من قوته تطلع إلى توسيع رقعة دولته، ومد بصره إلى بلاد الصين، حيث الخصب والنماء، فشن حملات عليها، واستولى على مساحات شاسعة من بلاد الصين وتوج جهوده بالسيطرة على العاصمة بكين سنة (612هـ=1215م).

الاحتكاك بين الدولتين

تجاورت الدولتان القويتان، ولم يكن هناك مفر من الصدام بينهما، وكان كل منهما ينتظر الفرصة للانقضاض على الآخر، وحدث ما لم يكن منه بد، فالتقى السلطان محمد خوارزم وهو في طريقه إلى إحدى الغزوات بفرقة من الجيش المغولي كان يقودها "جوجي بن جنكيزخان"، وعلى الرغم من ضخامة جيش الخوارزميين، فإنه لم يفلح في تحقيق نصر حاسم على تلك الفرقة لمهارتها في القتال وأساليبها المبتكرة في الحرب التي اندهش لها الجيش الخورازمي.

وكان لهذا اللقاء أثر في نفس السلطان الخوارزمي، فاستشعر الخوف من هؤلاء الجيران الجدد، ولم يأمن غدرهم، فبدأ يتابع أخبارهم، ولما وصلت إليه أنباء استيلاء جنكيزخان على بكين لم يصدق هذه الأخبار، وأرسل وفدًا إلى بكين للوقوف على جلية الأمر، ومقابلة جنكيزخان، فلما وصل إلى هناك استقبلهم وأحسن وفادتهم وبعث معهم برسالة ودية إلى السلطان الخوارزمي.

وبدلاً من أن ينصرف السلطان إلى تقوية دولته والقضاء على المغول الذين يهددون دولته أو مسالمتهم، انصرف إلى النزاع مع الخليفة العباسي الناصر لدين الله، وطمع في أن يكون له الهيمنة على بغداد والخلافة العباسية كما كانت لسلاطين السلاجقة، فحرك جيوشه الجرارة تجاه بغداد، لكن الأمطار الغزيرة والعواصف الشديدة تكفلت بالأمر وتصدت له، فمات عدد كبير من جند الخوارزميين وهلكت خيولهم، واضطر السلطان إلى العودة إلى بلاده سنة (614هـ=1217م)، يجر أذيال الخيبة والفشل وكانت هذه أول صدمة قاتلة قابلته منذ أن ولي الحكم في سنة (596هـ-1199م).

حادثة قتل التجار

رجع السلطان بعد فشل أمله في السيطرة على بغداد إلى بلاد ما وراء النهر، واستقبل هناك وفدًا من تجار المغول المسلمين يحملون رسالة من جنكيزخان إلى السلطان يعرض عليه إبرام معاهدة تجارية بين البلدين فوافق السلطان على مضض، بعد أن شعر أن الرسالة تحمل في طياتها التهديد والوعيد، وكان في السلطان أنفة وكبرياء، فأسّرها في نفسه وإن لم يبدها في الحال.

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد قدم جماعة من التجار من رعايا جنكيزخان إلى مدينة "أترار" التابعة للدولة الخوارزمية، فارتاب فيهم "ينال خان" حاكم المدينة دون تثبت، وبعث إلى السلطان الخوارزمي يخبره بالأمر، وبشكوكه فيهم، فبعث إليه يأمره بالقبض عليهم وقتلهم؛ باعتبارهم جواسيس من قبل جنكيزخان.

وكان من الطبيعي أن تسوء العلاقة بين الدولتين بعد الحادث الطائش الذي أقدم عليه السلطان، دون أن يدري أن كل قطرة من دماء هؤلاء التجار كلفت المسلمين سيلاً من الدماء لم ينقطع لفترة طويلة، وأرسل جنكيزخان إلى السلطان يطلب منه تسليم حاكم "أترار" ليحاكمه ما دام قد تصرف من تلقاء نفسه دون أن يرجع إليه، لكن السلطان رفض احتجاج جنكيزخان، ولم يلجأ إلى اللين والتلطف، وتملكته العزة بالإثم فأقدم على قتل الوفد الذي يحمل الرسالة دون بصر بعواقب الأمور، قاطعًا كل خيط لإحلال السلام محل الحرب.

الاستعداد للحرب

كان قتل الرسل يعني إعلان الحرب بين الدولتين وقطع كل أمل لحسن الجوار وحدوث السلام، فأخذ كل فريق يستعد للآخر، وشرع السلطان الخوارزمي يستطلع أخبار المغول، ويجهز الجيوش، ويبني الأسوار حول المدن، ويفكر في رسم الخطط الحربية، حتى صار لا يتكلم إلا في موضوع الحرب الذي شغل قلبه، وفي الوقت نفسه كان جنكيزخان يستعد للصدام المرتقب بينهما، فجهز جيوشه، وأعد أسلحته، وحشد كل ما يمكن حشده.

وبعد أن أكمل جنكيزخان استعداداته انطلق بجيشه نحو بلاد ما وراء النهر في خريف سنة (616هـ= 1219م) وهو يعتقد أنه سيقابل خصمًا قويًا، يحسب له ألف حساب، وبدلاً من أن يخرج الجيش الخوارزمي لملاقاة المغول استقر رأي قادته على ترك المغول يعبرون نهر سيحون، واصطيادهم بعد ذلك في بلاد ما وراء النهر التي لا يعرفون مسالكها، بحيث تنقطع الإمدادات عنهم.

الإعصار المغولي

بلغ جنكيزخان وجيشه نهر سيحون على مقربة من مدينة أترار في رجب (616هـ=1219م) ولم يشأ أن يهاجم الخوارزميين من جهة واحدة، بل من جهات متعددة تربك استعداداتهم، وتشتت وحدتهم، فقسم جيشه الذي يبلغ ما بين مائة وخمسين ألفًا إلى مائتي ألف جندي إلى أربعة جيوش:

- الأول بقيادة ابنيه جغتاي وأوكتاي ومهمته فتح مدينة أترار.

- والثاني بقيادة ابنه جوجي وهو الابن الأكبر لجنكيز خان، ووجهته البلاد الواقعة على ساحل نهر جيجون.

- أما الثالث فمهمته الاستيلاء على مدينتي بنكات وخسجند على نهر سيحون.

- والجيش الرابع كان تحت قيادة جنكيزخان، ويتألف من معظم الجيش المغولي ويضم القوى الضاربة، وكانت وجهته مدينة بخارى الواقعة في قلب إقليم ما وراء النهر، وكانت مهمة هذا الجيش هي التصدي لقوات الخوارزميين، والحيلولة دون وصولهم إلى المدن المحاصرة على نهر سيحون من ناحية الشرق.

وقد نجحت الجيوش الثلاثة فيما وكل إليها من مهام، فسقطت مدينة أترار، بعد أن صمدت للحصار شهرًا كاملاً، وأبلى حاكمها بلاءً حسنًا في الدفاع حتى فقد معظم رجاله، ونفدت المؤن والأقوات، ولم تكن المدن الأخرى بأسعد حالا من أترار فسقطت هي الأخرى أمام الجيشين الثاني والثالث.

سقوط بخارى وسمرقند

أما الجيش الرابع الذي ضم معظم قوات المغول، فقد تحرك إلى بخارى تلك الحاضرة العظيمة، وهاجم المدينة بضراوة شديدة، ودارت معارك عنيفة بين الجيش الموكل بالدفاع عن المدينة وقوات المغول لمدة ثلاثة أيام، انهارت بعدها قوى الخوارزميين ولم يكونوا قليلي العدد، بل كانوا عشرين ألف مقاتل، وشعروا باليأس، فقرروا الانسحاب ليلاً، وتمكنوا من اختراق الجيش المغولي الذي يحاصر المدينة، وأجبروه على الارتداد، ولو أنهم صبروا وتابعوا عدوهم المتقهقر لكان خيرًا لهم، ولكنهم آثروا السلامة تاركين المدينة المنكوبة لقدرها المحتوم أمام المغول الهمج، فاجتاح المغول المدينة الآمنة كالجراد المنتشر في (ذي الحجة 616هـ= فبراير 1219م)، وقاتلوا من اعتصم بقلعتها، وطردوا أهلها بعد أن سلبوا ما في المدينة من أموال، ثم أعملوا السيف فيمن بقي بداخل المدينة، وأنهوا عملهم الوحشي بإحراق المدينة فأصبحت قاعًا صفصفًا بعد أن كانت درة متلألئة بين حواضر العالم الإسلامي.

وبعد أن أجهز جنكيزخان على بخارى اتجه إلى سمرقند حاضرة إقليم ما وراء النهر، وضرب حولها حصارًا شديدًا، ودار قتال عنيف هلك فيه أكثر الجند الخوارزمي؛ ما أضعف مقاومة أهل سمرقند فطلبوا الأمان نظير تسليم المدينة، فأجابهم المغول، وما إن دخلوا المدينة التعسة حتى أعملوا فيها السيف بعد أن جردوهم من أسلحتهم، وأحرقوا المدينة ومسجدها على من فيه من الناس.

نهاية السلطان محمد خوارزم شاه

كانت الهزائم التي لقيها السلطان الخوارزمي قاسية، ولم تكن من قلة في العدد والعتاد، ولكن كانت من سوء قيادة، وفرقة في الصف، وحب للدنيا، وتقاعس عن الجهاد، وخور في العزيمة، ووهن في النفس، فانهار البناء الضخم، وسقطت الدولة المترامية في سنوات قليلة، ولم يعد أمام السلطان سوى التوجه إلى مكان آمن يعيد فيه تنظيم جيشه ويعاود الجهاد حتى يسترد ما فقده، لكنها كانت أحلام بددها إصرار جنكيزخان على تتبع السلطان الفار من بلد إلى آخر، وجند المغول تطارده، حتى انتهى به المطاف إلى همدان في نحو عشرين ألفا من جنوده.

وفي هذه الأثناء تمكن المغول من السيطرة على إقليم خوارزم، أهم ولايات الدولة، وأسروا تركان خان والدة السلطان ومن معها من أبنائه وبناته، فلما قُدّموا إلى جنكيزخان أمر بقتل أبناء السلطان محمد خوارزم وكانوا صغار السن، وزوّج أبناءه وبعض رجاله من بنات السلطان.

وما كادت تصل هذه الأنباء المفجعة إلى السلطان حتى ازداد غمًا على غم، وأصابه الحزن والهم، وكان قد انتهى به الفرار إلى جزيرة في بحر قزوين، يحوطه اليأس والقنوط، فأسلم نفسه للأحزان، ولم يقو على دفعها، وسيطر عليه القلق، وحلت به الأمراض، ولم تكفّ عيناه عن البكاء على المجد الضائع والرئاسة والسلطان، وظل على هذا الحال حتى أسلم الروح في (13 من شوال 617هـ=9 من ديسمبر 1220م)، وقبل وفاته أوصى لابنه جلال الدين منكبرتي بالسلطة، فحمل راية الجهاد، وواصل رحلة الكفاح.. ولهذا حديث آخر.

عبدالغفور الخطيب
16-11-2005, 01:16 AM
شاه ولي الله الدهلوي.. باعث السُّنة في الهند

(في ذكرى مولده: 14 من شوال 1114هـ)





حكم المسلمون الهند منذ أن فتحها محمد الغزنوي سنة (392 هـ= 1001م)، وتتابعت الدول في حكمها فترة بعد فترة، حتى ألقت بمقاليدها إلى الأسرة التيمورية؛ فنهضت بأعباء الحكم، وأقامت حضارة شاهدة على ما بلغته من تقدم وازدهار، ثم وفد الإنجليز إلى الهند تجارا، فأكرم الحكام المسلمون وفادتهم، وساعدوهم في تجاراتهم، وشيئًا فشيئًا اتسع نفوذهم، وعهد إليهم الحكام المسلمون بالقيام على بعض الأعمال، ولم يكن وجودهم خطرا يهدد الدولة في فترة قوتها، حتى إذا ضعفت أسفر الإنجليز عن وجههم القبيح، وسيطروا على الهند، وعلى حكامها المسلمين الذين بلغت دولة الهند في عهدهم مبلغا كبيرا من الضعف والجهل وانتشار الفساد واللهو.

وفي ظل هذه الأجواء المتردية، وانشغال الحكام بأنفسهم، وانصرافهم إلى ملذاتهم، تداعت صيحات مخلصة تنبه القلوب الغافلة، وتوقظ العيون النائمة، وتبث العزم في النفوس الخائرة؛ كي تهب وتستفيق وتقوم بما يجب عليها، وتعيد أمجاد الماضي وتسترد نسماته العطرة، وكان شاه ولي العهد الدهلوي أعلى تلك الأصوات، وأكثرها حركة ونشاطا.

المولد والنشأة

ولد أحمد بن عبد الحليم في دهلي بالهند في (14 من شوال 1114 هـ= 2 من مارس 1703م) في أواخر عهد السلطان أورنجزيب (أحد سلاطين الدولة التيمورية العظام)، ونشأ في بيت علم وصلاح؛ فأبوه كان عالما كبيرا، اشترك في مراجعة الفتاوى الهندية على المذهب الحنفي التي أشرف السلطان أورنجزيب على إخراجها.

تعلم الصبي الصغير في كنف أبيه، فحفظ القرآن الكريم في السابعة من عمره، وانصرف إلى دراسة اللغتين الفارسية والعربية، وتلقى علوم القرآن والحديث والفقه على المذهب الحنفي على أكابر علماء الهند، كما درس الطب والحكمة، والمنطق الفلسفة، ومال إلى الزهد والتصوف في هذه الفترة المبكرة، وأمدته هذه الروح الشفافة بطاقة هائلة، وإقبال على العبادة والطاعات، ونزع الله من قلبه حب الدنيا وزينتها؛ فالتفت القلوب حوله وأطلق عليه الناس "شاه ولي الله"؛ أي ولي الله الكبير.

جلوسه للتدريس

وبعد وفاة والده في سنة (1131 هـ= 1719م) جلس للتدريس، وهو في هذه السن المبكرة يشفع له نبوغه وتمكنه من العلوم الشرعية، فأقبل عليه طلاب العلم يتلقون على يديه الفقه والحديث، وبعد أن أمضى اثني عشر عاما رحل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وبعد أن قضى مناسكها، لازم الحرم المكي وجاور هناك، والتقى بشيوخ مكة وفقهائها ومحدثيها؛ فروى عنهم وتتلمذ على أيديهم، وأجازوه براوية الحديث، ثم عاد إلى بلده في أوائل سنة (1145 هـ= 1722م) ليستأنف حياة الدرس والتعليم.

اتخذ الدهلوي من بيته مكانا لاستقبال طلابه والتدريس فيه، فلما ضاق عليه لكثرة الطلاب الذين يفدون عليه، بنى له السلطان محمد شاه مدرسة كبيرة، وافتتحها بنفسه، واشتهرت باسم "دار العلوم"، تخرج فيها أعداد كبيرة من العلماء ممن حملوا علم الشيخ، ونشروه بين الناس.

جهوده الإصلاحية

تفتحت عينا الشيخ والهند تزداد حالتها سوءا، والحكام يزدادون ضعفا، والبدع والخرافات تفتك بعقول الناس، والإنجليز يمسكون بأزمّة الأمور بعد أن رسخت أقدامهم، فتحركت نفسه إلى الصدع بالحق، ونصح الحكام، والأخذ بأيدي الناس إلى طريق الإصلاح، ولم ينصرف إلى التأليف والتدريس ويترك الناس حيارى لا دليل لهم.

دعا الشيخ إلى التصوف السني القائم على الاعتقاد والعمل بما جاء في الكتاب والسنة، وجرى عليها جمهور الصحابة والتابعين، وقام بتنقية التصوف من الشوائب، التي لحقت به من الفلسفات غير الإسلامية، وإبراز الجانب الإسلامي فيه.

ونادى ولي الله الدهلوي بفتح باب الاجتهاد وعدم التقيد بآراء الفقهاء الأربعة، وذكر أن أبا حنيفة نفسه قال: "لا ينبغي لمن لا يعرف دليله أن يفتي بكلامه"، وقال الإمام مالك بأنه "ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود إلا رسول الله"، وكذلك ذهب الشافعي وابن حنبل.

وقد أثرت جهود الشيخ الإصلاحية في تلامذته، وعلى رأسهم ابنه الشاه عبد العزيز، الذي كان كوالده نابغًا في الحديث والفقه، فحمل راية أبيه بعد وفاته، ووقف للإنجليز حين أخذوا يستبدون بالأمر، ويقلصون سلطات الحاكم المسلم، وأطلق الكلمة المأثورة: "إنه لا يُتصوَّر وجود ملك مسلم بدون نفوذ، إلا إذا تصورنا الشمس بدون ضوء!"، وهو صاحب الفتوى الشهيرة بأن الهند أصبحت دار حرب لا دار إسلام، وعلى المسلمين أن يهبوا جميعا للجهاد بعد أن أصبح إمام المسلمين لا حول له ولا قوة، ولا تنفذ أحكامه، والحل والعقد صار بيد الإنجليز المسيحيين.. يعينون الموظفين، ويدفعون الرواتب، ويشرفون على القضاء وتنفيذ الأحكام.

وكان لصيحات مدرسة "شاه ولى الله الدهلوي" أثر؛ حيث قاد العلماء الجهاد، وخاضوا غمار الحروب والمعارك لإنقاذ المسلمين من الإنجليز، ومن السيخ الذين لقوا دعمًا من المحتلين، ومن أبرز هؤلاء العلماء أحمد عرفان الشهيد الذي تتلمذ على الشاه عبد العزيز الدهلوي وأخيه عبد القادر ابني ولي الله الدهلوي، وسبق أن تناولنا حياته في (6 من صفر).

مؤلفات الشيخ

بارك الله في حياة الشيخ؛ فترك ذرية طيبة، حملوا العلم، وقادوا الجهاد، وتتلمذ عليه مئات من التلاميذ في الحديث؛ فأحيوا السنة بعد أن كادت تموت في الهند، وكان من أشهر تلاميذه الزبيدي صاحب "تاج العروس"، المتوفى سنة (1205 هـ = 1790م).

ورزقه الله سعة في الوقت؛ فترك مؤلفات عظيمة بلغت أكثر من 50 كتابًا، من أشهرها:

"حجة الله البالغة في أسرار الحديث وحكم التشريع"، وقد طُبع في الهند سنة (1286هـ= 1869م)، ثم طُبع في مصر بعد ذلك في سنة (1294هـ= 1877م)؛ وهو ما يدل على اتصال الحركة العلمية في مصر بغيرها من البلاد الإسلامية.

"الإنصاف في بيان سبب الاختلاف"، وهو يتناول مباحث في أصول الفقه ونشأة المذاهب الفقهية وتعددها في الفقه الإسلامي.

و"عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد"، عرض فيه لكثير من الأحكام المتعلقة بالاجتهاد.

"الفوز الكبير في أصول التفسير"، تكلم فيه عن الأشياء التي لا بد لمن يقوم بالتفسير أن يلم بها؛ حتى يكون على بينة من أمره حين يعرض لآيات القرآن الكريم.

و"المسوَّى من أحاديث الموطأ"، شرح فيه أحاديث الكتاب، وبيّن فيه ما تعقبه العلماء على الإمام مالك بإشارة لطيفة.

و"شرح تراجم أبواب البخاري".

وترجم القرآن إلى الفارسية بعنوان "فتح الرحمن في ترجمة القرآن".

وفاة الشيخ

وبعد حياة حافلة بجلائل الأعمال تُوفِّي الشيخ في (26 من المحرم 1176هـ= 17 من أغسطس 1762م)، تاركًا أربعة من أولاده العلماء هم: "شاه عبد العزيز" الذي قام مكانه في العلم والعمل، و"شاه رفيع الدين"، و"شاه عبد القادر"، و"شاه عبد الغني"، ومخلفًا ذكرى عطرة لا يزال شذاها يفوح حتى الآن، وقد أثنى عليه وعلى جهوده العلماء؛ فقال عنه "عبد الحي الكناني" صاحب "فهرس الفهارس": "أحيا الله به وبأولاد بنته وتلاميذهم الحديث والسنة بالهند بعد مواتهما، وعلى كتبه وأسانيده المدار في تلك الديار".

إعداد : أحمد تمام

عبدالغفور الخطيب
17-11-2005, 12:52 AM
محمد البشير الإبراهيمي.. المسيرة والجهود

(في ذكرى مولده: 15 من شوال 1306 هـ)



منذ عشرات القرون والعالم العربي والإسلامي محط أطماع كثير من الدول الاستعمارية المتربصة به، والتي استهدفت دائما تفكيك أوصاله واستنزاف ثرواته، ونجحت أغلب تلك المحاولات الاستعمارية العديدة المنظمة في أن تفرض سيطرتها وتبسط نفوذها وهيمنتها على بعض أقطار الوطن العربي والإسلامي في فترات متفاوتة من تاريخ الأمة العربية والإسلامية عبر مسيرة تاريخها الطويل، ولكن إرادة التحرر وعزيمة أبناء تلك الأمة كانت دائما تنتصر على أطماع الغزاة والمستعمرين مهما طال الزمان، وكان الله يقيض لهذه الأمة روادا من بين أبنائها يبعثون فيها روح الجهاد، ويشعلون فيها إرادة المقاومة حتى تنتصر على أعدائها وتستعيد حريتها وكرامتها، وتملك زمام أمرها من جديد.

وكان "محمد البشير الإبراهيمي" واحدا من هؤلاء الرواد والزعماء الذين أشعلوا تلك الجذوة في نفوس أبناء أمتهم، وساهموا في رفع راية الجهاد ضد الاستعمار في أوطانهم، وفي إيقاظ الوعي بين أبناء أمتهم حتى تحقق لها النصر وتحررت من أغلال الاستعمار البغيض.

لقد كان "البشير الإبراهيمي" حلقة من حلقات الجهاد الطويل في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، وأحد الذين شكلوا وعي ووجدان الأمة العربية والإسلامية على امتداد أقطارها؛ حيث كان أحد رواد الحركة الإصلاحية في "الجزائر"، وأحد مؤسسي "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، وكان زميلا للشيخ "عبد الحميد بن باديس" في قيادة الحركة الإصلاحية، ونائبه في رئاسة جمعية العلماء، ورفيق نضاله لتحرير عقل المسلم من الخرافات والبدع.

البداية والتعلم

ولد "محمد البشير الإبراهيمي" في (15 من شوال 1306 هـ= 16 من يوليو 1889م) في قرية "سيدي عبد الله" قرب "سطيف" غرب مدينة "قسنطينة"، في بيت من أعرق بيوت الجزائر، يرجع نسبه إلى الأدارسة العلويين من أمراء المغرب العربي في أزهى عصوره، وتلقى تعليمه الأوَّلي على والده وعمه الشيخ "محمد المكي الإبراهيمي" الذي كان من أبرز علماء "الجزائر" في عصره؛ فحفظ القرآن ودرس بعض المتون في الفقه واللغة، كما حفظ العديد من متون اللغة ودواوين فحول الشعراء، فلما مات عمه صار يُدَرِّس ما تلقاه عنه، ولم يكن قد جاوز الرابعة عشرة من عمره.

لكنه ما لبث أن غادر "الجزائر" إلى "الحجاز" وهو في العشرين من عمره -سنة (1330 هـ = 1911م)- ليلحق بأبيه الذي كان قد سبقه إلى هناك قبل ذلك بنحو أربعة أعوام.

وواصل "البشير" تعليمه في "المدينة"، واتصل بعالمين كبيرين كان لهما أثر كبير في توجيهه وتكوين فكره، وهما الشيخ "عبد العزيز الوزير التونسي" وقد درس عليه الفقه المالكي وأخذ عنه "موطأ مالك"، والشيخ "حسين أحمد الفيض آبادي الهندي" الذي أخذ عنه "صحيح مسلم". وكان "البشير" شغوفا بالعلم، يقضي معظم وقته بين المكتبات الشهيرة بـ"المدينة"، ينهل من كنوزها، ليروي ظمأه المعرفي ويشبع نهمه العلمي.

علاقة بابن باديس

وفي أثناء إقامته في المدينة تعرف على الشيخ "عبد الحميد بن باديس" عندما قدم لأداء فريضة الحج عام (1331 هـ = 1913م)، كما التقى بعالم جزائري آخر هو "الطيب العقبي" وكان قد سبقه إليها قبل سنوات، وجمعت بين ثلاثتهم ألفة ومودة شديدة زادتها اتصالا ميولهم واهتماماتهم المشتركة، وأضفت عليها الغربة مزيدا من القوة والعمق.

وعاد "ابن باديس" إلى "الجزائر" ليبدأ بها برنامجه الإصلاحي، بينما ظلَّ "البشير" في المدينة حتى غادرها إلى دمشق سنة (1335هـ = 1916م) حيث اشتغل بالتدريس، وشارك في تأسيس "المجمع العلمي" الذي كان من غاياته تعريب الإدارات الحكومية، وهناك التقى بالعديد من علماء دمشق وأدبائها.

تأسيس جمعية العلماء

وفي عام (1338هـ = 1920م) غادر "البشير الإبراهيمي" دمشق عائدا إلى "الجزائر"، وبدأ بدعوته إلى الإصلاح ونشر العلم في مدينة "سطيف"، وبدأ في إلقاء الدروس الدينية والمحاضرات العلمية لطلاب العلم من أبناء بلده، وعندما رأى إقبال طلاب العلم على دروسه وخطبه شجعه ذلك على إنشاء مدرسة لتدريب الشباب على الخطابة وفنون اللغة والأدب، ولم تنقطع صلته بصديقه "ابن باديس" طوال تلك الفترة، فكانا يتبادلان الزيارات من حين لآخر.

وفي عام (1342 هـ = 1924 م) زاره "ابن باديس" وعرض عليه فكرة إقامة "جمعية العلماء"، فلاقت الفكرة قبولا في نفس "البشير"، فأخذا يدرسانها ويضعان لها الأطر والأهداف التي تقوم عليها تلك الجمعية، وقد استغرق ذلك زمنا طويلا حتى خرجت إلى حيز الوجود، وعقد المؤتمر التأسيسي لها في (17 من ذي الحجة 1349 هـ = 5 من مايو 1931 م)، وذلك في أعقاب احتفال "فرنسا" بالعيد المئوي لاحتلال "الجزائر"، وبعد تأسيس الجمعية اختِير "ابن باديس" رئيسا لها واختير "الإبراهيمي" نائبا لرئيسها، وانتدب من قِبل الجمعية لأصعب مهمة، وهي نشر الإصلاح في غرب "الجزائر" وفي مدينة "وهران" وهي المعقل الحصين للصوفية الطرقيين، فبادر إلى ذلك وبدأ ببناء المدارس الحرة، وكان يحاضر في كل مكان يصل إليه، وبنى أكثر من مائتي مسجد، وامتد نشاطه إلى "تلمسان"، وهي واحة الثقافة العربية في غرب "الجزائر".

وقد أثار نشاط "البشير" حفيظة الفرنسيين كما أثار قلقهم ومخاوفهم من نتيجة هذا الغرس الذي يؤدي إلى صحوة إسلامية عارمة، وإيقاظ وعي أبناء الأمة، فأسرعوا باعتقاله ونفيه إلى صحراء "وهران" سنة (1359 هـ = 1940 م)، وبعد أسبوع من اعتقاله توفي "ابن باديس" فاختاره العلماء رئيسا لجمعيتهم خلفا له، ولم يُفرج عنه إلا بعد انتهاء "الحرب العالمية الثانية" سنة (1362 هـ = 1943 م)، لكنه ما لبث أن اعتقل مرة ثانية عام (1364 هـ = 1945 م)، وأفرج عنه بعد عام واحد.

وفى عام (1366 هـ = 1947 م) عادت مجلة "البصائر" للصدور، وكانت مقالات "الإبراهيمي" فيها غاية في القوة والبلاغة، وتتسم بقدر كبير من الجرأة والصراحة والنقد القاسي لفرنسا وعملاء "فرنسا".

قضايا واهتمامات

وقد وقف "البشير" -في "البصائر"- مدافعا عن اللغة العربية ضد حملات التغريب من المستعمر الفرنسي وأعوانه، يقول عن اللغة العربية: "اللغة العربية في القطر الجزائري ليست غريبة، ولا دخيلة، بل هي في دارها وبين حماتها وأنصارها، وهي ممتدة الجذور مع الماضي، مشتدة الأواصر مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل".. كما اهتم أيضا بالدفاع عن قضية "فلسطين"، وسخر قلمه للتعريف بها والدفاع عنها.

وقد كان "البشير الإبراهيمي" واسع المعرفة، متنوع الثقافة، متعدد الميول والاهتمامات، ألف في الأدب واللغة، كما صنف في الفقه والمعاملات، ونظم الشعر وكتب العديد من المقالات، وترك "البشير" تراثا علميّا وأدبيّا كبيرا ما يزال بعضه حبيسا حتى الآن، ومن أهم تلك الأعمال:

- أسرار الضمائر العربية.

- الاطراد والشذوذ في العربية.

- التسمية بالمصدر.

- حكمة مشروعية الزكاة.

- رواية "كاهنة أوراس".

- شعب الإيمان (في الفضائل والأخلاق الإسلامية).

- الصفات التي جاءت على وزن "فُعَل".

- عيون "البصائر"، (وهي مجموعة مقالاته التي نشرت في جريدة "البصائر").

- فتاوى متناثرة.

- الملحة الرجزية في التاريخ.

وقد عاش "البشير الإبراهيمي" حتى استقلت الجزائر، فلما أُعْلِن الاستقلال عاد إلى وطنه، وخطب لأول صلاة جمعة في مسجد "كتشاوة" بالعاصمة الجزائرية، وكان الفرنسيون قد حولوه إلى كنيسة بعد احتلالهم "الجزائر".

وقد لزم "البشير" بيته بعد عودته، ولم يشارك في الحياة العامة بعد أن تقدم به العمر ووهنت صحته، إلا أنه لم يكن راضيا عن الاتجاه الذي بدأت تتجه إليه الدولة بعد الاستقلال؛ فأصدر عام (1384 هـ = 1964 م) بيانا قال فيه: "إن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تنبعث من صميم جذورنا العربية الإسلامية لا من مذاهب أجنبية".

تُوفي -رحمه الله- يوم الخميس (18 من المحرم 1385 هـ = 19من مايو1965م) عن عمر بلغ (76) سنة، قضاها في خدمة الإسلام والمسلمين.


منقول

عبدالغفور الخطيب
18-11-2005, 03:06 AM
ثورة القاهرة الثانية.. السعي للحرية

(في ذكرى قيامها: 16 من شوال 1214هـ)



أدرك الجنرال كليبر قائد الحملة الفرنسية على مصر بعد نابليون بونابرت حرج موقفه، وعدم قدرة أفراد حملته على الاستمرار في مصر، فقرر التفاوض مع "يوسف باشا ضيا" الصدر الأعظم الذي جاء على رأس جيش ضخم لإخراج الفرنسيين من القاهرة، واتفق الطرفان على طريقة تحفظ الكرامة لخروج الجيش الفرنسي وتبقي على شرفه العسكري، وتضمّن الاتفاق طريقة تنظيم جلاء الفرنسيين عن مصر، وتحدد المراحل والأزمنة لتحقيق هذا الجلاء، وأطلق على هذا الاتفاق معاهدة العريش، وأبرمت في (22 من شعبان 1214هـ=24 من يناير 1800م).

وعلى الفور بدأ كليبر في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه فأجلت الحملة قواتها في بعض المناطق البعيدة، فدخلها العثمانيون وحلوا محل القوات الفرنسية المنسحبة، وعسكر الصدر الأعظم بجيشه في "بلبيس"، وتسلل جزء من الجيش العثماني إلى داخل القاهرة، وعين العثمانيون واليًا لهم على الصعيد، وأصبح جلاء الفرنسيين قاب قوسين أو أدنى، غير أن كليبر فوجئ برسالة من قائد الأسطول البريطاني يعلنه أن اللورد كيث القائد الأعلى للأسطول قد رفض التصديق على المعاهدة، وأنه لم يعد أمام الفرنسيين سوى التسليم بلا قيد أو شرط كأسرى حرب، ولا سبيل لعودتهم إلى فرنسا على هذا النحو الذي تم الاتفاق عليه مع الدولة العثمانية.

جن جنون كليبر وثار ثورة عامة وقرر أن يبطش بالعثمانيين، فأعاد احتلال المواقع التي كان قد أخلاها، ثم باغت الجيش العثماني المرابط على مشارف القاهرة في المطرية وعين شمس في (16 من شوال 1214هـ=20 من مارس 1800م)، فارتد الجيش العثماني على غير نظام بعد أن كبلت خطاه المفاجأة، وأفقدته القدرة على التوازن وصد الهجوم، وهو الجيش الذي كان يعادل أربعة أمثال الجيش الفرنسي، وتقهقر إلى الصالحية، ثم غادر الحدود المصرية إلى سوريا، والجيش الفرنسي في إثره.

اندلاع الثورة

وفي أثناء القتال تمكنت فصيلة من الجيش من التسلل إلى القاهرة، وحرضوا أهلها على الثورة ضد الفرنسيين في الوقت الذي تدور فيه رحى الحرب في عين شمس، ولم يكن الشعب المصري يحتاج إلى أكثر من إشارة حتى يهب هبة عارمة ضد الغاصب المحتل، لا يبالي بشيء، وفي ساعات قليلة تجمع الشعب وحمل السلاح، وأقام المتاريس حول الأزهر والأحياء المحيطة، وشرع في مهاجمة المواقع الفرنسية في الأزبكية، وكانت نقطة ابتداء الثورة وإعلان الجهاد على الفرنسيين في حي بولاق، ثم امتدت بعد ذلك إلى سائر أحياء العاصمة.

وقام الثائرون بإنشاء معامل للبارود ومصانع لصب المدافع، وعملوا القنابل، وقاوموا قوات الاحتلال وصمدوا للحمم الملتهبة التي كانت ترميهم بها مدافع الفرنسيين، وثبتوا للحصار الذي فرضته القوات الفرنسية على المدينة، وكان صبر المصريين أمرًا مثيرًا للإعجاب والتقدير.

وعندما وصل كليبر إلى القاهرة بعد انتصاره على العثمانيين وجد الثورة قد اشتد أوارها، وامتد لهيبها إلى الوجه البحري منذ أن أخلى الفرنسيون مراكزهم المهمة في الدلتا، وبخاصة في دمياط وسمنود، فأرسل ثلاثة من قادته لإخضاع الوجه البحري، وانتظر عودتهم حتى يتمكن من التفرغ لإخماد ثورة القاهرة.

لجوء كليبر إلى المفاوضة

ولما ازدادت الثورة اشتعالاً وعجز كليبر عن إخمادها لجأ إلى علماء الأزهر يستعين بهم في إيقاف الثورة، وقابل عددًا من كبارهم في مقدمتهم الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر، ومحمد المهدي، والسرسي، وعرض عليهم إنهاء الثورة وإعطاء أهالي القاهرة أمانًا وافيًا شافيًا، على أن يخرج ناصف باشا والجنود العثمانيون والمماليك من القاهرة، ويلحقوا بزملائهم من فلول جيش يوسف باشا الصدر الأعظم، غير أن مساعي الصلح تبددت أمام إصرار زعماء الثورة على الاستمرار في المقاومة.

ولم ييئس كليبر فلجأ إلى الاتصال بمراد بك أحد زعماء المماليك، وتفاوض الاثنان على الصلح، وأبرمت بينهما معاهدة بمقتضاها أصبح مراد بك حاكمًا على الصعيد في مقابل أن يدفع مبلغًا إلى الحكومة الفرنسية، وينتفع هو بدخل هذه الأقاليم، وتعهد كليبر بحمايته إذا تعرض لهجوم أعدائه عليه، وتعهد مراد بك من جانبه بتقديم النجدات اللازمة لمعاونة القوات الفرنسية إذا تعرضت لهجوم عدائي أيًا كان نوعه، وكان هذا يعني أن مراد فضل السيادة الفرنساوية على السيادة العثمانية.

ولم يكتف مراد بك بمحاولته في إقناع زعماء الثورة بالسكينة والهدوء، بل قدم للفرنسيين المؤن والذخائر، وسلمهم العثمانيين اللاجئين له، وأرسل لهم سفنًا محملة بالحطب والمواد الملتهبة لإحداث الحرائق بالقاهرة.

إخماد الثورة

استمرت الثورة أكثر من شهر، وقائد الاحتلال يفكر في وسيلة للقضاء على الثورة التي يقودها عمر مكرم الذي التف الشعب حوله، وأصبح رمزًا للمقاومة والصمود، وفشلت المحاولات لوقف الثورة، وإزاء ذلك أمر كليبر بالهجوم العام على حي بولاق مصدر الثورة بعد أن جاءته المؤن والمهمات من حليفه مراد بك، وشرعت المدافع تصب نيرانها على الحي الثائر، حتى أحدثت ثغرات في المتاريس التي أقامها الثوار، نفذ من خلالها الجنود الفرنسيون، لإشعال الحرائق في البيوت والمتاجر والوكالات، فاشتعلت النيران في الحي، وسقطت البيوت على من فيها، وتناثرت جثث القتلى، واستمر الضرب بالمدافع حتى دمر الحي بأكمله، ثم تتابع هجوم الفرنسيين على سائر أحياء القاهرة، حيًا حيًا، واستمرت هذه الأهوال ثمانية أيام جرت في أثنائها الدماء أنهارًا في الشوارع، وأصبحت أحياء القاهرة خرابًا بلقعًا.

تسليم القاهرة

تحرك علماء الأزهر واستأنفوا مساعيهم لحقن الدماء، ووقف عمليات الإحراق والتدمير، ودارت مفاوضات التسليم بين الثوار وكليبر انتهت بعقد اتفاق في (26 من ذي القعدة 1214هـ=21 من إبريل 1800م)، وقع عليه ناصف باشا من الأتراك العثمانيين، وعثمان أفندي عن مراد بك، وإبراهيم بك عن المماليك، وفيه تعهد العثمانيون والمماليك بالجلاء عن القاهرة خلال ثلاثة أيام مع أسلحتهم وأمتعتهم ما عدا مدافعهم إلى حدود سوريا، في مقابل أن يعفو كليبر عن سكان القاهرة بمن فيهم الذين اشتركوا في الثورة.

وكان من نتيجة تلك الثورة أن ازدادت نقمة كليبر على القاهرة، وكانت فيه غطرسة وكبرياء، ففرض على أهالي القاهرة غرامة مالية ضخمة قدرها 12 مليون فرنك، وخص علماء الأزهر بنصيب كبير منها، وعلى رأسهم الشيخ السادات، ومصطفى الصاوي ومحمد الجوهري وغيرهم.

واشتط في تحصيل تلك الغرامة منهم، وألقى بالشيخ السادات في السجن، وقام بتعذيبه دون أن يراعي مكانته وسنه حين عجز عن تدبير المبلغ الذي طالبه به من الغرامة، وكان مائة وخمسين ألف فرنك.

وأدت تلك السياسة الحمقاء التي مارسها كليبر مع أهالي القاهرة وعلماء الأزهر أن قام سليمان حلبي باغتياله في (21 من المحرم 1211هـ=14 من يونيو 1800م) أثناء تجوله في حديقة منزله.



منقول

عبدالغفور الخطيب
19-11-2005, 02:28 AM
نور الدين محمود.. وبناء الوحدة الإسلامية

(في ذكرى مولده: 17 من شوال 511هـ)



ظهر نور الدين محمود على مسرح الأحداث في النصف الأول من القرن السادس الهجري، والناس في أشد الحاجة إلى مثله ليأخذ بيدهم من حلكة الظلام الدامس الذي اكتنف بلادهم، منذ أن وطئتها أقدام الصليبيون، ودنست أرجلهم مدينة القدس، ولم تلمع في الأفق بوادر الأمل وإشراقات الصباح؛ فالفوضى تعم بلاد الشام، والأمراء والحكام مشغولون بأنفسهم وأطماعهم، والمحتل الوافد ترتفع قامته على خلافات المسلمين وتطاحنهم وتزداد قوته بتناحرهم وتنازعهم، ولولا بقية من أمل ظلت تعمل في قلوب بعض المخلصين لحدث ما لا تحمد عقباه.

وجاء أول بصيص للأمل مع ظهور "عماد الدين زنكي" الذي استطاع بقدرته وكفاءته أن يلي الموصل وأن يثبّت أقدامه فيها، ونجح في أن يمد سلطانه إلى نصيبين وحران، وهيأ نفسه لكي يقوم بحركة الجهاد ضد الصليبيين، وأدرك أن ذلك لن يتحقق ما لم تتحدد القوى الإسلامية في العراق والشام، فتطلع إلى حلب وكانت غارقة في بحر من الفوضى بعد وفاة أتابكها "عز الدين مسعود البرسقي"، ويتنازع عليها السلاجقة والصليبيون للاستيلاء عليها، فتحرك عماد الدين وأفسد على الطامعين خططهم ووضع يده على حلب في سنة (522هـ = 1128م) ثم لم يلبث أن تعثرت خطاه بفعل الصراعات الداخلية في المنطقة التي أشعلها بعض الأمراء ضده؛ خوفا من ازدياد نفوذه في شمالي الشام والعراق، فقضى زمنا يدفع تلك الأخطار عن نفسه حتى تمكن من بسط نفوذه وترسيخ أقدامه، واحتاج ذلك وقتا طويلا استهلك من عمره سبع سنوات قبل أن يفرغ لمنازلة الصليبيين، حتى تمكن من فتح مدينة الرها سنة (538هـ = 1144م) وكان ذلك ضربة قوية للكيان الصليبي؛ لأن الرها كانت أولى الإمارات الصليبية التي تأسست في الشرق إبان الحملة الصليبية الأولى، ولم يهمل القدر عماد الدين لكي يواصل أعماله، حيث اغتالته يد الغدر في (6 من ربيع الثاني 541هـ = 14 من سبتمبر 1147م).

نور الدين محمود

ولد نور الدين محمود في (17 من شوال 511هـ = 11 من فبراير 1118م) وهو ثاني أولاد عماد الدين زنكي بعد سيف الدين غازي، وقد تأثر أبناء عماد الدين بما كان لأبيهم من خلال وفضائل، فكانوا جميعا من رجال الجهاد وفرسانه، على تفاوت في ذلك بينهم.

وبعد وفاة عماد الدين زنكي اقتسم ولداه: سيف الدين غازي ونور الدين محمود دولته، فاستقر الأول بالموصل وثبّت أقدامه بها، وانفرد الآخر بحكم حلب، وكان الحد الفاصل بين أملاك الأخوين هو نهر الخابور، وكان كلا الأخوين مؤهلا لما وجهته له الأقدار، فكان سيف الدين غازي صاحب سياسة وأناة، على حين كان نور الدين مجاهدا مخلصا جياش العاطفة صادق الإيمان، ميالا إلى جمع كلمة المسلمين وإخراج الأعداء من ديار المسلمين، مفطورا على الرقة ورهافة الشعور؛ وهو ما جذب الناس إليه، وحبب القلوب فيه.

وكان على نور الدين أن يواصل سياسة أبيه في جهاد الصليبيين، يدفعه إلى ذلك طبيعته المفطورة على حب الجهاد، وملازمته لأبيه في حروبه معهم. وقرب إمارته في حلب من الصليبيين جعله أكثر الناس إحساسا بالخطر الصليبي.

الجهاد ضد الصليبيين

استهل نور الدين حكمه بالقيام ببعض الهجمات على إمارة إنطاكية الصليبية، واستولى على عدة قلاع في شمال الشام، ثم قضى على محاولة "جوسلين الثاني" لاستعادة الرها التي فتحها عماد الدين زنكي وكانت هزيمة الصليبيين في الرها أشد من هزيمتهم الأولى، وعاقب نور الدين من خان المسلمين من أرمن الرها، وخاف بقية أهل البلد من المسيحيين على أنفسهم فغادروها.

وكان نور الدين دائم السعي إلى استمالة القوى الإسلامية المتعددة في شمال العراق والشام وكسب ودها وصداقتها؛ لتستطيع مواجهة العدو الصليبي، فعقد معاهدة مع "معين الدين أنر" حاكم دمشق سنة (541هـ = 1147م) وتزوج ابنته، فلما تعرض أنر لخطر الصليبيين وكانت تربطه بهم معاهدة وحلف لم يجد غير نور الدين يستجير به، فخرج إليه، وسارا معا واستوليا على بصرى وصرخند قبل أن يقعا في يد الصليبيين، ثم غادر نور الدين دمشق؛ حتى يبعث في قلب حاكمها الأمان، وأنه لا يفكر إلا في القضاء على الصليبيين؛ فتوجه إلى حصون إمارة إنطاكية، واستولى على أرتاح وكفر لاثا وبصرفوت.

وعلى أثر ذلك ملك الرعب قلوب الصليبيين من نور الدين، وأدركوا أنهم أمام رجل لا يقل كفاءة وقدرة عن أبيه عماد الدين، وكانوا قد ظنوا أنهم قد استراحوا بموته، لكن أملهم تبدد أمام حماسة ابنه وشجاعته، وكانت سنه إذ ذاك تسعا وعشرين سنة، لكنه أوتي من الحكمة والتدبير خيرا كثيرا.

وفي سنة (542هـ = 1147م) وصلت الحملة الصليبية الثانية على الشام بزعامة لويس السابع وكونراد الثالث، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها وتعرضت لخسائر هائلة، وعجزت عن احتلال دمشق، ويرجع الفضل في ذلك لصبر المجاهدين واجتماع كلمة جيش المسلمين ووحدة صفهم، وكان للقوات التي جاءت مع سيف الدين غازي وأخيه نور الدين أكبر الأثر في فشل تلك الحملة، واستغل نور الدين هذه النكبة التي حلّت بالصليبيين وضياع هيبتهم للهجوم على إنطاكية بعد أن ازداد نفوذه في الشام، فهاجم في سنة (544هـ=1149م) الإقليم المحيط بقلعة حارم الواقعة على الضفة الشرقية لنهر العاصي، ثم حاصر قلعة إنب، فنهض "ريموند دي بواتيه" صاحب إنطاكية لنجدتها، والتقى الفريقان في (21 من صفر 544هـ= آخر يونيو 1149م) ونجح المسلمون في تحقيق النصر وأبادوا الصليبيين عن آخرهم، وكان من جملة القتلى صاحب إنطاكية وغيره من قادة الفرنج وكان فرح المسلمون بهذا النصر عظيما.

ضم دمشق

آمن نور الدين بضرورة وحدة الصف، وانتظام القوى الإسلامية المبعثرة بين الفرات والنيل حتى تقف كالبنيان المرصوص أمام أطماع الصليبيين، وكانت دمشق تقف حجرة عثرة في طريق تلك الوحدة، وكان معين الدين أنر صاحب السلطة الفعلية في دمشق يرتبط بعلاقات ودية مع الصليبيين ومعاهدات وتحالفات، وبعد وفاته قام "مجير الدين أبق" بحكم دمشق، وجرى على سياسة أنر في التعامل مع الصليبيين، بل أظهر ضعفا ومذلة في التعامل معهم، وأعرض عن وحدة الصف وجمع الكلمة، وبلغ الهوان به أن وافق على أن يدفع أهل دمشق ضريبة سنوية للصليبيين مقابل حمايتهم، وصار رسل الفرنجة يدخلون دمشق لجمع الجزية المفروضة دون أن يستشعر حاكمها خجلا أو هوانا.

ولم يسكت نور الدين على هذا الوضع المهين، واستثمر شعور الغضب الذي أبداه الدمشقيون، ونجح بمساعدتهم في الإطاحة بمجير الدين أبق وضم دمشق إلى دولته في سنة (549هـ = 1154م) وكانت هذه الخطوة حاسمة في تاريخ الحروب الصليبية؛ حيث توحدت بلاد الشام تحت زعامة نور الدين: من الرها شمالا حتى حوران جنوبا، واتزنت الجبهة الإسلامية مع الجبهة الصليبية التي كانت تستغل حالة التشتت والتشرذم، وتوجه ضرباتها إلى دولة الإسلام حتى إن نور الدين لم يستطع نجدة عسقلان عندما هاجمها الصليبيون سنة (548هـ = 1153م) لأن دمشق كانت تقف حائلا دون تحقيق ذلك.

الطريق إلى مصر

بعد نجاح نور الدين في تحقيق المرحلة الأولى من توحيد الجبهة الإسلامية لم يعد أمام الصليبيين للغزو والتوسع سوى طريق الجنوب بعد أن أحكم نور الدين سيطرته على شمالي العراق والشام؛ ولذا تطلع الصليبيون إلى مصر باعتبارها الميدان الجديد لتوسعهم، وشجعهم على ذلك أن الدولة الفاطمية في مصر تعاني سكرات الموت فاستولوا على عسقلان، وكان ذلك إيذانا بمحاولتهم غزو مصر، مستغلين الفوضى في البلاد، وتحولت نياتهم إلى عزم حيث قام "بلدوين الثالث" ملك بيت المقدس بغزو مصر سنة (558هـ = 1163م) محتجا بعدم التزام الفاطميين بدفع الجزية له، غير أن حملته فشلت وأجبر على الانسحاب.

وأثارت هذه الخطوة الجريئة مخاوف نور الدين، فأسرع بشن حملات على الصليبيين في الشام حتى يشغلهم عن الاستعداد لغزو مصر، ودخل في سباق مع الزمن للفوز بمصر، فأرسل عدة حملات إليها تحت قيادة "أسد الدين شيركوه" وبصحبته ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، ابتدأت من سنة (559هـ = 1164م) واستمرت نحو خمس سنوات حتى نجحت بعد سباق محموم مع الصليبيين في الظفر بمصر سنة (564هـ = 1169م) وتولى شيركوه الوزارة للخليفة "العاضد" آخر الخلفاء الفاطميين، على أنه لم يلبث أن توفي بعد شهرين فخلفه في الوزارة صلاح الدين الأيوبي.

نجح صلاح الدين الأيوبي في إقامة الأمن واستتباب الأمور وتثبيت أقدامه في البلاد، وجاءت الفرصة المناسبة لإسقاط دولة الفاطميين؛ فقطع الدعاء للخليفة الفاطمي ودعا للخليفة العباسي في أول جمعة من سنة (567هـ = سبتمبر 1171م).

وكان لدخول مصر تحت حكم دولة نور الدين محمود دوي هائل، لا في مملكة بيت المقدس وحدها بل في الغرب الأوروبي كله، وارتفعت الأصوات لبعث حملة جديدة تعيد للصليبيين في الشام هيبتهم وسلطانهم، وتوجه لمصر ضربات قوية، غير أن حملتهم على مصر لم تحقق أهدافها ليقظة صلاح الدين في مصر.

وبنجاح نور الدين في ضم مصر إلى جبهة الكفاح يكون قد حقق الحلقة الأخيرة من حلقات الجبهة الإسلامية تمهيدا للضربة القاضية.

نور الدين في التاريخ

كان نور الدين مؤمنا بالإسلام وعظمته؛ وهو ما جعله يحقق ما عجز عنه غيره ممن كانوا أوسع منه بلادا وأعظم مالا ونفقة، ولم يكن يحارب الصليبيين على أنهم نصارى بل على أنهم أجانب عن بلاد العرب والمسلمين جاءوا لاحتلال الأرض وتدنيس المقدسات؛ ولذا لم يمس نصارى بلاده بسوء، بل كانوا عنده مواطنين لهم حق الرعاية الكاملة، فلم يهدم كنيسة ولا آذى قسا أو راهبا.

ولم يشغله الجهاد وتوحيد الصف عن إقامة المدارس والمساجد حتى بلغت مدارسه ومساجده المئات، لا يخلو منها بلد دخل تحت سلطانه، وكان إذا أنشأ مدرسة أوسع النفقة في بنائها، واجتهد في اختيار شيوخها، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة، وكانت مدارسه تُعنى بالقرآن والحديث، وكان له شغف بالحديث وسماعه من جلّة المحدثين، وأجازه بعضهم بالرواية.

وإلى جانب إنشاء المدارس توسع في إقامة البيمارستانات في كل بلدة تحت حكمه، وجعلها للفقراء الذين لا تمكنهم دخولهم من الاستعانة بالأطباء والحصول على الدواء، كما حرص على إقامة الخانات على الطرق لينزل بها المسافرون للراحة أو للمبيت، وجعل عليها من يحرصها ويحافظ على زائريها.

وكان نور الدين مؤمنا صادق الإيمان، ومجاهدا عظيما، وزاهدا متصوفا لا ينام إلا منتصف الليل ثم ينهض فيتوضأ، ويقبل على الصلاة والدعاء، حتى يقبل الصباح فيصليه ثم يأخذ في شئون دولته.

ولزهده في أبهة الحكم والسلطان لم يكن له راتب يتقاضاه، وإنما كان يأكل ويلبس من ملك له كان قد اشتراه من ماله، ولم يكن له بيت يسكنه، وإنما كان مقامه في غرفة في قلعة البلد الذي يحل فيه.

وفاة نور الدين محمود

وبينما كان نور الدين محمود يستعد للسير إلى مصر، فاجأته الحمى، واشتد به المرض حتى لقي الله في (11 من شوال 569هـ = 15 من مايو 1174م) وهو في التاسعة والخمسين من عمره، وكان لموته رجة عنيفة في العالم الإسلامي، وشعر الناس بحجم الخسارة، وعظم المصيبة التي حلت بهم.

وشاء الله تعالى أن تظل سلسلة المجاهدين قائمة، فكلما غاب من الميدان زعيم نهض من بعده زعيم، وكل خلف يزيد عن سابقه في المواهب والملكات، حتى انتهت الراية إلى صلاح الدين الأيوبي فحقق ما كان أمنية في الصدور وخاطرا في العقول.



منقول

عبدالغفور الخطيب
20-11-2005, 02:10 AM
مالكوم إكس.. التغير بسحر العبارات والمواقف

(في ذكرى اغتياله: 18 شوال 1384هـ)



مالكوم إكس أو الحاج مالك شباز من الشخصيات الأمريكية المسلمة البارزة في منتصف القرن الماضي، التي أثارت حياته القصيرة جدلا لم ينته حول الدين والعنصرية، حتى أطلق عليه "أشد السود غضبا في أمريكا". كما أن حياته كانت سلسلة من التحولات؛ حيث انتقل من قاع الجريمة والانحدار إلى تطرف الأفكار العنصرية، ثم إلى الاعتدال والإسلام، وعندها كُتبت نهايته بست عشرة رصاصة.

اللون.. قبل الإنسان

ولد مالكوم في (6 ذي القعدة 1343هـ= 29 مايو 1925م)، وكان أبوه "أورلي ليتل" قسيسا أسود من أتباع "ماركوس كافي" الذي أنشأ جمعية بنيويورك ونادى بصفاء الجنس الأسود وعودته إلى أرض أجداده في أفريقيا. أما أمه فكانت من جزر الهند الغربية لكن لم تكن لها لهجة الزنوج، وكان مالكوم المولود السابع في الأسرة؛ فقد وضعته أمه وعمرها ثمانية وعشرون عاما، كانت العنصرية في ذلك الوقت في الولايات المتحدة ما زالت على أشدها، وكان الزنجي الناجح في المدينة التي يعيش فيها مالكوم هو ماسح الأحذية أو البواب!!

كان أبوه حريصا على اصطحابه معه إلى الكنيسة في مدينة "لانسينغ" حيث كانت تعيش أسرته على ما يجمعه الأب من الكنائس، وكان يحضر مع أبيه اجتماعاته السياسية في "جمعية التقدم الزنجية" التي تكثر خلالها الشعارات المعادية للبيض، وكان الأب يختم هذه الاجتماعات بقوله: إلى الأمام أيها الجنس الجبّار، بوسعك أن تحقق المعجزات. وكان أبوه يحبه للون بشرته الفاتح قليلا عنه، أما أمه فكانت تقسو عليه لذات السبب، وتقول له: "اخرج إلى الشمس ودعها تمسح عنك هذا الشحوب".

وقد التحق بالمدرسة وهو في الخامسة من عمره، وكانت تبعد عن مدينته ثمانية أميال، وكان هو وعائلته الزنوج الوحيدين بالمدينة؛ لذا كان البيض يطلقون عليه الزنجي أو الأسود، حتى ظن مالكوم أن هذه الصفات جزء من اسمه.

الحق والصراخ

وكان الفتى الصغير عندما يعود من مدرسته يصرخ مطالبا بالطعام، ويصرخ ليحصل على ما يريد، ويقول في ذلك: لقد تعلمت باكرا أن الحق لا يُعطى لمن يسكت عنه، وأن على المرء أن يحدث بعض الضجيج حتى يحصل على ما يريد.

وعندما بلغ مالكوم سن السادسة قتلت جماعة عنصرية بيضاء أباه وهشمت رأسه؛ فكانت صدمة كبيرة للأسرة وبخاصة الأم التي أصبحت أرملة وهي في الرابعة والثلاثين من عمرها وتعول ثمانية أطفال، فترك بعض الأبناء دراستهم، وعملت الأم خادمة في بعض بيوت البيض، لكنها كانت تُطرد بعد فترة قصيرة لأسباب عنصرية.

وتردت أحوال الأسرة، وكانت الأم ترفض وتأبى أن تأخذ الصدقات من مكتب المساعدة الاجتماعية؛ حتى تحافظ على الشيء الوحيد الذي يمتلكونه وهو كرامتهم، غير أن قسوة الفقر سنة 1934 جعلت مكتب المساعدة يتدخل في حياتهم، وكان الموظف الأبيض فيه يحرّض الأبناء على أمهم التي تدهورت حالتها النفسية وأصيبت بمرض عقلي سنة 1937، وأودعت في المستشفى لمدة 26 عاما.

وأصبح الأطفال السود أطفال الدولة البيضاء، وتحكّم الأبيض في الأسود بمقتضى القانون. وتردت أخلاق مالكوم، وعاش حياة التسكع والتطفل والسرقة؛ ولذلك فُصل من المدرسة وهو في سن السادسة عشرة، ثم أُلحق بسجن الأحداث.

بوادر العنصرية

كان مالكوم شابا يافعا قوي البنية، وكانت نظرات البيض المعجَبة بقوته تشعره بأنه ليس إنسانا بل حيوانا لا شعور له ولا إدراك، وكان بعض البيض يعاملونه معاملة حسنة، غير أن ذلك لم يكن كافيا للقضاء على بذور الكراهية والعنصرية في نفس الشاب الصغير؛ لذلك يقول: "إن حسن المعاملة لا تعني شيئا ما دام الرجل الأبيض لن ينظر إليّ كما ينظر لنفسه، وعندما تتوغل في أعماق نفسه تجد أنه ما زال مقتنعا بأنه أفضل مني".

وتردد مالكوم على المدرسة الثانوية وهو في سجن الإصلاح، وكانت صفة الزنجي تلاحقه كظله، وشارك في الأنشطة الثقافية والرياضية بالمدرسة، وكانت صيحات الجمهور في الملعب له: "يا زنجي يا صدئ" تلاحقه في الأنشطة المختلفة، وأظهر الشاب تفوقا في التاريخ واللغة الإنجليزية.

الأسود.. والمستقبل

وفي عام 1940م رحل إلى أقاربه في بوسطن، وتعرف هناك على مجتمعات السود، ورأى أحوالهم الجيدة نسبيا هناك، وبعد عودته لاحظ الجميع التغير الذي طرأ عليه، غير أنه احتفظ بتفوقه الدراسي، وفي نهاية المرحلة الثانوية طلب مستر "ستراوسكي" من طلابه أن يتحدثوا عن أمنياتهم في المستقبل، وتمنى مالكوم أن يصبح محاميا، غير أن ستراوسكي نصحه ألا يفكر في المحاماة لأنه زنجي وألا يحلم بالمستحيل؛ لأن المحاماة مهنة غير واقعية له، وأن عليه أن يعمل نجارا، وكانت كلمات الأستاذ ذات مرارة وقسوة على وجدان الشاب؛ لأن الأستاذ شجّع جميع الطلاب على ما تمنوه إلا صاحب اللون الأسود؛ لأنه في نظره لم يكن مؤهلا لما يريد.

وبعد انتهاء المرحلة الثانوية قصد مالكوم بوسطن وأخذته الحياة في مجرى جديد، وأصيب بنوع من الانبهار في المدينة الجميلة، وهناك انغمس في حياة اللهو والمجون، وسعى للتخلص من مظهره القوي، وتحمل آلام تغيير تسريحة شعره حتى يصبح ناعما، وأدرك أن السود لو أنفقوا من الوقت في تنمية عقولهم ما ينفقونه في تليين شعورهم لتغير حالهم إلى الأفضل.

ثم انتقل إلى نيويورك للعمل بها في السكك الحديدية، وكان عمره واحدا وعشرين عاما، وكانت نيويورك بالنسبة له جنة، وتنقل بين عدة أعمال، منها أن يعمل بائعا متجولا، وتعلم البند الأول في هذه المهنة وهو ألا يثق بأحد إلا بعد التأكد الشديد منه.

وعاش فترة الحرب العالمية الثانية، وشاهد ما ولدته الحرب من فساد خلقي واجتماعي وانغمس هو نفسه في هذا الفساد، وغاص في أنواع الجرائم المختلفة من سرقة ودعارة وفجور، وعاش خمس سنوات في ظلام دامس وغفلة شديدة، وفي أثناء تلك الفترة أُعفي من الخدمة العسكرية؛ لأنه صرح من قبيل الخديعة أنه يريد إنشاء جيش زنجي.

السجن.. وبداية الحرب

ألقت الشرطة القبض عليه وحكم عليه سنة 1946م بالسجن عشر سنوات، فدخل سجن "تشارلز تاون" العتيق، وكانت قضبان السجن ذات ألم رهيب على نفس مالكوم؛ لذا كان عنيدا يسبّ حرّاسه حتى يحبس حبسا انفراديا، وتعلم من الحبس الانفرادي أن يكون ذا إرادة قوية يستطيع من خلالها التخلي عن كثير من عاداته، وفي عام 1947م تأثر بأحد السجناء ويدعى "بيمبي" الذي كان يتكلم عن الدين والعدل فزعزع بكلامه ذلك الكفر والشك من نفس مالكوم، وكان بيمبي يقول للسجناء: إن من خارج السجن ليسوا بأفضل منهم، وإن الفارق بينهم وبين من في الخارج أنهم لم يقعوا في يد العدالة بعد، ونصحه بيمبي أن يتعلم، فتردد مالكوم على مكتبة السجن وتعلم اللاتينية.

وفي عام 1948م انتقل إلى سجن كونكورد، وكتب إليه أخوه "فيلبيرت" أنه اهتدى إلى الدين الطبيعي للرجل الأسود، ونصحه ألا يدخن وألا يأكل لحم الخنزير، وامتثل مالكوم لنصح أخيه، ثم علم أن إخوته جميعا في دترويت وشيكاغو قد اهتدوا إلى الإسلام، وأنهم يتمنون أن يسلم مثلهم، ووجد في نفسه استعدادا فطريا للإسلام، ثم انتقل مالكوم إلى سجن "ينورفولك"، وهو سجن مخفف في عقوباته، ويقع في الريف، ويحاضر فيه بعض أساتذة الجامعة من هارفارد وبوسطن، وبه مكتبة ضخمة تحوي عشرة آلاف مجلد قديم ونادر.

وفي هذا السجن زاره أخوه "ويجالند" الذي انضم إلى حركة "أمة الإسلام" بزعامة "إليجا محمد"، التي تنادي بأفكار عنصرية منها أن الإسلام دين للسود، وأن الشيطان أبيض والملاك أسود، وأن المسيحية هي دين للبيض، وأن الزنجي تعلم من المسيحية أن يكره نفسه؛ لأنه تعلم منها أن يكره كل ما هو أسود.

وأسلم مالكوم على هذه الأفكار، واتجه في سجنه إلى القراءة الشديدة والمتعمقة، وانقطعت شهيته عن الطعام والشراب، وحاول أن يصل إلى الحقيقة، وكان سبيله الأول هو الاعتراف بالذنب، ورأى أنه على قدر زلته تكون توبته.

أمة الإسلام.. والعنصرية السوداء

وراسل مالكوم "إليجا محمد" الذي كان يعتبر نفسه رسولا، وتأثر بأفكاره، وبدأ يراسل كل أصدقائه القدامى في الإجرام ليدعوهم إلى الإسلام، وفي أثناء ذلك بدأ في تثقيف نفسه فبدأ يحاكي صديقه القديم "بيمبي"، ثم حفظ المعجم فتحسنت ثقافته، وبدا السجن له كأنه واحة، أو مرحلة اعتكاف علمي، وانفتحت بصيرته على عالم جديد، فكان يقرأ في اليوم خمس عشرة ساعة، وعندما تُطفأ أنوار السجن في العاشرة مساء، كان يقرأ على ضوء المصباح الذي في الممر حتى الصباح فقرأ قصة الحضارة وتاريخ العالم، وما كتبه الأسترالي مانديل في علم الوراثة، وتأثر بكلامه في أن أصل لون الإنسان كان أسود، وقرأ عن معاناة السود والعبيد والهنود من الرجل الأبيض وتجارة الرقيق، وخرج بآراء تتفق مع آراء إليجا محمد في أن البيض عاملوا غيرهم من الشعوب معاملة الشيطان.

وقرأ أيضا لمعظم فلاسفة الشرق والغرب، وأعجب بـ"سبيننوزا"؛ لأنه فيلسوف أسود، وغيّرت القراءة مجرى حياته، وكان هدفه منها أن يحيا فكريا؛ لأنه أدرك أن الأسود في أمريكا يعيش أصم أبكم أعمى، ودخل في السجن في مناظرات أكسبته خبرة في مخاطبة الجماهير والقدرة على الجدل، وبدأ يدعو غيره من السجناء السود إلى حركة "أمة الإسلام" فاشتهر أمره بين السجناء.

الخروج من السجن

خرج مالكوم من السجن سنة 1952م وهو ينوي أن يعمق معرفته بتعاليم إليجا محمد، وذهب إلى أخيه في دترويت، وهناك تعلم الفاتحة وذهب إلى المسجد، وتأثر بأخلاق المسلمين، وفي المسجد استرعت انتباهه عبارتان: الأولى تقول: "إسلام: حرية، عدالة، مساواة"، والأخرى مكتوبة على العلم الأمريكي، وهي: "عبودية: ألم، موت".

والتقى بإليجا محمد، وانضم إلى حركة أمة الإسلام، وبدأ يدعو الشباب الأسود في البارات وأماكن الفاحشة إلى هذه الحركة فتأثر به كثيرون؛ لأنه كان خطيبا مفوهًا ذا حماس شديد، فذاع صيته حتى أصبح في فترة وجيزة إماما ثابتا في مسجد دترويت، وأصبح صوته مبحوحا من كثرة خطبه في المسجد والدعوة إلى "أمة الإسلام"، وكان في دعوته يميل إلى الصراع والتحدي؛ لأن ذلك ينسجم مع طبعه.

وعمل في شركة "فورد" للسيارات فترة ثم تركها، وأصبح رجل دين، وامتاز بأنه يخاطب الناس باللغة التي يفهمونها؛ فاهتدى على يديه كثير من السود، وزار عددا من المدن الكبرى، وكان همه الأول هو "أمة الإسلام"؛ فكان لا يقوم بعمل حتى يقدر عواقبه على هذه الحركة.

وقد تزوج في عام 1958م ورُزق بثلاث بنات، سمّى الأولى عتيلة، على اسم القائد الذي نهب روما.

وفي نهاية عام 1959م بدأ ظهور مالكوم في وسائل الإعلام الأمريكية كمتحدث باسم حركة أمة الإسلام، فظهر في برنامج بعنوان: "الكراهية التي ولدتها الكراهية"، وأصبح نجما إعلاميا انهالت عليه المكالمات التليفونية، وكتبت عنه الصحافة، وشارك في كثير من المناظرات التلفزيونية والإذاعية والصحفية؛ فبدأت السلطات الأمنية تراقبه، خاصة بعد عام 1961. وبدأت في تلك الفترة موجة تعلم اللغة العربية بين أمة الإسلام؛ لأنها اللغة الأصلية للرجل الأسود.

كانت دعوة مالكوم في تلك الفترة تنادي بأن للإنسان الأسود حقوقا إنسانية قبل حقوقه المدنية، وأن الأسود يريد أن يكرم كبني آدم، وألا يعزل في أحياء حقيرة كالحيوانات وألا يعيش متخفيا بين الناس.

الحج والتغير

أدرك مالكوم أن الإسلام هو الذي أعطاه الأجنحة التي يحلق بها، فقرر أن يطير لأداء فريضة الحج في عام 1964م، وزار العالم الإسلامي ورأى أن الطائرة التي أقلعت به من القاهرة للحج بها ألوان مختلفة من الحجيج، وأن الإسلام ليس دين الرجل الأسود فقط، بل هو دين الإنسان. وتعلم الصلاة، وتعجب من نفسه كيف يكون زعيما ورجل دين مسلم في حركة أمة الإسلام ولا يعرف كيف يصلي!!.

والتقى بعدد من الشخصيات الإسلامية البارزة، منها الدكتور عبد الرحمن عزام صهر الملك فيصل ومستشاره، وهزه كرم الرجل معه وحفاوته به.

وتأثر مالكوم بمشهد الكعبة المشرفة وأصوات التلبية، وبساطة وإخاء المسلمين، يقول في ذلك: "في حياتي لم أشهد أصدق من هذا الإخاء بين أناس من جميع الألوان والأجناس، إن أمريكا في حاجة إلى فهم الإسلام؛ لأنه الدين الوحيد الذي يملك حل مشكلة العنصرية فيها"، وقضى 12 يوما جالسا مع المسلمين في الحج، ورأى بعضهم شديدي البياض زرق العيون، لكنهم مسلمون، ورأى أن الناس متساوون أمام الله بعيدا عن سرطان العنصرية.

وغيّر مالكوم اسمه إلى الحاج مالك شباز، والتقى بالمغفور له الملك فيصل الذي قال له: "إن ما يتبعه المسلمون السود في أمريكا ليس هو الإسلام الصحيح"، وغادر مالكوم جدة في إبريل 1964م، وزار عددا من الدول العربية والإفريقية، ورأى في أسبوعين ما لم يره في 39 عاما، وخرج بمعادلة صحيحة هي: "إدانة كل البيض= إدانة كل السود".

وصاغ بعد عودته أفكارا جديدة تدعو إلى الإسلام الصحيح، الإسلام اللاعنصري، وأخذ يدعو إليه، ونادى بأخوة بني الإنسان بغض النظر عن اللون، ودعا إلى التعايش بين البيض والسود، وأسس منظمة الاتحاد الأفريقي الأمريكي، وهي أفكار تتعارض مع أفكار أمة الإسلام؛ لذلك هاجموه وحاربوه، وأحجمت الصحف الأمريكية عن نشر أي شيء عن هذا الاتجاه الجديد، واتهموه بتحريض السود على العصيان، فقال: "عندما تكون عوامل الانفجار الاجتماعي موجودة لا تحتاج الجماهير لمن يحرضها، وإن عبادة الإله الواحد ستقرب الناس من السلام الذي يتكلم الناس عنه ولا يفعلون شيئا لتحقيقه".

وفي إحدى محاضراته يوم الأحد (18 شوال 1384هـ= 21 فبراير 1965م) صعد مالكوم ليلقي محاضرته، ونشبت مشاجرة في الصف التاسع بين اثنين من الحضور، فالتفت الناس إليهم، وفي ذات الوقت أطلق ثلاثة أشخاص من الصف الأول 16 رصاصة على صدر هذا الرجل، فتدفق منه الدم بغزارة، وخرجت الروح من سجن الجسد.

وقامت شرطة نيويورك بالقبض على مرتكبي الجريمة، واعترفوا بأنهم من حركة أمة الإسلام، ومن المفارقات أنه بعد شهر واحد من اغتيال مالكوم إكس، أقر الرئيس الأمريكي جونسون مرسوما قانونيا ينص على حقوق التصويت للسود، وأنهى الاستخدام الرسمي لكلمة "نجرو"، التي كانت تطلق على الزنوج في أمريكا.


منقول

عبدالغفور الخطيب
22-11-2005, 01:57 AM
سعيد باشا.. رغبة إصلاح وبداية دين

(في ذكرى ولايته: 20 من شوال 1270هـ)




ارتبط اسم سعيد باشا ابن محمد علي في التاريخ بإنشاء قناة السويس التي شغلت حيزًا كبيرًا في تاريخ العلاقات الدولية، وفي تاريخ مصر القومي، وكانت ذات أثر في نشأة الأوضاع السياسية التي فرضها الاستعمار على المنطقة العربية في الشرق الآسيوي.
واستأثر هذا العمل الكبير بالشهرة، فتوارت أعمال جيدة قام بها هذا الوالي الكبير، ويأتي ذكرها عابرًا في معرض الحديث عنه، وسنحاول إبرازها؛ إنصافًا للرجل الذي كيلت له التهم، ووسم بالسفه والخفة، والتفريط في حقوق البلاد.

المولد والنشأة

ولد سعيد باشا في سنة (1237هـ=1822م) في مدينة الإسكندرية في عهد أبيه محمد علي باشا، فعني بتربيته وتعليمه، وعهد به إلى من يقوم بذلك من فضلاء المعلمين، واختار له سلاح البحرية والتدرب على فنون الحرب والقتال، فنشأ بين أقران له ممن يعدون لفنون البحر، يعيش عيشتهم، ويسير على نهجهم، ويحيا حياتهم، فلما أتم دراسته انتظم في خدمة الأسطول المصري قائدًا لإحدى البوارج البحرية، واعتاد النظام الذي هو أساس الحياة العسكرية، فكان يحترم رؤساءه ويتساوى مع زملائه وأقرانه، ولما نضجت خبرته عينه أبوه مساعدًا لناظر البحرية "مطوش باشا"، وأمره بالامتثال له وأداء التحية العسكرية، دون نظر إلى صلته وانتسابه إليه، وارتقى سعيد باشا في الرتب البحرية حتى بلغ منصب القائد العام للأسطول، وكان لهذه النشأة أثرها في سياسته، فمال إلى المصريين وعمل على المساواة ورفعة شأنهم.

عهد جديد

تولى سعيد بن محمد علي حكم مصر والسودان خلفًا لابن أخيه عباس الأول بن طوسون في (20 من شوال 1270هـ=16 من يوليو 1854م)، وكان حين تولى الحكم في الثانية والثلاثين من عمره شابًا معقودة عليه الآمال، متأثرًا ببعض الآراء الحرة والأفكار الجديدة التي كانت شائعة في أوروبا، وذلك في أثناء تلقيه دراسته في فرنسا، ولذلك لم تمض شهور قليلة على توليه الحكم، حتى أصدر عددًا من القوانين التي تساعد على حرية التجارة، فأبطل المكوس التي كانت تعرقل سير التجارة بين مدن القطر المصري وأقاليمه، وسمح ببيع الغلال وتصديرها للخارج، ثم ألغى نظام الاحتكار الذي كان قائمًا منذ عهد محمد علي، وأباح للتجار الأجانب أن يتعاملوا مباشرة مع المزارعين، دون تدخل من الدولة.

ثم أتبع ذلك بعدد من الإجراءات الإصلاحية، فقد تنازلت الحكومة عن الضرائب المتأخرة على المزارعين وكانت تثقل كاهلهم، وألغت مبدأ تضامن القرى في تحمل الضرائب، وأعفت القرى من سدادها، فاستراح الفلاحون من أعباء المتأخرات القديمة التي كان عمال الجباية يرهقونهم للحصول عليها، ويستولون على حاصلاتهم الزراعية ليستوفوا ما تأخر عليهم منها.

وتوج أعماله الإصلاحية في هذا الميدان بصدور اللائحة السعيدية في (24 من ذي الحجة 1274هـ=5 من أغسطس 1858م)، وبموجبها وزعت الأراضي على الفلاحين الذين يقومون بزراعتها، ليتصرفوا في ملكيتها وزراعتها حسب ما يرغبون، وتعد هذه اللائحة أساس التشريع الخاص بملكية الأرض في مصر، وكان ذلك ثورة إصلاحية في حياة الفلاح المصري لم يشهدها من قرون طويلة.

وكما أقدم على هذه الخطوة قام بخطوة إصلاحية ذات تأثير في حياة المجتمع، فأصدر لائحة المعاشات للموظفين المتقاعدين، وكانت هي الأساس الذي بُني عليه نظام المعاشات الذي أخذت به مصر.

أعمال العمران

قام سعيد بعدد من الأعمال العمرانية أدت إلى ازدهار التجارة وانتعاشها، وتحسين حياة الناس، فقد طهر الترعة المحمودية التي تربط النيل بميناء الإسكندرية، واستكمل خط السكك الحديدية الذي يربط بين القاهرة والإسكندرية، وكان قد بدئ في إنشائه في عصر عباس الأول، وأنشأ خطًا حديديًا جديدًا بين القاهرة والسويس، وأصلح ميناء السويس وقام بتوسيعه، فلم تعد حركة السفن فيه مقصورة على موسم الحج، بل نشطت طوال العام، وامتدت يده إلى الإسكندرية ومينائها فنشطت فيها حركة العمران، وأنشأ بها أول شركة لتوزيع المياه بواسطة الأنابيب بعد تكريرها وتنظيفها بالنظام الآلي الحديث، وكان ازدهار العمران بها بسبب نشاط التجارة، وإنشاء شركات الملاحة البحرية والنهرية.

وعني سعيد باشا بجمع الآثار المصرية، وإعداد مخازن لحفظها وصيانتها، وعهد بهذه المهمة إلى "مادييت باشا" عالم الآثار المعروف، وطلب من العلامة الفلكي "محمود باشا" وضع خريطة مفصلة للقطر المصري، فقام بهذا العمل على خير قيام، وشاركه في إنجازه عدد من نبغاء المهندسين.

مؤسسات الدولة

كان سعيد باشا حاكمًا مطلقًا يجمع في يده السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكان هناك "المجلس الخصوصي" الذي يعاون حاكم البلاد، ومهمته النظر في شؤون الحكومة، وسن اللوائح والقوانين، وإصدار التعليمات لجميع مصالح الدولة، وتعيين رؤساء المصالح الكبرى. وأعاد سعيد باشا تنظيم الدواوين، وأنشأ أربع وزارات جديدة هي: الداخلية والمالية والحربية والخارجية.

وكان سعيد صاحب السلطة العليا القضائية على الرغم من وجود "مجلس الأحكام" الذي كان يفصل في القضايا المستأنفة إليه، و"مجالس الأقاليم" وهي محاكم مهمتها الفصل في المسائل المدنية والتجارية، وكانت هذه المجالس تضم علماء من المذهبين الحنفي والشافعي، ولم تكن هذه المحاكم مستقلة تمامًا، لأنها تعرضت أكثر من مرة للإلغاء أو إعادة تشكيلها وفق مشيئة الحاكم ورغباته، وسعى سعيد باشا لنيل موافقة من الباب العالي تخول له حق تعيين القضاة، بعد أن كان قاضي القضاء الذي يولّيه السلطان العثماني هو الذي يعين بقية القضاة، فاستقام بهذه الخطوة سير العدالة بعض الشيء، وحقق استقلالاً قضائيًا للبلاد.

غير أن جمع السلطة على هذا النحو في يد سعيد كان يستلزم طاقة هائلة للقيام بأعباء هذه المسؤوليات، وخبرة عميقة بها؛ وجلد وصبر في المتابعة والإشراف، ولم تكن هذه المؤهلات من صفات سعيد باشا، وإن كان عظيم الرغبة في إتمام الأعمال التي بدأها والده.

الجيش والأسطول

عني سعيد باشا بالجيش ورعاه فكان شغله الشاغل، يقضي بين الجند معظم وقته وينتقل معهم من جهة إلى أخرى، ويشرف بنفسه على تدريبهم في الصحراء وفي الدلتا، واتخذ من القناطر الخيرية معسكرًا لجيشه، وبنى بها القلعة السعيدية لصد هجمات المغيرين على القاهرة، ويذكر لسعيد أن في عهده ترقى كثير من الضباط المصريين إلى الرتب العالية التي كانت وقفًا على الأتراك والجراكسة، وجعل الخدمة العسكرية إجبارية لمدة عام يعود بعدها المجند إلى عمله، ولم يستثن أحدًا منها، فأقبل المصريون على الانتظام في سلك الجندية عن رضى، وأظهروا البسالة والإقدام في الحروب التي خاضوها في البلقان والقرم والمكسيك. وحين حاول سعيد العناية بالأسطول المصري وتجديده بعد أن خاض مع الدولة العثمانية حرب القرم المشهورة، تدخل الإنجليز لدى الباب العالي العثماني لمنع سعيد من بناء سفن جديدة أو ترميم القديم منها، فنجحت مساعيهم، وامتثل سعيد لرغبة السلطان. غير أن هذا الاهتمام بالجيش تحول في نهاية عهد سعيد إلى إهمال، حيث سرح أعدادًا هائلة من أفراده.

التعليم في عهد سعيد باشا

على الرغم من ضروب الإصلاح المختلفة التي قام بها سعيد باشا في كثير من مؤسسات الدولة، فإنه لم يعن بالتعليم، ولا يجد الباحث تفسيرًا لهذا الموقف، ولعل خوفه من وجود طبقة متعلمة ومتسلحة بالثقافة تعوق إطلاق يده في إدارة البلاد، وتطالبه بإصلاح نظم الحكم ووسائله – هو الذي جعله يعرض عن إصلاح التعليم، وإحياء ما اندثر من المدارس التي كانت في عهد أبيه، وقد بدأ حكمه بإلغاء ديوان المدارس، وكثير من المدارس القائمة، وقلل من إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، وأغلق مدرستي المهندسخانة والطب فترة من الزمن، ثم أعاد افتتاحهما مرة أخرى.

ويلاحظ أنه في هذه الفترة التي ضعفت فيها حركة التعليم الحكومي، نشطت الجاليات الأجنبية والإرساليات التبشيرية في إنشاء مدارس تابعة لها، وكانت تلقى تشجيعًا وعونًا من سعيد باشا وربما أمد بعضها بالإعانات المالية ومنحها الأرض التي تبني عليها مدارسها، وقد أحجم المسلمون في أول الأمر عن إدخال أبنائهم تلك المدارس.

حفر قناة السويس


نجح "فرديناند ديليسبس" الفرنسي المشهور في إقناع سعيد باشا بشق قناة السويس لتربط بين البحرين: المتوسط والأحمر، وكان لصداقته للوالي منذ الصغر أثر في هذا الاقتناع، وكان سعيد باشا -كما يصفه مؤرخوه- لين العريكة، سهل الانقياد، يضع ثقته في الأجانب، فأصدر مرسومًا لصديقه الفرنسي في سنة ( 1270هـ=1854م) بحق امتياز فتح القناة، ثم جدد له امتيازًا ثانيًا بعد ذلك بعامين، ووافق على قانون الشركة التي ستقوم بحفر القناة والإشراف عليها، وأهم ما جاء في هذا القانون أن القناة ستكون حرة لجميع سفن العالم التجارية دون تمييز أو تحفظ بشرط دفع الرسوم المطلوبة والالتزام بالقوانين، وأن للشركة حق التمتع بالامتياز مدة 99 سنة ابتداءً من افتتاحها، وبعد انتهاء المدة تصير القناة ملكًا للحكومة المصرية.

ويتفق كثير من المؤرخين أن عقد الامتياز الذي منحه سعيد للشركة كان مجحفًا بمصر، حيث تعهد بأن يكون أربعة أخماس العمال الذين يقومون بالحفر من الفلاحين المصريين، وأنه أُرغم على شراء ما تبقى من أسهم الشركة زيادة على ما اشتراه من قبل مساعدة للشركة في أول نشأتها، وتضمن الامتياز حق الشركة في حفر ترعة عذبة من النيل إلى القناة، وحق امتلاك الأراضي اللازمة على ضفتي القناة.

وقد ابتدئ في حفر القناة في (22 من رمضان 1275هـ=25 من إبريل 1859م) وسيق آلاف الرجال من شباب مصر لهذا العمل، وكم كانت خسارة مصر آنذاك حين ترك هؤلاء حقولهم ليلقوا حتفهم على شواطئ القناة حيث كانت تفتك بهم الحمى وسوء الأحوال الجوية في العراء، وضعف التغذية والإشراف الصحي.

وسار العمل في المشروع حتى حُفر من القناة ما يصل مياه البحر المتوسط ببحيرة التمساح وذلك في الفترة التي قضاها سعيد في الحكم، ثم استكمل الخديوي إسماعيل إتمام ما بدأه، ووصل بالمشروع إلى نهايته.

وعلى أية حال فقد آلت القناة إلى الحكومة المصرية، وأصبحت مصدرًا كبيرًا من مصادر الدخل القومي، وعادت بالنفع على البلاد وهو ما يمسح تجاوزات سعيد باشا وتفريطه في بعض حقوق الوطن، وأصبحت أثرًا كريمًا من آثار أياديه لن يمحوها الزمان.

بدء القروض الأجنبية



لم يكن سعيد باشا مثل أبيه محمد علي أو ابن أخيه طوسون في الاعتدال في الإنفاق؛ وأن يكون الإصلاح من موارد البلاد لا اعتمادًا على القروض، بل كان يميل إلى حياة الترف وإنشاء القصور، وفطن المرابون إلى سخائه وإفراطه في الإنفاق، فزينوا له الاقتراض فاندفع إلى هذا الطريق دون وعي وبصيرة، فزلت قدماه وزلت معه البلاد، ولما ورطه ديليسبس في شراء ما تبقى من أسهم شركة القناة واحتاج إلى المال، ولم يكن معه ما يقدمه – اضطر إلى عقد قرض نحو ثلاثة ملايين جنيه وربع من بنك إنجليزي، فكان هذا أول قرض عام أجنبي تقدم على عقده حكومة مصرية، وكان ذلك بداية الطريق الذي سار عليه بعد ذلك الخديوي إسماعيل، وجلب على البلاد الويلات والخراب.

وفاته

وبينما كان سعيد باشا يسابق الزمن في إنجاز حفر القناة أصيب بداء أعيا الأطباء علاجه، وسافر إلى أوروبا للعلاج لكنه لم يبرأ، وعاد إلى الإسكندرية في أواخر سنة (1279هـ=1862م)، وقضى أيامه الأخيرة يعاني آلام المرض حتى توفي في (27 من رجب 1279هـ=18 من يناير 1863م)، ودفن بمسجد "النبي دانيال"، تاركًا لابن أخيه إسماعيل بن إبراهيم تجديد عهد النهضة والإصلاح


منقول

عبدالغفور الخطيب
23-11-2005, 02:01 AM
مجمع البكري.. خطوة أولى مجامع

(في ذكرى قيامه: 21 من شوال 1309هـ)


حين نشأت الصحافة السياسية في مصر لم تكن لغتها فصيحة العبارة، صافية البيان، عربية الديباجة؛ وإنما كان يشوبها أخلاط من كلمات غريبة الوجه واللسان من مفردات فرنسية وإيطالية وتركية، وكانت أشبه بالوليد الذي يستخدم كل ما تسمعه أذناه من كلمات دون بصر أو تمييز، ولم تكن لغة الكتب المدرسية التي تترجم من اللغات الأخرى أو تؤلَّف لطلبة المدارس أحسن حالاً من لغة الصحافة المتردية.

وأثار هذا الوضع اهتمام الأديب الكبير والوزير المصلح "عبد الله فكري"، وهو يرى هذه الفوضى اللغوية التي تنهش صفحات الصحف والكتب، ويتسرب إليها سيل من الألفاظ الأجنبية؛ فارتفع صوته بأن توضع ألفاظ عربية مقابلة لها، تؤدي معناها، وأن يتولى ذلك جمعية علمية، ولا تترك لأهواء الأفراد من الكُتَّاب والمترجمين.

وبهذه الصيحة كان عبد الله فكرى من أوائل الداعين إلى تأليف المجامع اللغوية؛ للحفاظ على العربية، وصيانتها من الدخيل، ووضع ألفاظ جديدة لِمَا يستجد من مستحدثات. وكان قد سبق عبد الله فكرى في هذه الدعوة العلامة "أحمد فارس الشدياق"، الذي كان واسع المعرفة في اللغة، خبيرًا بأسرارها، متمكنًا من علومها.

غير أن هذه الدعوة الصالحة، التي أطلقها الأديب الكبير سنة (1299هـ= 1881م)، ضاعت أدراج الرياح، وعصفت بها أهواء السياسة، بعد فشل الثورة العرابية، وجثوم الاحتلال البريطاني على صدر البلاد، الذي لم يكن من مصلحته أن تقوم هذه الفكرة أو تصبح كيانًا يؤدي عملاً نافعًا.

الدعوة إلى العامية



وبعد الاحتلال البريطاني لم تقتصر المشكلة على الفوضى اللغوية القائمة من قبل؛ وإنما أضيف إليها هجوم شرس على اللغة العربية، وإصرار من المحتل على أن تكون لغة العلم في المدارس هي اللغة الإنجليزية، وارتفاع أصوات مشبوهة تدعو إلى الكتابة باللغة العامية، حمل لواءها "وليم ويلكوكس"؛ مهندس إنجليزي معروف كان يعيش في مصر، وقد دعا إلى الكتابة والتأليف باللغة العامية بدعوى أنها أقدر على إفهام الناس من العربية الفصحى، ثم اقترن القول لديه بالعمل؛ فترجم الإنجيل في هذه الفترة إلى العامية، وقام "محمد عثمان جلال" بنقل بعض المسرحيات الفرنسية إلى العامية؛ فاجتمع على العربية خطران: الدخيل من الألفاظ الأجنبية، والدعوة إلى العامية.

الدعوة إلى إنشاء مجمع لغوي

وأثار هذا الخطر الداهم على العربية حمية الغيورين على اللغة؛ فارتفعت أصواتهم مع بداية عهد الخديوي "عباس حلمي" سنة (1309هـ= 1892م) تنادي بضرورة إنشاء مجمع لغوي، يصون اللغة، ويعمل على إثرائها بما يضعه من ألفاظ جديدة، وكتب بعضهم في مجلة "المقتطف" يدعو إلى الفكرة، ويطلب من الجالس على العرش الوقوف بجانبها قائلاً: "إن اللغة العربية لم يعد يمكنها أن تجاري اللغات الأوربية ما لم يقم في البلاد جماعة كأعضاء الأكاديمية الفرنسوية، يتولون أمر التعريب، ووضع المصطلحات العلمية، وتنقية اللغة من كل وحشي ومهجور. وقد رأينا من قبل أن الأكاديمية الفرنسوية قامت ونجحت بتعضيد ملوك فرنسا لها، ورجونا أن يكون سمو عباس باشا عضوًا لهذا المجمع اللغوي، ونعيد الآن التماسنا؛ راجين من سموه أن يحله محل النظر ويشد أزر من يسعى إليه".

والمعروف أن الأكاديمية الفرنسية هي أقدم المجامع اللغوية المعاصرة وأرسخها قدمًا، صدر أمر ملكي بقيامها سنة (1045هـ= 1635م)، وإن كانت قد تكونت قبل هذا التاريخ، ولقت دعمًا كبيرًا من "لويس الرابع عشر"؛ فمنحها جناحًا خاصًّا في قصر "اللوفر"؛ ليكون مقرًّا دائمًا لها، وعدد أعضائها أربعون، ولا تقتصر عضويتها على الأدباء واللغويين، بل انضم إليها العسكريون والسياسيون والعلماء ورجال الدين.

قيام مجمع البكري

ولقيت هذه الدعوة استجابة كريمة من رجالات العلم والأدب والفكر؛ فاجتمعوا في قصر السيد "توفيق البكري"؛ للنظر في قيام هذا العمل المثمر. والشيخ "البكري" هو واحد من أئمة الأدب، اجتمع له، مع عراقة الأصل والنسب، نبوغ في الأدب والشعر.

وقد ضمَّ الاجتماع الشيخ "الشنقيطي الكبير" أحد جهابذة اللغة الأعلام، والشيخ "محمد عبده" رائد الإصلاح في مصر، و"حمزة فتح الله"، و"حفني ناصف"، و"حسن الطويل"، و"محمد بيرم"، و"محمد المويلحي"، و"محمد عثمان جلال"، و"محمد كمال".

وفي هذا الاجتماع، الذي تم في (21 من شوال 1309هـ= 18 من مايو 1892م)، ناقش الحاضرون الأخطار التي تهدد اللغة العربية، وضرورة إنشاء مجمع يؤدي للعربية ما تؤديه الأكاديمية الفرنسية للغتها، وانتخب الحاضرون "محمد توفيق البكري" رئيسًا لهذا المجمع، و"محمد بيرم" سكرتيرًا له؛ وبهذا أنشئ أول مجمع للغة العربية.

غير أن هذا المجمع الذي قام، لم يكن له قانون ينظم أعماله، ويحدد هدفه ورسالته، ويضع شروط الالتحاق به، وعدد أفراده، ولم يكن له خطة مرسومة سوى صيانة اللغة العربية، ووضع ألفاظ جديدة لِمَا استحدث في الحياة؛ لكنه على أية حال كان خطوة كبيرة على طريق الإصلاح، وتعاونا مثمرا على الأخذ بيد العربية.

جلسات المجمع

لم يعقد هذا المجمع سوى سبع جلسات ألقيت فيها بعض البحوث، ووضعت كلمات جديدة لمصطلحات أجنبية، وفي إحدى جلسات المجمع التي عقدت في (18 من رجب 1310هـ= 4 من فبراير 1893م)، ألقى البكري بحثًا عن "أخلاق المتنبي" من خلال أشعاره، ثم عرض ترجمة لعشر كلمات أجنبية سائرة على ألسنة الناس، شاركه في وضعها العالم اللغوي "حمزة فتح الله"، ومن هذه الكلمات: "مرحى" لكلمة "برافو"، و"مدرّة" لكلمة "أفوكاتو"، و"مسرة" لكلمة "التليفون"، و"بهو" لكلمة "الصالون"، و"قفَّاز" لكلمة "الجوانتي"، و"نمرة" لكلمة "نمرو"؛ فوافق الحاضرون جميعًا على هذه الترجمة.

ثم عقدت جلسة أخرى عقب هذه الجلسة في (1 من شعبان 1310هـ= 17 من فبراير 1893م) ألقى فيها محمد الويلحي الأديب الكبير كلمة في أغراض المجمع، وضرورة وجوده في هذه الفترة، ثم عرض ترجمة لعشر كلمات أجنبية، منها: "الطنف" للبالكون، و"الحراقة" لمركب التوربيد، و"بطاقة الزيارة" للكارت دي فيزيت، و"المعطف" للبالطو، و"الشرطيّ" لرجل البوليس، و"المشجب" للشماعة؛ ووافق الحاضرون على تعريب هذه الكلمات.

وقد أثرى المجمع وجلساته الحياة الثقافية في مصر، وطرحت على صفحات الصحف جلسات المجمع، وما توصل إليه أعضاؤه، ودخل في الميدان آخرون أدلوا بدلوهم فيما اقترحه المجمع الوليد، وكان "جورجي زيدان" واحدًا ممن انتقدوا ترجمة بعض الألفاظ الجديدة، واقترح هو بدائل لها، ودخل معه "عبد الله النديم" في مقارعة لغوية، فنَّد فيها رأي جورجي زيدان متفقًا في معظم ما أقره المجمع من كلمات.

وإذا نظرنا إلى الألفاظ القليلة التي وضعها المجمع، نجد أنه لم يُكتَب لكثير منها الحياة، ولكن يُحمَد له شرف المحاولة، وسبق المبادرة إلى إثراء اللغة وصيانتها من الدخيل؛ فكلمة "أفوكاتو" كانت أكثر الكلمات شيوعًا على الألسنة، فاقترح المجمع لها كلمة "مدرة"؛ فلم تعش هذه الترجمة، وبقيت الكلمة التي اقترحها جورجي زيدان بديلاً لها، وهي كلمة "المحامي".

أما الكلمات التي وضعها المجمع وبقيت حتى الآن نستعملها في الخطابة والكتابة فهي "شرطي" في مقابل "بوليس"، و"بهو" في مقابل "صالون"، و"معطف" في مقابل "بالطو"، و"قفاز" في مقابل "جوانتي".

نهاية المجمع

كانت الجلستان التي عرضنا ملخصًا لما دار فيهما آخر جلستين للمجمع، ثم أسدل الستار عليه بعد قيامه، وضاع الحلم الذي كان يطوف بخيال أهل اللغة والأدب؛ لأن الدولة لم تقف إلى جانبه وتؤازره، وأغلب أعضائه كانت تشغلهم ميادين أخرى تستنفد طاقاتهم وجهدهم؛ فصرفهم ذلك عن المتابعة والإلحاح في بث الحياة في المجمع الناشئ.

ويجدر بالذكر أن عبد الله النديم اقترح له مهامّ جيدة لم تجد طريقها للتنفيذ، وإن تحققت بعد ذلك فيما أنشئ من مجامع لغوية، ومن هذه المقترحات: إنشاء قاعة للخطابة والدروس، وإصدار مجلة شهرية، وتقديم جوائز للنابغين الذين يتقدمون إليه بأعمالهم.

وإن كان المجمع قد أغلق أبوابه فإن فكرته لم تمت، وظلت جذوتها مشتعلة في نفوس الغيورين من أهل الإصلاح، وقامت محاولات لإنشائه في القاهرة، مثل: نادي دار العلوم، ومجمع دار الكتب؛ لكنها لم تُكتب لها الحياة، وشاء الله (تعالى) أن يظهر أول مجمع للغة العربية في دمشق سنة (1337هـ= 1919م)، لا في القاهرة التي شهدت منبت الفكرة وتكرار المحاولة، ثم تبعه مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة (1350هـ= 1932م)، ومجمع اللغة العربية في بغداد (1366هـ= 1947م)، ومجمع اللغة في عمان سنة (1396هـ= 1976م).


منقول

عبدالغفور الخطيب
25-11-2005, 02:05 AM
سقوط قرطبة.. تآمر العدو والصديق

(في ذكرى سقوطها: 23 من شوال 633هـ)


على أنقاض دولة الموحدين التي انفكت عراها بعد هزيمتهم المدوية في معركة العقاب في (15 من صفر 609هـ= 16 من يوليو 1212م) المعروفة أمام الجيوش الإسبانية والأوروبية المتحالفة – نجح محمد بن يوسف بن هود في أن يقيم دولة كبيرة ضمت قواعد الأندلس الكبرى، مثل: إشبيلية حاضرة الحكم الموحدي، وشاطبة، وجيان، وغرناطة، ومالقة، وألمرية، وأصبح بعد هذا النجاح زعيم الأندلس وقائد حركة تحريرها والدفاع عنها أمام أطماع النصارى التي ليس لها حد؛ ولذلك دخل في معارك معهم أصابه التوفيق في بعضها، وحلّت به الهزيمة في بعضها الآخر.

ومحمد بن يوسف بن هود كان قبل أن يظهر أمره من أجناد "مرسية" ومن بيت عريق في الزعامة والرياسة، فهو سليل بني هود ملوك سرقسطة أيام حكم الطوائف، استطاع أن يجمع حوله الأتباع والأنصار، وأن يحارب بهم دولة الموحدين، وكانت تمر بظروف حرجة فلم تقو على الوقوف أمامه، فتساقطت مدنها في يده بعدما اشتد أمره وذاع ذكره.

التبعية للدولة العباسية

رأى ابن هود منذ أن استفحل أمره أن ينطوي تحت الخلافة العباسية في بغداد، ويستظل بظلها، وأن يتشح بثوب من الشرعية في انتحال الولاية، ويستقوي بها في محاربة خصومه؛ فرفع الشعار الأسود شعار العباسيين، ودعا للخليفة المستنصر بالله العباسي، وبعث إليه في بغداد يطلب منه مرسومًا بولايته على الأندلس، فبعث به إليه ومعه الخلع والرايات، واستقبل ابن هود مبعوث الخليفة سنة (630هـ= 1233م) وكان يومئذ بغرناطة.

فقرئ المرسوم على الناس، وجاء فيه أن الخليفة قلده "أمر جزيرة الأندلس وما يجري معها من الولايات والبلاد، ويسوغه ما يفتتحه من ممالك أهل الشرك والعناد تقليدًا صحيحًا شرعيًا، ثم يقدم له الخليفة بعض النصائح تتضمن التمسك بتقوى الله، والتزام كتابه وسنة نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأن يكثر من مجالسة الفقهاء والعلماء، ومشاورة العقلاء الألباب، وأن يحسن السيرة في الرعية وأن يُعنى بمجاهدة الكفار.

وبهذا المرسوم صار ابن هود أمير الأندلس الشرعي، وكان ملكه يومئذ يمتد في شرقي الأندلس من الجزيرة وشاطبة حتى ألمرية جنوبًا، وفي وسط الأندلس فيما بين قرطبة وغرناطة، ولم يخرج عن سلطانه سوى عدد قليل من قواعد الأندلس الكبرى.

صراع ومنافسة

ولم يكن ابن هود منفردًا بحكم الأندلس، ولم تتحد قواعدها الكبرى تحت سلطانه فقد نافسه في شرقي الأندلس "أبو جميل زيان بن مردنيش" وكانت بلنسية تحت يده. وفي وسط الأندلس وجنوبها نافسه "محمد بن يوسف الأحمر" وكان زعيمًا شجاعًا مقدامًا، أهلته ملكاته ومواهبه أن يشتد أمره ويضع يده على "جيان" وما حولها، وأن يتطلع إلى أن يبسط سلطانه على قواعد الأندلس في الجنوب.

واستشعر ابن هود بقوة منافسه ابن الأحمر وتوجس منه خيفة ومن تطلعاته الطموحة، فشاء أن يقضي على آمال خصمه قبل أن تتحول إلى حقيقة ويعجز هو عن إيقاف مده والقضاء على خطره، فلجأ إلى السيف لتحقيق ما يتمنى، ولم يكن خصمه القوي في غفلة عما يدبر له، فاستعد ليوم اللقاء، وعقد حلفًا مع "أبي مروان أحمد الباجي" القائم على إشبيلية التي خرجت من سلطان ابن هود.

وكان مما لا بد منه، والتقى الفريقان على مقربة من إشبيلية في معركة حامية في سنة (631هـ=1233م)، وانتصر الحليفان على غريمهما ابن هود، ودخل ابن الأحمر إشبيلية بعد ذلك، وهو يضمر في نفسه التخلص من حليفه الباجي، فدس له من يقتله، وحاول أن يبسط يده على إشبيلية فلم يتمكن، وثار عليه أهلها، وأخرجوه منها بعدما علموا بفعلته مع زعيمهم أبي مروان الباجي، وأرسلوا إلى ابن هود يسلمون له مدينتهم لتكون تحت حكمه وسلطانه.

الرجوع إلى الحق

وحدث ما لم يكن متوقعًا، فقد حل السلم والصلح بين الزعيمين المتخاصمين، ولعلهما أدركا خطر الحرب بينهما واستنزاف الأموال والدماء في معارك لن يستفيد منها سوى عدوهما المشترك ملك قشتالة، فغلّبا صوت العقل وخلق الأخوة على التنافس البغيض، وعقدا الصلح في (شوال 631هـ= يونيو 1234م)، واتفقا على أن يقر ابن الأحمر بطاعة ابن هود على أن يقره الأخير على ولايتي أرجونة وجيان.

وفي هذه الفترة لم يكن فرناندو الثالث يكف عن شن غزواته وحروبه، ولا يهدأ في إرسال جيوشه تعبث في الأرض فسادًا. وكان ابن هود يرده في كل مرة بعقد اتفاقية وهدنة، ويدفع له إتاوة عالية، وينزل له عن بعض الحصون، وكان فرناندو يهدف من وراء غزواته المتتالية أن يرهق المسلمين ويستولي على حصونهم، حتى تأتي الفرصة المواتية فينقض على قرطبة تلك الحاضرة العظيمة ذات المجد الأثيل ويستولي عليها.

ولم تكن المدينة العظيمة في أحسن حالتها، تضطرب الأمور فيها اضطرابًا، تميل مرة إلى ابن الأحمر، ومرة أخرى إلى ابن هود، لا تتفق على رأي، ولا تسلم زمامها لمن يستحق وتمكنه قدرته وكفاءته من النهوض بها، وتفتك الخصومات والأحقاد بها، ويبدو أن الملك القشتالي كان على علم بعورات المدينة، ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض عليها.

غزو قرطبة

وأواخر (ربيع الآخر 633هـ= 1236م) خرج جماعة من فرسان قشتالة المغامرين صوب قرطبة، واحتموا بظلام الليل وخيانة البعض ونجحوا في الاستيلاء على منطقة من مناطق المدينة تعرف بالربض الشرقي، وكانت قليلة السكان، ضعيفة الحراسة، وقتلوا كثيرًا من سكانها، وفر الباقون إلى داخل المدينة، وبعدما زالت المفاجأة جاءت حامية المدينة وهاجموا هؤلاء الغزاة الذين تحصنوا بالأبراج، وبعثوا في طلب النجدة والإمداد، فجاءتهم نجدة صغيرة من إخوانهم النصارى، وتحرك فرناندو على الفور صوب قرطبة، غير ملتزم بالمعاهدة التي عقدها مع ابن هود الذي تتبعه المدينة، وبدأت تتجمع قوات من النصارى تحت أسوار المدينة ويزداد عددها يومًا بعد يوم، وتتوقد قلوبهم حماسة وحمية، وبدأ الملك يضع خطته للاستيلاء على المدينة العظيمة.

موقف ابن هود

تطلع القرطبيون في هذه اللحظات الحرجة إلى ابن هود لإنجادهم والدفاع عن مدينتهم باعتباره حاكم المدينة الشرعي، فاستجاب لهم حين علم بالخطر الداهم الذي يحيط بالمدينة العريقة، وخرج في جيش كبير من بلنسية إلى قرطبة، وعسكر على مقربة منهم، وكان أهل قرطبة ينتظرون مقدمه واشتباكه مع النصارى في موقعة فاصلة، وبدلاً من أن يفعل ذلك ظل واقفًا في مكانه لا يحرك ساكنًا، ولا يتحرش بهم، ولو أنه اشتبك معهم لحقق نصرًا هائلاً وألحق بهم هزيمة كبيرة، فحشودهم لم تكن ذات شأن، جمعتها الحماسة والحمية، وفرسانهم لم يكن يتجاوزا المائتين.

ويختلف المؤرخون في السبب الذي جعل ابن هود يقف هذا الموقف المخزي، وهو الذي ملأ الأندلس كلامًا بأنه سيعمل على تحرير الأندلس من عدوان النصارى، وعلى إحياء الشريعة وسننها. يذهب بعض المؤرخين إلى أن قسوة الجو وهطول الأمطار بشدة ونقصان المؤن هو الذي حمل ابن هود على اتخاذ هذا الموقف.

وتذهب بعض الروايات أن أحد رجال ابن هود وكان مسيحيًا قشتاليًا خدعه وأوهمه بأن الملك في أعداد هائلة من جيشه، مجهزة بأقوى الأسلحة وأفتكها، وأنه لا يأمل أن يتحقق النصر على جيش مثل هذا، فانخدع له ابن هود وتخلى عن نجدة أهل قرطبة، وأيًا كانت الأسباب التي يلتمسها المؤرخون لموقف ابن هود فإن ذلك لن يغير من الحقيقة شيئًا، وهو أن ابن هود ترك قرطبة دون أن ينجدها ويضرب القوات التي تحاصرها، ولم يكن عاجزًا أو ضعيفًا، فقواته كانت تتجاوز خمسة وثلاثين ألف جندي، لكنه لم يفعل.

سقوط قرطبة


لم يعد أمام قرطبة بعد أن تركها ابن هود تلقى مصيرها سوى الصمود ومدافعة الحصار الذي ضربه حولها فرناندو الثالث، الذي قطع عنها كل اتصال عن طريق البر أو عن طريق نهر الوادي الكبير؛ فانقطعت عنها المؤن والإمدادات وكل ما يجعلها تقوى على الصمود، وظل هذا الوضع قائمًا حتى نفدت موارد المدينة المنكوبة ونضبت خزائنها، واضطر زعماء المدينة إلى طلب التسليم على أن يخرجوا آمنين بأموالهم وأنفسهم، فوافق الملك على هذا الشرط.

وفي أثناء المفاوضات علم أهل قرطبة أن الجيش القشتالي يعاني من نقص المؤن مثلما يعانون، فابتسم الأمل في نفوسهم، فتراجعوا عن طلب تسليم المدينة أملاً في أن يدفع نقص المؤن الجيش القشتالي على الرحيل ورفع الحصار، لكن أملهم قد تبدد بعد أن تحالف ملك قشتالة مع ابن الأحمر أمير جيان، فتآمر عليهم العدو والصديق، ولم يجدوا بدًا من التسليم ثانية بعد أن تعاونت الخيانة مع ضياع المروءة والشرف في هذا المصير المحتوم.

وأغرى هذا الموقف المخزي بعض القساوسة الغلاة في أن يصر الملك على فتح المدينة بالسيف وقتل من فيها، لكن الملك رفض هذا الرأي خشية أن يدفع اليأس بأهل قرطبة إلى الصبر والصمود وتخريب المدينة العامرة وكانت درة قواعد الأندلس، فآثر الموافقة على التسليم.

وفي يوم حزين وافق (الثالث والعشرين من شهر شوال 633هـ= 29 من يونيو 1236م) دخل القشتاليون المدينة التليدة، ورُفع الصليب على قمة صومعة جامعها الأعظم، وصمت الأذان الذي كان يتردد في سماء المدينة أكثر من خمسة قرون، وحُوّل المسجد في الحال إلى كنيسة، وفي اليوم التالي دخل فرناندو قرطبة في كوكبة من جنوده وأتباعه، وهو لا يصدق أن ما يحلم به قد تحقق، لا بقدرته وكفاءته وإنما بتنازع المسلمين وتفرقهم، ووطئت أقدامه عاصمة الخلافة في الأندلس لا بشجاعة جنوده وبسالتهم وإنما بجبن قادة المسلمين وحكامهم.. وهكذا سقطت المدينة التليدة التي كانت يومًا ما مركز الحكم، ومثوى العلوم والأدب، ومفخرة المسلمين..


منقول

عبدالغفور الخطيب
27-11-2005, 01:48 AM
الخطابي.. أمير ثائر ودولة ناشئة

(في ذكرى معركة أنوال: 25 شوال 1339هـ)



كان المغرب في بداية القرن العشرين يعاني من ضعف وانقسام شديد، تمثل في انقسام الأسرة الحاكمة وصراعاتها الداخلية، واستعانة أطراف هذا الصراع للبقاء على العرش بالقوى الخارجية، أما الوجه الآخر فتمثل في التنافس الاستعماري الشرس بين الدول الكبرى للسيطرة على المغرب وتأمين نفوذها ومصالحها فيه، وبخاصة فرنسا التي كانت تتحين الفرصة للانقضاض على المغرب، غير أنها وجدت إنجلترا وألمانيا واقفتين لها بالمرصاد؛ فلجأت إلى إرضاء إنجلترا من خلال الاتفاق الودي سنة (1322هـ = 1904م) الذي أطلق يدها في المغرب، أما ألمانيا فاضطرت إلى إعطائها جزءًا من الكاميرون حتى تقر باحتلال فرنسا لمراكش في (13 من ذي القعدة 1329هـ = 4 نوفمبر 1911م).

لم يكن دخول فرنسا مدينة "فاس"، أو إعلان الحماية عليها بالأمر الهين اليسير؛ نظرا لطبيعة البلاد الجبلية ذات المسالك الوعرة، وطبيعة السكان البربر الذين اعتادوا الاحتفاظ باستقلالهم الداخلي أمام جميع الحكومات المركزية، ومن ثَمَّ لم يتم إخضاع البلاد إلا بعد مرور أكثر من عشرين عاما لعبت فيها شخصية الأمير الخطابي دورا رئيسيا في الجهاد والمقاومة، ووصف أحد الضباط الفرنسيين الكبار هذه المقاومة الباسلة بقوله: "لم تستسلم أية قبيلة دون مقاومة؛ بل إن بعضها لم يُلقِ سلاحه حتى استنفد كل وسائل المقاومة، واتسمت كل مرحلة من مراحل تقدمنا بالقتال، وكلما توقفنا أنشأ المراكشيون جبهة جديدة أرغمت قواتنا سنوات طويلة على الوقوف موقف الحذر واليقظة في موقف عسكري مشين".

وفرض الفرنسيون الحماية على المغرب في (12 ربيع الثاني 1330هـ = 30 مارس 1912م) وبعد أيام قام المغاربة بثورة عارمة في فاس ثار فيها الجيش والشعب، تزعمها المجاهد "أحمد هبة الله"، وكانت الانتصارات فيها سجالا بين الفريقين، وانتهى الأمر بوفاة الرجل، وتمكن الفرنسيون من بسط نفوذهم على المغرب أثناء الحرب العالمية الأولى.

الريف والأسبان

كانت منطقة النفوذ الأسباني حسب اتفاقية (1322هـ = 1904م) مع فرنسا تشمل القسم الشمالي من مراكش، التي تنقسم إلى كتلتين: شرقية وتعرف بالريف، وغربية وتعرف بالجبالة، وتكاد بعض جبال الريف تتصل بمنقطة الساحل. وتتميز مناطقها الجبلية بوعورة المسالك وشدة انحدارها، غير أنها أقل خصبا من منطقة الجبالة. وتمتد بلاد الريف بمحاذاة الساحل مسافة 120ميلا وعرض 25 ميلا، وتسكنها قبائل ينتمي معظمها إلى أصل بربري، أهمها قبيلة بني ورياغل التي ينتمي إليها الأمير الخطابي.

وعندما بدأ الأسبان ينفذون سياسة توسعية في مراكش، صادفوا معارضة قوية داخل أسبانيا نفسها بسبب الهزائم التي تعرضوا لها على يد الأمريكيين في الفليبين وكوبا، فعارض الرأي العام الأسباني المغامرات العسكرية الاستعمارية، إلا أن المؤيدين احتجوا بأن احتلال مراكش ضروري لتأمين الموانئ الأسبانية الجنوبية، وضَمَّ رجال الدين صوتهم إلى العسكريين.

وكان الأسبان يعرفون شدة مقاومة أهل الريف لتوسعهم، فاكتفوا في البداية بالسيطرة على سبتة ومليلة، ثم اتجهوا بعد ذلك إلى احتلال معظم الموانئ الساحلية المحيطة بمنطقة نفوذهم، وكانت خطتهم تقوم على أن تتقدم القوات الأسبانية عبر منطقة الجبالة لاحتلال مدينة تطوان، التي اتُّفق على أن تكون عاصمة للمنطقة الأسبانية، لكن ظهر في الجبالة زعيم قوي هو "أحمد بن محمد الريسوني" الذي حمل لواء المقاومة منذ سنة (1330هـ = 1911م) حتى تولاها منه الأمير الخطابي.

وقد اصطدم الريسوني بالأسبان عندما احتلوا ميناء أصيلة الذي كان يعتمد عليه في استيراد الأسلحة، وبعدها ساروا إلى احتلال مدينة تطوان، فوقعت مصادمات بينهم انتهت بصلح اتفق فيه على أن تكون الجبال والمناطق الداخلية للريسوني، والساحل للأسبان، غير أن الأسبان نقضوا العهد، وطاردوه، وتوغلوا في بلاد الجبالة بخسائر فادحة، واستطاعوا أن يحتلوا مدينة شفشاون أهم مدينة في تلك البلاد في (صفر 1339هـ = أكتوبر 1920م).



كانت الثورة الثانية ضد الأسبان هي ثورة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، زعيم قبيلة بني ورياغل، أكبر قبائل البربر في بلاد الريف، وقد وُلد الأمير سنة (1299هـ = 1881م) في بلدة أغادير، لأب يتولى زعامة قبيلته، فحفظ القرآن الكريم صغيرا، ثم أرسله أبوه إلى جامع القرويين بمدينة فاس لدراسة العلوم العربية الدينية، ثم التحق بجامعة سلمنكا بأسبانيا، فحصل منها على درجة الدكتوراه في الحقوق، وبذلك جمع بين الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة وبعض النواحي من الثقافة الأوروبية، ثم عُين قاضيا بمدينة مليلة التي كانت خاضعة لأسبانيا، وأثر فيه عندما كان قاضيا مشهد ضابط أسباني يضرب عربيا بالسوط في شوارع مليلة، ويستغيث ولا يغاث، عندها رأى الوجه القبيح للاستعمار، وأدرك أن الكرامة والحرية أثمن من الحياة.

وكان الأسبان قد عرضوا على والد الأمير أن يتولى منصب نائب السلطان في تطوان التي تحت الحماية الأسبانية، وأن يقتصر الوجود العسكري الأسباني على المدن، إلا أنه اشترط أن تكون مدة الحماية محددة فلم ينفذ هذا العرض.

وبعد سيطرة أسبانيا على مدينة شفشاون وإخضاع منطقة الجبال، استطاعت أن تركز جهودها وقواتها في بلاد الريف، وأعلنت الحماية على شمال المغرب، فرفض الأب الخضوع للأسبان، وأعلن معارضته للاستعمار، ورفض تقديم الولاء للجنرال الأسباني غوردانا؛ فما كان من الجنرال إلا أن عزل الخطابي عن قضاء مليلة، واعتقله قرابة العام، ثم أطلق سراحه، ووضعه تحت المراقبة، وفشلت إحدى محاولات الخطابي في الهرب من سجنه، فأصيب بعرج خفيف لازمه طوال حياته، ثم غادر مليلة ولحق بوالده في أغادير، وفي هذه الأثناء توفي والده سنة (1339هـ = 1920م) فانتقلت الزعامة إلى الابن.

من القضاء إلى الثورة

تولى الأمير الخطابي زعامة قبيلة بني ورياغل، وقيادة الثورة في بلاد الريف، وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، فزحف الجنرال سلفستر قائد قطاع مليلة نحو بلاد الريف، واحتل بعض المناطق دون مقاومة تُذكر، واحتل مدينة أنوال، وتقدم اثني عشر ميلا بعدها؛ فظن أن قبائل بني ورياغل خضعت له، ولم يدرِ أن الأمير الثائر أراد أن يستدرجه إلى المناطق الجبلية ليقضي عليه تماما، وأنه ادخر رجاله لمعركة فاصلة.

بلغ قوام الجيش الأسباني بقيادة سلفستر 24 ألف جندي استطاع أن يصل بهم إلى جبل وعران قرب أغادير مسقط رأس الأمير، وعندها قام الخطابي بهجوم معاكس في (25 شوال 1339هـ = 1 يوليو 1921م) استطاع خلاله أن يخرج الأسبان من أنوال، وأن يطاردهم حتى لم يبق لهم سوى مدينة مليلة، وكانت خطة هجومه في أنوال أن يهاجم الريفيون الأسبان في وقت واحد في جميع المواقع؛ بحيث يصعب عليهم إغاثة بعضهم البعض، كما وزع عددا كبيرا من رجاله في أماكن يمكنهم من خلالها اصطياد الجنود الفارين، فأبيد معظم الجيش الأسباني بما فيهم سلفستر، واعترف الأسبان أنهم خسروا في تلك المعركة 15 ألف قتيل و570 أسيرا، واستولى المغاربة على 130 موقعا من المواقع التي احتلها الأسبان، وحوالي 30 ألف بندقية، و129 مدفعَ ميدان، و392 مدفعا رشاشا.

ولم ينتبه الخطابي إلى ما أدركه من نصر حاسم؛ إذ لو تابع القتال لما وجد أمامه قوة ولدخل حصن مليلة دون مقاومة تُذكر، ولأنهى الوجود الأسباني في بلاد الريف، غير أنه توقف ظنا منه أن للأسبان قوة، وقد هيأ التوقف للأسبان الفرصة لحشد ستين ألف مقاتل، وقاموا بهجوم معاكس في (10محرم 1340هـ = 12 سبتمبر 1921م)، فاستعادوا بعض ما فقدوه، وبلغ مجموع القوات الأسبانية في ذلك العام ببلاد الريف أكثر من 150 ألف مقاتل، ورغم ذلك أصبح وجود الأسبان مقصورًا على مدينة تطوان والموانئ وبعض الحصون في الجبالة.

ويعزو الأسبان وقوع هذه الهزيمة إلى طبيعة البلاد الصعبة، والفساد الذي كان منتشرا في صفوف جيشهم وإدارتهم، وأرسلت حكومة مدريد لجنة للتحقيق في أسباب هذه الكارثة المدوية، ذكرت أن الأسباب تكمن في إقامة مراكز عديدة دون الاهتمام بتحصينها تحصينا قويًّا، كما أن تعبيد الطرق التي تربط بين هذه المراكز كان خطأ كبيرًا من الناحية العسكرية، ويعترف التقرير بأنه لم يكن أمام المراكشيين إلا أن يلتقطوا الأسلحة التي تركها الجنود الفارون، وكشف التقرير حالات بيع بعض الضباط لأسلحة الجيش.

من الثورة إلى الدولة

بعد الانتصار العظيم الذي حققه الخطابي في أنوال ذاعت شهرته في بلاد الريف، وترسخت زعامته فاتجه إلى تأسيس دولة؛ لذلك دعا القبائل إلى عقد مؤتمر شعبي كبير تُمثَّل فيه جميع القبائل لتأسيس نظام سياسي، ووضْعِ دستور تسير عيه الحكومة، وتم تشكيل مجلس عام عُرف باسم الجمعية الوطنية مُثِّلت فيه إرادة الشعب، واتخذ أول قرار له وهو إعلان الاستقلال الوطني وتأسيس حكومة دستورية جمهورية في (المحرم 1340هـ = سبتمبر 1921م)، وتم وضع دستور لجمهورية الريف مبدؤه سلطة الشعب، ونص الدستور على تشكيل وزارات، ونص على أن رجال الحكومة مسئولون أمام رئيس الجمهورية.

وقد أعلن الخطابي أن أهداف حكومته هي عدم الاعتراف بالحماية الفرنسية، وجلاء الأسبان عن جميع ما احتلوه، وإقامة علاقات طيبة مع جميع الدول، والاستفادة من الفنيين الأوروبيين في بناء الدولة، واستغلال ثرواتها؛ فشجع بعض شركات التعدين للعمل في الريف حتى قيل بأن تأييد بعض الأوساط الرأسمالية له في أوروبا إنما كان سببه ارتباط مصالحهم بمشاريع في الريف، كذلك تحول رجاله المقاتلون إلى جيش نظامي، له قواده ومقاتلوه من الفرسان والمشاة المدفعية، وعهد بالوظائف الفنية إلى المغاربة الذين سبق لهم الخدمة في الجيش الفرنسي، وعمل على تنظيم الإدارة المدنية، والإفادة من بعض وسائل الحضارة العصرية؛ فمدّ أسلاك البرق والهاتف وشق الطرق، وأرسل الوفود إلى العواصم العربية ليحصل على تأييدها، وطلب من فرنسا وبريطانيا وبابا الفاتيكان الاعتراف بدولته، وعاصمتهاأجدير (أغادير).

مسألة سياسة

وأثار وضع جمهورية الريف مسألة سياسية هامة أثرت في حياة مراكش، وهو موقف الخطابي من العرش والسلطان المغربي، فنسب البعض إليه أنه اعترف بمبدأ السيادة السلطانية، واستدلوا على ذلك بأنه لم يعلن نفسه سلطانا، غير أن السلاطين من الأسرة العلوية لم يقتنعوا بذلك، واعتقدوا أن دولته تمثل انشقاقا على العرش، واستمر سوء التفاهم هذا بينهم وبين الخطابي حتى عهد السلطان محمد الخامس، ونفى الخطابي أن يكون تطلع إلى عرش مراكش بدليل أنه منع أنصاره من الخطبة باسمه في صلاة الجمعة، وأنه كان مستعدا لقبول الأسرة الملكية الحاكمة، وأن يبايع الوطنيون السلطان الذي يحقق أهدافهم بعد تحرير البلاد.

الأوضاع الداخلية في أسبانيا

أصبحت مشكلة الريف والخطابي هي المشكلة الأولى التي تقلق أسبانيا داخليا وخارجيا، فارتفعت القوات الأسبانية في شمال المغرب بعد شهور من هزيمة أنوال إلى 150 ألف مقاتل، وعرضت مدريد على الخطابي الاعتراف باستقلال الريف بشرط أن يكون استقلالا ذاتيا خاضعا للاتفاقات الدولية التي أخضعت المغرب للنظام الاستعماري، فرفض الأمير الاستقلال تحت السيادة الأسبانية.

وداخليا وقع انقلاب عسكري في أسبانيا في (1 صفر 1342هـ = 12 سبتمبر 1923م) وتسلم الحكم فيه الجنرال بريمودي ريفيرا، فأعلن عن سياسة جديدة لبلاده في مراكش، وهي الانسحاب من المناطق الداخلية والتمركز في مواقع حصينة على الساحل، وأدرك ريفيرا أن تعدد المواقع الأسبانية المنعزلة أمر بالغ الخطورة؛ لأنها محاطة بالقبائل المغربية. أما الخطابي فلم يكن هناك ما يدفعه إلى مهادنة الأسبان، خاصة بعد وثوقه بقدرته على طردهم، وبعد رفضهم الانسحاب إلى سبتة ومليلة؛ لذلك بدأ في عمليات قتالية باسلة ضد القوات المنسحبة اعتمدت على أساليب حرب العصابات، واعترفت الحكومة الأسبانية في تعدادها الرسمي أن خسائرها في الستة أشهر الأولى من عام (1343هـ = 1924م) بلغت 21250 قتيلا وجريحًا وأسيرًا رغم إشراف الجنرال ريفيرا بنفسه على عمليات الانسحاب.

واستطاع الخطابي أن يبسط نفوذه على الريف، رغم استمالة مدريد لزعيم منطقة الجبالا الريسوني، فزحف على الجبالا، ودخل عاصمتهم سنة (1344هـ = 1925م) وصادر أملاك المتعاونين مع الأسبان، وألقى القبض على الريسوني، واقتاده سجينا إلى أغادين حيث توفي في سجنه، فأصبح زعيم الريف بلا منازع، وسيطر على مساحة تبلغ 28 ألف كيلومتر مربع، ويسكنها مليون مغربي.

فرنسا.. والريف

وأدرك الأسبان عجزهم الكامل عن مقاومة دولة الريف الناشئة، وقوبلت هذه النتيجة بدهشة كبيرة من الدوائر الاستعمارية التي لم تكن مطمئنة لحركة الخطابي وعلى رأسها فرنسا التي كانت تتوقع أن يتمكن الأسبان يوما ما من القضاء على هذه الحركة، أما الخطابي فكان يحرض على تجنب الاصطدام بالفرنسيين حتى لا يفتح على نفسه جبهتين للقتال في وقت واحد، إلا أن الأوضاع بين الاثنين كانت تنذر بوقوع اشتباكات قريبة.

والمعروف أن فرنسا كانت تخشى من حركة الخطابي أن تكون عاملا مشجعا للثورات في شمال أفريقية، ويرى البعض أن مصالح الرأسمالية التي استثمرت أموالها في بناء ميناء الدار البيضاء الضخم وفي مشروعات أخرى في منطقة ساحل الأطلسي استحسنت بقاء منطقة الريف مضطربة حتى يصعب استخدام الطريق الموصل بين فاس وطنجة، الذي يحول تجارة مراكش إلى ذلك الميناء، واستقرار الأوضاع في الريف سيؤثر سلبا على مصالحها، يضاف إلى ذلك أن الخطابي حرص على دعوة الشركات الأجنبية لاستغلال موارد الريف الطبيعية خاصة البريطانية؛ وهو ما يعني أن تقترب المصالح الرأسمالية البريطانية من المصالح الفرنسية، وتصبح دولة الريف في حالة من الأمان الدولي في ظل التنافس بين هذه المصالح؛ لذلك يقال: إن بعض الأسلحة البريطانية المتطورة في ذلك الوقت بدأت تتدفق على دولة الريف عبر ميناء الحسيمات.

كما أن قيام جمهورية قوية في الريف يدفع المغاربة دفعا إلى الثورة على الفرنسيين، ورفض الحماية الفرنسية؛ لذلك كرهت فرنسا قيام دولة المغاربة مستقلة، وأرسلت تعزيزات عسكرية على الجبهة الشمالية لها في مراكش، وتحينت الفرصة للاصطدام بها والقتال معها، وفشلت محاولات الخطابي للتفاهم مع الفرنسيين للتوصل إلى اتفاق ينظم العلاقة بينهما، فبعث أخاه إلى باريس، وبعث موفدا له إلى السلطات الفرنسية في فاس، لكنهما لم يتوصلا إلى شيء.

الصدام

كان مجموع القوات الفرنسية في مراكش 65 ألف جندي، وكانت فرنسا ترى أن هذه القوات غير كافية لدخول حرب في الريف؛ لذلك أرسلت قوات إضافية أخرى حتى بلغ مجموع هذه القوات 158 ألف مقاتل منهم 133 ألف مغربي، وفي (رمضان 1343هـ = أبريل 1925م) وقعت شرارة الصدام بين الفرنسيين والخطابي، عندما أمدّ الفرنسيون زعماء الطرق الصوفية بالمال والسلاح ليشجعوهم على إثارة الاضطرابات في دولة الريف، فأدى ذلك إلى مهاجمة الريفيين لبعض الزوايا قرب الحدود، ووجد الفرنسيون في ذلك حجة للتدخل لحماية أنصارهم، وعندما بدأ القتال فوجئ الفرنسيون بقوة الريفيين وحسن تنظيمهم وقدراتهم القتالية، فاضطروا إلى التزام موقف الدفاع مدة أربعة أشهر، واستطاعت بعض قوات الريف التسلل إلى مسافة 20 ميلا بالقرب من فاس، وخسر الفرنسيون خسائر فادحة، ووقعت كثير من أسلحتهم في أيدي الريفيين، فقلقت فرنسا من هذه الانتصارات، وأرسلت قائدها العسكري البارع "بيتان" للاستعانة بخبرته وكفاءته.

أسبانيا وفرنسا ضد الريف

كان صمود جمهورية الريف الناشئة أمام فرنسا وأسبانيا والمناوئين لها من المغاربة أمرًا باهرًا رائعا وحالة نادرة في تاريخ الحروب الاستعمارية، يرجع جوهره إلى كفاءة الزعماء الريفيين في ميدان القتال والحرب؛ فقد استخدم هؤلاء المقاتلون خطوط الخنادق المحصنة على النمط الذي أقامته فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، ويكفي الريفيين فخرًا أنهم قادوا الحرب ضد ثلاثة ماريشالات وأربعين جنرالا وحوالي ربع مليون مقاتل فرنسي وأسباني ومغاربي مدعمين بالطائرات والمدرعات وتحت إشراف رؤساء حكوماتهم.

وقد اتخذت فرنسا بعض الإجراءات لتدعيم موقفها في القتال، فأغرت السلطان المغربي بأن يعلن الخطابي أحدَ العصاة الخارجين على سلطته الشرعية، ففعل السلطان ما أُمر به، وقام برحلة إلى فاس لتأليب القبائل على المجاهدين، كذلك نسقت خططها الحربية مع حكومة مدريد، وعقد مؤتمر لهذا الغرض اتفق فيه على مكافحة تجارة السلاح بين الريف وأوروبا، وسمع بتتبع الثائرين في مناطق كل دولة، وتعهدت باريس ومدريد بعدم توقيع صلح منفرد مع الخطابي.

الاستسلام

واتفق الأسبان والفرنسيون على الزحف على جمهورية الريف بهدف تحقيق اتصال عسكري بين الدولتين وخرق الريف، وتقسيم قواته إلى جزأين؛ وهو ما يعرضهم لموقف عسكري بالغ الحرج، إلا أن قدوم الشتاء ببرودته أجَّل هذا الزحف وبعض العمليات العسكرية، وخسر الخطابي في تلك المعارك حوالي 20 ألف شهيد، وبقي بجانبه حوالي 60 ألف مقاتل. اتسعت الحرب في (1344هـ = 1926م) وتجدد الزحف والتعاون العسكري التام بين باريس ومدريد مع تطويق السواحل بأساطيلهما، وقلة المؤن في الريف؛ لأن معظم المقاتلين في صفوف الخطابي من المزارعين، وهؤلاء لم يعملوا في أراضيهم منذ أكثر من عام، وهم يقاتلون في جبهة تمتد إلى أكثر من 300 كم.

ولجأ الفرنسيون إلى دفع المغاربة المتعاونين معهم إلى توجيه دعوة للقبائل لعقد صلح منفرد مع فرنسا أو أسبانيا في مقابل الحصول على حاجاتهم من الطعام، فوجد الخطابي أن الحكمة تقتضي وقف القتال رحمة بسكان الريف وقبائله قبل أن تلتهمهم الحرب، وقبلها الجشع الفرنسي والأسباني والخائنون من المغاربة.

وقد فكر الرجل أن يخوض بنفسه معارك فدائية؛ دفاعا عن أرضه ودينه، إلا أن رفاقه منعوه ونصحوه بالتفاوض، فقرر أن يحصل لبلاده ونفسه على أفضل الشروط، وألا يكون استسلامه ركوعا أو ذلا، ورأى تسليم نفسه للفرنسيين على أنه أسير حرب، واقتحم بجواده الخطوط الفرنسية في مشهد رائع قلّ نظيره في (12 ذي القعدة 1344هـ = 25 مايو 1926م) واستمر القتال بعد فترة. أما هو فنفته فرنسا إلى جزيرة ريونيون النائية في المحيط الهادي على بعد 13 ألف كيلو متر من موطنه الذي شهد مولده وجهاده.

وطال ليل الأسر والنفي بالخطابي وأسرته وبعض أتباعه نيفا وعشرين سنة، قضاها في الصلاة وقراءة القرآن الكريم في تلك الجزيرة الصخرية، عانى فيها قلة المال، فآثر أن يعمل بيديه لتأمين معيشته هو وأسرته، فاشترى مزرعة، وجاهد فيها كسبا للعيش، ولم تفلح محاولاته بأن يرحل إلى أية دولة عربية أو إسلامية؛ لأن فرنسا كانت تعلم أن الرجل يحمل شعلة الحرية في قلبه وهي لم تنطفئ، كما أن كلماته عن تقرير المصير هي عبارات محشوة بالديناميت تفجر الثورات وقبلها نفوس الأحرار.

وفي عام (1367هـ = 1947م) قررت فرنسا نقل الخطابي وأسرته إليها لتضغط به على الملك محمد الخامس لمطالبته الدائمة بالاستقلال، غير أنها استجارت من الرمضاء بالنار، فعندما وصلت الباخرة التي تقله إلى ميناء بورسعيد، التجأ إلى السلطات المصرية، فرحبت القاهرة ببقاء هذا الزعيم الكبير في أراضيها، واستمر بها حتى وفاته في (1382هـ = 1963م).



منقول

عبدالغفور الخطيب
28-11-2005, 02:22 AM
العقاد.. رحلة قلم

(في ذكرى وفاته: 26 من شوال 1383هـ)



شباب وإباء

تبوأ العقاد مكانة عالية في النهضة الأدبية الحديثة ندر من نافسه فيها، فهو يقف بين أعلامها، وكلهم هامات سامقة، علمًا شامخًا وقمة باذخة، يبدو لمن يقترب منه كالبحر العظيم من أي الجهات أتيته راعك اتساعه، وعمقه، أو كقمة الهرم الراسخ لا ترقى إليه إلا من قاعدته الواسعة، واجتمع له ما لم يجتمع لغيره من المواهب والملَكَات، فهو كاتب كبير، وشاعر لامع، وناقد بصير، ومؤرخ حصيف، ولغوي بصير، وسياسي حاذق، وصحفي نابه، ولم ينل منزلته الرفيعة بجاه أو سلطان، أو بدرجات، وشهادات، بل نالها بمواهبه المتعددة، وهمته العالية، ودأبه المتصل، عاش من قلمه وكتبه، وترفع عن الوظائف والمناصب لا كرها فيها، بل صونًا لحريته واعتزازًا بها، وخوفًا من أن تنازعه الوظائف عشقه للمعرفة.

وحياة العقاد سلسلة طويلة من الكفاح المتصل والعمل الدءوب، صارع الحياة والأحداث وتسامى على الصعاب، وعرف حياة السجن وشظف العيش، واضطهاد الحكام، لكن ذلك كله لم يُوهِنْ عزمه أو يصرفه عما نذر نفسه له، خلص للأدب والفكر مخلصًا له، وترهب في محراب العلم؛ فأعطاه ما يستحق من مكانة وتقدير.

المولد والنشأة

في مدينة أسوان بصعيد مصر، وُلِدَ عباس محمود العقاد في يوم الجمعة الموافق (29 من شوال 1306هـ= 28 من يونيو 1889)، ونشأ في أسرة كريمة، وتلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة أسوان الأميرية، وحصل منها على الشهادة الابتدائية سنة (1321هـ= 1903م) وهو في الرابعة عشرة من عمره.

وفي أثناء دراسته كان يتردد مع أبيه على مجلس الشيخ أحمد الجداوي، وهو من علماء الأزهر الذين لزموا جمال الدين الأفغاني، وكان مجلسه مجلس أدب وعلم، فأحب الفتى الصغير القراءة والاطلاع، فكان مما قرأه في هذه الفترة "المُسْتَطْرَف في كل فن مستظرف" للأبشيهي، و"قصص ألف ليلة وليلة"، وديوان البهاء زهير وغيرها، وصادف هذا هوى في نفسه، ما زاد إقباله على مطالعة الكتب العربية والإفرنجية، وبدأ في نظم الشعر.

ولم يكمل العقاد تعليمه بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، بل عمل موظفًا في الحكومة بمدينة قنا سنة (1323هـ= 1905م) ثم نُقِلَ إلى الزقازيق سنة (1325هـ= 1907م) وعمل في القسم المالي بمديرية الشرقية، وفي هذه السنة توفي أبوه، فانتقل إلى القاهرة واستقر بها.

الاشتغال بالصحافة


ضاق العقاد بحياة الوظيفة وقيودها، ولم يكن له أمل في الحياة غير صناعة القلم، وهذه الصناعة ميدانها الصحافة، فاتجه إليها، وكان أول اتصاله بها في سنة (1325هـ= 1907م) حين عمل مع العلامة محمد فريد وجدي في جريدة الدستور اليومية التي كان يصدرها، وتحمل معه أعباء التحرير والترجمة والتصحيح من العدد الأول حتى العدد الأخير، فلم يكن معهما أحد يساعدهما في التحرير.

وبعد توقف الجريدة عاد العقاد سنة (1331هـ= 1912م) إلى الوظيفة بديوان الأوقاف، لكنه ضاق بها، فتركها، واشترك في تحرير جريدة المؤيد التي كان يصدرها الشيخ علي يوسف، وسرعان ما اصطدم بسياسة الجريدة، التي كانت تؤيد الخديوي عباس حلمي، فتركها وعمل بالتدريس فترة مع الكاتب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني، ثم عاد إلى الاشتغال بالصحافة في جريدة الأهالي سنة (1336هـ= 1917م) وكانت تَصْدُر بالإسكندرية، ثم تركها وعمل بجريدة الأهرام سنة (1338هـ= 1919م) واشتغل بالحركة الوطنية التي اشتغلت بعد ثورة 1919م، وصار من كُتَّابها الكبار مدافعًا عن حقوق الوطن في الحرية والاستقلال، وأصبح الكاتب الأول لحزب الوفد، المدافع عنه أمام خصومه من الأحزاب الأخرى، ودخل في معارك حامية مع منتقدي سعد زغلول زعيم الأمة حول سياسة المفاوضات مع الإنجليز بعد الثورة.

وبعد فترة انتقل للعمل مع عبد القادر حمزة سنة (1342هـ= 1923م) في جريدة البلاغ، وارتبط اسمه بتلك الجريدة، وملحقها الأدبي الأسبوعي لسنوات طويلة، ولمع اسمه، وذاع صيته واُنْتخب عضوا بمجلس النواب، ولن يَنسى له التاريخ وقفته الشجاعة حين أراد الملك فؤاد إسقاط عبارتين من الدستور، تنص إحداهما على أن الأمة مصدر السلطات، والأخرى أن الوزارة مسئولة أمام البرلمان، فارتفع صوت العقاد من تحت قبة البرلمان على رؤوس الأشهاد من أعضائه قائلا: "إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه"، وقد كلفته هذه الكلمة الشجاعة تسعة أشهر من السجن سنة (1349هـ= 1930م) بتهمة العيب في الذات الملكية.

وظل العقاد منتميًا لحزب الوفد حتى اصطدم بسياسته تحت زعامة مصطفى النحاس باشا في سنة ( 1354هـ= 1935م) فانسحب من العمل السياسي، وبدأ نشاطُه الصحفي يقل بالتدريج وينتقل إلى مجال التأليف، وإن كانت مساهماته بالمقالات لم تنقطع إلى الصحف، فشارك في تحرير صحف روزاليوسف، والهلال، وأخبار اليوم، ومجلة الأزهر.

مؤلفات العقاد


عُرف العقاد منذ صغره بنهمه الشديد في القراءة، وإنفاقه الساعات الطوال في البحث والدرس، وقدرته الفائقة على الفهم والاستيعاب، وشملت قراءاته الأدب العربي والآداب العالمية فلم ينقطع يومًا عن الاتصال بهما، لا يحوله مانع عن قراءة عيونهما ومتابعة الجديد الذي يصدر منهما، وبلغ من شغفه بالقراءة أنه يطالع كتبًا كثيرة لا ينوي الكتابة في موضوعاتها حتى إن أديبًا زاره يومًا، فوجد على مكتبه بعض المجلدات في غرائز الحشرات وسلوكها، فسأله عنها، فأجابه بأنه يقرأ ذلك توسيعًا لنهمه وإدراكه، حتى ينفذ إلى بواطن الطبائع وأصولها الأولى، ويقيس عليها دنيا الناس والسياسة.

وكتب العقاد عشرات الكتب في موضوعات مختلفة، فكتب في الأدب والتاريخ والاجتماع مثل: مطالعات في الكتب والحياة، ومراجعات في الأدب والفنون، وأشتات مجتمعة في اللغة والأدب، وساعات بين الكتب، وعقائد المفكرين في القرن العشرين، وجحا الضاحك المضحك، وبين الكتب والناس، والفصول، واليد القوية في مصر.

ووضع في الدراسات النقدية واللغوية مؤلفات كثيرة، أشهرها كتاب "الديوان في النقد والأدب" بالاشتراك مع المازني، وأصبح اسم الكتاب عنوانًا على مدرسة شعرية عُرفت بمدرسة الديوان، وكتاب "ابن الرومي حياته من شعره"، وشعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، ورجعة أبي العلاء، وأبو نواس الحسن بن هانئ، واللغة الشاعرية، والتعريف بشكسبير.

وله في السياسة عدة كتب يأتي في مقدمتها: "الحكم المطلق في القرن العشرين"، و"هتلر في الميزان"، وأفيون الشعوب"، و"فلاسفة الحكم في العصر الحديث"، و"الشيوعية والإسلام"، و"النازية والأديان"، و"لا شيوعية ولا استعمار".

وهو في هذه الكتب يحارب الشيوعية والنظم الاستبدادية، ويمجد الديمقراطية التي تكفل حرية الفرد، الذي يشعر بأنه صاحب رأي في حكومة بلاده، وبغير ذلك لا تتحقق له مزية، وهو يُعِدُّ الشيوعية مذهبًا هدَّامًا يقضي على جهود الإنسانية في تاريخها القديم والحديث، ولا سيما الجهود التي بذلها الإنسان للارتفاع بنفسه من الإباحية الحيوانية إلى مرتبة المخلوق الذي يعرف حرية الفكر وحرية الضمير.

وله تراجم عميقة لأعلام من الشرق والغرب، مثل "سعد زغلول، وغاندي وبنيامين فرانكلين، ومحمد علي جناح، وعبد الرحمن الكواكبي، وابن رشد، والفارابي، ومحمد عبده، وبرناردشو، والشيخ الرئيس ابن سينا".

وأسهم في الترجمة عن الإنجليزية بكتابين هما "عرائس وشياطين، وألوان من القصة القصيرة في الأدب الأمريكي".

إسلاميات العقاد


تجاوزت مؤلفات العقاد الإسلامية أربعين كتابًا، شملت جوانب مختلفة من الثقافة الإسلامية، فتناول أعلام الإسلام في كتب ذائعة، عرف كثير منها باسم العبقريات، استهلها بعبقرية محمد، ثم توالت باقي السلسلة التي ضمت عبقرية الصديق، وعبقرية عمر، وعبقرية علي، وعبقرية خالد، وداعي السماء بلال، وذو النورين عثمان، والصديقة بنت الصديق، وأبو الشهداء وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وفاطمة الزهراء والفاطميون.

وهو في هذه الكتب لا يهتم بسرد الحوادث، وترتيب الوقائع، وإنما يعني برسم صورة للشخصية تُعرِّفنا به، وتجلو لنا خلائقه وبواعث أعماله، مثلما تجلو الصورة ملامح من تراه بالعين.

وقد ذاعت عبقرياته واُشتهرت بين الناس، وكان بعضها موضوع دراسة الطلاب في المدارس الثانوية في مصر، وحظيت من التقدير والاحتفاء بما لم تحظ به كتب العقاد الأخرى.

وألَّف العقاد في مجال الدفاع عن الإسلام عدة كتب، يأتي في مقدمتها: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، والفلسفة القرآنية، والتفكير فريضة إسلامية، ومطلع النور، والديمقراطية في الإسلام، والإنسان في القرآن الكريم، والإسلام في القرن العشرين وما يقال عن الإسلام.

وهو في هذه الكتب يدافع عن الإسلام أمام الشبهات التي يرميه بها خصومه وأعداؤه، مستخدمًا علمه الواسع وقدرته على المحاجاة والجدل، وإفحام الخصوم بالمنطق السديد، فوازن بين الإسلام وغيره وانتهى من الموازنة إلى شمول حقائق الإسلام وخلوص عبادته وشعائره من شوائب الملل الغابرة حين حُرِّفت عن مسارها الصحيح، وعرض للنبوة في القديم والحديث، وخلص إلى أن النبوة في الإسلام كانت كمال النبوات، وختام الرسالات وهو يهاجم الذين يدعون أن الإسلام يدعو إلى الانقياد والتسليم دون تفكير وتأمل، ويقدم ما يؤكد على أن التفكير فريضة إسلامية، وأن مزية القرآن الأولى هي التنويه بالعقل وإعماله، ويكثر من النصوص القرآنية التي تؤيد ذلك، ليصل إلى أن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز بين الأشياء.

وقد رد العقاد في بعض هذه الكتب ما يثيره أعداء الإسلام من شبهات ظالمة يحاولون ترويجها بشتى الوسائل، مثل انتشار الإسلام بالسيف، وتحبيذ الإسلام للرق، وقد فنَّد الكاتب هذه التهم بالحجج المقنعة والأدلة القاطعة في كتابه "ما يقال عن الإسلام".

شاعرية العقاد

لم يكن العقاد كاتبًا فذا وباحثًا دؤوبًا ومفكرًا عميقًا، ومؤرخًا دقيقًا فحسب، بل كان شاعرًا مجددًا، له عشرة دواوين، هي: يقظة الصباح، ووهج الظهيرة، وأشباح الأصيل، وأعاصير مغرب، وبعد الأعاصير، وأشجان الليل، ووحي الأربعين، وهدية الكروان، وعابر سبيل، وديوان من دواوين، وهذه الدواوين العشرة هي ثمرة ما يزيد على خمسين عامًا من التجربة الشعرية.

ومن أطرف دواوين العقاد ديوانه "عابر سبيل" أراد به أن يبتدع طريقة في الشعر العربي، ولا يجعل الشعر مقصورًا على غرض دون غرض، فأمور الحياة كلها تصلح موضوعًا للشعر؛ ولذا جعل هذا الديوان بموضوعات مستمدة من الحياة، ومن الموضوعات التي ضمها الديوان قصيدة عن "عسكري المرور" جاء فيها:

متحكم في الراكبـــين

وما لــــه أبدًا ركوبة

لهم المثوبة من بنــانك

حين تأمر والعقـــوبة

مُر ما بدا لك في الطـريق

ورض على مهل شعوبه

أنا ثائر أبدًا وما فـــي

ثورتي أبدًا صعـــوبة

أنا راكب رجلي فـــلا

أمْرٌ عليَّ ولا ضريبة

تقدير العقاد

لقي العقاد تقديرا وحفاوة في حياته من مصر والعالم العربي، فاخْتير عضوًا في مجمع اللغة العربية بمصر سنة (1359هـ= 1940م) فهو من الرعيل الأول من أبناء المجمع، واخْتير عضوًا مراسلا في مجمع اللغة العربية بدمشق، ونظيره في العراق، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة (1379هـ= 1959م).

وتُرجمت بعض كتبه إلى اللغات الأخرى، فتُرجم كتابه المعروف "الله" إلى الفارسية، ونُقلت عبقرية محمد وعبقرية الإمام علي، وأبو الشهداء إلى الفارسية، والأردية، والملاوية، كما تُرجمت بعض كتبه إلى الألمانية والفرنسية والروسية.

وكان أدب العقاد وفكره ميدانًا لأطروحات جامعية تناولته شاعرًا وناقدًا ومؤرخًا وكاتبًا، وأطلقت كلية اللغة العربية بالأزهر اسمه على إحدى قاعات محاضراتها، وبايعه طه حسين بإمارة الشعر بعد موت شوقي، وحافظ إبراهيم، قائلا: "ضعوا لواء الشعر في يد العقاد، وقولوا للأدباء والشعراء أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء، فقد رفعه لكم صاحبه".

وقد أصدرت دار الكتب نشرة بيلوجرافية وافية عن مؤلفات العقاد، وأصدر الدكتور حمدي السكوت أستاذ الأدب العربي بالجامعة الأمريكية كتابًا شاملا عن العقاد، اشتمل على بيلوجرافية لكل إنتاج العقاد الأدبي والفكري، ولا تخلو دراسة عن الأدب العربي الحديث عن تناول كتاباته الشعرية والنثرية.

واشْتُهر العقاد بصالونه الأدبي الذي كان يعقد في صباح كل جمعة، يؤمه تلامذته ومحبوه، يلتقون حول أساتذتهم، ويعرضون لمسائل من العلم والأدب والتاريخ دون الإعداد لها أو ترتيب، وإنما كانت تُطْرح بينهم ويُدلي كل منهم بدلوه، وعن هذه الجلسات الشهيرة أخرج الأستاذ أنيس منصور كتابه البديع " في صالون العقاد".

وفاة العقاد

ظل العقاد عظيم الإنتاج، لا يمر عام دون أن يسهم فيه بكتاب أو عدة كتب، حتى تجاوزت كتُبُه مائةَ كتاب، بالإضافة إلى مقالاته العديدة التي تبلغ الآلاف في بطون الصحف والدوريات، ووقف حياته كلها على خدمة الفكر الأدبي حتى لقي الله في (26 من شوال 1383هـ= 12 من مارس 1964م).



منقول

عبدالغفور الخطيب
30-11-2005, 02:18 AM
محمد عزة دروزة.. الكاتب المناضل

(في ذكرى وفاته: 28 من شوال 1404هـ)



ينظر الناس بإعجاب إلى تراث الأجداد، ويتعجبون من قدرة بعضهم على التأليف بغزارة وعمق في جوانب مختلفة من العلم، ويرددون أسماء لامعة في تاريخ فكرنا اتسمت بالتوسع والتنوع في التأليف مثل ابن سينا والذهبي وابن حجر العسقلاني وابن تيمية والسيوطي، ويتحسرون على انقطاع هذه السلسلة من الأعلام الأفذاذ، وعلى ضياع الهمة وضعف الإرادة وانشغال أهل العلم بما لا يفيد، ولو أنهم أمعنوا النظر لتبين لهم أنهم لن ينصفوا وأن هواهم للقديم وميلهم له حجب عنهم رؤية نجوم لامعة ملأت حياتنا المعاصرة فكرا وأدبا وعلما، وكتبت آلاف الصفحات في موضوعات مختلفة اتسمت بالموضوعية وسعة العلم وعمق التناول مع جمال في البيان والأسلوب، وليس ثمة شك في أن محمد عزة (وتنطق عِزّت) دروزة كان واحدا من هؤلاء الأفذاذ، ارتاد مجالات كثيرة؛ فكان أديبا وصحفيا ومترجما ومؤرخا ومفسرا للقرآن.

المولد والنشأة

في مدينة نابلس بفلسطين كان مولد محمد عزة دروزة في (11 من شوال 1305هـ = 21 من يونيو 1887م) ونشأ في أسرة كريمة من قبيلة "الفريحات" التي كانت تسكن الأردن وانحدرت إلى فلسطين واستوطنت نابلس، وكان والده يعمل في تجارة الأقمشة في نابلس، وتلقى دروزة تعليمه في المدارس الابتدائية، وحصل على الشهادة الابتدائية في سنة 1318هـ = 1900م ثم التحق بالمدرسة الرشيدية في نابلس، وهي مدرسة ثانوية متوسطة، وتخرج فيها بعد ثلاث سنوات، حاصلا على شهادتها.

في ميدان العمل
ولم تمكنه ظروف أسرته المادية من استكمال دراسته، فاكتفى بهذا القدر من الدراسة النظامية، والتحق بالعمل الحكومي موظفًا في دائرة البرق والبريد بنابلس (1324هـ = 1906م)، ثم انتقل إلى بيروت للعمل في مديرية البرق والبريد سنة (1333هـ = 1914م) ثم أصبح مديرًا لها، ثم رُقِّي مفتشًا لمراكز البرق والبريد المدنية في صحراء سيناء وبئر سبع، وظل يترقى في وظائفه حتى أصبح في سنة (1341هـ = 1921م) سكرتيرا لديوان رئيس الأمير عبد الله أمير شرقي الأردن، لكنه تركه بعد شهر، واتجه إلى ميدان التعليم.

وقد حفزه عدم إتمام الدراسة على إكمال ثقافته، وتغطية جوانب النقص بها بالقراءة والاطلاع الدؤوب، قرأ ما وقع تحت يديه من كتب مختلفة في مجالات الأدب والتاريخ والاجتماع والحقوق سواء ما كان فيها باللغة العربية أو بالتركية التي كان يجيدها، ويسرت له وظيفته في مصلحة البريد أن يطلع على الدوريات المصرية المتداولة في ذلك الوقت كالأهرام والهلال والمؤيد والمقطم والمقتطف، وكان البريد يقوم بتوزيع هذه الصحف على المشتركين بها، وهذه الدوريات كانت تحمل زادا ثقافيا متنوعا، ففتحت آفاق الفكر أمام عقل الشاب النابه، ووسعت مداركه، وصقلت مواهبه، وأوقفته على ما يجري في أنحاء الدولة العثمانية من أحداث.

وفي أثناء هذه الفترة التي عملها بدائرة البرق والبريد اتصل بالصحافة، وبدأت محاولاته الأولى في الكتابة، فشارك في تحرير جريدة "الإخاء العثماني" التي كان يصدرها في بيروت أحمد شاكر الطيبي، وكان يترجم لها فصولا مما ينشر في الصحف التركية عن أخبار الدولة العثمانية وأحوال الحركة العربية، وكان يخص جريدة "الحقيقة" البيروتية، التي كان يصدرها كمال بن الشيخ عباس بمقال أسبوعي يتناول موضوعا اجتماعيا أو وطنيا، وشارك أيضا بالكتابة في جريدة فلسطين التي كان يصدرها عيسى العيسى في يافا، وجريدة الكرمل التي كان يصدرها نجيب نصار في حيفا.

في ميدان التربية والتعليم

انتقل دروزة مع فرض الانتداب البريطاني في فلسطين سنة 1342هـ = 1922م إلى ميدان التربية والتعليم، فتولى إدارة مدرسة النجاح الوطنية في نابلس، وتحولت المدرسة على يديه إلى مركز من مراكز الوطنية إلى جانب رسالتها التعليمية والتربوية، فكانت تلقن طلابها حب العرب والعروبة، وتشعل في قلوبهم جذوة الوطنية، وتضع البرامج التي تغذي فيها الاعتزاز بالأمجاد العربية والإسلامية.

وكانت لدروزة خلال إدارته المدرسة محاضرة أسبوعية في الأخلاق، والاجتماع يلقيها على طلاب الصفوف الثانوية، وظل ملتزما بهذا العمل خمس سنوات متصلة، ولم تشغله أعباء المدرسة عن كتابة المقالات الاجتماعية والتربوية، التي كان يمد بها مجلات "الكشاف" في بيروت، و"المرأة الجديدة" في القاهرة، ونشر مقالات سياسية في جريدتي "الجامعة العربية" و"القدس" في فلسطين.

وأدت جهوده في السنوات الخمس التي تولى فيها إدارة المدرسة إلى تحسين نظمها وارتقاء مناهجها حتى أصبحت ذات مكانة كبيرة وتجلى أثره في توجيهها الوطني حيث تخرج في عهد رئاسته، وتتلمذ على يديه كثير من شباب فلسطين الذين كان لهم دور بارز في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية.

الحفاظ على الأوقاف الفلسطينية

انتقل دروزة في سنة 1347هـ = 1928م إلى العمل في إدارة الأوقاف الإسلامية؛ حيث عُين مأمورا للأوقاف في نابلس، ثم رُقِّي في سنة 1351هـ = 1932م مديرا عاما للأوقاف الإسلامية في فلسطين، وظل يشغل هذا المنصب حتى اندلاع الرحلة الثانية من الثورة الفلسطينية التي كانت قد شبت في سنة 1355هـ = 1936م، ولما كان دروزة من القائمين عليها أصدرت إدارة الانتداب البريطاني قرارًا بعزله عن منصبه في سنة 1356هـ = 1937م وقرارا آخر بمنعه من العودة إلى فلسطين حيث كان خارجها عند استئناف الثورة، ومنذ ذلك التاريخ ابتعد دروزة عن تولي الوظائف الحكومية والأهلية.

مشاركته في الحركة القومية


بدأ نشاط محمد عزة دروزة في ميدان الحركة الوطنية مبكرًا في سنة 1327هـ= 1909م، وشارك في إنشاء الجمعيات الوطنية والأحزاب السياسية، وشارك بتأليف الروايات القومية والمسرحيات التي تمجد العروبة، وتعبّر عن المطامح القومية والرغبة في النهوض، وتبوأ المكانة اللائقة، مثل رواية "وفود النعمان على كسرى أنوشروان" سنة 1333هـ = 1911م، و"السمسار وصاحب الأرض" سنة 1333هـ = 1913م.

وأتاح له عمله المتجول الاتصال بكثير من الشخصيات الوطنية والقومية البارزة وتشكيل الجمعيات الوطنية، التي أصبحت قاعدة الحركة الوطنية في فلسطين مثل "الجمعية الإسلامية المسيحية" وتولى سكرتيريتها، حتى يشعر العالم بأن المعارضة للمطامع الصهيونية من المسلمين والمسيحيين على السواء، وأن دروزة من الداعين إلى توحيد الجمعيات الوطنية التي تعمل في أنحاء فلسطين والتنسيق بين جهودها؛ فعقد المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس في ربيع الأول 1337 = يناير 1919م برئاسة عارف الدحاني، وكان أهم ما صدر عن المؤتمر التأكيد على المطالب القومية في الاستقلال والوحدة واعتبار فلسطين جزءا من سوريا، وفض المطامع الفرنسية وتجديد العلاقات مع بريطانيا على أساس التعاون فقط وعدم قبول أي وعد أو معاهدة جرت بحق البلاد ومستقبلها، وتولى دروزة مع زميل له إعداد مذكرة بخصوص هذا الشأن وتقديمها إلى الحاكم العسكري للبلاد لإرسالها إلى الحكومة في بريطانيا، وإلى مؤتمر السلم المنعقد في باريس، وانغمس دروزة في النشاط الوطني الفلسطيني منذ أن استقر في نابلس، فشارك بجهود مشكورة في انعقاد المؤتمرات السياسية التي كانت تخطط للحركة الوطنية وتتابع نشاطها، وكان على رأس المقاومين للسياسة البريطانية ومشروعاتها المختلفة، فقام مع رفاقه بحركة مقاطعة الدستور وانتخاب مجلس تشريعي مغلول اليد؛ الأمر الذي ترتب عليه وأد الفكرة وقتلها في مهدها، وقاد مظاهرات مختلفة ضد السياسة البريطانية، وأدى هذا إلى اعتقاله، وتقديمه للمحاكمة، والحكم عليه بالسجن، مثلما حدث له في سنة 1353هـ = 1934م، وكان دروزة أحد قادة ثورة فلسطين في سنة 1355هـ= 1936م حيث دعت إلى الإضراب العام، وتحول الإضراب إلى ثورة شعبية كاسحة.

ومال دروزة إلى اتخاذ إجراءات متصاعدة ضد السلطة البريطانية ما لم تستجب لمطالب البلاد، ولم تجد بريطانيا لمواجهة هذه الثورة بُدًّا من اعتقاله هو وزملائه، ولما تجددت الثورة سنة 1356هـ= 1937م كان المسئول عن التخطيط السياسي للثورة الفلسطينية، وكانت تتلقى أوامرها من دمشق حيث كان يقيم دروزة، وغيره من القيادات الفلسطينية اللاجئين بها، وظل هناك قائما على أمر الثورة الفلسطينية حتى اعتقله الفرنسيون بتحريض من الإنجليز في 1358 هـ = 1939م، وحوكم أمام محكمة عسكرية فأصدرت عليه حكما بالسجن، ثم أُفرج عنه سنة 1360هـ= 1941م فذهب إلى تركيا لاجئا، وقضى هناك أربع سنوات عاد بعدها إلى فلسطين، واستمر دروزة يقوم بدوره السياسي في خدمة القضية الفلسطينية حتى اشتد عليه المرض في سنة 1367هـ=1948م، فاستقال من عضوية الهيئة العربية العليا لفلسطين وتفرغ للكتابة والتأليف، وقد سجل مذكراته في ستة مجلدات ضخمة، حوت مسيرة الحركة العربية والقضية الفلسطينية خلال قرن من الزمان.

إنتاجه الفكري

لم يحل انشغال دروزة بالحركة الوطنية الفلسطينية والمشاركة في قيادتها عن الكتابة والتأليف، فبدأ يؤلف خدمة للحركة الوطنية والنهوض بطلاب العلم في المدارس، فكتب رواياته الوطنية التي تشعل الحماس في النفوس الناشئة، وألف مختصرا في تاريخ العرب، بعنوان "دروس التاريخ العربي من أقدم الأزمنة حتى الآن"، وهو كتاب مدرسي للصفوف الابتدائية، وظل معتمدا في جميع المدارس العربية والوطنية الخاصة في فلسطين، ثم اتجه إلى التأليف العام، وهو يدور في ثلاث دوائر يكمل بعضها بعضا ويكمل كل منها رسالة الآخر.

أما الدائرة الأولى فهي الدائرة الفلسطينية، وقد أسهم فيها بعدد من المؤلفات يأتي على قمتها مذكراته الضخمة التي تُعد أضخم عمل في هذا الباب من كتابه "المذكرات الشخصية"، كشفت جوانب غامضة، وأعانت على تفسير بعض القضايا المبهمة في مسيرة العمل الوطني الفلسطيني، وإلى جانب هذا العمل الكبير ألَّف كتبا كثيرة تخدم القضية الفلسطينية، مثل: "القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها" و"مأساة فلسطين"، "فلسطين" و"جهاد الفلسطينيين عبرة من تاريخ فلسطين"، "قضية الغزو الصهيوني"، "في سبيل فلسطين"، "فلسطين والوحدة العربية" و"من وحي النكبة صفحات مغلوطة" و"مهملة من تاريخ القضية الفلسطينية".

أما الدائرة الثانية فهي الدائرة العربية، وأسهم فيه مؤلفات متعددة منها:

ـ تاريخ الجنس العربي في مختلف الأطوار والأدوار والأقطار من أقدم الأزمنة، وصدر في ثمانية أجزاء نحو ثلاثة آلاف صفحة.

ـ العرب والعروبة في حقبة التغلب التركي، وصدر في تسعة أجزاء.

ـ الوحدة العربية، في مجلد كبير، وقد نال عنه جائزة من المجلس الأعلى والفنون والآداب بمصر في سنة 1951م.

ـ حول الحركة العربية الحديثة، في ستة أجزاء.

ـ نشأة الحركة العربية الحديثة، في مجلد واحد، تناول فيه أحوال العرب وتاريخ الدولة العثمانية، والجمعيات العربية التي كانت تطالب بالانفصال عن الدولة العثمانية.

أما الدائرة الثالثة: فهي الدائرة الإسلامية، وشارك فيها بمؤلفات متعددة، يتصدرها عمله الكبير "الدستور القرآني والسنة النبوية في شئون الحياة"، وطُبع في مجلدين كبيرين، أوضح فيه ما احتواه القرآن والسنة النبوية من نظم لمختلف شئون الحياة، ويمثل هذا المؤلف تحولا كبيرا في حياة مؤلفه بعد أن استوفى دراسات التاريخ القومي وقضايا المجتمع العربي، حيث اتسعت نظرته أنه لا نجاح للأمة العربية في تحقيق أهدافها دون التماس منهج القرآن والالتزام به.

وله أيضا "التفسير الحديث"، التزم فيه تفسير القرآن الكريم حسب ترتيب نزول السور، وبدأ في تأليفه عندما كان لاجئا في تركيا، وصدر في 12 جزءا، وشارك في كتابة السيرة النبوية بكتابه المعروف "سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم صورة مقتبسة من القرآن"، وصدر في مجلدين.

وإلى جانب هذه الكتب الثلاثة الكبيرة له مؤلفات إسلامية متنوعة تواجه الاستشراق والتبشير مثل: "القرآن والمرأة"، "القرآن والضمان الاجتماعي"، "القرآن والمبشرون اليهود في القرآن الكريم".

وفاته

وبعد هذه الحياة العريضة التي حياها "محمد عزة دروزة" مناضلا وكاتبا، وافته المنية في دمشق بحي الروضة في يوم الخميس الموافق (28 من شوال 1404هـ = 26 من يوليو 1984م).


منقول

عبدالغفور الخطيب
02-12-2005, 02:22 AM
30 من شوال لسنة 341 هـ 952 م
تولي المعز لدين الله الخلافة الفاطمية في مصر



تطلع الفاطميون منذ أن قامت دولتهم في المغرب إلى فتح مصر فتكررت محاولتهم لتحقيق هذا الحلم غير أنها لم تكلل بالنجاح، وقد بدأت هذه المحاولات منذ عام 301هـ= 913م أي بعد قيام الدولة بأربع سنوات، الأمر الذي يؤكد عزم الخلفاء الفاطميين على بسط نفوذهم على مصر، وكان فشل كل محاولة يقومون بها تزيدهم إصرارا على تكرارها ومعاودتها مرة بعد مرة، ونبهت هذه المحاولات الخلافة العباسية إلى ضرورة درء هذا الخطر، فدعمت وجودها العسكري في مصر، وأسندت ولايتها إلى محمد بن طغج الإخشيد، فأوقفت تلك المحاولات إلى حين.

ولاية المعز لدين الله

ولى المعز لدين الله الخلافة الفاطمية في سنة 341هـ= 952م خلفا لأبيه المنصور أبي طاهر إسماعيل، الخليفة الثالث في قائمة الخلفاء الفاطميين، وكان المعز رجلا مثقفا يجيد عدة لغات مولعا بالعلوم والآداب متمرسا بإدارة شئون الدولة وتصريف أمورها كيسا فطنا يحظى باحترام رجال الدولة وتقديرهم.

وانتهج المعز سياسة رشيدة، فأصلح ما أفسدته ثورات الخارجين على الدولة، ونجح في بناء جيش قوي، واصطناع القادة والفاتحين وتوحيد بلاد المغرب تحت رايته وسلطانه ومد نفوذه إلى جنوب إيطاليا.

ولم تغفل عينا المعز لدين الله عن مصر، فكان يتابع أخبارها، وينتظر الفرصة السانحة لكي يبسط نفوذه عليها، متذرعا بالصبر وحسن الإعداد، حتى يتهيأ له النجاح والظفر.

حالة مصر الداخلية قبل الفتح

كانت مصر خلال هذه الفترة تمر بمرحلة عصيبة، فالأزمة الاقتصادية تعصف بها والخلافة العباسية التي تتبعها مصر عاجزة عن فرض حمايتها لها بعد أن أصبحت أسيرة لنفوذ البويهيين الشيعة، ودعاة الفاطميين يبثون دعوتهم في مصر يبشرون أتباعهم بقدوم سادتهم، وجاءت وفاة كافور الأخشيد سنة (357هـ=968م) لتزيل آخر عقبة في طريق الفاطميين إلى غايتهم، وكان كافور بيده مقاليد أمور مصر، ويقف حجر عثرة أمام طموح الفاطميين للاستيلاء عليها.

وحين تولى زمام الأمور أبو الفضل جعفر بن الفرات ولم تسلس له قيادة مصر، وعجز عن مكافحة الغلاء الذي سببه نقص ماء النيل، واضطربت الأحوال، وضاق الناس بالحكم، كتب بعضهم إلى المعز يزينون له فتح مصر ولم يكن هو في حاجة إلى من يزين له الأمر؛ إذ كان يراقب الأوضاع عن كثب، ويمني نفسه باللحظة التي يدخل فيها مصر فاتحا، فيحقق لنفسه ما عجز أجداده عن تحقيقه.

مقدمات الفتح

كان أمل الفاطميين التوسع شرقا ومجابهة الخلافة العباسية للقضاء عليها، وإذا كانت دعوتهم قد أقاموها في أطراف العالم الإسلامي حتى تكون بعيدة عن العباسيين، فإن ذلك لم يعد مقبولا عندهم بعد أن قويت شوكتهم واتسع نفوذهم، وأصبحت الفرصة مواتية لتحقيق الحلم المنشود، والتواجد في قلب العالم الإسلامي.

وقد بدأ الفاطميون منذ سنة (355هـ= 996) استعدادهم للانتقال إلى مصر، واتخاذ الإجراءات التي تعينهم على ذلك، فأمر المعز بحفر الآبار في طريق مصر، وبناء الاستراحات على طوال الطريق، وعهد إلى ابنه "تميم" بالإشراف على هذه الأعمال.

فتح مصر

حشد المعز لدين الله لفتح مصر جيشا هائلا بلغ 100 ألف جندي أغلبهم من القبائل البربرية وجعل قيادته لواحد من أكفأ القادة هو جوهر الصقلي الذي نجح من قبل في بسط نفوذ الفاطميين في الشمال الأفريقي كله وخرج المعز في وداعهم في 14 من ربيع الأول 358هـ = 4 من فبراير 969م ولم يجد الجيش مشقة في مهمته ودخل عاصمة البلاد في 17 من شعبان 358هـ= 6 يوليو 969م دون مقاومة تذكر، وبعد أن أعطى الأمان للمصريين.

ولاية جوهر

كان أول عمل قام به جوهر الصقلي هو بناء عاصمة جديدة للدولة الفتية، فوضع أساسا لها في يوم وصوله إلى الفسطاط، بناء على توجيهات من الخليفة المعز، وهي مدينة القاهرة في الشمال الشرقي للفسطاط، وجعل لكل قبيلة أو فرقة من فرق الجيش مكانا خاصا بها، وشرع في تأسيس الجامع الأزهر وأحاط العاصمة بسور من الطوب اللبن وجعل له أبوابا في جهاته المختلفة من أشهرها باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح.

وقد حكم جوهر الصقلي مصر أربع سنوات نيابة عن الخليفة المعز، وتعد هذه السنوات من أهم فترات التاريخ الفاطمي في مصر، حيث نجح جوهر بسياسته الهادئة وحسن إدارته من إحداث التغيرات المذهبية والإدارية التي تعبر عن انتقال مظاهر السيادة إلى الفاطميين فزاد في الأذان عبارة: "حي على خير العمل" وجهر بالبسملة في قراءة القرآن في الصلاة وزيادة القنوت في الركعة الثانية من صلاة الجمعة، وأن يقال في خطبة الجمعة: "اللهم صل الله عليه وسلم على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضى وفاطمة البتول وعلى الحسن والحسين سبطي رسول الرسول الذين أذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيرا"، وكان هذا إيذانا بترك المذهب السني في مصر.

وبدا جوهر في إجراء عدة إصلاحات لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي كانت تعاني منها البلاد وتطلع إلى تأمين حدود مصر الشمالية فنجح في ضم الشام، وكانت السيطرة عليه تمثل هدفا إستراتيجيا لكل نظام يتولى الحكم في مصر.

الخليفة الفاطمي في القاهرة

رأى جوهر الصقلي أن الوقت قد حان لحضور الخليفة المعز بنفسه إلى مصر، وأن الظروف مهيأة لاستقباله في القاهرة عاصمته الجديدة فكتب إليه يدعوه إلى الحضور وتسلم زمام الحكم فخرج المعز من المنصورية عاصمته في المغرب وكانت تتصل بالقيروان في 21 من شوال 361 هـ= 5 من أغسطس 972م وحمل معه كل ذخائره وأمواله حتى توابيت آبائه حملها معه وهو في طريقه إليها واستخلف على المغرب أسرة بربرية محلية هي أسرة بني زيري، وكان هذا يعني أن الفاطميين قد عزموا على الاستقرار في القاهرة، وأن فتحهم لها لم يكن لكسب أراضٍ جديدة لدولتهم، وغنما لتكون مستقرا لهم ومركزا يهددون به الخلافة العباسية.

وصل المعز إلى القاهرة في 7 من رمضان 362هـ= 11 من يونيو 972م، وأقام في القصر الذي بناه جوهر، وفي اليوم الثاني خرج لاستقبال مهنئيه وأصبحت القاهرة منذ ذلك الحين مقرا للخلافة الفاطمية، وانقطعت تبعيتها للخلافة العباسية السنية.

قضى المعز لدين الله القسم الأكبر من خلافته في المغرب، ولم يبق في مصر إلا نحو 3 سنوات، ولكنها كانت ذات تأثير في حياة دولته، فقد نجح في نقل مركز دولته إلى القاهرة، وأقام حكومة قوية أحدثت انقلابا في المظاهر الدينية والثقافية والاجتماعية في مصر، ولا تزال بعض آثاره تطل علينا حتى الآن، وجعل من مصر قلبا للعالم الإسلامي ومركزا لنشر دعوته الإسماعيلية والتطلع إلى التوسع وبسط النفوذ.

وقد قامت القاهرة بعد ذلك بدورها القيادي حتى بعد سقوط الدولة الفاطمية في الوقوف أمام المد الصليبي وهجمات المغول، وهو ما يثبت أن العالم الإسلامي كان بحاجة إلى مركز متوسط للقيام بمثل هذه الأدوار، وهذا ما تنبه إليه الفاطميون وأثبتته أحداث التاريخ من قديم الزمان؛ حيث كانت الإسكندرية تشغله في العصر الروماني البيزنطي.

ولم تطل الحياة بالمعز في القاهرة ليشهد ثمار ما أنجزته يداه، لكن حسبه أنه نجح في الانتقال بدولته من المغرب التي كانت تنهكها ثورات البربر المتتالية، ولم تدع له فرصة لالتقاط أنفاسها حتى تكون مستقرا جديدا للتوسع والاستمرار، وأنه أول خليفة فاطمي يحكم دولته من القاهرة، عاصمته الجديدة.

وتوفي الخليفة المعز لدين الله في القاهرة في 16 من ربيع الآخر 365 هـ= 23 من ديسمبر 975م.


منقول

عبدالغفور الخطيب
04-12-2005, 02:10 AM
يوليو 1952.. مسيرة ثورة

(في ذكرى قيامها: 2 من ذي القعدة 1371هـ)



شهدت الحياة السياسية في مصر عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية العديد من الأزمات السياسة في مختلف وجوه النشاط السياسي والاجتماعي، وتمثلت في: قضية الاستقلال الوطني، والنهوض الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، وأزمة فلسطين، وأزمة الديمقراطية، ولم يكن هناك من سبيل للخروج من هذه الأزمات المترابطة إلا بعملية تغيير سياسي تحرك المياه الراكدة.

وكانت قضية الاستقلال أولى القضايا التي شغلت الحياة السياسية في مصر في تلك الفترة، وكان الوفد هو رائد الحركة الوطنية والمطالب بالاستقلال بأسلوبه التقليدي وهو المفاوضة، ففي الفترة بين الحربين العالميتين جرت ست مفاوضات ومباحثات مع الإنجليز للحصول على الاستقلال فشلت جميعا عدا معاهدة (1355هـ= 1936م) التي وقّع عليها الوفد، وقبل فيها ببقاء القاعدة العسكرية البريطانية في مصر، فانحسر جزء من التأييد الشعبي له.

وخلال الحرب العالمية الثانية زاد تسلط الإنجليز على البلاد سياسيا واقتصاديا طبقا لما أملته المعاهدة السابقة من ضرورات الحرب، فلما انتهت الحرب تصاعدت مطالب الجلاء وإعادة النظر في المعاهدة، وفشلت حكومة السعديين وحكومة إسماعيل صدقي في تغييرها؛ فلجأت مصر إلى مجلس الأمن الدولي ليتخذ قرارا بجلاء القوات البريطانية عنها وعن السودان فلم يؤيدها إلا ثلاثة أعضاء؛ فلجأت حكومة الوفد إلى إلغائها في (المحرم 1371هـ= أكتوبر 1951م)، وبذلك وصلت حكومة الوفد إلى أقصى ما تستطيع في المطالبة بالجلاء.

أما الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية فشهدت فترة ما قبل ثورة يوليو أزمات اقتصادية أدت إلى اضطرابات اجتماعية وعمالية، فزاد حجم الإضرابات الاقتصادية والنقابية. وفي الريف كان المشهد غريبا؛ إذ يملك 0.5% من الملاك أكثر من ثلث الأراضي الزراعية، وفي مواجهتهم أحد عشر مليونا من الفلاحين المعدمين.

وأدت الأزمات الاقتصادية إلى حدوث هزات اجتماعية فأضرب عمال الحكومة عن العمل، وأضرب المدرسون، وأضرب رجال الشرطة، وظهرت بعض القلاقل في الريف. وكانت الأزمات تحيط بالحكومات المتعاقبة ولا تجد لها مخرجا، وهو ما يدل على عدم قدرة أطر النظام السياسي على استيعاب ما يواجهه من أزمات.

وجاءت قضية فلسطين لتزيد حالة الاحتقان التي يعاني منها المجتمع والحركة السياسية في مصر؛ حيث انتهت حرب فلسطين بهزيمة عانى منها الجيش والسياسة المصرية عامة، وترتب على ذلك لجوء بعض الفصائل في الحركة السياسية في مصر إلى استخدام العنف ضد خصومها، والعمل العسكري ضد المحتل الإنجليزي، وترتب على تلك الهزيمة أيضا بروز الجيش المصري كمؤسسة مرشحة للقيام بدور هام في الحياة السياسة المصرية، فظهرت قضية الجيش وتسليحه كقضية سياسية وليست كقضية عسكرية، وزاد تدهور الأوضاع في مصر مع حريق القاهرة في (جمادى الأولى 1371هـ= يناير 1952م)، وعجز النظام السياسي القائم عن ضبط الأمور وممارسة الحكم. وعرفت الشهور الستة التالية للحريق أربع وزارات لم تكمل آخرها اليومين حتى جاء انقلاب الجيش.

الضباط الأحرار

غابت المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية في مصر فترة جاوزت الخمسين عاما منذ الاحتلال البريطاني لمصر، حيث تم تصفية الجيش من الضباط العرابيين، ثم غُيّب الجيش في السودان، غير أن حركة الضباط بدأت تنشأ في أواخر الثلاثينيات من مجموعات من الضباط بأهداف عامة شائعة تمثل استجابة لروح العداء للاستعمار البريطاني فبدأت بلقاءات شباب الضباط في معسكرهم في "منقباد" بصعيد مصر عام (1357هـ= 1938م)، ومنهم جمال عبد الناصر وعبد اللطيف البغدادي وغيرهما.



ثم ما لبث هؤلاء الضباط أن شكلوا حركتهم التنظيمية السياسية وآثروا الابتعاد عن الارتباط بالحركات الحزبية في المجتمع، وإن انتمى بعض ضباط حركة الضباط الأحرار إلى تيارات سياسية وفكرية معينة، وتشكلت اللجنة لهم عام (1369هـ= 1949م)، وعقدت أول اجتماعاتها واتفقت على تكوين خلايا سرية في الجيش إعدادا للانقلاب العسكري بعد ست سنوات.

إلا أن الضباط عجلوا القيام بانقلابهم بسبب معرفة الملك وأعوانه بحركتهم بعدما دخلوا في مواجهة علنية مع الملك فاروق في انتخابات نادي الضباط أسفرت عن فوز مرشحهم اللواء محمد نجيب على مرشح الملك في رئاسة النادي؛ فتقرر تعجيل موعد قيام الجيش بحركته، خاصة بعد تمكن الجهات الأمنية من كشف أسماء بعض الضباط الأحرار وغالبيتهم في اللجنة التأسيسية.

واختيرت ليلة 22 يوليو لها حتى تفاجأ الحكومة الجديدة التي يرأسها أحمد نجيب الهلالي، قبل أن يتمكن وزير الحربية الجديد من إصدار التعليمات والأوامر بالتصدي لها، ثم أجّل جمال عبد الناصر الموعد ليلة واحدة ليتمكن من استطلاع رأي قيادة الإخوان المسلمين في الموافقة على قيام حركة الجيش.

كان عدد الضباط الأحرار الذين أسهموا فعلا في القيام بحركة 23 يوليو حوالي تسعين ضابطا، كان ثلثهم من الضباط صغيري الرتب من رتبتي النقيب والملازم، أما الثلث الباقي من الضباط فأعلاهم رتبة هو المقدم (البكباشي). ولم يكن للتنظيم أحد في السلاح البحري قط، وكان لديه أعداد يطمئن إليها في سلاحي الفرسان والمدفعية والطيران.

وزارة الهلالي

كان نجاح اللواء محمد نجيب في انتخابات نادي الضباط على غير رغبة القصر ذا تأثير كبير في الحياة السياسية؛ إذ عمل القصر على حل مجلس إدارة نادي الضباط، فاستقال اللواء نجيب، وتدخل رئيس الوزراء حسين سري لإنقاذ الموقف بأن يعين نجيب وزيرا للحربية، فلم يتمكن من ذلك فقدم استقالته؛ فاختار الملك محمد نجيب الهلالي لتشكيل الوزارة الجديدة في (28 شوال 1371هـ= 22 يوليو 1952م)، واختير إسماعيل شريف الموالي للقصر وزيرا للحربية، غير أن هذه الوزارة لم تكمل يومين حتى قامت الثورة، وتحرك الجيش بقيادة اللواء محمد نجيب، وسيطروا على بعض الأماكن العسكرية وقيادة الجيش، وأعلن المقدم أنور السادات البيان الأول للثورة يوم (2 ذي القعدة= 23 يوليو).

واستطاع تنظيم الضباط الأحرار تقويض النظام القائم في ساعات معدودة، واعتلت حركة الجيش قيادة السلطة في البلاد، وقدم اللواء نجيب إلى رئيس الوزراء محمد نجيب الهلالي طلبات الجيش، وهي: تكليف السياسي المخضرم علي ماهر بتشكيل وزارة جديدة، وتعيين اللواء محمد نجيب قائدا عاما للجيش، وطرد ستة من حاشية الملك؛ فرفع رئيس الوزراء هذه الطلبات إلى الملك، فوافق عليها، ثم خُلع الملك فاروق بعد أربعة أيام من قيام الثورة، وغادر الملك وأسرته مصر واتجه إلى إيطاليا، وأُعلن أحمد فؤاد الثاني ملكا على مصر، تحت إشراف مجلس الوصاية.

ولعل نجاح حركة الضباط الأحرار في القيام بانقلابها الناجح، واستطاعتها السيطرة على الحكم وخلع الملك، رغم انكشاف بعض أفرادها قبل القيام بالحركة، وصغر عدد ورتب الضباط القائمين بها، واقتصارهم على بعض الأسلحة دون غيرها -يعود إلى استفادتها من بعض الإمكانات المؤسسية المتاحة لها كتنظيم عسكري؛ حيث قصرت الحركة أهدافها في تحقيق الانقلاب على احتلال أهداف عسكرية محددة هي مبنى قيادة الجيش ومعسكرات العباسية وألماظة، فضلاً عن هدف مدني واحد هو مبنى الإذاعة.

كما أن استقلال الضباط عن الحركة الحزبية مكنهم من التحرك باسم المؤسسة العسكرية، فاستقطبت بذلك ليلة الثورة قسما من الضباط غير المنضمين إليها، مثل: العقيد أحمد شوقي الذي انضم قبل قيام الثورة بست ساعات؛ ثقة منه في اسم محمد نجيب.

كذلك أفاد في فاعلية التحرك استغلال الضباط وضعهم الوظيفي بالجيش، فجرى التحرك في شكل تعليمات تنفيذية، دون إدراك المأمورين بالهدف وراء ذلك، فمثلا يوسف صديق أحد الضباط المشاركين في الثورة أظهر لجنوده أنهم يقومون بعمل خطير لصالح الوطن، ولم يدرك هؤلاء أنهم يقومون بانقلاب عسكري، يستهدف السلطة وخلع الملك، ولعل بعضهم ظن أنه يتحرك تنفيذا لأوامر الدولة وليس العكس. يضاف إلى ذلك أن مخططي حركة يوليو حرصوا أن يجذبوا بعض أصحاب الرتب المعتبرة نسبيا لملء الفراغ في القيادة، فجاء اختيار اللواء محمد نجيب ليرأس الحركة؛ لما يتمتع به من رتبة عالية وسمعة طيبة في الجيش، كما أنه شخصية معروفة للمدنيين.

قوانين الثورة الجديدة

اتخذت الثورة عددا من الإجراءات المحققة لأهدافها السياسية والاجتماعية التي تبنتها، وفي دعم سلطتها الجديدة وتثبيت أركانها، فأصدرت بعد أيام من قيامها أمرا بإلغاء الألقاب، ثم أصدرت قانون تطهير الإدارة الحكومية.

وقد قام اللواء نجيب بتشكيل وزارة جديدة (18 من ذي الحجة= 7 من سبتمبر) أصدرت بعد يومين من تشكيلها قانون الإصلاح الزراعي الذي حدد الملكية الزراعية، وكان هذا القانون إجراء ثوريا ذا صلة مباشرة بجوهر المشكلة الاجتماعية القائمة وقتها، وأوجد شعبية كبيرة للثورة في الريف. أما القانون الآخر الذي أصدرته الوزارة فهو قانون حل الأحزاب.

كان دستور 1923 يشكل عائقا أمام عدد من القوانين التي تصدرها الثورة، حيث عُرضت هذه القوانين على المحاكم، ودُفع بعدم دستوريتها، كما أن القوانين كانت تصدر بأوامر ملكية من هيئة الوصاية دون عرضها على مجلس النواب لإقرارها؛ لأن المجلس حل قبل قيام الثورة، وهذا الأمر يشكل تهديدا على شرعية الثورة الوليدة؛ لذلك ألغت قيادة الثورة دستور 1923م ببيان أعلنه القائد العام للجيش في (23 من ربيع الأول 1372هـ= 10 من ديسمبر 1952م).

وكان أهم قرارات الثورة في (6 من شوال 1372هـ= 18 من يونيو 1953م) حيث أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا بإلغاء النظام الملكي، وإعلان النظام الجمهوري، واستقالت وزارة محمد نجيب، وشُكلت وزارة جديدة ضمت عددا كبيرا من العسكريين، وأصبح نجيب رئيسا للجمهورية، ورئيسا لمجلس قيادة الثورة، ورئيسا للوزراء، وكان أول قرار وقعه الرئيس نجيب مرسوم ترقية الرائد عبد الحكيم عامر إلى رتبة اللواء، وتعيينه قائدا عاما للجيش.

حركة المدفعية والفرسان

عندما قامت ثورة يوليو لم يكن لتنظيم الضباط الأحرار خريطة تنظيمية ترسم الأبنية ومستويات العمل والعضوية وتحدد الاختصاصات وطريقة اختيار القيادات، فلم يظهر من الناحية التنظيمية إلا الهيئة التأسيسية قبل ثورة يوليو، التي ما لبثت أن اتخذت اسم مجلس قيادة الثورة، وتُتخذ فيها القرارات بالأغلبية؛ لذلك وجد كثير من أعضاء التنظيم أنفسهم أمام أحد خيارين: إما أن يرتبطوا بواحد من قيادات الحركة وبخاصة جمال عبد الناصر؛ فيكتسبوا بهذه الصفة ووجودهم السياسي النشط، بينما وجد آخرون أنفسهم في وضع لا يسمح لهم بذلك وبالتالي لم يكونوا إلا مجرد ضباط جيش، لا إسهام لهم في رسم السياسات؛ لذلك بدأ يظهر تيار معارض لقيادة الثورة في سلاح المدفعية وسلاح الفرسان، ففي المدفعية استمرت اجتماعات الضباط الأحرار في السلاح بعد الثورة تناقش مواقف القيادة، واشتد نقد تصرفات عدد منها، وطبعوا منشورات تطالب بتكوين قيادة جديدة عن طريق الانتخاب الحر، فانتهى الأمر باعتقال هؤلاء الضباط في (جمادى الأولى 1372هـ = يناير 1953م).

وفي سلاح الفرسان والمشاة تحدث الضباط عن جمعية عمومية تُعرض عليها القرارات الكبيرة التي تتعلق بالبلاد حتى لا ينفرد عشرة أو أكثر بإصدار مثل هذه القرارات، وطالبوا بإجراء انتخابات لمجلس قيادة الثورة، واقترح بعضهم أن يشمل المجلس أعضاء دائمين وآخرين منتخبين، كما طالب البعض بأن يكون مجلس إدارة نادي الضباط الذي حله الملك هو الممثل المنتخب لحركة ضباط الجيش.

وتقدم هؤلاء بطلب إلى محمد نجيب لتنظيم هيئة الضباط الأحرار، وتكوين رئاسة لها بالانتخاب من مندوبي الأسلحة، وذلك في (ذي الحجة 1371هـ= أغسطس 1952م) فلم تستجب قيادة الثورة لذلك، وما لبثت أن أصدرت قرارا بإلغاء تنظيم الضباط الأحرار بحجة أنه استنفد أغراضه، فتمسك الضباط بتنظيمهم وكونوا لجانا منهم عن طريق الانتخاب. فلما علمت القيادة بذلك نقلت بعض موجهي الحركة خارج أسلحتهم، واعتقلت البعض، فتجمع حوالي أربعمائة ضابط في ميس المدفعية مقررين الاعتصام حتى يُفرج عن زملائهم فاعتُقل البعض وحققت معهم قيادة الثورة، وكانت تلك الكلمة الفصل في وجود تنظيم الضباط الأحرار. وشهد (شهر جمادى الأولى 1372هـ = يناير 1953م)، أي بعد ستة أشهر من قيام الثورة، حملة اعتقالات بين الساسة المدنيين، وقرارا بحل الأحزاب، واعتقال ومحاكمة بعض ضباط المدفعية، وحل تنظيم الضباط الأحرار.

أزمة مارس

لم تقض حملة اعتقالات الضباط المعارضين وحل تنظيم الضباط الأحرار على حركة المعارضة في الجيش، حيث تصاعدت المعارضة بداخله في سلاح الفرسان في (رجب 1373هـ= مارس 1954م)، متواكبة مع حركة الصراع الحزبي ضد قيادة الثورة، وصفّيت الحركتان في أوقات متقاربة.

فقد تشكل مجلس قيادة الثورة من أحد عشر عضوا رأسه محمد نجيب، وكانت القيادة الحقيقية فيه لجمال عبد الناصر رئيس اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار، وبدت في المجلس زعامتان، اكتسبت فيها زعامة محمد نجيب تأييد شعبيا كبيرا بسبب الإنجازات التي حققتها الثورة في بداية عهدها، أما زعامة عبد الناصر فقد استمرت علاقته الوثيقة بالضباط سواء في قيادة الثورة أو بين الضباط الأحرار.

وقد ازدادت السلطة الفردية لعبد الناصر مع تقدم انتصار مجلس قيادة الثورة على معارضيه من الأحزاب المختلفة، حيث وقف غالبية المجلس مع عبد الناصر في مواجهة الحركة الحزبية باستثناء يوسف صديق وخالد محيي الدين، وكان دور هذه الأغلبية يضعف بقدر ما كانوا يتغلبون على الحركة الحزبية.

وفي أزمة الصراع على السلطة بين نجيب وناصر، وجد نجيب نفسه رئيسا بلا صلاحيات بل ويتعرض إلى مضايقات تصل إلى حد الإهانة من بعض أعضاء المجلس، فقدم استقالته إلى مجلس قيادة الثورة في (19 من جمادى الآخرة 1373هـ= 22 من فبراير 1954م) فقبل المجلس استقالته، فقامت المظاهرات المؤيدة له التي قادها الإخوان المسلمون وكل القوى المناوئة للاستبداد والتسلط العسكري، وطالبوا بعودة الحكم المدني، كذلك تحرك سلاح الفرسان، وطالب بعودة نجيب.

وأمام هذا الإصرار الشعبي عاد نجيب إلى الحكم مرة ثانية، وأعلن إجراءات لوضع دستور وعودة الحياة المدنية، إلا أن عبد الناصر أدار معركة أخرى في الخفاء تخلص خلالها من مؤيدي نجيب في الجيش، ودبرت أعمال شغب وإضرابات في عدد من أحياء القاهرة، وقامت مظاهرات مدفوعة الأجر تندد بالحكم الديمقراطي وتدعو إلى سقوط نجيب، واقتحمت مجلس الدولة، واعتدت على رئيسه الفقيه الدستوري الكبير عبد الرزاق السنهوري بالضرب، وحلّت جماعة الإخوان المسلمين، وبذلك استطاع عبد الناصر أن يجرد محمد نجيب من مؤيديه قبل معركته معه التي انتهت في (11 من شعبان 1373هـ= 17 من أبريل 1954م) باستقالة نجيب، وتولي عبد الناصر مكانه.

السودان والجلاء

كان موضوع السودان هو نقطة الخلاف الدائمة بين المفاوضين المصريين والبريطانيين لمدة تزيد على الثلاثين عامًا، فمصر تعتبر السودان جزءا منها لا يمكن التنازل عنه، وبريطانيا تريد فصل الاثنين؛ لذلك رأى رجال الثورة حل مشكلة السودان حتى يتمكنوا من التفاوض مع الإنجليز للجلاء عن مصر، فوافق الزعماء السودانيون على هذا الأمر، ودمجت الأحزاب السودانية التي تنادي بالاتحاد مع مصر في الحزب الوطني الاتحادي.

وكان على السودانيين أن يقرروا مصيرهم، إما بالاتحاد مع مصر أو الاستقلال، إلا أن سياسة بعض رجال الثورة خاصة "صلاح سالم" المسئول عنه الملف السوداني أدت إلى سقوط وزارة إسماعيل الأزهري المؤيدة للاتحاد مع مصر، وتألفت وزارة جديدة كانت تطلب الاستقلال، وبذلك انفصل السودان عن مصر.

وقامت الثورة بالتفاوض مع الإنجليز للجلاء عن مصر حتى جلت نهائيا عن مصر في (10 من ذي الحجة 1375هـ= 18 من يوليو 1956م). وانتقد الكثيرون اتفاقية الجلاء؛ لأنها أبقت مصر مرتبطة بالإنجليز، وضمنت لهم العودة إلى قواعدهم العسكرية في حالة حدوث اعتداء على مصر أو تركيا، وكان أكثر المنتقدين لها الإخوان المسلمين، وهو ما أوجد فجوة عميقة بين الجانبين.

…إن ثورة يوليو وأحداثها غزيرة؛ لأنها ارتبطت بمرحلة من التطور في مصر والعالم العربي، تصاعدت فيها موجات التحرير من الاستعمار والرغبة في الاستقلال، وهو ما عملت الثورة على تدعيمه ومساندته؛ فأيدت حركات التحرر العربي وغيرها.

أما على صعيد الداخل فكان للثورة أنصارها وخصومها، ضحاياها والمنتفعون منها، وكل يتخذ موقفه من تجربته التاريخية وملاصقته للحدث، وما تعرض له بسبب مواقفه. وإن كانت الثورة نجحت في إقصاء الملك عن عرشه وإقامة الجمهورية وإجلاء الإنجليز، وتحقيق نوع ما من العدالة الاجتماعية استفادت منه بعض طبقات الشعب خاصة المعدمة والفقيرة، فإن الديمقراطية وحرية الإنسان وكرامته كانت أولى ضحاياها؛ حيث نحّت الثورة الحياة الليبرالية التي اتسمت بها الحياة السياسية قبل الثورة، والتي تعد من أزهى عصور الديمقراطية في مصر، وجاءت بالحكم الفردي العسكري؛ حيث ذابت المؤسسات والقوى السياسية في شخص الزعيم، فأصبح هو القائد والمؤسسة.


منقول

عبدالغفور الخطيب
07-12-2005, 03:23 AM
ميلاد وزارة المعارف في مصر

(في ذكرى إنشائها: 5 من ذي القعدة 1252هـ)



يرجع اهتمام الدولة الإسلامية بالتعليم إلى عهد قديم يعود إلى العهد النبوي، وقد أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) أسرى قريش في بدر -ممن لم يكن يقدر على دفع الفدية- بتعليم أولاد الأنصار القراءة والكتابة مقابل أن يفتدوا أنفسهم من الأسر؛ فكان هذا العمل أول خطوة في إنفاق الدولة على التعليم والإشراف عليه...

وظل التعليم ينمو ويزدهر وتتسع حلقاته في المساجد منذ ذلك الحين، وانتشر بانتشار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، لا يخلو مسجد من حلقة علم أو حلقات يدرس فيها علوم الدين والعربية، وبدأت المدارس المخصصة للتعليم في الظهور تقوم عليها الدولة وتعين من يتولى أمرها، ومن أشهر تلك المدارس ما قام به الوزير النابه "نظام الملك" من إنشاء سلسلة من المعاهد العلمية الراقية عُرفت باسم "المدارس النظامية"، وأشرف عليها عدد من كبار علماء الإسلام، مثل: أبي حامد الغزالي، وأبي المعالي الجويني، ثم تتابع ظهور المدارس في بغداد ودمشق وحلب والقاهرة وتونس وفاس وقرطبة.

كان الجامع الأزهر واحدًا من تلك المؤسسات التعليمية التي ظلت منذ إنشائها في القرن الرابع الهجري تقوم بتدريس العلوم واستقبال الطلاب حتى يومنا، فلم تنقطع عن العلم يومًا أو تتوقف رسالتها ساعة، ولم يصبها ما أصاب غيرها من المؤسسات التعليمية من توقف وانقطاع، وحين أراد "محمد علي" أن يبتعث طلابًا إلى أوروبا لتلقي العلوم الحديثة لم يجد أمامه سوى النابهين من طلبة الأزهر يختارهم لهذه البعثات.

غير أن ما يثير الاهتمام في أمر التعليم الحديث هو البحث عن أوَّلياته، ومَن هم الذين حملوه فنقلوه من طرقه القديمة ومناهجه ومعاهده حتى أصبح على الصورة التي نراها الآن، وكيف نشأت أول وزارة تتولى أمر التعليم وتتعهده بالرعاية حتى استوى على سوقه.

البعثة العلمية الأولى



تطلع "محمد علي" إلى بناء دولة قوية تمتد في مصر والشام والحجاز، ولم يكن له من سبيل في تحقيق ذلك إلا بالعلم الذي هو أساس النهضة؛ فعزم على ذلك، وكان ذا همة وجَلَد، واختار لذلك 44 من الشباب النابه من الأزهر وغيره، وابتعثهم إلى فرنسا في سنة (1252 هـ = 1826م) فيما عُرف بـ"بعثة محمد علي الأولى".

وكانت هذه البعثة موضع اهتمام الوالي الطموح؛ فاختار لها العالم الفرنسي "جومار" مشرفًا عامًّا عليها، يدرس أحوال أعضائها واحدًا واحدًا، ويكتب عنهم التقارير التي تسجل مدى تقدمهم في الدراسة واستجابتهم لها، وسافر مع هذه البعثة الشيخ "رفاعة الطهطاوي" إمامًا لها ومرجعًا لشؤونها الدينية.

وقد احتفظ كتاب "البعثات العلمية" للأمير "عمر طوسون" بأسماء هذه البعثة وغيرها من البعثات، مع ذكر التخصصات العلمية التي ابتعثوا من أجلها، وهي تشمل: العلوم العسكرية، والهندسة، والميكانيكا، والكيمياء، والطب والجراحة، والزراعة، والتاريخ الطبيعي.

وما يهمنا من أمر هذه البعثة هو "مصطفى مختار" أحد أفرادها النابغين الذين تخصصوا هناك في دراسة الفنون الحربية، وعلى يديه وُلدت أول وزارة للمعارف (التعليم) في مصر والعالم العربي.

مصطفى مختار

سافر مصطفى مختار عضوًا في البعثة، وواحدًا من رؤسائها الثلاثة المكلفين بالإشراف على بقية أعضائها في فرنسا، والرئيسان الآخران هما: حسن الإسكندراني، وعبدي شكري، وكانت الرئاسة بالتناوب شهرًا شهرًا؛ حتى استقل بها عبدي شكري في النهاية، ولم تمنع هذه الرئاسة مصطفى مختار ولا زميليه من التفوق الدراسي والجد في التحصيل، وقد أشار إلى ذلك رفاعة الطهطاوي بقوله: "ولسائر الثلاثة اجتهاد زائد وتحصيل بالغ، مع أن الإمرة في الغالب تأنف من ذلك".

ولم تكن الدولة تضن على أعضاء بعثتها في سبيل تعليمهم؛ حتى إنها لم تكتف بالنفقة العالية وإحسان معيشتهم، بل بعثت بثلاثة خيول لرؤساء البعثة الثلاثة؛ إمعانًا في كرمها وحفاوتها بهم في غربتهم، وترسل إلى مصطفى مختار آلتين للموسيقى، وكان له ميل إلى السماع والعزف.

ولم تخيب البعثة ثقة الدولة فيهم فنجحوا جميعًا في مهامهم العلمية التي أُرسلوا لها، عدا خمسة منعهم المرض أو ضعف الكفاية في التحصيل؛ فأعيدوا إلى مصر قبل إتمام دروسهم.

وبعد أن أنهى مصطفى مختار دراسته عاد إلى القاهرة في سنة (1248هـ = 1832م)، ونال رتبة "بكباشي" ولقب "بك"، واشترك في بعض الحروب التي خاضها إبراهيم باشا بن محمد علي.

إنشاء شورى المدارس

كان تنظيم المدارس تابعًا لديوان الجهادية التي تتولى أمره والإشراف عليه، حتى أصدر محمد علي أمرًا بتأليف مجلس عام للنظر في تنظيم المدارس سنة (1251هـ = 1836م) برئاسة مصطفى مختار، وعضوية عدد من أكابر المصريين ونظار المدارس، مثل: "كلوت بك" ناظر مدرسة الطب، و"هاملون" ناظر مدرسة الطب البيطري، و"كياني بك"، و"رفاعة بيومي" أستاذ الرياضيات بمدرسة المهند سخانة.

وقام هذا المجلس بعد مناقشات طويلة وجادة بتقديم اقتراح بتنظيم المدارس يقضي بتقسيم التعليم إلى ثلاث مراحل: ابتدائية، وتجهيزية، وخصوصية؛ وأشار المجلس العام إلى إنشاء خمسين مدرسة ابتدائية، وتوزيع مدارس الأقاليم حسب عدد سكانها، وإنشاء مدرستين تجهيزيتين بالقاهرة والإسكندرية؛ ليكون الغرض منهما توسيع التعليم بين المتخرجين في المدارس الابتدائية، وإعدادهما للمدارس الخصوصية (التعليم العالي)، مثل: مدرسة الألسن، والهندسة، والطب، والفرسان، والمدفعية.

ولمَّا كانت تلك المدارس -بعد تنظيمها- تحتاج إلى هيئة فنية تشرف عليها، وخاصة في سنواتها الأولى، وكانت مثل هذه الهيئة غير متوافرة في ديوان الجهادية؛ فقد صدر قرار من محمد علي بإنشاء ما يُعرف باسم "شورى المدارس" أو "مجلس المدارس" لمتابعة الشؤون الفنية للمدارس، غير أنها ظلت من الناحية الإدارية تابعة لديوان الجهادية، وكان أعضاء شورى المدارس من خريجي مدارس أوربا برئاسة مصطفى مختار، الذي كان يتولى -إلى جانب ذلك- نظارة مجلس الملكية.

وبدأ هذا المجلس عمله بطبع لائحة التعليم الابتدائي، وإرسال المفتشين إلى الأقاليم لتنظيم مكاتب التعليم، وتوزيع التلاميذ على الفِرَق، وترتيب الدروس، وكذلك تنظيم المدارس التجهيزية، وإقرار المناهج الدراسية، وتعيين النظار والمدرسين، وإمداد المكاتب بما تحتاجه من أدوات.

ديوان المدارس

غير أن شورى المدارس لم تكن مطلقة اليد فيما يختص بعملها؛ فالمدارس التي تشرف عليها أو تقوم على أمرها لا تزال تابعة لديوان الجهادية، وكثيرًا ما كان ينشأ صدام بينهما بسبب تجديد العلاقة بين شورى المدارس باعتبارها هيئة فنية استشارية وديوان الجهادية باعتبارها الهيئة التنفيذية، ولمَّا اشتد النزاع بينهما دون الوصول إلى حل لتسيير أمور المدارس رُفع الأمر إلى محمد علي، وكان على علم بالنزاع القائم بين الطرفين، وكثيرًا ما كان يقر شورى المدارس على ما تأخذه من إجراءات وقرارات.

فلما وجد محمد علي أن تبعات شورى المدارس قد اتسعت أو أنها تقوم بعملها على خير وجه، رأى من الأفضل لها أن تستقل بشؤونها عن ديوان الجهادية، ويكون لها ديوانها الخاص، وأصدر قرارًا في (5 من ذي القعدة 1252 هـ = 11 من فبراير 1837م) بإنشاء ديوان المدارس تتبعه المدارس الموجودة في مصر، وتنفصل تبعيتها عن ديوان الجهادية، وتولَّى مصطفى مختار رئاسته؛ فكان أول وزير للمعارف في تاريخ مصر الحديث.

وحددت اللائحة الصادرة لهذا القرار اختصاصات ديوان المدارس بإدارة المدارس والكتبخانات (دور الكتب)، والمعامل، والمتاحف، وقناطر الدلتا، ومطبعة بولاق، وجريدة "الوقائع المصرية".

ولم تطل مدة نظارة مصطفى مختار للمعارف المصرية؛ فقد اختارته المنية في سنة (1254هـ = 1839م) وهو قائم على نظارة الديوان، ولكن هذه المدة القصيرة كانت خيرًا وبركة على التعليم في مصر، وأنشئ في عهده كثير من المدارس والكتاتيب، واعتنى بالكتب المدرسية الملائمة لتلاميذ المدارس الابتدائية، وكانت المدارس تعوزها الكتب الأولية المناسبة، وكان ذلك خطوة هامة في طريق إصلاح التعليم. وبعد وفاة مصطفى مختار تولى إبراهيم أدهم باشا الوزارة خلفه، ثم توالى بعده النظار والوزراء.


منقول

عبدالغفور الخطيب
08-12-2005, 02:12 AM
صدقي الدجاني.. لقاء العروبة والإسلام*

(في ذكرى وفاته: 6 من ذي القعدة 1424هـ)



ولد أحمد صدقي الدجاني بمدينة يافا على ساحل فلسطين في (18 صفر 1355هـ= 7 مايو 1936م)، وهو أحد مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وأحد العروبيين الذين لم يجدوا حرجًا من التأكيد على هويتهم الإسلامية، فهو وإن بدأ حياته العلمية ونشاطه الفكري في منتصف القرن الماضي فإنه ينتمي إلى عروبيي المرحلة الأخيرة من الدولة العثمانية الذين لم يجدوا أي مشكلة مع هويتهم الإسلامية، فالعروبة كانت تعني بالضرورة الهوية الإسلامية. والعروبة في هذا السياق لم تكن أيديولوجيا منفصمة أو منفصلة عن الإسلام أو الهوية الإسلامية للعرب. كما يذكر الدجاني أنه أحد رواد حقل الدراسات الليبية، حيث كان أحد مؤرخي السنوسية، مع نقولا زيادة، ومحمد عزيز شكري، وكتابه "الحركة السنوسية" يعد من المراجع الهامة في تاريخ هذه الحركة الإصلاحية والثورية الليبية. وقد كرس الدجاني جانبا كبيرا من حياته الأكاديمية لدراسة ليبيا الحديثة، وألف فيها أكثر من كتاب، واهتم الراحل بقضايا الوحدة والديمقراطية والعولمة والمعرفة.
واتفق جميع مع عرف الراحل الكبير على صلابة موقفه ودماثة أخلاقه وتمسكه بالرؤية المبدئية والثوابت القومية، ولهذا لقي الدجاني احتراما من مجايليه وزملائه، كما اتسم الدجاني، في محضره ومخبره بحفاظه على سلامة اللغة العربية، وكان المثال الذي يحتذى به.

الأصول.. شجرة العروبة

في الحوارات الليبية التي أعدها الباحث الليبي المقيم في لندن "فرج نجم" استعاد الدكتور الدجاني شيئا من تاريخ عائلته التي تعود في أصولها إلى الجزائر، والدجاني عائلة دينية صوفية مشهورة في يافا. يقول الدجاني: إن علاقة عائلته بليبيا تعود إلى بدايات القرن العشرين عندما عين جده الشيخ محمود الدجاني قاضياً في ليبيا في الفترة التي تلت عام 1900م، فقد كانت ليبيا في ذلك الوقت جزءاً من الدولة العثمانية، وكان جده قاضيا في هذه الدولة قبل الانقلاب الحميدي الذي جاء ضد السلطان عبد الحميد الثاني 1908م، وتنقل في هذه البلاد الواسعة، بلاد الإسلام التي تحكمها الدولة العثمانية، وفي فترة معينة استقر به المقام في الخمس وزليطن وطرابلس.

ويقول الدجاني إنه لم ير جده، فقد توفي قبل ولادته بعامين، "وهو الذي قال لوالدتي: إذا جاءك ابنٌ سميه أحمد صدقي، فأنا أذكر هذه الصلة، وأذكر صورته التي كانت تبرز فيها عمامته، وثوب علماء الدين في وسط الديوان، وكنت أتأثر بما أسمعه من جدتي عنه، وعن الرحلة إلى طرابلس، كيف ذهبوا إلى إستانبول، ومنها كيف ركبوا الباخرة إلى مالطا، وكيف نزلت هي في شوارع مالطا بزيها الذي كان عبارة عن غطاء شديد السواد، وكيف كان هذا محل استغراب في مالطا، ثم كيف نزلوا في طرابلس، وكيف استضافهم أهل طرابلس الكرام. ثم كيف مارس مهمته في القضاء، وكنت أسمع عن عادات أهلنا في ليبيا من جدتي، فالذاكرة اختزنت الكثير، والحق أن من بين هذا الكثير أيضاً أن جدي أطلق اسم الطيب على والدي حين رزق بوالدي، والطيب اسم ليس شائعاً في المشرق، ولكنه كان شائعاً في تلك الفترة التي عاشوها في ليبيا. أمشي قدما بعد ذلك فأذكر أنني في المدرسة كنت أسمع عن ليبيا" .

ونشأة كهذه لم تجعله بعيدا عن ليبيا وتراثها وجهاد أهلها، ففي المدرسة كان الدجاني يسمع عن جهاد الليبيين ويقول الدجاني لنجم: كان المثل الذي يحتذى هو استشهاد عمر المختار، البطل الذي أعطى مثلاً للعمل والمقاومة بكل أبعادها، وكنا نتأثر ونحن نقرأ شعراً لإبراهيم طوقان عن عمر المختار، رحمه الله، وكنا نتابع حين بدأت التفتح في فلسطين بعض الأخبار عن ليبيا من خلال ما أسمعه من الأسرة، وكانت مهتمة بتتبع الأخبار السياسية .

التكوين العملي والثقافي

بعد النكبة انتقلت عائلة الدجاني لسورية، حيث وجد والده عملا في مجال الزراعة والمشاريع الزراعية، وسافر إلى ليبيا في عام 1953م. ويعتقد الدجاني أن فترة إقامته في ليبيا ما بين 1953م و 1956 كانت فترة مهمة بالنسبة له ولتكوينه الثقافي.

ففي عام 1958م تعاقد وهو في دمشق التي كان عازفا عن تركها للعمل في وزارة التربية والتعليم، ويقول الراحل عن هذه المرحلة: إنها كانت من أغنى مراحل حياتي، بدأت منذ تشرين الأول (أكتوبر) 1958م وانتهت في آخر كانون الثاني (يناير) 1965م، هذه السنوات أعتبرها من أهم السنوات في تكويني العلمي. ففي هذه الفترة أنجز الكاتب دراسته عن السنوسية، ليؤكد نفسه كأحد رواد البحث العلمي والأكاديمي فيها، كما كانت فترة للتعريف بالقضية الفلسطينية، من خلال النادي الثقافي الليبي، والمركز الثقافي العربي، وجاء نشاطه الثقافي هذا متوافقا مع عمله كمدرس في مدرسة الزاوية وبعدها معهد محمد بن علي السنوسي. ويستعيد الدجاني فكرة اهتمامه بالدراسات الليبية قائلا إنها كانت من اقتراحات أستاذه المؤرخ محمد أنيس، حيث أراد أن يتقدم بأطروحة للماجستير، في مجال التاريخ الفلسطيني، إلا أن الدكتور أنيس قال له لا.. أنت في ليبيا، وأنت من أحاديثي معك رأيتك ملماً، ومهم جداً أن تعطي تاريخ ليبيا حقه، فوجد هذا صدى عظيماً في نفسي، فبدأنا نتداول واستقر الرأي بعد قراءات على اختيار الموضوع التالي: نشأة الحركة السنوسية ونموها خلال القرن التاسع عشر؛ لأني وفقاً لمنهجي التاريخي أردت أن أحصر المدى الزمني في قرن واحد، أي طيلة فترة السيدين المؤسس محمد بن علي السنوسي، وابنه محمد المهدي إلى وفاته، ثم تركت الفترة التالية لمرحلة ثانية وهي مرحلة السيد أحمد الشريف، ومن ثم مرحلة السيد إدريس الذي أصبح ملكًا. في تلك الفترة بدأت بقوة، والحق أنني عملت على أن أجمع كل ما وقع في اليد مما كتب عن السنوسية، وكان هناك بعض الكتابات العربية القليلة وذكرتها، وكانت هناك عناية من بعض الإنجليز تطرقوا إليها في رحلاتهم، ومنهم بريتشارد.

وأنتج الدجاني بعد هذه الدراسة -التي اعتبرت مهمة وجامعة في تاريخ الحركة السنوسية- عددا آخر من الدراسات منها اليقظة العربية في ليبيا، أحاديث عن تاريخ ليبيا، وثائق ليبيا الحديثة. وبحسب الباحث فرج نجم فقد كان الدجاني يعد كتابا هو مذكراته عن حياته في ليبيا تحت عنوان لقاء الكهل بالشاب الذي كأنه هو.

وحمل الدجاني توقا وألقا لليبيا، وارتبطت عائلته بالمصاهرة بعائلة ليبية كما أن نجله مهدي متزوج من ليبية.

ومع أن الدجاني أنجز ما أنجزه في مجال الدراسات الليبية وابتعد في المراحل الأخيرة من حياته عن هذا المجال للكتابة في القضايا الحضارية والثقافية وقضايا العروبة والإسلام، فإنه كان يشارك في أي قضية لها علاقة بتاريخ ليبيا، فقد شارك قبل عامين في مهرجان عمر المختار الذي أقامه مركز ليبي في لندن لتخليد ذكرى الشهيد الليبي الكبير. ومن هنا فوفاة الدجاني تظل خسارة ليبية، وعربية وفلسطينية مجموعة.

وعرف الدجاني بنشاطه في المؤتمرات والندوات العلمية، وحاضر في لندن كثيرا حيث دعته جمعيات ومؤسسات فلسطينية وعربية قومية لتقديم محاضرات. وعرف الدجاني بصوته المتميز وتأنقه باللغة، فكان صوته يخرج هادئا ببحة جميلة، ولم يؤثر عنه أنه تكلم العامية في أحاديثه العامة أو الخاصة. وعربيته السليمة لم تكن متقعرة بل عفوية. كان الدجاني مثال العالم العامل، وظل كما قالت كريمته بسمة، يكتب ويشارك في المقال للصحف والمجلات.

عطاؤه الفكري

في المجال الحضاري أكد الدجاني على ضرورة اهتمام العرب بدائرتهم الإسلامية الأوسع التي تضمن الهامش الإسلامي البعيد عن المركز، وكان يشدد على فكرة الديمقراطية والشورى وحقوق الإنسان كأولويات لبناء المشروع الحضاري العربي.

ولم تشغله اهتماماته الأكاديمية الليبية ونشاطاته العروبية عن الاهتمام بقضيته الفلسطينية، فقد ظل عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مدة عشرة أعوام.

ومع مشاركته الواسعة في النشاط الفلسطيني السياسي والثقافي، فإنه كان معارضا لنهج التسوية السياسة وإفرازات أوسلو، حيث كان من رافعي شعار "لا للحل العنصري الصهيوني في فلسطين"، وخلافه مع مهندسي أوسلو لم يلجئه ولو مرة إلى دعم أي حركة تدعو لشق الصف الفلسطيني، فقد كان الدجاني بطبعه وحدويا وداعيا للائتلاف الوطني والحوار مع كل فصائل المقاومة، وموقف كهذا جعله قريبا من كل فصائل العمل الفلسطيني، في الداخل والخارج.

وأسس منذ عشرين عاما المجلس الأعلى للتربية والثقافة والعلوم في منظمة التحرير الفلسطينية وظل رئيساً له حتى عام 2002م حيث استقال بسبب متاعبه الصحية. وانتخب الدجاني في عدد من المجالس والمؤسسات والأكاديميات العربية، فقد كان عضوا بالأكاديمية الملكية المغربية، ومؤسسة آل البيت، وكان أحد مؤسسي المؤتمر القومي الإسلامي والمؤتمر القومي العربي. وشغل منصب رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان. ومثل الدجاني فلسطين في العديد من اجتماعات الحوار العربي الأوربي. وكرمه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بمنحه وسام فلسطين.

وشارك في ندوات للدفاع عن الهوية الفلسطينية وحق اللاجئين الفلسطينيين، وعمل الدجاني في العديد من الجامعات العربية محاضرا في التاريخ الحديث، وتلامذته الذين أشرف على رسائلهم منتشرون في كل بقاع العالم العربي. وكان آخر حضور للراحل في ندوة شارك فيها في معرض القاهرة الدولي، دعا فيها يهود العالم لنبذ الصهيونية وأكد على أن الانتفاضة الفلسطينية وجدت لتبقى وتتصاعد حتى يسلم العدو ويضطر إلى إيقاف عدوانه الدموي ويجلس للتفاوض.

آمن الدجاني بدور الشباب في مرحلة النهوض الحضاري العربي، ووجه الكثير من أعماله لهم، كما كان يخاطبهم في الندوات والمؤتمرات التي يشارك فيها.

من آثاره:

وترك الراحل مكتبة كاملة من ستين مؤلفا، منها: المعرفة والتقنية والتنمية.. آفاق ومخاطر، ضوابط وأضواء على الصين اليوم، النظام العالمي الجديد.. وجهة نظر عربية، الطريق إلى حطين، القدس.. إحياء الذكرى بعد ثمانية قرون... وصدر له هذا العام عن دار المستقبل العربي بالقاهرة كتاب زلزلة في العولمة وسعي نحو العالمية .

أحمد صدقي الدجاني مثقف فلسطيني، متميز في مجاله، كغيره من المثقفين الفلسطينيين، الذين برزوا في الخارج، وهو مثقف كان يترك دائما مع الذين يقابلهم حضوره الهادئ والرزين، ولغته الشفافة وكلماته المنتقاة. أذكر أن أول مرة استمعت فيها للراحل كانت محاضرة ألقاها في جمعية للتربية في القاهرة، لم يكن الحضور كبيرا، لكنه كان جميلا ودافئا، كان ذلك في عام 1988م، واستمعت إليه مرة ثانية في عام 2000م في لندن، وقلت له إن اسمه ارتبط بذهني بكتاب الحركة السنوسية الذي قرأته منذ زمن بعيد، وهو الكتاب الذي شكل كثيرا من ذاكرتي عن هذه الحركة، ومؤسسها محمد بن علي السنوسي.

برحيل الدجاني هذا العام يكتمل موكب الراحلين الفلسطينيين من المبدعين، فقبله رحل الناقد الكبير إحسان عباس الذي دفن في عمان، والشاعر محمد القيسي المدفون في عمان أيضا، والناقد الكبير إدوارد سعيد الذي توفي في نيويورك ونثر رماده في لبنان. والشاعرة المبدعة فدوى طوقان التي عاشت لحظاتها الأخيرة في نابلس، ودفنت فيها. وأخيرا الدجاني الذي توفي يوم الإثنين(6 ذو القعدة 1424هـ= 29-12-2003) في القاهرة التي اختارها مقرا لإقامته منذ عام 1982م.


منقول

عبدالغفور الخطيب
09-12-2005, 02:37 AM
المنصور قلاوون.. جهاد وبناء وحضارة

(بمناسبة ذكرى وفاته: 7 من ذي القعدة 689هـ)




بعد وفاة الظاهر بيبرس سنة (676هـ=1278م) خلفه على الحكم اثنان من أولاده هما: بركة خان، وبدر الدين سلامش، لكنهما لم يستمرا طويلاً في الحكم؛ لصغر سنهما وعدم أهليتهما لممارسة أعباء الحكم، فالأول كان في السابعة عشرة من عمره عندما تولى الحكم، وكان على النقيض من أبيه: شابًا مستهترًا، يميل إلى اللهو والشراب، سيئ الرأي والتدبير، فنفر منه كبار الأمراء وقاموا بخلعه. وأما الآخر فكان طفلاً حدثًا في السابعة من عمره لا يعرف معنى السلطة ولا يقدر على حمل شيء من تبعاتها، فقام الأمير قلاوون بالوصاية على السلطان الصغير وإدارة أمور الدولة نيابة عنه، حتى إذا أمسك زمام الأمور بيده، وصار الحكم طوع بنانه أقدم على ما لا بد منه، فخلع السلطان الطفل الذي لا يعرف لماذا أقيم على السلطنة؟ ولم خلع؟ وأعلن نفسه سلطانًا على البلاد.

تولي قلاوون الحكم

كان الأمير سيف الدين قلاوون أحد المماليك البحرية، اشتراه الأمير علاء الدين آقسنقر بألف دينار، فعُرف قلاوون بالألفي، ولما توفي الأمير علاء الدين انتقل إلى خدمة الملك الصالح أيوب، ثم أهّلته مواهبه وملكاته لأن يبرز على الساحة في الفترة التي خرجت فيها دولة المماليك البحرية إلى الوجود، ولمع في عهد السلطان الظاهر بيبرس الذي أولاه ثقته؛ لرجاحة عقله وشجاعته، وتصاهرا؛ حيث تزوج بركة خان بن السلطان بيبرس من ابنة قلاوون؛ تأكيدًا على روح المحبة والصداقة بينهما.

ولما ساءت سلطنة بركة خان وفشل في القيام بأعباء الحكم لخفته ورعونته وسوء تصرفه أجبره الأمراء على خلع نفسه من الحكم، وكان لقلاوون يد ظاهرة في هذا الخلع، وتطلع إلى الحكم وهو به جدير، لكنه انتظر الفرصة المناسبة ليثب على الحكم دون أن ينازعه أحد، فلما وافته الفرصة اقتنصها وعزل السلطان الصغير، وتولى هو الحكم في (رجب 678هـ= نوفمبر 1279م) وبايعه الأمراء وأرباب الدولة، وتلقب بالملك المنصور.

وأجمع المؤخرون على وصف السلطان قلاوون بأطيب الصفات وأنبلها. ولعل من أبلغ هذه الأوصاف ما قاله بيبرس المنصوري: "كان حليمًا عفيفًا في سفك الدماء، مقتصدًا في العقاب، كارهًا للأذى".

غير أن قلاوون لم يسلم من اعتراض كبار أمراء المماليك على توليه الحكم، وكان بعضهم يرى نفسه أحق بالسلطنة منه، فهم على درجات متقاربة من القوة والنفوذ، لكن قلاوون نجح بالقوة أحيانًا وبالسياسة أحيانًا أخرى في أن يمسك بزمام الأمور، ويقضي على الثورات التي قامت في وجهه.

ونجح قلاوون في استمالة قلوب الناس إليه، لرأفته ولينه، وميله إلى رفع ما يزيد من معاناتهم، فألغى كثيرًا من الضرائب التي كانت تُفرض على الناس، وأبطل كثيرًا من المظالم التي عانى الشعب منها.

مواصلة الجهاد

لم تختلف سياسة قلاوون الخارجية عن سياسة سلفه الظاهر بيبرس الذي نجح في تثبيت أركان دولة المماليك، ووضع لها أسسها ونظامها، وفرض هيبتها على أعدائها وأمّن حدودها، فلا غرو إذن أن كان هو المؤسس الحقيقي لدولة المماليك.

وأدرك قلاوون أن الخطر لا يزال يحدق بالبلاد ما دامت القوى الصليبية لا تزال تحتل أجزاء من بلاد الشام، وأن المغول تتطلع أنظارهم إلى الاستيلاء على مصر والشام، فأخذ للأمر أهبته، واستعد له بما يستحق من عناية واهتمام، وكان من الصعب عليه أن ينازل قوتين في وقت واحد، فلجأ إلى إحداث الفتن بين خصومه الذين تحالفوا جميعًا ضده، وكان ثمة مشروع صليبي مغولي آخذ في التكوين لضرب دولة المماليك، ولما كان المغول أكثر خطرًا وأعظم استعدادًا، فإن همة السلطان قلاوون قد اتجهت إليهم أولاً، بعد أن عقد معاهدة صلح مع الصليبيين في الشام سنة (680هـ=1281م) لمدة عشر سنوات، حتى يتفرغ لمنازلة المغول، فخرج للقائهم بعد أن أغاروا على الشام، ومارسوا عاداتهم الهمجية في السلب والنهب وقتل الأبرياء، ونجح في أن يلحق بهم هزيمة مدوية في موقعة "حمص" في (14 من رجب 680هـ=30 من أكتوبر 1281م)، هلك فيها من جنود المغول أعداد كبيرة وولى الباقون الأدبار إلى شرقي الفرات.

ثم تحسنت العلاقات نسبيًا بين دولة المغول والمماليك بعد أن تولى الحكم تكودار بن هولاكو خلفًا لأخيه أبغا، وأعلن إسلامه، وكان شديد الرغبة في إقامة علاقات ودية مع المماليك، لكن هذا التحسن لم يدم طويلاً، فسرعان ما أطاح به وبآماله "أرغون" ابن أخيه عن حكم المغول، وعاد التوتر بين الدولتين من جديد، دون أن يحسم قلاوون أمره مع المغول، فظلوا خطرًا محدقًا بدولته، وإن نجح في كبح جماح هذا الخطر.

الجهاد ضد الصليبيين

لم يصبر قلاوون على انتهاء المعاهدة التي عقدها مع الصليبيين، وكانوا لا يزالون خطرًا على الدولة، يحتلون أجزاءً من أراضيها، ولا يحترمون عهدًا ولا ذمة إذا ما سنحت لهم فرصة، أو اشتدت بهم قوة، فهاجم قلاوون حصن المرقب، وهو من أمنع الحصون الصليبية في الشام، وذلك في سنة (684هـ=1285م)، ونجح في الاستيلاء عليه، ولم يبق للصليبيين من إماراتهم سوى "طرابلس" التي يحكمها أمراء النورمان، وعكا التي أصبحت مقر مملكة بيت المقدس، بالإضافة إلى بعض الحصون مثل حصني المرقب وطرسوس.

ولم تكن الجبهة الصليبية متماسكة البناء، بل كانت الخلافات تفتك بها، فوجد قلاوون في ذلك فرصة سانحة للانقضاض على الإمارات الصليبية المتبقية، فأرسل حملة عسكرية تمكنت من الاستيلاء على اللاذقية سنة (686هـ=1287م)، وبعد سنتين خرج السلطان بنفسه إلى طرابلس على رأس قوة كبيرة قوامها أكثر من أربعين ألف جندي، وحاصرها أربعة وثلاثين يومًا استسلمت بعدها في (ربيع الآخر 688هـ=إبريل 1289م). وعلى إثرها سقطت المدن الأخرى المجاورة مثل بيروت، وجبلة، وانحصر الوجود الصليبي في عكا وصيدا وصور وغيليت، بعد أن كانت ممتلكاته واسعة تمتد على طول الساحل الشامي للبحر المتوسط. وتوفي السلطان المنصور دون أن يتحقق أمله في إسقاط "عكا" آخر الإمارات الصليبية، غير أن الأقدار شاءت أن ينال ابنه خليل قلاوون شرف إنهاء الوجود الصليبي في بلاد الشام، بعد أن نجح في اقتحام أسوار عكا المنيعة في (17 من جمادى الآخرة سنة 690هـ=18 من مايو 1290م)، وبعد عكا سقطت بقية المعاقل الصليبية في الشام، وطويت آخر صفحة من صفحاتها.

النشاط الحضاري

على الرغم من انشغال السلطان بمجابهة الخطر الصليبي والمغولي، وإعداد الحملات العسكرية التي استنفدت المال والجهد، فإن السلطان لم يغفل عن تنشيط الحركة العلمية، ومواصلة البناء والعمارة، وإقامة المدارس والمساجد، وكانت القاهرة قد أصبحت موئلاً للعلم ومركزًا للحضارة بعد سقوط بغداد وازدياد سقوط دول الإسلام في الأندلس على يد الأسبان، فتوافد عليها العلماء واتخذوها قبلة لهم، ووجدوا في كنف السلاطين المماليك كل رعاية واهتمام.

ويذكر التاريخ للسلطان قلاوون ما قام به من إنشاءات عظيمة ارتبطت بها نهضة علمية ونشاط وافر، فأقام عددًا من المدارس التي امتلأت بالشيوخ وطلبة العلم، وفي مقدمتها المدرسة المنصورية، التي أوقفها لتدريس الفقه على المذاهب الأربعة، وكان يتولى التدريس بها كبار الأئمة وأعيان الفقهاء والمحدثين. وتتضمن حجة الوقف التي كتبها قلاوون إشارات كثيرة تتعلق بتنظيم العملية التعليمية داخل المدرسة من حيث مقر الدراسة، وجلوس أهل المذاهب الأربعة بها، وأماكن سكن المدرسين الفقهاء وأجورهم ورواتبهم وغير ذلك من الشروط. وتعد المدرسة من أروع المدارس المملوكية التي شيّدت بالقاهرة لعمارتها الراقية، وزخارفها الرائعة.

ولم تكن القبة المنصورية التي أقامها لتكون مدفنًا له مقتصرة على هذا الغرض، بل جعل منها مدرسة ومسجدًا، ورتب بها خمسين مقرئًا يقرءون القرآن ليلاً ونهارًا، وخصص لها إمامًا للصلاة، وعالمًا لتفسير القرآن للطلاب الذين يؤمون القبة، وجعل بها خزانة للكتب، وخازنًا يقوم بأمرها، وهذه القبة من أجمل القباب الباقية بمدينة القاهرة.

البيمارستان المنصوري



ومن أجلّ إنشاءات المنصور قلاوون البيمارستان الذي أقامه لتقديم الرعاية الصحية والاجتماعية للمرضى، وافتتحه السلطان في حفل كبير شارك فيه الأمراء والقضاء والعلماء. وتضمنت حجة وقف هذا الصرح الطبي أنه مفتوح طوال اليوم لتقديم العلاج للمرضى دون نظر إلى طبقاتهم أو جنسياتهم، ودون مقابل أو أجر.

ولم يقتصر دور البيمارستان على تقديم العلاج، بل تعداه إلى تدريس الطب للطلاب، وهو ما يشبه الآن المستشفيات التعليمية التابعة لكليات الطب، حيث يتاح للطلاب ممارسة الطب تحت إشراف أساتذتهم.

ولم يبق من منشآت قلاوون الكثيرة سوى المجموعة المعمارية التي تضمن القبة والمسجد والبيمارستان، وهي شاهدة على ما بلغته الدولة المملوكية من تقدم وازدهار شمل مناحي الحياة كلها.

وفاة السلطان قلاوون

كان السلطان قلاوون يرجو أن ينال شرف إنهاء الوجود الصليبي، فاستعد لذلك، لكن القدر لم يمهله، فتوفي ودفن (7 من ذي القعدة 689هـ=11 من نوفمبر 1290م).


منقول

عبدالغفور الخطيب
10-12-2005, 01:48 AM
ميسلون.. معركة الشرف العسكري والكرامة

(في ذكرى نشوبها: 8 من ذي القعدة 1338هـ)


اجتمع المؤتمر السوري في (16 من جمادى الآخرة 1338هـ= 8 من مارس 1920م)، واتخذ عدة قرارات تاريخية تنص على إعلان استقلال سوريا بحدودها الطبيعية استقلالا تاما بما فيها فلسطين، ورفض ادعاء الصهيونية في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وإنشاء حكومة مسئولة أمام المؤتمر الذي هو مجلس نيابي، وكان يضم ممثلين انتخبهم الشعب في سوريا ولبنان وفلسطين، وتنصيب الأمير فيصل ملكًا على البلاد. واستقبلت الجماهير المحتشدة في ساحة الشهداء هذه القرارات بكل حماس بالغ وفرحة طاغية باعتبارها محققة لآمالهم ونضالهم من أجل التحرر والاستقلال.

وتشكلت الحكومة برئاسة رضا باشا الركابي، وضمت سبعة من الوزراء من بينهم فارس الخوري وساطع الحصري، ولم يعد فيصل في هذا العهد الجديد المسئول الأول عن السياسة، بل أصبح ذلك منوطًا بوزارة مسئولة أمام المؤتمر السوري، وتشكلت لجنة لوضع الدستور برئاسة هاشم الأتاسي، فوضعت مشروع دستور من 148 مادة على غرار الدساتير العربية، وبدأت الأمور تجري في اتجاه يدعو إلى التفاؤل ويزيد من الثقة.

مؤتمر سان ريمو

غير أن هذه الخطوة الإصلاحية في تاريخ البلاد لم تجد قبولا واستحسانًا من الحلفاء، ورفضت الحكومتان: البريطانية والفرنسية قرارات المؤتمر في دمشق، واعتبرت فيصل أميرًا هاشميًا لا يزال يدير البلاد بصفته قائدًا للجيوش الحليفة لا ملكًا على دولة. ودعته إلى السفر إلى أوروبا لعرض قضية بلاده؛ لأن تقرير مصير الأجزاء العربية لا يزال بيد مؤتمر السلم.

وجاءت قرارات مؤتمر السلم المنعقد في "سان ريمو" الإيطالية في (6 من شعبان 1338هـ= 25 من إبريل 1920م) مخيبة لآمال العرب؛ فقد قرر الحلفاء استقلال سوريا تحت الانتداب الفرنسي، واستقلال العراق تحت الانتداب البريطاني، ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وكان ذلك سعيًا لتحقيق وعد بلفور لليهود فيها. ولم يكن قرار الانتداب في سان ريمو إلا تطبيقًا لاتفاقية سايكس ـ بيكو المشهورة، وإصرارا قويا من فرنسا على احتلال سوريا.

وكان قرار المؤتمر ضربة شديدة لآمال الشعب في استقلال سوريا ووحدتها، فقامت المظاهرات والاحتجاجات، واشتعلت النفوس بالثورة، وأجمع الناس على رفض ما جاء بالمؤتمر من قرارات، وكثرت الاجتماعات بين زعماء الأمة والملك فيصل، وأبلغوه تصميم الشعب على مقاومة كل اعتداء على حدود البلاد واستقلالها.

رفض فيصل قرارات المؤتمر


وتحت تأثير الضغط الوطني وازدياد السخط الشعبي، رفض فيصل بدوره قرارات مؤتمر سان ريمو، وبعث إلى بريطانيا وفرنسا برفضه هذا؛ لأن هذه القرارات جاءت مخالفة لأماني الشعب في الوحدة السورية والاستقلال، ولفصلها فلسطين عن سوريا، ورفض الذهاب إلى أوروبا لعرض قضية بلاده أمام مؤتمر السلم ما لم تتحقق شروطه في الاعتراف باستقلال سوريا بما فيها فلسطين، ودارت مراسلات كثيرة بينه وبين الدولتين بخصوص هذا الشأن، لمحاولة الخروج من المأزق الصعب الذي وضعته فيه قرارات مؤتمر سان ريمو، غير أن محاولاته تكسرت أمام إصرار الدولتين على تطبيق ما جاء في المؤتمر.

وفي أثناء ذلك تشكلت حكومة جديدة برئاسة هاشم الأتاسي في (14 من شعبان 1338هـ= 3 من مايو 1920م) ودخلها وزيران جديدان من أشد الناس مطالبة بالمقاومة ضد الاحتلال، هما: يوسف العظمة، وعبد الرحمن الشهبندر، وقدمت الوزارة الجديدة بيانها الذي تضمن تأييد الاستقلال التام، والمطالبة بوحدة سوريا بحدودها الطبيعة، ورفض كل تدخل يمس السيادة القومية. واتخذت الوزارة إجراءات دفاعية لحماية البلاد، ووسعت نطاق التجنيد بين أبناء الشعب استعدادًا للدفاع عن الوطن.

الإنذار الفرنسي

كان من نتيجة إصرار القوى الوطنية السورية على رفض قرارات مؤتمر سان ريمو أن اتخذت فرنسا قرارًا بإعداد حملة عسكرية وإرسالها إلى بيروت؛ استعدادًا لبسط حكمها على سوريا الداخلية مهما كلفها الأمر، وساعدها على الإقدام أنها ضمنت عدم معارضة الحكومة البريطانية على أعمالها في سوريا، وكانت أخبار الحشود العسكرية على حدود المنطقة الشرقية في زحلة وقرب حلب تتوالى، ثم لم يلبث أن وجه الجنرال "غورو" قائد الحملة الفرنسية الإنذار الشهير إلى الحكومة العربية بدمشق في (27 من شوال 1338هـ= 14 من يوليو 1920م) يطلب فيه: قبول الانتداب الفرنسي، وتسريح الجيش السوري، والموافقة على احتلال القوات الفرنسية لمحطات سكك الحديد في رياق وحمص وحلب وحماه.

وطلب الجنرال قبول هذه الشروط جملة أو رفضها جملة، وحدد مهلة لإنذاره تنتهي بعد أربعة أيام، فإذا قبل فيصل بهذه الشروط فعليه أن ينتهي من تنفيذها كلها قبل (15 من ذي القعدة 1338هـ= 31 من يوليو 1920م) عند منتصف الليل، وإذا لم يقبل فإن العاقبة لن تقع على فرنسا، وتتحمل حكومة دمشق مسئولية ما سيقع عليها.

ولما سمع الناس بخبر هذا الإنذار، اشتعلت حماستهم وتفجرت غضبًا، وأقبلوا على التطوع، فامتلأت بهم الثكنات العسكرية، واشتد إقبال الناس على شراء الأسلحة والذخائر، وأسرعت الأحياء في تنظيم قوات محلية للحفاظ على الأمن.

قبول فيصل بالإنذار

اجتمع الملك فيصل بمجلس الوزراء في (29 من شوال 1338 هـ= 16 من يوليو 1920م) لبحث الإنذار، ووضع الخطة الواجب اتباعها قبل انقضاء مهلته، وكان رأي يوسف العظمة وزير الدفاع أنه يوجد لدى الجيش من العتاد والذخيرة ما يمكنه من مقاومة الفرنسيين لكنها لم تكن كافية للصمود طويلا أمام الجيش الفرنسي البالغ العدد والعتاد، واتجه رأي الأغلبية عدا العظمة إلى قبول الإنذار الفرنسي، وبقي أمام فيصل أخذ موافقة أعضاء المؤتمر السوري على قبول الإنذار؛ فاجتمع بهم في قصره، لكن الاجتماع لم يصل إلى قرار، فاجتمع الملك فيصل مع مجلس وزرائه ثانية وأعلنوا جميعًا قبولهم الإنذار، وبدأت الحكومة في تسريح الجيش دون خطة أو نظام، فخرج الجنود من ثكناتهم بعد أن تلقوا الأوامر بتسريحهم ومعهم أسلحتهم، واختلطوا بالجماهير المحتشدة الغاضبة من قبول الحكومة بالإنذار، فاشتدت المظاهرات وعلت صياحات الجماهير، وعجزت الشرطة عن الإمساك بزمام الأمور.

معركة ميسلون

وفي ظل هذه الأجواء المضطربة وصلت الأخبار إلى دمشق بتقدم الجيش الفرنسي، بقيادة غورو في (5 من ذي القعدة 1338هـ= 21 من يوليو 1920م) نحو دمشق بعد انسحاب الجيش العربي، محتجًا بأن البرقية التي أرسلها فيصل بقبوله الإنذار لم تصل بسبب انقطاع أسلاك البرق من قبل العصابات السورية، وإزاء هذه الأحداث وافق الملك فيصل على وقف تسريح الجيش، وأعيدت القوات المنسحبة إلى مراكز جديدة مقابل الجيش الفرنسي، وأرسل إلى غورو يطلب منه أن يوقف جيشه حتى يرسل له مندوبًا للتفاهم معه حقنًا للدماء، لكن هذه المحاولة فشلت في إقناع الجنرال المغرور الذي قدم شروطًا جديدة تمتهن الكرامة العربية والشرف الوطني حتى يبقى الجيش الفرنسي في مكانه دون تقدم، وكان من بين هذه الشروط تسليم الجنود المسرّحين أسلحتهم إلى المستودعات، وينزع السلاح من الأهالي.

رفضت الوزارة شروط غورو الجديدة، وتقدم يوسف العظمة لقيادة الجيش السوري دفاعًا عن الوطن، في الوقت الذي زحف فيه الجيش الفرنسي نحو خان ميسلون بحجة توفر الماء في المنطقة، وارتباطها بالسكك الحديدية بطريق صالح للعجلات، وأصبح على قرب 25 كم من دمشق.

وفي هذه الأثناء كانت المظاهرات لا تزال تملأ دمشق تنادي بإعلان الجهاد ضد الفرنسيين، وأصدر فيصل منشورا يحض الناس على الدفاع بعد أن فشلت كل المحاولات لإقناع الفرنسي عن التوقف بجيشه.

خرج يوسف العظمة بحوالي 4000 جندي يتبعهم مثلهم أو أقل قليلا من المتطوعين إلى ميسلون، ولم تضم قواته دبابات أو طائرات أو تجهيزات ثقيلة، واشتبك مع القوات الفرنسية في صباح يوم (8 من ذي القعدة 1338هـ=24 من يوليو 1920م) في معركة غير متكافئة، دامت ساعات، اشتركت فيها الطائرات الفرنسية والدبابات والمدافع الثقيلة.

وتمكن الفرنسيون من تحقيق النصر؛ نظرًا لكثرة عددهم وقوة تسليحهم، وفشلت الخطة التي وضعها العظمة، فلم تنفجر الألغام التي وضعها لتعطيل زحف القوات الفرنسية، وتأخرت عملية مباغتة الفرنسيين، ونفدت ذخائر الأسلحة.

وعلى الرغم من ذلك فقد استبسل المجاهدون في الدفاع واستشهد العظمة في معركة الكرامة التي كانت نتيجتها متوقعة خاضها دفاعًا عن شرفه العسكري وشرف بلاده، فانتهت حياته وحياة الدولة التي تولى الدفاع عنها.

ولم يبق أمام الجيش الفرنسي ما يحول دون احتلال دمشق في اليوم نفسه، لكنه القائد المعجب بنصره آثر أن يدخل دمشق في اليوم الثاني محيطًا نفسه بأكاليل النصر وسط جنوده وحشوده.

منقول

عبدالغفور الخطيب
13-12-2005, 03:04 AM
ثابت بن سنان.. الطبّ ميراثا

(في ذكرى وفاته: 11 من ذي القعدة 363هـ)


جمع "ثابت بن سنان" بين عدد كبير من العلوم الإنسانية والتطبيقية، فكان مؤرخًا فيلسوفًا وأديبًا، كما كان طبيبًا وفلكيًا ورياضيًا، وكانت له بصمات واضحة في تلك العلوم والفنون، بالرغم من أنه لم يحقق قدرًا كبيرًا من الشهرة، ولم يبلغ ما بلغه جده "ثابت بن قرة الحراني" من الشهرة والذيوع.

نشأة علمية في أسرة عريقة

ولد "أبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة" في أسرة عريقة، اشتهرت بالعلم والطب، ونشأ في بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية، وموطن العلم وقبلة العلماء، كان أبوه "سنان" طبيبًا ماهرًا، وقد خوله الوزير "أبو عيسى بن الجراح" مهمة الإشراف على علاج المساجين في سجون الدولة، وتوفير الدواء والرعاية الصحية لهم.

كما قلده البيمارستانات ببغداد وغيرها، فكان يقوم بعمله بمهارة وإتقان جعلته موضع ثقة الوزير "علي بن عيسى" والخليفة "المقتدر بالله العباسي".

وكان جده هو الطبيب المعروف "ثابت بن قرة" الذي برز كواحد من أكبر الأطباء والمترجمين في القرن (3هـ = 9م)، والذي كان يتميز بالبراعة والذكاء، وقد روي عنه حفيده "ثابت بن سنان" قصة طريفة مؤداها أنه كان يمر في طريقه دائمًا بجزار يبيع اللحم، وكانت له عادة غريبة، فهو يقطع شرائح الكبد ويضع عليها الملح ثم يتناولها نيئة. وتوقع "ثابت" له أن يصاب بأذى، فجهّز الدواء اللازم له، وكان يحمله معه كلما مر عليه، وفي أحد الأيام مر ثابت بالجزار فسمع صراخًا وعويلاً، فأدرك أنه صار إلى ما توقعه له وعندما سأل عن الخبر قيل له: إن الجزار قد مات، فطلب الدخول عليه، وعلى الفور بدأ بتنشيط نبض الرجل وأعطاه الدواء الذي أعده خصيصًا له، وسرعان ما أفاق الرجل وبدأ يستعيد نشاطه وحيويته.

في بلاط العباسيين

وقد عاصر "ثابت بن سنان" عددًا كبيرًا من الخلفاء العباسيين، وكانت له مكانة وحظوة في بلاط كثير منهم، وجعل علمه وخبرته ومهارته في خدمتهم، فاتصل بالخليفة "الراضي" [320-322هـ = 932-943م]، كما خدم الخليفة "المتقي بالله" [329-333هـ = 941-944م]، وكذلك الخليفة "المستكفي بالله" [333-334هـ = 944-945م]، والخليفة "المطيع" [334-363هـ = 945-974م].

وتولى "ثابت بن سنان" إدارة بيمارستان بغداد فترة طويلة من الزمان.

وكان "ثابت" طبيبًا نبيلاً، اطلع على كتب الأقدمين، وأضاف إليها العديد من خبراته ومشاهداته، وقد ساعده على التبحر في علوم الطب أنه نشأ في أسرة توارثت هذا العلم، وقد سلك فيه مسلك جده "ثابت" في نظره في الطب والفلسفة.

ابن سنان مؤرخًا

ولم يمنع اشتغال ثابت بالطب من اشتغاله بعلم آخر بعيد تمامًا عن مجال الطب، وهو علم التاريخ، وقد وضع "ثابت" كتابًا مشهورًا في التاريخ، أخذ عنه كثير من المؤرخين الذين جاءوا من بعده، وكان كتابه هذا يسجل فترة مهمة من التاريخ الإسلامي في العصر العباسي، بدأه من خلافة المقتدر بالله العباسي سنة [295هـ = 908م] وانتهى قبيل وفاته بنحو عامين سنة [363هـ = 974م]، وقد جعله ذيلاً على "تاريخ الطبري"، ونسج فيه على منواله، واتبع طريقته في التصنيف، إلا أن هذا الكتاب فُقد، ولم يصلنا منه سوى بعض النقول ولكن تظل مهنة الطب هي المسيطرة على فكر ابن سنان وثقافته فهي تطل من ثنايا كتاباته في التاريخ، وبدا جليًا تأثره الواضح بمهنته كطبيب، فكان يهتم بالأخبار الطبية الطريفة، فينساب قلمه في وصفها شارحًا ومحللاً، من ذلك قوله: "حدثني جماعة من أهل الموصل ممن أثق به أن بعض بطارقة الأرمن أنفذ في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة إلى ناصر الدولة رجلين من الأرمن ملتصقين".

ويهتم "ثابت" بوصف صفة التصاق التوأمين، وكيفية تحركهما وتناولهما الطعام، ويتحدث عن اختلاف طبائعهما وتباين مزاجهما، واختلافهما في الميول والاهتمامات.

وفي موضع آخر يقول: "ورأيت في صدر أيام المقتدر ببغداد امرأة بلا ذراعين ولا عضدين، وكان لها كفان بأصابع تامة معلقتان رأس كتفيها لا تعمل بهما شيئًا. وكانت تعمل أعمال اليدين برجليها ورأسها تغزل برجلها وتمد الطاقة وتسويها وتسرّح امرأة برجليها".

ابن سنان معلمًا وطبيبًا

وكان "ثابت بن سنان" أستاذًا للعديد من الدارسين والأطباء، وكان يدرس كتب أبقراط وجالينوس، وكان أحمد وعمر ابنا يونس بن أحمد الحراني ممن قرأ عليه كتب جالينوس في بغداد، كما شارك في ترجمة كثير من الكتب الطبية من اللغات السريانية واليونانية وشرحها وإضافة معلومات جديدة إليها.

وكان لبراعته ومهارته وعلمه أكبر الأثر في توليه رئاسة بيمارستان بغداد خلفًا لأبيه ليكون عميدًا لأطباء بغداد.

وتوفي "ابن سنان" في [11 من ذي القعدة 365هـ = 11 من يوليو 975م].



منقول

عبدالغفور الخطيب
15-12-2005, 02:09 AM
سميرة موسى.. المرأة والذرّة

في ذكرى وفاتها 13 ذي القعدة عام 1371 هـ

* ولدت سميرة موسى في (9 من جمادى الأولى 1335هـ= 3 من مارس 1917م) بقرية سنيو الكبرى مركز زفتى بمحافظة الغربية، وعرفت بنبوغها منذ الصغر، وحفظت القرآن الكريم في سن مبكرة، ثم انتقلت مع والدها إلى القاهرة والتحقت بمدرسة ابتدائية وحصلت على المركز الأول، ثم التحقت بمدرسة ثانوية كانت "نبوية موسى" ناظرتها.

* لاحظت نبوية موسى نبوغ الطالبة سميرة وحبها للعمل، فاشترت معملا خاصا للمدرسة عندما علمت أن سميرة سوف تترك المدرسة لعدم وجود معمل بها.

* ألفت سميرة كتابا في تبسيط مادة الجبر لزميلاتها في الدراسة وهي في الصف الأول الثانوي سنة (1351هـ= 1932م)، وحصلت على المركز الأول في شهادة البكالوريا على مستوى القطر المصري.

* التحقت بالجامعة وتخرجت في كلية العلوم سنة (1358هـ= 1939م) بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، واعترضت إدارة الجامعة على تعيينها معيدة، حيث لم يكن تقرر بعد تعيين المرأة في هيئة التدريس بالجامعة، غير أن الدكتور مصطفى مشرفة أصر على تعيينها وهدد بالاستقالة من الجامعة إذا لم يتم ذلك، فاجتمع مجلس الوزراء وأصدر قرارا بتعيينها في الجامعة.

* حصلت على شهادة الماجستير من القاهرة بامتياز، ثم سافرت إلى إنجلترا للحصول على شهادة الدكتوراة، وكانت مدة البعثة ثلاث سنوات لكنها استطاعت أن تحصل على الدكتوراة في أقل من عامين، فكانت أول امرأة عربية تحصل على الدكتوراة، وأطلقوا عليها اسم "مس كوري المصرية".

* استغلت الفترة المتبقية من بعثتها في دراسة الذرة وإمكانية استخدامها في الأغراض السلمية والعلاج وكانت تقول: "سأعالج بالذرة كالعلاج بالأسبرين".

* حصلت على منحة دراسية لدراسة الذرة في الولايات المتحدة عام (1371هـ= 1951م) بجامعة كاليفورنيا، وأظهرت نبوغا منقطع النظير في أبحاثها العلمية، وسمح لها بزيارة معمل الذرة السرية في الولايات المتحدة، وتلقت عروضا لتحصل على الجنسية الأمريكية، وتبقى في الولايات المتحدة، ولكنها رفضت ذلك، وأكدت أنها سوف تعود إلى مصر.

* كان لسميرة موسى مشاركة في الشأن العام في مصر، فلم تكن حبيسة المعامل فشاركت في مظاهرات الطلبة عام (1351هـ=1932م) وساهمت في مشروع القرش لإقامة مصنع وطني لإنتاج الطرابيش، وشاركت في جمعية الطلبة للثقافة العامة التي هدفت إلى محو الأمية في الريف، وكانت عضوة في جمعية النهضة الاجتماعية وجمعية إنقاذ الطفولة المشردة.

* توفيت سميرة موسى في حادث سيارة غامض في الولايات المتحدة في (13 من ذي القعدة 1371هـ= 5 من أغسطس 1952م) وكان عمرها 35 عاما.


منقول

عبدالغفور الخطيب
17-12-2005, 02:33 AM
أورنجزيب.. بين التشويه والإجلال

(في ذكرى مولده: 15 من ذي القعدة 1028هـ)



أصيب الملك "شاه جهان" أحد السلاطين العظام لدولة المغول الإسلامية في الهند بمرض عضال أقعده عن مباشرة الحكم سنة (1068هـ = 1657م) فاستدعى "داراشكوه" أكبر أبنائه لينهض بشئون الدولة ويصرّف أمورها، فلما أمسك بزمام الحكم أخفى نبأ مرض أبيه عن إخوته الثلاثة: أورنجزيب، ومراد، وشجاع، وكان كل منهم يحكم ولاية من مملكة أبيهم، فثاروا على أخيهم وتجهزوا لإقصائه عن الحكم، فلما أفاق أبوهم من مرضه ساءه ما فعلوه، وأرسل إليهم ينصحهم بالهدوء، غير أنهم لم يلتزموا بالنصيحة، وأفقد بريق السلطان رشدهم ولبهم، فاحتكموا إلى السيف، ودارت بينهم عدة معارك أشعل ضراوتها الرغبة في الحكم والانفراد بالسلطة ولو كان ثمن ذلك آلاف القتلى من المسلمين، وتقطيع أواصر الرحم وصلة الدم بينهم، وانتهت هذه الفتنة بانتصار أورنجزيب ودخوله مدينة أكرا عاصمة الدولة، فأرسل إليه أبوه المريض يهنئه بالنصر وبعث له بسيف مرصّع بالجواهر ونقش عليه اللقب الذي منحه إياه وهو لقب "عالمكير" أي آخذ العالم وسيده.

ولما استقر الأمر لأورنجزيب أمسك بزمام الحكم واستبد بالسلطة دون أبيه الذي وضعه في القلعة، وأحاطه بكل أنواع التقدير، دون أن يكون له يد في مباشرة الدولة، وشاء الله أن تطول مدة مكثه في هذه القلعة، فظل حبيس المرض والاعتقال ثماني سنوات حتى قضى نحبه، غير أن انتصار أورنجزيب ودخوله إلى العاصمة لم يسلس له الحكم، وعاود إخوته منازعته ولم يدينوا له بالخضوع والطاعة، وقضى عامين في حروب معهم، حتى نجح في القضاء على خطرهم والانفراد بالحكم دون منازع، وأقام لذلك احتفالاً بجلوسه على العرش وإعلان نفسه ملكًا خلفًا لأبيه وذلك في (رمضان 1096هـ = 1659م).

المولد والنشأة

ولد أورنجزيب في بلدة "دوحد" في كجرات بالهند في (15 من ذي القعدة 1028هـ = 24 من أكتوبر 1619م)، ونشأ في بيت جاه وسلطان، فأبوه شاه جهان أحد سلاطين دولة الهند العظام، وأمه "أرجمند بانو" المعروفة باسم "ممتاز محل" صاحبة مقبرة "تاج محل"، إحدى روائع الفن المعماري في العالم، وبلغ من وفاء شاه جهان لهذه السيدة النبيلة أن عزف عن الزواج بغيرها بعد وفاتها على الرغم من امتداد حياته من بعدها خمسة وثلاثين عاما، وأقام لها هذه التحفة المعمارية التي دفنت فيها.

وقد عني شاه جهان بتربية ابنه تربية إسلامية على يد كبار العلماء، حتى برع في كثير من العلوم الإسلامية وتبحر فيها، وأتقن الفارسية والعربية والتركية، وشب متمسكًا بالإسلام حريصًا على الالتزام به، غيورًا عليه، وصاحب تلك الروح الفتية خبرة إدارية وعسكرية اكتسبها من خوضه المعارك مع أبيه، وتوليه شئون بعض الولايات، فلما تولى الحكم كان قد نضجت خبراته واستوت ملكاته الإدارية، فظهر أثر ذلك على الفور، وقدم لدولته على طول عمره المديد ما يشهد على ذلك من قوة وإخلاص وعزيمة وصبر، وتطلع إلى المعالي والرقي.


إصلاح شئون الدولة

عمد أورنجزيب إلى شئون الدولة للنهوض بها بعد أن قضى على ثورة أخيه واستتب له الحكم، وكانت البلاد تعاني من آثار القحط الذي أصابها بسبب حروب الوراثة، وما نشأ عن ذلك من اضطراب في اقتصاد الدولة، فرفع كثيرًا من الضرائب التي أثقلت كاهل الناس، وشجعهم على زراعة الأراضي وعاونهم على إصلاح البور منها.

وأظهر أورنجزيب تمسكه بالإسلام والتزامه بشرائعه، فأبطل الاحتفال بالأعياد الوثنية مثل عيد النيروز، ومنع عادة تقبيل الأرض بين يديه والانحناء له، كما منع دخول الخمر إلى بلاده، وصرف أهل الموسيقى والغناء عن بلاطه، وأمر بتعمير المساجد ومدها بالعلماء والوعاظ، وأجرى الرواتب عليهم وعلى طلابهم، وعني بإقامة نظام الحسبة ودعمه بما يكفل قيامه بوظيفته من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت هذه السياسة ضرورية لإنقاذ الدولة مما أصابها من عوامل الضعف والتفكك، وإصلاح أحوال المسلمين بعد أن ساد بينهم منذ عهد السلطان "أكبر" تهاون شديد في أمور العقيدة.

واتبع أورنجزيب سياسة متشددة مع الهندوس فأعاد فرض الجزية عليهم، وكان السلطان الهندي "أكبر" قد ألغاها عنهم، متمشيًا مع سياسته التي أبعدها عن دائرة الدين. وفي الوقت نفسه تمتع الهندوس مع المسلمين بإلغاء الضرائب عليهم، كما أبعد طائفة كبيرة من الهندوس عن المناصب الرفيعة والوظائف الكبرى في دولته.

القضاء على الفتن والثورات

ولم تخل حياة السلطان أورنجزيب من المتاعب والحروب بل كانت حياته سلسلة مع المعارك والغزوات يقودها بنفسه أحيانًا أو يرسل أحد قادته بجيوشه تارة أخرى، حتى نجح في إقرار السلام في سلطنته الواسعة، فقضى على فتن البرتغاليين في المناطق الشرقية، وعلى ثورات قبائل البطهان والأفغان التي كانت تغير على حدود الهند الشمالية، وسير جيوشه إلى "قندهار" و"بدخشان" لهذا الغرض.

وثار عليه الهندوس وانضم إليهم طائفة الستناميين وهم متصوفة الهندوس، والراجبوتيون، ولم يتغلب على هذه الثورات إلا بعد حروب طويلة وخسائر فادحة، وطالت الحروب بينه وبين جماعة "المرهتها" وهي جماعة من الطبقات الدنيا في المجتمع الهندي يقودها "شيواجي بن شاهجي"، وكانت تسعى إلى إنشاء ما أسمته "مهاراشترا" أي المملكة الهندية الكبرى، وكان مقامها في الدكن، وظل أورنجزيب يحاربها عشرين عامًا، ويرسل الجيوش إلى أماكن نفوذها وثوراتها حتى ألحق بها خسائر فادحة، بعد أن أثارت القلاقل وخربت القرى وهدمت المساجد، حتى نجح في القضاء عليها سنة (1097هـ=1686م)، واسترد منها بيشاور، واستولى على "راج كره" عاصمة دولة المرهتها.

وبانتهاء هذه الفتنة وما سبقها من ثورات وقلاقل نجح السلطان أورنجزيب في إحكام قبضته على شبه القارة الهندية بعد جهاد دام ستة وعشرين عامًا.



علاقاته مع الإنجليز

كان الإنجليز في عداء مع المرهتها فاستعان أورنجزيب بهم في حروبه معهم، وكافأهم على ذلك بفتح وكالات تجارية في الهند تشرف على مراكزهم التجارية، واستغل الإنجليز هذه السماحة فمدوا نفوذهم إلى بومباي بالساحل الغربي، وعمدوا إلى مناهضة الدولة، فاستولى أورنجزيب على مراكزهم وأموالهم، لكنه تراجع وسمح لهم بالعودة؛ نظرًا لما كانت تجبيه الدولة منهم من رسوم، فأنشئوا مركزًا صغيرًا عند قرية تسمى "كلكتا"، وأخذت هذه القرية تتسع حتى أصبحت عاصمة الإمبراطورية الهندية البريطانية قبل انتقال العاصمة إلى "دلهي". ووحد الإنجليز جهودهم التجارية على ساحل الهند في شركة واحدة هي شركة الهند الشرقية، وخلال نصف قرن حرصوا على البعد عن التدخل في أمور الدولة الداخلية حتى ثبتت أقدامهم في البلاد.

ولم يكن يدري السلطان بما أقدم عليه من سماحة وتساهل مع الإنجليز أنه يمهد الطريق لهم للاستيلاء على الهند جملة، وهم الذين لم يتورعوا عن أحط السبل وأدناها للاستيلاء على هذه البلاد وتحقيق أطماعهم.

إسهاماته الحضارية

تميز عهد أورنجزيب بإضفاء الصبغة الإسلامية على شئون الحياة، حيث كان مسلمًا مخلصًا، ملتزمًا بأحكام الإسلام، عني بإقامة المساجد الكبيرة، ولا يزال المسجد الذي بناه في لاهور المعروف بـ"مسجد بادشاه" قائمًا حتى اليوم شاهدا على حضارة عصره، وازدهار دولته، ولم يكتف بإنشاء المساجد بل عمرها بالعلماء وطلبة العلم، والخطباء والوعاظ، وازدهر التعليم في عهده، فكثرت المدارس على نحو لم يسبق له مثيل من قبل، وأنشأ دورا للعجزة والمستشفيات وأقام الحمامات والاستراحات لأبناء السبيل.

وعرف أورنجزيب إلى جانب مقدرته الحربية اشتغاله بالعلم، فتحت إشرافه وبأمره ألّفت الهند موسوعة قيمة في الفقه الحنفي عرفت باسم "الفتاوى الهندية" أو العالمكيرية قام بإعدادها نخبة من كبار الفقهاء الأحناف، ولم يمض على ظهورها أكثر من قرن حتى طبعت بمصر سنة (1282هـ=1865م) وبحاشيتها كتابان من أهم المصادر التي اعتمدت عليها، وهما: الفتاوى الخانية، والفتاوى البزازية.

أورنجزيب في التاريخ

ينظر المسلمون إلى هذا السلطان نظرة إجلال وتقدير؛ لجليل أعماله والتزامه قبل غيره بشرائع الإسلام، وحرصه على نشر الإسلام، وقد جر عليه هذا حقد المؤرخين الأوروبيين والهنود فرموه بالتعصب والبعد عن السماحة، نظرًا لجهاده الطويل ضد طوائف الهندوس، وهذا الاتهام غير صحيح؛ لأنه لم يحارب تلك الطوائف إلا لخروجها على النظام وإثارتها للفتن والقلاقل لا ليرغمها على التخلي عن عقائدها، وكما حاربها وقاتلها قاتل غيرها من المسلمين لخروجهم عن طاعته وإعلانهم التمرد والعصيان، بل إنه قاتل إخوته من أجل الاستقرار.

وإذا كان قد اتبع سياسة متشددة مع الهندوس وأعفى كثيرا منهم من مناصبهم، فالمعروف أنه استعان بهم وبالراجبوت والمرهتها في كثير من المناصب المهمة، بل إن بعض قادة جيوشه كانوا من الهندوس، ولو كان متعصبًا لهدم كثيرًا من المعابد القديمة في الهند.

لكن سعي أورنجزيب إلى جعل الهند وحدة إسلامية واتباع سياسة ملتزمة بتعاليم الإسلام، وفرض الجزية على غير المسلمين هو الذي خلق له هذه المتاعب، وألّب عليه هذه القوى، فقابلها بعزيمة وإيمان حتى فرض سيطرته على شبه القارة الهندية، غير أن هذا البناء الذي أقامه لم يجد من حلفائه من يحافظ عليه ويقويه، فضعف وانهار، ووقع في قبضه الإنجليز الذين كانوا ينتظرون هذه الفرصة.

وفاته

يذكر لأورنجزيب أنه عين في كل ولاية نائبًا له، وأعلن في الناس أنه "من كان له حق على السلطان فليرفعه إلى النائب الذي يرفعه إليه" وخصص موظفين يكتبون كل ما يقع من أحوال رعاياه ويرفعونها إليه، وأبطل عادة تقديم الهدايا إليه كما كان يفعل من قبل مع أسلافه، وكان يجلس للناس ثلاث مرات يوميًا دون حاجب يسمع شكاواهم.

وكان يحيا حياة زاهدة متقشفة، فقضى على الأبهة والفخامة التي كانت تحيط بالملك في قصره، وألغى المبالغات المخالفة للشرع في استقبال السلطان وتحيته، واكتفى بتحية الإسلام، وبلغ من تقواه أنه حين حضرته الوفاة أوصى بأن يُدفن في أقرب مقابر للمسلمين وألا يعدو ثمن كفنه خمس روبيات، وتوفي السلطان في (28 من ذي القعدة 1118 هـ= 20 من فبراير 1707م) بعد أن حكم 52 سنة، تاركًا ذكرى عطره لحاكم مسلم لم تشغله دنياه وحروبه المتوالية عن دينه وآخرته، فكان إمبراطورًا لم تشهد الهند مثله في اتساع ملكه وصلاح خلقه، وحسن سيرته وسريرته.

منقول

عبدالغفور الخطيب
18-12-2005, 02:15 AM
قطز.. قهر المغول وطعنه الرفاق

(في ذكرى وفاته: 16 من ذي القعدة 658هـ)


كان المشهد الأخير من قصة بطل معركة عين جالوت حزينا مثيرا للشجن والتأمل، فبينما كان السلطان المظفر سيف الدين قطز في طريقه إلى القاهرة التي كانت تنتظره بالزينات وتستعد لاستقباله بما يليق، كان القدر يخفي له مؤامرة نفذها شركاؤه في النصر الذين استكثروا عليه أن يرى نشوة النصر في عيون مستقبليه، ويستشعر عظمة ما صنع لأمّته، فلقي حتفه على يد بيبرس في الصالحية في (16 من ذي القعدة 658هـ = 23 من أكتوبر 1260م). ويبدو للناظر في حوليات التاريخ التي احتفظت بتفاصيل حياة هذا البطل أنه قد جاء لأداء مهمة عظيمة ومحددة، فما إن أداها على خير وجه حتى توارى عن مسرح التاريخ بعد أن خطف الأبصار وجذب الانتباه إليه على قِصر دوره التاريخي، لكنه كان عظيما وباقيا، فاحتل مكانته بين كبار القادة وأصحاب المعارك الكبرى.

والتاريخ لا يعتد بحساب الأزمان والأيام، وإنما يعتد بحجم التأثير الذي يتركه الرجل وإن كانت حياته قصيرة؛ فكثير من خلفاء المسلمين وحكامهم أمضوا عشرات السنين دون أن يلتفت إليهم التاريخ أو ترتبط حياتهم بوجدان الناس ومشاعرهم، والدليل على ذلك أن عمر بن عبد العزيز تبوأ مكانته المعروفة في التاريخ بسنتين ونصف قضاهما في الحكم، وبقي ذكره حيا في القلوب، وعنوانا للعدل والإنصاف.

من الرق إلى الإمارة

تروي المصادر التاريخية أن الاسم الأصلي لسيف الدين قطز هو "محمود بن ممدود"، وأنه ابن أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه الذي تصدى بعد أبيه لهجمات المغول، وحقق عدة انتصارات عليهم، واسترد منهم بعض المدن التي استولوا عليها، لكنه لم يجد عونًا من الدولة العباسية، فتركته يصارعهم دون أن تمد إليه يدًا، حتى نجحت جحافل المغول سنة (628هـ = 1231م) في القضاء على دولته التي كانت تقع في إقليم كرمان الحالي في جنوبي إيران، ثم لقي حتفه وحيدًا شريدًا على يد أحد الأكراد.

كان قطز من بين الأطفال الذين حملهم المغول إلى دمشق وباعوهم إلى تجار الرقيق، ومضت حياته مثل غيره من آلاف المماليك الذين حملت مواهب بعضهم إلى القمة وتولي السلطة، أو قد تقصر مواهبهم فتبلغ بهم إلى أمير خمسة، أو تعلو قليلاً فيصبح أمير طبلخانة.

وتقص علينا المصادر التاريخية أن قطز كان مملوكًا في "دمشق" ضمن مماليك ابن الزعيم، ثم انتقل إلى القاهرة، وأصبح من جملة مماليك عز الدين أيبك التركماني، وترقى عنده حتى صار أكبر مماليكه وأحبهم إليه وأقربهم إلى قلبه.

ظهوره على مسرح الأحداث

بعد نهاية الحكم الأيوبي في مصر اتفقت كلمة المماليك على اختيار شجرة الدر سلطانة للبلاد، في سابقة لم تحدث في التاريخ الإسلامي إلا نادرًا، غير أن الظروف لم تكن مواتية لاستمرارها في السلطنة، على الرغم مما أبدته من مهارة وحزم في إدارة شؤون الدولة، فلم تجد بُدًّا من التنازل عن الحكم للأمير "عز الدين أيبك" أتابك العسكر الذي تزوجته وتلقب باسم الملك المعز.

ولم تسلس القيادة للسلطان الجديد في ظل ازدياد نفوذ زعيمهم "أقطاي" الذي تمادى في الاستخفاف بالملك المعز، ولا يظهر في مكان إلا وحوله رجاله ومماليكه في أبهة عظيمة كأنه ملك متوج، وبالغ في تحقيره للسلطان فلا يسميه إلا "أيبك"، وتطلعت نفسه إلى السلطنة، فاستشعر السلطان الخوف على عرشه بعد أن اشتد بغي أقطاي وكثرت مظالمه واستهانته بالرعية، فعزم على التخلص منه، وأعد خطة لذلك اشترك في تنفيذها أكبر مماليكه (قطز)، فكان ذلك أول ظهور له على صفحات التاريخ. ومن تلك اللحظة بدأ يشق طريقه نحو المقدمة.

الطريق إلى السلطنة

هيأت الأقدار الطريق لقطز لكي يصل إلى الحكم، فلم يكد يهنأ الملك المعز بالتخلص من غريمه أيبك ويقبض على بعض المماليك البحرية ويجبر بعضهم على الفرار من مصر، حتى دب صراع بينه وبين زوجته شجرة الدر، انتهى بمقتلهما، وتولى "نور الدين علي بن المعز أيبك" السلطنة، لكنه كان صبيًا يلهو ولا يصلح لمباشرة الحكم وتحمل المسئولية. وأصبحت مقاليد البلاد في يد "سيف الدين قطز" الذي بدأ نجمه في الظهور، وقام بنشر الأمن في البلاد والقضاء على المحاولات الفاشلة للأيوبيين لاسترداد مصر من أيدي المماليك، فزاد ذلك من قوة إحكامه على البلاد.

ثم جاءت اللحظة الحاسمة ليقوم قطز بما ادخره له القدر من الشرف العظيم وتخليد اسمه بين كبار القادة والفاتحين، فكانت الأخبار السيئة تتوالى على القاهرة بسقوط بغداد وقتل الخليفة المستعصم بالله، وتحرك جحافل المغول نحو الشام التي تساقطت مدنها الكبرى في يد هولاكو. كانت هذه الأنباء تزيد القلق في مصر التي كانت تخشى عاقبة مصير الشام، في الوقت الذي كان فيه السلطان الصبي غافلاً، يقضي وقته في ركوب الحمير والتنزه في القلعة، ويلعب بالحمام مع الخدم!.

الاجتماع المصيري

أفاق الملك الناصر صاحب حلب ودمشق على الحقيقة المرة، وأدرك أهداف المغول، وهو الذي راسلهم ليضع يده في أيديهم ليساعدوه في استرداد مصر، فبعث بـ"ابن العديم" المؤرخ المعروف إلى مصر ليستنجد بعساكرها. فلما قدم إلى القاهرة عقد مجلسًا بالقلعة حضره السلطان الصبي وكبار أهل الرأي من الفقهاء والقضاة وفي مقدمتهم الشيخ "العز بن عبد السلام"، فسأله الحاضرون من الأمراء عن أخذ الأموال من الناس لإنفاقها على الجنود، فأجابهم بقوله: "إذ لم يبق شيء في بيت المال، وأنفقتم ما عندكم من الذهب والنفائس، وساويتم العامة في الملابس سوى آلات الحرب، ولم يبق للجندي إلا فرسه التي يركبها – ساغ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء"، واتفق الحاضرون على ضرورة المقاومة والجهاد.

لم يعد أمام قطز بعد أن ازداد خطر المغول، وأصبحوا على مقربة من مصر سوى خلع السلطان الصبي، فانتهز فرصة خروج الأمراء إلى الصيد في منطقة العباسية بالشرقية، وقبض على الملك المنصور واعتقله بالقلعة هو وأسرته في (24 من ذي القعدة 657هـ = 12 من نوفمبر 1259م)، وأعلن نفسه سلطانًا، وبدأ في ترتيب أوضاع السلطنة، واسترضى كبار الأمراء بأنه لم يقدم على خلع السلطان الصبي إلا لقتال المغول؛ لأن هذا الأمر لا يصلح بغير سلطان قوي، ومنّاهم بأن الأمر لهم يختارون من يشاءون بعد تحقيق النصر على العدو، وبدأ في اختيار أركان دولته وتوطيد دعائم حكمه استعدادًا للقاء المغول.

قتل رسل المغول

وبعد توليه السلطنة بقليل جاء رسل المغول يحملون رسائل التهديد والوعيد، ولم يكن أمام قطز: إما التسليم -مثلما فعل غيره من حكام الشام- أو النهوض بمسئوليته التاريخية تجاه هذا الخطر الداهم الذي ألقى الفزع والهلع في القلوب، فجمع قطز الأمراء وشاورهم في الأمر فاتفقوا على قتل رسل المغول؛ قطعًا لتردد البعض في الخروج للقتال، وإشعارا للعدو بالقوة والتصميم على القتال، وبعد قتل الرسل بدأ السلطان في تحليف الأمراء الذين اختارهم، وأمر بأن يخرج الجيش إلى الصالحية، ونودي في القاهرة وسائر إقليم مصر بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام.

وفي هذه الأثناء كان الأمير بيبرس البندقداري قد قدم إلى مصر بعد أن طلب الأمان من الملك المظفر قطز، ووضع نفسه تحت تصرفه في جهاده ضد المغول، فأنزله السلطان بدار الوزارة، وأحسن معاملته، وأقطعه قليوب ومناطق الريف المجاورة لها.

اللقاء الحاسم في عين جالوت

سار السلطان قطز بجيوشه بعد أن هيأها للجهاد، وبذل الأرواح في سبيل نصرة الله؛ فوصل غزة، ثم اتخذ طريق الساحل متجهًا نحو بحيرة طبرية، والتقى بالمغول، وكانوا تحت قيادة "كيتوبوقا" (كتبغا) في معركة فاصلة في صباح يوم الجمعة الموافق (25 من رمضان 658هـ = 3 من سبتمبر 1260) عند عين جالوت من أرض فلسطين بين بيسان ونابلس، وانتصر المسلمون انتصارا هائلاً بعد أن تردد النصر بين الفريقين، لكن صيحة السلطان التي عمت أرجاء المكان "وا إسلاماه" كان لها فعل السحر، فثبتت القلوب وصبر الرجال، حتى جاء النصر وزهق الباطل.

وأعاد هذا الظفر الثقة في نفوس المسلمين بعدما ضاعت تحت سنابك الخيل، وظن الناس أن المغول قوم لا يُقهرون، وكان نقطة تحول في الصراع المغولي الإسلامي، فلأول مرة منذ وقت طويل يلقى المغول هزيمة ساحقة أوقفت زحفهم، وأنقذت العالم الإسلامي والحضارة الإنسانية من خطر محقق.

وكان من شأن هذا النصر أن فر المغول من دمشق وبقية بلاد الشام إلى ما وراء نهر الفرات، ودخل السلطان قطز دمشق في آخر شهر رمضان وأقام بقلعتها، وفي غضون أسابيع قليلة تمكن من السيطرة على سائر بلاد الشام، وأقيمت له الخطبة في مساجد المدن الكبرى حتى حلب ومدن الفرات في أعالي بلاد الشام، وتمكن من إعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع البلاد، وبعد أن اطمأن إلى ما فعل قرر العودة إلى مصر في (26 من شوال 658هـ = 4 من أكتوبر 1260م).

النهاية الأليمة

ولما بلغ السلطان قطز إلى بلدة "القصير" من أرض الشرقية بمصر بقي بها مع بعض خواصه، على حين رحل بقية الجيش إلى الصالحية، وضربت للسلطان خيمته، وهناك دبرت مؤامرة لقتله نفذها شركاؤه في النصر، وكان الأمير بيبرس قد بدأ يتنكر للسلطان ويضمر له السوء، وأشعل زملاؤه نار الحقد في قلبه، فعزم على قتل السلطان، ووجد منهم عونًا ومؤازرة، فانتهزوا فرصة تعقب السلطان لأرنب يريد صيده، فابتعد عن حرسه ورجاله، فتعقبه المتآمرون حتى لم يبق معه غيرهم، وعندئذ تقدم بيبرس ليطلب من السلطان امرأة من سبى المغول فأجابه إلى ما طلب، ثم تقدم بيبرس ليقبل يد السلطان شاكرًا فضله، وكان ذلك إشارة بينه وبين الأمراء، ولم يكد السلطان قطز يمد يده حتى قبض عليها بيبرس بشدة ليحول بينه وبين الحركة، في حين هوى عليه بقية الأمراء بسيوفهم حتى أجهزوا عليه، وانتهت بذلك حياة بطل عين جالوت.

وذكر المؤرخون أسبابًا متعددة لإقدام الأمير بيبرس وزملائه على هذه الفعلة الشنعاء، فيقولون: إن بيبرس طلب من السلطان قطز أن يوليه نيابة حلب فلم يوافق، فأضمر ذلك في نفسه. ويذهب بعضهم إلى أن وعيد السلطان لهم وتهديدهم بعد أن حقق النصر وثبّت أقدامه في السلطة كان سببًا في إضمارهم السوء له وعزمهم على التخلص منه قبل أن يتخلص هو منهم، وأيًا ما كانت الأسباب فإن السلطان لقي حتفه بيد الغدر والاغتيال، وقُتل وهو يحمل فوق رأسه أكاليل النصر.


منقول

عبدالغفور الخطيب
19-12-2005, 02:45 AM
بيبرس.. القائد الفذ

(ذكرى توليه الحكم: 17 من ذي القعدة 658هـ)



بعد مقتل السلطان " قطز" اتفق الأمراء المماليك على اختيار بيبرس سلطانًا على مصر، فدخل القاهرة، وجلس في إيوان القلعة في (17 من ذي القعدة 658هـ= 24 من أكتوبر 1260م) فكان ذلك إيذانًا ببدء فترة التأسيس والاستقرار لدولة المماليك البحرية بعد فترة التحول التي شهدتها، بعد قضائها على الحكم الأيوبي، وكانت فترة قلقة شهدت حكم خمس سلاطين قبل أن يلي بيبرس الحكم، وكان عليه أن يبدأ عهدًا جديدًا من الثبات والاستقرار بعد أن أصبح بيده مقاليد الأمور في مصر والشام.

وقبل أن يلي بيبرس السلطنة كانت له صفحة بيضاء في معركة المنصورة المعروفة حيث كان من أبطالها ومن صانعي النصر فيها، وكانت له يد لا تنسى في معركة عين جالوت، فتولى السلطنة وسجله حافل بالبطولات والأمجاد.

وبيبرس من أصل تركي ولد في صحراء القبجاق سنة (620هـ= 1223م) ووقع في أسر المغول وهو في الرابعة عشرة من عمره، وبيع في أسوق الرقيق بدمشق، فاشتراه الأمير علاء الدين إيدكين الصالحي البُنْدقداري، فسمي "بيبرس البندقداري" نسبة إليه، ثم انتقل إلى خدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب، فأعتقه وجعله من جملة مماليكه، ثم ولاه رئاسة إحدى فرق حرسه الخاصة، ثم رقاه قائدًا لفرقة المماليك لما رأى من شجاعته وفروسيته.

ولما تخلص الملك عز الدين أيبك من غريمة ومنافسه "فارس الدين أقطاي" زعيم المماليك البحرية، فر بيبرس ومن معه من المماليك بلاد الشام، وظل متنقلا بين دمشق والكرك حتى تولى سيف الدين قطز الحكم سنة (658هـ-1260م) فبعث إليه يطلب منه الأمان والعودة إلى مصر، فأجابه إلى طلبه، وأحسن استقباله وأنزله دار الوزارة وأقطعه قليوب وما حولها. واشترك مع قطز في معركة عين جالوت سنة (658هـ= 1260م) وأبلى فيها بلاء حسنًا، وكان من أبطالها المعدودين.

وبدلا من أن تسمو روح الجهاد بنفسه وتصبغ قلبه بالسماحة واللطف، تطلعت نفسه إلى السلطة والميل إلى الثأر، فامتلأ فؤاده بالحقد من صديقه القديم السلطان سيف الدين قطز، وحمل في نفسه رفض قطز إعطاءه ولاية حلب وعد ذلك انتقاصًا من قدره وهضمًا لدوره في عين جالوت، ووجد من زملائه من يزيده اشتعالا فدبر معهم مؤامرة للتخلص من السلطان وهو في طريقه إلى القاهرة، وكان لهم ما أرادوا وجلس القاتل على عرش مصر قبل أن يجف دم السلطان المقتول، ودون أن يجد أحد من أمراء المماليك غضاضة في ذلك، وتلقب السلطان الجديد بالملك الظاهر.

تولي بيبرس السلطنة

ولم يكد بيبرس يستقر في السلطنة حتى بدأ عهدا جديدًا وصفحة مشرقة في تاريخ مصر، وبدأ في التقرب إلى الخاصة والعامة، فقرب إليه كبار الأمراء ورجال الدولة، ومنحهم الألقاب والإقطاعيات الواسعة، ووجه عنايته إلى ترتيب شئون الدولة، وتخفيف الأعباء على الأهالي، فأعفاهم من الضرائب، وأطلق المحبوسين من السجون، وجدّ في استرضاء رعيته، وأرسل إلى الأقطار المختلفة ليقرّ التابعون لدولته بسيادته وحكمه.

غير أن الأمور لم تتم لبيبرس بسهولة ويسر، فتدعيم سلطان الدول يحتاج إلى مزيد من العمل، وقيادة تجمع بين السياسة والشدة والحزم واللين، وأعداء الدولة في الخارج يتربصون بها الدوائر، وحُكمه يحتاج إلى سند شرعي يستند إليه.

بناء الجبهة الداخلية


بدأ بيبرس عهده بالعناية بدولته وترسيخ دعائمها والقضاء على الفتن والثورات التي اشتعلت ضده، ففي السنة الأولى من حكمه نشبت ثورتان عارمتان، إحداهما بدمشق والأخرى بالقاهرة، أما الأولى فقام بها الأمير "علم الدين سنجر الحلبي" نائب دمشق احتجاجًا على مقتل سيف الدين قطز، ورفضا للإقرار بسلطنة بيبرس، ولم يكتف بالتمرد والعصيان بل أعلن نفسه سلطانًا وحاول استمالة بعض أمراء الشام إلى جانبه، لكنه لم يجد معاونًا، ولجأ بيبرس معه إلى الإقناع والمسالمة للدخول في طاعته وترك العصيان، فلما لم تفلح معه الطرق السلمية جرد إليه جيشًا أتى به إلى القاهرة مقرنًا في الأصفاد في (16 من صفر 659هـ= 1260م).

أما الثورة الثانية فقادها رجل شيعي يعرف بالكوراني أظهر الورع والزهد، وسكن قبة جبل المقطم، واستمال بعض الشيعة من السودان، وحرّضهم على التمرد على السلطة الجديدة؛ فثاروا في شوارع القاهرة في أواخر سنة ( 658هـ= 1260م)، واستولوا على السلاح من حوانيت السيوفيين، واقتحموا إسطبلات الجنود، وأخذوا منها الخيول، لكن بيبرس أخمد الثورة بمنتهى السرعة والحزم، وأمر بصلب الكوراني وغيره من زعماء الفتنة.

إحياء الخلافة العباسية

وكانت الخطوة الثانية التي خطاها بيبرس بعد أن استتب له الأمن في البلاد، وفرض سلطته، هي إحياء الخلافة العباسية التي سقطت مع سقوط بغداد في يد هولاكو في ( 4 من صفر 656هـ= 10 من فبراير 1258م) ولم يكن سقوطها أمرًا هينًا على المسلمين، وخيل لهم أن العالم على وشك الانتهاء، وأن الساعة آتية عما قريب، وذلك لهول المصيبة التي وقعت بهم، وإحساسهم بأنهم أصبحوا بدون خليفة، وهو أمر لم يعتادوه منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم).

ونجح بيبرس في استقدام أحد الناجين من أسرة العباسيين هو "أبو العباس أحمد"، وعقد في القلعة مجلسًا عامًا في (9 من المحرم 661هـ= 22 من نوفمبر 1262م) حضره قاضي القضاة وكبار رجال الدولة، وقرئ نسب الخليفة على الحاضرين بعدما ثبت عند القاضي، ولقب بالحاكم بأمر الله، وبايعه بيبرس على العمل بكتاب الله وسنة رسوله. ولما تمت البيعة أقبل الخليفة على بيبرس وقلّده أمور البلاد والعباد، وبذلك أصبح هو صاحب السلطة واليد المطلقة في إدارة شئون البلاد. ولم يكن للخليفة العباسي حول ولا قوة، بل صار واجهة دينية شرعية للسلطان المملوكي، ليس له سوى الدعاء على المنابر في صلاة الجمعة.. وبإقامة الخلافة العباسية في القاهرة يكون بيبرس قد تقدم خطوات واسعة في سبيل تأسيس الدولة المملوكية.

وأتبع بيبرس هذه الخطوة بأن مد نفوذه وسلطانه إلى الحجاز حيث يوجد الحرمان الشريفان، وتخلص من الملك "المغيث عمر بن العادل الأيوبي" حاكم الكرك، الذي كان يناوئ السلطان بيبرس، ويرى في المماليك دخلاء اغتصبوا العرش الأيوبي في مصر والشام دون وجه حق، فعمل على منازعتهم، وتطور الأمر إلى به الحد أن راسل هولاكو زعيم المغول الإيلخانيين وحرضه على غزو مصر، لكن بيبرس حين علم بهذه المكاتبات قبض عليه وقتله في سنة (622هـ= 1263م) واستولى على الكرك، وعين بها واليًا من قبله.

الجهاد في جبهتين


وبعد أن اطمأن بيبرس إلى تماسك جبهته الداخلية ولم يعد هناك ما يعكر صفو دولته اتجه ببصره إلى القوى الخارجية المتربصة بدولته، وتطلع إلى أن ينهض بمسئوليته في الدفاع عن الإسلام، ولم يكن هناك أشد خطرًا عليه من المغول والصليبيين، وقبل أن ينهض لعمله أعد العدة لذلك، فعقد معاهدات واتفاقيات مع القوى الدولية المعاصرة له، حيث سعى إلى التحالف مع الإمبراطورية البيزنطية، وعقد معاهدات مع "مانفرد بن فردريك الثاني" إمبراطور الدولة الرومانية، وأقام علاقات ودية مع "ألفونسو العاشر" ملك قشتالة الإسباني، حتى يضمن حياد هذه القوى حين يشن غاراته على الإمارات الصليبية في الشام، ويسترد ما في أيديهم من أراضي المسلمين.

واتبع بيبرس أيضا هذه السياسة في الجبهة الأخرى: جبهة المغول؛ حيث تحالف مع "بركة خان" زعيم القبيلة الذهبية المغولية وكان قد اعتنق الإسلام، وامتدت بلاده من تركستان شرقًا حتى شمال البحر الأسود غربًا، وهي التي تعرف ببلاد القفجاق. ولكي يزيد من قوة الرابطة بينه وبين بركة خان أمر بالدعاء له على منابر دولته، وتزوج من ابنته، وكان هذا الحلف موجهًا إلى عدوهما المشترك المتمثل في "دولة إيلخانات فارس" التي كان يحكمها هولاكو وأولاده، وكانت تشمل العراق وفارس.

وفي الوقت نفسه أعد لتحقيق هدفه جيشًا قويًا، وأسطولاً ضخمًا، وأعاد تحصين القلاع والحصون، ومدها بالذخيرة والأقوات، وأقام سلسلة من نقاط المراقبة لرصد نشاط العدو عرفت باسم المنائر، وأفسد الطرق والوديان المؤدية إلى الشام؛ كي لا يجد المغول في أثناء زحفهم ما يحتاجون إليه من أقوات أو أعلاف لدوابهم.

وأثمرت هذه السياسة الحازمة عن تحقيق انتصارات باهرة على الصليبيين، منذ أن بدأت حملاته الظافرة في سنة (663هـ = 1265م)، ففتح قيسارية، وأرسوف، وقلعة صفد، ويافا، ثم توج جهوده بفتح "إنطاكية" المدينة الحصينة التي ظلت رهينة الأسر الصليبي أكثر من قرن ونصف من الزمان، وذلك في (5 من رمضان 666هـ = 19 من مايو 1268م)، وكان سقوطها أعظم فتح حققه المسلمون على الصليبيين منذ معركة حطين سنة (583هـ = 1187م)، وسبق لنا أن تناولنا أحداث هذا الفتح العظيم في (5 من رمضان).

وعلى الجبهة الأخرى نجح السلطان بيبرس في الدفاع عن بلاده أمام هجمات المغول المتتالية، وفي تحقيق عدة انتصارات عليهم في "البيرة" و"حران". وعلى الرغم من إخفاق مغول فارس في توسيع دولتهم على حساب دولة المماليك فإنهم كانوا يعاودون الهجوم، حتى ألحق بهم بيبرس هزيمة ساحقة عند بلدة "أبلستين" بآسيا الصغرى سنة (675هـ = 1277م) وبذلك أمّن بيبرس حدود دولته من الجبهتين الشرقية والشمالية.

رجل الدولة والإصلاح

لم تشغل بيبرس حملاته الحربية الناجحة عن عنايته بتنظيم الأمور الإدارية، والقيام بكثير من الإصلاحات الداخلية، واستحداث بعض الوظائف الإدارية، والعناية بديوان الإنشاء عناية فائقة وكان يقوم بمثل ما تقوم به وزارة الخارجية الآن، وأنفق عليه الأموال الطائلة، وبلغ من دقته أن أخبار الشام كانت تصله مرتين في الأسبوع، وصار على علم بما يدور في دولته المترامية دون بطء أو تراخٍ.

وأدخل بيبرس تعديلات على النظام القضائي في مصر، حيث عين أربعة قضاة يمثلون المذاهب الأربعة، وأعاد الجامع الأزهر إلى ما كان عليه، وقام بترميمه وتعميره بعد الإهمال الذي لحقه في العصر الأيوبي.

وأقام بيبرس عددًا من المؤسسات التعليمية، فأنشأ المدرسة الظاهرية بالقاهرة سنة (660هـ = 1262م)، واستغرق بناؤها عامين، وجعل بها خزانة كتب كبيرة، وألحق بها مكتبًا لتعليم أيتام المسلمين القرآن، وأنشأ بدمشق مدرسة عرفت باسمه، وشرع في بنائها سنة (676هـ = 1277م)، ولا تزال هذه المدرسة قائمة في دمشق حتى الآن، وتضم مكتبة ضخمة تُعرف بالمكتبة الظاهرية.

وأنشأ في القاهرة جامعًا عظيمًا عرف باسم جامع الظاهر بيبرس سنة (665هـ = 1267م) ولا يزال قائمًا حتى اليوم، لكنه تعرض لإهمال شديد وبخاصة في فترة الاحتلال البريطاني لمصر، وكأن فتحه يثير في نفوس المصريين ذكرى البطولة والشجاعة التي كان عليها منشئ المسجد، فآثر الإنجليز السلامة وأغلقوا المسجد. وقد سُمي الحي الذي حوله بـ"حي الظاهر" نسبة إليه.

وأولى بيبرس عنايته بالزراعة فأنشأ مقاييس للنيل، وأقام الجسور، وحفر الترع، وأنشأ القناطر، واهتم بالصناعة وبخاصة ما يحتاج إليه الجيش من الملابس والآلات الحربية.

وامتدت يده إلى الحجاز، فأقام عدة إصلاحات بالحرم النبوي، وبنى بالمدينة مستشفى لأهلها، وجدد في الشام مسجد إبراهيم عليه السلام وقبة الصخرة وبيت المقدس.

ويذكر له أنه كان أول من جلس للمظالم من سلاطين المماليك، فأقام دار العدل سنة (661هـ = 1263م)، وخصص يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع يجلس فيهما للفصل في القضايا الكبيرة يحيط به قضاة المذاهب الأربعة، وكبار الموظفين.

وبعد حياة طويلة في الحكم دامت سبعة عشر عامًا توفي الظاهر بيبرس بعد أن تجاوز الخمسين في (28 من المحرم 676هـ = 2 من مايو 1277م) بعد أن أرسى دعائم دولة، وأقام حضارة ونظمًا، وخاض معارك كبرى للدفاع عن الإسلام، وتبوأ مكانة رفيعة في نفوس شعبه حتى نسج الخيال الشعبي سيرة عظيمة له عُرفت بسيرة الظاهر بيبرس جمعت بين الحقيقة والخيال، والواقع والأسطورة.

منقول

عبدالغفور الخطيب
21-12-2005, 02:31 AM
كشمير.. مأساة تغذيها الأطماع

(ذكرى حكومة كشمير: 19 من ذي القعدة 1366هـ)



تظل قضية كشمير العقبة الكئود في العلاقات الباكستانية ـ الهندية، والعامل الرئيسي في تفجير الصراع بين الدولتين الجارتين النوويتين، فهي قضية معقدة خلَّفها الاستعمار، وغذتها الأطماع الإقليمية، وكلما ازداد مرور الزمن عليها ازدادت تعقيدًا حتى ليخيل للدارس للعلاقات والتفاعلات السياسية في منطقة شبه القارة الهندية أن قضية كشمير تشبه إلى حد كبير مأساة فلسطين.

ولقضية كشمير على الساحة السياسية العالمية أهمية خاصة، حيث كانت سببا رئيسيا في توتر العلاقات بين الهند وباكستان، ووقعت بينهما اشتباكات حدودية، وما زالت الأزمة مشتعلة، والمخاوف والهواجس من حدوث مواجهة نووية ما زالت موجودة، أما حل القضية الكشميرية، وإنهاء تلك المأساة فما زال غائبًا، وهذا يدعونا إلى التعرف على جذور المشكلة.

جامو وكشمير

تتميز جامو وكشمير بجمال الطبيعية وسحرها، فهي مناطق جبلية غزيرة الأمطار تبلغ مساحتها حوالي (84471) ميلا مربعًا وتحدها الصين من الشرق والشمال الشرقي ، وباكستان من الغرب والجنوب الغربي، والهند من الجنوب، بالإضافة إلى اشتراكها في بعض الحدود مع روسيا في أفغانستان، وتوجد بها جبال قرقوم التي ترتفع أكثر من ثمانية آلاف متر، وجبال هيمالايا التي ترتفع أكثر من خمسة آلاف متر، وتمتد في الشمال الغربي منها جبال هندكوش، ونظرًا لجمال الطبيعة بها أُطلق عليها جنة الأرض، بل إن الإمبراطور المغولي "أكبر" قال عنها: "إنها جنة الأحلام.. ستكون حديقتي الخاصة"؛ لذلك بقيت كشمير هدفًا للغزاة من التتار والمقدونيين والمغول والهنود.

الإسلام

عرفت كشمير الإسلام في وقت متأخر عن غيرها من المناطق في شبة القارة الهندية، فبدأ دخول الإسلام إليها في القرن الخامس الهجري، عن طريق العلماء والدعاة من البلدان المجاورة، حيث حالت وعورة الطريق دون فتح السلطان محمود الغزنوي لها رغم أنه تغلب على كثير من أراضي الهند خلال فتوحاته.

وكانت البداية الحقيقية للوجود الإسلامي في كشمير في القرن الرابع عشر الميلادي عن طريق الداعية الشيخ "عبد الرحمن شرف الدين المعروف" بـ "بلبل شاه" الذي أمكنه إقناع إمبراطور كشمير "جياليورين تشان" البوذي من اعتناق الإسلام، فكان أول حاكم لكشمير ينضم إلى الإسلام مع جميع أسرته وأقربائه، وترتب على ذلك أن دخل في الإسلام أعداد كبيرة من الشعب، وتسمّى هذا الإمبراطور بصدر الدين، وصار المسلمون أغلبية في تلك المناطق، وأصبحت كشمير جزءًا من الإمبراطورية الإسلامية في الهند على مدى قرنين من الزمان، ثم حكمها الولاة الذين كانوا يعينون من قبل حكومة أفغانستان.

بريطانيا وأمريتسار

استمر حكم المسلمين لكشمير حتى عام (1255 هـ= 1839م) عندما استطاعت شركة الهند الشرقية الاستعمارية البريطانية من الدخول إلى تلك المنطقة والاستيلاء عليها، وعقدت صفقة غريبة في التاريخ مع أسرة "الدواغرا" الهندوسية عرفت باسم اتفاقية "أمريتسار"، باعت فيها بريطانيا تلك الولاية إلى تلك الأسرة لمدة مائة عامة مقابل (7.5) ملايين روبية، أي ما يعادل مليون ونصف المليون دولار، وكان مدة هذه الاتفاقية تنتهي عام (1366هـ= 1946م)؛ لذلك كان المفكر الكبير العلامة "أبو الأعلى المودودي" يقول: "إن رجال السياسة البريطانيين هم الذين أوجدوا قضية كشمير".

وتولى حكم الولاية المهراجا الهندوكي "غولاب سينغ"، وكانت تلك المرة الأولى التي تدخل فيها أغلبية مسلمة تحت حكم أقلية غير مسلمة منذ دخول الإسلام إلى الهند، وظل المسلمون طوال قرن من الزمان يتعرضون لصنوف شتى من الاضطهاد والظلم، فلم يسمح لهم بتولي الوظائف المدنية أو العسكرية، وفُرضت عليهم الضرائب الباهظة وفرضت عليهم قيود شديدة في أداء العبادات.

ويذكر التاريخ أن ذبح الأبقار كانت عقوبته الإعدام، واستمر هذا القانون مفروضًا حتى خفف سنة (1353هـ= 1934م) إلى السجن عشر سنوات مع الأشغال الشاقة وحرم على المسلمين حمل السلاح، كما أن الهندوكي إذا أسلم صودرت أملاكه على عكس المسلم إذا ارتد فإنه يجد فرصة ذهبية لحياة رغدة، ويذكر التاريخ أنه خلال القرن الذي حكمت فيه أسرة الدواغرا كشمير تولت الحكم فيها (28) حكومة لم يكن فيها مسلم واحد.

عودة الوعي

وهكذا عاش 80% من الشعب المسلم مضطهدًا من قلة حاكمة لا تزيد على 20%، وكان لهذا الأمر أثر بالغ في إحساس المسلمين بالمرارة والظلم؛ فأدى ذلك إلى ظهور انتفاضات للمسلمين في تلك المناطق، والمعروف أن المسلمين والهندوس في القارة الهندية تحالفوا معًا في معركة الاستقلال عن بريطانيا رغم التنافر والتناقض الديني، وبرزت الدعوات بتشكيل دولة للمسلمين في المناطق ذات الأغلبية المسلمة، وتأسست عام (1324هـ= 1906م) الجامعة الإسلامية التي أخذت تطالب باستقلال الهند بالتعاون مع حزب المؤتمر الهندي الذي كان يتزعمه غاندي، ومع التعصب الهندوسي بدأ حزب الجامعة الإسلامية يتبنى فكرة قيام دولة مستقلة منفصلة للمسلمين.

وفي كشمير اشتد اضطهاد الهنادكة للمسلمين، الذين اجتمعوا وأسسوا حزبًا عُرف باسم "المؤتمر الوطني الإسلامي" تحت زعامة محمد عبد الله، وضم الحزب بين صفوفه بعض الهندوس، وحضر جلسته الأولى سنة (1351هـ= 1932م) أربعون ألف شخص، غير أن هذا الحزب اعتبر فرعًا لحزب المؤتمر الهندي، وتم تشكيل حزب آخر عُرف باسم حزب "المؤتمر الإسلامي الكشميري" بزعامة "شودري غلام عباس"، الذي دعا من أول يوم عقد فيه اجتماع للحزب إلى إنقاذ كشمير من براثن المهراجا الهندوسي "هري سنغ"، وانضمامها إلى دولة باكستان (الأرض الطاهرة) عندما تنشأ.

ولما رأى الهندوس النجاح الذي حققه حزب المؤتمر الإسلامي والتجاوب الواسع له بين سكان الولاية، عملوا على تأسيس فروع لحزب المؤتمر الهندي في كشمير، وذلك بالتفاهم مع المهراجا "هري سينغ"، وذلك عام (1358هـ= 1939م)، وكان هدف هذا الحزب ضم الولاية إلى الهند.

كما عمل الهندوس على الوقيعة بين الحزبين الرئيسين للمسلمين، وهما: حزب المؤتمر الإسلامي، وحزب المؤتمر الوطني، وهو ما دفع الزعيم الكبير لمسلمي الهند ومؤسس دولة باكستان "محمد علي جناح" أن يقوم بزيارة لكشمير سنة (1363هـ= 1943م) لرأب الصدع بين هذين الحزبين والعمل على ضمهما معًا في حزب واحد كبير يشمل مسلمي كشمير، إلا أنه لم يتمكن من ذلك لرفض محمد عبد الله هذا الأمر، وكانت الحكومة الكشميرية تضطهد رجال حزب المؤتمر الإسلامي؛ فاعتقلت كثيرًا منهم، ورفضت نتائج الانتخابات التي أجريت عام (1347هـ= 1928م) في الولاية التي حصل فيها الحزب على أغلبية المقاعد، بل رفضت أوراق ترشيح أعضاء ذلك الحزب.

وفي عام (1365هـ= 1944م) قام المسلمون بثورة، وقاطع الحزبان الكبيران في الولاية المهراجا، فقبض على محمد عبد الله، وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، فأرسل له الزعيم الهندي نهرو محاميًا ليدافع عنه.

التقسيم والمذابح

وبعد مرور قرن على اتفاقية "أمريتسار" التي باعت فيها بريطانيا ولاية كشمير، أصدر البرلمان البريطاني قانون استقلال الهند، والمعروف أن الهند كانت تتقسم إبان الاحتلال البريطاني لها إلى قسمين أساسيين هما الإمارات والأقاليم، وكانت الأقاليم تخضع للحكم المباشر من البريطانيين، وعندما صدر إعلان تقسيم الهند إلى دولتين إحداهما مسلمة والأخرى غير مسلمة في (27 من رمضان 1366هـ=14 من أغسطس 1947م) أصبح محمد علي جناح أول رئيس للدولة الإسلامية الجديدة التي حملت اسم باكستان.

وأعطى قرار التقسيم الإمارات الحرية في أن تظل مستقلة أو تختار الانضمام إلى الهند أو باكستان، مع مراعاة الوضع الجغرافي والعوامل الاقتصادية والإستراتيجية، ثم رغبات الشعب، غير أن تطبيق هذا الأمر في الواقع كانت له بعض الاستثناءات الخطيرة، فمثلا ولايتا حيدر آباد وجوناكاد الواقعتان بالقرب من باكستان، كانتا ذات أغلبية هندوسية وإن كان حاكماهما من المسلمين، إلا أن أخطر هذه الاستثناءات كان إقليم كشمير الذي كان يسكنه في ذلك الوقت أربعة ملايين نسمة غالبيتهم من المسلمين وحاكمهم هندوسي.

واتفق البريطانيون مع حزب المؤتمر الهندي على أن تضم كشمير للهند، وكان الهدف من وراء ذلك أن تصبح كشمير بؤرة الصراع المزمن بين الهند وباكستان، وبالتالي لن تصبح هناك دولة قوية كبرى في شبه القارة الهندية تشكل تحديًا للمصالح التجارية والإستراتيجية للإنجليز في المنطقة.

وشهدت كشمير قبل صدور قرار التقسيم حركة مقاومة عنيفة نظمها المسلمون ضد الممارسات الطائفية للحاكم الهندوسي، وقرر المؤتمر الإسلامي قبل صدور قرار التقسيم بأقل من شهر ضرورة الانضمام لباكستان، وقرر الشبان المسلمون أن يقوموا بحركة جهاد لتحرير الولاية وضمها إلى باكستان.

وأمام هذا الوضع وقع المهراجا اتفاقًا مع باكستان بأن يبقى الوضع على ما هو عليه مع التعاون بين الولاية وباكستان؛ وذلك لأن كشمير كانت تتبع قبل التقسيم السلطات المحلية الموجودة في مدينة لاهور التي انضمت إلى باكستان، وبذلك أصبحت باكستان مسؤولة عن الدفاع عن كشمير وعن شؤونها الخارجية باعتبارها جزءًا منها، وفي نفس الوقت ألَّف المهراجا عصابات وسمح لعصابات إرهابية هندوكية تسمى "آر. سي. سي" و"الجان سينغ" و"الهندو مهاسابها" بممارسة عمليات إرهابية بشعة ضد المسلمين قتل خلالها عشرات الآلاف من المسلمين.

فقامت مظاهرات عنيفة من جانب المسلمين بقيادة "جودري حميد الله خان" في (19 شوال 1366هـ= 5 سبتمبر 1947م) ردًا على هذه الاعتداءات؛ فتصدت لها الشرطة بالرصاص؛ فسقط كثير من القتلى، وهم يطالبون بالانضمام إلى باكستان.

مؤتمر الفلاحين

وفي (1 من ذي القعدة 1366هـ= 16 من سبتمبر 1947م) عُقد مؤتمر الفلاحين الكشميريين، وطالب بانضمام الولاية إلى باكستان، لكن المهراجا رفض هذا الطلب، وقام بتوزيع الأسلحة على الهنادكة؛ فسارع رجال القبائل من باكستان لنجدة إخوانهم الكشميريين، ولما رأى محمد عبد الله الذي أفرج عنه المهراجا تأزم الأوضاع خشي من انفلات الأمور فأعلن وقوفه بجانب المهراجا، وتسلم رئاسة الحكومة وقتل يومها من المسلمين حوالي (62) ألفًا، وفي هذه الأثناء فر المهراجا سنغ إلى الهند، واستقر في دلهي العاصمة تاركًا كشمير تغرق في بحار الدماء.

واستطاع المسلمون الكشميريون تحرير جزء من الولاية، وقام المجاهد محمد إبراهيم (19 من ذي القعدة 1366هـ= 4 أكتوبر 1947م) بتشكيل حكومة كشمير الحرة "آزاد كشمير"، وتأليف الجيش الكشميري الذي استطاع أن يسيطر على كثير من المناطق ويقيم حكومة، وعندما وجد المهراجا أن الأمور خرجت عن سيطرته وقدرته أراد أن يضرب ضربته الأخيرة ضد المسلمين الكشميريين، فعقد مع الهند أثناء وجوده في دلهي اتفاقية في (12 من ذي الحجة= 27 من أكتوبر] تتضمن انضمام الولاية إلى الهند ورغم أن هذه الاتفاقية المجحفة لا يوافق عليها أغلبية الشعب، وتتناقض مع اتفاقيته السابقة مع باكستان، بالإضافة إلى عدم تمتعه بالشرعية لانتهاء المائة عام من الحماية التي نصت عليها اتفاقية أمريتسار لأسرته، فإنه أعلن انضمامه للهند لتبدأ فصول مأساة جديدة.

مأساة جديدة

وعندما حققت قوات الثوار المسلمين انتصارات في كشمير، واقتربت من مدينة سرينجار عاصمة الإقليم، أرسلت الهند قواتها المحملة جوًا لوقف تقدم الكشميريين، وكان برفقة هذه القوات المهراجا، ووقعت اشتباكات بين الجانبين، وأكد الزعيم الهندي نهرو في برقية بعث بها إلى حكومة باكستان أن الهند تتعهد بسحب قواتها العسكرية من كشمير بعد عودة السلام إليها، وتعهد أن يترك لمواطنيها الحرية في حق تقرير المصير.

وأعنت الحكومة المؤيدة للمهراجا في كشمير أن من يرغب في الهجرة إلى باكستان فسوف تسهل له الحكومة الهجرة وتقدم له المساعدة، وأن على راغبي الهجرة أن يجتمعوا في مكان واحد، فظن الكشميريون أن الحكومة جادة في إعلانها، فاحتشد المسلمون فأُطلقت عليهم النيران بكثافة وسقط آلاف القتلى، وهتكت أعراض آلاف الشابات الكشميريات، ومن ضمنهن ابنة شودري غلام عباس مؤسس حركة تحرير كشمير، وصدرت الأوامر إلى الجيش الباكستاني للمشاركة في المعارك ضد الجيش الهندي.

وعندما تطور الأمر إلى احتمال حدوث صراع مسلح بين الدولتين رفعت الهند القضية إلى الأمم المتحدة التي تدخلت واتخذت قرارًا بوقف إطلاق النار في (1369 هـ = 1949م]، وأن يتم إجراء استفتاء حر في الإقليم تحت إشراف الأمم المتحدة، وانتشرت قوات حفظ السلام على جانبي خط وقف إطلاق النار، ولم تنفذ بقية البنود، واستمرت هذه القوات حتى عام (1392هـ = 1972م) عندما طالبت الهند بانسحابها فانسحبت من الجانب الهندي.

وأصبح الجزء الشمالي من كشمير يخضع لسيطرة باكستان، ويعرف باسم "آزاد كشمير"، أما باقي كشمير فتحت السيطرة الهندية، ويشمل ثلثي الإقليم، وأكثر من 60% من السكان غالبيتهم من المسلمين، ومنذ ذلك الوقت لم تهدأ حركات المقاومة والجهاد الكشميري ضد الاحتلال الهندي، وأصبحت تلك القضية موضوعًا لقرارات عديدة من الأمم المتحدة، جرى تجاهلها جميعًا، خاصة قرار سنة (1369هـ 1949م) الذي تتمسك به باكستان، وينص على إجراء استفتاء حر في الإقليم تحت إشراف الأمم المتحدة.

أما الهند فقد رفضت كافة المقترحات التي تقدم بها وسطاء الأمم المتحدة، وتبنت موقفًا مؤداه أن كشمير انضمت إلى الهند برغبتها، وأن الحل الوحيد المقبول لحل القضية هو انسحاب القوات الباكستانية منها، وعندما رفع الأمر إلى مجلس الأمن عام (1377هـ=1957م) وجدت الهند نفسها في عزلة دولية حتى من حلفائها؛ فأصرت على رفض أي دور للأمم المتحدة في تسوية المشكلة؛ لأنها تمثل مشكلة داخلية ليس للمنظمة الدولية اختصاص بها، ثم أعلنت في عام (1383هـ = 1963م) أن جامو وكشمير ولاية هندية مع وضعية تتساوى فيها مع غيرها من الولايات الهندية، وأن هذا الضم نهائي.

وبدأت الهند في مخطط مدروس لتغيير الطبيعة السكانية في الإقليم، فدفعت بموجات كبيرة من الهندوس خاصة ممن خدموا في الجيش الهندي إلى الاستقرار في الإقليم ومنحتهم الوظائف المختلفة، وأغلقت مئات المدارس الإسلامية، وصادرت كثيرًا من الممتلكات، وأغلقت (200) معهد إسلامي، وغيّرت المناهج نحو التعليم الهندوسي، وبدأت في عمليات قمع رهيبة ضد المسلمين، وكان نتيجة هذه الإجراءات الهندية العنيفة نشوب صدامات مسلحة بين باكستان والهند بسبب القضية الكشميرية، أبرزها الحرب الثانية بين البلدين عام (1385هـ=1965م)، وقامت حركات الجهاد الكشميرية التي تدعمها باكستان.

وما زالت القضية الكشميرية تتمتع بتأثير كبير في السياسة الداخلية في الهند وباكستان، وتشكل قيدًا قويًّا على صانع القرار في الدولتين، وما زالت عاملاً مفجرًا للصراع بين الدولتين.


منقول

عبدالغفور الخطيب
23-12-2005, 02:00 AM
ابن النفيس.. الكاشف والمكشوف

(بمناسبة ذكرى وفاته: 21 من ذي القعدة 687هـ)



لم يأخذ الطبيب العربي "علاء الدين بن النفيس" حقه من الذيوع والشهرة مثل غيره من أطباء المسلمين النابهين، حتى جاء "محيي الدين التطاوي" وهو طبيب مصري كان يدرس في ألمانيا، فكشف عن جهود ابن النفيس في أطروحة علمية لنيل درجة الدكتوراه سنة (1343هـ = 1924) بعنوان: "الدموية الرئوية وفقًا للقرشي". وكان هذا الطبيب النابه قد اطّلع على المخطوطات العربية بمكتبة برلين، فعثر على مخطوطة لابن النفيس بعنوان: "شرح تشريح القانون" أي قانون ابن سينا، فعني بدراسة المخطوطة جيدًا، وبصاحبها، وكتب رسالته العلمية وقدمها لجامعة "فرايبورج" بألمانيا.

غير أن أساتذته والمشرفين على الرسالة أصابتهم الدهشة حين اطلعوا على ما فيها، ولم يصدقوا ما كتبه عن ثقة ويقين، فأرسلوا نسخة من الرسالة إلى الدكتور "مايرهوف" الطبيب المستشرق الألماني الذي كان إذ ذاك بالقاهرة، وطلبوا رأيه فيما كتبه هذا الباحث النابه، فلما قرأ الرسالة أيّد ما فيها، وأبلغ حقيقة ما كشفه من جهود ابن النفيس إلى المؤرخ "جورج سارتون" فنشر هذه الحقيقة في آخر جزء من كتابه المعروف "تاريخ العلم"، ثم بادر مايرهوف إلى البحث عن مخطوطات أخرى لابن النفيس وعن تراجم له، ونشر نتيجة بحوثه في عدة مقالات، ومنذ ذلك الحين بدأ الاهتمام بهذا العالم الكبير وإعادة اكتشافه.

ويعد علاء الدين واحدا من أعظم الأطباء الذين ظهروا على امتداد تاريخ الطب العربي الإسلامي، مثل أبي بكر الرازي، وابن سينا، والزهراوي. وهو صاحب كتاب "الشامل في الصناعة الطبية"، وهو أضخم موسوعة طبية يكتبها شخص واحد في التاريخ الإنساني.

حياة ابن النفيس


في قرية "قَرْش" بالقرب من دمشق ولد "علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي" سنة (607هـ = 1210م) وبدأ تعليمه مثل غيره من المتعلمين؛ فحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة. وقرأ شيئًا من النحو واللغة والفقه والحديث، قبل أن ينصرف إلى دراسة الطب التي اتجه إليها سنة (629هـ = 1231م) وهو في الثانية والعشرين من عمره بعد أزمة صحية ألمّت به. ويقول هو عنها: "قد عرض لنا حميات مختلفة، وكانت سنّنا في ذلك الزمان قريبة من اثنتين وعشرين سنة. ومن حين عوفينا من تلك المرضة حَمَلنا سوء ظننا بأولئك الأطباء (الذين عالجوه) على الاشتغال بصناعة الطب لننفع بها الناس".

وتذكر المصادر التاريخية أنه تعلم قبل ذلك التاريخ على "المهذب الدّخوار" أحد كبار الأطباء في التاريخ الإسلامي، ودرس عليه الطب، وكان رئيسا للأطباء في عصره ويعمل في البيمارستان النوري بدمشق، وتوفي سنة (628هـ = 1230م).

وكانت دمشق في تلك الفترة تحت حكم الأيوبيين الذين كان يعنون بالعلم عامة وبالطب خاصة عناية كبيرة، وجعلوا من دمشق حاضرة للعلوم والفنون، وكانت تضم فيما تضم مكتبة عظيمة تحوي نفائس الكتب، وبيمارستانا عظيما أنشأه نور الدين محمود، واجتذب أمهر أطباء العصر، توافدوا عليه من كل مكان. وفي هذا المعهد العتيد درس ابن النفيس الطب على يد الدخوار، وعمران الإسرائيلي المتوفى سنة (637هـ = 1239م)؛ وكان طبيبًا فذًا وصفه "ابن أبي أصيبعة" الذي زامل ابن النفيس في التلمذة والتدريب على يديه بقوله: "وقد عالج أمراضا كثيرة مزمنة كان أصحابها قد سئموا الحياة، ويئس الأطباء من برئهم، فبرئوا على يديه بأدوية غريبة يصفها أو معالجات بديعة يعرفها".

في القاهرة

وفي سنة (633هـ = 1236م) نزح ابن النفيس إلى القاهرة، والتحق بالبيمارستان الناصري، واستطاع بجدّه واجتهاده أن يصير رئيسًا له، وعميدا للمدرسة الطبية الملتحقة به، ثم انتقل بعد ذلك بسنوات إلى "بيمارستان قلاوون" على إثر اكتمال إنشائه سنة (680هـ = 1281م).

وعاش في القاهرة في بحبوحة من العيش في دار أنيقة، وكان له مجلس يتردد عليه العلماء والأعيان وطلاب العلم يطرحون مسائل الطب والفقه والأدب. ووصفه معاصروه بأنه كان كريم النفس، حسن الخلق، صريح الرأي، متدينًا على المذهب الشافعي؛ ولذلك أفرد له السبكي ترجمة في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" باعتباره فقيهًا شافعيًا. وأوقف قبل وفاته كل ما يملكه من مال وعقار على البيمارستان المنصوري.

ابن النفيس والدورة الدموية

اقترن اسم ابن النفيس باكتشافه الدورة الدموية الصغرى التي سجلها في كتابه "شرح تشريح القانون"، غير أن هذه الحقيقة ظلت مختفية قرونًا طويلة، ونسبت وهمًا إلى الطبيب الإنجليزي "هارفي" المتوفى سنة (1068هـ = 1657م) الذي بحث في دورة الدم بعد ما يزيد على ثلاثة قرون ونصف من وفاة ابن النفيس. وظل الناس يتداولون هذا الوهم حتى أبان عن الحقيقة الدكتور محيي الدين التطاوي في رسالته العلمية.

وكان الطبيب الإيطالي "ألباجو" قد ترجم في سنة (954هـ= 1547م) أقسامًا من كتاب ابن النفيس "شرح تشريح القانون" إلى اللاتينية، وهذا الطبيب أقام ما يقرب من ثلاثين عاما في "الرها" وأتقن اللغة العربية لينقل منها إلى اللاتينية. وكان القسم المتعلق بالدورة الدموية في الرئة ضمن ما ترجمه من أقسام الكتاب، غير أن هذه الترجمة فُقدت، واتفق أن عالما إسبانيًا ليس من رجال الطب كان يدعى "سيرفيتوس" كان يدرس في جامعة باريس اطلع على ما ترجمه "ألباجو" من كتاب ابن النفيس. ونظرًا لاتهام سيرفيتوس في عقيدته، فقد طرد من الجامعة، وتشرد بين المدن، وانتهى به الحال إلى الإعدام حرقًا هو وأكثر كتبه في سنة (1065هـ = 1553م) على أن من عدل الأقدار أن بقيت بعض كتبه دون حرق، كان من بينها ما نقله عن ترجمة ألباجو عن ابن النفيس فيما يخص الدورة الدموية، واعتقد الباحثون أن فضل اكتشافها يعود إلى هذا العالم الإسباني ومن بعده هارفي حتى سنة (1343 = 1924م) حين صحح الطبيب المصري هذا الوهم، وأعاد الحق إلى صاحبه.

وقد أثار ما كتبه الطبيب التطاوي اهتمام الباحثين، وفي مقدمتهم "مايرهوف" المستشرق الألماني الذي كتب في أحد بحوثه عن ابن النفيس: "إن ما أذهلني هو مشابهة، لا بل مماثلة بعض الجمل الأساسية في كلمات سيرفيتوس لأقوال ابن النفيس التي تُرجمت ترجمة حرفية". ولما اطلع "الدوميلي" على المتنين قال: "إن لابن النفيس وصفا للدوران الصغير تطابق كلماته كلمات سيرفيتوس تمامًا، وهكذا فمن الحق الصريح أن يعزى كشف الدوران الرئيس إلى ابن النفيس لا إلى سيرفيتوس أو هارفي".

غير أن اكتشاف الدورة الدموية الصغرى هي واحدة من إسهاماته العديدة فالرجل حسب ما تحدثنا البحوث الجديدة التي كتبت عنه قد اكتشف الدورتين الصغر والكبرى للدورة الدموية، ووضع نظرية باهرة في الإبصار والرؤية،وكشف العديد م الحقائق التشريحي، وجمع شتات المعرفة الطبية والصيدلانية في عصره، وقدم للعلم قواعد للبحث العلمي وتصورات للمنهج العلمي التجريبي.

مؤلفات ابن النفيس


لابن النفيس مؤلفات كثيرة نشر بعضها وما يزال بعضها الآخر حبيس رفوف المخطوطات لم ير النور بعد، من هذه المؤلفات:

- شرح فصول أبقراط، وطبع في بيروت بتحقيق ماهر عبد القادر ويوسف زيدان سنة (1409هـ = 1988م).

- والمهذب في الكحل المجرب، ونشر بتحقيق ظافر الوفائي ومحمد رواس قلعة جي في الرباط سنة (1407هـ = 1986م).

- الموجز في الطب، ونشر عدة مرات، منها مرة بتحقيق عبد المنعم محمد عمر في القاهرة سنة (1406هـ = 1985)، وسبقتها نشرة ماكس مايرهوف ويوسف شاخت ضمن منشورات أكسفورد سنة(1388هـ = 1968م).

- والمختصر في أصول علم الحديث، ونشر بتحقيق يوسف زيدان بالقاهرة سنة (1412هـ = 1991م).

- شرح تشريح القانون، ونشر بتحقيق الدكتور سلمان قطابة بالقاهرة سنة (1408هـ= 1988م) وهو من أهم كتب، وتبرز قيمته في وصفه للدورة الدموية الصغرى، واكتشافه أن عضلات القلب تتغذى من الأوعية المبثوثة في داخلها لا من الدم الموجود في جوفه. ويظهر في الكتاب ثقة ابن النفيس في علمه؛ حيث نقض كلام أعظم طبيبين عرفهما العرب في ذلك الوقت، وهما: جالينوس، وابن سينا.

-غير أن أعظم مؤلفاته تتمثل في موسوعته الكبيرة المعروفة بـ"الشامل في الصناعة الطبية". وقد نهضت إليها همة الدكتور يوسف زيدان في مصر ونجح في جمع أجزاء الكتاب المخطوطة. وتطلع المجمع الثقافي في أبو ظبي إلى هذا العمل، فأخذ على عاتقه نشره محققا، فخرج إلى النور أول أجزاء هذا العمل في سنة (1422هـ = 2001م)، وينتظر توالي خروج الكتاب في أجزاء متتابعة.

وكان ابن النفيس قد وضع مسودات موسوعته في ثلاثمائة مجلد، بيّض منها ثمانين، وهي تمثل صياغة علمية للجهود العلمية للمسلمين في الطب والصيدلة لخمسة قرون من العمل المتواصل. وقد وضعها ابن النفيس لتكون نبراسًا ودليلاً لمن يشتغل بالعلوم الطبية.

وفاته

كان ابن النفيس إلى جانب نبوغه في الطب فيلسوفًا وعالمًا بالتاريخ وفقيها ولغويًا له مؤلفات في اللغة والنحو، حتى كان ابن النحاس العالم اللغوي المعروف لا يرضى بكلام أحد في القاهرة في النحو غير كلام ابن النفيس، وكان يقضي معظم وقته في عمله أو في التأليف والتصنيف أو تعليم طلابه.

وفي أيامه الأخيرة بعدما بلغ الثمانين مرض ستة أيام مرضًا شديدًا، وحاول الأطباء أن يعالجوه بالخمر فدفعها عن فمه وهو يقاسي عذاب المرض قائلا: "لا ألقى الله تعالى وفي جوفي شيء من الخمر"، ولم يطل به المرض؛ فقد توفي في سَحَر يوم الجمعة الموافق (21 من ذي القعدة 687هـ = 17 من ديسمبر 1288م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
25-12-2005, 01:50 AM
موهاكس.. أبادت جيشا وحققت حلما

(في ذكرى استعراض جيشها: 23 من ذي القعدة 932 هـ)


ظهرت قوة إسبانيا كأعظم ما تكون في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني؛ فهي تملك أقوى الجيوش الأوربية وأكثرها كفاءة وقدرة على القتال، وأصبحت ماردًا يهدد الدولة العثمانية في البحر المتوسط حيث تهدد بلاد المغرب العربي، وفي وسط أوروبا حيث امتد نفوذها إلى ألمانيا بعد أن دخلت تحت تاج ملكها "شارل كوينت" الذي زاد من نفوذه زواج أخواته من ملوك البرتغال وفرنسا والدانمارك والنرويج والسويد والمجر؛ ولذلك أطلق على هذه الفترة من القرن السادس عشر الميلادي عهد شارل كوينت.

ولم يبق من ملوك أوربا خارج سيطرته وقبضته سوى إنجلترا، وفرنسا التي عزم ملكها على منازلة خصمه الإمبراطور شارل كوينت مهما كلفه الأمر، لكنه لم يقو على الصمود فخسر معه معركته، وسيق ذليلاً إلى مدريد حيث سجن في أحد قصورها، غير أن أم الملك الأسير "لويز سافوا" أرسلت إلى السلطان سليمان القانوني ترجوه تخليص ابنها من الأسر، فوجد السلطان في ذلك فرصة للانقضاض على شارل كوينت بعد أن صار معه حليف من الغرب الأوروبي، وامتلك مسوغًا للتحرك باسم الملف الفرنسي بصورة شرعية.

وكان ذلك أملاً يراود نفس السلطان لإعادة إسبانيا إلى سابق عهدها دولاً متفرقة لا دولة واحدة تهدد دولته، وكان السلطان قد عهد إلى خير الدين باربروسا بمهمة منازلة إسبانيا في البحر المتوسط ودفع خطرها فكفاه ذلك، وترك لنفسه مهمة منازلة إسبانيا في وسط أوروبا، وكان ينتظر الفرصة المناسبة للقيام بدوره، وما كادت تستنجد به أم الملك الفرنسي حتى استعد لتحقيق ما كان يصبو إليه.

ظروف مناسبة للحملة

ولما أفرج شارل كوينت عن الملك الفرنسي بعد شروط صعبة أجبره على قبولها في معاهدة مدريد في (29 من ربيع الأول 932هـ = 14 من يناير 1526م)، عمد الملك الفرنسي إلى تقوية روابطه مع السلطان العثماني، وألح في طلب العون والمساعدة؛ لأن قواته العسكرية لم تكن كافية لمجابهة الملك الإسباني الذي انفتحت جبهته لملاقاة خصوم أشداء، فكان عليه أن يواجه سليمان القانوني، وخير الدين باربروسا، وفرانسوا الأول ملك فرنسا، ومارتن لوثر الذي تفاقمت دعوته وازداد أتباعه، وانتشر مذهبه البروتستانتي، وتمزقت بسببه الوحدة الكاثوليكية، وعجز الملك الإسباني عن القضاء على دعوته بعد أن دانت أقطار كثيرة بمذهبه، وانفصلت عن نفوذ البابا في روما.

وهكذا تهيأت الظروف للسلطان العثماني للقيام بضربته وتقليص نفوذ الملك الإسباني في المجر، وكانت إسبانيا أكبر كثيرًا مما هي عليه الآن؛ إذ كانت تتكون من اتحاد المجر وتشيكوسلوفاكيا السابقة، بالإضافة إلى الأقطار الشمالية ليوغسلافيا، مثل: سلوفينيا، وترانسلفانيا التي هي الآن تابعة لرومانيا.

حملة سليمان القانوني


سار السلطان سليمان من إستانبول في (11 من رجب 932هـ= 23 من إبريل 1526م) على رأس جيشه، الذي كان مؤلفًا من نحو مائة ألف جندي، وثلاثمائة مدفع وثمانمائة سفينة، حتى بلغ "بلجراد"، ثم تمكن من عبور نهر الطونة بسهولة ويسر بفضل الجسور الكبيرة التي تم تشييدها، وبعد أن افتتح الجيش العثماني عدة قلاع حربية على نهر الطونة وصل إلى "وادي موهاكس" بعد 128 يومًا من خروج الحملة، قاطعًا 1000 كيلو من السير، وهذا الوادي يقع الآن جنوبي بلاد المجر على مسافة 185 كم شمال غربي بلجراد، و170 كم جنوبي بودابست. وكان في انتظاره الجيش المجري البالغ نحو مائتي ألف جندي، من بينهم 38000 من الوحدات المساعدة التي جاءت من ألمانيا، ويقود هذه الجموع الجرارة الملك "لايوش الثاني".

اللقاء المرتقب

وفي صباح يوم اللقاء الموافق (21 من ذي القعدة 932هـ= 29 من أغسطس 1526م) دخل السلطان سليمان بين صفوف الجند بعد صلاة الفجر، وخطب فيهم خطبة حماسية بليغة، وحثهم على الصبر والثبات، ثم دخل بين صفوف فيلق الصاعقة وألقى فيهم كلمة حماسية استنهضت الهمم، وشحذت العزائم، وكان مما قاله لهم: "إن روح رسول الله صلى الله عليه وسلم تنظر إليكم"؛ فلم يتمالك الجند دموعهم التي انهمرت تأثرًا مما قاله السلطان.

وفي وقت العصر هجم المجريون على الجيش العثماني الذي اصطف على ثلاثة صفوف، وكان السلطان ومعه مدافعه الجبارة، وجنوده من الإنكشاريين في الصف الثالث، فلما هجم فرسان المجر وكانوا مشهورين بالبسالة والإقدام أمر السلطان صفوفه الأولى بالتقهقر حتى يندفع المجريون إلى الداخل، حتى إذا وصلوا قريبًا من المدافع، أمر السلطان بإطلاق نيرانها عليهم فحصدتهم حصدًا، واستمرت الحرب ساعة ونصف الساعة في نهايتها أصبح الجيش المجري في ذمة التاريخ، بعد أن غرق معظم جنوده في مستنقعات وادي موهاكس، ومعهم الملك لايوش الثاني وسبعة من الأساقفة، وجميع القادة الكبار، ووقع في الأسر خمسة وعشرون ألفًا، في حين كانت خسائر العثمانيين مائة وخمسين شهيدًا، وبضعة آلاف من الجرحى.

نتائج هذه المعركة

كانت معركة موهاكس من المعارك النادرة في التاريخ، حيث هُزم أحد أطرافها على هذا النحو من مصادمَة واحدة وفي وقت قليل لا يتجاوز ساعتين، وترتب عليها ضياع استقلال المجر بعد ضياع جيشها على هذه الصورة في هزيمة مروعة، وبعد اللقاء بيومين في (23 من ذي القعدة 932هـ= 31 من أغسطس 1526م) قام الجيش العثماني بعمل استعراض أمام السلطان سليمان، وقام بأداء التحية له وتهنئته، وقام القادة بدءًا من الصدر الأعظم بتقبيل يد السلطان.

ثم تحرك الجيش نحو الشمال بمحاذاة ساحل الطونة الغربي حتى بلغ بودابست عاصمة المجر، فدخلها في (3 من ذي الحجة 932هـ= 10 من سبتمبر 1526م)، وشاءت الأقدار أن يستقبل في هذه المدينة تهاني عيد الأضحى في سراي الملك، وكان قد احتفل بعيد الفطر في بلجراد في أثناء حملته الظافرة.

مكث السلطان في المدينة ثلاثة عشر يومًا ينظم شئونها، وعين جان "زابولي" أمير ترانسلفانيا ملكًا على المجر التي أصبحت تابعة للدولة العثمانية، وعاد السلطان إلى عاصمة بلاده بعد أن دخلت المجر للدولة العثمانية وتقلص نفوذ الملك الإسباني.

منقول

عبدالغفور الخطيب
26-12-2005, 01:56 AM
الدولة الإخشيدية.. تاريخ وحضارة

(في ذكرى وفاة مؤسسها: 24 من ذي القعدة 335 هـ)



لما تدهورت أحوال الدولة الطولونية في أيامها الأخيرة في مصر تطلعت دولة الخلافة العباسية إلى استعادتها والسيطرة عليها من جديد بعد أن غلَّ الطولونيون يد الدولة العباسية عنها زمنا طويلا، فأرسلت من قبلها جيشا من العراق يقوده محمد بن سليمان لإعادة مصر إلى حوزتها، وكان من بين قادته "طغج بن محمد"، فلما نجح الجيش في مهمته واستعاد مصر للدولة العباسية عين "طغج" واليًا على قنسرين في بلاد الشام، ثم ما لبث أن انتقل إلى بغداد حاضرة الخلافة العباسية مصطحبًا معه ابنيه محمد وعبيد الله، والتحقوا بخدمة الخليفة العباسي المكتفي بالله (289-295هـ = 901-908م)، غير أن الأيام عبست في وجه "طغج بن محمد" فغضب عليه الخليفة العباسي وألقى به في غياهب السجن ومعه ولداه، وظل محبوسا حتى توفي وخرج ابناه من السجن، فالتحق عبيد الله بخدمة أمير شيزار بفارس، في حين التحق محمد بخدمة أحمد بن بسطام عامل الخراج بالشام.

ميلاد الدولة الإخشيدية

ولما انتقل "ابن بسطام" إلى مصر لتولي خراجها، استمر محمد بن طغج في خدمته، ثم التحق بعد وفاته بخدمة ابنه "علي بن أحمد" الذي خلف أباه في منصب الخراج، وظل يعمل معه حتى عزل عن خراج البلاد سنة (300 هـ = 912م) وبقي في مصر لم يغادرها واتصل بواليها "تكين"، وعمل معه في صفوف جيشه، وبدأ في الظهور والتألق، فاشترك معه في صد هجمات الفاطميين، في المغرب التي كانت تتطلع إلى مصر لضمها إليها وانتزاعها من الدولة العباسية، ورشحته كفاءته لتولي المناصب القيادية، فتولى إدارة مدينة الإسكندرية سنة (307هـ = 919م)، وأظهر مهارة وقدرة في إدارتها والدفاع عنها جعلت الخليفة العباسي المقتدر بالله يعهد إليه بإدارة الرملة بفلسطين سنة (316 هـ = 928م)، ثم بولاية دمشق سنة (319هـ = 931م)، ثم أضاف إليه الخليفة العباسي "القاهر بالله" ولاية مصر سنة (321هـ = 933م) لكنه لم يذهب إليها بسبب الفتن التي كانت تعصف بها.

ولاية مصر

لم يجد الخليفة العباسي الراضي بالله خيرًا من محمد بن طغج ليوليه مصر، ويعيد إليها الأمن والسلام، وقمع فيها الفتن والثورات، فعهد إليه بها سنة (323هـ = 935م) واستعد ابن طغج لما أسند إليه، وتجهز للأمر وأعد عدته، والأمر ليس هينًا بعد أن وقف في وجهه أحمد بن كيفلج والي مصر السابق، ومحمد بنعلي الماذرائي عامل الخراج، وحالا بينه وبين تولي مقاليد الأمور، فلجأ ابن طغج إلى سلاح القوة والبطش فتسلح بهما، واتجه إلى مصر على رأس حملة عسكرية برية، ترافقه حملة بحرية نجحت في الاستيلاء على ثغور مصر في دمياط، وسارت في النيل حتى بلغت "سمنود"، وهناك التقت بسفن ابن كيلخ والماذرائي وألحقت بهما هزيمة ساحقة في (شعبان 323هـ = يوليو 935م)، وواصلت سيرها حتى بلغت جزيرة الروضة بالقاهرة، وفي أثناء ذلك كانت قوات ابن طغج البرية قد نجحت في فتح مدينة الفسطاط في (رمضان 323هـ= أغسطس 935م).

وما كادت أقدامه تستقر في عاصمة البلاد حتى بدأ في تثبيت نفوذه، والضرب بشدة على الخارجين على النظام، والقضاء على القلاقل التي يثيرها أنصار الحاكم السابق، والعمل على صد هجمات الفاطميين الذين لم ييئسوا في ملاحقته بحملاتهم العسكرية المتكررة، وقد أدت جهوده إلى استقرار الأوضاع في مصر، وتلقيب الخليفة له بلقب الإخشيد، وهو لقب كان يطلق على ملوك فرغانة، وهي إحدى بلاد ما وراء النهر التي تتاخم بلاد التركستان، ويعني هذا اللقب باللغة التركية "ملك الملوك".

عقبات في طريق الإخشيد

غير أن هذا الاستقرار الذي حققه الإخشيد في مصر والشام كدَّر صفوة تطلع ابن رائق الملقب بأمير الأمراء إلى الشام وكان يتقلد إمارة الجيش ببغداد، وخرج جميع البلاد الإسلامية التابعة لدولة الخلافة العباسية، فأخذ يهدد الإخشيد ويطالبه بمال كأنه جزية على الممتلكات الإخشيدية في الشام، فلم يرق ذلك للإخشيد، واشتعل القتال بينهما حتى تم الصلح بينهما على أن يحكم ابن رائق الولايات الشامية شمال الرملة، وأن يدفع الإخشيد إليه جزية سنوية قدرها 140 ألف دينار، على أن الإخشيد لم يلبث أن استعاد الشام بعد مقتل ابن رائق سنة (330هـ – 941م)، فدخل دمشق وفرض حكمه بحد السيف، وأصبحت الشام كلها تحت سيطرته، وأضاف إليه الخليفة العباسية "المتقي بالله" مكة والمدينة.

الخليفة العباسي يستنجد بالإخشيد

نجح الإخشيد في أن يوطد علاقته بالخليفة التقي بالله ويوثق عرى المودة بينهما، إلى الحد الذي جعل الخليفة يستنجد به بعد أن ساءت العلاقة بينه وبين "تغرون" أمير الأمراء، فكتب إليه أنه سائر للقائه في "الرقة" بالعراق سنة (333 هـ = 944م)، وفي هذا اللقاء بالغ الإخشيد في إظهار آيات الولاء للخليفة العباسي، وعرض عليه أن يسير معه إلى مصر ويكون هو ورجاله في خدمته، لكن الخليفة العباسي رفض دعوة الإخشيد، ومع ذلك فقد حصل على تقليد جديد من الخليفة بولاية مصر، وحق توريث إمارتها لأبنائه من بعده لمدة ثلاثين سنة قائلا له: "وليتك أعمالك ثلاثين سنة فاستخلف لك أونوجور"، وهو أحد أبناء محمد بن طغج.

الإخشيد والحمدانيون

ولما عاد الإخشيد إلى مصر بعد لقاء الخليفة العباسي رأى سيف الدولة الحمداني الفرصة سانحة للاستيلاء عليها وانتزاعها من أيدي الإخشيديين، بعد أن نجح في تكوين دولة قوية، فسار إلى حلب وقنسرين وحمص وأنطاكية والثغور الشامية، فاستولى عليها، فلما وصلت هذه الأنباء الإخشيد خرج على رأس جيش كبير للقاء سيف الدولة الحمداني، ووقعت بينهما معركة عند قنسرين بالقرب من حلب، وكان النصر فيها للإخشيد، لكنه لم يكن نصرًا حاسمًا، وهو ما دعا الإخشيد إلى الجنوح إلى السلم والميل إلى الصلح، فعقدت بينهما معاهدة في (ربيع الأول 334هـ = 945م)، واتفقا على أن يكون لسيف الدولة من حمص وأعمالها إلى الشام، وأن يكون للإخشيد من دمشق وأعمالها جنوبا، وزيادة في توثيق الصلح بين الطرفين، تزوج سيف الدولة من فاطمة بنت عبيد الله بن طغج، وسار إلى حلب واستقر بها، وسار الإخشيد إلى دمشق واستقر بها إلى أن مات فيها في (24 من ذي القعدة 335هـ = 16 من يونيو 946م)، وهو في السادسة والستين من عمره، بعد أن حكم مصر والشام إحدى عشرة سنة، ونقل جثمانه إلى بيت المقدس حيث دفن هناك، وتولى بعده ابنه أبو القاسم أونجور، ولما كان صغيرا لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره لا يستطيع النهوض بأعباء الحكم، فقد تولى كافور الإخشيد تدبير أمره وإدارة شئون الدولة.

العطاء الحضاري

ونظرًا لطموح الإخشيد في بناء دولة قوية ثابتة الأركان فقد عنى بالجيش وما يتصل به عناية فائقة، حتى بلغ عدده في بعض الروايات التاريخية أربعمائة ألف جندي من مختلف الأجناس في مصر والشام، وأنشأ دارا لصناعة السفن بساحل الفسطاط، وأطلق عليها دار الصناعة الكبرى، وجعل من دار الصناعة التي في جزيرة الروضة بستانا فائق الروعة والجمال بالغ الحسن والبهاء، أطلق عليه المختار، وكان يفاخر به أهل العراق، وأنشأ بستانًا آخر في شمال الفسطاط عرف باسم البستان الكافوري، ومكانه اليوم سوق النحاسين بالقاهرة.

وكان بلاط الإخشيد مجمعا للعلماء وملتقى لأهل اللغة والأدب، يصلهم بعطاياه، ويمنحهم جوائزه، وكانت البلاد غنية بهم، واشتهر منهم في الفقه والحديث أبو إسحاق المروزي، وأبو سعيد عبد الرحمن بن يونس، وفي التاريخ ابن دحية، والكندي وابن البطريق، ومن النحاة أحمد بن محمد بن ولاد، ومن الشعراء أبو الفتح محمد الحسين المعروف بكشاجم.

ونهض الإخشيد بالحياة الاقتصادية للدولة، فزادت غلة الأرض وازدهرت الصنعة ونشطت التجارة، وقد أعجب المؤرخ المعروف أبو الحسن علي المسعودي بالنهضة التي أحدثها الإخشيد، وسجل ذلك في كتبه ومؤلفاته حين زار مصر.

وعنى الإخشيد بزيادة العمران وتشييد القصور وإقامة البساتين وإنشاء المساجد، والبيمارستانات لاستقبال المرضى ومعالجتهم.

وفي عهد الإخشيد ظهر منصب الوزير رسميًا لأول مرة في مصر، وكان أبو الفتوح الفضل بن جعفر الفرات هو أول من تولى هذا المنصب حتى وفاته سنة(327هـ =939م) ثم خلفه ابنه جعفر بن الفضل.

ويذكر للإخشيد أنه كان يجلس للنظر في المظالم يوم الأربعاء من كل أسبوع، وكان ذا دين يحب الصالحين ويتقرب إليهم ويحضر مجالسهم، وقد دفعته هذه النزعة الطيبة إلى هدم أماكن الفساد واللهو وإغلاقها.

وتصفه الحوليات التاريخية بأنه كان مَلِكًا حازما متيقظا لأمور دولته، حسن الرأي والتدبير شديد البطش، ذا قوة مفرطة قوي الساعدين حتى لا يستطيع غيره أن يجر قوسه، وفي الوقت نفسه وصفته بحبه الشديد للمال وميله إلى مصادرة أموال كبار رجاله لأدنى شبهة، أو لسد نفقات الدولة والإنفاق على جيشه، وقد جمع من المُصادرة أموالاً كثيرة بالغ المؤرخون في تقديرها بعد وفاته.


منقول

عبدالغفور الخطيب
31-12-2005, 04:49 AM
ملاذكرد.. الطريق إلى القسطنطينية

(في ذكرى نشوبها: أواخر ذي القعدة 463هـ)



تعد معركة "ملاذكرد" من أيام المسلمين الخالدة، مثلها مثل بدر، واليرموك، والقادسية، وحطين، وعين جالوت، والزلاقة، وغيرها من المعارك الكبرى التي غيّرت وجه التاريخ، وأثّرت في مسيرته، وكان انتصار المسلمين في ملاذكرد نقطة فاصلة؛ حيث قضت على سيطرة دولة الروم على أكثر مناطق آسيا الصغرى وأضعفت قوتها، ولم تعد كما كانت من قبل شوكة في حلق المسلمين، حتى سقطت في النهاية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح.

كما أنها مهدت للحروب الصليبية بعد ازدياد قوة السلاجقة المسلمين وعجز دولة الروم عن الوقوف في وجه الدولة الفتية، وترتب على ذلك أن الغرب الأوروبي لم يعد يعتمد عليها في حراسة الباب الشرقي لأوروبا ضد هجمات المسلمين، وبدأ يفكر هو في الغزو بنفسه، وأثمر ذلك عن الحملة الصليبية الأولى.

ألب أرسلان

تولى ألب أرسلان حكم دولة السلاجقة سنة (455 هـ= 1063م) خلفًا لعمه طغرل بك الذي أسس الدولة ومد سلطانها تحت بصره حتى غدت أكبر قوة في العالم الإسلامي، وقضى ألب أرسلان السنوات الأولى من حكمه في المحافظة على ممتلكات دولته وتوسيع رقعتها، وتأمين حدودها من غارات الروم.

ثم تطلع إلى ضم المناطق المسيحية المجاورة لدولته؛ فاتجه صوب الغرب لفتح بلاد الأرمن وجورجيا والأجزاء المجاورة لها من بلاد الروم، وكان أهل هذه البلاد يكثرون من الإغارة على إقليم أذربيجان حتى صاروا مصدر إزعاج وقلق لسكانه، وهو ما دفع بالسلطان السلجوقي إلى ضرورة كبح جماح هؤلاء الغزاة.


وأزعج ذلك إمبراطور الروم رومانوس ديوجينس، وأدرك أن التوسع السلجوقي لا يقف عند هذا الحد، وأن خطره سيهدد بلاده، فعزم على تحويل أنظار السلاجقة عن بلاده بالإغارة على بلاد الشام الشمالية، فهاجم مدينة "منبج" ونهبها وقتل أهلها، غير أن ذلك لم يكن كافيًا لدفع خطر السلاجقة على بلاده، فأعد جيشًا كبيرًا لضرب السلاجقة، وتحجيم قوتها وإضعافها.

غرور القوة

جهّز الإمبراطور البيزنطي رومانوس جيشًا ضخمًا يتكون من مائتي ألف مقاتل من الروم والفرنجة والروس والبلغاريين واليونانيين والفرنسيين وغيرهم، وتحرك بهم من القسطنطينية عاصمة دولته، ممنيًا نفسه بنصر حاسم يقضي على خطر السلاجقة، فقد أطمعته قواته الغفيرة وعتاده الكثيف بأن النصر آتٍ لا ريب فيه، واتجه إلى ملاذكرد حيث يعسكر الجيش السلجوقي.

أدرك ألب أرسلان حرج موقفه؛ فهو أمام جيش بالغ الضخامة كثير العتاد، في حين أن قواته لا تتجاوز أربعين ألفا، فبادر بالهجوم على مقدمة جيش الروم، ونجح في تحقيق نصر خاطف يحقق له التفاوض العادل مع إمبراطور الروم؛ لأنه كان يدرك صعوبة أن يدخل معركة ضد جيش الروم؛ فقواته الصغيرة لا قبل لها بمواجهة غير مضمونة العواقب، فأرسل إلى الإمبراطور مبعوثًا من قبله ليعرض عليه الصلح والهدنة؛ فأساء الإمبراطور استقبال المبعوث ورفض عرض السلطان، وأشاح بوجهه في غطرسة وكبرياء مطمئنًا من الفوز والظفر، ولم ينتظر سماع كلام مبعوث السلطان، وطالبه أن يبلغه بأن الصلح لن يتم إلا في مدينة الري عاصمة السلاجقة.

الاستعداد للقاء

أيقن السلطان ألا مفر من القتال بعد أن فشل الصلح والمهادنة في دفع شبح الحرب؛ فعمد إلى جنوده يشعل في نفوسهم روح الجهاد وحب الاستشهاد، وأوقد في قلوبهم جذوة الصبر والثبات، ووقف فقيه السلطان وإمامه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري يقول للسلطان مقويًا من عزمه: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال، في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.

وحين دانت ساعة اللقاء في (آخر ذي القعدة 463 هـ= أغسطس 1071م) صلّى بهم الإمام أبو نصر البخاري، وبكى السلطان فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، ولبس البياض وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني.

ساعة اللقاء في ملاذكرد

أحسن السلطان ألب أرسلان خطة المعركة، وأوقد الحماسة والحمية في نفوس جنوده، حتى إذا بدأت المعركة أقدموا كالأسود الضواري تفتك بما يقابلها، وهاجموا أعداءهم في جرأة وشجاعة، وأمعنوا فيهم قتلا وتجريحًا، وما هي إلا ساعة من نهار حتى تحقق النصر، وانقشع غبار المعركة عن جثث الروم تملأ ساحة القتال.

ووقع الإمبراطور البيزنطي أسيرًا في أيدي السلاجقة، وسيق إلى معسكر السلطان ألب أرسلان الذي قال له: ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني، فقال: أفعل القبيح. فقال له السلطان: فما تظن أنني أفعل بك، قال: إما أن تقتلني وإما أن تشهر بي في بلاد الشام، والأخرى بعيدة وهي العفو وقبول الأموال واصطناعي نائبا عنك. فقال السلطان: ما عزمت على غير هذا.

إطلاق سراح الإمبراطور

أطلق السلطان ألب أرسلان سراح الإمبراطور البيزنطي بعد أن تعهد بدفع فدية كبيرة قدرها مليون ونصف دينار، وأن يطلق كل أسير مسلم في أرض الروم، وأن تعقد معاهدة صلح مدتها خمسون عامًا، يلتزم الروم خلالها بدفع الجزية السنوية، وأن يعترف الروم بسيطرة السلاجقة على المناطق التي فتحوها من بلادهم، وأن يتعهدوا بعدم الاعتداء على ممتلكات السلاجقة.

ثم أعاد السلطان غريمه وأسيره الإمبراطور البيزنطي إلى بلاده، وخلع عليه خلعه جليلة، وخصص له سرادقًا كبيرًا، وأعطاه قدرًا كبيرًا من المال لينفق منه في سفره ثم أفرج عن عدد من ضباطه ليقوموا بخدمته، وأمر عددا من رجاله بصحبته حتى يصل إلى دياره سالمًا.

ولم تكد تصل أخبار الهزيمة إلى القسطنطينية حتى أزال رعاياه "اسمه من سجلات الملك"، وقالوا إنه سقط من عداد الملوك، وعُيِّن ميخائيل السابع إمبراطورا؛ فألقى القبض على رومانوس الرابع الإمبراطور السابق، وسمل عينيه.

نتائج معركة ملاذكرد

بعد انتصار المسلمين في هذه المعركة تغيّرت صورة الحياة والحضارة في هذه المنطقة؛ فاصطبغت بالصبغة الإسلامية بعد انحسار النفوذ البيزنطي تدريجيًا عن هذه المنطقة، ودخول سكانها في الإسلام، والتزامهم به في حياتهم وسلوكهم.

وواصل الأتراك السلاجقة، غزوهم لمناطق أخرى بعد ملاذكرد، حتى توغلوا في قلب آسيا الصغرى، ففتحوا قونية وآق، ووصلوا إلى كوتاهية، وأسسوا فرعًا لدولة السلاجقة في هذه المنطقة عرف باسم سلاجقة الروم، ظل حكامه يتناوبون الحكم أكثر من قرنين من الزمان بعد انتصار السلاجقة في ملاذكرد، وأصبحت هذه المنطقة جزءًا من بلاد المسلمين إلى يومنا هذا.

وكان من ثمار دخول هذه المنطقة في حوزة السلاجقة انتشار اللغتين العربية والفارسية، وهو ما كان له أثره في مظاهر الحضارة منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا، غير أن هزيمة الروم في موقعة ملاذكرد جعلتهم ينصرفون عن هذا الجزء من آسيا الصغرى، ثم عجزوا عن الاحتفاظ ببقية الأجزاء الأخرى أمام غزوات المسلمين الأتراك من السلاجقة والعثمانيين، وقد توالت هذه الغزوات في القرون الثلاثة التالية لموقعة ملاذكرد، وانتهت بالإطاحة بدولة الروم، والاستيلاء على القسطنطينية عاصمتها، واتخاذها عاصمة للدولة العثمانية، وتسميتها بإسلامبول أو إستانبول.


منقول

عبدالغفور الخطيب
01-01-2006, 01:47 AM
استقلال إريتريا.. أعوام مديدة من التضحيات

(ذكرى استقلالها: 1 من ذي الحجة 1413هـ)



استطاعت إريتريا أن تنفصل عن إثيوبيا وتستقل سياسيًا بعد ثلاثين عاما من الكفاح السياسي والعسكري، حظيت خلاله بدعم عربي وإسلامي كبير، على أمل أن يصبح ذلك البلد -الذي تمتد سواحله على البحر الأحمر حوالي ألف كيلومتر– جزءًا من الأمة العربية وعضوا بجامعتها العربية، اتساقا مع مقتضيات الأمن القومي العربي الهادفة إلى المحافظة على هذا البحر كبحيرة عربية إسلامية.

إلا أن هذا الأمل لم يتحقق رغم أن نسبة المسلمين في إريتريا تقارب 78%؛ فقد أخذ الرئيس "أسياس أفورقي" بلاده بتوجهات بعيدة عن العروبة والإسلام لاعتبارات تتعلق بتوجهاته الماركسية التي تعززت بفرضه اللغة التيجرينية لغة رسمية للبلاد بدلا من اللغة العربية، وتجاهله لقوانين الأحوال الشخصية للمسلمين، وعلاقاته الوثيقة مع إسرائيل.

إريتريا.. المعنى والتاريخ

تقع إريتريا عل الشاطئ الغربي للبحر الأحمر في نقطة حاكمة عند مدخله الجنوبي وعلى مقربة من مضيق باب المندب ذي الأهمية الإستراتيجية البالغة؛ فهي تشبه مثلثا محصورا بين إثيوبيا والسودان وجيبوتي، وتبلغ مساحتها حوالي (120) ألف كم2 تتنوع فيها التضاريس والمناخ، وتمتلك شاطئًا يمتد ألف كيلومتر على البحر الأحمر، يمتد من "رأس قصار" على الحدود السودانية شمالا إلى باب المندب في "رأس أرجيتا" في جيبوتي جنوبًا، ويقع في هذا الساحل أهم موانئ البحر الأحمر وهما: "عصب" و"مصوع".

وتتبع إريتريا (126) جزيرة، أهمها أرخبيل (مجموعة جزر) دُهلك وبه نحو (25) جزيرة، أهمها من الناحية الإستراتيجية جزيرتا "فاطمة" و"حالب". ويزيد عدد السكان عن أربعة ملايين نسمة. 78% منهم مسلمون، والباقي ينتمون إلى تسع مجموعات دينية وعرقية ولغوية أخرى.

وترجع تسمية إريتريا إلى الرومان الذين أطلقوا تسمية "سينوس أريتريوم" على البحر الأحمر وشواطئه التي سيطروا عليها عندما خضعت "عدوليس" على الشاطئ الإريتري لسلطانهم، وعندما احتل الإيطاليون هذه الشواطئ في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي أطلقوا اسم "إريتريا" عليها إحياء للتسمية الرومانية، وذلك بمرسوم أصدره الملك الإيطالي "همبرت الأول" في (جمادي الأولى 1307هـ= يناير 1890م).

إريتريا.. والإسلام


ترجع معرفة منطقة إريتريا بالإسلام إلى البدايات الأولى لظهور الإسلام؛ حيث كانت هذه المنطقة تتبع في تلك الفترة النجاشي ملك الحبشة. فعندما اشتد إيذاء الكفار للمسلمين في مكة أمرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال لهم: "فإن لها ملكًا لا يُظلَمُ عنده أحد، وهي أرض صدق"؛ فهاجر المسلمون إلى الحبشة وهبطت سفنهم على ساحل مصوع، وتحديدًا في المكان الذي يطلق عليه "رأس مدر"، وبنوا فيه مسجدًا – ما تزال بقاياه موجودة إلى الآن– ومنذ ذلك التاريخ انتشرت الدعوة الإسلامية في إريتريا والحبشة، حيث مكث الصحابة المهاجرون بها ستة عشر عامًا متتابعة يقيمون فيها شعائر الإسلام.

وفي عهد الدولة الأموية والعباسية هاجرت بعض القبائل العربية إلى إريتريا، وأقامت بها مراكز للدعوة والتجارة فتحولت غالبية القبائل الوثنية إلى الإسلام، ونشأت بعض الممالك العربية والإسلامية في جزر دهلك، بالإضافة إلى نشأة سبع ممالك داخلية عرفت باسم "بلاد الطراز الإسلامي".

وعندما سيطر البرتغاليون على بعض سواحل البحر الأحمر ومن بينها شواطئ إريتريا في بداية القرن السادس عشر الميلادي، تدخل العثمانيون لمواجهة الخطر البرتغالي وحماية الأماكن المقدسة في مكة والمدينة من مهاجمة السفن الصليبية، وتمكنوا من الاستيلاء على "سواكن" و"مصوع" وجعلوا البحر الأحمر بحيرة عثمانية مغلقة. وخضعت سواحل إريتريا للحكم المصري بناء على فرمان أصدره السلطان العثماني سنة (1281هـ = 1865م)؛ فتحسنت أحوالها بعدما أصبح الساحل الإفريقي للبحر الأحمر في حوزة مصر.

الاستعمار الإيطالي

بدأت الأطماع الإيطالية في إريتريا مع ضعف الحكم المصري في عهد إسماعيل نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، ودخل الإيطاليون إلى تلك المنطقة عبر بوابة الشركات والمؤسسات الاقتصادية التي يتحكم فيها المنصّرون ورجالات الكنائس؛ فاستطاع المنصر "سابيتو" أن يشتري قطعة أرض في ميناء عصب سنة (1286هـ= 1869م)، ثم أصدر مجلس النواب الإيطالي في (1299هـ= 1882م) قانونا بتحويل عصب إلى مستعمرة إيطالية، وكانت سياسته فيها تقوم على العنصرية، ومحاربة اللغة العربية. واعترف الإمبراطور الحبشي "منليك الثاني" بحق إيطاليا في إريتريا حتى يستطيع مقاومة النفوذ الفرنسي والبريطاني.

واستمر الاحتلال الإيطالي (60) عاما حتى تمكنت بريطانيا وحلفاؤها من هزيمة إيطاليا ودول المحور في الحرب العالمية الثانية، وأقامت بريطانيا بها إدارة عسكرية.

هيلاسلاسي.. أطماع وأحقاد


عاد الإمبراطور الحبشي هيلاسلاسي إلى الحكم في بلاده بمساعدة الإنجليز بعدما طرده الإيطاليون، ورأى أن يستغل الظروف الدولية لجمع أسلاب إيطاليا في إفريقيا؛ فيضم الصومال وإريتريا إلى مملكته التوسعية. وساعدته على ذلك بريطانيا والولايات المتحدة، حيث اتصل ببعض رجال الكنيسة لاستمالتهم إليه، وقامت المخابرات البريطانية بإثارة العدوان والنعرات الدينية والقبلية.

ونجحت إثيوبيا في خلق حزب موال لها في إريتريا سنة (1366هـ= 1946م) عُرف باسم حزب الاتحاد مع إثيوبيا كانت قاعدته من المسيحيين. ناهض المسلمون هذا الحزب وأسسوا حزب الرابطة الإسلامية الإريترية وحددوا أهدافه بالاستقلال التام. وشهدت تلك الفترة صراعات سياسية حادة، نشأت خلالها عدة أحزاب لها ارتباطات خارجية، تبنى بعضها سياسة الاغتيالات مثل حزب الاتحاد مع إثيوبيا الذي أنشأ ميليشيا إرهابية عرفت باسم "الشفتا" اغتالت عددا من القيادات الوطنية. كما عمل هيلاسلاسي على إثارة الخلافات بين الأحزاب الإريترية فكثرت الانشقاقات بها.

الأمم المتحدة صراعات الأروقة والمصالح

عُرضت القضية الإريترية على الأمم المتحدة التي أرسلت لجنة لاستطلاع آراء الأهالي حول تقرير المصير فخرجت اللجنة بآراء مختلفة، منها ضم إريتريا إلى إثيوبيا، وهو اتجاه دعمته الولايات المتحدة، وأمام هذا الضغط الأمريكي وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في (صفر 1370هـ= ديسمبر 1950م) على أن تكون إريتريا تحت سيادة التاج الإثيوبي في اتحاد فيدرالي مع تمتعها بالحكم الذاتي، وقررت الأمم المتحدة تعيين مندوب لها يكفل تنفيذ قرارها لأول مرة في تاريخ المنظمة الدولية، وبذلك حصلت إثيوبيا على منفذ لها على البحر الأحمر.

الاستعمار الإثيوبي

وتم تشكيل جمعية تشريعية منتخبة في إريتريا أقرت الدستور الجديد للبلاد، وعلما خاصا بها، وسلطات قضائية وتشريعية خاصة بها، واعتمدت اللغتين العربية والتجيرينية لغتين رسميتين لإريتريا، وفي (ذي القعدة 1371 هـ= أغسطس 1952م) صادق الإمبراطور هيلاسلاسي على الدستور الإريتري الجديد، ثم صادق على القانون الفيدرالي، وكانت تلك الخطوة الأولى في طريق الاستعمار الإثيوبي لإريتريا، شاركت في تعبيده القوى الاستعمارية الكبرى، وفي مقدمتها بريطانيا التي انسحبت من إريتريا في (25 من ذي الحجة 1371هـ= 15 من سبتمبر 1952) بعدما سلمت كل الممتلكات الإريترية من موانئ ومطارات ووسائل مواصلات إلى الجيش الإثيوبي، ولم تترك للحكومة الإريترية ما يمكن أن تؤسس عليه دولتها الوليدة.

وتشكلت أول حكومة إريترية برئاسة "تدلا بايرو" السكرتير العام لحزب الاتحاد مع إثيوبيا، ولم يستطع هيلاسلاسي أن ينتظر طويلا ليرى تصرف الإريتريين في إطار الفيدرالية، فتعجل في تطبيق مخططه الاستعماري، وأصدر في نفس العام قرارًا يقضي بتطبيق القوانين والنظم الإثيوبية على إريتريا، كما نفذ خطة أخرى لتغيير التركيبة السكانية في إريتريا؛ فسلم الأراضي الخصبة في منطقة "وادي زولا" الإسلامية إلى نصارى الحبشة، وبنى لهم كنيسة وتكرر ذلك في المناطق الأخرى، ثم وقّع معاهدة مع الولايات المتحدة في (شعبان 1372هـ= مايو 1953م) مُنحت بموجبها واشنطن الحق في إقامة قواعد ومنشآت عسكرية على أراضي إريتريا.

واتخذت إثيوبيا مجموعة من الإجراءات التعسفية ضد المسلمين الإريتريين، ولجأت إلى سلاح الدين لخلق الفرقة في إريتريا، فألفت حزبًا سياسيًا من رجال الدين المسيحي تحت رئاسة القس ديمطروس الذي فرضته نائبا لرئيس البرلمان؛ فأثار ذلك غضب البرلمان الإريتري، ووجه إنذارا لإثيوبيا بوجوب إعطاء الضمانات لسيادة الدستور الإريتري، وإلا طالب البرلمان بتدخل الأمم المتحدة.

استبد الغضب بهيلاسلاسي فعزل حكومة تدلا بايرو، وعين مكانه إسفهاولد ميكائيل الذي استخدم أساليب إرهابية ضد الوطنيين، ومنع جميع الأحزاب من العمل، وصاغ نظاما اقتصاديا قائمًا على الإقطاع. وفي عام (1375هـ= 1956م) تم تعديل الدستور بناء على اقتراح حكومي، وألغيت اللغتان الرسميتان العربية والتجيرينية، وحلت مكانهما اللغة الأمهرية، وألغي العلم الإريتري، ونص التعديل الجديد أن يعين رئيس الوزراء الإريتري من قِبل الإمبراطور مباشرة، فقوبلت هذه الإجراءات بغضب شديد، وتبين للإريتريين أن الأمم المتحدة لا تريد أن تتدخل في حل المشكلة الإريترية الذي كان قرار الفيدرالية السبب المباشر في قيامها.

حركة التحرير الإريترية


لم يستسلم الإريتريون لحركة القمع الإثيوبية، وتمكن العمال المهاجرون (1378هـ=1958م) من تأسيس حركة تحرير إريتريا، التي كانت تنظيما سريا يتكون من خلايا تتكون من سبعة أفراد، وكان أبرز قادتها محمد سعيد نادو، وكان شعارها العنف الثوري هو الطريق الوحيد للاستقلال. وبدأت الحركة بتنظيم الخارج من المهاجرين ثم انتقلت إلى الداخل. ونشأت – أيضا – جبهة التحرير الإريترية، وحدث صراع وتنافس قوي بين التنظيمين.

ونشأت جبهة التحرير في عام (1380هـ = 1960م)، وقادها الشهيد حامد إدريس عواتي الذي أعلن الثورة المسلحة للحصول على الاستقلال التام في (ربيع أول 1382هـ= سبتمبر 1961م)، واتسع نطاق الثورة وغطت معظم مساحات إريتريا، وأصبحت حربا قومية في كافة الأقاليم؛ فأصدر الإمبراطور هيلاسلاسي قرارًا في (15 من جمادي الأولى 1382 هـ= 14 من نوفمبر 1962م) ألغى بموجبه الاتحاد الفيدرالي، وأعلن ضم إريتريا إلى إثيوبيا نهائيا، وجعلها الولاية الرابعة عشرة لإثيوبيا.

فشلت إثيوبيا في القضاء على الثورة الإريترية المسلحة، فاتجهت إلى الشعب ومارست معه العنف حتى يبتعد عن مساندة الثوار، فازداد الشعب التصاقا بالثورة التي أصبحت تتمتع بالتأييد الشعبي المطلق، وساعدها على الاستمرار ضعف الوجود العسكري الإثيوبي في إريتريا، وطبيعة التضاريس التي تساعد على حرب العصابات وتعوق تقدم الجيوش النظامية، وانضم إلى الثورة كثير من رجال الجيش والشرطة من الإريتريين.

انشقاقات وانشقاقات


كانت المشكلة التي تواجه الثورة الإريترية تكمن في تناحر قياداتها، والتوجهات اليسارية التي تسللت إلى الثورة بعد سنوات قليلة من تأسيس جبهة التحرير، فكان اليساريون والماركسيون وراء كل انشقاق وكل شرخ يحدث في صف الوطنيين؛ فالجبهة الشعبية لتحرير إريتريا تشكلت عام (1389هـ= 1969م) بعد انشقاقها على الجبهة الأم، وكان من زعمائها أسياس أفورقي وكانت توجهاته ماركسية.

وتوسعت هذه الجبهة الشعبية لتصبح أهم منظمة تحريرية في البلاد، ثم انشق أفورقي عن القيادة العامة، وشارك في تأسيس "قوات التحرير الشعبية"، وحدثت حرب أهلية بين هؤلاء الثوار انتهت عام (1394هـ= 1974م) وبعد عام عقد مؤتمر الخرطوم بين هذه الفصائل المتناحرة، لكن هذه الاتفاقية لم تصمد طويلا، بل كانت سببا في انشقاقات أخرى، وأعلن أفورقي وأنصاره من المقاتلين رفضه للوحدة الفوقية التي تمت في اتفاق الخرطوم.

وفي (صفر 1397هـ= يناير 1977م) انشق أفورقي عن قوات التحرير الشعبية، وأعلن تشكيل "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا"، وعكس هذا الانشقاق الجديد انقساما ثقافيا؛ فأفورقي ذو توجهات يسارية مع كونه من أبناء الطائفة النصرانية، واستطاعت هذه الجبهة تصفية الانشقاقات الأخرى، وانفردت بالساحة في إريتريا.

انقلاب إثيوبيا.. مراهنات خاسرة

وفي عام (1394 هـ= 1974م) تغير نظام الحكم في إثيوبيا بعد المجاعة، وتولى عسكريون ماركسيون بزعامة "مانجستو هيلاماريام" مقاليد السلطة، وراهنت الجبهة الشعبية على تحقيق تفاهم ما مع النظام الجديد نظرا للتقارب الفكري بينهما، وتمت لقاءات بين الجانبين تحت رعاية الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية، لكنها لم تتوصل إلى شيء واستمرت مقاومة الاستعمار الإثيوبي.

وسجلت تقارير حقوق الإنسان في تلك الفترة من نظام مانجستو أنه يمارس حرب إبادة ضد مسلمي إريتريا، ويعمل على تغيير هويتهم نحو الشيوعية باتباعه سياسة الأرض المحروقة وتسميم الآبار ومصادرة المواشي والقضاء على أية إمكانات للبقاء على الأرض؛ فقام الإريتريون بتوحيد جهودهم وصفوفهم عام (1399هـ= 1979م)، وخاضوا حرب تحرير مريرة لتحقيق الاستقلال حققت خلالها انتصارات كبيرة وأرهقت نُظُم مانجستو.

التحرير بعد 30 عامًا

وتحالفت الجبهة الشعبية بزعامة أفروقي مع المعارضين الإثيوبيين بزعامة ميلس زيناوي تحت رعاية الإدارة الأمريكية في مؤتمر عقد بلندن نسق له وليام كوهين مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية، وذلك لإسقاط نظام مانجستو، وانتهى المؤتمر باتفاق رعته واشنطن يقضي باعتراف إثيوبيا بحق تقرير المصير للشعب الإريتري على أن يختار بين الوحدة والانفصال، مقابل أن يلتزم أفورقي بدعم زيناوي في سعيه للتغلب على مناوئيه السياسيين وتولي السلطة، وأن تسمح إريتريا عندئذ باستخدام إثيوبيا ميناء عصب وكذا مصوع للأغراض التجارية.

ونجح الطرفان في إسقاط مانجستو، وتولى زيناوي حكم إثيوبيا، وأعلن استقلال إريتريا في (1 من ذي القعدة 1411هـ= 25 من مايو 1991م)، وتشكلت حكومة مؤقتة أجرت استفتاء عاما على الاستقلال تحت إشراف الجامعة العربية والأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية، وجاءت نتيجته 99% للاستقلال؛ فأصبحت إريتريا دولة مستقلة ذات سيادة في (1 من ذي الحجة 1413هـ= 23 من مايو 1993م)، ثم انتخب أسياس أفورقي رئيسا للبلاد.

منقول

عبدالغفور الخطيب
02-01-2006, 02:08 AM
البيروني.. عالم حتى النفَس الأخير

(في ذكرى مولده: 2 من ذي الحجة 362هـ)



كان البيروني عالمًا فذا، متعدد الجوانب، غزير الإنتاج، عظيم الموهبة عميق الفكر، فهو مؤرخ محقق وجغرافي مدقق، وفلكي نابه، ورياضي أصيل، وفيزيائي راسخ، ومترجم متمكن، بلغ من إعجاب الأوروبيين به أن قال عنه المستشرق سخاو: "إن البيروني أكبر عقلية في التاريخ"، ويصفه آخر بقوله: "من المستحيل أن يكتمل أي بحث في التاريخ أو الجغرافيا دون الإشادة بأعمال هذا العالم المبدع".

وبلغ من تقدير الهيئات العلمية لجهود البيروني أن أصدرت أكاديمية العلوم السوفيتية في سنة (1370هـ= 1950م) مجلدًا تذكاريًا عنه بمناسبة مرور ألف سنة على مولده، وكذلك فعلت الهند. وأنشأت جمهورية أوزبكستان جامعة باسم البيروني في طشقند؛ تقديرًا لمآثره العلمية، وأقيم له في المتحف الجيولوجي بجامعة موسكو تمثال يخلد ذكراه، باعتباره أحد عمالقة علماء الجيولوجيا في العالم على مر العصور، وأطلق اسمه على بعض معالم القمر.

استقبال الحياة

استقبلت إحدى قرى مدينة "كاث" عاصمة خوارزم مولودًا ميمونًا هو أبو الريحان محمد بن أحمد الخوارزمي المعروف بالبيروني في (2 من ذي الحجة 362هـ= 4 من سبتمبر 973م)، والبيرون كلمة فارسية الأصل تعني "ظاهر" أو خارج. ويفسر السمعاني في كتابه "الأنساب" سبب تسمية أبي الريحان بهذه النسبة بقوله: "ومن المحتمل أن تكون عائلة أبي الريحان من المشتغلين بالتجارة خارج المدينة، حيث بعض التجار كانوا يعيشون خارج أسوار المدينة للتخلص من مكوس دخول البضائع إلى داخل مدينة كاث".

ولا تُعرف تفاصيل كثيرة عن حياة البيروني في طفولته، وإن كان لا يختلف في نشأته عن كثير من أطفال المسلمين، حيث يُدفعون إلى من يعلمهم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ودراسة شيء من الفقه والحديث وهو ما تستقيم به حياتهم. ويبدو أنه مال منذ وقت مبكر إلى دراسة الرياضيات والفلك والجغرافيا، وشغف بتعلم اللغات، فكان يتقن الفارسية والعربية، والسريانية، واليونانية، وتلقى العلم على يد أبي نصر منصور بن علي بن عراق، أحد أمراء أسرة بني عراق الحاكمة لخوارزم، وكان عالمًا مشهورًا في الرياضيات والفلك.

في طلب العلم

أجبرت الاضطرابات والقلاقل التي نشبت في خوارزم البيروني على مغادرتها إلى "الري" سنة (384هـ= 994م)، وفي أثناء إقامته بها التقى بالعالم الفلكي "الخوجندي" المتوفى سنة (390هـ= 1000م) وأجرى معه بعض الأرصاد والبحوث، ثم عاد إلى بلاده وواصل عمله في إجراء الأرصاد، ثم لم يلبث أن شد الرحال إلى "جُرجان" سنة (388هـ= 998م) والتحق ببلاط السلطان قابوس بن وشمكير، الملقب بشمس المعالي، وكان محبًّا للعلم، يحفل بلاطه بجهابذة العلم وأساطين المعرفة، وتزخر مكتبته بنفائس الكتب، وهناك التقى مع "ابن سينا" وناظَرَه، واتصل بالطبيب الفلكي المشهور أبي سهل عيسي بن يحيى المسيحي، وتتلمذ على يديه، وشاركه في بحوثه.

وفي أثناء إقامته بكنف السلطان قابوس بن وشمكير أنجز أول مؤلفاته الكبرى "الآثار الباقية من القرون الخالية"، وهو كتاب في التاريخ العام يتناول التواريخ والتقويم التي كانت تستخدمها العرب قبل الإسلام واليهود والروم والهنود، ويبين تواريخ الملوك من عهد آدم حتى وقته، وفيه جداول تفصيلية للأشهر الفارسية والعبرية والرومية والهندية، ويبين كيفية استخراج التواريخ بعضها من بعض.

وظل البيروني في جرجان محل تقدير وإجلال حتى أطاحت ثورة غاشمة ببلاط السلطان قابوس سنة (400 هـ= 1009م) فرجع إلى وطنه بعد غياب، واستقر في مدينة "جرجانية" التي أصبحت عاصمة للدولة الخوارزمية، والتحق بمجلس العلوم الذي أقامه أمير خوارزم مأمون بن مأمون. وكان يزامله في هذا المجمع العلمي الرئيس ابن سينا، والمؤرخ والفيلسوف ابن مسكويه.

عرف أمير خوارزم قدر البيروني فأحله منزلة عالية، واتخذه مستشارًا له، وأسكنه معه في قصره، وظل في معيته سبع سنوات، واصَلَ في أثنائها بحوثه في الفلك حتى استولى السلطان محمود الغزنوني على خوارزم وضمها إلى مُلكه، فانتقل إلى بلاطه، ورحل معه إلى بلاده سنة (407هـ= 1016م).

في بلاط الغزنويين

عاش البيروني في "غزنة" (كابول الآن) مشتغلا بالفلك وغيره من العلوم، ورافق السلطان محمود الغزنوي في فتوحاته الظافرة في بلاد الهند، وقد هيأ له ذلك أن يحيط بعلوم الهند، حيث عكف على دراسة لغتها، واختلط مع علمائها، ووقف على ما عندهم من العلم والمعرفة، واطلع على كتبهم في العلوم والرياضيات، ودرس جغرافية الهند من سهول ووديان وجبال وغيرها، إضافة إلى عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها المختلفة، ودوّن ذلك كله في كتابه الكبير "تحقيق لما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة".

وبعد تولي السلطان مسعود بن محمود الغزنوي الحكم خلفًا لأبيه سنة (421هـ= 1030م)، قرب إليه البيروني، وألحقه بمعيته، وأحاطه بما يستحق من مكانة وتقدير، حتى إنه عندما كتب موسوعته النفيسة في علم الفلك أطلق عليها "القانون المسعودي في الحياة والنجوم" وأهداها إلى السلطان مسعود الذي أحسن مكافأته، فبعث إليه بحمل فيلٍ من القطع الفضية، غير أن البيروني اعتذر عن قبول الهدية؛ لأنه يعمل دون انتظار أجر أو مكافأة، وظل البيروني بعد رجوعه من الهند مقيمًا في غزنة منقطعًا إلى البحث والدرس حتى توفاه الله.

القانون المسعودي


ويعد كتاب القانون المسعودي أهم مؤلفات البيروني في علم الفلك والجغرافيا والهندسة، وهو يحتوي على إحدى عشرة مقالة، كل منها مقسم إلى أبواب. وفي المقالة الرابعة من الكتاب جمع النتائج التي توصَّل إليها علماء الفلك في الهند واليونان والمعاصرون له، ولم يطمئن هو إلى تلك النتائج لاختلافها فيما بينها؛ ولذلك قرر أن يقوم بأرصاده الخاصة بنفسه، ولم يكتف بمرة واحدة بل أربع مرات على فترات متباعدة، بدأها وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين، حيث قرر أن يصنع آلته الخاصة ليرصد بها أعماله الفلكية، وليضع حدا لحيرته من تضارب نتائج علماء الفلك، وقام بتعيين الجهات الأصلية وتحديد الأوقات، ومعرفة فصول السنة، ورصد حركة أوج الشمس، وهو أبعد المواقع السنوية بين الشمس والأرض، وقام بقياس طول السنة على وجه دقيق، ودرس كسوف الشمس وخسوف القمر والفرق بينهما، وفسر أسباب ظهور الفجر قبل شروق الشمس باستنامة الغلاف الجوي، وبالمثل شفق ما بعد الغروب وأوقاتهما، وشرح الأسباب التي تمنع رؤية الهلال حتى مع وجوده في الأفق، وأوضح بالطريق الهندسي الحدود النسبية بين القمر والشمس، والتي عليها تعتمد ظروف رؤية الهلال ما لم تتدخل العوامل الجوية، وأوضح الفرق بين النجوم (الكواكب الثابتة) والكواكب السيارة، وابتكر البيروني الإسطرلاب الأسطواني الذي لم يقتصر على رصد الكواكب والنجوم فقط، بل استُخدم أيضًا في تحديد أبعاد الأجسام البعيدة عن سطح الأرض وارتفاعها. كما اخترع جهازًا خاصًا يبين أوقات الصلاة بكل دقة وإتقان.

إسهاماته الحضارية الأخرى

وتجاوزت بحوث البيروني مجال الفلك إلى مجالات أخرى تشمل الفيزياء والجيولوجيا والتعدين والصيدلة والرياضيات والتاريخ والحضارة.

وتشمل جهوده في الفيزياء بعض الأبحاث في الضوء، وهو يشارك الحسن بن الهيثم في القوال: بأن شعاع النور يأتي من الجسم المرئي إلى العين لا العكس، كما كان معتقدًا من قبل. وورد في بعض مؤلفاته شروح وتطبيقات لبعض الظواهر التي تتعلق بضغط السوائل وتوازنها. وشرح صعود مياه الفوارات والعيون إلى أعلى، وتجمع مياه الآبار بالرشح من الجوانب، حيث يكون مأخذها من المياه القريبة إليها.

وفي مجال التعدين ابتكر البيروني جهازا مخروطيًا لقياس الوزن النوعي للفلزات والأحجار الكريمة، وهو يعد أقدم مقياس لكثافة المعادن، وقد نجح في التوصل إلى الوزن النوعي لثمانية عشر مركبًا.

وفي مجال علم الأرض وضع نظرية لاستخدام امتداد محيط الأرض، وقد أوردها في آخر كتابه "الإسطرلاب". واستعمل معادلة معروفة عند العلماء بقاعدة البيروني لحساب نصف قطر الأرض، وتضمنت بحوثه ومؤلفاته في هذا الميدان نظريات وآراء حول قدم الأرض وعمرها وما اعتراها من ثورات وبراكين وزلازل وعوامل تعرية. وله نظريات حول تكوين القشرة الأرضية، وما طرأ على اليابسة والماء من تطورات خلال الأزمنة الجيولوجية. وله بحوث في حقيقة الحفريات، وكان يرى أنها لكائنات حية عاشت في العصور القديمة. وما توصل إليه في هذا الصدد أقره علماء الجيولوجيا في عصرنا الحالي.

ويقر "سميث" في كتابه "تاريخ الرياضيات" بأن البيروني كان ألمع علماء عصره في الرياضيات، وهو من الذين بحثوا في تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، وكان ملمًا بحساب المثلثات، وكتبه فيها تدل على أنه عرف قانون تناسب الجيوب، وقد عمل جداول رياضية للجيب والظل.

وفي علم الصيدلة ألف كتابه "الصيدنة في الطب"، وهو يُعد ذخيرةً علمية ومرجعًا وافيًا في مجال الصيدلة، وهو ينقسم إلى قسمين:

أولهما: هو ديباجة في فن الصيدلة والعلاج مع تعريفات وإيضاحات تاريخية مفيدة. وتمثل المقدمة إضافة عظيمة للصيدلة، وتناول في هذا القسم المسئوليات والخطوات التي يجب على الصيدلي أن يلتزم بها.

ثانيهما: للمادة الطبية، فأورد كثيرًا من العقاقير مرتبة حسب حروف المعجم، مع ذكر أسمائها المعروفة بها في اللغات المختلفة، وطبائعها ومواطنها وتخزينها وتأثيراتها وقواها العلاجية وجرعاتها.

وتفوق البيروني في مجال الجغرافيا الفلكية، وله فيها بحوث قيمة وهو يعد من مؤسسي ذلك العلم، ونبغ أيضًا في الجغرافيا الرياضية، وبخاصة تحديد خطوط الطول والعرض ومسافات البلدان، وله فيها عشرة مؤلفات، وجاءت أبحاثه في الجغرافيا الطبيعية على نسق رفيع ومستوى عال من الفهم. وله في فن رسم الخرائط مبتكرات كثيرة، فقام بعمل خريطة مستديرة للعالم في كتابه "التفهيم لأوائل صناعة التنجيم" لبيان موضع البحار، وله أبحاث كثيرة في كيفية نقل صورة الأرض الكروية إلى الورق المسطح، ومن كتبه في هذا الميدان: "تسطيح الصور وتبطيح الكور"، "تحديد المعمورة وتصحيحها في الصورة".

وكان البيروني لا يستبعد نظريًّا احتمال أن يكون النصف الغربي من الكرة الأرضية معمورًا قبل اكتشاف الأمريكتين، وعند وصفه لتضاريس الأرض ومسالك البحار والمحيطات تكلم للمرة الأولى على أنه ليس ما يمنع من اتصال المحيط الهندي بالمحيط الأطلنطي جنوبي القارة الأفريقية على عكس ما كان شائعًا في ذلك الوقت.

كتبه ومؤلفاته

ولم يكُفَّ هذا العالم لحظة عن البحث والدرس، وأثمرت هذه الحياة العلمية الجادة عما يزيد عن مائة وعشرين مؤلفًا، نقل بعضها إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية، وأخذ عنها الغربيون، واستفادوا منها، ومن هذه المؤلفات غير ما ذكرنا:

- الرسائل المتفرقة في الهيئة، وهي تحتوي على إحدى عشرة رسالة في علوم مختلفة، وقد طبعتها دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند سنة (1367هـ= 1948م).

- الجماهر في معرفة الجواهر، وهو من أهم مؤلفات البيروني في علوم المعادن، وطبع في حيدر آباد الدكن بالهند (1355هـ=1936م).

- استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها، وطبع أيضًا بالهند.

- جوامع الموجود لخواطر الهنود في حساب التنجيم.

-تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، وطبع محققًا بعناية المستشرق الروسي بولجاكوف، ونشره معهد المخطوطات العربية سنة 1962م.

-في تهذيب الأقوال في تصحيح العرض والأطوال.

وإلى جانب التأليف نقل البيروني اثنين وعشرين كتابًا من تراث الهند العلمي إلى اللغة العربية، وترجم بعض المؤلفات الرياضية من التراث اليوناني مثل كتاب أصول إقليدس، وكتاب المجسطي لبطليموس.

أيامه الأخيرة

وظل البيروني حتى آخر حياته شغوفًا بالعلم مقبلا عليه، متفانيًا في طلبه. ويروي المؤرخ الكبير ياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباء ما يغني عن الكلام في مدى تعلق البيروني بمسائل العلم حتى الرمق الأخير، فيقول على لسان القاضي علي بن عيسي، قال: "دخلت على أبي الريحان وهو يجود بنفسه قد حَشْرَج نفسُه، وضاق به صدره، فقال لي وهو في تلك الحال: كيف قلت لي يومًا حساب المجدَّات الفاسدة (من مسائل المواريث) فقلت له إشفاقًا عليه: أفي هذه الحالة! قال لي: يا هذا أودّع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرًا من أن أخلّيها وأنا جاهل لها؛ فأعدت ذلك عليه، وحفظه… وخرجت من عنده وأنا في الطريق سمعت الصراخ…"، وكان ذلك في غزنة في (3 من رجب 440هـ= 12 من ديسمبر 1048م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
06-01-2006, 02:07 AM
أبو جعفر المنصور.. الحاكم الجاد

(في ذكرى وفاته: 6 من ذي الحجة 158هـ)



يعد أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية التي ظلت خمسة قرون زينة الدنيا، ومركز الحضارة، وموئل الثقافة، وعاصمة العالم. نهض إلى الخلافة بعد أن أصقلته التجارب وأنضجته المحن، وخَبِر الناس وعاشرهم ووقف على دواخلهم وخلائقهم، وما إن أمسك بزمام الأمور حتى نجح في التغلب على مواجهة صعاب وعقبات توهن عزائم الرجال وتضعف ثبات الأبطال، وتبعث اليأس والقنوط في النفوس. وكانت مصلحة الدولة شغله الشاغل، فأحكمت خطوه وأحسنت تدبيره، وفجرت في نفسه طاقات هائلة من التحدي، فأقام دولته باليقظة الدائمة والمثابرة الدائبة والسياسة الحكيمة.

مولده ونشأته

في قرية "الحميمة" التي تقع جنوب الشام ولد عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس سنة (95هـ = 714م)، ونشأ بين كبار رجال بني هاشم الذين كانوا يسكنون الحميمة، فشب فصيحا عالما بالسير والأخبار، ملما بالشعر والنثر. وكان أبوه محمد بن علي هو الذي نظّم الدعوة العباسية، وخرج بها إلى حيز الوجود، واستعان في تحركه بالسرية والكتمان، والدقة في اختيار الرجال والأنصار والأماكن التي يتحرك فيها الدعاة، حيث اختار الحميمة والكوفة وخراسان.

وحين نجحت الدعوة العباسية وأطاحت بالدولة الأموية؛ تولى أبو العباس السفّاح الخلافة سنة (132هـ = 749) واستعان بأخيه جعفر في محاربة أعدائه والقضاء على خصومه وتصريف شئون الدولة، وكان عند حسن ظنه قدرة وكفاءة فيما تولى، حتى إذا مرض أوصى له بالخلافة من بعده، فوليها في (ذي الحجة 136هـ = يونيو 754م) وهو في الحادية والأربعين من عمره.

الفترة الأولى من خلافته

لم تكن الدولة العباسية حين تولى أمرها الخليفة أبو جعفر المنصور ثابتة الأركان مستقرة الأوضاع، بل كانت حديثة عهد، يتربص بها أعداؤها، ويتطلع رجالها إلى المناصب الكبرى، وينتظرون نصيبهم من الغنائم والمكاسب، ويتنازع القائمون عليها من البيت العباسي على منصب الخلافة. وكان على الخليفة الجديد أن يتصدى لهذه المشكلات التي تكاد تفتك بوحدة الدولة، وتلقي بها في مهب الريح.

وكان أول ما واجهه أبو جعفر المنصور ثورة عارمة حمل لواءها عمه عبد الله بن علي الذي رأى أنه أحق بالخلافة من ابن أخيه؛ فرفض مبايعته، وأعلن التمرد والعصيان، وزعم أن "أبو العباس السفاح" أوصى بالأمر له من بعده، واستظهر بالجيش الذي كان يقوده في بلاد الشام.

لجأ الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور إلى المدينة واتباع الطرق السلمية في علاج الموقف، فبعث إلى عمه رسائل عدة تدعوه إلى الطاعة وترك العصيان، لكنه أعرض عن دعوته وركب رأسه وأعماه الغرور، فلم يجد المنصور بدًا من الاستعانة بالسيف، وأرسل له قائده "أبو مسلم الخراساني" على رأس جيش كبير، فتمكن بعد عدة معارك من هزيمة عم الخليفة المتمرد هزيمة ساحقة في (جمادى الآخرة 137هـ = نوفمبر 754م)، فاضطر إلى الفرار والاختباء عند أخيه سليمان بن علي والي البصرة، ولما علم الخليفة أبو جعفر المنصور بخبره احتال له حتى قبض عليه، وألقى به في السجن حتى توفي.

وما كاد يلتقط الخليفة العباسي أنفاسه حتى أعد العدة للتخلص من أبي مسلم الخراساني، صاحب اليد الطولى في نجاح قيام الدولة العباسية، وكان الخليفة يخشاه ويخشى ما تحت يده من عدد وعتاد في خراسان، ولم يكن الرجلان على وفاق منذ قيام الدولة. وكان أبو مسلم الخراساني يتيه بما صنعه للدولة. وتحين أبو جعفر المنصور الفرصة للتخلص من غريمه، ولجأ إلى الحيلة والدهاء حتى نجح في حمل أبي مسلم على القدوم إليه بعيدًا عن أنصاره وأعوانه في (شعبان 137هـ = فبراير 755م)، وبعد جلسة حساب عاصفة لقي القائد الكبير مصرعه بين يدي الخليفة.

وبعد مقتل أبي مسلم الخراساني اشتعلت ضد الخليفة العباسي عدة ثورات فارسية للثأر لمقتله، غير أن الخليفة اليقظ نجح في قمع هذه الفتن والقضاء عليها.

ثورة محمد النفس الزكية

غير أن أخطر ما واجه المنصور هو ثورة العلويين بقيادة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية، وأخيه إبراهيم، وكانا يعدان العدة للخروج على أبي جعفر المنصور، وينتظران الفرصة للانقضاض عليه، واختفيا عن أنظار الخليفة يبثان رجالهما وينشران الدعوة إليهما.

وكان محمد النفس الزكية يرى نفسه أحق بالخلافة من أبي جعفر المنصور، فامتنع عن بيعته، كما امتنع من قبل عن بيعة أبي العباس السفاح، فلما ولي أبو جعفر المنصور رأى في بقاء محمد وأخيه خطرًا يهدد دولته، وأيقن أنهما لن يكفا عن الدعوة إلى أحقية البيت العلوي بالخلافة، وأقلق اختفاؤهما الخليفة اليقظ؛ فبذل ما في وسعه لمعرفة مكانهما فلم ينجح في الوصول إليهما، وعجز ولاة المدينة عن تتبع أخبارهما، فاستعان بوالٍ جديد للمدينة غليظ القلب للوصول إلى مكان محمد النفس الزكية، فلجأ إلى القبض على عبد الله بن الحسن والد الزعيمين المختفيين وهدده وتوعده، وقبض أيضا على نفر من آل البيت، وبعث بهم مكبلين بالأغلال إلى الكوفة فشدد عليهم الخليفة وغالى في التنكيل بهم، فاضطر محمد النفس الزكية إلى الظهور بعد أن مكث دهرا يدعو لنفسه سرا، واعترف الناس بإمامته في مكة والمدينة، وتلقّب بأمير المؤمنين، وكان الناس يميلون إليه لخلقه وزهده وحلمه وبعده عن الظلم وسفك الدماء حتى أطلقوا عليه النفس الزكية. وحين نجحت حيلة المنصور في إجبار محمد النفس الزكية على الظهور بعد القبض على آل بيته، بعث إليه بجيش كبير يقوده عمه عيسى بن موسى فتمكن من هزيمة محمد النفس الزكية وقتله بالمدينة المنورة في (14 من رمضان 145هـ = 6 من ديسمبر 762م).

ثم تمكن من هزيمة الجيش العلوي الثاني الذي كان يقوده إبراهيم أخو محمد النفس الزكية، الذي تغلب على البصرة والأهواز وفارس، ونجح في القضاء عليه بعد صعوبة بالغة في (25 من ذي القعدة 145هـ = 14 من يناير 763م) في معركة حاسمة وقعت في "باخمرى" بين الكوفة وواسط، وبذلك زال خطر هائل كان يهدد سلامة الدولة الناشئة.

وقد أثبتت هذه الأحداث المتلاحقة والثورات العارمة، ما يمتلكه الخليفة أبو جعفر المنصور من براعة سياسية وخبرة حربية، وقدرة على حشد الرجال، وثبات في المحن، ودهاء وحيلة في الإيقاع بالخصوم، وبذلك تمكن من التغلب على المشكلات التي واجهته منذ أن تولى الحكم.

المنصور وبناء بغداد

رغب الخليفة أبو جعفر المنصور في بناء عاصمة جديدة لدولته بعيدة عن المدن التي يكثر فيها الخروج على الخلافة كالكوفة والبصرة، وتتمتع باعتدال المناخ وحسن الموقع، فاختار "بغداد" على شاطئ دجلة، ووضع بيده أول حجر في بنائها سنة (145هـ = 762م) واستخدم عددا من كبار المهندسين للإشراف على بنائها، وجلب إليها أعدادا هائلة من البنائين والصناع، فعملوا بجد وهمة حتى فرغوا منها في عام (149هـ = 766م) وانتقل إليها الخليفة وحاشيته ومعه دواوين الدولة، وأصبحت منذ ذلك الحين عاصمة الدولة العباسية، وأطلق عليها مدينة السلام؛ تيمنا بدار السلام وهو اسم من أسماء الجنة، أو نسبة إلى نهر دجلة الذي يسمى نهر السلام. ولم يكتف المنصور بتأسيس المدينة على الضفة الغربية لدجلة، بل عمل على توسيعها سنة (151هـ = 768م) بإقامة مدينة أخرى على الجانب الشرقي سماها الرصافة، جعلها مقرا لابنه وولي عهده "المهدي" وشيد لها سورا وخندقا ومسجدا وقصرا، ثم لم تلبث أن عمرت الرصافة واتسعت وزاد إقبال الناس على سكناها.

بيت الحكمة

ومن الأعمال الجليلة التي تُذكر للمنصور عنايته بنشر العلوم المختلفة، ورعايته للعلماء من المسلمين وغيرهم، وقيامه بإنشاء "بيت الحكمة" في قصر الخلافة ببغداد، وإشرافه عليه بنفسه، ليكون مركزا للترجمة إلى اللغة العربية. وقد أرسل أبو جعفر إلى إمبراطور الروم يطلب منه بعض كتب اليونان فبعث إليه بكتب في الطب والهندسة والحساب والفلك، فقام نفر من المترجمين بنقلها إلى العربية.

وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ذروته في عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية فائقة، ووهبه كثيرا من ماله ووقته، وكان يشرف على بيت الحكمة قيّم يدير شئونه، ويُختار من بين العلماء المتمكنين من اللغات. وضم بيت الحكمة إلى جانب المترجمين النسّاخين والخازنين الذين يتولون تخزين الكتب، والمجلدين وغيرهم من العاملين. وظل بيت الحكمة قائما حتى داهم المغول بغداد سنة (656هـ = 1258م).

شخصية المنصور

كان الخليفة أبو جعفر المنصور رجل عمل وجد، لم يتخذ من منصبه وسيلة للعيشة المرفهة والانغماس في اللهو والاستمتاع بمباهج السلطة والنفوذ، يستغرق وقته النظر في شئون الدولة، ويستأثر بمعظم وقته أعباء الحكم.

وكان يعرف قيمة المال وحرمته، فكان حريصا على إنفاقه فيما ينفع الناس؛ ولذلك عني بالقليل منه كما عني بالكثير، ولم يتوان عن محاسبة عماله على المبلغ الزهيد، ولا يتردد في أن يرسل إليهم التوجيهات والتوصيات التي من شأنها أن تزيد في دخول الدولة، وكان يمقت أي لون من ألوان تضييع المال دون فائدة، حتى اتهمه المؤرخون بالبخل والحرص، ولم يكن كذلك فالمال العام له حرمته ويجب إنفاقه في مصارفه المستحقة؛ ولذلك لم يكن يغض الطرف عن عماله إذا شك في أماناتهم من الناحية المالية بوجه خاص لأنه كان يرى أن المحافظة على أموال الدولة الواجب الأول للحاكم.

وشغل أبو جعفر وقته بمتابعة عماله على المدن والولايات، وكان يدقق في اختيارهم ويسند إليهم المهام، وينتدب للخراج والشرطة والقضاء من يراه أهلا للقيام بها، وكان ولاة البريد في الآفاق يكتبون إلى المنصور بما يحدث في الولايات من أحداث، حتى أسعار الغلال كانوا يطلعونه عليها وكذلك أحكام القضاء. وقد مكنه هذا الأسلوب من أن يكون على بينة مما يحدث في ولايات دولته، وأن يحاسب ولاته إذا بدر منهم أي تقصير.

ولم يكن المنصور قوي الرغبة في توسيع رقعة دولته ومد حدوده؛ لأنه كان يؤثر توطيد أركان الدولة والمحافظة عليها وحمايتها من العدوان والقلاقل والثورات الداخلية، لكنه اضطر إلى الدخول في منازعات وحروب مع الدولة البيزنطية حين بدأت بالعدوان وأغارت على بلاده، وقد توالت حملاته على البيزنطيين بعد أن استقرت أحوال دولته سنة (149هـ = 766م) حتى طلب إمبراطور الروم الصلح فأجابه المنصور إليه، لأنه لم يكن يقصد بغزو الدولة البيزنطية الغزو والتوسع بقدر إشعارهم بقوته حتى يكفوا عن التعرض لدولته.

وعلى الرغم من الشدة الظاهرة في معاملة المنصور، وميله إلى التخلص من خصومه بأي وسيلة، فقد كان يقبل على لقاء العلماء الزاهدين ويرحب بهم ويفتح صدره لتقبل نقدهم ولو كان شديدا. وتمتلئ كتب التاريخ والأدب بلقاءاته مع سفيان الثوري وعمرو بن عبيد وابن أبي ذئب والأوزاعي وغيرهم. ويؤخذ عليه شططه في معاملة الإمامين الكبيرين: أبي حنيفة النعمان، ومالك بن أنس؛ لاعتقاده أنهما يتفقان مع خصومه من آل البيت العلوي.

دامت خلافة أبي جعفر المنصور اثنين وعشرين عاما، نجح خلالها في تثبيت الدولة العباسية ووضع أساسها الراسخ الذي تمكن من الصمود خمسة قرون حتى سقطت أمام هجمات المغول. وبعد حياة مليئة بجلائل الأعمال توفي الخليفة العباسي في (6 من ذي الحجة 158هـ = 7 من أكتوبر 755م) وهو محرم بالحج والعمرة، ودُفن في مقبرة المعلاة (بئر ميمون) في أعلى مكة المكرمة.

منقول

عبدالغفور الخطيب
08-01-2006, 02:42 AM
معركة فخ.. ميلاد الأدارسة

(في ذكرى نشوبها: 8 من ذي الحجة 169هـ)


لم تنقطع ثورات آل البيت منذ أن استشهد الحسين بن علي في معركة كربلاء، في العاشر من المحرم سنة 61هـ، وكانت نتيجة هذه المعركة مأساة أدمَتْ قلوب المسلمين حزنًا على الحسين، ريحانة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وبعد أكثر من نصف قرن من مقتل الحسين أعلن حفيده زيد بن علي بن الحسين الثورة على الخليفة الأموي سنة 121هـ، وتكررت المأساة نفسها؛ فلم يكن معه من القوة والرجال ما يضمن له النجاح والظفر، لكنه انخدع ببيعة أهل الكوفة، حتى إذا جدّ الجدَّ وظهرت معادن الرجال انفضوا عنه وتركوه يلقى مصيره المحتوم أمام يوسف بن عمر الثقفي والي الكوفة الذي نجح في القضاء على تلك الثورة، وقتل مفجرها زيد بن علي.

ولم تنقطع ثورات العلويين بعد تولي أبناء عمومتهم العباسيين الخلافة، وإعلانهم أنهم أحق بها منهم، وقابل العباسيون ثورات أبناء العمومة بكل شدة وقسوة، ونجح أبو جعفر المنصور في القضاء على ثورة "محمد النفس الزكية"، الذي كان معروفًا بالتقوى والفضل وفي مقدمة سادات بني هاشم خلقًا وعلمًا وورعًا، وانتهت ثورته باستشهاده سنة (145هـ = 762م)، ولم تكن ثورة أخيه إبراهيم أفضل حالاً من ثورته، فلقي مصرعه في السنة نفسها، واطمأن أبو جعفر المنصور على سلطانه، واستتب له الأمر.

معركة فخ بالقرب من مكة

وبعد فشل هاتين الثورتين قامت حركات لبعض العلويين في اليمن وخراسان، لكنها لم تلقَ نجاحًا، وأصابها مثل ما أصاب ما قبلها من ثورات، وعاش من بقي من آل البيت العلوي في هدوء، وربما استخفوا حتى يتمكنوا من إعداد العدة للخروج وهم مكتملو القوة والعدد، وظلت الأمور على هذا النحو من التربص والانتظار حتى حدث نزاع صغير بين والي المدينة المنورة وبعض رجال من آل البيت أساء التعامل معهم، وأهانهم وأغلظ القول لهم، فحرك ذلك مكامن الثورة في نفوسهم، وأشعل الحمية في قلوبهم، فثار العلويون في المدينة بقيادة الحسين بن علي بن الحسن، وانتقلت الثورة إلى مكة بعد أن أعلن الحسين البيعة لنفسه، وأقبل الناس عليه يبايعونه.

ولما انتهى خبر هذه الثورة إلى الخليفة العباسي موسى الهادي، أرسل جيشًا على وجه السرعة للقضاء على الثورة، قبل أن يمتد لهيبها إلى مناطق أخرى؛ فيعجز عن إيقافها، فتحرك الجيش العباسي إلى مكة، والتقى بالثائرين في (8 من ذي الحجة 169هـ = 11 من يونيو 786م) في معركة عند مكان يسمى "فخ" يبعد عن مكة بثلاثة أميال، وانتهت المعركة بهزيمة جيش الحسين، ومقتله هو وجماعة من أصحابه.

نجاة إدريس بن عبد الله


وكان ممن نجا من قادة الثائرين في هذه المعركة "إدريس بن عبد الله بن الحسن"، واتجه إلى مصر ومعه خادمه راشد، وكان شجاعًا عاقلاً وفيًا لسيده، وظل أمرهما مجهولاً حتى بلغا مصر مستخفيْن في موكب الحجيج، ولم يكن اختفاؤهما أمرًا سهلاً؛ فعيون الخلافة العباسية تتبعهما وتقتفي أثرهما، ولم تكن لتهدأ وتطمئن قبل أن تعثر على إدريس بن عبد الله حيًا أو ميتًا، لكنهما نجحا في التحرك والتخفي؛ لا لمهارتهما في ذلك، ولكن لحب الناس آل البيت، وتقديم يد العون والمساعدة لهما.

ومن مصر خرج إدريس وخادمه "راشد" إلى بلاد المغرب، ويقال: إن هذا الخادم كان بربريَّ الأصل، وساعدهما على الخروج من مصر عامل البريد بها؛ فقد كان متشيعًا لآل البيت، فلما علم بوجودهما في مصر قدم إليهما في الموضع الذي يستخفيان به، وحملهما على البريد المتجه إلى المغرب. وتذهب روايات تاريخية إلى أن الذي أعان إدريس على الفرار من مصر هو "علي بن سليمان الهاشمي" والي مصر، وأيًا ما كان الأمر فإن إدريس لقي دعمًا ومساعدة لتمكينه من الخروج من مصر، سواءً كان ذلك بعون من والي مصر أو من عامل البريد.

رحلة شاقة

وبعد أن وصل إدريس بن عبد الله إلى برقة تخفى في زي خشن، يظهر فيه بمظهر غلام يخدم سيده "راشد"، ثم سلكا طريقًا بعيدًا عن طريق إفريقية إمعانًا في التخفِّي، وخوفًا من أن يلتقي بهما أحد من عيون الدولة العباسية التي اشتدت في طلبهما، حتى وصلا إلى تلمسان سنة (170هـ = 786م)، وأقاما بها عدة أيام طلبًا للراحة، ثم استأنفا سيرهما نحو الغرب، فعبرا "وادي ملوية"، ودخلا بلاد السوس الأدنى، حيث أقاما بعض الوقت في "طنجة" التي كانت يومئذ أعظم مدن المغرب الأقصى، ثم واصلا سيرهما إلى مدينة "وليلى"، وهي بالقرب من مدينة مكناس المغربية، واستقرا بها بعد رحلة شاقة استغرقت حوالي عامين.

في وليلى

وبعد أن استقر إدريس في وليلى (قصر فرعون حاليًا) اتصل بإسحاق بن محمد بن عبد الحميد زعيم قبيلة "أوربة" البربرية، صاحبة النفوذ والسيطرة في "وليلى"، فلما اطمأن إليه إدريس عرفه بنسبه، وأعلمه بسبب فراره من موطنه؛ نجاة بنفسه من بطش العباسيين، وقد رحب إسحاق بضيفه الكبير، وأنزله معه داره، وتولى خدمته والقيام بشأنه شهورًا عديدة، حتى إذا حل شهر رمضان من السنة نفسها جمع إسحاق بن محمد إخوته وزعماء قبيلة أوربة، وعرفهم بنسب إدريس وبفضله وقرابته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكرمه وأخلاقه وعلمه؛ فرحبوا جميعًا به، وأعربوا عن تقديرهم له، وبايعوه بالخلافة في (14 من رمضان 172هـ = 15 من فبراير 788م)، وبعد ذلك خلع "إسحاق بن عبد الحميد" طاعة بني العباس حيث كان من ولاتهم، وتنازل لإدريس عن الحكم.

وتبع ذلك دعوة لإدريس بين القبائل المحيطة، فدخلت في دعوته قبائل: زناتة، وزواغة، وزوارة، ولماية، وسراته، وغياشة، ومكناسة، وغمارة، وباعيته على السمع والطاعة، واعترفت بسلطانه، وقصده الناس من كل مكان.

استقرت الأمور لإدريس بن عبد الله، ورسخت أقدامه بانضمام كل هذه القبائل إلى دعوته، ودانت له معظم قبائل البربر، وبدأ يطمح في مدّ نفوذه وسلطانه إلى القبائل التي تعترف بحكمه، ونشر الإسلام بين القبائل التي لا تزال على المجوسية أو اليهودية أو المسيحية، فأعد جيشًا كبيرًا زحف به نحو مدينة "شالة" قبالة مدينة الرباط، ففتحها، ثم تحول في كل بلاد "تامسنا" فأخضعها، وأتبع ذلك بإخضاع إقليم "تاولا"، وفتح حصونه وقلاعه، وأدخل كثير من أهل هذه البلاد الإسلام، ثم عاد إلى "وليلى" للراحة والاستجمام في (آخر ذي الحجة 172هـ = مايو 789م)، ثم عاود حملته الظافرة عازمًا على دعوة من بقي من قبائل البربر إلى الإسلام، ونجح في إخضاع قبائل: قندلاوة ومديونة وبهلولة وغيرها من القبائل البربرية التي كانت متحصنة بالجبال والحصون المنيعة، ثم رجع إلى وليلى في (15 من جمادى الآخرة 173هـ = 10 من أكتوبر 789م).

فتح تلمسان.. وبناء مسجدها

أقام إدريس بن عبد الله شهرًا في وليلى، ثم عاود الفتح، واتجه ناحية الشرق هذه المرة، عازمًا على توسيع ملكه في المغرب الأوسط على حساب الدولة العباسية، فخرج في منتصف رجب 173هـ = نوفمبر 789م متجهًا نحو تلمسان، وفي أثناء زحفه استولى على مدينة "سبتة"، ولم يكد يصل إلى "تلمسان" حتى خرج إليه صاحبها "محمد بن خرز"، وأعلن خضوعه له دون قتال، وبايع إدريس بن عبد الله، وتبعته قبائل: مغراوة وبني يفرده.

ولما دخل الإمام إدريس تلمسان أقام بها مسجدًا للمدينة جامعًا، وصنع منبرًا جميلاً كان يحمل نقشًا يحدد تاريخ إنشائه، ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما أمر به إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وذلك في شهر صفر 174هـ، وهذا يعني أن إدريس أقام في تلمسان حتى هذا التاريخ، ثم كرَّ راجعًا إلى عاصمة ملكه.

نهاية الإمام إدريس


ولم تكد تصل هذه الفتوحات إلى عاصمة الخلافة العباسية حتى فزع الخليفة هارون الرشيد، وشعر بالقلق والذعر من النجاح الذي يحققه إدريس بن عبد الله، الذي نجح فيما فشل فيه غيره من أبناء البيت العلوي؛ فلأول مرة ينجحون في إقامة دولة لهم بعد إخفاقات عديدة ومآسٍ دامية، ثم اشتد خوف الخليفة العباسي حين جاءته الأخبار بعزم إدريس بن عبد الله على غزو أفريقية (تونس)، ففكر في إرسال جيش لمحاربة هذا العلوي المظفر، وبينما الرشيد على هذه الحال من القلق والاضطراب تدخلت الأقدار، وأراحته مما كان يفكر فيه، فتوفي إدريس بن عبد الله في (سنة 177هـ = 793م) على أرجح الروايات، بعد أن نجح في تحدي الصعوبات، وأقام دولة عُرفت باسمه "دولة الأدارسة" بعيدًا عن وطنه بين قبائل متطاحنة تعتز بعنصريتها، وتتخذ من قوتها وسيلة لفرض سيطرتها على من حولها، وهذه تُحسب له، وتجعله واحدًا من كبار رجال التاريخ. ويضاف إليه أن المغرب مدين له في نشر الإسلام في أماكن لم يكن قد وصل إليها من قبل.


منقول

عبدالغفور الخطيب
09-01-2006, 02:06 AM
معركة تولوز.. أمل لم يتحقق

(في ذكرى نشوبها: 9 من ذي الحجة 103هـ)



توفي سليمان بن عبد الملك في (العاشر من صفر سنة 99هـ = 22 من سبتمبر 717م) وخلفه ابن عمه عمر بن عبد العزيز، فبدأت بلاد الأندلس في خلافته عهدا جديدا؛ حيث جعلها تابعة له مباشرة، شأنها في ذلك شأن بعض الولايات الإسلامية الأخرى، وكانت الأندلس من قبل تابعة لولاية إفريقية، واختار لها واحدا من الرجال الصالحين الأكْفاء القادرين على النهوض بمسئولياتهم في إيمان ونزاهة. وكان الخليفة العادل حريصا على ذلك أيما حرص؛ فكانت أمور المسلمين شغله الشاغل.

وكان ذلك الوالي الكفء الذي اختاره الخليفة لولاية الأندلس هو "السمح بن مالك الخولاني"، تخيّره الخليفة لأمانته وكفاءته وإخلاصه. وتذكر الروايات التاريخية أن من عادة خلفاء بني أمية أنهم كانوا لا يدخلون خزائن بيت المال شيئا مما يرسله ولاتهم من أموال الخراج إلا إذا شهد 10 من عُدُول الجند في الولاية بأن هذا المال هو المستصفى الحلال لبيت المال، بعد دفع أعطيات الجند والإنفاق على مصالح الولاية وشئونها؛ فلما أقبلت أموال ولاية إفريقية في أحد أعوام خلافة سليمان، كان يصحبها 10 من العدول الذين اختارهم الوالي، وكان فيهم إسماعيل بن عبيد الله، والسمح بن مالك، فلما طلب الخليفة شهادتهم حلف 8 بصحة هذا المال، ورفض الرجلان أن يحلفا على ذلك. وكان عمر بن عبد العزيز حاضرا هذه الجلسة، فأعجب بنزاهة الرجلين وشجاعتهما، فلما ولي الخلافة استعان بهما في إدارة ولايات دولته.

ولاية السمح بن مالك

ولم يقدم الخليفة عمر بن عبد العزيز على النظر في شئون المغرب والأندلس إلا بعد مضي أكثر من عام من خلافته؛ فقد شغلته أمور الدولة الأخرى عن متابعة ما يجري في الأندلس، وكان يفكّر في إرجاع المسلمين من الأندلس وإخلائهم منها؛ فكان يخشى تغلّب العدو عليهم لانقطاعهم من وراء البحر عن المسلمين.

غير أن هذه الفكرة تبددت لديه، وعزم على إصلاح أمور الأندلس حديثة العهد بالإسلام، فاختار لولايتها السمح بن مالك، وأمره أن يحمل الناس على طريق الحق، ولا بعدل بهم عن منهج الرفق، وطلب منه أن يكتب له بصفة الأندلس، وأنهارها وبحرها، فلما استقر السمح هناك كتب إليه يعرفه بقوة الإسلام وكثرة مدائنهم، وشرف معاقلهم؛ فلما استوثق الخليفة عمر من أهمية الأندلس، وثبات أقدام المسلمين فيها أولاها من عانيته ما هي جديرة به. ولم يكد السمح بن مالك يتولى أمر الأندلس حتى ظهر أثر كفايته وصلاحه في البلاد، فانتظمت أمورها، ونعم الناس بالأمن والسلام، وتحسنت موارد الدولة، واجتمع له من المال مبلغ كبير منه، استغله في إصلاح مرافق الولاية.

وحدث أن قنطرة "قرطبة" الرومانية التي كانت مقامة على نهر الوادي الكبير للاتصال بنواحي جنوبي الأندلس قد تهدمت، واستعان الناس بالسفن للعبور، وكان في ذلك مشقة عليهم، وأصبح المسلمون في حاجة إلى بناء قنطرة متينة يستطيعون العبور عليها من الجنوب إلى قرطبة عاصمتهم الجديدة، ووجد السمح بن مالك أن خير ما ينفق فيه هذا المال هو بناء تلك القنطرة، فكتب إلى الخليفة عمر في دمشق يستأذنه في بناء القنطرة فأذن له، فقام السمح ببنائها على أتم وأعظم ما يكون البناء. وكان لهذه القنطرة أهميتها في تاريخ الأندلس السياسي والفكري، فربطت بين قرطبة بجنوبي الأندلس وشمالي أفريقيا، وكانت من الجمال والبهاء بحيث أصبحت متنزه أهل قرطبة ومدار خيال شعراء الأندلس.

الاتجاه إلى الفتح

وبعد أن اطمأن السمح بن مالك إلى أحوال أمور الأندلس، ووثق الخليفة عمر باستقرار المسلمين بها، بدأ السمح يفكر في معاودة الفتح، ورد المتربصين بولايته من أمراء ما وراء جبال ألبرت، فأعد العدة لذلك، وجهز جيوشه لهذه المهمة.

واخترقت جيوش السمح جبال ألبرت من الشرق، وسيطر على عدد من القواعد هناك، واستولى على "سبتمانيا" في جنوبي فرنسا، وأقام بها حكومة إسلامية، ووزع الأراضي بين الفاتحين والسكان، وفرض الجزية على النصارى، وترك لهم حرية الاحتكام إلى شرائعهم، ثم زحف نحو الغرب ليغزو "أكوتين".

وكانت مملكة الفرنج حينما عبر المسلمون إلى غاليا –فرنسا- تفتك بها الخلافات والحروب بين أمرائها، غير أن الأمير "أدو" دوق أكوتين كان أقوى أمراء الفرنج في غاليا وأشدهم بأسا، نجح في غمرة الاضطراب الذي ساد المملكة أن يستقل بأكوتين، ويبسط نفوذه وسلطانه على جميع أنحائها في الجنوب من اللوار إلى البرنية.

فلما زحف السمح بن مالك إلى الغرب ليغزو أكوتين قاومه البشكنس -سكان هذه المناطق- أشد مقاومة، لكنه نجح في تمزيق صفوفهم، وقصد إلى تولوشة تولوز. وفي أثناء سيره جاءت الأخبار بأن الدوق "أدو" أمير أكوتين جمع جيشا كبيرا لرد المسلمين، وإخراجهم من فرنسا، فآثر السمح بن مالك ملاقاة عدوه على كثرة عددهم عن مهاجمة تولوشة، والتقى الفريقان بالقرب منها، ونشبت بينهما معركة هائلة في 9 من ذي الحجة 102هـ = 9 من يونيو 721م، سالت فيها الدماء غزيرة، وكثر القتل بين الفريقين، وأبدى المسلمون رغم قلتهم شجاعة خارقة وبسالة وصبرًا، وتأرجح النصر بين الفريقين دون أن يحسم لصالح أحد من الفريقين، حتى سقط "السمح" شهيدًا من على جواده، فاختلت صفوف المسلمين، ووقع الاضطراب في الجيش كله، وعجز قادة الجيش أن يعيدوا النظام إلى الصفوف، وارتد المسلمون إلى "سبتمانيا" بعد أن فقدوا زهرة جندهم، وسقط عدد من كبار قادتهم.

العودة إلى الأندلس

وعلى إثر استشهاد السمح بن مالك اختار الجيش أحد زعمائه "عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي"، فبذل جهدًا خارقًا ومهارة فائقة في جمع شتات الجيش، والتقهقر به إلى الأندلس، وأقام نفسه واليًا على الأندلس عدة أشهر قليلة حتى يأتي الوالي الجديد، وفي هذه المدة القليلة نجح عبد الرحمن الغافقي في ضبط أمور الولاية، والقضاء على الفتن التي ظهرت في الولايات الجبلية الشمالية.

ثم تولى عنبسة بن سحيم الكلبي أمر الأندلس في (صفر 103هـ = أغسطس 722م)، وكان من طراز السمح بن مالك كفاءة وقدرة وورعًا وصلاحًا، له شغف بالجهاد وحرص على نشر الإسلام وتوسيع دولته، وما إن استقرت الأمور في الأندلس بعد اضطراب واختلال حتى عاود الفتح، وخرج على رأس جيشه من قرطبة، وسار نحو سبتمانيا التي فقد المسلمون كثيرًا من قواعدها، وتابع زحفه شمالاً في وادي الرون، ولم تقف هذه الجملة الظافرة إلا قرب بلدة "سانس" على بعد ثلاثين كيلومترًا جنوبي باريس، وخشي "أدو" دوق أكوتين أن يهاجمه المسلمون مرة أخرى، فسعى إلى مفاوضتهم ومهادنتهم، وبذلك بسط المسلمون نفوذهم في شرق جنوبي فرنسا.

ولما لم يكن في نية عنبسة الاستقرار في تلك المناطق، فقد عاد إلى بلاده بعد أن أعاد نفوذ المسلمين في مملكة غالة، قاطعًا نحو ألف ميل شمالي قرطبة، وفي طريق العودة داهمته جموع من الفرنجة، فالتحم معها في معركة أصيب أثناءها بجراح بالغة توفي على إثرها في (شعبان 107هـ = ديسمبر 725م)، بعد أن انفرد بين الفاتحين المسلمين بفخر الوصول برايات الإسلام إلى قلب أوروبا الغربية، ولم يدرك هذا الشأو بعد ذلك فاتح مسلم آخر.

وقد تكررت محاولات المسلمين لفتح مملكة غالة والاستقرار بها ثم التوسع في قلب أوروبا لنشر الإسلام بها، لكنها لم تلقَ نجاحًا، وكانت آخر تلك المحاولات ما قام به القائد العظيم عبد الرحمن الغافقي، لكن استشهاده في معركة بلاط الشهداء (رمضان 114هـ = أكتوبر 732م) قضى على أحلام المسلمين في الفتح والتوسع.


منقول

عبدالغفور الخطيب
16-01-2006, 02:40 AM
جمعية العلماء الجزائريين.. تحرير وتنوير

(في ذكرى تأسيسها: 16 من ذي الحجة 1350هـ)


احتفلت فرنسا بالعيد المئوي لاحتلال الجزائر سنة (1349هـ= 1930م)، ودعيت الدنيا كلها لحضور هذا الاحتفال، وكانت احتفالات صاخبة أنفق الفرنسيون عليها ما يربو على 80 مليونا من الفرنكات، وعمدوا في هذه المناسبة إلى استعراض جيوشهم على النحو الذي دخلت فيه جيوش الكونت "دي بورمونت" مدينة الجزائر من حيث اللباس والزينة، والعدة والعتاد، والموسيقى والأناشيد.

وكانت هذه الاحتفالات التي استمرت 6 أشهر تمثل روح الاستعلاء للمحتل الفرنسي، وتعبر عن خلق العجب والخيلاء بما فعل؛ فهو لا يقيم وزنًا لأهل البلد المغتَصب، ولا يعتد بما بقي في أنفسهم من العزة والكرامة، وكأنما أقام هذه الاحتفالات ليصلي صلاة الجنازة على الإسلام والعربية في الجزائر، بعد أن اطمأن إلى نجاح سياسته عبر قرن من الزمان في طمس هوية الجزائر وهدم عقيدتها وإماتة روح الجهاد فيها، ولم يكن يدري هذا المحتل الغاصب أنه أوقد بما فعل في النفوس مكامن العزة والكرامة، وأثار في القلوب الكرامة والحمية، وشحذ همة جمع من علماء الإسلام وغيرتهم على دينهم ووطنهم، فتنادوا إلى إنشاء جمعية تناهض أهداف المستعمر وتوقظ النائمين والغافلين، وجعلوا لها شعارًا يعبر عن اتجاههم ومقاصدهم، هو: "الإسلام ديننا.. والعربية لغتنا.. والجزائر وطننا".

بواكير الإصلاح

عشية الحرب العالمية الأولى غادر الجزائر جماعة من العلماء الشبان إلى تونس والمغرب والحجاز ومصر والشام؛ بغية الحصول على الثقافة العربية والإسلامية حيث معاهد العلم الكبرى، بعد أن جفت منابع العلم الأصيلة في الجزائر بفعل المحتل الفرنسي الغاصب، وقد شملت موجة المهاجرين الشبان: عبد الحميد بن باديس، والبشير الإبراهيمي، والطيب العقبي، وقد تأثرت هذه المجموعة بالأفكار الإصلاحية التي قادها محمد عبده ومحمد رشيد رضا، وبعد عودتهم إلى الجزائر عملوا على نشر الوعي وإيقاظ النائمين، عبر الصحافة والمدارس وعقد الندوات وإلقاء المحاضرات، وكانت تراودهم فكرة إنشاء منظمة تجمع صفوفهم وتوحد جهودهم، وتكون منبرًا لأفكارهم الإصلاحية، وجاءت احتفالات فرنسا المستفزة في الجزائر لتحيل آمالهم إلى واقع ملموس.

إنشاء الجمعية

ونتيجة جهود عبد الحميد بن باديس تكونت الجمعية وظهرت للوجود في (16 من ذي الحجة 1350هـ= 5 من مايو 1931م) وتشكّل مجلس إدارتها من 13 عضوًا من علماء الجزائر، واختير من بينهم ابن باديس لرئاسة الجمعية والبشير الإبراهيمي نائبًا له.

ولخص رئيس الجمعية مبادئها في العروبة والإسلام والعلم والفضيلة، وقال: إن هذه المبادئ هي أركان جمعية العلماء التي تحفظ على الجزائريين جنسيتهم وقوميتهم.

وحددت الجمعية الأهداف التي ترمي إلى تحقيقها وتشمل: "تطهير الإسلام من البدع والخرافات، وإيقاد شعلة الحماسة في القلوب بعد أن بذل الاحتلال جهده في إطفائها حتى تنهار مقاومة الجزائريين، وإحياء الثقافة العربية ونشرها بعد أن عمل المستعمر على وأدها، والعمل من أجل حصول الجزائر على استقلالها وضمها إلى الأسرة العربية، والمحافظة على الشخصية الجزائرية بمقوماتها الحضارية والدينية والتاريخية، ومقاومة سياسة الاحتلال الرامية إلى القضاء عليها".

وسائل نضال الجمعية

اعتمدت الجمعية في نشر أهدافها ومبادئها على وسائل متعددة، شملت المسجد والمدرسة والنادي والصحافة، فالمسجد كان للوعظ والإرشاد بطريقة جديدة تعين على فهم الدين ودوره في الحياة، والمدرسة كانت لتربية النشء الجديد وتخريج أجيال جديدة متسلحة بالثقافة العربية الإسلامية، والنادي كان للتوعية والتوجيه الوطني بالخطب والمحاضرات والمسرحيات والأناشيد والصحافة لنشر المبادئ والأهداف والدعوة إلى اليقظة والدفاع عن الجمعية ضد خصومها. بالإضافة إلى وسائل أخرى كانت تُستخدم حسب المناسبة، مثل الاحتجاج والمقابلات وإرسال الوفود، والرحلات، والمشاركة في التجمعات العامة.

وقامت الجمعية بمشروعاتها الإصلاحية معتمدة على اشتراكات أعضائها، بالإضافة إلى اكتتاب الأمة الجزائرية في المشروعات التي تخطط وتدعو لها، مثل مشروع معهد عبد الحميد بن باديس، حيث اكتتبت الأمة لشراء دار للمعهد في قسنطينة، وبهذه الطريقة تمكنت الجمعية من تدبير مواردها المالية التي تلزم لتنفيذ أفكارها الخاصة التي تهدف إلى المحافظة على صبغة الجزائر العربية الإسلامية. وتقاسم رؤساء الجمعية وزعماؤها العمل، فتكفل ابن باديس بقسنطينة، فكان يقوم هو ومعاونوه بنشر العلم وإرشاد المسلمين إلى مبادئ دينهم الصحيحة ومحاربة البدع والخرافات والآفات الاجتماعية عن طريق الوعظ والإرشاد التي كانت تقوم بها المراكز الدينية التابعة للجمعية. وكان ابن باديس يقوم أيضًا بالإشراف على تكوين الجمعيات المحلية التي تقوم بإنشاء المدارس، وجمع الأموال اللازمة للإنفاق عليها وإمدادها بالكتب والوعاظ.

وتولى البشير الإبراهيمي الإشراف على نشاط الجمعية في غرب الجزائر متخذًا من تلمسان مركزًا لعمله وجهوده. وتولى الطيب العقبي المهمة نفسها في الجزائر، وكان هناك تنسيق بين القادة الثلاثة وأعضاء الجمعية وفروعها وأنصارها في مختلف أنحاء الجزائر.

جهود الجمعية في التعليم

تمكنت الجمعية في السنوات التسع الأولى التي أعقبت نشأتها من تأسيس عدد من المدارس والمساجد والنوادي في أهم المدن والقرى الجزائرية التي وصلت إليها دعوتها. وامتد نشاط الجمعية إلى فرنسا حيث تقيم هناك جالية جزائرية كبيرة، تحتاج إلى عناية الجمعية واتخاذ الوسائل التي تعينها على فهم دينها وعدم الانسلاخ من عروبتها وإسلامها، وكان يقوم على هذا النشاط في فرنسا عالم نابه هو "الفضيل الورتلاني" من الشخصيات البارزة في جمعية العلماء، وكان يجيد الفرنسية واللهجات القبلية، وتمثلت جهود الفضيل ومن معه من العلماء في إلقاء المحاضرات التوجيهية ودروس الوعظ والإرشاد، وتعليم أبناء العمال الجزائريين مبادئ اللغة العربية والدين الإسلامي وتاريخ الإسلام والجزائر.

وقد تنبهت فرنسا إلى خطر ما تقوم به جمعية العلماء على سياستها في الجزائر، وخشيت من انتشار الوعي الإسلام، فعطلت المدارس، وزجت بالمدرسين في السجون، وأصدر المسئول الفرنسي عن الأمن في الجزائر في عام (1352هـ = 1933م) تعليمات مشددة بمراقبة العلماء مراقبة دقيقة، وحرّم على غير المصرح لهم من قبل الإدارة الفرنسية باعتلاء منابر المساجد. ولكي يضمن تنفيذ هذه الأوامر عيَّن نفسه رئيسًا للمجلس الأعلى الذي يشرف على الشئون الإسلامية بالجزائر.

وفي فترة الحرب العالمية الثانية ضعف نشاط الجمعية بسبب خضوع البلاد للأحكام العرفية ووفاة مؤسسها ورئيسها عبد الحميد بن باديس، ونُفي خلفه في رئاسة الجمعية "البشير الإبراهيمي" إلى "آفلو" بصحراء وهران، فكان يقود نشاط الجمعية في المنفى من خلال الرسائل التي يتبادلها مع رفاقه من زعماء الجمعية.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عاد النشاط وافرًا للجمعية فقامت بجهود واسعة في نشر رسالتها التعليمية من خلال مدارسها ومساجدها، تدعمها تبرعات الشعب الجزائري ووقوفه خلفها، حتى بلغ عدد المدارس التي أقامتها الجمعية في سنة (1368هـ = 1948م) نحو 140 مدرسة غطت معظم مدن الجزائر وقراها.

ثم تطلعت الجمعية إلى إنشاء مدارس ثانوية بعد أن كانت ترسل أبناءها لدراسة المرحلة الثانوية في تونس، فأنشأت معهد ابن باديس الثانوي سنة (1367هـ = 1947م)، وجعلت منه نواة لإنشاء 3 معاهد أخرى متى تهيأت الظروف في قسنطينة الجزائر، وتلمسان، وقد نجح هذا المعهد في جذب الطلاب، حتى بلغ عددهم في سنة (1375هـ = 1955م) 913 طالبًا، وبلغ عدد المعلمين 275 معلمًا، راعت الجمعية في اختيارهم الكفاءة وحسن الخلق، ثم تشددت في انتقائها لهم واشترطت حصول المعلمين الجدد على المؤهلات العلمية مثل شهادة التحصيل من جامع الزيتونة، وخصصت لهم 4 درجات على أساسها تصرف مرتباتهم.

ولم تتوقف جهود الجمعية على المرحلتين الابتدائية والثانوية بل قامت بإرسال بعثات تعليمية إلى المعاهد والجامعات العربية، فأرسلت 18 طالبًا، وطالبة واحدة إلى مصر والعراق وسوريا وغيرها، حتى بلغ عدد بعثاتها في سنة (1375هـ = 1955م) إلى (109) طلاب، ثم تزايد هذا العدد إلى بضع مئات بعد نجاح الثورة الجزائرية.

آثار جهود الجمعية

وقد أدت جهود الجمعية التعليمية إلى تكوين أجيال جزائرية تؤمن بعروبتها وإسلاميتها وتحافظ على هويتها وانتمائها إلى عالمها العربي والإسلامي، بعد أن قام المستعمر الفرنسي منذ أن وضع يده على الجزائر بالقضاء على منابع الثقافة الإسلامية وإغلاق المدارس التي كانت تضم آلاف الطلاب، ووضع قيود على فتح المدارس الجديدة وقصرها على حفظ القرآن فقط، مع عدم التعرض لتفسير آيات القرآن وبخاصة الآيات التي تدعو إلى الجهاد ومقاومة الظلم والعدوان، وعدم دراسة تاريخ الجزائر والأدب العربي.

وإلى جانب نجاح الجمعية في تعبئة الشعب الجزائري دينيًا وقوميًا كان لها الفضل في وضع فكرة الوطن الجزائري، وهو ما أقلق حكومة الاحتلال الفرنسي، وجعلها تقوم بوضع علماء الجمعية تحت المراقبة.

وكان لجهود الجمعية أثرها في صبغ جبهة التحرير الجزائرية بالصبغة الإسلامية؛ نتيجة لاستعانتها بكثير من علماء الجمعية في جلب التأييد للثورة الجزائرية على الصعيدين العربي والإسلامي، حتى نجحت في الحصول على الاستقلال.


منقول

عبدالغفور الخطيب
21-01-2006, 01:17 PM
سوهارتو.. لا تستهينوا بالشعوب!

(في ذكرى توليته: 21 ذي الحجة 1387هـ)


تعتبر إندونيسيا عاملاً هامًا في الاستقرار في منطقة جنوب شرق آسيا نظرًا لموقعها الإستراتيجي ومساحتها الشاسعة التي تزيد على عشرة ملايين كيلو متر مربع، وعدد سكانها الكبير الذي يتجاوز 210 ملايين نسمة غالبيتهم من المسلمين، وامتدادها على 17 ألف جزيرة منها 6 آلاف جزيرة مأهولة بالسكان، يُضاف إلى ذلك تاريخها الذي شهد فترات طويلة من الصراع ضد الاستعمار الهولندي الذي استمر قرنًا ونصفا، ثم صراع الشيوعيين والجيش أثناء حكم الرئيس أحمد سوكارنو الذي انتهى بتنازل سوكارنو عن الحكم وصعود وزير الدفاع سوهارتو ليتولى رئاسة البلاد، لتبدأ مرحلة جديدة في الحكم استمرت اثنين وثلاثين عامًا حتى عصفت به الأزمة الاقتصادية وأجبرته الإضرابات على تقديم استقالته واتهامه بتكوين ثروة ضخمة قدرت بثمانين مليار دولار، وتزايد المطالبات بضرورة تقديمه إلى المحاكمة العسكرية.

إندونيسيا

إندونيسيا كلمة مركبة من كلمتين: الأولى "إندو" بمعنى "الهند" والأخرى "نيسيا" بمعنى "جزر" ومعناها: جزر الهند، وهي من البلاد الغنية إذ تزيد مساحتها عن مساحة أوروبا، ويعتنق (94%) من سكانها الإسلام، واللغة الرسمية هي: باهاسا الإندونيسية التي كانت تكتب بالحرف العربي، والذي استبدلت هولندا به الحرف اللاتيني سنة (1346هـ = 1927م) ويوجد بها 583 لهجة محلية، وتمتلك ثروة معدنية كبيرة، فتنتج خمس الإنتاج العالمي من القصدير، ومثله من البوكسيت بالإضافة إلى المعادن المختلفة، كما أنها غنية بالبترول والغاز الطبيعي.

ووصل الإسلام إليها مبكرًا عن طريق التجار المسلمين والعرب الذين استقروا في سواحلها وأقاموا المراكز التجارية، ثم قامت بعض الممالك الإسلامية هناك في بداية القرن السابع الهجري مثل مملكة "برلاك" في سومطرة و"آتشه" التي كانت أولى الممالك القديمة التي انتشر فيها الإسلام.

وفي الوقت الذي بدأ المسلمون يثبتون أقدامهم في إندونيسيا، كان الاستعمار الأوروبي يزحف إليها أثناء حركة الكشوف الجغرافية؛ فاحتل البرتغاليون "مالقا" سنة (917هـ = 1511م) واتخذوها قاعدة لشن هجماتهم على باقي الجزر الإندونيسية، فقامت الثورات ضد البرتغاليين واستعان الإندونيسيون في جهادهم ضد البرتغال وإسبانيا بهولندا، فوصل الأسطول الهولندي إلى "سومطرة" و"جاوة" سنة (1005هـ = 1596م) وقاتلوا البرتغاليين، وما إن خرجت البرتغال، حتى بدأت هولندا بتشديد قبضتها على الجزر، وأسست شركة الهند الشرقية الهولندية سنة (1011هـ = 1602م) التي قامت باحتكار موارد الدولة، وإجبار السكان على زراعة محاصيل معينة، ثم تحول الامتياز من الشركة إلى الحكومة الهولندية سنة (1214هـ = 1799م) فوقعت إندونيسيا في قبضة الاحتلال الهولندي الذي استمر قرنًا ونصفا، فرضت فيه اللغة الهولندية، وبدأت المعارك بين الهولنديين والممالك الإسلامية، وتعددت ثورات المسلمين ضد هذا الاستعمار.

وظلت تعرف باسم جزر الهند الشرقية، واستمرت هولندا في سياستها الاستعمارية ونهب الثروات، وكان شعار الهولنديين لمواجهة ثورات المسلمين "التدمير وقوة الانتقام هي مكونات القصة المتكررة في حروبنا"، واتجه السكان إلى تنظيم صفوفهم وتشكيل الأحزاب والجمعيات المختلفة، وعملت هولندا من جانبها على تشكيل أحزاب موالية لها، فاتحدت الأحزاب الإسلامية في تنظيم عرف باسم "المجلس الإسلامي الأعلى".

الاحتلال الياباني

وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية وقعت إندونيسيا تحت سيطرة الاستعمار الياباني، وعمل اليابانيون على التقرب من الشعب الإندونيسي، فأحلوا اللغة الملايوية محل الهولندية، وغيَّروا اسم العاصمة من "بتافيا" إلى جاكرتا، ولكن سرعان ما تغيرت هذه السياسة واتبعت اليابان الأسلوب الاستعماري فحلت جميع الأحزاب السياسية، واستغلت موارد البلاد لصالحها، وبعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية أعلن قيام حكومة إندونيسية برئاسة أحمد سوكارنو في [ رمضان 1364هـ= أغسطس 1945م ].



وبعد انتهاء الحرب حاول الحلفاء وعلى رأسهم بريطانيا الاستيلاء على إندونيسيا وتسليمها لهولندا، ونزل جيش الحلفاء "جاكرتا" في [ ذي القعدة 1364هـ= أكتوبر 1945م] وعاد الجيش الهولندي مرة أخرى تحت مظلة وحماية البريطانيين وبدعوى حفظ الأمن والنظام، فعقد الإندونيسيون اجتماعًا في مدينة جاكرتا ضم أغلب الأحزاب، وتم الاتفاق على الانضواء تحت تنظيم إسلامي واحد سمي "مجلس شورى مسلمي إندونيسيا" وعرف باسم "حزب ماشومي" وسرعان ما اعتقلت هولندا الزعماء الإندونيسيين ومنهم "سوكارنو"، وبدأ ما يعرف بحرب العصابات، قام بها السكان ضد هولندا حتى اضطرت إلى الاعتراف بالحكومة الإندونيسية.

وحدث انشقاق في حزب ماشومي، وأوكل "سوكارنو" رئيس الجمهورية رئاسة الحكومة إلى عامر شرف الدين، وهو شيوعي فثار الشعب، فأقيلت الحكومة، فثار الشيوعيون وأحدثوا العديد من القلاقل والاضطرابات، وقاموا بثورة ضد الحكومة، وأعلنوا قيام حكومة جديدة في [ذي القعدة 1367هـ= سبتمبر 1948م] وأعلنوا قيام "جمهورية إندونيسيا الشيوعية" وأصبح في البلاد حكومتان، فتعاون الجيش مع الشعب حتى تمكنوا من القضاء على الشيوعيين، وأجريت انتخابات في [1375هـ= 1995م] فاز فيها الحزب الوطني "الذي قام بتشكيل وزارة تميل للشيوعيين، فوقف حزب ماشومي معارضًا لها، في الوقت الذي كان فيه سوكارنو يميل إلى التعاون مع الدول الشيوعية، وهو ما أثار أزمة داخل مؤسسات الحكم.

وحاول سوكارنو الحفاظ على توازن بين المجموعات المتنافسة سياسيًا خاصة الجيش والحزب الشيوعي مع تحيز واضح للحزب الشيوعي وتوجهاته، واتباع سياسة تعسفية في حكم البلاد، وهو ما أثار غضب الجيش والشعب. وعلى الصعيد الخارجي اتجه إلى توجيه انتقادات حادة للغرب، وأطلق صيحته المشهورة عام [1383هـ=1963م] التي وجهها إلى الولايات المتحدة والغرب قائلا: "اذهبوا للجحيم مع مساعداتكم".

سوهارتو

أفسح سوكارنو المجال للحزب الشيوعي ليعيد تنظيم نفسه مرة أخرى، فقام بثورة في [جمادى الآخرة 1385هـ= سبتمبر سنة 1965م] فتدخل الجيش للقضاء عليها وأراد سوكارنو إعادة الجيش إلى ثكناته مرة أخرى، وإعادة ضبط المعادلة والتوازن بين الجيش والسلطة السياسية في البلاد، غير أنه لم يستطع ذلك، وكانت تلك بداية تدخل الجيش في الشئون السياسية وصعود نجم سوهارتو وزير الدفاع الذي استطاع أن يتولى الحكم في [ 21 ذي الحجة 1387هـ= 22 مارس 1968م] بعد إجبار سوكارنو على التنازل عن السلطة.

وسوهارتو وُلد في مدينة يوجياكارتا بجاوة عام [ 1340 هـ= 1921م] والتحق بجيش جزر الهند الهولندية وأصبح جنديًا محترفًا، وخلال فترة الاحتلال الياباني انضم إلى جيش الدفاع الوطني، ثم التحق بالقوات المسلحة الإندونيسية بعد الاستقلال، وقاد وحدة من القوات المسلحة الإندونيسية في الهجوم على الهولنديين في يوجياكارتا، وبعد جلاء الهولنديين رقي إلى رتبة لواء، ثم أصبح قائدًا للجيش الاحتياطي الإستراتيجي، وعندما قام الشيوعيون بمحاولتهم الانقلابية واغتالوا عددًا من قيادات الجيش حدث عنف مضاد للشيوعيين، ووقعت مذابح رهيبة راح ضحيتها نصف مليون شخص، واستدعى سوهارتو باعتباره قائد الجيش الإستراتيجي لسحق التمرد الشيوعي، فنجح في ذلك وأعاد الأمن والنظام إلى جاكرتا، وتولى منصب القائد المؤقت للجيش، ثم حصل على تفويض رسمي من سوكارنو لاستعادة الأمن والنظام، فكان من أوائل الإجراءات التي اتخذها حظر نشاط الحزب الشيوعي، واعتقال الشيوعيين.

وفي عام [1386هـ= 1966م] قام بالتفاوض مع ماليزيا وأنهى صراع إندونيسيا معها، وتخلى عن علاقته الوثيقة بالصين والسوفيت واتجه نحو العرب للحصول على المساعدات، ثم تولى الحكم عام [1387هـ= 1968م] لمدة خمس سنوات وأعيد انتخابه بعد ذلك ست مرات، وبلغ مجموع سنوات رئاسته 32 سنة.

وقام سوهارتو باحتلال تيمور الشرقية عام [1395هـ= 1975م] لتحقيق هدف سياسي يجتمع عليه أفراد الشعب الإندونيسي لتأييده، وسعى لتشكيل مناخ سياسي واقتصادي ذي سند عسكري يقطع كل صلة بينه وبين الماضي الممثل في "أحمد سوكارنو"، كما عمل على تطوير برنامج اقتصادي كبير شهدت خلاله إندونيسيا تقدمًا اقتصاديًا.

الأزمة الاقتصادية وانتهاء السوهارتية

شهدت منطقة جنوب آسيا نموًا اقتصاديًا كبيرًا، وظهرت مجموعة النمور الآسيوية التي استطاعت أن تحقق ازدهارًا اقتصاديًّا كبيرًا، وكانت إندونيسيا إحدى هذه النمور، وحققت نجاحًا كبيرًا جعلها تقترب من قائمة الدول الصناعية الكبرى، إلا أن هذه الدول الآسيوية شهدت أزمة اقتصادية حادة بدأت عام [1417هـ= 1996م] عندما تعرض الاقتصاد التايلاندي لهزة عنيفة وصدمات خارجية وداخلية كشفت عن ضعف هيكله المالي، وانتقلت الأزمة منه إلى بقية الدول الأسيوية ومنها إندونيسيا التي انخفضت عملتها "الروبية" بنسبة كبيرة زادت عن 30% فأدى ذلك إلى إصابة الاقتصاد الإندونيسي بمشاكل وأزمات كبيرة انتقلت إلى احتقانات في الشارع وغضب جماهيري، واختلطت مطالب الحريات بشدة الأزمة الاقتصادية.

وأرجع بعض السياسيين الإندونيسيين أسباب هذه الأزمة التي هزت البلاد إلى أسلوب التنمية الذي اتسم بالسرعة أكثر من اللازم لم يتح معه الوقت الكافي لوضع ضوابط تتحكم في النشاط الاقتصادي، وأرجع آخرون أسباب هذه الأزمة إلى إسراف القطاع الخاص بالاقتراض والتوسع في مشروعات بطيئة الدوران اقتصاديًا وكذلك المضاربات العقارية، كما أن معدلات النمو المرتفعة أدت إلى ارتفاع المديونية الخارجية، وتدفق معها الاستثمار الأجنبي الذي أخفى معه العيوب الهيكلية في الاقتصاد ومنها انعدام الشفافية وانتشار الفساد، وانخفاض الصادرات، وعجز الميزان التجاري.

وقد وجهت المؤسسات المالية عدة انتقادات إلى سوهارتو، وكانت إحدى نقاط الخلاف مع صندوق النقد الدولي فيما يتعلق بضرورة الفصل بين المهام السياسية والأعمال الاقتصادية، كما أن سوهارتو كان يشارك أو يمتلك أكثر من ثمانين شركة عملاقة، ووجهت إليه اتهامات بالفساد، وقدرت ثروته بحوالي ثمانين مليار دولار.

يضاف إلى هذه الأزمة الاقتصادية الانتقادات التي وجهت إلى نظام حكم سوهارتو الذي اتسم بضعف النظام الحزبي، وسيطرة حزب الحكومة "جولكار" على الحكم، بينما الأحزاب الأخرى هامشية أو غير مسموح لها بممارسة نشاطها في ظل القوانين التعسفية، كل هذه الأمور عمقت الغضب الشعبي، ولم يفلح التعديل الوزاري الذي أجراه سوهارتو واختياره "يوسف حبيبي" نائبًا له في تخفيف حدة الغضب الشعبي أو وقف تدهور الروبية الإندوسية، وزادت موجة التدمير والإضراب الشعبي مع ارتفاع الأسعار بنسبة 20% وما تولد معها من أزمة في المواد الغذائية، وارتفاع حجم البطالة إلى 15.4 مليون عاطل (17% من حجم القوة العاملة) ومهاجمة الجماهير الغاضبة للممتلكات والواحدات الاقتصادية التي يمتلكها الصينيون (يشكلون 5% من حجم السكان) فأدى ذلك إلى مغادرة بعض هؤلاء لإندونيسيا، واقتربت البلاد من حافة الانهيار السياسي والإفلاس الاقتصادي، فقدم الأمريكيون نصيحتهم إلى سوهارتو بأن يتنازل عن الحكم، فاستجاب لهذا المطلب، وقدم استقالته في (المحرم 1419هـ= 21 مايو 1998) بعدما تعهد قائد الجيش الإندونيسي الجنرال دبرانتو بالالتزام بحمايته، وبذلك انتهت المرحلة السوهارتية المتمثلة في شخص سوهارتو، وإن امتدت في خليفته يوسف حبيبي الذي عمل على تخفيف القيود عن الأحزاب السياسية والصحافة، وارتفع شعار التغيير السياسي الحقيقي، وارتفع عدد الأحزاب التي خاضت الانتخابات النيابية بعد سوهارتو إلى 48 حزبًا، وشهدت الانتخابات إقبالا جماهيريًا كبيرًا باستثناء إقليمي تيمور الشرقية وآتشيه المطالبين بالاستقلال عن إندونيسيا.

الولايات المتحدة وإندونيسيا

كان سوهارتو يتجاهل الاحتجاجات والمظاهرات الطلابية ويستبعد إجراء أي تغيير سياسي قبل عام (1424هـ= 2003م) حتى احتل الطلاب البرلمان وطالبوا سوهارتو بالاستقالة، عندها طلبت منه وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك "مادلين أولبرايت" التنحي حفاظًا على تراثه القيادي، فاستجاب للضغط الشعبي والمطلب الأمريكي وقدم استقالته وبعدها بفترة زارت أولبريت إندونيسيا وتحدثت بصراحة عن قضية الوحدة في الدولة الإندونيسية وموقف واشنطن منها، وذكرت أن بلادها حريصة على تماسك الدولة واستمرار وحدتها لعدة أسباب منها أن الولايات المتحدة تريد أن تظل إندونيسيا قوة متماسكة لكي توازن الدور الصيني في آسيا، وذكرت أن موقع إندونيسيا إستراتيجي وحيوي للأمن القومي الأمريكي؛ لأنها تحكم وتحرس جانبي بوابة العبور إلى آسيا، وهو دور يهدده أي انفراط في عقد الدولة، وذكرت ـ أيضًا ـ أن من مصلحة واشنطن التمسك بوحدة إندونيسيا؛ لأن الولايات المتحدة ضخت استثمارات مالية ضخمة إليها تقدر بـ 300 مليار دولار، وهي غير مستعدة لإهدارها، وطالبت من النظام الجديد الامتثال لشرطين أساسيين لضمان دعم واشنطن: الأول يتمثل في حل مشكلة إقليم تيمور الشرقية والاعتراف بحق الشعب في تقرير مصيره، أما الثاني فيتمثل في منح أقاليم الدولة (26 إقليمًا) حكمًا ذاتيًّا وتخصيصها بحصة أكبر من عائدات ثرواتها.

وفعلا حصلت تيمور الشرقية على استقلالها بعد الاستفتاء على تقرير المصير، وتم إصدار قانون الحكم الذاتي الذي أعطى أقاليم الدولة صلاحيات واسعة، كما أعطاها حصة تتراوح بين 15% و 30% من مواردها الذاتية الخاصة بالنفط والغاز، و80% من عائدات الأسماك والغابات والمعادن، ولمَّا تم لواشنطن ما أرادت وفت بالتزاماتها ودعمت النظام الجديد برئاسة عبد الرحمن واحد.


منقول

عبدالغفور الخطيب
22-01-2006, 04:11 AM
قطب الدين وصفحة من الحروب الصليبية

(في ذكرى وفاته: 22 من ذي الحجة 565هـ)


شعر ملوك "أوروبا" من النصارى بالقلق تجاه تزايد قوة "دولة السلاجقة" في المشرق الإسلامي، واتساع نفوذ السلاجقة وتهديدهم للإمبراطورية البيزنطية وأوروبا، خاصة بعد تلك الهزيمة الساحقة التي لحقت بالإمبراطور البيزنطي "رومانس الرابع" على يد السلطان السلجوقي "ألب أرسلان" في معركة "ملاذكرد" الشهيرة سنة [463هـ = 1071م].

وتحرك عدد من ملوك "أوروبا" لتأليب المسيحيين في أوروبا للقيام بحرب صليبية ضد المسلمين في الشرق، وتخليص الأماكن المقدسة من قبضة المسلمين، وطرد السلاجقة من "آسيا الصغرى".

وسرعان ما تحركت جيوش "أوروبا" تحت شعار الصليب لتجتاح المشرق الإسلامي، وتقدموا نحو "بيت المقدس" فحاصروه حتى تمكنوا من الاستيلاء عليه سنة [492هـ = 1099م]، بعد أن ارتكبوا من المذابح والفظائع ما تقشعر له الأبدان؛ فقد أبادوا ما يربو على سبعين ألف مسلم، منهم كثير من العُبَّاد والزاهدين وأئمة المسلمين وعلمائهم.

ولم يستطع "السلاجقة" الذين مزَّق دولتهم الصراع والشقاق بعد وفاة "ملكشاه" التصدي لذلك الخطر الداهم، فوقفوا عاجزين أمام طوفان الصليبيين.

وظل المسلمون يقاسون ويلات الصليبيين وعدوانهم زمنا طويلا حتى قيض الله لهم بطلا من أبطال الجهاد، وفارسا من خيرة فرسان المسلمين، هو السلطان "عماد الدين زنكي"، الذي استطاع أن يبسط نفوذه على الجزيرة والشام، ويستولي على "حلب" و"حماة"، وتمكن من استرداد مدينة "الرها" من براثن الصليبيين سنة [539هـ = 1144م]، وبذل جهودا كبيرة لبناء دولة قوية، وتوحيد صفوف المسلمين وتقوية جبهتهم أمام الصليبيين.

جهاد أسرة "عماد الدين"

ونذر "عماد الدين" نفسه وأبناءه الثلاثة: "نور الدين محمود" و"سيف الدين غازي" "وقطب الدين مودود" لجهاد الصليبيين، وتحرير بلاد المسلمين من عدوانهم واحتلالهم.

وكان "نور الدين" أكثرهم تصديا للصليبيين، ولم يألُ أخوه "سيف الدين" و"قطب الدين" جهدا في مساندته، والوقوف إلى جانبه في جهاده لصد الصليبيين وعدوانهم، والسعي إلى تحرير بلاد المسلمين منهم.

ومرض "سيف الدين غازي" بمرض حادّ، واشتدت عليه وطأة المرض، فأرسل إلى "بغداد" يستدعي "أوحد الزمان" أشهر أطباء عصره، فحضر إليه ليعالجه من مرضه، ولكن ساءت حالته، وما لبث أن توفي متأثرا بعلته في [جمادي الآخرة 544هـ = أكتوبر 1149م] عن عمر بلغ أربعا وأربعين سنة.

فلما توفي "سيف الدين" كان أخوه قطب الدين مقيما عنده في الموصل، فاجتمع عدد من رجال الدولة منهم: الوزير "جمال الدين محمد بن علي الأصفهاني" والأمير زين الدين علي كوجلة صاحب "إربل" والمقدم على الجيوش، واتفقوا على تولية "قطب الدين" خلفا لأخيه، خاصة أنه لم يترك سوى ابن واحد صغير السن لا يصلح للقيام بأعباء الملك، والاضطلاع بمهمة تصريف شئون الدولة في تلك المرحلة الحرجة، التي شهدت العديد من الحملات الصليبية على الشرق.

فأحضروا "قطب الدين"، وحلفوا له بالولاء، وأركبوه إلى دار السلطنة، وسلموه مقاليد البلاد، وأصبح يحكم جميع ما كان بيد "سيف الدين" من البلاد.

صراع الأخوين

وسار "قطب الدين" إلى "سنجار" بعدما كاتبه جماعة من الأمراء للحضور لتسلمها، فلما علم أخوه "نور الدين" بذلك تقدم وأخذ "سنجار".

وكاد الشر يطير بين الأخوين لولا وساطة الوزير "جمال الدين محمد"، وكان رجلا عاقلا صالحا، فسعى بالتوفيق والإصلاح بين الأخوين حتى تراضيا، واستقر الأمر على أن تكون الموصل وسنجار لقطب الدين، وحمص والرحبة لنور الدين عوضا عن سنجار.

ورضي الأخوان بذلك حتى يقضيا على أية أسباب للشقاق والنزاع بينهما، خاصة في ظل تربص الصليبيين بالمسلمين وعدوانهم عليهم. وسلم "نور الدين" سنجار إلى أخيه قطب الدين وتسلم حمص وعاد إلى بلاد الشام، واتفقت كلمتهما واتحدت آراؤهما.

جهاد قطب الدين ضد الصليبين

وشارك قطب الدين مع أخيه نور الدين في كثير من حروبه ضد الصليبيين؛ ففي عام [559هـ = 1164م] بدأ نور الدين يستعد للثأر لهزيمة قواته في معركة "البقيعة" بالقرب من حصن الأكراد، وعمل على إعادة تنظيم قواته، وإعادة تسليحهم، وبث الثقة في نفوسهم حتى استطاع أن يمحو آثار تلك الهزيمة، وأخذ في الاستعداد للجهاد والأخذ بثأره.

وفي تلك الأثناء علم نور الدين بتحرك الصليبيين بقيادة "عموري الأول" ملك بيت المقدس إلى مصر لإخراج "أسد الدين شيركوه" منها واحتلالها، وأراد نور الدين أن يجبر الصليبيين على العودة إلى بلادهم، ففكر أن يغزو بلادهم ليرجعوا عن التقدم نحو "مصر".

وقبل أن يقدم على تلك الخطوة أرسل إلى أخيه قطب الدين مودود وعدد من حكام الأقاليم المجاورة، يستنجدهم، ويدعوهم إلى الجهاد؛ فكان "قطب الدين" أسرعهم إجابة؛ فجمع عسكره، وسار من فوره للانضمام إلى أخيه والجهاد معه ضد الصليبيين.

وفي عام [562هـ = 1167م] شارك مع أخيه في عملية عسكرية واسعة، تعد واحدة من أروع عمليات الردع للصليبيين، وإعادة الثقة إلى نفوس المسلمين؛ فقد جمع "نور الدين" جنوده، وحشد قواته للإغارة على الصليبيين بهدف استنزاف قوتهم، وتكبيدهم أكبر قدر من الخسائر، وزعزعة الأمن والاستقرار في صفوفهم، وسار إليه قطب الدين من الموصل في حشد كبير من قواته، فاجتمعت قواتهما في حمص، حيث أعادوا تنظيم صفوفهم، ثم تقدمت القوات إلى بلاد الصليبيين، فاقتحموا حصن الأكراد، ثم قصدوا "عرقة" فحاصروها حتى استولوا عليها، وتقدمت قوات المسلمين في البلاد يطيحون بكل من يقابلهم من الصليبيين ففتحوا "العزيمة" و"صافينا"، ثم هاجموا حصن "هنين"، وهدموا أسواره، وعادوا بعد ذلك إلى "حمص" بعدما نالوا من العدو، وكبدوا الصليبيين خسائر فادحة أعادت الثقة إلى المسلمين.

توحد الأمة في مواجهة الصليبيين

وقد اتسم قطب الدين مودود بقدر كبير من الوعي والتسامح؛ فبالرغم من الطابع الديني الذي غلب على الحملات الصليبية التي رفعت شعار الصليب، وأعلنت أنها جاءت لمساندة نصارى الشرق، وتحرير الأماكن المقدسة من أيدي المسلمين، وغير ذلك من الشعارت الزائفة التي كانت تخفي وراءها النوايا الاستعمارية الحقيقية لملوك أوربا، وأطماعهم في بلدان الشرق.

بالرغم من كل تلك الشبهات والأباطيل التي أحاطت بتلك الحروب الصليبية فإن "قطب الدين" وغيره من حكام الشرق لم تتغير معاملته تجاه النصارى من أبناء الشرق، ولم ينخدع عن النوايا الحقيقية لتلك الحملات التي استهدفت نهب خيرات الشرق، وبث الفرقة والشقاق بين أبناء الأمة، فقد حظي النصارى في عهده بقدر كبير من الأمن والحرية، ووصلوا إلى أعلى المناصب القيادية في الدولة، حتى إنه اختار واحدا منهم ليكون على قمة مؤسسة الحكم في بلاطه والقيم بأمور دولته والمقدم فيها، وهو "فخر الدين عبد المسيح".

فخر الدين وزير قطب الدين

وكان فخر الدين عند تلك الثقة التي وضعها فيه "قطب الدين مودود"؛ فسار سيرة سديدة، وأظهر سياسة وحنكة، وكان محبا للعمارة مهتما بالعمران؛ فأصلح العديد من القلاع التي كانت خرابا، وأعاد بناء ما انهار منها، وكان له تأثير كبير في مجريات الأمور، حتى تلك القرارات الخطيرة التي تتصل بالعرش لم تكن تتم بمنأى عنه، وبلغ من تأثيره على "قطب الدين" أنه استطاع أن يصرفه عن الوصاية بالملك من بعده –وهو في مرضه الأخير– لابنه الأكبر "عماد الدين"، وجعله يعدل عنه إلى ابنه الآخر "سيف الدين".

صفات قطب الدين وأخلاقه

وكان قطب الدين يجمع العديد من الصفات الحسنة والأخلاق النبيلة، وقد وصفه ابن الأثير؛ فقال: "كان قطب الدين من أحسن الملوك سيرة، وأعفهم عن أموال رعيته، محسنا إليهم، كثير الإنعام عليهم، محبوبا إلى كبيرهم وصغيرهم، عطوفا على شريفهم ووضيعهم كريم الأخلاق، حسن الصحبة لهم. وكان سريع الانفعال للخير، بطيئا عن الشر، جَمّ المناقب، قليل المعايب".

وقد توفي "قطب الدين" في [22 من ذي الحجة 565هـ = 7 من سبتمبر 1170م] عن عمر بلغ نحو أربعين سنة، بعد حكم دام نحو إحدى وعشرين سنة.

منقول

عبدالغفور الخطيب
28-01-2006, 03:54 AM
المبرّد.. أسير اللغة العربية

(في ذكرى وفاته: 28 ذي الحجة 286هـ)



عاش "المبرِّد" في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وعاصر كثيرًا من الخلفاء العباسيين الذين اهتموا بالعلم والعلماء، وساهموا في إرساء دعائم الحضارة الإسلامية ورقيِّها وصناعة نهضة حضارية عظيمة في مختلفة العلوم والفنون.

وكان "المبرِّد" واحدًا من هؤلاء العلماء الذين تشعبت معارفهم، وتنوعت ثقافاتهم لتشمل العديد من العلوم والفنون، وإن غلبت عليه العلوم البلاغية والنقدية والنحوية، فإن ذلك ربما كان يرجع إلى غيرته الشديدة على قوميته العربية ولغتها وآدابها في عصر انفتحت فيه الحضارة العربية على كل العلوم والثقافات، وظهرت فيه ألوان من العلوم والفنون لم تألفها العرب من قبل.

نشأته وشيوخه

ولد المبرد بالبصرة نحو سنة [210هـ = 825م]، واسمه محمد بن يزيد بن عبد الأكبر، وينتهي نسبه بـ"ثمالة"، وهو عوف بن أسلم من الأزد.

وقد لُقب بالمبرد قيل: لحسن وجهه، وقيل: لدقته وحسن جوابه، ونسبه بعضهم إلى البردة تهكمًا، وذلك غيرة وحسدًا.

نشأ المبرد في البصرة، وتلقى العلم فيها على عدد كبير من أعلام عصره في اللغة والأدب والنحو منهم: "أبو عمر صالح بن إسحاق الجرمي"، وكان فقيهًا عالمًا بالنحو واللغة، و"أبو عثمان بكر بن محمد بن عثمان المازني" الذي وصفه "المبرد" بأنه كان أعلم الناس بالنحو بعد "سيبويه"، كما تردد على "الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر"، وسمع منه وروى عنه حتى عُد من شيوخه، وأخذ عن "أبي حاتم السجستاني"، وكان من كبار علماء عصره في اللغة والشعر والنحو، كما تلقى عن "التوزي" -أبو محمد عبد الله بن محمد-، وكان من أعلم الناس بالشعر.

ولم تقتصر روافد ثقافة "المبرد" ومصادر علمه على ما يتلقاه عن شيوخه فحسب، وإنما كان نهم القراءة؛ فكان يقرأ كل ما يمكن أن يصل إليه من كتب السابقين.

تلاميذه

وقد تلقى عنه عدد كبير من الأدباء والأعلام، منهم: "الزَّجَّاج" و"الصولي" و"نفطويه النحوي" و"أبو على الطوماري" و"ابن السراج" و"الأخفش الأصغر" و"أبو على إسماعيل الصفار" و"أبو الطيب الوشاء" و"وابن المعتز العباسي" و"أبو الحسين بن الجزار" و"ابن درستويه" و"وأبو جعفر النحاس".

وهم جميعًا من كبار علماء العربية وأعلامها المشهورين، وقد تركوا العديد من المؤلفات القيمة والتصانيف الشهيرة في مختلف العلوم والفنون.

وكان "الزَّجَّاج" أكثرهم التصاقًا به وأغزرهم رواية عنه؛ فهو أول تلميذ للمبرد في "بغداد"، وقد ظل وفيًا له طوال حياته.

وقابل "المبرد" ذلك الوفاء بمزيد من الحب والتقدير، فكان لا يقرئ أحدًا كتاب "سيبويه" إلا إذا قرأه على "الزجاج"، ولما تقدمت به السن طلب منه الخليفة "المعتضد" تصنيف بعض الكتب، فاعتذر لكبر سنه ومرضه، وسأل الخليفة أن يقوم بذلك تلميذه "الزجاج" بدلا منه.

مكانته العلمية

بعد وفاة "المازني" صار المبرد زعيم النحويين بلا منازع وإمام عصره في الأدب واللغة من بعد شيخه، فأقبل عليه الدارسون من كل حدب وصوب، وصار بيته كعبة لطلاب العلم ورواد المعرفة من كل مكان، ومنتدى للوجهاء والعظماء والأعيان.

واختصه كثير من سراة القوم وأعيانهم لتأديب أبنائهم؛ لما عُرف عنه من العلم والفضل والأدب، وما اشتهر به من المروءة والوفاء.

وبالرغم من أنه عاصر تسعة من الخلفاء العباسيين هم: "المأمون" [ 198 ـ 218 هـ = 813- 833م]، و"المعتصم" [218 ـ 227هـ= 833ـ842م]، "والواثق" [227 - 232هـ = 842ـ 843م] و"المتوكل" [232 - 247 هـ = 847 - 861م]، و"المنتصر" [247 ـ 248هـ = 861 ـ 862م]، و"المستعين" [248 ـ 252 هـ= 862 ـ 866 هـ]، و"المهتدي" [252 ـ 256هـ= 866 ـ 870م] و"المعتمد" [256 ـ 279هـ= 870 ـ 892م]، و"المعتضد" [279ـ 290هـ= 892 ـ 905م].

فإنه لم يتصل إلا بواحد فقط منهم، هو الخليفة "المتوكل"، وقد جاء خبر قدومه عليه في قصة لطيفة، وذلك أن "المتوكل" قرأ يومًا في حضرة "الفتح بن خاقان" قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام: 109)

بفتح همزة (أن)، فقال له الفتح: إنها يا سيدي بالكسر، وصمم كل منهما على أنه على صواب، فتبايعا على عشرة آلاف درهم يدفعها من لا يكون الحق في جانبه.

وتحاكما إلى "يزيد بن محمد المهلبي"، وكان صديقًا للمبرد، ولكنه خاف أن يسخط أيا منهما، فأشار بتحكيم "المبرد، فلما استدعاه "الفتح" وسأله عنها قال: "إنها بالكسر، وهو الجيد المختار، وذكر تفسير ذلك والأدلة عليه".

فلما دخلوا على "المتوكل" سأله عنها، فقال: يا أمير المؤمنين، أكثر الناس يقرءونها بالفتح، فضحك "المتوكل" وضرب رجله اليسرى، وقال: "أحضر المال يا فتح".

فلما خرجوا من عنده عاتبه "الفتح" فقال المبرد: "إنما قلت: أكثر الناس يقرءونها بالفتح، وأكثرهم على الخطأ، وإنما تخلصت من اللائمة، وهو أمير المؤمنين"!

وتوثقت صلته بالفتح الذي أعجب بعلمه وذكائه وغزارة علمه وحسن حديثه؛ فكان كل منهما يحرص على وُدِّ صحابه، ويقدر له مكانته.

المبرد بين أنصاره وحساده

وقد عرف "المبرد" بطلاقة لسانه، وسلامة عبادته، وكان عذب الحديث حسن الفكاهة؛ ولذلك فقد حرص الولاة والأمراء على مجالسته ومسامرته.

وكان على علمه ومكانته حلو الفكاهة لطيف المداعبة، معروفًا بالأدب والظرف؛ فكان أصدقاؤه يحبون ذلك منه، ويجيبون دعاباته بلطائف دعاباتهم.

روي أن أحد الأدباء، وكان يُدعى "برد الخيار" لقي المبرد على الجسر في يوم بارد، فقال: "أنت المبرد وأنا برد الخيار، واليوم بارد، اعبر بنا سريعًا لئلا يصيب الناس الفالج" (ريح يصيب الإنسان فيرخِّي بعض البدن).

وكان المبرد إلى جانب ما عُرف به من كثرة محفوظه وقوة حافظته يتمتع ببديهة حاضرة وذهن وقّاد، وأكسبته غزارة علمه قدرة فائقة على الرد على كل سؤال، وكان ذلك مثار عجب أنصاره وحسد أعدائه، حتى إنهم اتهموه بالوضع في اللغة لكثرة حفظه وسرعة إجابته.

أقوال العلماء فيه

وقد وثقه العلماء وأصحاب الجرح والتعديل؛ فقال عنه "الخطيب البغدادي":

"كان عالمًا فاضلا موثوقًا في الرواية". وقال "ابن كثير": "كان ثقة ثَبَتًا فيما ينقله". وقال "القفطي": "كان أبو العباس محمد بن يزيد من العلم وغزارة الأدب، وكثرة الحفظ، وحسن الإشارة، وفصاحة اللسان، وبراعة البيان، وملوكية المجالسة، وكرم العشرة، وبلاغة المكاتبة، وحلاوة المخاطبة، وجودة الخط، وصحة العزيمة، وقرب الإفهام، ووضوح الشرح، وعذوبة المنطق؛ على ما ليس عليه أحد ممن تقدمه أو تأخر عنه". وقال: "ياقوت": "كان إمام العربية، وشيخ أهل النحو ببغداد، وإليه انتهى علماؤها بعد الجرمي والمازني". وقال: "الزبيدي": "كان بارعًا في الأدب وكثرة الحفظ والفصاحة وجودة الخط".


المنافسة بين "ثعلب" و"المبرد"

حينما قدم "المبرد" إلى "بغداد" كان "أبو العباس أحمد بن يحيى" المعروف بثعلب على رأس علمائها ومشايخها، فخشي مزاحمة "المبرد" له، وانتزاع الرياسة منه؛ فأغرى به بعض تلاميذه يعنتونه بالأسئلة حتى يعجزوه؛ فينصرف عنه الناس، وكان "الزجاج" على رأس من أغراهم "ثعلب" به؛ لأنه كان أبرعهم حجة وأكثرهم علمًا وذكاء.

ولكن "المبرد" استطاع بعلمه وبلاغته وقوة حجته أن يأخذ بعقل "الزجاج" ويستحوذ على إعجابه؛ فترك "ثعلب" ولزم "المبرد" يأخذ عنه ويتتلمذ عليه.

وبالرغم من اشتعال المنافسة بين الرجلين واشتداد التنافر بينهما، وعنف "ثعلب" في الهجوم على "المبرد" وكثرة تعريضه به، وتعرضه له، فإن "المبرد" كان بعيدًا عن العنف به، ويأبى مواجهته بالسوء؛ فلم يُعرف عنه أنه أغرى به أحدًا من تلاميذه، أو أوعز إلى أحد أن يعنته بسؤال. بل إنه حينما سئل عن "ثعلب" قال: "ثعلب أعلم الكوفيين بالنحو"!


آثار "المبرد" ومؤلفاته


التعازي والمراثي

بالرغم من مكانة المبرد الأدبية والعلمية، وغزارة علمه واتساع معارفه، فإنه لم يصلنا من آثاره ومؤلفاته إلا عدد قليل منها:

1- الكامل: وهو من الكتب الرائدة في فن الأدب، وقد طُبع مرات عديدة، وشرحه "سيد بن علي المرصفي" في ثمانية أجزاء كبيرة بعنوان "رغبة الأمل في شرح الكامل".

2- الفاضل: وهو كتاب مختصر يقوم على أسلوب الاختيارات، ويعتمد على الطرائف وحسن الاختيار.

3- المقتضب: ويقع في ثلاثة أجزاء ضخمة، ويتناول كل موضوعات النحو والصرف بأسلوب واضح مدعَّم بالشواهد والأمثلة.

4- شرح لامية العرب.

5- ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد.

6- المذكر والمؤنث.

كما يُنسب إليه عدد آخر من المؤلفات التي لا تزال مخطوطة، مثل:

1- التعازي والمرائي.

2- الروضة.


الكامل فى اللغة والأدب

بالإضافة إلى بعض الكتب الأخرى التي وردت إشارات عنها في عدد من المراجع والمصادر العربية القديمة، ولكنها لم تصل إلينا، مثل:

1- الاختيار: وقد ذكره "المبرد" في "الكامل".

2- الاشتقاق: وذكره "ابن خلكان" في "وفيات الأعيان".

3- الشافي: وقد ورد ذكره في "شرح الكافية".

4- الفتن والمحن: ذكره "الصولي" في "أخبار أبي تمام".

5- الاعتناب": ذكره "البغدادي" في "خزانة الأدب".

6- شرح ما أغفله سيبويه: ذكره "ابن ولاد" في "الانتصار".

وتوفي "المبرد" في [28 من ذي الحجة 286هـ = 5 من يناير 900م].



منقول

المهند
28-01-2006, 01:44 PM
http://www.baghdadalrashid.com/vb3/images/imgcache/2006/06/1.gif
http://www.baghdadalrashid.com/vb3/images/imgcache/2006/06/1.gif

عبدالغفور الخطيب
06-02-2006, 02:14 AM
الطريق إلى سقوط غرناطة

(في ذكرى عقد معاهدة قشتالة: 7 من المحرم 835 هـ)


انفرط عقد الأندلس، ودب الضعف في أوصالها، بعد هزيمة المسلمين في معركة العقاب الشهيرة، التي جرت أحداثها في (15 من صفر 609 هـ= 16 من يوليو 1212م) بين دولة الموحدين والجيوش الإسبانية والأوروبية المتخالفة، وسارت الأمور في طريقها السيئ، فاجتاح الغزو النصراني بلا هوادة إسبانيا المسلمة، وتساقطت قواعد الأندلس وحواضرها التالدة شرقًا وغربًا في يد النصارى، فسقطت "قرطبة" سنة (633 هـ = 1236م) و"بلنسية" سنة (636هـ= 1238هـ) و"إشبيلية" سنة (644 هـ = 1248م). وفي الوقت نفسه اجتاحت غرب الأندلس موجة عاتية من الغزو النصراني، فسقطت "بطليوس" سنة (627هـ = 1230م) "وشلب" سنة (640 هـ= 1242م) وغيرهما.

ولم يكد ينتصف القرن السابع الهجري حتى كانت ولايات الأندلس الشرقية والوسطى كلها قد سقطت في يد إسبانيا النصرانية، ولم يبق من دولة الإسلام في الأندلس سوى بضع ولايات صغيرة في الطرف الجنوبي من الأندلس.

غرناطة والصمود

وشاءت الأقدار أن تقوم في هذه الرقعة الصغيرة مملكة غرناطة، التي نجحت في أن تذود عن دولة الإسلام أكثر من قرنين من الزمان، وأن تواجه ببسالة -على الرغم من صغر المساحة وضعف الإمكانيات- إسبانيا النصرانية بكل ما تملكه من قوة وعتاد، وأن تقيم بين ربوعها حضارة عظيمة، حفلت بأرقى نظم الحياة المادية والأدبية، ولا تزال آثارها الباقية شاهدة على ما بلغته غرناطة من تحضر ورقي.

وكان قيام هذه المملكة في سنة (629هـ = 1232م) على يد "محمد بن يوسف بن نصر أو ابن الأحمر" الذي التف الناس حوله لشجاعته ومجاهدته العدو، ونجح في أن يوطد سلطانه في هذه المنطقة، ويوسع من نطاق دولته الوليدة، حتى نمت سريعًا وأصبحت دولته تضم ثلاث ولايات كبيرة، هي: ولاية غرناطة في الوسط، وفيها العاصمة "غرناطة" وولاية "المرية" في الشرق، وولاية مالقة في الجنوب والغرب، ووصلت حدودها إلى شاطئ البحر المتوسط وجبل طارق.

تتابع الأمراء من أسرة بني النصر على حكم غرناطة، وهي تحاول أن تصمد في وجه إسبانيا النصرانية، وتحافظ على ما بقي من تراث المسلمين في الأندلس، مرة بالجهاد والاستعانة بإخوانهم من أهل المغرب، ومرة بعقد المعاهدة السلمية مع قشتالة.

وظل الأمر على هذا النحو حتى تولى أبو عبد الله محمد الملقب بالأيسر حكم غرناطة، في مطلع القرن التاسع الهجري، وكان أميرًا قاسيا سيئ الخلال، متعاليًا على أهل دولته، واتسم عهده بسوء الأحوال، واشتد سخط الناس، واشتعال الفتن والثورات، ولم تفلح محاولات وزيره يوسف بن سراج من تهدئة الأوضاع في الإمارة المضطربة، وكانت تلك الفتن والقلاقل التي تموج بها غرناطة، تجد عونًا من بلاط قشتالة المسيحية التي كانت قبلة زعماء الثائرين.

وفي خضم تلك الفتن المتلاطمة زحف القشتاليون إلى غرناطة وعاثوا فيها فسادًا في سنة (831هـ=1428م) ولم يفلح "الأيسر" في رد العدوان عن أرضه، مما كان له أثره في انفجار بركان الثورة في غرناطة، ولم تهدأ الأحوال إلا بعد أن نجح الثوار في عزل "الأيسر" الذي نجا بنفسه وأهله وبعض رجاله إلى "تونس" وتمت تولية ابن أخيه الأمير "محمد بن محمد بن يوسف الثالث" الملقب بالزغير.

حاول الأمير الجديد أن يعيد الأمن في البلاد، ويخمد الفتن والدسائس التي كانت سببًا في زعزعة الاستقرار، ولكن محاولاته ضاعت سدى، فقد اتفق الوزير يوسف بن سراج مع "خوان الثاني" ملك قشتالة على العمل لرد السلطان الأيسر السابق إلى العرش، فنجحت المحاولة ورجع السلطان السابق إلى عرشه سنة (833هـ= 1430م).

بدأ السلطان الأيسر عهده الجديد بتنظيم أمور الإمارة، فأعاد يوسف بن سراج إلى الوزارة، وطلب من ملك قشتالة تجديد الهدنة، فاشترط لتجديدها أن يؤدي السلطان الأيسر ما أنفقه البلاط القشتالي في سبيل استعادة عرشه، وأن يؤدي فوق ذلك جزية سنوية؛ اعترافًا منه بدخوله تحت طاعة قشتالة، وأن يفرج عن الأسرى الذين في حوزته.

خيانات البيت الواحد

ولم يكن أمام السلطان الأيسر إزاء هذه الشروط المجحفة إلا الرفض، وتهديد قشتالة بإعلان الحرب، فاستعدت قشتالة للحرب، وأرسلت سفراءها ومعهم هدايا ثمينة إلى أبي فارس الحفصي سلطان "تونس" وعبد الحق المريني سلطان "فاس" يطلبون منهما عدم التدخل في شئون غرناطة، فاستجابت الدولتان.

اشتعلت الفتن مرة أخرى في غرناطة، وحلت القلاقل أرجاء الإمارة التي انقسمت على نفسها، وألقت قشتالة بجيشها على مقربة من غرناطة، تترقب الفرصة للانقضاض على المملكة التي أوشكت على السقوط، ودُبّرت مؤامرة لخلع الأيسر قام بها خصومه، فالتفوا حول واحد من بيت الملك، يدعى "أبو الحجاج يوسف بن المول" فمال إلى ملك قشتالة طالبًا العون على انتزاع العرش لنفسه، في مقابل تعهده بأن يحكم غرناطة باسم ملك قشتالة وتمت طاعته.

وفي (7 من المحرم سنة 835 هـ= 16 من سبتمبر 1431م) وقّعت معاهدة بين "يوسف بن المول" و"خوان الثاني" ملك قشتالة، لتحقيق هذا الهدف، متضمنة بنودا مهينة للطرف المسلم، نصت على إقرار من "يوسف" بأنه من أتباع ملك قشتالة وخُدّامه، وتعهد منه بدفع جزية سنوية قدرها عشرون ألف دينار ذهبي، وإطلاق سراح الأسرى المسيحيين، وأن يقدم يوسف ألفا وخمسمائة فارس إلى ملك قشتالة لمحاربة أعدائه سواء أكانوا من النصارى أو المسلمين.

وفي مقابل هذه التنازلات يتعهد الطرف القشتالي بأن يكون الصلح مستمرًا طوال حكم يوسف ومن يخلفه من أبنائه، وأن يعينه على محاربة أعدائه من المسلمين والنصارى، وطبقا لهذه المعاهدة وتنفيذًا لبنودها تحركت القوات القشتالية لمعاونة يوسف في حربة مع السلطان الأيسر، ونشبت بينهما معكرة شديدة، انتهت بهزيمة الأيسر، ودخول يوسف غرناطة ظافرًا بمؤازرة النصارى القشتاليين، وجلس على عرش السلطنة في (جمادى الأولى 835 هـ = يناير 1432م) وكان أول ما فعله يوسف أن جدّد المعاهدة مع ملك قشتالة باعتباره سلطان غرناطة.

وبهذه المعاهدة قطعت قشتالة خطوة كبيرة في سبيل تحقيق أمنيتها، وإزالة الوجود الإسلامي من إسبانيا، وهذا ما حدث بعد سنوات قليلة.‏

منقول

عبدالغفور الخطيب
07-02-2006, 02:13 AM
الدولة العثمانية.. ميلاد خلافة

(في ذكرى ميلادها بالقاهرة: 8 من المحرم 923 هـ)


اتجه العثمانيون في الدور الأول من دولتهم إلى الميدان الأوروبي، فنجح السلطان محمد الفاتح في عام (857 هـ = 1453م) في فتح "القسطنطينية" عاصمة الدولة البيزنطية، واتخذها عاصمة لدولته، كما شرع في فتح "روما" مقر البابوية، ونزلت قواته في "أوترانت" في مملكة نابولي عام (884هـ= 1480م) استعدادًا لهذا الفتح، غير أن المنية عاجلته فتوقف هذا المشروع، كما شملت فتوحاتهم وسط أوربا.

وكانت أنباء هذه الفتوحات تُقابَل بارتياح من قبل سلاطين المماليك في القاهرة، وغيرهم من القوى الإسلامية، واتسمت العلاقة بين الدولتين في كثير من فتراتها بالود والصداقة حتى إن السلطان العثماني بايزيد الأول أرسل في سنة (797 هـ= 1394م) هدايا وتحفًا إلى الخليفة العباسي في مصر "المتوكل على الله" طالبًا منه تفويضًا شرعيًا بالسلطنة، فبعث له الخليفة بذلك، وكانت الهدايا ووسائل التهنئة تتردد بين الدولتين كلما حقق أي منهما نصرًا أو فتحًا على أعدائه، وليس أدل على ذلك من احتفال القاهرة في عهد السلطان "إينال" بنجاح محمد الفاتح في الاستيلاء على القسطنطينية.

اتجاه للشرق

غير أن العثمانيين تركوا جهادهم في الميدان الأوروبي، واتجهوا بأبصارهم ناحية المشرق الإسلامي ليضموه إلى دولتهم، مدفوعين بعاملين مهمين: أولهما تنامي الدولة الصفوية في إيران والعراق وتهديدها للعثمانيين، فضلاً عن نشاط الدعاة الشيعيين الذين أرسلهم الشاه إسماعيل الصفوي لنشر المذهب الشيعي في "الأناضول"؛ مما جذب بعض المؤيدين، وأسفر عن بعض القلاقل، فاضطرت الدولة إلى التدخل، وساءت العلاقة بين الدولتين المتجاورتين، واحتكما إلى السيف، فالتقيا في معركة "جالديران" في (2 من رجب 920هـ= من أغسطس 1514م) ونجح السلطان "سليم الأول" في تحقيق النصر، وفتح مدينة بتريز عاصمة الدولة الصفوية.

أما العامل الآخر فهو تنامي الخطر البرتغالي في الخليج العربي بعد أن احتل البرتغاليون عدن وعمان سنة (921هـ= 1516م) بالإضافة إلى تعاون المماليك في عهد السلطان "الغوري" وتحالفهم مع الدولة الصفوية في صراعها مع العثمانيين.

مرج دابق والريدانية


ولما انتشرت الأنباء في القاهرة في أوائل عام (922هـ= 1516م) بأن السلطان سليم الأول يعد العدة لمداهمة الدولة الصفوية أدرك "الغوري" سلطان مصر أن بلاده هي المقصودة بهذه الاستعدادات العسكرية، فاستعد لمحاربة العثمانيين، وحشد قواته لمواجهة هذا الخطر الداهم، وخرج بعساكره إلى "حلب" وبعدما حاول "خاير بك" أن يثنيه عن الخروج إلى الشام، ويقنعه بأن العثمانيين لا يريدون حرب المماليك وإنما يريدون الدولة الصفوية، وكان "خاير بك" قد انضم إلى "سليم الأول" سرًا ضد الغوري، وبدأ يعمل معه على تقويض دولة المماليك.

وعند "مرج دابق" بالقرب من حلب أخذ الغوري ينظم جيشه، ويصدر تعليماته استعدادًا للمعركة المرتقبة، ولم تلبث أن لاحت مقدمة الجيش العثماني، والتقى الجيشان يوم الأحد (25 من رجب 922 هـ = 24 من أغسطس 1516م)، وفي تلك المعركة أبدى المماليك شجاعة نادرة، وقاموا بهجوم خاطف زلزل أقدام العثمانيين، غير أن هذا الثبات لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما دب الخلاف بين فرق المماليك المحاربة، وانحاز بعضها إلى الجيش العثماني، كما سرت إشاعة بين المماليك أن الغوري سقط قتيلاً، ففترت عزيمتهم، وخارت قواهم، وحاول الغوري أن يستحث جنوده، وأمراءه على الثبات والصمود، لكن دون جدوى فحلت الهزيمة بالمماليك وساعدت المدافع العثمانية على تفوق الجيش العثماني، فقُتل الغوري في ساحة المعركة، وتفرق جيشه، ورحل من بقى منهم إلى مصر.

ولما وصلت أنباء هذه الهزيمة إلى القاهرة، وتحقق موت السلطان الغوري قام نائبه في مصر الأمير "طومان باي" بالأمر، واستعد لمقاتلة العثمانيين، ورغب في لقائهم بالشام قبل وصولهم إلى مصر، غير أنه لم يتمكن من ذلك، إذ استولى العثمانيون على غزة، وفي أثناء ذلك أرسل السلطان سليم الأول رسالة إلى "طومان باي" يعرض فيها الصلح وحقن الدماء، ويقره على حكم مصر شريطة أن يقر بتبعيته للسلطان العثماني، غير أن مساعي الصلح لم تكلل بالنجاح.

خرج السلطان طومان باي لمقاتلة العثمانيين، ودفع خطرهم، وأقام بالريدانية قرب صحراء العباسية بالقاهرة، إذ لم يجد استجابة من المماليك للخروج أبعد من ذلك، وبدأ في تحصين الريدانية، وحفر خندقًا على طول الخطوط الأمامية، لكن العثمانيين الذين اخترقوا الحدود المصرية وتوغلوا في أراضيها وتحاشوا الاصطدام بالمماليك عند الريدانية بعد علمهم بأنباء تحصينات المماليك، وواصلوا زحفهم صوب القاهرة، فلحق بهم طومان باي، والتحم الفريقان في معركة حامية في (29 من ذي الحجة 922 هـ= 23 يناير 1517م) وكانت الخسائر فادحة من الجانبين، وقُتل "سنان باشا" الصدر الأعظم، لكن العثمانيين حملوا حملة صادقة عصفت بالمماليك وزلزلت الأرض من تحتهم، وألحقت بهم هزيمة مدوية، واضطر طومان باي إلى الفرار وتنظيم قواته لمواجهات جديدة.

وبعد ذلك بثمانية أيام أي في يوم (8 من المحرم 923هـ= 31 يناير 1517م) دخل العثمانيون القاهرة، على الرغم من المقاومة التي أبداها المماليك، الذين قاتلوهم من بيت إلى بيت ومن شارع إلى شارع، وأبدوا ضروبًا من الشجاعة والإقدام. وقد جرت محاولات للصلح بين طومان باي وسليم الأول ولكنها فشلت، ثم لم يلبث أن وقع في أيدي العثمانيين بخيانة بعض من كان معه، ثم أُعدم بأمر من السلطان سليم الأول يوم (الإثنين 21 من ربيع الأول 923 هـ = 23 إبريل 1517م) وانتهت بذلك دولة المماليك والخلافة العباسية في مصر، وأصبحت مصر ولاية عثمانية

منقول

عبدالغفور الخطيب
08-02-2006, 04:10 AM
الخلافة العباسية.. في القاهرة

(في ذكرى محاولة إحياء الخلافة العباسية بالقاهرة: 9 من المحرم 661هـ)


رُوّع المسلمون بسقوط بغداد حاضرة الخلافة العباسية في (30 من المحرم 656 هـ = 6 من فبراير 1258م) في أيدي المغول الوثنيين بقيادة هولاكو، بعد أن قتلوا الخليفة المستعصم بالله العباسي هو وأهله، واستباحوا المدينة التليدة، فقتلوا السواد الأعظم من أهلها الذين قُدروا بنحو مليون قتيل، وأضرموا النيران في المدينة، وهدموا المساجد والقصور، وخربوا المكتبات وأتلفوا ما بها من كتب إما بإحراقها أو رميها في "دجلة"، وأصبحت المدينة بعد أن كانت درة الدنيا، وزهرة عواصم العالم، أثرًا بعد عين.

وشعر المسلمون بعد مقتل الخليفة المستعصم، وسقوط الخلافة العباسية التي ظلت تحكم معظم أنحاء العالم الإسلامي خمسة قرون بأن العالم على وشك الانتهاء، وأن الساعة آتية قريبا، وذلك لهول المصيبة التي وقعت بهم، وإحساسهم بأنهم أصبحوا بدون خليفة، وهو أمر لم يعتادوه منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وصاروا يؤولون كل ظاهرة على أنها تعبير عن سخط الله وغضبه، واتخذوها دليلاً على ما سيحل بالعالم، من سوء لخلوه من خليفة.

ويعد المؤرخ الكبير ابن الأثير سقوط الخلافة كارثة لم يحل مثلها بالعالم من قبل، ويقول: فلو قال قائل منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن: لم يبتلَّ العالم بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقابلها ولا ما يدانيها.

وتداعت الأحداث سريعًا، وتعذر إحياء الخلافة العباسية مرة أخرى في بغداد التي أصبحت قاعدة للمغول الوثنيين، ثم اجتاحت جحافلهم الشام، فسقطت حلب بعد مقاومة عنيفة، واستسلمت دمشق، فدخلها المغول دون مقاومة، ولم يوقف زحفهم المدمر سوى انتصار المسلمين في معركة عين جالوت في (26 رمضان سنة 658هـ = 3 سبتمبر 1260م).

وتعد هذه المعركة من أهم المعارك في تاريخ العالم الإسلامي، بل في تاريخ العالم، إذ أوقفت زحف المغول، وأنزلت بهم هزيمة مدوية أحالت دون تقدمهم إلى مصر وكانوا على مقربة منها، ومنعت زحفهم إلى ما وراءها من بلاد العالم الإسلامي، وأنقذت معالم الحضارة الإسلامية في تلك البلاد من الدمار وأصبحت شاهدة على ما بلغته من مجد وتفوق.

وكان من نتائج هذا النصر المجيد أن أصبح أمر إعادة الخلافة العباسية ممكنًا، فما إن علم السلطان قطز بطل معركة عين جالوت، حين قدم دمشق بوجود أمير عباسي يدعى "أبا العباس أحمد" حتى استدعاه، وأمر بإرساله إلى مصر، تمهيدًا لإعادته إلى بغداد، وإحياء الخلافة العباسية.

ولما تولى بيبرس الحكم بعد مقتل قطز أرسل في طلب الأمير أبي العباس أحمد، الذي كان قد بايعه قطز في دمشق، لكنه لم يحضر، وسبقه إلى القاهرة أمير آخر من أبناء البيت العباسي اسمه "أبو القاسم أحمد" واستعد السلطان الظاهر بيبرس لاستقباله فخرج للقائه ومعه كبار رجال الدولة والأعيان والعلماء، ولما وقع نظر السلطان على هذا الأمير العباسي ترجل عن فرسه إجلالا له، وعانقه، وركب معه يتبعهما الجيش حتى وصلا إلى القلعة، وهناك بالغ السلطان في إكرامه والتأدب معه، فلم يجلس على مرتبة ولا فوق كرسي بحضرة هذا الأمير العباسي.

وفي يوم الإثنين (13 رجب 659 هـ = 19 من يونيو 1260 م) عقد السلطان مجلسا بالديوان الكبير بالقلعة حضره القضاة والعلماء والأمراء، وشيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، وكبار رجال الدولة، وفي هذا المجلس شهد العرب الذين قدموا مع الأمير العباسي بصحة نسبه، وأقر هذه الشهادة قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز وحكم بصحة نسبه وبايعه بالخلافة، ثم قام بعد ذلك الظاهر بيبرس وبايعه على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وأخذ الأموال بحقها، وصرفها في مستحقتها، ثم قام الحاضرون بمبايعة الخليفة الذي تلقب باسم الخليفة المستنصر بالله.

ولما تمت البيعة قلد الخليفة المستنصر السلطان بيبرس البلاد الإسلامية وما ينضاف إليها، وما سيفتحه الله على يديه من بلاد الكفار، وكتب السلطان إلى النواب والحكام في سائر الولايات التابعة لمصر بأخذ البيعة للخليفة المستنصر، والدعاء له في خطبة الجمعة على المنابر والدعاء للسلطان من بعده، وأن تنقش السكة باسمهما.

شرع السلطان بيبرس في تجهيز الخليفة، وإمداده بكل ما يحتاجه من جند وسلاح ومال، في سبيل إعادة الخلافة العباسية، وإقامتها في بغداد، وخرج السلطان مع الخليفة إلى دمشق، فبلغها في (ذي القعدة 659 هـ = 1261م)، وكان في عزمه أن يمد الخليفة بعشرة آلاف جندي وفارس حتى يتمكن من استعادة بغداد من أيدي المغول، لكن السلطان بيبرس تراجع عن وعده، وأحجم عن المضي في هذا المشروع بعد أن وسوس له أحد أمرائه وخوّفه من مغبة نجاح الخليفة في استرداد بغداد لينازع بعد ذلك السلطان الحكم، فاكتفى بإمداده بقوات قليلة لم تكن كافية لتحقيق النصر على المغول، فانهزم الخليفة، وقُتل هو ومعظم من كان معه، في المعركة التي وقعت بالقرب من الأنبار في (المحرم 660 هـ = ديسمبر 1261م).

تهيأت الأحداث لإحياء الخلافة العباسية مرة أخرى، فأرسل بيبرس في استدعاء الأمير "أبي العباس أحمد" الذي سبق أن بايعه قطز، وكان قد نجا ونحو خمسين فارسًا من الهزيمة التي لحققت بالخليفة السابق، فوصل إلى القاهرة في (ربيع الآخر 660 هـ = مارس 1262م) واحتفل بيبرس بقدومه، وأنزله البرج الكبير بقلعة الجبل، وعقد له في (8 من المحرم 661 هـ = 21 نوفمبر 1262م) مجلسًا عامًا بالديوان الكبير بالقلعة، حيث قرئ نسبه على الحاضرين، بعدما ثبت ذلك عند قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز، ولقب بالحاكم بأمر الله، وبايعه السلطان على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، فلما تمت البيعة أقبل الخليفة على السلطان، وقُلّد أمور البلاد والعباد، ثم قام الحاضرون بمبايعة الخليفة الجديد، وخُطب له على المنابر في مصر والشام وبهذا الإجراء الذي تم في هذا اليوم أُحييت الخلافة العباسية للمرة الثانية بالقاهرة، غير أن الظاهر بيبرس، لم يفكر في إعداد هذا الخليفة الثاني لاسترجاع بغداد وإحياء الخلافة بها، وإنما استبقاه في القاهرة ليكون على مقربة منه وتحت عينه، وجعل سلطته محدودة، لا تتعدى ذكر اسمه في الخطبة في مصر والأمصار التابعة لها، واستمرت الخلافة العباسية بمصر إلى أن فتحها العثمانيون على يد السلطان "سليم الأول".

وجدير بالذكر أن الخلافة العباسية لم تكسب في إحيائها كثيرًا، بعد أن صار الخلفاء العباسيون في مصر يفوضون السلاطين المماليك في إدارة شئون البلاد العامة دون تدخل منهم، واقتصر دورهم على حضور حفلات السلطنة وولاية العهد، وتهنئة السلاطين بالشهور والأعياد.

ومنذ أن أقيمت الخلافة العباسية في القاهرة تمتع السلاطين المماليك بمكانة ممتازة بين ملوك العالم الإسلامي؛ باعتبارهم حماة الخلافة والمتمتعين ببيعتها، كما حظيت القاهرة بشهرة دينية علمية واسعة بعد أن صارت حاضرة الخلافة العباسية الجديدة.‏


منقول

عبدالغفور الخطيب
10-02-2006, 02:39 AM
علي دينار.. باني السلطنة والآبار

(في ذكرى مقتله: 11 من المحرم 1335 هـ)



حَكَمَ الْفُور -الذين يعودون في أصلهم إلى سليمان صولونج القادم من تونس والمنحدر من أصل عباسي، والذي تزوج من ملكة فور- سلطنة دارفور الإسلامية عدة قرون قبل أن تخضع تلك السلطنة لحكم المهديين في القرن الثالث عشر الهجري(التاسع عشر الميلادي).

ومع سيطرة المهديين على دارفور انتقل حكامها الأقدمون إلى جنوب غرب جبل مُرّة، حيث ولد لهم طفل أعاد لهم حكم دارفور، وكانت له في ذلك قصة.. إنه السلطان "علي دينار" آخر سلطان لدارفور الإسلامية، وباني "آبار علي" بالسعودية...

المولد وبداية الظهور

ولد علي دينار في قرية "شوية" بدارفور، ولا يوجد تاريخ محدد لولادته، لكن يمكن تقدير تاريخ مولده ما بين عام (1272هـ= 1856م) وعام (1287هـ=1870م). أما أبوه فهو "زكريا بن محمد فضل" ولا يوجد شيء عن طفولته أو نشأته أو شبابه، إلا أن أول ظهور له كان في (جمادى الآخرة 1306هـ= فبراير 1889م) عندما ساند عمه السلطان "أبو الخيرات" في تمرد "أبو جميزة"، ثم هرب مع عمه بعد هزيمة التمرد.

كان "الفور" الذين ينتمي إليهم "علي دينار" يقيمون جنوب غرب جبل مُرّة بعد سيطرة المهديين على دارفور، وعندما توفي السلطان "أبو الخيرات" في ظروف غامضة عام (1307 هـ=1890م) كانت المهدية تسيطر على دارفور وكردفان، فطلب أمير هاتين المنطقتين من "علي دينار" المثول بين يديه في مقر رئاسته في "الأُبَيْض"، والخضوع لأمير المهدية في "الفاشر" –عاصمة دارفور- "عبد القادر دليل"، إلا أن "علي دينار" كان قلقا من هذا اللقاء وآثر أن يُبدي الخضوع للمهدية دون أن يلتقي بأمرائها، غير أن هناك أخبارا تؤكد أنه التقى بخليفة المهدي "عبد الله التعايشي" في عام (1309 هـ=1892م) وبايعه.

وهناك ارتباك ملحوظ في سيرته خلال هذه السنوات الست التي تلت تلك المقابلة، ومن الصعب حمل أي شيء فيها على اليقين التام. ويُقال لم يشترك في معركة "كرري" الفاصلة بين المهدية والإنجليز في (صفر 1310 هـ = سبتمبر 1898) والتي انتهت بهزيمة المهدية، حيث خرج من "أم درمان" خلسة مع 300 من أتباعه قاصدا دارفور.

السيطرة على الحكم في دارفور

قصد "علي دينار" الفاشر عاصمة دارفور التي سيطر عليها في ذلك الوقت شخص يُسمى "أبو كودة" معلنا نفسه سلطانا عليها بعد انهيار المهدية، وكتب إلى "أبو كودة" شاكرا صنيعه في تخليص دارفور من المهدية، ثم طلب منه التخلي له عن العرش، فانصاع "أبو كودة" لهذا المطلب بعد تمنع، ودخل "دينار" الفاشر فاتحا لها بدون قتال.

كانت دارفور مطمعا لكثير من المتنافسين على الحكم، فعقب سقوط المهدية ظهر مطالبون بالحكم مثل "إبراهيم علي" –عمه السلطان أبو الخيرات- ونظرا لعلاقاته مع الإنجليز في حكومة السودان، فقد طلب أن يدعموه في مواجهة "علي دينار"، فقام السردار الإنجليزي "كتشنر" بدراسة الموقف في دارفور، والمقارنة بين "علي دينار" و"إبراهيم علي" أيهما يصلح للحكم، ورأى أنه من الحكمة عدم السماح بحدوث صراع في دارفور حفاظا على أمنها واستقرارها، وحتى لا تتورط حكومة السودان الخاضعة للإنجليز في صراع يحمل الخزينة تكاليف كبيرة نظرا لبعد دارفور وصعوبة مواصلاتها وندرة الطرق المعبدة للوصول إليها.

ولذا كتب "كتشنر" إلى "علي دينار" يحذره من القيام بأي عمل يكون من شأنه حدوث ثورة أو اضطراب في دارفور، ويخبره بأن الإنجليز يعلمون أنه لم يقاتلهم في "أم درمان" وأنه ترك الميدان قبل المعركة بيوم، وأنه من أحفاد السلاطين الذين حكموا دارفور. كما كتب إلى "إبراهيم" يحذره من الاشتباك مع "علي دينار".

هذا الحياد النسبي من الإنجليز في الصراع بين الرجلين كان فرصة ذهبية لعلي دينار لتدعيم سلطته في دارفور، وخوض معركة ضد "إبراهيم علي" والانتصار عليه في (14 من رمضان 1316 هـ= 26 من يناير 1899م) في منطقة "أم شنقة" داخل الحدود الشرقية لدارفور، وبعد هذا الانتصار سعى "علي دينار" إلى استمالة الإنجليز والتأكيد لهم أنه مخلص لحكومتهم في السودان وأنه يتمنى أن يعتبره حاكم السودان أحد موظفيه.

دينار والإنجليز
كان مستقبل العلاقة مع "علي دينار" من الأمور التي تشغل الإدارة الإنجليزية في السودان، وتتم مناقشتها على مستويات عليا، وبنى الإنجليز موقفهم على أن "علي دينار" استطاع أن يوطد نفسه سلطانا على دارفور، وستتكلف الحكومة الكثير إذا أرادت تغييره، كذلك فإنه يصر على إعلان الإخلاص والرغبة في طاعة حكومة السودان، وأن من الأفضل لتلك الحكومة أن تدير دارفور من خلال "دينار" وليس من خلال حاكم مصري أو إنجليزي، وتم توصيف "دينار" على أنه "صديق في الوقت الحاضر"، وبذلك أعاد الإنجليز العمل بالسياسة التي اتبعها الحاكم الإنجليزي "غوردون باشا" عندما ذهب إلى السودان سنة (1301 هـ=1884م) والتي كانت ترتكز على تدعيم حكم السلاطين المحليين كوسيلة فعالة لحكم السودان، ولذا اعترف الإنجليز بـ"دينار" كأمر واقع من الضروري التعامل معه.


وقد حدث تطور مهم سنة (1317 هـ=1900م) عندما تم تعيين البارون النمساوي "سلاطين باشا" –صاحب كتاب "السيف والنار في السودان"- مفتشا عاما للسودان، وكان من مسئولياته إقليم دارفور، وقد شددت الإدارة الإنجليزية في القاهرة برئاسة المعتمد البريطاني اللورد "كرومر" على "سلاطين" أن يحرص على إفهام "علي دينار" أن دارفور تقع ضمن منطقة النفوذ البريطاني-المصري، وأن الإدارة هي التي سمحت له بممارسة سلطات داخلية واسعة في دارفور، وكان الهدف من هذه السياسة تأكيد تبعية دارفور لحكومة السودان.

وأثناء رحلة "سلاطين" في السودان أكد لشيوخ القبائل أنه تم الاعتراف بعلي دينار ممثلا للحكومة في دارفور، وأن على الجميع أن يتعامل معه وفق هذا التوصيف، ورغم ذلك فقد تهرب "علي دينار" من مقابلة "سلاطين" أكثر من مرة عام (1318 هـ=1901م).

تدعيم سلطان الداخل

كان وضع دارفور فريدا داخل السودان؛ فهي من الناحية الفعلية لم تكن كباقي أقسام السودان رغم اعتراف بعض المعاهدات الدولية بكون الإقليم قسما من السودان، مثل معاهدة 12 مايو 1894م مع الكونغو، أو تصريح 21 مارس 1899م مع الفرنسيين، وكذلك رغم اعتراف "علي دينار" بكون دارفور قسما من السودان وقيامه بدفع جزية سنوية لحكومة السودان حتى عام 1915م، ورغم التبعية التي أبداها "علي دينار" لحكومة السودان فقد رفض دائما دخول أي موظف حكومي إلى دارفور.

وقد كانت السنوات الأولى لحكم على دينار مستقرة نسبيا وهي السنوات التي امتدت من (1319 هـ =1902م) حتى (1327 هـ=1909م)، ورغم أن علاقته بحكومة السودان لم تكن مستقرة نسبيا وكان عدم الثقة هو الأساس في التعامل، فإن هذه العلاقات كانت غير عدائية، وتتسم بالود الحذر، فكان "دينار" كلما حاول الاستزادة من مظاهر استقلاله الداخلي من خلال تعزيز مركزه داخل السودان أو إقامة علاقات خارجية بصفته الشخصية كسلطان لدارفور وقفت له حكومة السودان الخاضعة للإنجليز بالمرصاد.

مشكلات دينار

-العلاقة مع السنوسية: كانت الحركة السنوسية ذات التوجه الديني والإصلاحي قد اجتاحت صحاري شمال إفريقيا حتى حدود دارفور، وكانت ذات زخم وقبول واسع في تلك المناطق، وتزامن صعود هذه الحركة مع بداية حكم "علي دينار" ولذا رأى ضرورة عدم الدخول معها في مواجهة، مع عدم السماح لها بالامتداد داخل دارفور.

ولتحقيق هذه المعادلة الصعبة، لم يتجاوب "دينار" مع طلب الزعيم "محمد المهدي السنوسي" عندما طلب عام (1317 هـ=1900م) من السلطان "علي دينار" السماح له ولأتباعه بالعبور من الأراضي الدارفورية للذهاب إلى الحج، فتعلل بأن بلاده فقيرة جدا ولا تستطيع استضافة السنوسي ووفده الكبير، كما اعتذر عن عدم إقامة زاوية سنوسية في عاصمته "الفاشر"، ورغم ذلك رأى أن السنوسية ليست منافسة لدولته ويمكنه من خلال توثيق علاقاته بها الحصول على السلاح وبعض البنادق الحديثة.

-العلاقة مع سلطنة "واداي": وتقع هذه السلطنة الإسلامية في منطقة تشاد حاليا، وكانت من الممالك الإسلامية الشهيرة، وقد تعرضت في تلك الفترة لاضطرابات كثيرة أضعفتها وجعلتها مطمعا للاستعمار الفرنسي، حيث استطاع الفرنسيون الانتصار على سلطانها "رابح الزبير" في (22 من ذي الحجة 1317 هـ= 22 من إبريل 1900م) في منطقة "كوسري" على بعد خمسة أميال جنوب بحيرة تشاد، لكن سيطرتهم التامة على "واداي" لم تكتمل إلا عام (1326 هـ=1908م) عندما بسطوا سيطرتهم على المنطقة القريبة من الحدود مع دارفور، وهو ما أقلق "علي دينار" خاصة أن المنطقة الحدودية بين الجانبين كانت مسرحا للمناوشات.

وقد طلب "علي دينار" من حكومة السودان أن تسانده ضد الفرنسيين، وعندما تقاعست حكومة السودان عن مساندته كتب أول احتجاج إلى تلك الحكومة في (1327 هـ= 1909م) بشأن الانتهاكات الفرنسية الحدودية، ووجدت حكومة السودان نفسها في مأزق فتخطيط الحدود بين دارفور وواداي سيكون مستحيلا بدون جلاء الفرنسيين عن المنطقة الحدودية المتنازع عليها، والاعتراف بالادعاءات الفرنسية في تلك المناطق معناه نقض الهدنة مع "علي دينار"، بينما كان هناك اتجاه لعرض القضية على التحكيم، لكن حكومة السودان كانت ملتزمة ببقاء وضع "علي دينار" على ما هو عليه ورفضت رفضا قاطعا أن يقيم أية علاقات خارجية.

-العلاقة مع الجيوب المهدية: عندما سقطت الدولة المهدية في السودان بقي لها عدد من الجيوب في دارفور، وكان أبرز تلك الجيوب "عربي دفع الله" في المناطق الجنوبية من دارفور، و"الفكي سنين حسين" في الغرب، وقد شنت قوات "علي دينار" عدة هجمات على "دفع الله" ودفعته الخسائر التي مني بها إلى أن ينضم إلى "علي دينار" سنة (1320 هـ =1903م) وكان ذلك نهاية الجيب الأول.

أما "الفكي سنين" في منطقة "كباكية" فقد استغرق وقتا وتضحيات من "علي دينار" لتصفيته نظرا لقوته وتأثيره الديني، حيث وجه إليه "دينار" جيشا مكونا من أربعة آلاف مقاتل سنة (1317 هـ=1900م) بقيادة خادمه "كيران" لكن المهدية هزمت ذلك الجيش، فأرسل جيشا آخر في العام التالي من ستة آلاف مقاتل لكن المهدية هزمته، فأرسل جيشا ثالثا سنة (1319 هـ=1902م)من اثني عشر ألف مقاتل بقيادة "محمود ديدنجاوي" وهُزم أيضا.

لم ييئس "علي دينار" من تصفية ذلك الجيب واتبع سياسة الإجهاد الحربي المتواصل لـ"الفكي سنين" حيث قام بغارات متواصلة على منطقة "كباكية" عدة سنوات دون أن يخوض قتالا كبيرا، وفي سنة (1325 هـ= 1907م) وجه جيشا كبيرا وضرب حصارا على "الفكي" لمدة 17 شهرا وانتهى الأمر في (1327 هـ= 1909م) بدخول جيش دارفور "كباكية" وقتل "الفكي".

-العلاقات مع القبائل: شهدت الفترة الأولى من حكم "علي دينار" علاقات متوترة مع القبائل خاصة "المساليت" و"الرزيقات" و"الزيادية" و"المعالية" و"بني هلبة" وامتدت هذه الصراعات إلى نهاية حكمه، وكانت المشكلة الرئيسية هي انعدام الثقة بين الجانبين، فقد كان "علي دينار" يرغب في فرض سطوته عليهم، أما هم فكانوا خائفين منه ومن نمو قوته، وكان لهذه العلاقات المتوترة بينه وبين القبائل انعكاساتها في توتر العلاقة بينه وبين حكومة السودان، وفي استخدام الإنجليز للورقة القبلية ضد "علي دينار" أثناء الحرب ضده واحتلال دارفور بعد ذلك.

الانفتاح على الخارج

كان "علي دينار" حريصا على الانفتاح نحو الخارج وخلق نوع من التواصل بين دارفور والعالم الخارجي رغم حرص حكومة السودان على الوقوف له بالمرصاد في أي خطوة يقوم بها في هذا الاتجاه، فقد رفضت حكومة السودان التجاوب مع رغبة "علي دينار" في نشر كتاب عن حياته بعنوان "العمران" في القاهرة سنة (1330 هـ= 1912م) حيث رفض الحاكم العام للسودان هذا الأمر رفضا قطعيا، ولم يوافق إلا على طباعة ست نسخ فقط من الكتاب للاستخدام الشخصي للسلطان.

وقد تابع الإنجليز محاولات "علي دينار" الانفتاح على بعض الصحف المصرية، وراقبوا اتصالاته بجريدة "العمران" التي كانت تصدر في القاهرة ويُديرها "عبد المسيح الأنطاكي"، والتي كان يدعمها "دينار" بالمال، ورغم ذلك ؛ فقد كانت بعض الصحف المصرية النزيهة تنظر باحترام إلى "علي دينار" مثل صحيفة "اللواء" التي كان يُصدرها الزعيم المصري "مصطفى كامل" وتعتبره بادرة طيبة على طريق التحرر من السيطرة الاستعمارية، ونشرت مقالا مهما عنه في (2 من ربيع الآخر 1318 هـ=29 يوليو 1900م) عنوانه "علي دينار مسالم لا مستسلم"، ثم نشرت مقالا آخر بعد عامين بعنوان "محاولة التدخل الإنجليزي في شئون دارفور وفشلهم في ذلك".

وكان لعلي دينار دوره في العلاقات الإسلامية، فقام بحفر عدد من الآبار على مشارف المدينة المنورة عرفت بـ"آبار علي" نسبة إليه، وأصبحت ميقاتا لبعض الحجيج، كما كان له أوقاف بالحجاز.

أما موقفه من دولة الخلافة العثمانية، فكانت علاقته بها أثناء الحرب العالمية سببا رئيسيا في تحرك الإنجليز ضده للقضاء عليه وتقويض سلطنته؛ فعندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى ودخلتها تركيا ضد إنجلترا، تغيرت الأوضاع ؛ فقد كانت مصر تابعة من الناحية الاسمية لدولة الخلافة، في حين أنها خاضعة من الناحية الفعلية لسيطرة الاحتلال الإنجليزي، وكان خديوي مصر "عباس حلمي" مساندا للخلافة ضد الإنجليز، ولذا قام الإنجليز بعزله وتعيين عمه "حسين كامل" سلطانا على مصر، وفي (18 من ربيع الأول 1333 هـ=3 من فبراير 1915م) أرسل وزير الحرب التركي "أنور باشا" خطابا إلى "علي دينار" يطلب منه مساندة تركيا في حربها ضد الحلفاء، وقد زاد من خطورة تلك الرسالة تحرك الأتراك مع السنوسية في ليبيا لتحريكهم ضد الوجود الفرنسي في بلاد المغرب ومنطقة تشاد، وضد الإنجليز في مصر والسودان.

الصدام والنهاية

ويبدو أن "علي دينار" بنى موقفه على أن ألمانيا وتركيا هما المنتصران في الحرب ضد الحلفاء، وأن عليه تقديم العون لتركيا حتى يجني ثمار هذه المساعدة بعد انتهاء الحرب، وإن كان ذلك لا يمنع انطلاق "علي دينار" من عاطفة وحمية دينية لمساندة دولة الخلافة ضد أعدائها من الفرنسيين والبريطانيين الذين أطلق عليهم صفة "الكفار".

أما البريطانيون فرأوا أن "علي دينار" قام بانقلاب في السياسة الدارفورية الخارجية نظرا لأنه كان يعاني من فقدان شعبيته فأراد أن يعوض ذلك باللجوء إلى الدين، وأيا ما كان الدافع وراء تمرد "علي دينار" على الإنجليز فقد وقعت الوحشة ثم القتال بين الجانبين، ورأى الإنجليز في البداية ضرورة تأليب القبائل عليه لإضعاف سلطته تمهيدا لحربه، فتم تسليح قبائل "الرزيقات" وتحفيزهم ضده، وتم استغلال شائعة أن السلطان "علي دينار" يجهز تعزيزات من الفور في منطقة جبل الحلة كذريعة لحربه؛ خاصة بعد تحسن الموقف العسكري للإنجليز في مصر ونجاحهم في القضاء على خطر السنوسية على الحدود الغربية لمصر.

وقد بدأت الحرب بين الجانبين في ( ربيع الآخر 1334 هـ= مارس 1916م)، ووقعت عدة معارك داخل أراضي دارفور كان أهمها معركة "برنجيه" الواقعة قرب العاصمة الفاشر، وتمكن الإنجليز من تبديد جيش دارفور البالغ 3600 مقاتل بعد أربعين دقيقة من القتال، وقتل في المعركة حوالي ألف رجل من جيش دارفور، وعندما علم "علي دينار" بالهزيمة استعد للقتال مرة أخرى للدفاع عن الفاشر، لكن الجيش الذي كان تحت يديه لم يكن مدربا ولم يكن يمتلك أي أسلحة حديثة، كما أن الإنجليز استخدموا الطائرات لأول مرة في إفريقيا، وكانت هذه المرة ضد جيش "علي دينار"، وتم لهم السيطرة على الفاشر في (22 من رجب 1334 هـ = 24 من مايو 1916م) ففر السلطان بأهله وحرسه نحو جبل مُرّة، وهناك تم اغتيال "علي دينار" أثناء صلاته الصبح على يد أحد أتباعه في (11 من المحرم 1335 هـ=6 من نوفمبر 1916م) بعدما رفض الإنجليز قبول أي تفاوض معه للاستسلام.

لقد عبر علي دينار عن تطور ملحوظ في الوعي السياسي للقادة المحليين في السودان وأفريقيا، وعن درجة كبيرة من الوعي الديني والإداري، حيث استطاع إقامة سلطنته في غرب السودان، وكون لها شبكة من العلاقات الخارجية كشفت عن وعي سياسي ناضج، وسعى لبناء سلطنته وفق نظام داخلي جيد مقارنة بالإمكانات التي كانت متاحة له في ذلك الوقت؛ حيث كوّن مجلسا للشورى، وعين مفتيا لسلطنته، ومجلسا للوزراء، وبدأ في تكوين جيش حديث، وأوكل تدريبه إلى ضابط مصري، ووضع نظاما للضرائب يستند إلى الشريعة الإسلامية.

منقول

عبدالغفور الخطيب
11-02-2006, 05:17 AM
الخليل قلاوون وقطز.. سيناريو مشترك

(في ذكرى وفاة خليل بن قلاوون: 12 من المحرم 693هـ)


شاءت الأقدار أن تكون دولة المماليك التي خرجت من رحم الأخطار العاتية التي أحدقت بالعالم الإسلامي هي التي تحمل على كاهلها تصفية الوجود الصليبي، ووقف الزحف المغولي المدمر الذي سحق في طريقه كل شيء، وزرع الفزع والهلع في نفوس الناس، وكاد يهلك ويدمر معالم الحضارة الإسلامية، ولو لم يكن لهذه الدولة من المفاخر سوى هذا لكفاها فخرًا، فما بالك وقد أحيت الخلافة العباسية في القاهرة، وازدهرت في ربوعها الفنون والعلوم والعمارة.

المماليك والحروب الصليبية

وكان أول نجاح أحرزه المماليك في وجه الصليبيين هو انتصارهم في معركة المنصورة المعروفة، وإيقاعهم بالملك الفرنسي "لويس التاسع"، زعيم الحملة الصليبية السابعة أسيرا، ولم يفرج عنه إلا بعد أن تعهد بألا يقصد شواطئ الإسلام مرة أخرى.

وواصل "الظاهر بيبرس" الجهاد ضد الصليبيين، ووضع برنامجًا طموحًا للقضاء عليهم وطردهم من الشام، وبدأت هجماته وحملاته في وقت مبكر من توليه السلطنة؛ فهاجم إمارة إنطاكية سنة (660هـ= 1262م) وكاد يفتحها، ثم بدأ حربه الشاملة ضد الصليبيين منذ عام (663هـ= 1265م) ودخل في عمليات حربية ضد إمارات الساحل الصليبي، وتوج أعماله العظيمة بفتح مدينة إنطاكية سنة (666هـ= 1268م)، بعد أن ظلت رهينة الأسر الصليبي على مدى أكثر من مائة وخمسين عامًا، وكان ذلك أكبر انتصار حققه المسلمون على الصليبيين منذ أيام حطين واسترداد بيت المقدس.

وواصل المماليك جهادهم ضد الصليبيين في عهد السلطان "المنصور قلاوون"، الذي تولى السلطنة في سنة (678هـ= 1279م)، فاستولى على "حصن المرقب" سنة (684هـ= 1285م)، واسترد "اللاذقية" سنة (686هـ= 1287م)، وفتح "طرابلس" بعد حصار دام شهرين في (688هـ= 1289م) ثم تلتها "بيروت" و"جبلة"، ولم يبق للصليبيين في الشام سوى "عكا" و"صيدا" و"عثليت" وبعض المدن الصغيرة، وتجهز لفتح "عكا"، غير أن المنية كانت أسبق من إنجاز حلمه؛ فتوفي في (ذي القعدة 689هـ= نوفمبر 1290م).

الأشرف خليل

وبعد وفاته خلفه على السلطنة ابنه "الأشرف خليل"، وشاء الله تعالى أن يطوي آخر صفحة للحروب الصليبية على يديه، وأن ينهي الفصل الأخير من القصة الدامية للحروب الصليبية في بلاد الشام.

لم يكن "الأشرف خليل" محبوبًا من أمراء المماليك، حتى إن أباه لم يكتب له ولاية العهد؛ بسبب شدته وصرامته واستهانته بأمراء المماليك، لكنه كما يقول "ابن إياس" في "بدائع الزهور": "كان بطلاً لا يكل من الحروب ليلاً ونهارًا، ولا يعرف في أبناء الملوك من كان يناظره في العزم والشجاعة والإقدام".

استهل "الأشرف" حكمه بالتخلص من بعض رجال الدولة البارزين، الذين كانت لهم السطوة والنفوذ في عهد أبيه، وبإحلال الأمن في جميع ربوع البلاد، وبدأ في الاستعداد لمواصلة الجهاد ضد الصليبيين، وإتمام ما كان أبوه قد بدأه، وهو فتح عكا، وإنهاء الوجود الصليبي.

الاستعداد للمعركة

خرج الأشرف خليل من القاهرة في (صفر 690هـ= 1291م) قاصدًا "عكا"، وأرسل في الوقت نفسه إلى كل ولاته بالشام بإمداده بالجنود والعتاد، ونودي في الجامع الأموي بدمشق بالاستعداد لغزو "عكا" وتطهير الشام نهائيًا من الصليبيين، واشترك الأهالي مع الجند في جر المجانيق.

وخرج الأمير "حسام الدين لاجين" نائب الشام بجيشه من "دمشق"، وخرج الملك المظفر بجيشه من "حماة"، وخرج الأمير "سيف الدين بلبان" بجيشه من "طرابلس"، وخرج الأمير "بيبرس الدوادار" بجيشه من "الكرك"، وتجمعت كل هذه الجيوش الجرارة عند أسوار عكا، وقدر عددها بنحو ستين ألف فارس، ومائة وستين ألفًا من المشاة؛ مجهزين بالأسلحة وعدد كبير من آلات الحصار، وبدأت في فرض حصارها على "عكا" في (ربيع الآخر 690هـ= 5 من إبريل 1291م)، ومهاجمة أسوارها وضربها بالمجانيق؛ وهو ما مكنهم من إحداث ثقوب في سور المدينة.

اشتد الحصار الذي دام ثلاثة وأربعين يومًا، وعجز الصليبيون عن الاستمرار في المقاومة، ودب اليأس في قلوبهم؛ فخارت قواهم، وشق المسلمون طريقهم إلى القلعة، وأجبروا حاميتها على التراجع؛ فدخلوا المدينة التي استسلمت، وشاعت الفوضى في المدينة، بعد أن زلزلت صيحات جنود المماليك جنبات المدينة، وهز الرعب والفزع قلوب الجنود والسكان؛ فاندفعوا إلى الميناء في غير نظام يطلبون النجاة بقواربهم إلى السفن الراسية قبالة الشاطئ؛ فغرق بعضهم بسبب التدافع وثقل حمولة القوارب.

انهارت المدينة ووقع عدد كبير من سكانها أسرى في قبضة المماليك، وسقطت في يد الأشرف خليل في (17 من جمادى الأولى 690هـ= 18 مايو 1291م)، ثم واصل سعيه لإسقاط بقية المعاقل الصليبية في الشام؛ فاسترد مدينة "صور" دون مقاومة، و"صيدا" ودمرت قواته قلعتها، وفتح "حيفا" دون مقاومة، و"طرسوس" في (5 من شعبان 690هـ= 3 من أغسطس 1291م)، و"عثليث" في (16 من شعبان 690هـ).

ظلت الجيوش المملوكية تجوب الساحل الشامي بعد جلاء الصليبيين من أقصاه إلى أقصاه بضعة أشهر تدمر كل ما تعتبره صالحًا لنزول الصليبيين إلى البر مرة أخرى، وبهذا وضع "الأشرف خليل" بشجاعته وإقدامه خاتمة الحروب الصليبية.

عاد السلطان إلى القاهرة يحمل أكاليل النصر، وسار موكبه في الشوارع يسوق أمامه عددًا كبيرًا من الأسرى، وخلفهم جنوده البواسل يحملون أعلام الأعداء منكسة، ورؤوس قتلاهم على أسنة الرماح.

قلاوون وقطز!

ولم تطل مدة حكم الأشرف خليل أكثر من ثلاث سنوات وشهرين وأربعة أيام؛ فقد كان الود مفقودًا بينه وبين كبار المماليك، وحل التربص وانتظار الفرصة التي تمكن أحدهما من التخلص من الآخر محل التعاون في إدارة شئون الدولة، وكانت يد الأمراء المماليك أسرع في التخلص من السلطان، ولم يشفع عندهم جهاد الرجل في محاربة الصليبيين؛ فكانت روح الانتقام والتشفي أقوى بأسًا من روح التسامح والمسالمة؛ فدبروا له مؤامرة وهو في رحلة صيد خارج القاهرة – كما فعل بقطز بعد انتصاره على التتار في عين جالوت- وتمكنوا من قتله في (12 من المحرم 693هـ= ديسمبر 1293م) وبقيت جثته ملقاة في الصحراء أيامًا إلى أن نُقلت إلى القاهرة؛ حيث دفنت بالمدرسة التي أنشأها لنفسه بالقرب من ضريح السيدة نفيسة.‏‏

منقول

عبدالغفور الخطيب
13-02-2006, 04:49 AM
"مروحة" تتسبب في احتلال الجزائر!

(في ذكرى احتلال الجزائر: 14 من المحرم 1246 هـ)


بعد سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس في (21 من المحرم 898 هـ = 25 من نوفمبر 1492م) بدأ الأسبان يهاجمون الشمال الأفريقي في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، في ظل حركة صليبية تدعو إلى الضغط على المسلمين في شمال أفريقيا باحتلال ثغورهم، وتحويلهم إلى المسيحية إن كان ذلك ممكنًا.

احتلال أسباني

ونجح الأسبان في دخول الجزائر والاستيلاء على "المرسى الكبير" سنة (911هـ = 1505م) ووهران سنة (915 هـ = 1509م) وبعد احتلالهما قاموا بتنظيم أمورهما، واعتبروهما أيضًا أسبانيين، وأخضعوهما لسلطة حاكم عسكري، ونشروا فيهما الجند والمرتزقة، ووطنوا بهما عددًا من المدنيين المجرمين والمنفيين من (أسبانيا).

وفي الوقت الذي توسع فيه الأسبان في احتلال الثغور الإسلامية المطلة على غرب البحر المتوسط، ظهرت قوة بحرية إسلامية، خاضت جهادًا عظيمًا ضد السفن الأسبانية، ودفعت خطرهما، وكان يقود حركة الجهاد الأخوان (بابا عروج) وخير الدين برباروسا، وتطورت تلك الحركة فتمكنت من تحرير الجزائر بمساعدة الدولة العثمانية، وإخضاع الملاحة في البحر المتوسط للبحرية الإسلامية، ومد النفوذ العثماني في الشمال الأفريقي.

أطماع فرنسية


وظلت الجزائر تابعة للدولة العثمانية، حتى بدأت فرنسا تتطلع باهتمام بالغ إلى احتلال الجزائر، وكان "نابليون بونابرت" يحلم بجعل البحر المتوسط بحيرة فرنسية، وأخذ يخطط لقيام حملة كبيرة تمكنه من ضم دول المغرب العربي، وإقامة مستعمرات عسكرية فرنسية، وطلب من الفرنسيين الذين سبق لهم العيش في "الجزائر" أن يمدوه بمعلومات عنها وعن سكانها وتحصيناتها، ولم يكتف بذلك، وإنما كلف وزير البحرية بأن يبعث أحد جنوده الأكفاء الذين يمتازون بالروح القتالية والمهارة الهندسية إلى الجزائر سرًا، ليدرس أحوال الجزائر العسكرية عن كثب، ويوافيه بتقرير شاف، وقد نجح هذا المبعوث في كتابة تقرير واف عن تحصينات الجزائر، وطبيعة أراضها، وعدد قواتها، وزيّن الحملة المقترحة، والمدة التي تستغرقها لتحقيق هدفها، وعدد القوات اللازمة للقيام بالحملة، غير أن انشغال نابليون بأطماعه في أوروبا أرجأ مشرعه.

حادثة المروحة

تولى الباشا حسين حكم الجزائر سنة (1234 هـ = 1818م) وكان رجلاً مشهورًا بالغيرة على الدين، واليقظة الدائمة، والميل إلى الأهالي، فطلب من "دوقال" قنصل فرنسا أن يبلغ حكومته بضرورة الإسراع في تسديد الديون التي عليها للجزائر.

وجرت العادة أن يقوم قناصل الدولة الأجنبية بزيارة (الباشا) لتهنئته بعيد الفطر (2 شوال 1243 هـ = 29 من إبريل 1827م) وكان القنصل الفرنسي حاضرًا، ودار حديث بينه وبين الباشا حول الديون، فأساء القنصل الفرنسي الرد، فأمره الباشا بالخروج من حضرته، لكنه لم يتحرك فقام الباشا بضربه بالمروحة التي كانت في يده، فكتب القنصل إلى بلاده بما حدث، وادعى أنه ضُرب ثلاث مرات.

اتخذت فرنسا من هذه الحادثة ذريعة لاستغلالها لمصلحتها، وبخاصة بعد أن كتب القنصل تقريره إلى حكومته في الليلة نفسها، وطلب منها اتخاذ الوسائل اللازمة للمحافظة على كرامتها في شمال أفريقيا، وقرأ وزير الخارجية الفرنسية ذلك التقرير في مجلس الوزراء، وطلب إجبار الجزائر على الاعتذار عن الإهانة التي لحقت بالملك في شخص ممثله، ولو أدى ذلك إلى استخدام القوة.

أرسلت فرنسا قطعة من أسطولها إلى الجزائر في (18 ذي القعدة 1243 هـ = 12 من يونيو 1827)، وجاء قبطانها إلى الباشا وطلب منه أن يأتي معه إلى السفينة ويقدم اعتذارا شخصيًا للقنصل الفرنسي، ولما كان هذا الطلب متعذرًا، وأن الباشا لن يوافق عليه، فإن القبطان تقدم إلى الباشا باقتراحين آخرين: إما أن يعتذر للقنصل بمحضر الديوان وفي وجود القناصل الأجانب جميعًا، وإما أن يرسل الباشا بعثة برئاسة وزير بحريته إلى قطعة الأسطول الفرنسي، ليعتذر باسم الباشا إلى القنصل، وفي حالة عدم استجابة الباشا لأحد الاقتراحات الثلاثة يُعلن الحصار رسميًا على الجزائر.

لم يقبل الباشا أيًا من الاقتراحات الثلاثة؛ فضرب الفرنسيون الحصار على الجزائر وظل مضروبًا ثلاث سنوات، ولم يكن حصارًا هينًا لفرنسا، وإنما كان متعبًا ومملوءا بالمخاطر، وبخاصة في الفترة الأخيرة، حيث نجح الجزائريون في أسر بعض رجال القطع البحرية الفرنسية وقتلهم، وكلف هذا الحصار الخزينة الفرنسية سبعة ملايين فرنك سنويًا، وأصاب التجارة الفرنسية في البحر المتوسط بخسائر كبيرة، ومن ثم لم يعط الحصار نتائج إيجابية، ولم يجبر الباشا على تقديم اعتذار لفرنسا دون أي شروط.

الحملة الفرنسية

أدى فشل المفاوضات بين الطرفين، وعجز الحصار البحري على الجزائر، والرغبة في توجيه نظر الشعب الفرنسي إلى تحقيق نصر خارجي إلى إعلان مجلس الوزراء الفرنسي في جلسة (5 شعبان 1245 هـ = 30 من يناير 1830) القيام بالحملة ضد الجزائر، ثم قام الملك بإصدار مرسوم بالتعبئة العامة، وأعلن في خطاب العرش يوم (7 من رمضان 1245هـ = 2 من مارس 1830م) عزمه على مهاجمة الجزائر، مدعيًا أن هذه الحملة لم تقم إلا للانتقام من الإهانة التي لحققت بالشرف الفرنسي، وأصر على أنها "حملة مسيحية على بلاد البرابرة المسلمين"، وأنها في صالح كل العالم المسيحي.

تجمعت القوات البرية والبحرية مع معدات الحرب والذخائر في المنطقة الواقعة بين طولون ومرسيليا وبلغ مجموع رجال الحملة (37600) جندي، واشتملت على (45000) حصان، و(91) قطعة مدفعية، ووصل عدد قطع الأسطول إلى (6000) قطعة، منها (103) قطع حربية.

أبحرت الحملة من ميناء طولون ونزلت في منطقة سيدي فرج في (23 ذي الحجة 1245 هـ = 14 من يونيو 1830م) دون مقاومة وقام الفرنسيون بتحصين منطقة إنزالهم، لاتخاذها قاعدة عسكرية لهم، وتصبح نقطة تموين من الأسطول أثناء العمليات الحربية.

وعلى الرغم من أن موقع "سيدي فرج" لا يبعد عن مدينة الجزائر إلا بنحو 25 كيلومترا، فإن الفرنسيين اضطروا إلى خوض ثلاث معارك طاحنة حتى تمكنوا من احتلال مدينة الجزائر في ( 14 كم المحرم 1246 هـ = 5 يوليو 1830) بعد أن وقّع الباشا معاهدة تسليم المدينة، وفق بنود اتفق عليها الطرفان، تضمنت تسليم قلعة القصبة، وكل القلاع الأخرى المتصلة بالمدينة إلى الجيش الفرنسي، وأن يتعهد القائد العام الفرنسي لباشا الجزائر بأن له الحرية في أن يذهب هو وأسرته إلى المكان الذي يختاره، وتعهد بحمايته وتعيين حرس له لو فضل البقاء في الجزائر، وختمت المعاهدة بأن العمل بالدين الإسلامي سيظل حرًا، ولن تمس حرية السكان مهما كانت طبقتهم ودينهم وأملاكهم.

دخلت القوات الفرنسية مدينة الجزائر في هرج ودون أي نظام أو ضبط، وأخذوا في القتل والسلب والنهب في أحياء متعددة من المدينة، واستولى الفرنسيون على الخزانة، وأعلنوا أنه لا توجد سجلات عن محتوياتها، ثم أبلغوا الحكومة في باريس أنهم وجدوا ما قيمته (48700000) فرنك من الذهب، وكان هذا المبلغ يكفي لتغطية نفقات الحملة التي وصلت إلى (43500000) فرنك ذهبي.


منقول

عبدالغفور الخطيب
16-02-2006, 02:57 AM
سفارات صليبية للتحالف مع المغول

(ذكرى سفارة أنوسنت الرابع: 17 من المحرم 645 هـ)



امتدت إمبراطورية المغول حين مات جنكيز خان في سنة (623 هـ = 1227م) من كوريا شرقًا إلى فارس غربًا، ومن جنوب روسيا شمالاً حتى المحيط الهندي جنوبًا، ثم اتسعت في عهد أقطاي الذي خلف جنكيز خان على المغول، فشملت الدولة الخوارزمية في فارس وأذربيجان، بعد أن تمكنوا من القضاء عليها، وقتل زعيمها "جلال الدين منكبرتي" في سنة (628 هـ = 1240) ثم بدءوا في الهجوم على أوربا، وتمكنوا من الانتصار على القوات البولندية وحلفائها في معركة "ليجنتز" في (25 من رمضان 638 هـ = 9 من إبريل 1241م)، ثم اتجهوا إلى بلاد المجر، وهزموا ملكها بيلا الرابع في (شوال 638 هـ = إبريل 1241م)

واتسمت غارات المغول بالسرعة والوحشية، وممارسة أبشع أساليب القتل والفتك؛ ما ألقى الفزع في نفوس الناس، وزرع الرعب والهلع في أفئدتهم. وقد زلزلت أنباء المغول العالم الإسلامي والمسيحي بعدما وصل نفوذ المغول إلى حدود أوربا.

وفي الوقت الذي تعرض له الجناح الشرقي من العالم الإسلامي لخطر المغول، وأصبحت الخلافة العباسية على وشك السقوط، وهو ما تم بعد ذلك، كانت سواحل الشام خاضعة للصليبيين، وكانت حملاتهم ترمي للسيطرة على مصر، وتكريس وجودهم في هذه المنطقة.

أنباء المغول تصل إلى أوربا

لم يعرف الأوربيون شيئًا عن المغول وخطرهم الداهم إلا في فترة متأخرة، وبعد اجتياحهم المشرق الإسلامي، وكان الفارون من جنوب روسيا حين غزاها المغول أول من قدّم معلومات عن الخطر المغولي إلى غرب أوربا، وزاد شعورهم بالخطر حين اجتاح التتار "جورجيا" و"أرمينيا" ولذا تحركت البابوية لدرء هذا الخطر، وهي تعد حملة صليبية جديدة، فوضع البابا "أنوسنت الرابع" (641 – 652 هـ = 1243 – 1254م) تحت عنوان: "علاج ضد الخطر المغولي" ثلاث سفارات بابوية:

كانت الاستعدادات تجري في الغرب الأوروبي على قدم وساق بين "البابا أنوسنت الرابع" و"لويس التاسع" ملك فرنسا لإرسال حملة صليبية إلى مصر، وإعادة الاستيلاء على بيت المقدس، ورأى البابا في المغول الذين يواصلون زحفهم نحو قلب العالم الإسلامي فرصة لا تضيع في عقد تحالف معهم؛ للقضاء على المسلمين، والاستيلاء على ثرواتهم، والسيطرة على طرق التجارة الدولية.

السفارات الصليبية

أرسل البابا أول سفارة إلى المغول في سنة (643 هـ = 1245م)، حملت رسالة إلى زعيم المغول، يدعوه فيها إلى اعتناق المسيحية على المذهب الكاثوليكي، وإحلال السلام بين الغرب والمغول. ويبدو أن هذه السفارة لم تنجح في مهمتها تمامًا.

أرسل البابا سفارة ثانية، غادرت ليون في (15 من ذي القعدة 1244 هـ = 16 من إبريل 1245م)، ووصلت منغوليا وحضرت حفل تتويج "كيوك خان" على عرش المغول في مدينة "قرا قورم" عاصمة المغول في (9 من ربيع الآخر 644 هـ = 24 من أغسطس 1246م)، وقد أكرم كيوك خان وفادة سفارة البابا، ورد على المطالب البابوية بالرفض، وطلب من البابا أن يخضع هو وسائر ملوك أوربا المسيحيين للسيادة المغولية.

وفي الوقت الذي خرجت فيه السفارة الثانية للمغول كانت هناك سفارة ثالثة خرجت في إثرها، ضمت رهبانًا من جماعة "الدومنيكان" وأوكلت إليها مهمة مختلفة عن مهمة السفارتين السابقتين، فقد أمر البابا هذه السفارة أن تصل إلى أول جيش مغولي تقابله في فارس، وأن يحضّ قائده على الامتناع عن نهب الناس، وبخاصة المسيحيين منهم، وأن يعتنق المسيحية، وأن يتوب عن خطاياه، فالتقت السفارة بجيش مغولي في "تبريز" في (17 من المحرم 645 هـ= 24 من مايو 1247م)، وكان رد قائد الجيش المغولي أن رسالة البابا أدت إليه النصيحة بعدم القتل والتدبير، وأنه يرفض دعوته إلى اعتناق المسيحية، وعلى البابا وملوك أوروبا أن يعلنوا خضوعهم لسلطان المغول.. ومن ثم لم تؤد السفارات الثلاثة ما كان يطمح له البابا من جذب المغول الوثنيين إلى المسيحية ووقوفهم معا ضد المسلمين.

تحالف مغولي أرميني

ومما يذكر أن المغول نجحوا في إقامة تحالف مع دولة أرمينيا الصغرى المسيحية أصبحت بمقتضاه تابعة للمغول. وتضمن الاتفاق الذي عقد بين الطرفين، تبعية "هيتون" ملك أرمينيا للمغول، وضرورة التعاون مع الدول المسيحية لاسترجاع بيت المقدس، وتعيين ملك أرمينيا مستشارًا لخاقان المغول في شئون المشرق، وإعفاء الكنائس في الإمبراطورية المغولية من أنواع الضرائب كافة.

عادت المفاوضات مرة أخرى بعد انقطاع بين المغول وأوربا للقيام بعمل مشترك ضد المسلمين، فبعث "جغطاي خان" ملك المغول بسفارة إلى الملك لويس التاسع أثناء إقامته بقبرص قبل أن يقوم بالحملة الصليبية السابعة. وفي هذه السفارة يدعو "جغطاي" ملك فرنسا إلى التعاون معًا ضد المسلمين، واستعادة الأراضي المقدسة منهم، وقد أسرع ملك فرنسا بالرد، فأوفد سفارة إلى المغول لتنظيم التعاون بينهما، لكنها فشلت أمام اشتراطات المغول، وطلبهم أن يرسل الملك الفرنسي جزية سنوية إلى خان المغول.

وهكذا فشل المشروع البابوي في إقامة تحالف مع المغول ضد المسلمين، بسبب غطرسة المغول، وعدم قبولهم التحالف مع أي جهة تعتبر نفسها على قدم المساواة معهم.‏‏

منقول

عبدالغفور الخطيب
18-02-2006, 02:19 AM
فتح القسطنطينية بين الحلم والحقيقة

(في ذكرى حصار مسلمة لها : 19 من المحرم 99هـ)


بدأ التفكير في فتح القسطنطينية يراود خيال خلفاء المسلمين منذ بداية العصر الأموي؛ فعندما ولي الخليفة "معاوية بن أبي سفيان" خلافة المسلمين كان في مقدمة الأهداف التي وضعها نصب عينيه فتح القسطنطينية، تلك المدينة الجميلة الساحرة، أشهر مدن الدولة البيزنطية وعاصمتها المتألقة.

وكان لموقع القسطنطينية المتميز أكبر الأثر في اتجاه أنظار المسلمين إلى فتحها، وانتزاعها من الإمبراطورية البيزنطية التي كانت مصدر قلق دائم للدولة الإسلامية، وضم تلك اللؤلؤة العزيزة إلى عقد الإمبراطورية الإسلامية الواعدة.

كانت مدينة القسطنطينية محط أنظار المسلمين بجمالها وبهائها، كأنها درة قد احتضنها خليج البسفور من الشرق والشمال، وامتدت من جهة الغرب لتتصل بالبر، وتطل أبراجها وحصونها في شموخ وكأنها تتحدى الطامعين فيها، وقد برزت أسوارها العالية من حولها في كل اتجاه فتتحطم عندها أحلام الغزاة وتنهار آمال الفاتحين.

الحملة الأولى إلى القسطنطينية

وبرغم تلك الأسوار المنيعة والأبراج الحصينة التي شيدها أباطرة البيزنطيين حول المدينة، فإن ذلك لم يفتّ في عضد معاوية، ولم يثنه عن السعي إلى فتح القسطنطينية.. وبدأ معاوية يستعد لتحقيق حلمه الكبير.

استطاع معاوية في مدة وجيزة أن يجهز لأول حملة بحرية إلى القسطنطينية (سنة 49 هـ = 669م) حشد لها جيشا ضخما، وشارك فيها عدد كبير من الصحابة منهم "عبد الله بن عمر" و"عبد الله بن عباس" و"أبو أيوب الأنصاري"- رضي الله عنهم- وجعل عليها "سفيان بن عوف"، وأخرج معه ابنه "يزيد بن معاوية".

ولكن تلك الحملة لم يكتب لها النجاح؛ فقد حال سوء الأحوال الجوية وبرودة الجو الذي لم يعتدْه العرب دون استمرار المسلمين في الحصار الذي فرضوه على المدينة، بالإضافة إلى قوة تحصين المدينة التي حالت دون فتحها. وعادت الحملة مرة أخرى بعد أن استشهد عدد من المسلمين، منهم الصحابي الجليل "أبو أيوب الأنصاري".

ولكن معاوية لم ييئس، ولم يخبُ حماسه وإصراره على مواجهة هذا التحدي الجديد؛ فراح يعد لحملة جديدة، ومهد لذلك بالاستيلاء على عدد من الجزر البيزنطية في البحر المتوسط، مثل: جزيرة "كريت" وجزيرة "أرواد" في سنة (54 هـ = 674م).

وكان معاوية يهدف من وراء ذلك إلى أن تكون هذه الجزر محطات للأسطول الإسلامي عند خروجه لغزو القسطنطينية.

سر النار الإغريقية

فرض المسلمون الحصار على المدينة المنيعة لدفعها إلى الاستسلام، واستمر الحصار من عام (54 هـ = 674م) إلى عام (60 هـ = 680م)، وتحمل المسلمون طوال تلك السنوات السبع كثيرا من الصعاب، وواجهوا العديد من المشاق والأخطار حتى فاجأهم البيزنطيون بسلاح جديد لم يألفه المسلمون من قبل وهو "النار الإغريقية"، وهي عبارة عن مزيج كيميائي من الكبريت والنفط والقار، فكان البيزنطيون يشعلونه ويقذفون به سفن الأسطول الإسلامي فتحترق بالنار وهي في الماء؛ مما اضطر المسلمين في النهاية إلى رفع الحصار عن المدينة والعودة مرة أخرى إلى دمشق بعد أن احترق عدد كبير من السفن واستشهد عدد كبير من الجنود.

حملة سليمان بن عبد الملك

أحجم المسلمون فترة من الزمان عن محاولة فتح القسطنطينية لمناعتها وتحصنها، حتى جاء الخليفة الأموي "سليمان بن عبد الملك" فبدأ يجهز جيشا ضخما بلغ نحو مائة ألف جندي، وزوده بنحو ألف وثمانمائة سفينة حربية، وجعل على رأسه أخاه "مسلمة بن عبد الملك".

وانطلق مسلمة نحو القسطنطينية عام (98 هـ = 717م) فحاصرها مدة طويلة، وبرغم تلك الاستعدادات الكبيرة والإمكانات الضخمة الهائلة التي توافرت للجيش، فإن تلك المدينة استعصت عليه، وعجز عن فتحها، فبعث مسلمة أحد رجاله، ويدعى سليمان على رأس جيش يستطلع الطريق عبر آسيا الصغرى.

وسار سليمان حتى بلغ عمورية فحاصرها مدة، وعلم أن "ليون" حاكم هذه المدينة يناهض الإمبراطور البيزنطي "تاود أسيوس" فأراد أن يخدعه ويستميله معه، ويغريه بعرش الإمبراطورية الرومانية، ولكن ليون تظاهر بمساعدته وأضمر في نفسه شيئا آخر، فدخل في مفاوضات مع المسلمين وطلب منهم رفع الحصار عن عمورية، ثم صحب جيش المسلمين قاصدا القسطنطينية، وأصبح ليون موضع ثقة المسلمين، فسمحوا له بأن يسبقهم إلى القسطنطينية.

وسرعان ما كشف "ليون" عن حقيقة نواياه عندما احتل العاصمة البيزنطية واستطاع الوصول إلى العرش الإمبراطوري مستغلا وصول الحملة الإسلامية إلى القسطنطينية، فأسرع بتحصين المدينة وتدعيم أسوارها وتقويتها لمواجهة الحصار الإسلامي المرتقب.

بدأ الحصار البحري لمدينة القسطنطينية في (19 من المحرم 99هـ = أول سبتمبر 717م) وعندما وصل إليها مسلمة بجيشه ضرب عليها حصارا شديدا قاسيا، واستمر حتى الشتاء، وتحمل المسلمون البرد القارس؛ حيث عانوا كثيرا؛ وجاء أسطول من مصر وآخر من شمال إفريقيا، كما وصلت نجدات برية أخرى.

وأخذ المسلمون يهاجمون المدينة مستخدمين النفط، واستعانوا بسلاح جديد أشبه بالمدفع، وأظهر المقاتلون شجاعة نادرة وفدائية فريدة.

وفي تلك الفترة التي اشتد فيها حصار المسلمين لمدينة القسطنطينية توفي الخليفة سليمان بن عبد الملك، وتولى بعده الخليفة "عمر بن عبد العزيز"، واستقر رأى الخليفة الجديد على سحب القوات الإسلامية المحاصِرة للقسطنطينية للإفادة منها في تأمين الدولة الإسلامية وتنظيمها قبل الاستمرار في الفتح والتوسع. وأرسل الخليفة في (12 من المحرم 100 هـ = 15 من أغسطس 718م) يطلب من مسلمة العودة بجيوشه وأساطيله إلى الشام بعد حصار دام اثني عشر شهرًا كاملة، بعد أن أدت دورها في إعزاز دولة الإسلام، وحمل البيزنطيين على التخلي عن أحلامهم وأطماعهم السابقة في استعادة أراضيهم التي انضوت تحت لواء الإمبراطورية الإسلامية الجديدة.

تحقق الحلم

وبرغم كل تلك المحاولات لفتح القسطنطينية، والتي لم يكتب لها النجاح؛ فقد ظل الاستيلاء على هذه المدينة حلما يداعب خيال المسلمين، وأملا يراود نفوسهم، وأمنية تجيش في صدورهم حتى استطاع السلطان العثماني "محمد الفاتح" أن يحقق ذلك الحلم بعد عدة قرون من الزمان، ويفتح القسطنطينية في سنة (857هـ = 1453م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
20-02-2006, 02:38 AM
غروب شمس الأندلس

(في ذكرى معاهدة تسليمها:21 من المحرم 897 هـ)


ما كان أحد يظن أن شمس الإسلام التي أشرقت على أرض الأندلس ستغرب عنها يومًا، وأن كلمات الأذان الصادح من فوق قامات المآذن ستتحول إلى أصوات أجراس من فوق أعواد الكنائس، وما كان أحد يتصور أن ستغيب عن الأندلس حلقات العلم، ودروس الحديث والفقه في جوانب المساجد، وأن الأرض التي امتلأت جنباتها شعرًا ونثرًا عربيًا ستصبح غريبة الوجه واللسان.. ولكن هذا ما كان.

أخذ الضعف يدب في أوصال دولة الإسلام منذ أوائل القرن السابع الهجري، وبدأ الغزو الأسباني يجتاح أرض الأندلس، ويلتهم قواعدها وثغورها واحدًا إثر آخر، ولم يكد ينتصف القرن السابع الهجري حتى كانت ولايات الأندلس الشرقية والوسطى قد سقطت جميعها في يد أسبانيا النصرانية، وتقلصت دولة الإسلام، في بضع ولايات صغيرة في الطرف الجنوبي من الأندلس.

مملكة غرناطة

وقامت في هذه الرقعة الصغيرة مملكة غرناطة سنة (629 هـ = 1232م) على يد "محمد بن يوسف بن نصر (ابن الأحمر)، وضمت ثلاث ولايات كبيرة هي ما بقي من أرض الأندلس للمسلمين: "غرناطة" في الوسط، وفيها العاصمة غرناطة، وولايات المرية في الشرق، وولاية مالقة في الغرب والجنوب، وامتدت حدودها حتى بلغت شاطئ البحر المتوسط ومضيق جبل طارق.

وتتابع على مملكة غرناطة اثنان وعشرون أميرًا في أكثر من قرنين ونصف من الزمان، واستطاعت في ثبات عجيب أن تستمر رغم صغرها وقلة عدد سكانها، وأن تواجه ببسالة محاولات أسبانيا لالتهامها -على ما بين الدولتين من بون شاسع في القوة والعدد، والإمكانيات والمدد- وأن تقيم بين ربوعها حضارة حافلة بأرقى نظم الحياة المادية والأدبية.

أراجون وقشتالة


اتحدت أسبانيا النصرانية باتحاد مملكتي أراجون وقشتالة، وذلك بزواج الملكة "إيزابيلا" ملكة قشتالة من "فرديناند الخامس" ملك أراجون سنة (884 هـ = 1479م)، واتحدت إرادتهما على غزو مملكة غرناطة والقضاء على الأمة الأندلسية المسلمة، وساعدهما على ذلك اشتعال الصراعات الأسرية والحروب بين أبناء البيت الحاكم في غرناطة، وتفرق كلمتهم، وتوقد نار التعصب في قلبي الملكين الكاثوليكيين.

تدفقت جيوش الملكين المتحدين على مملكة غرناطة، ونجحا في الاستيلاء على مالقة أمنع ثغور الأندلس في (شعبان 892 هـ = أغسطس 1487م) ثم على وادي آش والمنكب والمرية في أواخر سنة (894 هـ = 1489م) ثم على بسطة في (المحرم 895 هـ= ديسمبر 1489م)، ولم يبق من معاقل الإسلام التي لم تسقط سوى مدينة غرناطة.

روح المقاومة

في أوائل (صفر 895 هـ= 1490م) أرسل الملكان الكاثوليكيان إلى أبي عبد الله الصغير أمير غرناطة سفارة يطلبان فيها تسليم مدينة "الحمراء" مقر الملك والحكم، وأن يبقى مقيمًا في غرناطة في طاعتهما وتحت حمايتهما، أو أن يُقْطِعاه أي مدينة أخرى من مدن الأندلس يختار الإقامة فيها، وأن يمداه بمال وفير.

وكان جواب أبي عبد الله عدم الاستجابة لمطلب الملكين، وقام بجمع كبار رجال دولته، فأيدوا موقفه، وأعلنوا عزمهم الراسخ على الدفاع عن مدينتهم ودينهم ما وسعهم الجهد والطاقة، واشتعلت الحرب بين المسلمين والأسبان خلال سنة (895 هـ = 1490م)، في عدة معارك واسترد المسلمون عدة حصون، ثم توقفت الحرب لمجيء الشتاء.

حصار غرناطة

أيقن ملك قشتالة أنه لا بد من الاستيلاء على غرناطة حتى تستتب له الأمور في المناطق الإسلامية؛ فهي لا تزال تبث روح الجهاد في نفوس المسلمين، وتحيي الأمل في نجاح المقاومة، فخرج على رأس جيش جرار يبلغ خمسين ألف مقاتل من الفرسان والمشاة، ومزود بالأسلحة والعتاد واتجه إلى غرناطة، وضرب حصارًا شديدًا حولها في (12 جمادى الآخرة 896 هـ = 23 من إبريل 1491) وأتلف الحقول القريبة منها، ليمنع عنها المؤن والغذاء، وقطع كل اتصال لها بالخارج سواء من البر أو البحر، ورابطت السفن الأسبانية في مضيق جبل طارق على مقربة من الثغور الجنوبية لتمنع وصول أي إمداد من مسلمي الشمال الأفريقي.

لم تستسلم غرناطة ورجالها البواسل للحصار الغاشم؛ فهي لا تملك أمام الجيوش الحرارة التي تموج كالبحر الزاخر سوى الشجاعة والإقدام، فكان المسلمون يخرجون لقتال العدو المحاصر يهاجمونه ويسببون له خسائر كبيرة، ولبثت المدينة عدة أشهر تعاني شدائد الحصار وهي صابرة محتسبة، حتى دخل الشتاء ونزلت الثلوج، واشتد بالناس الجوع والبلاء، وقلت المؤن، ودب اليأس إلى قلوب الناس جميعًا، وعند ذلك لم يجد أبو عبد الله مفرًا من بحث الأمر، فدعا مجلسًا من كبار الجند والفقهاء والأعيان وتبحاثوا ما هم فيه من ضيق وحرج، وأن المؤن أوشكت على النفاد، وأنه لم يعد للناس من طاقة للدفاع، واتفق الجميع على التسليم، وضاعت في هذا الجو المتخاذل أصوات الداعين إلى الصمود والثبات، ومقاومة المعتدي حتى الموت.

مصرع غرناطة

أرسل أبو عبد الله الصغير قائده "أبا القاسم عبد الله" إلى معسكر الملكين للمفاوضة في شروط التسليم، واستمرت المفاوضات بضعة أسابيع، وانتهى الفريقان إلى وضع معاهدة للتسليم وافق عليها الملكان، ووقعت في (21 من المحرم 897 هـ= 25 من نوفمبر 1491م).

وتضمنت المعاهدة شروطًا عديدة بلغت 56 مادة خلاصتها: أن يتعهد ملك غرناطة بتسليم المدينة إلى الملكين الكاثوليكيين خلال ستين يومًا من بدء توقيع المعاهدة، وأن يُطلق سراح الأسرى من الطرفين دون فدية، وأن يؤمّن المسلمون في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأن يحتفظوا بشرائهم وقضاتهم، وأن يتمتعوا بحرية إقامة شعائرهم من صلاة وصوم، وأن تبقى المساجد حرمًا مصونة، وألا يدخل نصراني مسجدًا أو دار مسلم، وألا يُولّى على المسلمين نصراني أو يهودي، وأن يعبر إلى "أفريقيا" من شاء من المسلمين في سفن يقدمها ملك النصارى في ظرف ثلاثة أعوام.

غير أن هذه العهود لم تكن في الواقع -حسبما أيدت الحوادث فيما بعد- سوى ستار للغدر والخيانة؛ فقد تم نقض كل هذه الشروط، وأُجبر المسلمون بعد سقوط غرناطة على الهجرة خارج البلاد والتنصر


منقول

عبدالغفور الخطيب
22-02-2006, 01:06 AM
القبارصة ينهبون الإسكندرية

(في ذكرى الاعتداء عليها: 23 من المحرم 767هـ)


لم تنته الحروب الصليبية في المشرق الإسلامي باسترداد المسلمين لمدينة عكا في (17 من جمادى الأولى سنة 690هـ=18 من مايو 1291م)، والتي ترتب عليها تصفية الوجود الصليبي في الساحل الشامي بعد احتلال دام قرنين من الزمان، وكان للسلطان المملوكي الأشرف خليل قلاوون شرف وضع هذه النهاية المشرقة، ووضع اسمه في قائمة أبطال المسلمين الذين قادوا حركة الجهاد ضد الصليبيين التي تضم آق سنقر، وعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس.

وظن الناس أن هذه النهاية التي وضعها الأشرف خليل طوت صفحة الحروب الصليبية، وأن عهدا من العلاقات السلمية سينشأ من جديد، لكن ذلك كان ضربا من ضروب الأحلام، فقد كانت فكرة معاودة الغزو لا تزال تشغل أذهان بعض ملوك أوربا، وكان الحقد الدفين ضد المسلمين لا يزال يأكل صدور باباوات الكنيسة، وكان العدو ينتظر اللحظة المناسبة للغزو والانقضاض.

قبرص تجدد الدعوة للصليبية

تولى بطرس الأول لوزينان عرش قبرص سنة (760هـ=1359م)، خلفا لأبيه هيو الرابع، وكانت نفسه تطمح إلى أن يكون البطل المدافع عن المسيحية، وأن يكرس حياته لخدمة الحروب الصليبية، واستهل حكمه بمهاجمة شواطئ آسيا الصغرى وانتزاع عدة قواعد مهمة من السلاجقة الأتراك، لكن ذلك لم يكن كافيا لإشباع نهمه ورغبته في أن يكون بطلا يلقى تأييدا من الكنيسة، وتحيطه العيون بنظرات الإعجاب والتقدير، ففكر في القيام بحملة صليبية كبرى هدفها احتلال بيت المقدس، وطاف بغربي أوربا ثلاث سنوات للدعاية لحملته والحصول على معونات دولها، لكنه لم يجد ما كان يأمله من عون ومساعدة، ولم يظفر إلا بانضمام عدد كبير من صغار الفرسان ومباركة البابا أوربان الخامس لحملته، واحتشد لديه في النهاية مائة وخمس وستون سفينة مشحونة بالرجال والمؤن والسلاح، وتجمعت في مياه جزيرة رودس تنتظر الإبحار إلى الهدف المنشود.

التوجه إلى الإسكندرية

لم يكن بطرس الأول قد حدد المكان الذي يتوجه إليه ليضرب المسلمين في مقتل، فاستشار خاصته، فنصحه أحدهم بالتوجه إلى الإسكندرية وأن يهاجمها في يوم الجمعة، والمسلمون في المساجد، فقبل الملك هذه الفكرة بعد تردد، إذ كان يخشى مهاجمة مدينة عظيمة مثل الإسكندرية، ولم تكن مهاجمة مصر بعيدة عن أذهان قادة الحروب الصليبية من قبل فقد تعرضت لحملتين سابقتين، وباءتا بالفشل، وكان احتلال مصر في أذهان هؤلاء الغزاة خطوة أولى لاستخلاص الأراضي المقدسة من المسلمين.

واتخذ بطرس الأول الاحتياطات اللازمة لسرية الحملة، ومنع تسرب أخبارها إلى مصر فيستعد أمراؤها لمواجهة الحملة، وكان الغزاة قد اختاروا وقتا مناسبا لحملتهم، فنائب الإسكندرية صلاح الدين خليل بن عوام متغيب عنها لذهابه إلى أداء فريضة الحج، وحل محله أمير يدعى "جنغرا" ضعيف الشخصية، غير متمرس بأمر الحرب، لا يصلح لمواجهة مثل هذه الظروف.

ولم تكن تحركات الغزو خافية عن القائمين على الأمر في مصر على الرغم من السرية البالغة التي أحاطت بتحركات الحملة، غير أنها لم تؤخذ لدى المصريين على محمل الجدية، وكانوا يعتقدون "أن القبرصي أقل وأذل من أن يأتي إلى الإسكندرية"، وكل ما قام به نائب السلطنة في المدينة أن قام بتعلية سور المدينة القصير في بعض الجهات التي تواجه الميناء.

وفي الوقت الذي لم تستعد فيه الإسكندرية لمواجهة الخطر الذي سيحدق بها كان الملك القبرصي على دراية تامة بدفاعات المدينة ومواطن الضعف فيها.

ويصف النويري الإسكندراني وهو المؤرخ الوحيد الذي عاصر الحملة وشاهد كوارثها تلك الدفاعات وصفا لاذعا، فيقول: "وكان الخبر يأتي إلى القبرصي أن الإسكندرية بها طوائف قاعات يبيتون بساحل ميناها، ولم يعرفوا الحرب ولا باشروه أبدا، بل يخرجون متزينين بالملبوس، قد تطيلسوا من فوق العمائم التي على الرؤوس، يتبخترون في مشيتهم، ويتطيبون بطيبهم، فتزغرد لهم النسوان، ويصير كل واحد بزينته فرحان، ومعهم الأسلحة الثقال، ولكن ليس تحتها لموقف الحرب رجال، مع كل واحد منهم سيف تقلده، مجوهر النصل جيده، مزخرف بالذهب كجمرة نار ملتهب، ومع ذلك حامله جبان، يفزع من نعيق الغربان".

الحملة على شواطئ المدينة

وفي (20 من المحرم سنة 767هـ=7 من أكتوبر 1365م) قدم الأسطول القبرصي مدينة الإسكندرية في وسط أجواء مهيئة لنجاح مهمته على النحو الذي أشرنا إليه، وحسب الناس أن الأسطول القادم أسطول من البندقية جاء ليشتري التوابل كالمعتاد، فأسرعوا لرؤيته، غير أنهم فوجئوا بعد أن رسا على الشاطئ أنه جاء للغزو والنهب، وأن الجنود القبارصة جاءوا بسيوفهم المسلولة لضرب أهالي المدينة العزل من السلاح، وأدرك الناس الحقيقة ولم يكونوا مستعدين لمواجهتها، فاستولى عليهم الرعب، وقضوا ليلتهم في خوف وفزع.

وفي صباح اليوم التالي أقبلت السفن وقد ملأت البحر لكثرتها ورست على الشاطئ، وأيقن المدافعون عن المدينة بحقيقة الموقف العصيب، فأغلقوا أبوابها، وامتلأت قلاع المدينة المواجهة للميناء بالرجال والرماة، وتدافع الفرسان إلى أسوار المدينة لدفع الخطر القادم، وبذل الناس محاولات مستميتة في الدفاع والاستبسال، لكنها لم تستطع الصمود أمام هجمات القبارصة الذين نزلوا بر الإسكندرية في نهار يوم الجمعة الموافق 22 من المحرم، وانتظروا استعدادا للخطة الحاسمة التي ينقضون فيها على المدينة التي لم يحسن أمراؤها مواجهة هذا الهجوم الزاحف.

سقوط الإسكندرية

ولم يستطع المهاجمون الاقتراب في بادئ الأمر من أسوار المدينة وأبراجها الحصينة، خوفا من سهام المدافعين التي كانت تحصد كل من يقترب من الأسوار، ثم اكتشف العدو أن جانبا من السور خال من المدافعين، فنصبوا عليه سلالمهم الخشبية، وصعدوا عليها إلى أعلى السور، واتجه بعضهم إلى باب السور الذي في هذه الجهة، ويعرف بباب الديوان فأحرقوه، وقد أذهلت هذه المفاجأة المدافعين عن المدينة، بعد أن تدفق القبارصة إلى داخل المدينة، فعجزوا عن رد هذا الهجوم، وأصاب الناس فزع شديد، فاتجهوا نحو بوابات المدينة طلبا للأمان والنجاة بحياتهم، فضاقت الأبواب على الفارين لكثرتهم، فهلك منهم المئات من شدة الزحام.

وفي أثناء ذلك نجح نائب المدينة "جنغرا" بجمع ما في بيت المال من ذهب وفضة، وقبض على تجار الفرنج وقناصلهم بالمدينة وكانوا نحو خمسين وقادهم إلى دمنهور وهم مقيدون بالسلاسل.

ولم تمض ساعات حتى سقطت الإسكندرية في يد بطرس الأول ملك قبرص فدخلها باطمئنان وحوله جنوده، يمني نفسه ببناء إمارة صليبية، ويعيد ما كان لسلفه من الصليبيين من إمارات في بلاد الشام.

ويتعجب النويري المؤرخ المعاصر لهذه الكارثة لسقوط المدينة بهذه السهولة المفرطة، فقد جرت العادة أن تقاوم المدن شهورا وسنوات، وينحى باللائمة على أهل الثغر، ويتهمهم بالتفريط وعدم الثبات في المقاومة، إذ لو بقي كل واحد منهم بداره ورمى الفرنج من أعلاه بالطوب والحجارة لسلم للمسلمين ما بالدور على الأقل.

وحشية الغازي


وما أن دخل بطرس الأول وجنوده المدينة حتى قاموا بنهب الحوانيت والفنادق وأحرقوا القصور والخانات، واعتدوا على النساء، وخربوا الجوامع والمساجد، وقتلوا كل من وجدوه في الشوارع والمنازل والجوامع والحوانيت والحمامات، وبلغ من وحشيتهم ورغبتهم في التشفي أنهم كانوا يقتلون المرأة ويذبحون ابنها على صدرها، ولم يفرقوا في النهب والتدمير بين المنشآت الخاصة بالتجار المسلمين أو التي تخص المسيحيين مثل فنادق أهل جنوة ومرسيليا، ولم يقتصروا على ذلك، بل أخذوا معهم أسرى من المسلمين وأهل الذمة، وبلغ عددهم كما يقول النويري مؤرخ هذه الكارثة: "نحو خمسة آلاف نفر ما بين مسلم ومسلمة ويهودي ذمي ويهودية، ونصراني ونصرانية وإماء وأطفال"، وقد حملت سبعين سفينة قبرصية أكثر من طاقتها من الغنائم، حتى إنها اضطرت إلى إلقاء أجزاء من حمولتها في البحر، منعا لتعرضها للغرق أو الإبحار البطيء، فيعرضها بالتالي للمعارضة من قبل البحرية المصرية.

دخلها لصا وخرج منها لصا

بعد أن سقطت الإسكندرية فكر بطرس الأول في الاحتفاظ بالمدينة حتى تأتي النجدة من أوربا، لكن هذا الرأي لقي معارضة شديدة من قبل كثير من الأمراء الذين أجمعوا على ضرورة العودة والاكتفاء بما حققوه من غنائم، وأصروا على رأيهم، فاضطر الملك للرضوخ لرأيهم، في الوقت الذي تحركت فيه القاهرة، وبعثت بطلائعها العسكرية، لاسترداد المدينة، وطرد الغازي المحتل، فوصلت والصليبيون في مرحلة الإقلاع بسفنهم ودارت مفاوضات بين السلطات المصرية وبطرس الأول الذي بدأ في الانسحاب إلى البحر على تبادل الأسرى المسلمين بجميع التجار المسيحيين من الإفرنج وكانوا نحو خمسين لكن المفاوضات تعثرت بعد أن قرر بطرس الأول الإبحار بسرعة مكتفيا بما حققه من سلب ونهب، واحتلال دام بضعة أيام، وخوفا من أن تطارده البحرية المصرية.

احتفالات بنصر مزيف

ولما عاد بطرس الأول لوزجنان إلى قبرص أقيمت له احتفالات عظيمة، وأخذ هو في كتابة الرسائل إلى البابا وملوك أوربا يخبرهم بما أحرزه من نصر وما حققه من نجاح ويبرر لهم عدم احتفاظه بالإسكندرية بقلة ما في يديه من سلاح، ويؤكد لهم على معاودة الكرة مرة أخرى.

وفد أحدث هذا الحدث فرحا شديدا في أوربا، وبعث البابا إلى بطرس الأول مهنئا، كما أرسل إلى ملوك أوربا وأمرائها يناشدهم في الإسراع بتقديم العون والمساعدة للملك المظفر!

ثم تدخلت بعد ذلك مساعي الصلح بين سلطان مصر وبطرس الأول، ودارت مفاوضات بينهما لتبادل الأسرى وهو الشرط الذي وضعه السلطان للصلح، فوافق الملك بطرس على ذلك، وعاد الأسرى المسلمون إلى الإسكندرية.

قبرص ولاية مصرية

ولم تجد محاولات الصلح بين دولة المماليك في مصر وجزيرة قبرص التي دأبت سفنها على مهاجمة السفن المحملة بالبضائع إلى مصر؛ الأمر الذي أفزع السلاطين المماليك وهدد تجارة مصر في البحر المتوسط.

وظل الأمر على هذا النحو من التوتر حتى هاجم القراصنة القبارصة سنة (827هـ = 1424م) سفينتين بالقرب من دمياط تحملان بضائع وساقوهما إلى قبرص، ثم استولى "جانوس" ملك قبرص على سفينة محملة بالهدايا كان قد بعثها السلطان برسباي إلى السلطان العثماني مراد الثاني، وعلى إثر ذلك قرر السلطان برسباي وضع حد لهذا التعدي السافر، والقضاء على خطر القبارصة، فقرر فتح الجزيرة وضربها بيد من حديد، واستعد لهذا الأمر فأشرف بنفسه على بناء سفن جديدة في دار الصناعة ببولاق "وأمر ببناء سفن أخرى في بيروت وطرابلس حتى نجح في تكوين أسطول قوي قادر على تحقيق النصر".

وأرسل السلطان ثلاث حملات عسكرية لفتح جزيرة قبرص في ثلاث سنوات متتالية، نجحت الثالثة في أن تفتح الجزيرة بعد قتال عنيف سنة (829هـ = 1426م) وتوغلت داخل الجزيرة واحتلت عاصمتها نيوقسيا، وأحرقت الأسطول القبرصي وبعد أن دخل قائد الحملة الأمير تغري بردي المحمودي قصر الملك أعلن أن الجزيرة أصبحت من جملة بلاد السلطان الأشرف برسباي.

وعادت الحملة بعد هذا النصر الكبير إلى مصر، ومعها آلاف الأسرى، وعلى رأسهم جانوس ملك قبرص، فخرجت القاهرة لاستقبالها باحتفال مهيب، وعندما دخل الملك القبرصي على السلطان قبل الأرض وأخذ يستعطف السلطان.

وبعد مباحثات جرت بين الملك القبرصي والسلطان المصري، وافق الأخير على إطلاق جانوس مقابل فدية قدرها مائتي ألف دينار، وأن يكون نائبا للسلطان في الجزيرة، وبذلك أصبحت قبرص ولاية مصرية.

منقول

عبدالغفور الخطيب
24-02-2006, 03:06 AM
المأمون وازدهار الحركة العلمية

(في ذكرى توليه الخلافة: 25 من المحرم 198هـ)



ولد عبد الله المأمون في [15 من ربيع الأول 170 هـ= 6 من سبتمبر 786م]، في اليوم الذي استُخلف فيه الرشيد، وقد سماه المأمون تيمنًا بذلك، وكانت أمه "مراجل" جارية فارسية، وما لبث أن توفيت بعد أيام من ولادته متأثرة بحمى النفاس.

وبالرغم من أن المأمون كان هو الابن الأكبر للخليفة هارون الرشيد، ومع كل ما كان يتميز به المأمون من نجابة وذكاء وعلو همة، وما حظي به من ثقة أبيه فيه.. فإن الرشيد آثر أن يجعل البيعة بولاية العهد للأمين، وقد كان لزبيدة أم الأمين الدور الأكبر في ذلك؛ فقد كان لها من المكانة لدى الرشيد ما لم يكن لأم المأمون، فاستغلت حظوتها لديه ومنزلة أخوال ولدها الأمين ومكانتهم لدى زوجها الرشيد في حثه على إعلان ولاية العهد لابنها الأمين وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره سنة [175 هـ = 791هـ]، ولكن الرشيد عاد فأشرك المأمون مع أخيه في ولاية العهد سنة [183 هـ = 799م].

أراد الرشيد بذلك أن تستقر الأمور بين الأخوين من بعده، فلا يثور الخلاف بينهما ولا يحدث ما كان يحدث عادة من صراع حول الحكم بعد كل خليفة، فاستوثق لكل منهما من أخيه سنة (186 هـ = 802م) وأشهد على ذلك كبار رجال دولته.

الطريق إلى العرش

توفي الخليفة هارون الرشيد وتولّى الأمين الخلافة من بعده، وبدأ الخلاف يدب بين الأخوين، خاصة بعد تراجع الأمين عما قطعه لأبيه من عهود ومواثيق، حيث جعل ابنه موسى وليًا للعهد بدلاً من أخويه المأمون و"المؤتمن"، كما رفض أن يردَّ إلى أخيه المأمون مائة ألف دينار كان والده قد أوصى بها إليه، وسرعان ما تطور الخلاف بين الأخوين إلى صراع وقتال، ودارت حرب عنيفة بين الجانبين، وقامت جيوش المأمون بمحاصرة بغداد وانتهى الأمر بمقتل الأمين عام (198هـ = 813م)، وتولى المأمون على إثر ذلك الخلافة من بعده في [25 من المحرم 198هـ= 25من سبتمبر 813م].

القضاء على الفتن والثورات

سعى المأمون منذ الوهلة الأولى للعمل على استقرار البلاد، والقضاء على الفتن والثورات، فتصدى بحزم وقوة لثورات الشيعة، وواجه بحسم وعنف حركات التمرد ومحاولات الخروج على سلطة الخلافة، فقد قضى على حركة "ابن طباطبا العلوي" سنة [199هـ = 814م]، وثورة "الحسن بن الحسين" في الحجاز، و"عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب" في اليمن سنة [207هـ = 822م].

وفي مقابل ذلك فإنه أقدم على خطوة جريئة، وأمر لم يسبقه إليه أحد من الخلفاء، فقد اختار أحد أبناء البيت العلوي وهو "علي بن موسى الرضا" ليكون وليًا للعهد من بعده، وقد أثار هذا الأمر غضب واستياء العباسيين؛ مما دفعهم إلى مبايعة "إبراهيم بن المهدي" –عم المأمون– بالخلافة سنة [202هـ =817م].

لما علم المأمون بذلك جهز جيشًا كبيرًا، وسار على رأسه من خراسان قاصدًا بغداد، فهرب إبراهيم بن المهدي من بغداد. وفي ذلك الوقت توفي علي بن موسى، فكان لذلك أكبر الأثر في تهدئة الموقف، فلما دخل المأمون بغداد عفا عن عمه.

نهضة علمية

شهد عصر المأمون نهضة حضارية كبيرة، فقد كان المأمون محبًا للعلم والأدب وكان شاعرًا وعالمًا وأديبًا، يحب الشعر ويجالس الشعراء ويشجعهم، وكان يعجب بالبلاغة والأدب، كما كان للفقه نصيب كبير من اهتمامه، وكان العلماء والأدباء والفقهاء لا يفارقونه في حضر أو سفر، وقد أدى تشجيعه للشعراء في أيامه إلى إعطاء الشعر دفعة قوية، وكان تشجيعه للعلوم والفنون والآداب والفلسفة ذا أثر عظيم في رقيها وتقدمها، وانبعاث حركة أدبية وعلمية زاهرة، ونهضة فكرية عظيمة امتدت أصداؤها من بغداد حاضرة العالم الإسلامي ومركز الخلافة العباسية إلى جميع أرجاء المعمورة، فقد استطاع المأمون أن يشيد صرحًا حضاريًا عظيمًا، وأن يعطي للعلم دفعة قوية ظلت آثارها واضحة لقرون عديدة.

لقد أرسل المأمون البعوث إلى "القسطنطينية" و"الإسكندرية" و"إنطاكية" وغيرها من المدن للبحث عن مؤلفات علماء اليونان، وأجرى الأرزاق على طائفة من المترجمين لنقل هذه الكتب إلى اللغة العربية، وأنشأ مجمعًا علميًا في بغداد، ومرصدين أحدهما في بغداد والآخر في "تدمر"، وأمر الفلكيين برصد حركات الكواكب، كما أمر برسم خريطة جغرافية كبيرة للعالم.

حركة الترجمة

وكان لتشجيعه حركة الترجمة أكبر الأثر في ازدهارها في عهده، فظهر عدد كبير من العلماء ممن قاموا بدور مهم في نقل العلوم والفنون والآداب والفلسفة إلى العربية، والإفادة منها وتطويرها، ومن هؤلاء:

"حنين بن إسحاق" الطبيب البارع الذي ألف العديد من المؤلفات الطبية، كما ترجم عددًا من كتب أرسطو وأفلاطون إلى العربية.

و"يحيى بن ماسويه" الذي كان يشرف على "بيت الحكمة" في بغداد وكان يؤلف بالسريانية والعربية، كما كان متمكنًا من اليونانية، وله كتاب طبي عن الحميات اشتهر زمنًا طويلاً، ثم ترجم بعد ذلك إلى العبرية واللاتينية.

و"ميخائيل بن ماسويه" وكان طبيب المأمون الخاص، وكان يثق بعلمه فلا يشرب دواءً إلا من تركيبه.

المأمون والروم

ولعل من أبرز الأسباب التي أدت إلى ظهور تلك النهضة الحضارية والعلمية في عصر المأمون ذلك الهدوء الذي ساد الأجواء بين الخلافة العباسية والروم، والذي استمر لأكثر من عشرة أعوام.

ولكن ما لبث أن تبدد ذلك الهدوء حينما بدأ المأمون حملاته ضد الروم عام [215هـ = 830م] ففتح عددًا من الحصون القريبة من حدود دولته، مثل حصن "قرة" و حصن "ماجدة" و حصن "سندس" وحصن "سنان" ثم عاد إلى الشام، ولكن الروم أغاروا على "طرسوس" وقتلوا نحو ألف وستمائة من أهلها، فعاد إليهم المأمون مرة أخرى، واستطاع أخوه "المعتصم" أن يفتح نحو ثلاثين حصنًا من حصون الروم.

وفي العام التالي أغار عليهم المأمون مرة أخرى، حتى طلب منه "تيوفيل" – ملك الروم- الصلح، وعرض دفع الفدية مقابل السلام.

ولم يمر وقت طويل حتى توفي المأمون في "البندون" قريبًا من طرسوس في [18 من رجب 218هـ= 10من أغسطس 833م] عن عمر بلغ ثمانية وأربعين عامًا، قضى منها في الخلافة عشرين عامًا.

منقول

عبدالغفور الخطيب
25-02-2006, 01:51 AM
تكودار هولاكو.. هذبه الإسلام وقتله المغول

(في ذكرى ولايته: 26 من المحرم 681هـ)

ثمانية عشر عامًا تفصل بين وفاة هولاكو، وإسلام ابنه تكودار، فقد توفي "هولاكو" في سنة (663هـ = 1275م) عن (48) عامًا، بعد أن أسس دولة كبيرة، قامت بالقهر والبغي، والغدر والوحشية، وبث الفزع والهلع في النفوس، وارتفعت على أنقاض دول إسلامية ذات مجد وحضارة ورقي ومدنية، وشملت إيران والعراق وآسيا الصغرى وسوريا. أما تكودار فقد أسلم بعد أن تولى عرش سلطنة المغول الإيلخانيين، في (26 من المحرم 681هـ = 6 من مايو 1282م) خلفًا لأخيه "أباقاخان".

وتكودار هو الابن السابع لهولاكو، وكان في الصين أثناء حملة أبيه على إيران والعراق والشام، ثم قدم إلى إيران في عهد سلطنة أخيه "أباقاخان" لمساعدته في إدارة شئون الدولة، وكان قد تنصّر في طفولته، وتعمّد في صباه، غير أن هواه كان مع المسلمين، وما إن ولي عرش الدولة حتى أعلن إسلامه على مذهب أهل السنة والجماعة، وتسمى باسم أحمد تكودار، فكان أول إيلخاني يعتنق الإسلام، وبذل جهدًا محمودًا في إسلام المغول، فأسلم على يديه كثير منهم، وتهذبت طباعهم وحسنت أخلاقهم، وهم الذين أفزعوا الدنيا بهمجيتهم وسلوكهم الوحشي.

وقد استقبل العالم الإسلامي نبأ إسلام تكودار بارتياح شديد، وبخاصة منطقة إيران، وعزر من ارتياحهم وشعورهم بالرضى أن سلوك تكودار كان يظهر إخلاصًا وتمسكًا بالدين الإسلامي، إذ أرسل كتبًا إلى فقهاء بغداد يخبرهم فيها بإسلامه، ورغبته الصادقة في حماية الإسلام والدفاع عنه، وقد استقبل علماء بغداد إسلام الإيلخان بفرح شديد، ظهر ذلك في ردهم عليه؛ حيث عدوه حامي الإسلام والمسلمين، ونعتوه بناشر دين الله المبين.

تكودار وجيرانه

كان من أثر إسلام إيلخان المغول أن مالت نفسه إلى السلم مع جيرانه المسلمين، ورغب في إحلال الوفاق معهم محل الخصام والخلاف، فأرسل وفدًا إلى السلطان المنصور قلاوون في مصر في (جمادى الآخرة 681هـ = سبتمبر 1382م). وضم هذا الوفد شيخ الإسلام كمال الدين عبد الرحمن الرافعي والعلامة قطب الدين الشيرازي قاضي مدينة سيواس، وبهاء الدين أتابك مسعود سلطان سلاجقة الروم.

وحمل الوفد رسالة للسلطان قلاوون، تخبره بإسلام تكودار، ورغبته في إحياء الشريعة الإسلامية في المجتمع المغولي، وبما قام به من إصلاحات وبناء للمساجد والمدارس، وتيسير سبل الحج، ورعاية شئون الحجاج. وحملت الرسالة رغبة تكودار في أن تتسم العلاقات بين الدولتين بالهدوء والسلام وحسن الجوار، ورفضه لقرار مجلس شورى المغول (القوريلتاي) في إيفاد حملة عسكرية على بلاد الشام.

وقد رد السلطان قلاوون على تكودار برسالة في (شهر رمضان 681هـ= ديسمبر 1282م) هنأه فيه بدخول الإسلام، وأثنى على جهوده في تطبيق أحكام الإسلام، وطلب منه التحالف بين المماليك والمغول ضد الصليبيين.

بين موقفين

ويندهش المرء حين يقرأ الرسالة التي بعث بها هولاكو إلى سلطان مصر سيف الدين قطز في سنة (659هـ = 1257) والرسالة التي بعث بها ابنه أحمد تكودار إلى سلطان مصر المنصور قلاوون في سنة (681هـ = 1382م). كانت الأولى تحمل كل ألوان الوعيد والتهديد، وتدعو سلطان المماليك إلى الخضوع والاستسلام، واستهلها بقوله: "من ملك الملوك شرقًا وغربًا، القائد الأعظم، يعلم الملك المظفر وسائر أمراء دولته أنا نحن جند الله في أرضه، سَلَّطنا على من حلّ به غضبه…" وينهيها بقوله: "فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم". على حين حملت الرسالة الأخرى كل معاني التقدير لسلطان مصر، وتبشره بإسلام أمير المغول، وتدعوه إلى التحالف والتناصر ونبذ الخلاف والخصام.

والفارق بين الموقفين يوضح بجلاء كيف أثّر الإسلام في تهذيب طباع المغولي وتقويم خلقه، فلم يعد ذلك الهمجي الذي يضع كل همه في سفك الدماء وتخريب البلاد، وأصبح يرى المسلمين إخوته ويجب أن يحل بينهم الوئام.

نهاية تكودار

لم يلق اتجاه السلطان أحمد تكودار نحو السلم والمصالحة مع المماليك ترحيبًا من قادة المغول، فشكوه إلى الخان الأعظم "قوبيلاي"، وعدوا مراسلة تكودار لسلطان المماليك، وجهوده في إقامة علاقات ودية معهم خروجًا على قرار مجلس شورى المغول (القوريلتاي) بإرسال حملة جديدة إلى سوريا ومصر، بعد تكرار هزائم المغول أمام المماليك.

تجمعت كل هذه العوامل بالإضافة إلى إسلام تكودار لتساهم في تكوين جبهة مضادة لتلك السياسة الجديدة، وتزعم تلك الجبهة ابن أخيه "أرغون بن أباقاخان"، واتخذ من "خراسان" ثغرًا لقيادته ومعسكرًا لتعبئة جنوده واستقبال أنصاره، وكان ذلك بتأييد من الخاقان "قوبيلاي" وأمراء البيت المغولي، وما إن استكمل عدته وعتاده حتى تقدم لقتال عمه، واشتبك الطرفان في معركة طاحنة في (3 من صفر 683هـ = 21 من إبريل 1284م)، وتمكن تكودار من تحقيق نصر كبير على ابن أخيه، وأوقعه أسيرًا في يده.

ولما كان هذا النصر على غير هوى أمراء البيت الحاكم وقادة المغول فقد اجتمعوا وقرروا خلع تكودار من الحكم، وتخليص أرغون من الأسر، وتنصيب "هولاكو" بن هولاكو إيلخانًا على إيران، وتمت الخطة، وتخلص أرغون من الأسر بعد معركة سريعة بين قوات تكودار والمتآمرين عليه، قُتل فيها كثير من الأمراء الموالين لتكودار الذي فر من خراسان إلى أذربيجان لعله يتمكن من جمع قواته ومعاودة القتال مع خصمه.

وعلى خلاف ما قرره البيت المغولي الحاكم من تعيين هولاكو إيلخانًا على إيران فقد تم تنصيب أرغون بدلاً منه وبعد تنصيبه توجه لقتال عمه، وقبل أن يصل إلى أذربيجان قام جماعة من أتباع تكودار نفسه بتسليمه إلى أرغون بعد أن رأوا ارتفاع كفته وازدياد قوته، فلم يتوان في إعدامه في (26 من جمادى الأولى 683هـ= 10 من أغسطس 1284م)، وباستشهاده يكون أحمد تكودار أول إيلخان مغولي يدفع حياته ثمنًا لاعتناقه الإسلام.‏

منقول

عبدالغفور الخطيب
27-02-2006, 02:11 AM
ميلاد دولة المماليك

(في ذكرى وفاة توران شاه: 28 من المحرم 648هـ)


اثنان من بني أيوب كُتب لأحدهما أن تولد على يديه الدولة الأيوبية، وكتب للآخر أن تكون نهاية الدولة بموته، وشاءت الأقدار أن تشهد مصر لحظتي المولد والوفاة.

أما الأول فهو "صلاح الدين الأيوبي" الذي نجح بحكمته البالغة، وعقله الراجح، وسياسته الرشيدة أن يسرّع في إنهاء حياة الدولة الفاطمية سنة (567هـ = 1171م) في هدوء ودون إراقة دماء. واستعان في تحقيق ذلك بإقامة العدل، وإشاعة الأمن، والاستعانة بالأكْفَاء؛ فكَسَب ثقة الناس واستمالهم إلى سياسته، ثم هيأ الأجواء للتغيير بإقامة المدارس السُنّية، وتعيين القضاة الشافعية في البلاد، فانسحب المذهب الشيعي من الحياة، واختفى تدريجيًّا، ومن ثَمّ استعدت البلاد للوافد الجديد والدولة الوليدة.

وأما الآخَر فهو "توران شاه" آخر سلاطين الأيوبيين في مصر، وبموته انتهت دولة الأيوبيين، وخرجت دولة المماليك إلى الوجود وهذا ما سنعرض له.

الصليبيون في مصر

نجح الصليبيون في حملتهم السابعة بقيادة لويس التاسع في الاستيلاء على مدينة "دمياط" في (20 من صفر 6447هـ = 4 من يونيو 1249م)، واتخاذها قاعدة لمواصلة زحفهم نحو القاهرة، ونتيجة لذلك اضطر سلطان مصر "الصالح أيوب" إلى نقل معسكره إلى المنصورة، ورابطت سفنه في النيل تجاه المدينة، واستقبلت المدينة أفواجا من المجاهدين الذين زحفوا إليها من أماكن مختلفة من العالم الإسلامي؛ مشاركة لإخوانهم المصريين في جهادهم ضد الصليبيين.

لم يهنأ الصليبيون باستيلائهم على دمياط، فقد اشتدت العمليات الفدائية، والحرب الخاطفة، ونجحت البحرية المصرية في حصار قوات الحملة، وتدمير خطوط إمدادها في فرع دمياط. واستمر الحال على ذلك المنوال ستة أشهر منذ أن سقطت دمياط، ولويس التاسع ينتظر قدوم أخيه الكونت "دي بواتيه"، فلما حضر تحركت الحملة الصليبية صوب القاهرة، فخرجت قواتهم من دمياط يوم السبت الموافق (12 من شعبان 647هـ = 20 من نوفمبر 1249م).

شجرة الدر في الحكم

أثناء ذلك توفي الملك الصالح أيوب في ليلة النصف من شعبان 647هـ فقامت زوجته شجرة الدر بترتيب شئون الدولة وإدارة شئون الجيش، وأخفت نبأ موت السلطان، وفي الوقت نفسه أرسلت إلى "توران شاه" ابن زوجها وولي العهد، تحثّه على القدوم، ومغادرة حصن كيفا بأطراف العراق حيث يقيم؛ ليتولى عرش السلطنة خلفًا لأبيه.

لم تفلح محاولات شجرة الدر في إخفاء خبر وفاة السلطان طويلاً، فتسرب نبأ الوفاة إلى الصليبيين، فسارعوا في التحرك، وزحفوا جنوبًا على شاطئ النيل الشرقي لفرع دمياط، وسفنهم تسير حذاءهم في النيل، ونجحت طلائع قواتهم في اقتحام معسكر المسلمين بالمنصورة فانتشر الذعر بينهم، ودخل الصليبيون المنصورة، وانتشرت جنودهم في أزقة المدينة، وباتت المدينة على وشك السقوط، وظن المسلمون أنهم قد أُحيط بهم، غير أن فرقة من المماليك البحرية جمعت قواها خارج المدينة، ثم أطبقت على الصليبيين بقيادة "بيبرس البندقداري" فانقلب نصر الصليبيين إلى هزيمة، وأوسعهم المماليك قتلاً، وشارك أهل المدينة في المعركة بإقامة المتاريس في الشوارع؛ لعرقلة الخيالة الصليبية، وقذف الفرسان بالحجارة والطوب؛ مما عجّل بالنصر وإلحاق الهزيمة القاسية بالصليبيين في (4 من ذي القعدة 647هـ = 8 من فبراير 1250م).

ولم تمض أيام على هذا النصر حتى قام المسلمون بهجوم جديد في فجر يوم الجمعة الموافق (8 من ذي القعدة 647هـ) على معسكر جيش الصليبيين الذي كان مرابطًا بالقرب من "أشموم طناح" لكن الملك لويس تمكن من الثبات بعد أن تكبد خسائر فادحة في الأرواح.

توران شاه في مصر

غادر توران شاه حصن كيفا ومعه خمسون من خاصته، حتى إذا وصل إلى مدينة "الصالحية" بمصر أُعلن موت الصالح أيوب، ونودي بسلطنة توران شاه وعمره وقتذاك خمس وعشرون سنة، ثم وصل إلى المنصورة في (21 من ذي القعدة 647هـ = 25 من فبراير 1250م)، وتسلم مقاليد الأمور من شجرة الدر، وتولى قيادة الجيش بنفسه، وبدأ في إعداد خطة لإجبار لويس التاسع على التسليم.

وتتلخص خطة توران شاه في التحول عن متابعة الهجوم البري على مواقع الصليبيين، إلى خطة نهرية محورها تجويعهم في معسكرهم بقطع مواصلاتهم في النيل مع دمياط. وتنفيذًا لهذه الخطة أمر السلطان بسحب عدد من المراكب المصرية الراسية قريبًا من موقع الأحداث، ثم تفكيكها لتُحمل على ظهور الجمال إلى بحر المجلة، ثم تركيبها وشحنها بالمقاتلين هناك لإقلاعها شمالاً إلى مصب البحر في النيل؛ حتى تكون خلف الخطوط الصليبية في النيل.

وبهذه الوسيلة تمكنت السفن المصرية من قطع خطوط الإمداد عن الصليبيين في المنصورة؛ فساءت أحوالهم، وتفشت الأمراض والأوبئة بين الجنود لاضطرارهم إلى الشرب من ماء النيل الذي غدت مياهه ملوثة بجثث القتلى الطافية، وحلّ بهم الجوع، واضطر الملك لويس إلى طلب الهدنة وتسليم دمياط مقابل أن يأخذ الصليبيون بيت المقدس، فرُفض طلبه.

ومن العجيب أن يفرض الملك الفرنسي شروطًا، وهو في موقف لا يُحسد عليه. ثم لم يلبث أن نشبت معركة هائلة في "فارسكور" قضى فيها المسلمون تمامًا على الجيش الصليبي، ووقع الملك أسيرًا، وسيق مكبلاً بالأغلال إلى المنصورة حيث سُجِن في دار "ابن لقمان".

نهاية توران شاه

لم يحسن توران شاه بن الصالح أيوب معاملة المماليك البحرية أصحاب الفضل في هذا النصر العظيم، وتنكر أيضًا لشجرة الدر وأساء معاملتها وتهددها.. فبدلاً من أن يعترف بالجميل لهم جميعًا حسدهم على مكانتهم التي بلغوها بفضل شجاعتهم وبأسهم، وبدلاً من أن يقربهم إليه باعتبارهم أركان دولته أعرض عنهم، وخشي من نفوذهم، وأوجس منهم خيفة، بل وأضمر لهم السوء، وكان لخفته وهوجه يجاهر بذلك.

يضاف إلى ذلك سوء تدبيره وفساد سياسته بإبعاده كبار رجال دولته من الأمراء، وتقريبه رجاله وحاشيته ممن قدموا معه إلى مصر، وإغداقه الأموال عليهم، واستئثارهم بالمناصب دون غيرهم.

تضافرت تلك الأسباب وقوّت من عزيمة المماليك على التخلص من توران شاه قبل أن يبطش هو بهم، فاتفقوا على قتله، وعهدوا بتنفيذ هذه المهمة إلى أربعة من قادتهم، منهم "فارس الدين أقطاي"، و"بيبرس البندقداري"، فنجحوا في قتله في فارسكور في صباح يوم الإثنين الموافق (28من شهر المحرم 648هـ= 2 من مايو 1250م) وبمقتله انتهت الدولة الأيوبية في مصر، وبدأ عصر جديد.‏‏

منقول

عبدالغفور الخطيب
01-03-2006, 02:22 AM
خيبر.. اليهود غدر ونقض للعهود

(في ذكرى فتح خيبر: … المحرم 7هـ)



أصبحت المدينة منذ أن حل بها النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد هجرته المباركة منزل الوحي، ومعقل الإسلام، وعاصمة الدولة الوليدة، واتخذ النبي من المسجد الذي بناه مقرًا لإدارة شئون المسلمين، فلم تقتصر وظيفته على أداء الصلوات، وإنما امتدت ليصبح مدرسة تخرج فيها الرعيل الأول من قادة المسلمين وحملة ألويته ودعاته المخلصين، ومكانًا تُعقد فيه الجلسات، وتُستقبل فيه الوفود والسفراء.

علاقة المسلمين بجيرانهم

وكان من الإجراءات التي اتخذها النبي (صلى الله عليه وسلم) لسلامة بناء مجتمع النبوة الناشئ، أن كتب وثيقة خالدة تحدد العلاقات والحقوق والواجبات بين سكانها جميعًا، مسلمين وغير مسلمين، فقررت الصحيفة حرية الدين لليهود ولقبائلهم وبطونهم التي سبق أن تحالفت معها بطون الأوس والخزرج، شريطة مراعاة حقوق المواطنة، والابتعاد عما يخل بالنظام، حيث جاء في الوثيقة: "وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم…".

غدر اليهود ونقضهم للعهود

غير أن اليهود لم يلتزموا بما تعاهدوا عليه، ولم يحترموا نصوص الوثيقة التي تنظم الحياة في المدينة، وإنما غدروا وخانوا، ونقضوا العهود، وهموا بقتل النبي (صلى الله عليه وسلم) لولا أن عصمه الله منهم، وسعوا بالوقيعة بين الأوس والخزرج، وكادت تحدث فتنة بينهما لولا أن تداركتها حكمة النبي (صلى الله عليه وسلم) البالغة، ونقضوا عهدهم مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة الخندق، وكاد الأمر يتحول إلى كارثة تحل بالمسلمين بعد أن أصبحوا محاصرين من الأحزاب ويهود بني قريظة.

لكل هذا لم يجد النبي (صلى الله عليه وسلم) بدًا من إخراجهم من المدينة أو إنزال أقسى العقوبة بهم؛ حماية للدولة، وحفاظًا على أمن المسلمين وسلامتهم، وتوحيدًا للصف، فأجلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يهود بني قينقاع من المدينة في العام الثاني من الهجرة، ثم تبعهم يهود بني النضير في السنة الرابعة من الهجرة، ثم قضى على يهود بني قريظة في العام الخامس من الهجرة لخيانتهم له (صلى الله عليه وسلم)، وتعريضهم المدينة للدمار وأهلها للفتك والقتل لو نجح المشركون في اقتحام المدينة في غزوة الأحزاب.

ولم يبق لليهود سوى خيبر، وهي قرية كبيرة تقع شمال شرقي المدينة بنحو 180كم، يسكنها بعض اليهود الذين لم تبد منهم بادرة سوء للمسلمين، أو يؤخذ عليهم أنهم حاربوا الله ورسوله، ولم يُسمع أنهم اشتركوا في مؤامرة من المؤامرات التي كانوا لا يتوانون في إعدادها للنبي (صلى الله عليه وسلم)؛ ولهذا احترم النبي (صلى الله عليه وسلم) موقفهم وحيادهم، غير أنهم تبدلوا وجعلوا من بلدهم مركزًا لتجمع اليهود، فنزل عندهم يهود بني قينقاع وبني النضير، وصاروا يهددون المسلمين بمؤامراتهم، وأصبحوا خطرًا على أمن الدولة الإسلامية، ولا سيما أن خيبر تقع على الطريق المؤدي إلى الشام، فلزم تطهير ذلك الطريق من خطر هؤلاء، والقيام بتصفية بقايا الوجود اليهودي في شبه الجزيرة العربية؛ لتسلم قاعدة الإسلام الأساسية ومنطلقه من عدو ماكر.

الخروج إلى خيبر

لم يكد النبي (صلى الله عليه وسلم) يعود من الحديبية ويستريح بالمدينة شهرًا أو نحوه، حتى خرج إلى خيبر، في المحرم من العام السابع للهجرة، في ألف وستمائة مقاتل، وكان يهود خيبر من أشد الطوائف اليهودية بأسًا وأكثرهم مالاً، وأمنعهم حصونًا، وأكثرهم سلاحًا، حتى إن قريش وعرب الجزيرة وقفوا ينتظرون ما يسفر عنه التقاء القوتين. وفي الوقت نفسه استعد المسلمون استعدادًا حسنًا، فاشترط النبي (صلى الله عليه وسلم) ألا يخرج معه إلا من شهد الحديبية، وهم صفوة المسلمين، وخلاصة فرسانهم وأبطالهم الشجعان، يغمرهم إيمان عامر، وحب للشهادة في سبيل الله، وثقة في نصر الله لهم.

وكانت خيبر مكونة من ثلاث مناطق تضم قلاعهم وحصونهم، وتمتلئ بنحو عشرة آلاف مقاتل، والمناطق الثلاث هي:

- منطقة النطاة، وبها حصن ناعم، وعليه "مرحب"، وهو واحد من أبرز زعماء خيبر وفرسانها، بالإضافة إلى حصنين آخرين، هما: حصن الصعب بن معاذ، وحصن قلعة الزبير.

- منطقة الشق، وبها حصنان.

- منطقة الكتيبة، وبها حصن "القموص" لبني الحقيق من يهود بني النضير، وحصنان آخران.

خطة الفتح

أعاد النبي (صلى الله عليه وسلم) توزيع جيشه، فقسمه أربع فرق: واحدة بقيادة أبي بكر الصديق، والثانية بقيادة عمر بن الخطاب، والثالثة بقيادة سعد بن عبادة، والرابعة بقيادة الحُبَاب بن المنذر، وأمّر على الجيش علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم جميعًا.

وكان حصن "ناعم" أول حصن يتعرض له المسلمون بالهجوم، وكان محصّنًا تحصينًا منيعًا، ودار أمامه قتال عنيف دون أن يتمكن المسلمون من اقتحامه؛ نظرًا لاستماتة المدافعين عنه، واستمر القتال طوال اليوم دون تحقيق نصر، وجُرح من المسلمين خمسون، واستشهد واحد منهم، وفي اليوم التالي خرج "مرحب" قائد الحصن مختالاً بقوته وسلاحه، ودعا المسلمين إلى المبارزة، فبرز إليه "محمد بن مسلمة" ونجح في قتله، وقيل قتله علي بن أبي طالب، وتمكن أبطال المسلمين من قتل إخوة "مرحب" وكانوا أبطالاً صناديد، وكان لقتلهم أثر في إضعاف معنويات المدافعين عن الحصن، وبعد قتال دام خمسة عشر يومًا تمكن المسلمون بقيادة علي بن أبي طالب من فتح الحصن، والاستيلاء عليه، وفر من بقي من اليهود إلى حصن "صعب"، وكان حصنًا منيعًا هو الآخر، وأوكل النبي (صلى الله عليه وسلم) مهمة فتح هذا الحصن إلى "الحباب بن المنذر" الذي نجح في اقتحامه بعدما أبلى المسلمون بلاءً حسنًا، واستولى على ما في الحصن من أسلحة وعتاد، وكانت كثيرة جدًا، حيث كان يُعد هذا الحصن مخزنًا لأسلحة يهود خيبر، ومعداتهم الحربية من سيوف ودروع ومجانيق.

وبسقوط هذين الحصنين علت كِفّة المسلمين في الحرب، وأيقن اليهود أنهم لا قبل لهم بالمواجهة العسكرية، فطلبوا الصلح، فأجابهم النبي (صلى الله عليه وسلم) عليه، وعقد معهم معاهدة كان من بنودها أن يجلوا عن خيبر إلى الشام، ويسلّموا قلاعهم وحصونهم إلى المسلمين بما فيها من أسلحة وعتاد، لكنهم طلبوا من النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يظلوا يعملون في أرض خيبر مقابل نصف ما تنتجه، وأن يكونوا في حمى المسلمين وتحت حكمهم، فقبل النبي (صلى الله عليه وسلم) منهم ذلك.

وعلى الرغم من تحقيق هذا النصر العظيم، فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) عامل اليهود معاملة حسنة، ولم يقابل إساءاتهم بإساءة، فرد عليهم صحفًا من توراتهم حين طلبوها منه، وكانت قد وقعت فيما وقع من غنائم للمسلمين، ولم يصنع النبي مثلما صنع الرومان حين فتحوا أورشليم؛ حيث أحرقوا الكتب المقدسة.

نتائج هذا الفتح

كان من نتائج هذا الفتح أن صالح يهود "فدك" النبي (صلى الله عليه وسلم) على أن يحقن دماءهم، وكذلك فعل يهود "تيماء" و"وادي القرى"، فصالحوه على دفع الجزية، وبقوا في بلادهم آمنين.. وبهذا النصر المبين دان اليهود كلهم للإسلام، وانتهى ما كان لهم من نفوذ وجاه، ولم تقم لهم قائمة بعدُ، وبهذا أصبحت الدولة الإسلامية بمأمن من ناحية الشمال إلى بلاد الشام.

منقول

عبدالغفور الخطيب
02-03-2006, 01:10 AM
سقوط طليطلة وبداية الجرح الأليم

(في ذكرى سقوطها: 1 من صفر 478هـ)


ظلت الأندلس نحو ثلاثة قرون دولة واحدة، تخضع لحكومة مركزية قوية منذ أن أشرقت عليها شمس الإسلام في عهد الخلافة الأموية، ومكثت طوال هذه المدة متحدة الأجزاء كأنها كتلة واحدة، لا تعرف عدوا لها سوى أسبانيا النصرانية في الشمال. وتعاقب على الأندلس حكام أقوياء من قِبل الأمويين قبل أن تستقل وتصير دولة ذات مجد وسؤدد، منذ أن أسس بها "عبد الرحمن الداخل" خلافة أموية عقب سقوط الأمويين في المشرق سنة (132 هـ= 749م) وقيام الخلافة العباسية.

سقوط الخلافة الأموية في الأندلس

غير أن الخلافة الأموية الزاهرة أصابها الوهن، ودب في أوصالها أعراض الضعف والانحلال، وصارت ألعوبة في أيدي الطامعين والمغامرين، ومطمعًا للظامئين إلى الملك والسلطان، حتى اختتمت سلطانها، ولفظت أنفاسها الأخيرة سنة (422 هـ= 1031م) بعد أن دامت مائتين وأربعة وثمانين عامًا منذ قيام عبد الرحمن الداخل بتأسيسها سنة (138هـ =756م).

ساد الأندلس بعد سقوط الخلافة الأموية حالة من الفوضى والارتباك، وتمزقت أشلاء متفرقة، وصارت إمارات صغيرة، ودويلات متعددة، عُرفت في التاريخ الأندلسي باسم عصر ملوك الطوائف، حيث استقل كل أمير بناحية، وجعل من نفسه ملكًا وسلطانًا.

قيام دولة بني ذي النون في طليطلة

كانت طليطلة من كبرى دول الطوائف رقعة ومساحة، وتحتل موقعًا حربيًا هامًا؛ حيث تقع على مشارف الأندلس الشمالية الوسطى، وعرفت منذ قيام الدولة الإسلامية بالأندلس بالثغر الأوسط؛ نظرًا لمتاخمتها حدود الممالك الأسبانية النصرانية، وعدت بذلك حاجز الدولة الإسلامية الشمالي الأوسط ضد عدوان النصارى.

وقامت في هذه المنطقة بعد سقوط الخلافة الأموية دولة "بني ذي نون" حيث تولى إسماعيل بن ذي نون حكم طليطلة سنة (427هـ= 1036م) لكنه لم يمكث في الحكم إلا قليلاً؛ إذ توفي في سنة (435هـ= 1043م) وخلفه ابنه يحيى بن إسماعيل، وتلقب بالمأمون.

الاستعانة بالقشتاليين

وقد استطال مدة حكم "المأمون بن ذي النون" ثلاثة وثلاثين عامًا، أنفق معظمها في حروب داخلية مع منافسيه من ملوك الطوائف، واستهل صراعه مع "ابن هود" صاحب مملكة "سرقسطة"، وهو جاره من الناحية الشمالية الشرقية، واستعان كل منهما في صراعه على توسيع رقعة مملكته ودولته بقشتالة ونافار الإمارتين المسيحيتين، بدلاً من أن يقفا معًا سدًا منيعًا في وجههما.

استباح النصارى أراضي المملكتين المسلمتين، بمساعي ابن هود وابن ذي النون الذميمة، وساءت أحوال المسلمين بعد أن عاث النصارى في أرضهم فسادًا، وتحركت مساعي الصلح بين الأميرين المسلمين، فتظاهرا بالرغبة في الصلح والمهادنة، ثم لم يلبثا أن عاودا القتال، كل واحد منهما يفسد أرض الآخر، وينزل بها الخراب والدمار بمساعدة حلفائه، واستمرت هذه الفتنة بين الأميرين ثلاثة أعوام من سنة (435 هـ= 1043م) إلى آخر سنة (438 هـ= 1046م)، ولم تتوقف هذه الحرب الوضعية إلا بوفاة ابن هود، وهدأت الأمور.

صراع في مملكة قشتالة

بعد أن استولى المأمون على إمارة بلنسية وضمها إلى دولته سنة (457هـ= 1065م) توفي في السنة نفسها فرناندو ملك قشتالة، وشب صراع بين أولاده الثلاثة: "سانشو" ملك قشتالة، و"ألفونسو" ملك ليون، و"غرسيه" ملك جليقية، واشتعلت حرب أهلية استمرت أعوامًا، انتهت بانتصار "سانشو" سنة (463هـ= 1071م) واغتصاب ملك أخويه، فلجأ "ألفونسو" إلى طليطلة طالبًا حماية المأمون بن ذي النون، فأكرم ضيافته، وعاش لمدة أشهر معززًا مكرمًا، حتى إذا توفي أخوه "سانشو" عاد إلى قشتالة ليتولى عرشها، وقد استغل هذا الأمير مدة إقامته في طليطلة في دراسة موقعها، ووضع الخطط التي تمكنه من الاستيلاء عليها إذا سنحت له الفرصة.. وهذا ما حدث بعد ذلك.

ولاية حفيد المأمون

توفي المأمون سنة (467هـ= 1075م) بعد أن نجح في بسط سلطانه على رقعة كبيرة من أرض الأندلس، وامتد حكمه ليشمل بلنسية وقرطبة، وقد خلفه حفيده "يحيى بن ذي النون" وكان فتى مترفًا قليل الخبرة والتجارب، يساعده وزير محنك له بصر بالأمور ودراية بالسياسة، لكن بطانة السوء زينت ليحيى ضرورة القضاء عليه، والتخلص منه، بدعوى استبداده بالأمر دونه، فمال إليهم، ونجحت مؤامرتهم في الفتك بالوزير الكفء في أوائل المحرم (468 هـ= 1076م).

جنى يحيى بن ذي النون نتائج سياسته الحمقاء، فتعرض لدسائس خصومه بالداخل، وغارات جيرانه بالخارج، فتعرضت طليطلة لغارات ابن هود صاحب سرقسطة، الذي كان يستعين بالجند النصارى، وخلعت بلنسية طاعتها، واستقل بها حاكمها، واسترد المعتمد بن عباد قرطبة حاضرة ملكه.

التجأ يحيى إلى قشتالة يلتمس منها الصون والحماية، نتيجة عجزه عن إدارة دولته، وضبط أمورها، وكان يحيى يعترف بطاعته لملك قشتالة ويدفع له الجزية، كما كان يفعل جده، ولكن ملك قشتالة غالى هذه المرة في طلباته، واشترط دفع مزيد من المال، وتسليم بعض الحصون القريبة من حدوده.. كل ذلك "ويحيى بن ذي النون" عاجز عن رده، حتى كادت خزائنه تنضب.

أدت هذه السياسة إلى اشتعال الثورة في طليطلة ضد حاكمها، فلاذ بالفرار هو وأهله إلى حصن "وبذة" سنة (473هـ= 1080م)، تاركًا طليطلة بلا حكومة، تضطرم بالفوضى، ولم يجد أهلها بدًا من استدعاء "المتوكل بن الأفطسي" أمير بطليوس ليتولى أمرهم، فقبل على كره منه، لكن يحيى عاود الاتصال مرة أخرى بملك قشتالة طالبًا عونه فأجابه إلى طلبه، وخرج معه في سرية من فرسانه، وساعده في الجلوس على عرشه المضطرب سنة (474 هـ= 1081م).

أطماع ملك قشتالة

كان ملك قشتالة قد أعد خطة ماكرة للاستيلاء على طليطلة، ساعده على تحقيقها تحالفات مخزية مع بعض ملوك الطوائف، مثل الحلف الذي عقده مع "المعتمد بن عباد" ملك إشبيلية، تعهد فيه بأن يعاون ابن عباد بالجند ضد أعدائه من الأمراء المسلمين، وفي مقابل ذلك يتعهد ابن عباد بأن يدفع لملك قشتالة جزية كبيرة، وأن يتركه حرًا طليقًا في أعماله ضد طليطلة، وألا يعترض سبيله في الاستيلاء عليها، وكان معظم ملوك الطوائف يؤدون في ذلة الجزية لملك قشتالة خوفًا من تهديداته، وطلبًا لعونه ضد بعضهم بعضا، ولم يسلم من هذا التصرف الشائن سوى الأمير المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس.

ومن جانب آخر اتبع ملك قشتالة سياسة إرهاق طليطلة بشن الغارات المتوالية عليها، وتخريب مزارعها واستنفاد مواردها، وظل يمارس تلك السياسة أربع سنوات كاملة، منذ أن أعاد يحيى بن ذي النون إلى عرشه سنة (474هـ= 1081م)، حتى يجد الفرصة السانحة للانقضاض على المدينة المنهكة، فلا تقدر على دفع الخطر الداهم عنها.

وضحت سياسة ملك قشتالة لكل ذي عينين، لكن ملوك الطوائف أصاب أعينهم العمى، فلم يروا الأخطار المحدقة بهم، وقيد خطوهم تحالفاتهم المخزية مع ملك قشتالة، وانشغالهم بمحاربة بعضهم بعضا، وبعد بعضهم عن مسرح الأحداث، ولم تُجْدِ الصرخة المنذرة التي أطلقها العلامة أبو الوليد الباجي الذي طاف عليهم ، يثير فيهم نخوتهم، ويحرك ضمائرهم، ويذكرهم بأخوة الإسلام، وإغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج، لكن صيحته ضاعت سدى، وغلبت الأهواء كل تفكير سليم.

سقوط طليطلة

وفي سنة (477هـ= 1084م) ضرب ألفونسو ملك قشتالة حصاره حول طليطلة، ولم يتقدم أحد لنجدتها، وكان يمكن لملك إشبيلية المعتمد بن عباد أن يكون أول من يقوم بالنجدة، لكنه لم يفعل هو ولا غيره، باستثناء المتوكل بن الأفطس، الذي أرسل ولده الفضل بجيش قوي لدفع ألفونسو عن طليطلة، لكنه لم يوفق لغلبة القوى النصرانية، على الرغم مما أبداه من حماسة بالغة وما خاصة من معارك دامية.

استمر الحصار نحو تسعة أشهر، واستبد بالناس الجوع والحرمان، واشتدت الحاجة دون أن تلوح في الأفق بادرة أمل أو إشراقة صباح، بعدما تخاذل الأخ، وانزوى الرفيق، وجبن الصديق، وفشلت محاولات الصلح مع ملك قشتالة الذي لم يقبل إلا بتسليم المدينة، فاضطر يحيى إلى تسليم المدينة، وغادرها إلى بلنسية. أما ألفونسو فقد دخل المدينة ظافرا في يوم الأحد الموافق غرة صفر 478 هـ= 25 مايو 1085م).


منقول

عبدالغفور الخطيب
04-03-2006, 02:28 AM
قرطبة.. حياة إلى حين

(ذكرى دخول المرابطين قرطبة: 3 من صفر 484 هـ)


كان لسقوط طليطلة في مستهل صفر سنة 478هـ في أيدي القشتاليين دوي هائل في الأندلس والعالم الإسلامي، وعُدَّ سقوطها واحدة من المآسي الكبرى في تاريخ المسلمين؛ لأن سقوطها لم يكن عن عجز في المقاومة أو ضعف في الدفاع، أو قلة في العتاد، وإنما سقطت لسقوط قيم النجدة والإغاثة، وتردي شيم المروءة والأخوة؛ فتركها جيرانها من ملوك الطوائف تسقط، وتخرج من قبضة الإسلام إلى الأبد، دون أن يتقدم أحد لنجدتها باستثناء صاحب بطليوس، وتركت المدينة المنكوبة لمصيرها المحتوم.

صحوة ملوك الطوائف

شجعت مواقف ملوك الطوائف المخزية أن يتحرك "ألفونسو السادس" ملك قشتالة في محاولة منه لالتهام حواضر الإسلام الأخرى، فتوالت غزواته، وراح يهدد سرقسطة وإشبيلية وبطليوس وغيرها من قواعد الأندلس، كان ذلك نذيرًا.. فتحرك ما بقي من ضمائرهم، وتفتحت أعينهم على حقيقة جلية، وهي أن ما أصاب طليطلة سيصيبهم، ولن تنفعهم معاهدات عقدوها مع ملك قشتالة، وأن مصيرهم إلى السقوط والهلاك ما لم يتداركوا مواقفهم، وتتحد كلمتهم وتجتمع على كلمة سواء.

وأدرك "المعتمد بن عباد" صاحب إشبيلية خطورة الموقف، وهو أشد ملوك الطوائف مسئولية عما حدث؛ لأنه كان بإمكانه نجدة طليطلة، ومد يد العون إليها، لكن غلَّت يديه معاهدةٌ مخزية عقدها مع القشتاليين بمقتضاها يتعهد ملك قشتالة بمعاونة المعتمد ضد جيرانه من الأمراء المسلمين، وفي المقابل يتعهد المعتمد بأن يؤدي الجزية لملك قشتالة، وأن يطلق يده في أعماله العسكرية ضد طليطلة، دون أن يتدخل لوقف أعماله، وبعد سقوط طليطلة، بدأ ألفونسو ملك قشتالة يشتد في مطالبه المالية ويرهقه بالمزيد منها، بل إنه كاتبه يطالبه بتسليم بلاده، وينذره بسوء المصير، وبدأ بالفعل في اجتياح بلاده وتخريب مدنها وقراها.

رعي الإبل لا الخنازير

أجمع ملوك الطوائف على ضرورة الاستغاثة بيوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين المغربية وكانت دولة قوية بسطت نفوذها بالمغرب، وكان قد ذاع صيته، واشتهر أمر فُتُوحه في المغرب، وحبه للجهاد، وإقامته حكومة تقوم على العدل والقسطاس.

وبدأ ملوك الطوائف يكاتبون الأمير يوسف ويرسلون إليه الرسل، يستنصرون به على محاربة النصارى الذين اشتد سلطانهم، وتفتحت شهيتهم لالتهام الأندلس، ويصفون له حالهم وما ينتظرهم من خطر السقوط والفناء؛ إذ لم يبادر هو بإغاثتها ونصرها.

ولم تكن فكرة الاستنصار بالمرابطين تلقى إجماعًا بقبولها من قبل ملوك الطوائف، فقد كان هناك من يخشى مغبة هذه السياسة ويعارض قيامها، مخافة أن يطمع المرابطون في بلادهم فيلحقوها بدولتهم الفتية، غير أن "المعتمد بن عباد" حسم الموقف وأخمد الفتنة بمقولته المأثورة: "رعي الإبل خير من رعي الخنازير" يقصد بذلك أنه يفضل أن يكون أسيرًا لدى أمير المرابطين يرعى له جماله من أن يكون أسيرًا لدى ملك قشتالة.

عبور المرابطين

استجاب يوسف بن تاشفين لدعوة ملوك الطوائف، وأعد جيشًا عظيمًا، عبر به البحر المتوسط إلى الأندلس، فاستقبله أمراؤها، وسار بجيشه إلى إشبيلية حيث وافته جيوش الأندلس، وفي أثناء ذلك الوقت كان "ألفونسو" ملك قشتالة مشغولاً بمحاربة "ابن هود" أمير سرقسطة، فلما علم بخبر عبور المرابطين ترك محاربة ابن هود، وجمع جندًا من سائر الممالك النصرانية للقاء الجيوش الإسلامية، فالتقى الفريقان في سهل الزلاقة بالقرب من بطليوس، في معركة هائلة في (12 من رجب 479 هـ: 23 من أكتوبر 1086 م)، ثبت فيها المسلمون وأبلوا بلاءً حسنًا حتى أكرمهم الله بالنصر، وقتل معظم جيش القشتاليين، ومن نجا منهم وقع أسيرًا، وفر ملكهم بصعوبة في بضع مئات من جنده جريحًا ذليلاً، وعاد يوسف بن تاشفين إلى المغرب متوجًا بتاج النصر والفخار، وملقبًا بأمير المسلمين.

كان هذا النصر عزيزًا، أعاد الثقة في نفوس الأندلسيين، واهتزت له مشاعر المسلمين فرحًا وطربًا، ورد خطر القشتاليين عن الأندلس إلى حين بعد أن كانت على موعد مع الغثاء والهلاك، وكتبت لها حياة جديدة، امتدت إلى أربعة قرون أخرى.

عبور المرابطين ثانية

لم يكد يستقر يوسف بن تاشفين في المغرب حتى عادت كتب الأندلسيين ووفودهم تترى عليه؛ طلبًا لنجدتهم من القشتاليين الذين عاودوا التدخل في شئون شرقي الأندلس في بلنسية ومرسية ولورقة، فأجابهم إلى ذلك، وعبر بقواته إلى الأندلس في (ربيع الأول 481 هـ: يوليو 1088م) واتجهت مع القوات الأندلسية إلى حصن (ليبط)، وهو حصن أقامه القشتاليون بين "مرسية" ولورقة، ليكون قاعدة للإغارة على أراضي المسلمين في هذه المنطقة.

حاصرت القوات المتحدة هذا الحصن، وسلطت عليه آلات الحصار، وضربوه بشدة، لكنها لم تنجح في هدمه أو إحداث ثغرة ينفذ منها المسلمون؛ نظرًا لمناعته واستماتة المدافعين، ودام الحصار نحو أربعة أشهر دون جدوى، ففك يوسف بن تاشفين الحصار بعدما كبد حامية الحصن خسارة كبيرة، وأهلك معظم رجاله حتى إن ملك قشتالة حين قدم الحصن لنجدته لم يجد فيه سوى مائة فارس وألف راجل (محارب من المشاة)، بعد أن كان يضم عند محاصرته ثلاثة عشر ألف مقاتل، ثم عاد يوسف إلى بلاده بعد ترك بعض قواته تحت إمرة خير قواده (سير بن أبي بكر اللمتوني).

العبور الثالث

شاهد أمير المرابطين عند عبوره إلى الأندلس ما عليه أمراؤها من فُرقة وتنابذ، وجنوح إلى الترف والبذخ، وميل إلى الدعة والراحة والعيش الناعم، في الوقت الذي يهملون فيه شئون رعيتهم، ويتقاعسون عن حماية دولتهم من خطر النصارى وتطلعهم إلى الاستيلاء على أرضهم، فاستقر في ذهنه ضرورة إزاحة هؤلاء الأمراء عن مواقعهم، وعزز من ذلك فتاوى كبار الفقهاء من المغرب والأندلس بوجوب خلع ملوك الطوائف، وانتزاع الأمر من أيديهم، وكان "أبو حامد الغزالي" و"أبو بكر الطرطوشي" على رأس القائلين بهذه الفتوى؛ وهو ما دعا أمير المرابطين إلى تنفيذ هذا الأمر، وكان لا يحب القيام بعمل إلا إذا كان متفقًا مع أحكام الشرع الحنيف.

عبر أمير المرابطين إلى الأندلس للمرة الثالثة بجيش ضخم في أوائل سنة (483هـ: 1090م) لتحقيق هذا الهدف، ومقاتلة النصارى، فاتجه بقواته إلى طليطلة، واجتاح في طريقه أراضي قشتالة دون أن يتقدم أحد من ملوك الطوائف لمعاونته أو السير معه، وكان يرغب في استرداد طليطلة لعله يشفى الجُرح الدامي، لكنه لم ينجح نظرًا لمناعة أسوارها العالية، فرجع بجيشه إلى إشبيلية وفي عزمه أن يستخلصها هي وغيرها من إمارات ملوك الطوائف بعد أن وقر في قلبه، وقامت عليه الأدلة إلى عودة ملوك الطوائف إلى عقد اتفاقات سرية مع ملك قشتالة، يتعهدون فيها بالامتناع عن معاونة المرابطين، والدخول في طاعة ألفونسو ملك قشتالة وحمايته.

دخول المرابطين قرطبة

قسم أمير المرابطين قواته في أنحاء الأندلس، وبدأ هو بالاستيلاء على غرناطة، ودخلها في (العاشر من رجب 483هـ: سبتمبر 1090م) وأعلن على الناس أنه سوف يحكم بالعدل وفقًا لأحكام الشرع، وسيدافع عنهم، ويرفع عنهم سائر المغارم الجائرة، ولن يفرض عليهم من التكاليف إلا ما يجيزه الشرع الحنيف.

ثم بعث أمير المرابطين بقائده الكبير "سير بن أبي اللتموين" على رأس جيش كبير إلى إشبيلية، فتمكن من الاستيلاء على كثير من مدنها، ودخل المرابطون قرطبة في اليوم الثالث من صفر 484 هـ: 26 من مارس 1091م، ثم تتابع سقوط مدن الأندلس في أيدي المرابطين ليبدأ عصر جديد في الأندلس.‏

منقول

عبدالغفور الخطيب
05-03-2006, 02:03 AM
سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية

(في ذكرى سقوطها: 4 من صفر 656 هـ)


نجح جنكيز خان في إقامة إمبراطورية كبيرة ضمن أقاليم الصين الشمالية، واستولت على العاصمة بكين، ثم اصطدم بالدولة الخوارزمية التي كانت تجاوره بسبب سوء تصرف حاكمها "محمد خوارزم شاه". وانتهى الحال بأن سقطت الدولة وحواضرها المعروفة مثل: "بخارى"، "وسمرقند"، و"نيسابور" في يد المغول بعد أن قتلوا كل من فيها من الأحياء، ودمروا كل معالمها الحضارية، وتوفي جنكيز خان سنة (624هـ = 1223م) بعد أن سيطرت دولته على كل المنطقة الشرقية من العالم الإسلامي.

الاستعداد لغزو الخلافة العباسية

بعد سلسلة من الصراعات على تولي السلطة بين أمراء البيت الحاكم تولى "منكوقآن بن تولوي بن جنكيز خان" عرش المغول في (ذي الحجة 648هـ = إبريل 1250م). وبعد أن نجح في إقرار الأمن وإعادة الاستقرار في بلاده اتجه إلى غزو البلاد التي لم يتيسر فتحها من قبل، فأرسل أخاه الأوسط "قوبيلاي" على رأس حملة كبيرة للسيطرة على جنوب الصين ومنطقة جنوب شرق آسيا، وأرسل أخاه الأصغر هولاكو لغزو إيران وبقية بلاد العالم الإسلامي، وعهد إليه بالقضاء على طائفة الإسماعيلية وإخضاع الخلافة العباسية.

خرج هولاكو على رأس جيش كبير يبلغ 120 ألف جندي من خيرة جنود المغول المدربين تدريبا عاليا في فنون القتال والنزال ومزودين بأسلحة الحرب وأدوات الحصار، وتحرك من "قراقورم" عاصمة المغول سنة (651هـ = 1253م) متجها نحو الغرب تسبقه سمعة جنوده في التوغل والاقتحام، وبأسهم الشديد في القتال، وفظائعهم في الحرب التي تزرع الهلع والخوف في النفوس، ووحشيتهم في إنزال الخراب والدمار في أي مكان يحلون به.

القضاء على الإسماعيلية

وعندما وصل هولاكو إلى الأراضي الإيرانية خرج أمراؤها لاستقباله وأمطروه بالهدايا الثمينة وأظهروا له الولاء والخضوع، ثم عبر هولاكو نهر جيحوم واتجه إلى قلاع طائفة الإسماعيلية، ودارت بينه وبينها معارك عديدة انتهت بهزيمة الطائفة ومقتل زعيمها "ركن الدين خورشاه".

وكان لقضاء المغول على طائفة الإسماعيلية وقع حسن عَمَّ العالم الإسلامي على الرغم مما عاناه من وحشية المغول وتدميرهم؛ وذلك لأن الإسماعيلية كانت تبث الرعب والفزع في النفوس، وأشاعت المفاسد والمنكرات، وأذاعت الأفكار المنحرفة، وكان يخشى بأسها الملوك والسلاطين.

رسائل متبادلة

نجح هولاكو في تحقيق هدفه الأول بالقضاء على الطائفة الإسماعيلية وتدمير قلاعها وإبادة أهلها، وبدأ في الاستعداد لتحقيق هدفه الآخر بالاستيلاء على بغداد والقضاء على الخلافة العباسية؛ فانتقل إلى مدينة "همدان" واتخذها مقرا لقيادته، وكان أول عمل قام به أن أرسل إلى الخليفة العباسي المستعصم بالله رسالة في (رمضان 655 هـ = مارس 1257 م) يدعوه فيها إلى أن يهدم حصون بغداد وأسوارها ويردم خنادقها، وأن يأتي إليه بشخصه ويسلم المدينة له، وأوصاه بأن يستجيب حتى يحفظ مركزه ومكانته ويضمن حريته وكرامته، وإن أبى واستكبر فسيحل بأهله وبلاده الدمار والخراب، ولن يدع أحدا حيا في دولته.

جاء رد الخليفة العباسي على كتاب هولاكو شديدا ودعاه إلى الإقلاع عن غروره والعودة إلى بلاده، ثم أرسل هولاكو رسالة ثانية إلى الخليفة ذكر له فيها أنه سوف يبقيه في منصبه بعد أن يقر بالتبعية للدولة المغولية، ويقدم الجزية له؛ فاعتذر الخليفة العباسي بأن ذلك لا يجوز شرعا، وأنه على استعداد لدفع الأموال التي يطلبها هولاكو مقابل أن يعود من حيث أتى.

كان رد هولاكو على رسالة الخليفة أشد إنذارا وأكثر وعيدا وفي لهجة عنيفة وبيان غاضب وكلمات حاسمة؛ فحل الفزع في قلب الخليفة؛ فجمع حاشيته وأركان دولته واستشارهم فيما يفعل؛ فأشار عليه وزيره "ابن العلقمي" أن يبذل الأموال والنفائس في استرضاء هولاكو وأن يعتذر له، وأن يذكر اسمه في الخطبة، وينقش اسمه على السكة، فمال الخليفة إلى قبول هذا الرأي في بداية الأمر غير أن مجاهد الدين أيبك المعروف بـ"الدويدار الصغير" رفض هذا الاقتراح، وحمل الخليفة العباسي على معارضته متهما ابن العلقمي بالخيانة والتواطؤ مع هولاكو؛ فعدل الخليفة عن رأيه السابق ومال إلى المقاومة.

حصار بغداد


يئس هولاكو من إقناع الخليفة العباسي بالتسليم؛ فشرع في الزحف نحو بغداد وضرب حولها حصارا شديدا، واشتبك الجيش العباسي الذي جهزه الخليفة العباسي بقيادة مجاهد الدين أيبك بالقوات المغولية فكانت الهزيمة من نصيبه، وقتل عدد كبير من جنوده لقلة خبرتهم بالحروب وعدم انضباطهم، وفر قائد الجيش مع من نجا بنفسه إلى بغداد.

كان الجيش المغولي هائلا يبلغ حوالي 200 ألف مقاتل مزودين بآلات الحصار، ولم تكن عاصمة الخلافة العباسية تملك من القوات ما يمكنها من دفع الحصار ودفع المغول إلى الوراء، في الوقت الذي كان يظن فيه هولاكو أن ببغداد جيشا كبيرا، ثم تكشفت له الحقيقة حين اشتد الحصار، ونجحت قواته في اختراق سور بغداد من الجانب الشرقي، وأصبحت العاصمة تحت رحمتهم.

سقوط بغداد

أحس الخليفة بالخطر، وأن الأمر قد خرج من يديه؛ فسعى في التوصل إلى حل سلمي مع هولاكو، لكن جهوده باءت بالفشل؛ فاضطر إلى الخروج من بغداد وتسليم نفسه وعاصمة الخلافة إلى هولاكو دون قيد أو شرط، وذلك في يوم الأحد الموافق (4 من صفر 656 هـ= 10 فبراير 1258م) ومعه أهله وولده بعد أن وعده هولاكو بالأمان.

كان برفقه الخليفة حين خرج 3 آلاف شخص من أعيان بغداد وعلمائها وكبار رجالها، فلما وصلوا إلى معسكر المغول أمر هولاكو بوضعهم في مكان خاص، وأخذ يلاطف الخليفة العباسي، وطلب منه أن ينادي في الناس بإلقاء أسلحتهم والخروج من المدينة لإحصائهم، فأرسل الخليفة رسولا من قبله ينادي في الناس بأن يلقوا سلاحهم ويخرجوا من الأسوار، وما إن فعلوا ذلك حتى انقض عليهم المغول وقتلوهم جميعا.

ودخل الغزاة الهمج بغداد وفتكوا بأهلها دون تفرقة بين رجال ونساء وأطفال، ولم يسلم من الموت إلا قليل، ثم قاموا بتخريب المساجد ليحصلوا على ذهب قبابها، وهدموا القصور بعد أن سلبوا ما فيها من تحف ومشغولات قيمة، وأتلفوا عددا كبيرا من الكتب القيمة، وأهلكوا كثيرا من أهل العلم فيها، واستمر هذا الوضع نحو أربعين يوما، وكلما مشطوا منطقة أشعلوا فيها النيران، فكانت تلتهم كل ما يصادفها، وخربت أكثر الأبنية وجامع الخليفة، ومشهد الإمام موسى الكاظم، وغيرها من البنايات التي كانت آية من آيات الفن الإسلامي.

وبالغ المؤرخون في عدد ضحايا الغزو المغولي حين دخلوا بغداد، فقدرهم بعض المؤرخين بمليون وثمانمائة ألف نسمة، على حين قدرهم آخرون بمليون نسمة، وفي اليوم التاسع من صفر دخل هولاكو بغداد مع حاشيته يصحبهم الخليفة العباسي، واستولى على ما في قصر الخلافة من أموال وكنوز، وكانت الجيوش المغولية أبقت على قصر الخلافة دون أن تمسه بسوء، ولم يكتف هولاكو بما فعله جنوده من جرائم وفظائع في العاصمة التليدة التي كانت قبلة الدنيا وزهرة المدائن ومدينه النور، وإنما ختم أعماله الهمجية بقتل الخليفة المستعصم بالله ومعه ولده الأكبر وخمسه من رجاله المخلصين الذين بقوا معه ولم يتركوه في هذه المحنة الشديدة.

وبمقتل الخليفة العباسي في (14 من صفر 656 هـ = 20 من فبراير 1258م) تكون قد انتهت دولة الخلافة العباسية التي حكمت العالم الإسلامي خمسة قرون من العاصمة بغداد لتبدأ بعد قليل في القاهرة عندما أحيا الظاهر بيبرس الخلافة العباسية من جديد.

منقول

عبدالغفور الخطيب
06-03-2006, 02:00 AM
مذبحة القلعة.. درس ديكتاتوري

(في ذكرى وقوعها: 5 من صفر 1226 هـ)


بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر سنة (11216 هـ= 1801م)، سادت مصر حالةٌ من الفوضى والاضطراب، نتيجة لصراع المماليك على الحكم، وانقسامهم على أنفسهم، فبعضهم يسعى إلى السيطرة على الحكم في البلاد والوصول إلى السلطة بدعم من إنجلترا، التي بدأ شعورها يتنامى بأهمية مصر، وخشيت من عودة النفوذ الفرنسي إليها، ومن ثم فقد حرصت على أن توطد أقدامها في مصر، وأن يكون أصحاب السلطة فيها من الموالين لها؛ فسعت إلى تأييد تلك الطائفة من المماليك ومعاونتها على الوصول إلى الحكم.

أما الفريق الآخر فكان يرى أنه يمكنه الاستقلال بالحكم دون مساعدة من أي قوى خارجية، وذلك بإيجاد نوع من التحالف والتنسيق بين بعض قوى المماليك ذات المصالح المشتركة، والأهداف المتقاربة.

قوى شعبية وزعامات وطنية

وظهرت قوة أخرى في مصر لا تقل نفوذًا ولا تأثيرًا عن المماليك الذين بدأت قواهم تخور وشوكتهم تضعف؛ نتيجة الصراع الدائم بينهم والمؤامرات المستمرة.

بدأت تلك القوة الجديدة -قوة القيادات الشعبية متمثلة في العلماء والمشايخ والتجار- يزداد تأثيرها ويتسع نفوذها مع ضعف المماليك، وأفرزت تلك القوة زعامات وطنية أصيلة حاولت أن تساهم بشكل جاد في توجيهه الأمة، وإقالتها من عثرتها، والنهوض بها في مواجهة الأخطار المحدقة بها، سواء في الداخل أو الخارج.

وشعرت تلك القيادات الشعبية والوطنية بحاجة البلاد إلى شخصية قوية يلتف حولها الجميع لتتولى زمام الأمور في لبلاد، وتقود مسيرة الحياة فيها.

ووجدت تلك القيادات بغيتها في أحد ضباط الحامية العثمانية، حيث توسمت فيه القدرة والكفاءة لتولى حكم مصر، وكان ذلك الضابط هو "محمد علي" الذي التفت حوله القيادات الشعبية حتى صدر فرمان ولايته لمصر في (12 صفر 1220هـ= 12 من مايو 1805م).

وسعت تلك القيادات إلى تثبيت دعائم حكم محمد علي لمصر، فقادوا حملة لجمع التبرعات وتدبير الأموال اللازمة لدفع المرتبات المتأخرة للجنود الذين بدأ التمرد يسري بينهم، كما كان لتلك القيادات دور مهم في الإبقاء عليه واليًا للبلاد رغم محاولات "الباب العالي" نقله من مصر.

الإنجليز في رشيد

وكان لتحالف تلك القيادات الوطنية ومن حولها جموع الشعب مع محمد علي أكبر الأثر في إلحاق الهزيمة بالحملة العسكرية الإنجليزية التي ضمت نحو أربعة آلاف جندي قرب "رشيد"، في (18 من المحرم 1222 هـ= 29 من مارس 1807م) والتي جاءت لتأييد بعض عناصر المماليك، وتمكينهم من الوصول إلى الحكم في مصر ليكونوا أعوانًا لهم.

وأحس محمد علي بخطورة المماليك، وتهديدهم لأمن واستقرار البلاد؛ فعمل على إبعادهم عن القاهرة، وتعقّبهم في الصعيد، حتى استطاع أن يخضع الصعيد لحكمه، واستقرت له الأمور، وأبدى له بعض المماليك الذين فروا إلى الصعيد الطاعة والولاء، فسمح لهم بالعودة إلى القاهرة، ولكنهم ظلوا يتآمرون عليه ويدبرون المكائد للتخلص منه.

أصبحت مقاليد السلطة في مصر بيد محمد علي، واستقر له حكم البلاد، ولكنه بدأ يشعر بالقلق إزاء تصاعد نفوذ القيادة الشعبية، والزعامة الوطنية التي كانت سببًا في وصوله إلى الحكم، واختارته واليًا على البلاد، فبدأ يسعى إلى التخلص منها خوفًا من انفرادها بالحكم بعد أن تُستنزف قوته في حرب المماليك، وسعى محمد علي إلى الوقيعة بين القيادة الشعبية متمثلة في المشايخ، ثم نفى السيد "عمر مكرم" خارج القاهرة في عام [1224 هـ=1809م]، واستطاع أن يقلص نفوذ المشايخ، ويحدّ من دورهم في الحياة العامة.

محمد علي ومؤامرات المماليك

وبالرغم من محاولات محمد علي الدءوبة للتخلص من مراكز القوى في دولته متمثلة في زعماء المماليك، فإنه ظل يقاسي من مؤامراتهم وغدرهم، وكانت كل الدلائل تشير إلى أن المماليك سيتعاونون مع الإنجليز.

وفي بداية شهر (المحرم 1226 هـ= يناير 1811م) سافر محمد علي إلى السويس، ليتفقد الأعمال التي كانت تجري في مينائها، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى القاهرة في (10 من المحرم 1226هـ= فبراير 1811م) بعد أن وصلته الأخبار بضبط رسائل مريبة متبادلة بين مماليك القاهرة، وزملائهم في الوجه القبلي.

في تلك الأثناء أرسل إليه السلطان العثماني "محمود" يطلب منه إرسال قواته إلى نجد للمساعدة في القضاء على الثورة الوهابية، وعندئذ قرر محمد علي القضاء على المماليك قبل خروج الجيش بقيادة ابنه "طوسون" إلى "نجد"؛ حتى لا يثوروا ضده بعد خروج الجيش.

يوم المهرجان!

أعد "محمد علي" مهرجانًا فخمًا بالقلعة دعا إليه كبار رجال دولته، وجميع الأمراء والبكوات والكشاف المماليك، فلبى المماليك تلك الدعوة وعدوها دليل رضاه عنهم، وقبل ابتداء الحفل دخل البكوات المماليك على محمد علي فتلقاهم بالحفاوة، ودعاهم إلى تناول القهوة معه، وشكرهم على إجابتهم دعوته، وألمح إلى ما يناله ابنه من التكريم إذا ما ساروا معه في الموكب، وراح محمد علي يتجاذب معهم أطراف الحديث؛ إمعانًا في إشعارهم بالأمن والود.

وحان موعد تحرك الموكب، فنهض المماليك وبادلوا محمد علي التحية، وانضموا إلى الموكب، وكان يتقدم الركب مجموعة من الفرسان في طليعة الموكب، بعدها كان والي الشرطة ومحافظ المدينة، ثم كوكبه من الجنود الأرناؤود، ثم المماليك، ومن بعدهم مجموعة أخرى من الجنود الأرناؤود، وعلى إثرهم كبار المدعوين ورجال الدولة.

وتحرك الموكب ليغادر القلعة، فسار في طريق ضيق نحو باب "العزب"، فلما اجتاز الباب طليعة الموكب ووالي الشرطة والمحافظ، أُغْلِق الباب فجأة من الخارج في وجه المماليك، ومن ورائهم الجنود الأرناؤود، وتحول الجنود بسرعة عن الطريق، وتسلقوا الصخور على الجانبين، وراحوا يمطرون المماليك بوابل من الرصاص، أخذت المفاجأة المماليك وساد بينهم الهرج والفوضى، وحاولوا الفرار، ولكن كانت بنادق الجنود تحصدهم في كل مكان، ومن نجا منهم من الرصاص فقد ذُبِح بوحشية.

وسقط المماليك صرعى مضرجين في دمائهم، حتى امتلأ فناء القلعة بالجثث، ولم ينج من المماليك الأربعمائة والسبعين الذين دخلوا القلعة في صبيحة ذلك اليوم إلا واحد يسمى "أمين بك" كان في مؤخرة الصفوف، واستطاع أن يقفز بجواده من فوق سور القلعة، وهرب بعد ذلك إلى الشام.

الفوضى تسود المدينة

وصل خبر تلك المذبحة إلى الجماهير المحتشدة في الشوارع لمشاهدة الموكب فسرى الذعر بينهم، وتفرق الناس، وأقفلت الدكاكين والأسواق، وهرع الجميع إلى بيوتهم، وخلت الشوارع والطرقات من المارة.

وسرعان ما انتشرت جماعات من الجنود الأرناؤود في أنحاء القاهرة يفتكون بكل من يلقونه من المماليك وأتباعهم، ويقتحمون بيوتهم فينهبون ما تصل إليه أيديهم، ويغتصبون نساءهم، وتجاوزوا بالقتل والنهب إلى البيوت المجاورة.

وكثر القتل، واستمر النهب، وسادت الفوضى ثلاثة أيام، قُتل خلالها نحو ألف من المماليك ونُهب خمسمائة بيت، ولم يتوقف السلب والنهب إلا بعد أن نزل محمد علي إلى شوارع المدينة، وتمكن من السيطرة على جنوده وأعاد الانضباط.. وهكذا استطاع محمد علي الانفراد بالحكم، ولكن على أشلاء المعارضين.‏

منقول

عبدالغفور الخطيب
08-03-2006, 02:24 AM
بُهْرَسير.. الطريق إلى المدائن

(في ذكرى فتحها: 7 من صفر 16هـ)


كان المسلمون يرون فتح بلاد فارس أمرا صعب المنال، ومن ثم فقد كانوا يتهيبون غزوها، ولم يسعوا لقتالها.

فلما ولي عمر بن الخطاب الخلافة، ورأى أن بلاد فارس قد أصبحت مسرحًا للفوضى والاضطرابات صح عزمه على غزوها، وشجعه على ذلك تلك الهزيمة التي لحقت بالروم في "أجنادين" سنة (15هـ= 636م)، واطمئنانه أنهم لم يعودوا يمثلون خطرًا على المسلمين.

ووقع اختيار عمر بن الخطاب على واحد من أكفأ القادة المسلمين، وأكثرهم حماسًا واستعدادًا لمواجهة الفرس، وكان ذلك القائد هو "سعد بن أبي وقاص" فسيّره في جيش كبير إلى العراق وفارس (إيران).

انتصار القادسية

استطاع سعد في نحو عشرة آلاف فارس أن يحقق نصرًا ساحقًا على الفرس في القادسية، وكان قائد الفرس حينذاك "رستم" ذا الحاجب على رأس جيش بلغ مائة وعشرين ألف مقاتل، حيث دارت معركة عنيفة كانت من أهم المعارك في التاريخ بين المسلمين والفرس، واستمرت المعركة عدة أيام، حتى تحقق النصر للمسلمين، وفر رستم وجنوده، وغنم المسلمون فيها مغانم كثيرة.

كان انتصار المسلمين في القادسية دافعًا لهم للاستمرار في زحفهم نحو المدائن عاصمة الفرس، وسار سعد بجنوده حتى وصل إلى بهرسير وكانت إحدى حواضر فارس، فنزل سعد قريبًا منها، وأرسل مجموعة من جنوده لاستطلاع الموقف، وعاد هؤلاء الجنود وهم يسوقون أمامهم آلافًا من الفلاحين، من أهل تلك المدينة.

وحيثما علم "شيرزار" دهقان (أمير) "ساباط" بالأمر أرسل إلى سعد يطلب منه إطلاق سراح هؤلاء الفلاحين، ويخبره أنهم ليسوا مقاتلين، وإنما هم مجرد مزارعين أُجراء، وأنهم لم يقاتلوا جنوده؛ فكتب سعد إلى عمر يعرض عليه الموقف ويسأله المشورة: "إنا وردنا بهرسير بعد الذي لقينا فيما بين القادسية وبهرسير، فلم يأت أحد لقتال، فبثثت الخيول، فجمعت الفلاحين من القرى والآجام.. فرأيك".

فأجابه عمر: "إن من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين لم يعينوا عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به".. فلما جاءه خطاب عمر خلى سعد سبيلهم.

حصار.. وفتح

وأرسل سعد إلى الدهاقين (رؤساء المدن والأقاليم) يدعوهم إلى الإسلام على أن يكون لهم ما هم عليه من الإمارة والحكم، أو الجزية ولهم الذمة والمنعة، فدخل كثير منهم الإسلام لما وجدوه من سماحة المسلمين وعدلهم -مع ما هم عليه من بأس وقوة- ولكن بهرسير امتنعت عنه، وظن أهلها أن حصونها تحول دون فتح المسلمين لها، فحاصرها سعد بجنوده طوال شهرين يرمونها بالمجانيق، ويدكونها بالدبابات التي صنعوها من الجلود والأخشاب؛ وكان الجنود يحتمون بها وهم يعاودون مهاجمة أسوار المدينة المرة بعد الأخرى، ويقاتلونهم بكل عدة.

ولكن المدينة كانت محصّنة فنصب سعد حولها عشرين منجنيقًا في أماكن متفرقة ليشغلهم ويصرفهم عن ملاحظة تقدم فرسانه نحو المدينة لاقتحامها.

وأحس الفرس بمحاولة المسلمين اقتحام المدينة؛ فخرج إليهم عدد كبير من الجنود الفرس ليقاتلوهم ويمنعوهم من دخول المدينة، وضرب المسلمون أروع الأمثلة في البطولة والفداء، وقوة التحمّل والحرص على الشهادة، وكان القائد "زُهْرة بن الجويّة" واحدا من أولئك الأبطال الشجعان الذين سطّروا بدمائهم ملحمة الانتصار، وكان عليه درع مفصومة، فأرادوا أن يصلحوها له قبل أن يخرج للقتال حتى لا يصيبه سهم من خلالها، ولكنه أبى، وقال: "إني لكريم على الله، إن ترك سهمُ فارس الجندَ كلَّه ثم أتاني من هذا الفصم حتى يثبت فيّ!".

وانطلق يقاتل في جرأة وشجاعة، حتى أصيب بسهم في ذلك الفصم، فتحامل على نفسه حتى استطاع أن يصل إلى قائد الفرس "شهْربَرَاز"، فضربه بسيفه فقتله.. وما إن رأى جنود الفرس قائدهم يسقط على الأرض مدرجًا في دمائه حتى تملكهم الهلع والذعر، وتفرق جمعهم، وتتشتت فرسانهم، وانطلقوا يفرون على غير هدى إلى الجبال.

وظل المسلمون يحاصرون بهرسير بعد أن فر الجنود والتحقوا بالفيافي والجبال، واشتد حصار المسلمين على المدينة؛ حتى اضطر أهلها إلى أكل الكلاب والقطط، فأرسل ملكهم إلى المسلمين يعرض الصلح على أن يكون للمسلمين ما فتحوه إلى دجلة، ولكن المسلمين رفضوا وظلوا يحاصرون المدينة، ويضربونها بالمجانيق، واستمر الحال على ذلك فترة من الوقت.

وبدت المدينة هادئة يخيم عليها الصمت والسكون، وكأنه لا أثر للحياة فيها، فحمل المسلمون عليها ليلاً، وتسلقوا أسوارها وفتحوها، ولكن أحدًا لم يعترضهم من الجنود، ولم يجدوا فيها إلا عددًا من السكان ساقوهم أسرى.. ودخل المسلمون بهرسير فاتحين بعد أن حاصروها زمنًا طويلاً.

الصلاة بإيوان كسرى

كان الظلام قد أرخى سدوله على المدينة، وكان ضوء القمر يرسم أشباح المنازل القابعة في أحضان سور المدينة العالي الحصين، وانتشر فرسان المسلمين ليحكموا سيطرتهم على المدينة، وفجأة لاح لهم قصر كسرى الشامخ بلونه الأبيض وبنائه السامق العجيب؛ فراحوا يكبرون.. وهم يتذكرون وعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعرش كسرى، وانطلق تكبيرهم يشق سكون الليل ويتردد في الفضاء.

ودخل سعد مع جنوده القصر الأبيض، وصلى في إيوان كسرى شكرًا لله على النصر.. فقد كان انتصار المسلمين وفتحهم لمدينة بهرسير الحصينة هو بداية الطريق إلى فتح "المدائن" عاصمة الفرس المنيعة القوية.‏‏

منقول

عبدالغفور الخطيب
09-03-2006, 01:48 AM
سليم الأول.. من السلطنة إلى الخلافة

(في ذكرى توليه السلطنة : 8 من صفر 918هـ)


ارتبط اسم السلطان العثماني سليم الأول في التاريخ بمسألة التحول في سياسة الدولة العثمانية تجاه الفتوحات؛ حيث اتجه العثمانيون في الدور الأول من دولتهم إلى الميدان الأوروبي، وحققوا فيه انتصارات مذهلة، توجها السلطان محمد الفاتح سنة (857هـ = 1453م) بفتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية ودرتها المتلألئة التي ظلت حلما راود الخلفاء المسلمين منذ بداية العصر الأموي، واتخذها عاصمة للدولة، ثم اتجه العثمانيون بفتوحاتهم نحو الشرق، وكان هذا هو نقطة التحول في سياستهم، وشاءت الأقدار أن تشهد فترة ولاية سليم الأول هذا التحول، الذي كان من أثره أن امتدت رقعة الدولة العثمانية، وأصبحت دولة آسيوية أوروبية أفريقية.

تولى سليم الأول عرش الدولة العثمانية في (8 من صفر 918هـ = 25 من إبريل 1512م) خلفا لأبيه بايزيد الثاني الذي تنازل له عن السلطة، وكان أول عمل قام به السلطان الجديد قيامه بالقضاء على الفتن الداخلية التي أثارها إخوته ضده تطلعا للحكم، وبعد ذلك كان في انتظاره أمران، كان لهما الأثر البالغ في توجيه السياسة العثمانية.

أما الأمر الأول فهو ازدياد النمو الشيعي في إيران والعراق، وتهديد الدولة الصفوية الشيعية للدولة العثمانية.

وأما الأمر الآخر فهو تصاعد الخطر البرتغالي في الخليج العربي، وتهديدهم للأراضي المقدسة.

الصراع العثماني الصفوي

ظهر إسماعيل الصفوي في مطلع القرن العاشر الهجري، ونجح في إقامة دولة شيعية في إيران سنة (907هـ = 1502م) وأعلن نفسه ملكا، وأصدر السكة باسمه، وجعل المذهب الشيعي هو المذهب الرسمي لإيران بعد أن كانت تتبع المذهب السني، وبدأ يتطلع إلى توسيع مساحة دولته، فاستولى على العراق، وأرسل دعاته لنشر المذهب الشيعي في الأناضول، مما أثار حفيظة الدولة العثمانية المجاورة لها، وبدأت المناوشات العسكرية بينهما في أواخر عهد السلطان بايزيد خان، ثم تحولت إلى صدام هائل بين الدولتين في عهد سليم الأول.

أعلن سليم الأول الحرب على الصفويين، وسار بجيوشه من أدرنة متجها إلى تبريز في (22 من المحرم 902هـ = 14 مارس 1514م) فتقهقرت الجيوش الفارسية أمامه بقصد إنهاك قواه حتى تسنح لها الفرصة للانقضاض عليه، والتقى الجيشان في وادي جالديران في (2 من رجب 920 هـ = 24 أغسطس 1514م) وكانت معركة هائلة حسمت فيها المدفعية العثمانية النصر للسلطان سليم الأول، وفر الشاه إسماعيل الصفوي، وتمزق جيشه، ودخل السلطان سليم تبريز حاضرة الصفويين، يحمل على رأسه أكاليل النصر في الرابع عشر من رجب، وأثمر هذا النصر عن ضم السلطان سليم كثيرا من بلاد أرمينية الغربية، وما بين النهرين، وتبليس، وديار بكر، والرقة والموصل، ثم عاد إلى بلاده ليعد العدة لصراع الجديد ضد أقاليم الشرق العربي.

القضاء على دولة المماليك

اجتاز السلطان سليم الأول عقبة الدولة الصفوية التي كانت تعوق حركة دولته وتهددها، وبدأ في الاستعداد للخطوة الأخرى، وكانت ذات أهمية خاصة، ونجاحها يجلب له نصرا خالدا، واتساعا في رقعة دولته، وازديادا في هيبة الدولة وقوتها، فالدولة المملوكية التي تحكم مصر والشام أصابها الوهن، ودب في أوصالها الضعف والانحلال، وأصبحت غير قادرة تماما على مواجهة الخطر البرتغالي المتنامي في الخليج العربي، حتى بلغ من اغترارهم بقوتهم أنهم أعلنوا عن عزمهم على قصف مكة والمدينة.

ولم يغب عن ذهن السلطان أن انتقال الخلافة العباسية من القاهرة إلى آل عثمان يجعل منهم قوة معنوية كبيرة عند المسلمين، ويضفي عليهم هيبة وجلالا في صراعهم مع أوروبا المسيحية.

ولتحقيق هذين الحلمين الكبيرين كان لا بد من الصدام مع المماليك، وهذا ما حدث بالفعل، وما كاد السلطان سليم الأول، يستريح قليلا من عناء العقبة الأولى حتى خرج من عاصمته، يقود جيوشه الجرارة ناحية الشام، والتقى بالمماليك عند مرج دابق بالقرب من حلب، وكان السلطان الغوري قد علم بأنباء تحركات العثمانيين فخرج من مصر لمواجهة هذا الخطر الداهم الذي يهدد دولته، واشتعلت المعركة في يوم (الأحد الموافق 25 من رجب 922هـ = 24 أغسطس 1516م) وكان النصر حليف العثمانيين، في الوقت الذي قتل فيه السلطان الغوري، وتفرق جيشه ورحل من بقي منه إلى مصر.

وأثمر هذا النصر تساقط المدن الرئيسية في أيدي العثمانيين تباعا، مثل: حلب، وحماه، وحمص، ودمشق، وفلسطين، وغزة، ثم دخل السلطان سليم الأول مصر حيث انتصر على السلطان "طومان باي" آخر سلاطين دولة المماليك الشراكسة في معركة الريدانية في (29 من ذي الحجة 922هـ = 23 من يناير 1517م) ودخل العثمانيون القاهرة، وقضوا على كل محاولة للمقاومة التي انتهت بالقبض على "طومان باي" وإعدامه، لتطوى بذلك صفحة دولة المماليك، وتنتقل من مسرح التاريخ إلى كتبه.

الحجاز عثمانية

وفي أثناء إمامة السلطان سليم الأول استقبل وفدا من أعيان الحجاز بعث به الشريف بركات أمير مكة المكرمة، وكان على رأس هذا الوفد ابنه أبوغي حاملا رسالة من والده، يعلن فيها قبوله أن تكون الحجاز تحت السيادة العثمانية، وأعطاه مفاتيح الكعبة المشرفة، وبعض الآثار النبوية الشريفة كالعلم النبوي، وقوس وسهم، وشعيرات من لحيته صلى الله عليه وسلم، كما دخلت بعض مناطق اليمن تحت السيادة العثمانية.

ترتب على دخول الأقاليم الإسلامية الأربعة وهي مصر والشام والحجاز وبعض مناطق اليمن تحت الحكم العثماني أن أصبح البحر الأحمر بحيرة عثمانية، وتدعم الوجود الإسلامي فيه، وتم إيقاف محاولات البرتغاليين للسيطرة عليه، وساد الأمن والأمان على مياهه حيث أغلقت مياهه في وجه السفن المسيحية، وأجبرتها الدول العثمانية على تفريغ شحناتها في ثغر المخا في اليمن، ثم يعاد شحنها على سفن إسلامية يعمل عليها قباطنة وبحارة مسلمون وتمخر بها عباب البحر الأحمر، وتتوقف على ثغوره وموانيه حتى السويس شمالا.

خادم للحرمين

ترتب أيضا على فتوحات سليم الأول أن أصبحت الدولة العثمانية تضم الأماكن المقدسة في الحجاز، متمثلة في المسجد الحرام حيث الكعبة المشرفة، والمسجد النبوي الشريف مثوى النبي (صلى الله عليه وسلم) بالإضافة إلى المسجد الأقصى في فلسطين، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى الرسول (صلى الله عليه وسلم).

وقد أضفى كل هذا على الدولة العثمانية زعامة دينية، وأضيف إلى ألقاب السلطان العثماني سليم الأول لقب "حامي الحرمين الشريفين أو خادم الحرمين الشريفين"، وصار لقبا لكل من جاء بعده من الخلفاء.

العثمانيون خلفاء

بعد انتصار السلطان سليم الأول في معركة مرج دابق خطب له في أول صلاة جمعة صلاها في حلب باعتباره خليفة للمسلمين وسكت العملة باسمه. وتذهب بعض الروايات التاريخية إلى أن الخليفة العباسي المتوكل على الله آخر الخلفاء العباسيين في مصر تنازل عن الخلافة لبني عثمان في مراسم جرت في آياصوفيا بعد عودته مع السلطان سليم الأول إلى إستانبول. وتضيف بعض الروايات أن الخليفة المتوكل قلد السلطان العثماني سليم السيف، وألبسه الخلعة في جامع أبي أيوب الأنصاري بعد مراسم آياصوفيا.

وأيا ما كان الأمر، فقد أصبحت الدولة العثمانية هي مركز الثقل في العالم، وأصبح سلطانها هو خليفة المسلمين لا ينازعه في هذا اللقب أحد، غير أن اهتمام العثمانيين بهذا اللقب الجليل ازداد منذ القرن التاسع عشر الميلادي، واتخذوا من الخلافة وإحياء مجدها واسترداد ما كان لها من الهيبة والنفوذ والمكانة وسيلة لمقاومة ضغوط الدول الأوروبية والاستعمارية على الخلافة العثمانية.

وفاة الخليفة سليم الأول

عاد السلطان سليم الأول إلى العاصمة إستانبول بعد أن حقق مجدا للدولة العثمانية واتساعا في رقعتها ومساحتها، وحاملا لقب الخلافة المجيد، وفي أثناء إقامته هبت فتنة شيعية في منطقة طوقاد الأناضولية سنة (625هـ = 1519م) فأرسل إليها أحد قواده، فنجح في إخمادها والقضاء عليها، وأعاد السكون إليها. وفي سنة (926هـ = 1520م) توفي سليم الأول بعد أن قضى في الحكم تسع سنوات.‏‏‏

منقول

عبدالغفور الخطيب
10-03-2006, 03:08 AM
هولاكو في بلاد الشام

(في ذكرى دخول التتار لحلب: 9 من صفر 658هـ)

دخل المغول الهمج بغداد حاضرة الخلافة العباسية، معلنين سقوط المدينة التليدة والعاصمة المتلألئة بنجوم العلم والأدب والثقافة، في واحدة من كبرى المآسي التاريخية التي حلّت بتاريخ المسلمين والبشرية، وذلك في الرابع من صفر سنة 656م.

ولم يكن دخولهم المدينة دخول الفاتحين الذين يعرفون قيمة المدينة والحضارة، ويقدّرون حقوق الإنسان، وإنما كان دخول العواصف الهائجة التي تدمر في طريقها كل شيء، فاستباحوا المدينة، وقتلوا السواد الأعظم من أهلها الذين قُدّروا بنحو مليون قتيل، وأضرموا النار في أحياء المدينة، وهدموا المساجد والقصور، وخربوا المكتبات وأتلفوا ما بها من تراث إنساني، وأصبحت المدينة التي كانت قِبْلَة العلم ومركز الحضارة أثرًا بعد عين.

الهلع يصيب العالم الإسلامي

لم يتحرك قادة البلاد المجاورة لنجدة بغداد ونصرة خليفتهم، وإنما تركوا المدينة تلقى مصيرها المحتوم، دون أن تثور في نفوسهم الشجاعة والفداء، أو تتحرك في أفئدتهم أخلاق المروءة والنصرة، فاكتفوا بالمشاهدة ورؤية المآسي والنكبات التي حلّت بالمدينة البائسة، يقيد الخوفُ خَطْوهم وتحركهم، ويعصب الهلع أعينهم، ويملأ الخوف قلوبهم؛ فتوقفت عقولهم عن التفكير، وانكفأ كل واحد منهم حول ذاته لا يدري ما مصيره.

وليت الأمر اقتصر على الهلع والفزع الذي ملأ قلوب هؤلاء القادة، وإنما هرولوا إلى هولاكو، يقدمون له فروض الطاعة والولاء، ويعلنون خضوعهم لسلطانه وجاهه، ويهنئونه بما ناله من "فتح"، وما أحرزه من نصر، ولو كان على أشلاء مليون مسلم لقوا حتفهم في بغداد.

وكان ممن حضر لتهنئة هولاكو في بغداد "بدر الدين لؤلؤ" أتابك الموصل، وكان شيخًا في الثمانين من عمره فشكره هولاكو على تعاونه معه بما قدمه من جند وعتاد وخيول.

كما وفد عليه اثنان من سلاجقة الروم، بلغت الذلة وهوان النفس بأحدهما أن رسم صورته على زوج من الأحذية، وقدمه إلى هولاكو قائلا له: "عبدك يأمل أن يتفضل الملك فيُشرّف رأس عبده بوضع قدمه المباركة عليها"!!.

أوضاع الشام قبل حملة هولاكو

كانت بلاد الشام في أثناء تلك المحنة يحكم الأيوبيون أجزاء كبيرة منها، فهم يسيطرون على ميافاريقين، وماردين، وحصن كيفا، والكرك، ودمشق، وحماة، وحمص، ولم تكن العلاقات بين حكام تلك البلاد ودية، على الرغم من انتسابهم إلى بيت واحد وأسرة واحدة كريمة، هي أسرة صلاح الدين الأيوبي.

وبدلاً من أن توحّد المحنة التي حلت بالمسلمين بينهم، وتنظم صفوفهم في وجه الخطر الداهم ظلوا على عنادهم وخلافاتهم المستمرة دون تقدير للمسئولية، أو إحساس بالخطر القادم؛ فتساقطوا كأوراق الشجر على يد المغول، وسارع بعضهم بإعلان الخضوع قبل مجيء هولاكو.

موقف الناصر يوسف الأيوبي

كان الملك "الناصر يوسف الأيوبي" صاحب حلب ودمشق أقوى الأمراء الأيوبيين، وأكثر قدرة واستعدادًا لمواجهة هولاكو لو رغب، لكنه لم يفعل، وأطارت محنة بغداد قدرته على التصرف بحكمة، فأعلن مبكرًا خضوعه للمغول، وأرسل ابنه "العزيز" وكان صغير السن إلى هولاكو، يحمل إليه الهدايا والتحف ويهنئه بالنصر، ويعلن خضوعه لسلطانه، ويطلب منه أن يمده بنجدة تساعده على الاستيلاء على مصر، وتخليصها من حكم دولة المماليك الذين انتزعوا الملك من بيته.

لم يكتف الملك الناصر بالخضوع لحكم المغول الوثني، بل استنصره ضد إخوانه المسلمين، غير أن هولاكو رأى أن وفد الملك الناصر لا يناسب مقامه، ولا يرضي غروره، فكتب إليه رسالة غاضبة يأمره بالإسراع إليه بنفسه، وتقديم آيات الخضوع دون قيد أو شرط، فانزعج السلطان الأيوبي، وحل الفزع والهلع قلبه، وفقد رباطه جأشه، وأدرك أنه هالك لا محالة؛ فاستعد استعداد اليائس لمواجهة المغول، وبعث بأسرته إلى مصر، وجلس ينتظر ما تسفر عنه الأحداث.

خروج حملة هولاكو

خرج هولاكو في شهر رمضان (657 هـ= 1259م) مع حلفائه من أمراء جورجيا وأرمينيا من عاصمة دولته "مراغة" في أذربيجان، متجهًا إلى الشام، يهز الأرض بجيشه البالغ مائة وخمسين ألف جندي، فاستولى على مدينة " ميافاريقين" عاصمة ديار بكر، وكانت تحت سيطرة الملك "الكامل محمد الأيوبي" الذي أبلى هو وجيشه بلاء حسنًا، وأظهروا فنونا من الشجاعة والفداء تثير الإعجاب والتقدير.

ولم تسقط المدينة إلا بعد أن عجزت عن المقاومة لقلة المؤن وانتشار الأوبئة، وهلاك أكثر الناس، واضطر الملك الكامل إلى التسليم، بعدما استنفد كل أسباب المقاومة ولم يعد للتصدي لزحف المغول جدوى.. وبعد التسليم قتل المغول الملك الشجاع شرّ قِتْلَة، وحملوا رأسه على رمح؛ انتقامًا منه لشجاعته ويقظته وشدة بأسه، وإشاعةً للفزع والهلع في نفوس المسلمين، ليقتنعوا بعدم جدوى الدفاع والصمود في وجه الطوفان المغولي.

الطريق إلى حلب


وبعد استيلاء هولاكو على ميافاريقين اتجه إلى ماردين، وكانت في قبضة الملك "السعيد" فوقف في وجه المغول موقفًا شجاعًا، فعجزوا عن اقتحام المدينة رغم الحصار المفروض عليها لمدة ثمانية أشهر، وحاول أحد أبناء الملك السعيد أن يدفع أباه إلى التسليم، فلما رفض قتله ذلك الولد العاق، وسلم المدينة لـ"هولاكو" فكافأه بأن جعله واليًا عليها بدلاً من أبيه.

وفي أثناء حصار هولاكو لماردين كانت جيوشه تستولي على مدن الشام، فاستولى على نصيبين، وحران، والرها.

سقوط حلب

استعدت حلب بقيادة حاكمها الأيوبي الملك "المعظم توران شاه" لمواجهة المغول الغزاة، واتفقت كلمة أهلها على الجهاد، ومواجهة هؤلاء الهمج، مهما كانت التضحيات، فلما وصل جيش الغزاة ضرب حصارا على المدينة، وبعث هولاكو برسالة إلى الملك المعظم يطلب فيها أن يسلمه المدينة، وأن يلقي بسلاحه ويهدم أسوار قلعة حلب وتحصينات المدينة.. وفي نظير ذلك سيعطيه الأمان لنفسه وشعبه، لكن توران شاه لم يجبه إلى ما طلب، وعزم على المقاومة، وأصرّ على الجهاد.

اشتعل القتال بين الجانبين، وعجز المغول عن اقتحام أسوار حلب، وأبدى المدافعون عن المدينة ضروبًا من الشجاعة البالغة والإقدام، وقدّموا تضحيات كثيرة؛ فاضطر هولاكو إلى رفع الحصار عن المدينة، لكنه عاد إليها مرة أخرى؛ خوفًا على هيبة جيوشه من الضياع، وإصرارًا على إخضاع أي مدينة مهما كان ثمن الحصار، وفي هذه المرة عاود الاتصال مرة أخرى بتوران شاه، مكررًا ما طلبه في المرة الأولى، وكان جواب السلطان الرفض لإنذار هولاكو ووعيده.

أمام إصرار أهل حلب على الدفاع اشتد حصار المغول للمدينة، ولجئوا إلى إقامة حائط مرتفع تجاه المدينة، ونصبوا عليه المجانيق التي راحت تضرب سور المدينة، حتى نجحوا في نقب السور.

وفي التاسع من صفر سنة 658 هـ الموافق 25 من يناير 1260م نجح المغول في اقتحام المدينة الصامدة، وأباحها هولاكو لجنوده سبعة أيام، فقتلوا أهلها وسبوا نساءها وأطفالها، ونهبوا قصورها وبيوتها ومتاجرها، ونشروا الخراب في كل أرجائها، وقبل أن يغادروا المدينة تركوها شعلة من اللهب والدخان.


منقول

عبدالغفور الخطيب
11-03-2006, 02:55 AM
سليمان بن عبد الملك على أبواب القسطنطينية

(في ذكرى وفاته: 10 من صفر 99هـ)

تولى سليمان بن عبد الملك خلافة الدولة الأموية وهي بالغة الازدهار واسعة الثراء غنية بالموارد فسيحة الأرجاء متماسكة البناء مليئة بالرجال وأصحاب المواهب الفذة، وكانت الدولة الأموية في عهد سلفه الكريم الوليد بن عبد الملك قد شهدت اتساعا في الرقعة هيأته لها حركة الفتوح الإسلامية في الشرق والغرب.

أما المشرق فقد قاد فتوحاته "قتيبة بن مسلم الباهلي" فاتح بلاد ما وراء النهر، و"محمد بن القاسم الثقفي" فاتح بلاد السند في شبه القارة الهندية. وأما الغرب فقد حمل لواء الفتح فيه القائدان العظيمان: "موسى بن نصير"، و"طارق بن زياد".

وتمتعت الدولة الأموية بثورة هائلة مكنتها من إقامة نهضة عمرانية وتشييد المساجد الرائعة، ولا يزال المسجد الأموي شاهدا قويا على ما بلغه فن العمارة من رقي وجمال، كما مكنتها هذه الثروة من تقديم خدمات اجتماعية وطبية تُعطى دون أجر للناس، فعينت الدولة لكل مُقعد خادما، ولكل ضرير قائدا يأخذ بيده، ولكل مريض مزمن من يقوم بحاجته.

هكذا كانت الدولة الأموية حين وليها "سليمان بن عبد الملك" بعد وفاة أخيه الوليد في (15 من جمادى الآخرة 99 هـ = 25 من فبراير 715م)، ولم يكن مستغربا أن يستمر سليمان في هذه السياسة الرشيدة التي وضعت الدولة الأموية في المكانة اللائقة بها؛ فقد كان من أكبر أعوان أخيه الوليد ومن أركان دولته، إلى جانب ملكاته الخاصة من حب للجهاد، وجنوح إلى العدل، وفصاحة في اللسان، وقدرة على اختيار الرجال الأكفاء.

سياسة سليمان بن عبد الملك

استهل سليمان بن عبد الملك خلافته بما ينبئ عن سياسته الجديدة؛ فاستعان في إدارة الدولة وتصريف شئونها بعظماء الرجال وصالحيهم، وأحاط نفسه بأهل الرأي والفطنة والدين والعلم من أمثال ابن عمه عمر بن عبد العزيز ورجاء بن حَيْوة.

وفي الوقت الذي استعان بأمثال هؤلاء الرجال العدول الأكفاء استغنى عن رجال الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان يتمتع بثقة أخيه الوليد وتقديره، وكانوا يشغلون إدارات مهمة في الدولة الأموية، ويميلون إلى الشدة والظلم في معاملة الرعية كما كان يفعل الحجاج، غير أنه اشتط في تنفيذ تلك السياسة فنالت من بعض القيادات ذات الأثر العظيم في تاريخ الإسلام، ولم يكن كريما في التعامل معهم حتى وإن ثبت أنهم ارتكبوا بعض الأخطاء، لكن كراهيته للحجاج جعلته يبالغ في التعامل بقسوة مع رجاله وولاته وأهل بيته.

فعزل محمد بن القاسم، وأتي به مقيدا إلى العراق؛ حيث وضع في السجن وظل به إلى أن لقي ربه. ومن العجيب أن هذا البطل الذي قتله أهله وعشيرته حزن عليه أهل السند الذين فتح بلادهم لما رأوا فيه من عدل وسماحة وحرية.

وكذلك صنع بموسى بن نصير حيث أساء معاملته في بادئ الأمر لخلاف حول تقدير الغنائم التي أتى بها من الأندلس، ثم لم يلبث أن عفا عنه، وتحسنت العلاقة بين الرجلين حتى إنه صاحبه في حجته (سنة 97هـ = 716م).

وأما قتيبة بن مسلم وهو من قادة الحجاج بن يوسف الثقفي فقد كان يعلم مقدار كراهية سليمان بن عبد الملك للحجاج، فلما ولي الخلافة خشي قتيبة من انتقامه؛ لأنه وقف إلى جانب الوليد بن عبد الملك حين أراد أن يخلع أخاه سليمان من ولاية العهد ويجعلها لابنه؛ ولذلك عزم قتيبة على الخروج على سليمان وجمع جموعًا لذلك عن رجاله وأهل بيته، لكن حركته فشلت وانتهت بقتله سنة (96 هـ = 715م).

محاولة فتح القسطنطينية

عني الخليفة سليمان بن عبد الملك بفتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، وكان فتحها حلما راود خلفاء الأمويين فخرجت حملتان في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لهذا الغرض، لكنهما لم تكللا بالنجاح، كانت الأولى في سنة (49 هـ = 669م) والثانية حاصرت المدينة الحصينة سبع سنوات (54-60 هـ = 674 –680م)، وقد سبق أن تناولنا هذا الموضوع مفصلا في التاسع عشر من المحرم.

أعد سليمان بن عبد الملك جيشا عظيما بلغ زهاء مائة ألف جندي، وزوده بنحو ألف وثمانمائة سفينة حربية، وأسند قيادته إلى أخيه مسلمة بن عبد الملك، وأمره بالتوجه إلى القسطنطينية لمحاصرتها، واتخذ سليمان من مدينة "دابق" شمالي الشام مركزا لقيادته ومتابعة أنباء الحصار، وكان سليمان قد آل على نفسه حين خرج من دمشق إلى "دابق" ألا يرجع إلى دمشق حتى تفتح القسطنطينية أو يموت هناك.

وقد حاصرت قوات مسلمة بن عبد الملك القسطنطينية من ناحية البر، في الوقت الذي أخذت فيه السفن الإسلامية تحاصر المدينة من البحر وتقطع عنها الإمدادات والمؤن التي قد تصل إليها، ودام الحصار عاما كاملا (98-99 هـ) استخدمت خلاله القوات البحرية النفط لأول مرة واستعانوا بنوع من المجانيق يشبه المدفعية، وأظهر الجنود المسلمون أروع آيات الشجاعة والحماس البالغ، وتحملوا برد الشتاء. وذاق البيزنطيون مرارة الحصار، لكن المدينة استعصت على السقوط في أيدي المسلمين على الرغم من الاستعدادات الكبيرة للجيش الأموي وتضحياته الجسيمة.

وفاة سليمان بن عبد الملك

وفي أثناء الحصار توفي الخليفة سلميان بن عبد الملك وهو مقيم بدابق يتابع الأخبار عن الجيش في (10 من صفر 99هـ) ولذا يعده بعض العلماء شهيدا؛ لأنه كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية "تعهد ألا يرجع إلى دمشق حتى تفتح أو يموت؛ فمات هناك فحصل له بهذه النية أجر الرباط في سبيل الله".

وقد توج سليمان بن عبد الملك أعماله بما يدل على حرصه على مصلحة المسلمين؛ فاختار عمر بن عبد العزيز قبل موته ليكون وليا للعهد ويخلفه من بعده، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة أصدر أوامره بسحب القوات الإسلامية المحاصرة للقسطنطينية والعودة إلى الشام.‏‏‏


منقول

عبدالغفور الخطيب
13-03-2006, 02:19 AM
ذكا الأعور.. ونصر لم يكتمل

(في ذكرى دخوله مصر: 12 صفر 302 هـ)



في عهد الخليفة العباسي "المكتفي" كانت بدايات دعوة "عبيد الله المهدي"، وحينما استشعر الخليفة بوادر الخطر الكامن وراء تلك الدعوة أراد القبض عليه والتخلص منه، ولكن المهدي استطاع الهرب من الشام مع ابنه أبي القاسم وعدد من أعوانه ومواليه، بعد أن تخفوا في زي التجار.

ووصل المهدي إلى القيروان التي اتخذها مركزًا لدعوته؛ فالتف حوله عدد كبير من المؤيدين والأنصار حتى استطاع تأسيس الدولة الفاطمية بها، وقد وجدت دعوة المهدي في بلاد المغرب أرضًا خصبة ومناخًا ملائمًا لها بعيدًا عن سلطة الخلافة، كما وجدت تعاطفًا مع دعاتها الذين فروا من الشرق بعدما تعرضوا لصنوف الاضطهاد والتنكيل.

الفاطميون في المغرب

وتمكن الفاطميون من التمركز في الشمال الأفريقي في المناطق التي ضعفت فيها سلطة الخليفة العباسي وقصر عنها نفوذ دولته، ومع تنامي قوة الفاطميين وتعاظم سلطانهم بدءوا يتطلعون إلى بسط نفوذهم على مصر، وسعوا إلى الاستيلاء عليها عدة مرات، وقد نبهت هذه المحاولات الخلافة العباسية إلى ذلك الخطر المرتقب القادم من المغرب.

وأدرك الخليفة العباسي المقتدر ضرورة التصدي للفاطميين وردعهم، فأرسل جيشا من بغداد عام (301هـ=914م) جعل على رأسه واحدًا من أمهر القادة العباسيين، وأكثرهم حنكة ودهاء، وهو "مؤنس الخادم" الذي نجح في صد هجوم جيش الفاطميين بقيادة "أبي القاسم بن عبيد الله المهدي"، وأجبرهم على الجلاء عن مصر.

عودة الفاطميين

ولكن ذلك لم يدفع الفاطميين إلى التخلي عن حلمهم في فتح مصر، فقد أرسل المهدي جيشا كبيرا بقيادة "حُباسة" اتخذ هذه المرة طريق البحر، واستطاع الاستيلاء على الإسكندرية دون مقاومة تُذكر، ثم سار بجيوشه متجهًا إلى الفسطاط؛ فخرج إليه المصريون في ملحمة قتالية رائعة اشتركت فيها جموع الشعب مع الجيش، وكان النصر حليف المصريين، وفرَّ حُباسة بفلول جيشه المهزوم إلى المغرب؛ فقتله المهدي هناك.

ذكا الأعور وجواسيس الفاطميين

ومع الهدوء الذي شهدته مصر في أعقاب انتصارها على جيوش الفاطميين أرسل الخليفة العباسي "المقتدر" واليًا جديدًا على مصر هو "ذكا الأعور" أو "ذكا الرومي" فدخلها في (12 من صفر 302هـ = 28 من سبتمبر 915م).

وبدأ ذكا الأعور عهده بالعمل على تأمين البلاد، واهتم بشحذ الروح المعنوية بين الشعب وإعادة ثقته في دولته من خلال الكشف عن جواسيس الفاطميين في مصر ومحاكمتهم على جرائمهم؛ فقد كانوا يساهمون في إضعاف الروح المعنوية بين الناس عن طريق نشر الشائعات، وبث الفرقة والشقاق بين الشعب، كما كانوا يكاتبون الفاطميين، ويرسلون إليهم بالأخبار، ويطلعونهم على عورات البلاد ومواطن الضعف فيها؛ فقبض على كثير منهم، ونكل بهم حتى يكونوا عبرة لغيرهم، ويشعر الناس بالأمن، ويثقوا بأن يد الدولة القوية قادرة على حماية شعبها، والنيل من كل من يتهددها بالخطر، وأن عينها الساهرة قادرة على كشف أعدائها.

ثم خرج في جيش كبير إلى الإسكندرية في (المحرم 304هـ = يوليو 916م) ليشعر الفاطميين بقوته، ويبدد هواجسهم وأطماعهم في غزو مصر؛ فأقام بها فترة، ثم عاد إلى الفسطاط في (ربيع الأول 304هـ = أكتوبر 916م) وترك عليها ابنه مظفر.

وأدرك ذكا بفطنته وخبرته أن الفاطميين سيعودون -ولا شك- قريبا، وأنهم لم يتخلوا عن حلمهم بالاستيلاء على مصر، وضمها إلى دولتهم التي أخذت تنمو وتتسع يومًا بعد يوم، ورأى ضرورة تحصين مداخل مصر الغربية، فأعاد تحصين مدينة الإسكندرية حتى تستطيع أن تصمد في وجه الفاطميين إذا ما عاودوا غزوها من جديد بعد أن أظهرت التجربة من قبل سهولة استيلاء الفاطميين عليها.

وصدقت فراسة ذكا وحدث ما توقعه؛ فقد أعد المهدي جيشا كبيرا جعل عليه ابنه أبا القاسم، ووصلت طلائع الجيش إلى الإسكندرية في (شهر صفر 307هـ = يوليو 919م) وما إن تنامت أخبار وصول هذا الجيش إلى السكان حتى سيطر عليهم الذعر والفزع، وعمّت الفوضى بين الناس وساد الاضطراب، وأفلت زمام الأمور من يد "مظفر بن ذكا"، وهرب كثير من أهل البلاد إلى الشام، ومات عدد كبير منهم في الطريق.

وهكذا وجد الفاطميون الطريق مفتوحًا أمامهم للتوغل داخل البلاد، فاحتلوا الفيوم وجزءًا كبيرًا من الصعيد، ليلتفوا بذلك حول الفسطاط.

ذكا في محنة

وكان ذكا مقيما في الفسطاط يحاول حشد جنوده لملاقاة الجيش الفاطمي، لكن عددا كبيرا منهم رفض الخروج للقتال، وبالرغم من الظروف القاسية التي أحاطت بالوالي في الفسطاط؛ فإنه استطاع في النهاية أن يخرج في جيش محدود العدد والعدة إلى الجيزة، واستعد ذكا للحرب بتلك الإمكانات المحدودة، كان من المستحيل عليه أن يخرج لقتالهم بهذا الجيش الصغير، ومن ثم فقد أمر ببناء حصن على الجسر الجنوبي للجيزة، وحفر خندقا يحيط بعسكره حتى لا يفاجئه العدو، وكان يهدف من وراء ذلك المحافظة على قواته ومناوشة العدو، ومحاولة إلحاق أكبر قدر من الخسائر به، واستنزافه حتى يصل إليه مدد الخليفة العباسي.

ملحمة الموت والنصر

وفي هذه الظروف العصيبة أصيب ذكا بمرض تُوفي على إثره في (11 من ربيع الآخر 307هـ = 10 من سبتمبر 919م) ولم تدم إمارته أكثر من أربع سنين وشهر.

وما لبث الخليفة المقتدر أن أرسل بقواته لنجدة المصريين، فأشعل ذلك حماستهم، وهبت جموع الشعب تقاتل الفاطميين إلى جوار الجيش حتى ألحقوا بهم الهزيمة، وأسروا عددا كبيرا منهم بعد أن فرَّ من نجا منهم إلى المغرب.

وبالرغم من تحقق النصر الذي جاهد ذكا من أجله، وبالرغم من الهزيمة الساحقة التي مُني بها الفاطميون، فإنهم لم ييأسوا، وظلوا يتحينون الفرصة للعودة من جديد.


منقول

عبدالغفور الخطيب
14-03-2006, 04:21 AM
الفتنة الكبرى.. بداية سياسية ونهاية عقائدية

(في ذكرى التحكيم بين علي ومعاوية: 13 من صفر 37هـ)


رُوِّعت مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان (رضي الله عنه) في واحدة من المآسي الكبرى في التاريخ، ولم يكن مقتله عن ذنب اقترفه أو جرم ارتكبه أو سياسية باطشة التزمها أو ظلم أوقعه على أمته، وإنما استشهد في فتنة عمياء شهدتها المدينة المنورة، دبّر لها من دبّر، وأعد لها مخططوها لتفريق الأمة، وشغلها في حرب طاحنة تلتهم ثرواتها وزهرة شبابها، وتستنفد ثرواتها ومقومات حياتها.

وكان وراء إثارة هذه الفتنة اليهودي "عبد الله بن سبأ"، الذي ادعى الإسلام في عهد عثمان، وبث أفكاره الخبيثة بالناس، وأخذ بنشرها في البلاد، وراح يخطط للنَّيل من عثمان بن عفان وولاته؛ فاستجاب له بعض ضعاف النفوس وأهل الأهواء.

سيطر الثائرون وأهل الفتنة على المدينة المنورة، وكانوا نحو عشرة آلاف من البصرة والكوفة ومصر، وبقيت الأمة بغير خليفة يدبر لها أمورها، وظل "الغافقي بن حرب" وهو من زعماء الفتنة يصلي بالناس إماما في مسجد النبي (صلي الله عليه وسلم) عدة أيام قبل أن يختار الناس خليفتهم، وأصبح الناس في حيرة من أمرهم.

وفي هذا الموقف العصيب لم يكن هناك من الصحابة من هو أجدر لمنصب الخلافة الراشدة من علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)؛ فهو أقدمهم سابقة في الإسلام، وأشدهم بأسا وشجاعة، وأكثرهم علما وفقها، وأبلغهم لسانا وبيانا؛ فاتجهت إليه الأنظار، وتعلقت به القلوب والآمال ليحمل مسئولية الأمة وقيادة الركب في هذه الفتنة الهوجاء والمحنة القاسية التي ألمت بالمسلمين، فقبل المنصب، وتحمل تبعاته بشجاعة واحتساب صادق، وتمت البيعة المباركة في اليوم (25 من ذي الحجة 35هـ = 24 من يونيو 656م).

المهمة الصعبة

تولى علي بن أبي طالب الخلافة ودم سلفه العظيم عثمان بن عفان لم يجف بعد، وقاتِلوه لا يزالون بالمدينة، وعليه أن يقتص من قتلة عثمان ويعيد للخلافة هيبتها، وكان ذلك مطلبا عاما؛ فذهب إليه طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام يطلبان منه أن يقيم حد القصاص على قتلة عثمان، فأجابهما بأن الأمر يحتاج إلى تمهل وتأنٍ؛ فالذين قاموا بالقتل عدد قليل، ولكن وراءهم عشرة آلاف يملئون المدينة قد خدعوا بهم، وهم مستعدون للدفاع عنهم؛ ولذلك عندما كانوا يسمعون قائلا يقول: من قتل عثمان؟ كانوا يجيبون في صيحة واحدة نحن جميعا قتلناه، فاقتنع الصحابيان الجليلان بما قاله علي بن أبي طالب لهما.

وكانت الخطوة التي أقدم عليها أمير المؤمنين "علي" هي عزل كل الولاة الكبار الذين كانوا على عهد عثمان (رضي الله عنه) حتى تهدأ الفتنة وتستقر الأمور، وكان هؤلاء الولاة قد اتخذهم أهل الفتنة والثورة ذريعة للطعن على عثمان بن عفان، والخروج عليه، واتهامه ظلما وبهتانا بمحاباتهم ومجاملتهم؛ فعزل "معاوية بن أبي سفيان" عن ولاية الشام، و"عبد الله بن سعد بن أبي السرح" عن ولاية مصر، و"عبد الله بن عامر" عن ولاية البصرة، و"أبا موسى الأشعري" عن ولاية الكوفة.

أصداء القرارات الصعبة

وهذا القرار الأخير راجعه فيه ابن عمه عبد الله بن عباس؛ لا اعتراضا على القرار الذي هو من حق الخليفة في أن يعين من يراه جديرا بتحمل المسئولية، والقيام بأمر الولاية التي يتولاها على خير وجه، وأن يكون هناك تنسيق بين الخليفة وأمرائه في الولايات، ولكن لأن الأوضاع العامة لا تزال مضطربة، والنفوس مشتعلة، والفتنة قائمة تحتاج إلى وقت حتى تهدأ.

ولذا اقترح عليه ابن عباس أن يرجئ تنفيذ هذا القرار فترة ولو لمدة سنة، أو يعزل من يشاء من الولاة، ويبقي معاوية على ولاية الشام؛ لأن معاوية لم يكن محل شكوى الثائرين، ولم يشترك أهل الشام في الفتنة، ولكن الإمام علي أصر على تنفيذ القرار؛ محتجا بأن الثائرين إنما ثاروا غضبا من ولاة عثمان، ولن تهدأ ثورتهم ما لم يُعزلوا، وكان من أثر ذلك أن الولاة الجدد تسلموا مهامهم خلفا لولاة عثمان، في الوقت الذي رفض معاوية بن أبي سفيان أن ينفذ القرار، ومنع دخول "سهل بن حنيف" الوالي الجديد إلى الشام من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

دارت رسائل ومخاطبات بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان حول هذا الشأن؛ الأول يطلب من الآخر أن يبايعه بالخلافة، وأن يذعن لأوامره باعتباره الخليفة الشرعي المبايَع من كبار الصحابة. على حين يطالب معاوية من الخليفة أن يقتص من قتلة عثمان باعتباره ولي دمه؛ لأنه ابن عمه قبل أن يبايعه بالخلافة.

وقد ظل الأمر على هذا النحو شهرين من خلافة علي، والرسائل تدور بينهما دون أن تحقق نتيجة مرضية؛ حتى فوجئ الإمام علي بن أبي طالب برسالة من معاوية تتضمن عبارة واحدة "من معاوية إلى علي"؛ وهو ما يعني أن معاوية لم يقر بخلافة علي بن أبي طالب، وأنه مُصر على موقفه؛ إذ لم يصفه بأمير المؤمنين، وأدرك علي (رضي الله عنه) أن حمل معاوية على البيعة لن يكون إلا بالقوة؛ فاستعد لذلك، وإن كانت هذه الخطوة نصحه في عدم الإقدام عليها بعض الصحابة، ومنهم ابنه "الحسن بن علي" (رضي الله عنه).

موقعة الجمل

وفي الوقت الذي أخذ فيه الإمام علي بن أبي طالب يجهز للخروج إلى الشام، جاءه ما لم يكن يتوقع؛ فقد كانت أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) قد أدت فريضة الحج، فسمعت وهي في طريقها إلى المدينة بنبأ مقتل عثمان، فغضبت لهذه الجريمة البشعة، وقفلت راجعة إلى مكة، وأخذت تردد: "قتل والله عثمان مظلوما، لأطلبن بدمه".

وفي مكة التقت بطلحة والزبير وبعض بني أمية من قوم عثمان، واتفقوا جميعا على تجهيز جيش للأخذ بالقصاص من قتلة عثمان، واتجهوا إلى البصرة؛ باعتبارها أقرب بلد من البلاد التي اشترك أهلها في الفتنة والخروج على عثمان (رضي الله عنه).

وصلت هذه الأنباء إلى علي بن أبي طالب؛ فاضطر إلى تغيير خطته بالذهاب إلى البصرة لا إلى الشام قبل أن يصل جيش عائشة ومن معها إلى البصرة، لكنها كانت أسبق منه في الوصول إليها، غير أن والي البصرة "عثمان بن حنيف" أصر على منعهم من دخول البصرة، ودارت معركة صغيرة قتل فيها نحو 600 من الفريقين؛ فارتاعوا من كثرة القتلى، وتنادوا إلى السلم وعقد الصلح وانتظار قدوم الإمام علي إلى البصرة.

وصل الإمام علي إلى البصرة، وعلم بما حدث من سفك الدماء؛ فأرسل رسولا إلى معسكر السيدة عائشة لبحث الأمر، وكانت النيات حسنة تبغي الإصلاح؛ فاتفقوا على الصلح، وتجديد البيعة للإمام علي بن أبي طالب.

غير أن أنصار الفتنة ساءهم هذا الاتجاه، وأدركوا أن الصلح بين الفريقين لا يتفق وأهدافهم، وسيجعل علي يقوى بانضمام الفريق الآخر إليه، ويجعله قادرا على إقامة الحد عليهم باعتبارهم قتلة عثمان؛ ولذا سارع زعيم الفتنة "عبد الله بن سبأ" و"الأشتر النخعي" ولم يكن لعلي حيلة في وجودهم في معسكره، ولا يقدر على منعهم؛ لكونهم قوة كبيرة تساندهم عصبيات قبلية؛ مما ضعف من صلابة جيش علي ووحدته، وأثار الفُرقة والانقسام فيه فيما بعد.

وتلخص اقتراح ابن سبأ في أن يشنوا غارة بدون علم الإمام علي في جنح الليل على جيش عائشة، وهم نائمون؛ فقام أتباعه بتنفيذ اقتراحه، وكان هذا مقدمة لحرب "الجمل" التي راح ضحيتها اثنان من خيرة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- هما طلحة والزبير (رضي الله عنهما)، ونحو 20 ألفا من المسلمين.

والحقيقة أن الصحابة الكرام لم يكونوا راغبين في إراقة الدماء، ولا يمكن أن يقع ذلك منهم، وقد رأينا رغبتهم في الصلح وحقن الدماء لولا أن أتباع ابن سبأ أفسدوا كل شيء، وأشعلوا الحرب بعد أن قتلوا عثمان بن عفان.

وبعد المعركة أسند علي ولاية البصرة إلى عبد الله بن عباس، وانصرف إلى الكوفة ليستعد لإخضاع معاوية بن أبي سفيان أمير الشام الذي أعلن المعارضة من دون الولاة، وحاول الخليفة أن يحسم الأمر بالحسنى والسلم، لكن المفاوضة بينهما لم تصل إلى حل يحقن الدماء لإصرار معاوية على مطلبه بتسليم قتلة عثمان ليقتلوا به، ثم يكون الأمر للأمة إن شاءت اختارت عليا وإن شاءت رفضت بيعته.

معركة صفين

بعد وقعة الجمل استعد على بن أبي طالب لمحاربة معاوية، وتحرك بجيشه الكبير الذي يبلغ عدده 100 ألف إلى صفين، وهو سهل يقع على الجانب الغربي لنهر الفرات شمال بلدة الرقة، وفي الوقت نفسه استعد معاوية لهذه المعركة الحاسمة بجيش يقترب من جيش علي، وقبل المعركة دارت مراسلات بينهما بلغت أكثر من شهر ما بين أواخر شهر ذي الحجة سنة 36 هـ إلى بداية شهر المحرم 37هـ، لكنها لم تؤدِّ إلى نتيجة، وفي غرة صفر من عام 37هـ اشتعلت الحرب بين الفريقين، وظلت 10 أيام متصلة قتل خلالها الآلاف من المسلمين، واشتد الخطب على الفريقين، ووقعت الخسائر الضخمة في جانب جيش معاوية، وأصبحت هزيمتهم قاب قوسين أو أدنى، وعند ذلك رأى معاوية أن يضع حدا لهذا الأمر، فطلب من "عمرو بن العاص" الرأي والمشورة؛ حتى يمكن الإبقاء على البقية من أبطال الإسلام الذين هزموا فارس والروم فأشار عمرو بطلب التحكيم.

رفع المصاحف

أصدر معاوية إلى كبار رجاله بأن يرفع كل منهم مصحفا على رمحه، إشارة إلى الاحتكام إليه، وارتفعت صيحة في جيشه تقول: كتاب الله بيننا وبينكم، مَن لثغور الشام بعد أهل الشام؟ ومَن لثغور العراق بعد أهل العراق؟ ومن لجهاد الروم؟ ومن للترك؟ ومن للكفار؟ ورُفع في جيش معاوية نحو 500 مصحف.

توقفت الحرب، وارتضى الطرفان أن يعودا إلى الحكمة وتحكيم القرآن بينهما، وأناب كل واحد منهما شخصا ينيب عنه، ويتفاوض باسمه في القضايا محل الخلاف؛ فأناب "علي" أبا موسى الأشعري، وأناب "معاوية" عمرو بن العاص، وعقد لذلك وثيقة كُتبت في يوم الأربعاء الموافق (13 من صفر سنة 37هـ = 1من أغسطس 657م) عُرفت بوثيقة التحكيم.

وجعلت الوثيقة شهر رمضان من سنة 37هـ أقصى مدة لإعلان قرار التحكيم، إلا إذا رأى الحكمان مد المدة، وفي "دومة الجندل" اجتمع الحكمان، وبعد مباحثات طويلة وصلا إلى نتيجة ظنا أنها أفضل الحلول، وهي عزل علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) من الخلافة، ورد الأمر إلى الأمة تختار من تشاء على أن تبقى البلاد تحت المتخاصمين في يديهما؛ فتبقى البلاد التي تحت حكم علي، وهي الدولة الإسلامية عدا الشام في يده، ويتصرف معاوية في حكم الشام التي تحت يديه.

رفض الإمام علي بن أبي طالب هذه النتيجة؛ لأن الخلاف لم يكن قائما على منصب الخلافة، وإنما على إقامة الحد على قتلة عثمان، وعلى بيعة معاوية لعلي بن أبي طالب.. وتطورت الأحداث بعد ذلك، وانقسم جيش "علي" على نفسه، وظهرت فرقة "الخوارج" الذين انشقوا عليه، واضطر علي لمحاربتهم؛ مما أضعف جبهته، واستنفد كثيرا من جهده، وشاءت الأقدار أن تكون نهايته على يد واحد من الخوارج؛ فاستشهد في (17 من رمضان سنة 40 هـ = 26 من يناير سنة 661)..

منقول

عبدالغفور الخطيب
15-03-2006, 01:48 AM
فتح المدائن.. سقوط إمبراطورية الفرس

(في ذكرى فتحها: 14 من صفر 16 هـ)

بعد أن فتح المسلمون دمشق، وقضت الجيوش الإسلامية على جحافل الروم في الشام، اتجه أبو عبيدة بن الجراح على رأس جيشه الذي يضم خيرة أبطال المسلمين وفيهم سيف الله خالد بن الوليد إلى حمص لفتحها؛ إحكامًا لسيطرة قبضة المسلمين على الشام.

وأراد الخليفة عمر بن الخطاب أن يوجه جيشًا آخر إلى العراق ليقضي على نفوذ الفرس بها، بعد أن بدأت بوادر الضعف والانهيار تدب في إمبراطوريتهم العتيقة، وكان عمر بن الخطاب يريد أن يخرج على رأس هذا الجيش، ولكنه بعد أن استشار أصحابه، أشاروا عليه أن يبقى في المدينة، ويؤمّر على الجيش رجلا غيره، فنزل على رأي الجماعة، وبدأ عمر يبحث عن الرجل المناسب للقيام بهذه المهمة الخطيرة فأشار عليه أصحابه بأن يؤمّر "سعد بن أبي وقاص".

وخرج سعد من المدينة إلى العراق في أربعة آلاف فارس، واستطاع سعد وجنوده أن يحققوا أعظم الأمجاد، وسطّروا أروع البطولات، وتوالت انتصارات المسلمين على الفرس في القادسية ثم بُهْرَسِير التي كانت ضاحية للمدائن على الضفة الغربية لدجلة، لا يفصلها عن المدائن سوى النهر، ولا تبعد عن بغداد بأكثر من عشرين ميلا إلى الجنوب.

القرار الصعب

بعد فتح بهرسير أراد سعد أن يعبر بجنوده إلى المدائن، ولكنه وجد أن الفرس قد أخذوا السفن كلها حتى يمنعوهم من العبور إليهم.

جمع سعد جنوده وأخبرهم بعزمه على عبور دجلة إلى المدائن، فوجد منهم حماسًا شديدًا ورغبة أكيدة في السير إلى الفرس وفتح عاصمتهم المدائن، وقسم سعد جيشه إلى عدة كتائب، وجعل على رأس كل منها قائدًا من أمهر رجاله، وأكثرهم حنكة وكفاءة، فجعل على الكتيبة الأولى "كتيبة الأهوال" عاصم بن عمرو الملقب بذي البأس، وجعل على الكتيبة الثانية "الكتيبة الخرساء" القعقاع بن عمرو، ثم سار هو على بقية الجيش.

كتيبة الأهوال

وتقدمت الكتيبتان في إيمان وشجاعة؛ فلا البحر يخيفهم ولا الفرسان المتربصون بهم على الشاطئ الآخر يرهبونهم.. وأسرع المسلمون يعبرون النهر بخيولهم حتى امتلأت صفحة النهر بالخيل والفرسان والدواب، فلا يرى أحد الماء من الشاطئ لكثرة الخيل والفرسان؛ فلما رأى الفرس المسلمين وقد خاضوا النهر إليهم راحوا يجمعون فرسانهم للتصدي لهم، ومنعهم من الخروج من الماء، واجتمع عدد كبير من فرسانهم حول الشاطئ مدججين بالسلاح يترقبون وصول المسلمين ليرشقوهم بالسهام والرماح، ويقضوا عليهم قبل أن يصلوا إلى الشاطئ.

ولكن قائد الأهوال عمرو بن عاصم يدرك بسرعة ما ينتظرهم، فيأمر رجاله أن يشرعوا رماحهم، ويصوبوها إلى عيون خيل الفرس، وتنطلق الرماح وكأنها البرق الخاطف إلى عيون الخيول، فتعم الفوضى بين صفوف الفرس، وتضطرب صفوفهم، ويفرون أمام المسلمين، وقد امتلأت نفوسهم رعبًا وفزعًا، وهم لا يملكون كف خيولهم، يطاردهم فرسان كتيبة الأهوال.

المسلمون في المدائن

وانطلق المسلمون نحو الشاطئ بخيولهم القوية، وهي تصهل في حماس، وتنفض الماء عن أعرافها في قوة، فلما رآهم القوم أخذهم الفزع، وانطلقوا لا يلوون على شيء.

ودخل المسلمون المدائن فاتحين منتصرين، وغنموا ما تحويه من نفائس وذخائر، بعد أن فر كسرى وجنوده حاملين ما استطاعوا حمله من الأموال والنفائس والأمتعة، وتركوا ما عجزوا عن حمله.

ووجد المسلمون خزائن كسرى مليئة بالأموال والنفائس، ولكن هذه الكنوز لم تُغرِ أيًّا منهم بالاستيلاء عليها لنفسه، ولم تراود أحدًا منهم نفسه على أخذ شيء منها، ودخل سعد القصر الأبيض بالمدائن، وانتهى إلى إيوان كسرى، وهو يقرأ قوله تعالى: "كم تركوا من جنات وعيون *وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قومًا آخرين" (الدخان: 25-2.

ثم صلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينهن، كما صلى من قبلُ في قصر كسرى الآخر في بهرسير.

يد تقاتل وأخرى تحمل السلام

وعرض المسلمون على أهل المدائن ما عرضوه من قبل على إخوانهم في بهرسير:

"إما الإسلام؛ فإن أسلمتم فلكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فمناجزتكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم". فأجابوهم إلى الجزية، وقالوا: "لا حاجة لنا في الأولى ولا في الآخرة.. ولكن الوسطى". وأرسل سعد السرايا في إثر كسرى، فلحق بهم بعض المسلمين، فقتلوا عددًا كبيرًا منهم، وفر الباقون، واستولى المسلمون على ما معهم من الغنائم والأسلاب، وكان فيها ملابس كسرى وتاجه وسيفه وحليه.

وانتشر المسلمون في المدائن تلك المدينة الساحرة التي طالما داعبت أحلامهم، وتمنوا فتحها، وأخذوا يجمعون المغانم الكثيرة التي ظفروا بها من الذهب والفضة والسلاح والثياب والأمتعة والعطور والأدهان، فأرسلوا ذلك إلى عمر بن الخطاب، وكان فيما أرسلوه سيف كسرى وأساوره؛ فلما وضعت بين يديه نظر إليها متعجبًا وهو يقول: إن أقوامًا أدّوا هذا لَذَوو أمانة".. فرد عليه علي بن أبي طالب: إنك تعففتَ فعفّت الرعية.

سراقة يلبس سواري كسرى

وكان في القوم سراقة بن مالك الذي وعده النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم الهجرة أنه سيلبس سواري كسرى، فتناول عمر السوارين وألقاهما إليه، فوضعهما سراقة في يديه، لتتحقق بشارة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ووعده لسراقة، حيث كان النبي مهاجرًا خارجًا من بلده، فارًا بدينه مطاردًا من قومه، ضعيفًا إلا من إيمانه بالله، وثقته في نصره إياه.

فلما رآهما عمر في يدي سراقة قال: "الحمد لله.. سوارا كسرى بن هرمز في يدي سراقة بن مالك".

ثم أطرق عمر قليلا، وكسا الحزن والأسى صوته وهو يقول: "اللهم إنك منعتَ هذا رسولك ونبيك، وكان أحب إليك منّي، وأكرمَ عليك مني، ومنعته أبا بكر، وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، وأعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي".. ثم بكى حتى أشفق عليه المسلمون من حوله.

وهكذا سقطت المدائن عاصمة الفرس العريقة في أيدي المسلمين فكان سقوطها إيذانا بانهيار إمبراطورية الفرس كلها، وبداية صفحة جديدة من تاريخ فارس، بعد أن بادر كثير من أهالي تلك البلاد إلى الدخول في الإسلام؛ لما وجدوه من الحرية والعدل وحسن المعاملة في ظل الإسلام، بعدما قاسوا طويلاً من ظلم دهاقين الفرس وجور حكامهم، مما ساعد على المزيد من الفتوحات الإسلامية في بلاد المشرق.


منقول

عبدالغفور الخطيب
16-03-2006, 03:38 AM
معركة العقاب.. ونهاية دولة الموحدين

(في ذكرى وقوعها: 15 من صفر 609هـ)

قامت دولة الموحدين في المغرب في القرن السادس الهجري على أساس دعوة دينية خالصة، تلتزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتستهدف إقامة خلافة إسلامية تعود بالمسلمين إلى عهد الخلفاء الراشدين، وكان يقود هذه الدعوة الإصلاحية الشيخ "محمد بن تومرت"، وجمع حوله الأتباع إليه، ثم قام تلميذه "عبد المؤمن بن علي الكومي" بمتابعة دعوته، وتنظيم الأعوان، ودخل في صراع مع دولة المرابطين دام أكثر من خمسة عشر عامًا، إلى أن نجح في إحكام قبضته على المغرب الأقصى، ودخول مراكش عاصمة المرابطين في سنة (541هـ= 1146)، معلنًا شروق دولة جديدة، هي دولة الموحدين.

الموحدون بالأندلس

وبعد نجاح "عبد المؤمن بن علي" في إقامة دولته بالمغرب، وإرساء دعائمها، ووضع نظمها وقوانينها -اتجه إلى الأندلس لضمها إلى دولته، وتنظيم شئونها والدفاع عنها ضد هجمات النصارى، فنجح في ذلك، وأقام على قواعد الأندلس رجالاً من آل بيته.

وبعد وفاته سنة (558 هـ= 1163م) خلفه ابنه "يوسف" فاستكمل سياسة أبيه، ووطّد نفوذ دولته في الأندلس، وبعث إليها بالجيوش لتأمين ثغورها، وتقوية إماراتها. وفي إحدى غزواته فيها سنة (579 هـ= 1183م) أصيب بسهم عند أسوار "شنترين"، فرجع إلى مراكش مصابًا، وقضى نحبه بها سنة (580هـ=1184م).

بطل معركة الأرك

ولي "يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن" خلافة دولة الموحدين بعد أبيه، وتلقب بالمنصور، وكان قائدًا ماهرًا، وسياسيًا قديرًا، ورجل دولة من الطراز الأول، ويعد من أبطال المسلمين العظام في القرن السادس الهجري.

وقد أولى المنصور الموحدي عناية فائقة بالأندلس، وتأمينها ضد هجمات مملكتي قشتالة وليون المسيحيتين، واتخذ من عقد معاهدات الصلح معها سبيلاً إلى تحقيق الأمن في الأندلس، ثم اضطرته الأحداث إلى خوض المعارك ضدهما حين نقضا المعاهدات ونكثا بالعهود وهاجما أراضي المسلمين، وكانت معركة "الأرك" التي خلّدها التاريخ وكان هو بطلها الأول، ووقعت أحداثها في (التاسع من شعبان 591هـ= 18 من يوليو 1195م) عند حصن الأرك، وأسفرت عن نصر مؤزر للمسلمين، وانكسار حدة الهجمات النصرانية بعد أن خسرت القوات القشتالية نحو ثلاثين ألفا.

عناية بالأندلس

لم تقتصر عناية الموحدين بتوفير الأمن والحماية للأندلس وتقوية ثغورها وقواعدها، وإنما تعدى الاهتمام إلى الارتقاء بالأندلس والنهوض به، ورعاية مظاهر النهضة فيه، فأقام الخليفة "يوسف بن علي" بعض المشروعات في إشبيلية، لعل من أشهرها بناء القنطرة على نهر الوادي الكبير، وتأسيس جامع إشبيلية الأعظم سنة (567 هـ= 1172م)، ثم أتمّ ابنه المنصور مئذنته الكبيرة سنة (584هـ= 1188م)، ولا تزال هذه المئذنة قائمة حتى الآن، وتعرف باسم "لا خيرا لدا" ويبلغ ارتفاعها 96 مترًا.

ما قبل موقعة العقاب

بعد هزيمة "ألفونسو الثامن" ملك قشتالة وليون في معركة الأرك عقد هدنة بين المسلمين والنصارى سنة (594هـ= 1198م)، غير أن تلك الهزيمة كانت تقض مضجعه، وتثير في نفسه نوازع الانتقام؛ فانتهز فرصة الهدنة في تحصين قلاع بلاده الواقعة على الحدود، ونبذ الفُرقة والخصام مع خصومه من ملوك النصارى، حتى إذا وجد في نفسه القوة نقض المعاهدة، وأغار على بلاد المسلمين، فعاث فسادًا في أراضي جيان وبياسة وأجزاء من مرسية.

ولم يكن أمام سلطان الموحدين الناصر "محمد بن يعقوب" الذي خلف والده المنصور بد من التجهيز والإعداد، لأخذ ملك قشتالة على يده، فاستنفر المسلمين للغزو والجهاد، فجاءته الجيوش من سائر أقطار المغرب الإسلامي، وعبر البحر إلى الأندلس في (19 من ذي القعدة 607هـ= 4 من مايو 1211م) ووصل إلى إشبيلية، وأقام بها لإعداد جيشه وتنظيم قوته، ثم تحرك في مطلع سنة (608 هـ= 1211 م) صوب مملكة قشتالة، واستولى على قلعة "شلطبرة" إحدى قلاع مملكة قشتالة بعد حصار دام ثمانية أشهر، ثم عاد بجيشه إلى إشبيلية بعد دخول فصل الشتاء رغبة منه في إراحة جيشه.

المعسكر القشتالي

ترك ألفونسو الثامن قلعة شلطبرة تقع في قبضة المسلمين دون أن يتحرك لنجدتها وإنقاذها، وصرف همه إلى استنفار أوروبا كلها ضد المسلمين في الأندلس، وبعث الأساقفة إلى البابا "أنوسنت الثالث" بروما يناشده إعلان الحرب الصليبية في أوروبا، وحث أهلها وشعوبها على السير إلى إسبانيا لقتال المسلمين، وعقد مؤتمرًا لتوحيد جهود الإمارات المسيحية في أسبانيا لقتال الموحدين، وأطلق صيحته المشهورة: "كلنا صليبيون"، فتوافدت على طليطلة جموع النصارى المتطوعين من كافة أنحاء المدن الأسبانية، يقودهم القساوسة والأساقفة.

وقد أثمرت جهود "ألفونسو الثامن" في استنفار أوروبا كلها ضد المسلمين، حيث أنذرهم البابا بتوقيع عقوبة الحرمان الكنسي على كل ملك أو أمير يتأخر عن مساعدة ملك قشتالة، كما أعلن الحرب الصليبية، وتوافدت جحافل الصليبيين من كل أنحاء أوروبا استجابة لدعوة البابا، واجتمع منهم نحو سبعين ألف مقاتل، حتى إن طليطلة لم تتسع لهذه الجموع الجرارة، فأقام معظمهم خارج المدينة.

تحركت هذه الجيوش الجرارة التي تجاوزت مائة ألف مقاتل تحت قيادة "ألفونسو الثامن" من مدينة طليطلة في (17 من المحرم سنة 609هـ = 2 من يونيو 1212م)، فاخترقت حدود الأندلس، وضربت حصارًا حول قلعة رباح، وكانت حاميتها صغيرة نحو سبعين فارسًا، دافعوا عن موقعهم بكل شجاعة وبسالة، واستنجد قائد الحامية "أبو الحجاج يوسف بن فارس" بالخليفة الناصر الموحدي، لكن رسائله لم تكن تصل إلى الخليفة؛ فلما طال الحصار، ورأى "ابن قادس" استحالة المقاومة مع فناء الأقوات وقلة السلاح، ويئس من انتظار وصول المدد، صالح ألفونسو على تسليم الحصن له، على أن يخرج المسلمون آمنين على أنفسهم، واستمر زحف القوات الصليبية؛ فاستولت على حصن الأرك وبعض الحصون الأخرى.

الجبهة الإسلامية


ولما علم الناصر بخروج الجيوش المسيحية المجتمعة خرج للقائهم، واستنفر الناس من أقاصي البلاد، فاجتمعت إليه جيوش كثيفة من القبائل المغربية والمتطوعة وجند الموحدين النظاميين، وجند الأندلس، وتألف من تلك الجموع الجرارة جيش عظيم بلغ نحو ثلاثمائة ألف مقاتل، وكان ممن وفد عليه بإشبيلية "أبو الحجاج يوسف بن قادس" قائد حامية رباح، فأمر الناصر بقتله دون أن يسمع حجته أو يحاط علمًا بملابسات التسليم، وأثار قتله غضب الكتائب الأندلسية على الخليفة الناصر الموحدي.

استعد كل من الطرفين للقاء، والتقيا في أحد الوديان بين جبال سير مورينا، وهضبة لينارس، بالقرب من بلدة "تولوسا"، ويطلق الأسبان على هذه الوديان اسم "نافاس"؛ ولذا عرفت الموقعة عندهم باسم "لاس نافاس دي تولوسا"، ويسمي المؤرخون المسلمون هذا الموضع بـ"العقاب"، نسبة إلى حصن أموي قائم بالقرب من المكان الذي دارت فيه المعركة.

وفي (15 من صفر 609 هـ= 17 من يوليو 1212م) نشبت المعركة بين الفريقين، وأقبلت مقدمة جموع الصليبيين الضخمة، فاجتاحوا الجند المتطوعة وكانوا في مقدمة الجيش، فأبادوهم عن آخرهم، وتمكنوا من الوصول إلى قلب الجيش الموحدي واشتبكوا معه، لكن القلب صمد لهذا الهجوم الجامح، ولاح النصر للمسلمين.

فلما رأى ذلك ملك قشتالة اندفع بقواته وقوات مملكتي ليون والبرتغال وكانت تمثل قلب الجيش الصليبي، واندفع وراءه ملكا "أرغون" و"نبرة" بقواتهما وكانا يمثلان جناحي الجيش، فأطبقا على الجيش الموحدي من كل جانب، فاضطربت صفوف الجيش، ولاذ الجند بالفرار؛ مما أربك أوضاع الجيش الذي استسلم للهزيمة القاسية.

وفر الناصر من ساحة القتال مع مجموعة من رجاله، وخسر المسلمون الألوف من المجاهدين في الأندلس، وعددا كبيرا من خيرة العلماء والفقهاء والقضاء، واستولى النصارى على معسكر الموحدين بجميع محتوياته من العتاد والسلاح والخيام والبسط والأقمشة والدواب. ولا تزال بعض أعلام الموحدين وخيمهم في معركة العقاب محفوظة في إسبانيا.

وقد فجع الموحدون بهذه الهزيمة القاسية التي راح ضحيتها الألوف من زهرة جنود المسلمين؛ مما أضعف دولة الموحدين، وأفقدهم هيبتهم وقوتهم. وبعد وفاة الناصر سنة (610هـ = 1213م) بدأ الضعف يتسلل إلى الدولة، ويتطرق إليها الخلاف والفرقة؛ مما أضعف الأندلس، وشجع النصارى على تصفية ما بقي للمسلمين من أرض، واختزلت دولتهم في مملكة غرناطة في جنوب الأندلس.

منقول

عبدالغفور الخطيب
17-03-2006, 02:36 AM
سليمان القانوني والعلاقات الدولية

(ذكرى معاهدة بين فرنسا وإستانبول: 16 من صفر 960هـ)


بلغت الدولة العثمانية في عهد سليمان القانوني ذروة المجد، وبسطت سلطانها على معظم بلدان العالم الإسلامي، وبعض الدول الأوروبية، وارتقت فيها النظم الإدارية على نحو يثير الإعجاب والتقدير، وسنت القوانين التي تنظم الحياة بكل دقة وعدالة، ودون أن تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وازدهرت العمارة والبناء.

وكان وراء تلك النهضة الشاملة السلطان سليمان القانوني. وكان شاعرا له ذوق فني رفيع، ويجيد الخط، وعددا من اللغات الشرقية من بينها العربية، وكان له بصر بالأحجار الكريمة، كل ذلك إلى جانب قدرته الفائقة على قيادة الجيوش وإدارة الدولة، وممارسة الدبلوماسية بكل فنونها.

الانفتاح على الدولة الأوروبية

خطا السلطان سليمان القانوني خطوات واسعة في سياسة انفتاح الدولة في علاقاتها مع الدولة الأوروبية، وبخاصة فيما يتعلق بالنشاط التجاري، فعقد عدة معاهدات لتنظيم تلك العلاقات التجارية. وتدحض تلك المعاهدات ما يروجه بعض الباحثين من أن الدولة العثمانية فرضت عزلة على ولاياتها العربية عن أوروبا، وقد سبق أن أقدم السلطان سليم الأول في أثناء إقامته بمصر بعد الفتح العثماني لها سنة (923هـ=1517م) على عقد معاهدة تجارية مع جمهورية البندقية، لزيادة النشاط التجاري لها في مصر.

معاهدات مشرفة

عقد السلطان سليمان القانوني معاهدة مع "فرنسوا الأول" ملك فرنسا سنة (934هـ=1528م) حددت فيها الدولة العثمانية الامتيازات التي سبق أن منحها سلاطين دولة المماليك الشراكسة للفرنسيين، وكفلت المعاهدة الجديدة لتجار فرنسا ورعاياها الأمن والسلامة على أرواحهم وأموالهم ومتاجرهم، في المدة التي يمكثون فيها في أراضي الدولة العثمانية، وتعطي لهم الحق في التنقل بحرية برا وبحرا، وممارسة التجارة، دون أن يمسهم أحد بسوء، أو يتعرضوا لمضايقات من قبل السلطات العثمانية.

ونظمت المعاهدة إقامتهم وطريقة معيشتهم في أحياء أو خانات خاصة بهم، نصت على عدم المساس بكنائسهم أو فرض ضرائب عليها.

وشجّع نجاح تطبيق هذه المعاهدة أن سارع ملك فرنسا فرنسوا الأول والسلطان سليمان القانوني على إبرام معاهدة جديدة، قوى من الإسراع في عقدها العلاقات الودية التي تربط بين العاهلين الكبيرين، وعقدت هذه المعاهدة سنة (941هـ=1535م) وعرفت باسم معاهدة صداقة وتجارة بين الإمبراطورية العثمانية وفرنسا كانت أكثر شمولا من المعاهدة السابقة، وتقرر فيها منح فرنسا وسائر رعاياها الذين يذهبون إلى أقاليم الدولة العثمانية شتى الامتيازات في مقابل منح الرعايا العثمانيين امتيازات مماثلة لها تقريبا.

ونظرًا للعلاقات الحسنة التي كانت تربط السلطان سليمان القانوني بفرنسا فإنه استجاب لطلب ملكها "فرنسوا الأول" مساعدات حربية أثناء الحرب التي اشتعلت بين فرنسا والإمبراطورية الرومانية حول دوقية ميلان في شمالي إيطاليا، فأبحر "خير الدين برباروسا" من إستانبول في المحرم (950هـ=مايو 1543م) على رأس قوة بحرية كبيرة إلى جنوبي فرنسا؛ لمساعدتها في تخليص ميناء "نيس" من قبضة "شارل الخامس"، ونجح بمساعدة "بولان" القائد البحري الفرنسي في استعادة ميناء نيس في (ربيع أول 950هـ=يوليو 1543م).

ميناء طولون.. للعثمانيين

وفي (السادس عشر من جمادى الآخرة 950هـ=16 من سبتمبر 1543م) عقدت معاهدة بين الدولة العثمانية وفرنسا، تركت فيها الأخيرة ميناء طولون الفرنسي برضاها لإدارة الأتراك، وهو من الأحداث الفريدة في التاريخ التي لا تقع إلا نادرا؛ إذ تحول طولون وهو الميناء الحربي لفرنسا إلى قاعدة حربية إسلامية للدولة العثمانية التي كانت في حاجة ماسة إليه؛ إذ كان الأسطول العثماني يهاجم في غير هوادة الأهداف العسكرية الأسبانية التي كانت تهدد دول المغرب العربي والملاحة بالبحر المتوسط.

وفي الفترة التي ترك فيها ميناء طولون للدولة العثمانية أخلي الثغر الفرنسي من جميع سكانه بأمر من الحكومة الفرنسية، وطلبت منهم أن يأخذوا معهم جميع أمتعتهم وأموالهم، وعدَّت رفض الهجرة من المدينة عصيانا للحكومة الفرنسية.

وتحول طولون إلى مدينة إسلامية عثمانية، رفع عليها العلم التركي، وارتفع الأذان في جنبات المدينة في أوقات الصلاة، وظل العثمانيون في المدينة ثمانية أشهر، شنَّوا في خلالها هجمات بحرية ناجحة على سواحل أسبانيا وإيطاليا.

وقد أدى هذا التحالف بين الدولة العثمانية وفرنسا إلى ازدياد السخط في أوروبا على "فرانسوا الأول" الذي دعم تحالفه مع العثمانيين، إلى الحد الذي جعله يسمح بتحويل ميناء طولون إلى قاعدة بحرية إسلامية تخدم الأسطول العثماني، وأطلق الرأي العام الأوروبي على هذا التعاون عبارة الاتحاد المدنس بين فرنسا والهلال.

وبعد موت ملك فرنسا فرانسوا الأول انتهج ابنه "هنري الثاني" سياسته في دعم علاقته بالدولة العثمانية، وتوثيق الصداقة، والاستعانة بأسطولها البحري وقت الحاجة، فعقد معاهدة مع الدولة العثمانية في (16 من صفر 960هـ=1 من فبراير 1553م) بمقتضاها تساعد البحرية العثمانية فرنسا في فتح جزيرة كروسيكا، وأن يقدم لها 60 سفينة حربية مجهزة بالأفراد والعتاد، ونصت الاتفاقية على أن تكون الغنائم والأسرى من نصيب العثمانيين ولو كانوا من المسيحيين، كما حوت الاتفاقية على نصوص أخرى لتنظيم التعاون بين الدولتين في هذا المجال، ونجح الأسطول العثماني والفرنسي في فتح جزيرة كروسيكا بفضل هذا التحالف.

أثر سلبي

ولما استشرى نفوذ الدول الأوروبية وازداد تدخلها في شئون الدولة العثمانية في أثناء مرحلة ضعفها اتخذت من المعاهدات التي أجرتها معها سندا لهذا التغلغل والتدخل في سياسة الدولة أكثر مما مضت عليه تلك المعاهدات التي قامت على أساس تبادل الحقوق والواجبات بين الأوروبيين الموجودين في الدولة العثمانية والرعايا العثمانيين في الدول الأوروبية.

منقول

عبدالغفور الخطيب
18-03-2006, 01:52 AM
الشام في قبضة التتار

(في ذكرى سقوط دمشق بيد التتار: 17 من صفر 658هـ)

شرع هولاكو بعد سقوط بغدد في الرابع من صفر 656 هـ في الاستعداد للاستيلاء على بلاد الشام ومصر؛ حتى يستكمل إحكام الحلقة على المشرق الإسلامي، وفق الخطة المرسومة التي وضعها له أخوه "منكوقا آن" خان المغول الأعظم.

ثم أشعل تلك الرغبة في غزو الشام التحالف الذي أبرم بين الحكام المسيحيين في غربي آسيا والمغول، فقد رأى "هيتوم" ملك أرمينية الصغرى أن الفرصة قد سنحت له لاستخلاص الشام بوجه عام وبيت المقدس بوجه خاص إذا وضع يده في يد المغول، ودخل في هذا التحالف "بوهيمند" السادس ملك إنطاكية، وكانت تخضع للصليبيين، ويرجع الفضل في إقامة هذا التحالف إلى "دوقوز خاتون" زوجة هولاكو المسيحية التي كانت موضع حبه وتقديره.

الشام تستعد لمواجهة الغزو

تنازع إقليم الشام في تلك الفترة ثلاث قوى رئيسية متمثلة في سلطة الأرمن المسيحيين والصليبيين والأيوبيين الذين ينتسبون إلى الأسرة الأيوبية التي أسسها بطل حطين صلاح الدين الأيوبي، ويحكمون مدن ميافارقين، وحصن كيفا، والكرك، وحلب، ودمشق، وحماة، وحمص.

وكان موقف تلك القوى من حملة هولاكو على الشام متباينًا كل التباين، ما بين التحالف مثلما فعل الأرمن، أو التردد بين المقاومة والاستسلام مثلما فعل الأيوبيون، أو الانتظار عما تسفر عنه الأحداث وهو الموقف الذي التزم به معظم الصليبيين.

خروج حملة هولاكو إلى الشام

خرج "هولاكو" في شهر رمضان سنة (657هـ = 1295م) من أذربيجان مع حلفائه من أمراء جورجيا وأرمينية الصغرى، ويقود طلائع جيشه القائد المغولي "كيتو بوقا" متجهين إلى الشام، وكانت "ميافارقين" بديار بكر أول مدينة تبتدئ بها الحملة المغولية الغازية، وكانت تحت حكم الملك الكامل "محمد بن الملك المظفر بن العادل الأيوبي"، الذي لم يهتز قلبه لجيوش المغول الجرارة، أو يتطرق الهلع إلى نفسه فيبادر بالتسليم كما فعل غيره، ولم ينخدع بأقوال المغول المعسولة التي تدعوه إلى الطاعة والانقياد، وإنما أصر على الجهاد والمقاومة، واستمر الحصار مدة عامين دون أن يفلح المغول في اقتحام المدينة التي أظهر المدافعون عنها ضروبًا من الشجاعة والإقدام، غير أن طول مدة الحصار، ونفاد المؤن، وانتشار الوباء، وهلاك معظم سكان المدينة، دفع الملك الكامل إلى الاستسلام، فسقطت المدينة الباسلة بعد أن استنفدت كل أسباب المقاومة.

وبعد سقوط "ميافارقين" واصل المغول زحفهم نحو ماردين، فاستسلمت بعد ثمانية أشهر من الحصار، وفي أثناء حصار "ميافارقين" كان هولاكو يغزو الإمارات الإسلامية في بلاد الشام، فاستولى على نصيبين، واستسلمت له حران والرها، وقتل أهالي مدينة سروج عن آخرهم، واحتل "البيرة"، وعبر نهر الفرات، وأغار على "منبج" وسفك دماء كثير من أهلها.

سقوط حلب

بعد ذلك تقدم هولاكو على رأس جيش كبير يعاونه الأرمن والفرنج لمحاصرة حلب، ونصب المغول عشرين منجنيقًا حول المدينة، وصاروا يمطرونها بوابل من القذائف، حتى اضطرت المدينة إلى التسليم في التاسع من صفر 658هـ، وأما قلعة حلب فقد استعصت عليهم، واستمرت تقاوم ثلاثين يومًا، ثم استلمت القلعة للمغول.

وعندما هدأت الأحوال أمر هولاكو بوقف المذابح التي ارتكبها المغول، وأعطى ملك الأرمن جزءًا من الغنائم، وأعاد إليه الأقاليم والبلاد التي فتحها مسلمو حلب، كما رّد إلى "بوهيمند" جميع الأراضي التي أخذها منه المسلمون.

ثم رحل المغول إلى قلعة حارم بالقرب من إنطاكية، وأبى أهلها تسليم المدينة إلا لفخر الدين المعروف بالساقي والي قلعة حلب؛ لأنه رجل مؤمن صادق، فتظاهر هولاكو بالموافقة، وقلبه يتميز بالغيظ، فاستدعى فخر الدين لاستلام القلعة، وما إن تم ذلك حتى أمر هولاكو بقتل فخر الدين، ثم بقتل جميع من في القلعة صغارًا وكبارًا، أطفالاً ونساءً. وبعد سقوط قلعة حارم، سقطت حماة والمعرة وحمص في أيدي المغول.

كانت رحلة هولاكو إلى دمشق مليئة بالمخاطر، قاوم حملته عدد من القادة والأبطال من الأسرة الأيوبية، وأظهروا مواقف مشرفة، وأبدوا ضروبًا من الشجاعة النادرة والإيمان الصادق، ولم تسقط مدينتهم إلا بعد استنفاد كل أسباب المقاومة، وسيذكر التاريخ بطولاتهم التي لم تتأثر بدعايات المغول أنهم قوم لا ينهزمون، وأن النصر يمشي في ركابهم أينما حلوا.

وفي مقابل ذلك سارع بعض أمراء البيت الأيوبي بتقديم فروض الطاعة والولاء، وكان موقف كل من الملك الأشرف موسى الأيوبي والملك الناصر يوسف الأيوبي مخريًا. أما الأول فقد جاء إلى هولاكو وهو على أسوار حلب معلنًا ولاءه وطاعته، فكافأه هولاكو بأن رد إليه مدينة حمص، واختاره نائبًا عنه ببلاد الشام.

أما الآخر فقد بادر بإعلان الخضوع والتبعية عقب سقوط بغداد، ويتعجب المرء من موقفه المتهافت على الرغم من كونه أقوى الأمراء الأيوبيين باعتباره صاحب حلب ودمشق، وأكثرهم قدرة واستعدادًا لمواجهة المغول وتجميع الصف ضدهم، لكنه لم يفعل، ولم ينهض لنجدة ميافارقين، وفي ذلك يقول المقريزي في كتابه المعروف "السلوك" في أثناء تأريخه لحوادث سنة 656هـ: "وفيها توجه صاحب ميافارقين إلى الملك الناصر صاحب حلب يطلب منه نجدته ليمنع المغول من الدخول إلى الشام، فاستخف برأيه، ولم يسمع مشورته، بل سوَّفه وسرحه من عنده بالأمان".

ولم يقف الناصر عند هذا الحد من التخاذل، بل أظهر الضعف والخضوع، وسبق أن فصلنا ذلك في اليوم التاسع من صفر.

استسلام دمشق

استعدت المدينة العريقة لمواجهة الغزو والتصدي للاحتلال، وحشد الملك الناصر كل ما استطاع جمعه من قوات، وانضم إليه أعداد ضخمة من المتطوعين، وتألف من ذلك نحو مائة ألف مقاتل، لكنهم كانوا غثاءً كغثاء السيل، فما إن وصلت الأنباء باقتراب المغول حتى انفض هؤلاء، وأسرعوا بالفرار لا يلوون على شيء، وتركوا مواقعهم في ميدان القتال.

ولم يكن الناصر أقل منهم سرعة في الفرار هو الآخر، فاتجه إلى غزة ومعه حاشيته وأسرته وأمواله تاركًا دمشق لمصيرها المحتوم، دون أن يبذل جهدًا للدفاع عنها.

أما أهالي دمشق، فقد عرفوا ما حلَّ بحلب بعد مقاومتها للغزو المغولي، وخشوا أن يلقوا نفس المصير إذا حاولوا مقاومتهم، فآثروا السلامة، وسارع عدد من أعيانها إلى هولاكو، يقدمون له الهدايا، ويطلبون منه الأمان، ويعرضون عليه تسليم مدينتهم فقبل ذلك، لكن شاءت الأقدار أن يغادر هولاكو الشام ويعود إلى بلاده ويعهد بمهمة مواصلة الغزو إلى "كيتو بوقا" أحد قواده الكبار، فدخل المدينة على رأس قواته في (السابع عشر من صفر 658هـ = 2 من فبراير 1260م) دون مقاومة، وهكذا سقطت مدينة دمشق عاصمة الأمويين وحاضرة الشام تحت أقدام المغول.

أما قلعة مدينة دمشق فقد أصرت على المقاومة والجهاد، فحاصرها المغول وضربوها بالمجانيق حتى استسلمت، وقتلوا من كان بها من الأهالي والجنود، ونهبوا جميع دورها ومتاجرها وجميع مساجدها.

وبعد استيلاء المغول على دمشق، استكملوا غزوهم، فقتلوا حامية نابلس، وتقدموا إلى غزة دون أن يلقوا مقاومة تذكر، ولم يبق أمامهم بعد إخضاع الشام إلا مصر آخر معقل للإسلام في الشرق.


منقول

عبدالغفور الخطيب
19-03-2006, 02:35 AM
المغول.. من الهمجية إلى الإسلام

(في ذكرى محاولتهم الاستيلاء على الشام: 18 من صفر 712هـ)


عرف العالم المغول في طورهم الأول شعبًا همجيًا؛ أباد الناس، وهدم الحضارة، وأفسد في الأرض، وألقى الرعب والفزع في الأفئدة والقلوب، وعانى العالم الإسلامي من جراء عاصفة هذا الطور خرابًا وتدميرًا، ثم لم تلبث هذه العاصفة أن هدأت وسكنت، وجاء الوقت الذي تأثر فيه المغول الهمج بحضارة المسلمين؛ فاعتنقوا دينهم، وشرعوا في إصلاح ما أفسده آباؤهم، وأقبلوا يسهمون في الحضارة الإسلامية.

السلطان محمود غازان

بتولي السلطان محمود غازان عرش الدولة الإيلخانية سنة (694هـ= 1295م) بدأ عصر جديد في تاريخ المغول؛ حيث كان أول مرسوم يصدره ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وبإسلامه أسلم أكثر من مائة ألف شخص في فترة قصيرة، وانقطعت الروابط التي كانت تربطه ببلاط الخاقان الأعظم للمغول في الصين.

وأدى اعتناق محمود غازان الإسلام عن إيمان وإخلاص إلى قيامه بعدد من الإصلاحات، تناولت شئون الإدارة والمال والاقتصاد والقضاء والعمران والتشييد في بلاده، وأفسحت لاسمه مكانًا بارزًا في أبطال التاريخ وكبار المصلحين وصناع الحضارة.

واشتهر غازان بحبه للثقافة والمعرفة، وشغفه بالتاريخ، وإتقانه للفارسية، وعنايته بالفنون والصناعات اليدوية، واشتغل في فترة من حياته بالكيمياء، وكان له معمل في قصره يقضي فيه أوقاتًا طويلة بين كتبه وتجاربه، ومن أعماله التي تدل على حبه للعمارة والبناء قيامه بتجميل عاصمة مملكته "تبريز" بأبنية فخمة تشمل مسجدًا عظيمًا، ومدرسة كبيرة، ودارا للكتب، ودارًا لحفظ الدفاتر والقوانين التي استنها، ومرصدا فلكيًا، وبستانًا، ومستشفى وخانقاة للمتصوفة.

وتوفي غازان، وهو لا يزال في ريعان الشباب سنة (703هـ = 1303م)، وعمره لم يتجاوز الثالثة والثلاثين.

السلطان محمد أولجايتو

اعتلى أولجايتو العرش الإيلخاني خلفًا لأخيه السلطان محمود غازان، وذلك في (15 من ذي الحجة 703هـ = 21 من يوليو 1304)، ولم يكن عمره قد تجاوز الرابعة والعشرين، وتسلم قيادة الدولة وهي في أوج بهائها وعظمتها؛ فإصلاحات غازان قد أصابت كل أنحاء الدولة، ودفعت بها خطوات واسعة نحو الحضارة والمدنية والإنسانية.

وبعد ثلاثة أيام من الحكم أصدر (أولجايتو) مرسومًا بإقامة شعائر الإسلام، واحترام القوانين الشرعية التي أصدرها أخوه محمود غازان، وإلزام المغول كافة باعتناق الإسلام، وأبقى "رشيد الدين فضل الله الهمداني" في منصب الوزارة كما كان في عهد أخيه، وكان عالمًا كبيرًا ومؤرخًا عظيمًا، صاحب الكتاب المعروف (جامع التواريخ)، وهو يعد أهم كتاب تناول تاريخ المغول في هذه الفترة.

سار أولجايتو على نهج أخيه غازان خان في حسن معاملة رعاياه، وإقامة العدل بينهم، ونصرة المظلومين منهم، ومنع تعدي المغول على الناس، واستمر في تشييد المؤسسات الاجتماعية التي تنهض بالناس من بناء المدارس والمستشفيات والحمامات والملاجئ، وأعاد بناء مرصد مراغة الذي بناه هولاكو. وأما عن سياسته الخارجية، فقد نجح في فتح إقليم جيلان وبسط سيطرته عليه، ولم يكن المغول قد تمكنوا من السيطرة عليه من قبل، وحافظ على علاقات ودية مع دول أوروبا المسيحية.

أولجايتو ودولة المماليك

تأثرت العلاقات بين الدولتين نتيجة لاعتناق الإيلخان المذهب الشيعي، وهو يُعد أول حاكم مغولي يعتنق المذهب الشيعي، وأمر به الجند وألزمه أهل مملكته، وذلك في سنة (709هـ= 1301م) بعد أن كان سنيًا يلتزم المذهب الحنفي ثم الشافعي.

وحاول أولجايتو أن يوثق عرى الصداقة بين دولته والمماليك، وتودد إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون سلطان دولة المماليك، ثم لم تلبث أن ساءت العلاقة بين الدولتين؛ فقام أولجايتو بتجهيز حملة على بلاد الشام في (18 من صفر 712 هـ = 26 من يوليو 1312م) مستعينًا باثنين من كبار قادة السلطان الناصر، كانا قد فرا إليه، وزيَّنَا له الاستيلاء على بلاد الشام التي كانت خاضعة لسلطة دولة المماليك، غير أن تلك الحملة التي خرج على رأسها السلطان أولجايتو اصطدمت بأول قلعة مملوكية على الحدود الشامية، وهي قلعة الرحبة الواقعة على نهر الفرات، وفشل في اقتحامها وإخضاعها؛ فقرر العودة إلى بلاده في (26 من رمضان سنة 712هـ = 1 من فبراير 1313)، ولم يحاول بعد ذلك أن يغزو الشام، وأقلع تمامًا عن هذه الفكرة.

بناء سلطانية

كان من أماني السلطان غازان أن يبني مدينة بموضع بستان سلطانية الواقعة شمال شرقي العراق في البلاد الواقعة بين نهري زبخان وأبهر، وشرع في تنفيذ ذلك لولا أن وافاه الأجل المحتوم، فحال بينه وبين إتمام المدينة.

وكان المغول يطلقون على موضع سلطانية الحالي اسم (قنغورألانك)، وكانت مرعى لأغنامهم ينزلون به في طريقهم من العراق إلى أذربيجان، وجاء السلطان محمود غازان واتخذ من هذا المكان أساسًا لمدينته.

ثم بدأ أولجايتو في استكمال ما بدأه أخوه؛ فأتم بناء المدينة في عشر سنوات، وأطلق عليها اسم سلطانية واتخذها عاصمة لدولته، واستغرق بناؤها الفترة ما بين سنتي (704هـ=1304م وسنة 714هـ = 1314م)، وتحول الموضع الذي كان مرعى خاليًا من العمران إلى مدينة عظيمة تضم العمائر الفخمة، والمدارس الكبيرة، والمساجد الرائعة، والحمامات والأسواق، وامتلأت بالناس من كل الطبقات.

وأنشأ أولجايتو حولها حصنًا مربع الشكل، بلغ طوله نحو ثلاثين ألف قدم، ويسمح عرض جداره بأن يتحرك عليه أربعة فرسان جنبًا إلى جنب، وجعل في منتصف السور قلعة كبيرة تشبه المدينة في ضخامتها، وبنى فيه ضريحًا لنفسه بالغ الارتفاع تعلوه ثماني مآذن ليدفن فيه، ويُعد هذا الضريح من أهم نماذج العمارة في العصر المغولي.

نهاية أولجايتو

يعد السلطان أولجايتو من ملوك المغول الإيلخانيين الذين نهضوا بإيران نهضة عظيمة؛ نظرًا لملكاتهم الممتازة في الحكم والإدارة وعنايتهم بالعلم والثقافة، وحبهم للبناء والتعمير، وعزز من ذلك النجاح حسن إدارة الوزير العالم "رشيد الدين فضل الله الهمداني".

وفي (28 من رمضان 716هـ= 16 من ديسمبر 1316م) تُوفي أولجايتو، وهو في السادسة والثلاثين من عمره، ودفن في ضريحه الذي بناه لنفسه، بعد أن ترك ذكرى طيبة في تاريخ إيران، عبر عنها المؤرخ الكبير ابن الفوطي بقوله: "لم يَلِ من ملوكهم –أي المغول- أعدل منه ولا أكرم، ولا أجمع لصفات الخير وأسباب الصلاح".


منقول

عبدالغفور الخطيب
22-03-2006, 04:18 AM
عندما دفعت أمريكا "الجزية"!!

(في ذكرى توقيع هذه المعاهدة: 21 من صفر 1210 هـ)


وقع جورج واشنطون أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية معاهدة صلح مع بكلر حسن والي الجزائر في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، بمقتضاها تدفع إلى الجزائر على الفور 642 ألف دولار ذهبي، و1200 ليرة عثمانية، وذلك مقابل أن تطلق الجزائر سراح الأسرى الأمريكيين الموجودين لديها، وألا تتعرض لأي سفينة أمريكية تبحر في البحر المتوسط أو في المحيط الأطلسي.. فما ملابسات هذا الحادث؟ وما سر قوة البحرية الجزائرية؟ وهل كان الحادث امتدادا لمفهوم الجهاد أم تعداه لغير ذلك؟

مجاهدون لا قراصنة

تعرضت سواحل الشمال الأفريقي في تونس والجزائر والمغرب لغزو مسلح من قبل أسبانيا والبرتغال بعد أن سقطت دولة الإسلام في الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وهو الأمر الذي جعل أهالي الجزائر يستغيثون بالدولة العثمانية الفتية، ويطلبون عونها، فاستجابت لندائهم وضمت الجزائر لسلطانها وحمايتها، وبعثت بقوة من سلاح المدفعية، وألفين من الجنود الإنكشارية، وأذن السلطان سليم الأول لمن يشاء من رعاياه المسلمين بالسفر إلى الجزائر، والانخراط في صفوف المجاهدين تحت قيادة خير الدين بارباروسا الذي نجح في إنشاء هيكل دولة قوية، بفضل المساعدات التي تلقاها من الدولة العثمانية، واستطاع أن يوجه ضربات قوية للسواحل الأسبانية، وأن يجعل من الجزائر قاعدة بحرية.


وظلت الجزائر بعد وفاة خير الدين باربروسا سنة (953هـ= 1546م) القاعدة الأولى لقوات الجهاد البحري الإسلامي في المغرب العربي، والقاعدة الأمامية لقوات الدولة العثمانية في الحوض الغربي للبحر المتوسط، ومنطلق جهادها ضد القوى الاستعمارية المسيحية في ذلك الوقت. وكان الأسطول الإسلامي قد وصل إلى درجة عالية من القوة والتنظيم جعلته مرهوب الجانب مخشي البأس، واشتهر من قادة هذا الأسطول عدد من قادة البحرية تمكنوا من "إرهاب" الدول الاستعمارية، وتحرير المناطق الإسلامية الواقعة تحت الاحتلال في الساحل الشمالي الأفريقي، من أمثال: درجوت، وسنان، وصالح ريس.

وكانت السفن الإسلامية تباشر عمليات الجهاد ضد السفن المسيحية التي دأبت على التعرض للسفن الإسلامية في حوض البحر المتوسط ومصادرة حمولاتها وأسر ركابها، وكانت مراكب المسلمين التي يطلق عليها "مراكب الجهاد" تخرج من موانيها للدفاع عن السفن الإسلامية، ولم تخرج للقرصنة كما يزعم المؤرخون الغربيون، وإنما كانت تقوم بالدفاع عن الإسلام والعروبة ضد الخطر الأوربي الذي كان يتزايد يوما بعد يوم يريد التهام الشمال الأفريقي المسلم، وكانت كل من أسبانيا والبرتغال تريد الاستيلاء على المغرب العربي، وتحويل سكانه من الإسلام إلى المسيحية وطمس عروبته.

الجزائر دولة بحرية

وقد قامت البحرية الجزائرية بدورها على خير وجه، فهاجمت السواحل الشرقية لأسبانيا دون أن تجد من يقاومها، وكانت تعود في كل مرة بالأسرى والغنائم، كما هاجمت سواحل سردينيا وصقلية ونابولي، وهددت الصلات البحرية بين ممتلكات الإمبراطورية الأسبانية وممتلكاتها في إيطاليا، وكان رجال البحرية الجزائرية يهاجمون سفن الأعداء، ويأسرون بحارتها، ويستولون على السلع والبضائع التي تحملها.

وفشل الأوربيون في إيقاف عمل المجاهدين، وعجزت سفنهم الضخمة عن متابعة سفن المجاهدين الخفيفة وشل حركتها. وقد ساعد على نجاح المجاهدين مهارتهم العالية، وشجاعتهم الفائقة، وانضباطهم الدقيق، والتزامهم بتنفيذ المهام الموكلة إليهم.

وصار لرجال البحر الجزائريين مكانة مرموقة في مدينة الجزائر التي كان يعمها الفرح عند عودتهم، فكان التجار يشترون الرقيق والسلع التي يعودون بها، وكان نصيب البحارة من الغنائم كثيرا وهو ما أغرى الكثير بدخول البحرية والانتظام ضمن صفوفها، حتى إن عددا كبيرا من الأسرى المسيحيين كانوا يعلنون إسلامهم وينخرطون في سلك البحرية، وكان يطلق على هؤلاء اسم "العلوج".

من الجهاد.. للتجارة

ومع مرور الوقت اعتمدت الجزائر على أعمال هؤلاء وما يقومون به من مهاجمة السفن الأوربية والاستيلاء على بضائعها، وبعد أن كانت أعمال البحرية الجزائرية تتسم بطابع جهادي صارت تتسم بطابع تجاري، وبعد أن كانت تهدف إلى الحد من تغلغل الأوربيين في المغرب العربي وتحطيم شوكة أساطيلهم لتبقى عاجزة عن غزو البلاد، صارت تلك الأعمال حرفة لطلب الرزق.

وقد عادت هذه الأعمال بالغنى الوافر على البلاد نتيجة للغنائم التي يحصلون عليها، بالإضافة إلى الرسوم التي كانت تفرضها الحكومة الجزائرية على معظم الدول الأوربية نظير عدم تعرضها لهجمات هؤلاء البحارة، فقد كانت بريطانيا تدفع سنويا 600 جنية للخزانة الجزائرية، وتقدم الدانمارك مهمات حربية وآلات قيمتها 4 آلاف ريال شنكو كل عام مصحوبة بالهدايا النفيسة.

أما هولندا فكانت تدفع 600 جنيه، ومملكة صقلية 4 آلاف ريال، ومملكة سردينيا 6 آلاف جنيه، والولايات المتحدة الأمريكية تقدم آلات ومهمات حربية قيمتها 4 آلاف ريال و10 آلاف ريال أخرى نقدا مصحوبة بهدايا قيمة، وتبعث فرنسا بهدايا ثمينة عند تغيير قناصلها، وتقدم البرتغال هدايا من أحسن الأصناف، وتورد السويد والنرويج كل سنة آلات وذخائر بحرية بمبالغ كبيرة، وتدفع مدينتا هانوفر وبرن بألمانيا 600 جنيه إنجليزي، وتقدم أسبانيا أنفس الهدايا سنويا.

كانت كل هذه الأموال تمد الخزينة الجزائرية بموارد سنوية هائلة طوال ثلاثة قرون، فضلا عن الضرائب التي فرضتها الحكومة على الأسرى والأسلاب والغنائم التي كانت تتقاضاها من رؤساء البحر لدى عودتهم من غاراتهم على السواحل الأوربية.

وأدى وجود عدد كبير من أسرى الفرنجة، وخاصة ممن كانوا ينتمون منهم للأسر الغنية إلى قيام تجارة مربحة، فقد كان هؤلاء الأسرى يباعون ويشترون في أسواق محددة، وكان من يملكونهم يفاوضونهم في فدائهم أو يفاوضون من ينوبون عن أسرهم في ذلك، وفي بعض الأحيان كانوا يفاوضون الجمعيات الدينية التي كانت تتولى القيام بتقديم الفدية بالإنابة عن أهليهم مثل جمعية الثالوثيين واللازاريين، والمرتزقة.

أمريكا تدفع الجزية

وفي أواخر القرن الثامن عشر الميلادي بدأت السفن الأمريكية بعد أن استقلت أمريكا استقلالها عن إنجلترا سنة (1190هـ= 1776م) ترفع أعلامها لأول مرة سنة (1197هـ=1783م)، وتجوب البحار والمحيطات. وقد تعرض البحارة الجزائريون لسفن الولايات المتحدة، فاستولوا على إحدى سفنها في مياه قادش، وذلك في (رمضان 1199هـ= يوليو 1785م)، ثم ما لبثوا أن استولوا على إحدى عشرة سفينة أخرى تخص الولايات المتحدة الأمريكية وساقوها إلى السواحل الجزائرية.

ولما كانت الولايات المتحدة عاجزة عن استرداد سفنها بالقوة العسكرية، وكانت تحتاج إلى سنوات طويلة لبناء أسطول بحري يستطيع أن يواجه الأسطول العثماني اضطرت إلى الصلح وتوقيع معاهدة مع الجزائر في (21 من صفر 1210هـ= 5 من سبتمبر 1795م)، وقد تضمنت هذه المعاهدة 22 مادة مكتوبة باللغة التركية، وهذه الوثيقة هي المعاهدة الوحيدة التي كتبت بلغة غير الإنجليزية ووقعت عليها الولايات المتحدة الأمريكية خلال تاريخها الذي يتجاوز قرنين من الزمان، وفي الوقت نفسه هي المعاهدة الوحيدة التي تعهدت فيها الولايات المتحدة بدفع ضريبة سنوية لدولة أجنبية، وبمقتضاها استردت الولايات المتحدة أسراها، وضمنت عدم تعرض البحارة الجزائريين لسفنها.

وعلى الرغم من ذلك فإن السفن العثمانية التابعة لإيالة (ولاية) طرابلس بدأت في التعرض للسفن الأمريكية التي تدخل البحر المتوسط، وترتب على ذلك أن أرسلت الولايات المتحدة أسطولا حربيا إلى ميناء طرابلس في (1218هـ=1803م)، وأخذ يتبادل نيران المدفعية مع السفن الطرابلسية.

وأثناء القتال جنحت سفينة الحرب الأمريكية "فيلادلفيا" إلى المياه الضحلة، لعدم درايتها بهذه المنطقة وضخامة حجمها حيث كانت تعد أكبر سفينة في ذلك التاريخ، ونجح البحارة المسلمون في أسر أفراد طاقمها المكون من 300 بحار. وطلب والي ليبيا قرة مانلي يوسف باشا من الولايات المتحدة غرامات مالية تقدر بثلاثة ملايين دولار ذهبا، وضريبة سنوية قدرها 20 ألف دولار سنويا، وطالب في نفس الوقت محمد حمودة باشا والي تونس الولايات المتحدة بعشرة آلاف دولار سنويا.

وظلت الولايات المتحدة تدفع هذه الضريبة حماية لسفنها حتى سنة (1227هـ= 1812م)، حيث سدد القنصل الأمريكي في الجزائر 62 ألف دولار ذهبا، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي تسدد فيها الضريبة السنوية

منقول

عبدالغفور الخطيب
23-03-2006, 01:51 AM
صحوة الخلافة العباسية

(في ذكرى وفاة الموفق: 22 من صفر 278 هـ)

أتي حين من الدهر على دولة الخلافة العباسية كانت فيه خاضعة تماما لنفوذ الأتراك الذين كانوا يمسكون بزمام الأمور، ويدبرون الدولة بقوتهم ونفوذهم، ويستبدون بالأمر دون الخلفاء العباسيين الذين أصبحوا في أيديهم كالدمى يحركونهم كما يشاءون. وكان الخليفة المأمون (198-218هـ= 813-833م) أول من استعان بالأتراك واستخدمهم في دولته، ولكنهم كانوا تحت سيطرته وسلطانه لا تأثير لهم ولا يملكون نفوذا يذكر، ثم أكثر الخليفة المعتصم (218-227=833-842م) من الاستعانة بهم، وصاروا عنصرا أساسيا في جيشه.. ثم بدأ نفوذهم يتزايد في عهد الخليفة الواثق، وازداد حدة في عهد الخليفة المتوكل، وأطلق المؤرخون على الفترة التي علا فيه نفوذ الأتراك وسيطروا تماما على مقاليد الأمور "عصر نفوذ الأتراك"، وهو يمتد إلى ما يزيد عن قرن من الزمان (232-334هـ=847-945م) تعاقب خلاله 13 خليفة عباسي.

خلافة المعتمد على الله

تولى المعتمد على الله أحمد بن المتوكل بعد خلع الخليفة "المهتدي بالله" محمد بن الواثق سنة (256هـ =870م) وكان الخليفة المهتدي بالله رجلا تقيا شجاعا حازما محبا للعدل متقيدا بسيرة عمر بن عبد العزيز في العدالة والحكم، حاول أن يعيد للخلافة العباسية هيبتها ومكانتها، ويوقف طغيان الأتراك واستبدادهم؛ فحاول إحداث الفرقة في صفوفهم وضرب بعضهم ببعض لإضعافهم وبث الخلاف بينهم، ولكنهم انتبهوا لمحاولته الذكية وأسرعوا في التخلص منه.

غير أن ثبات هذا الخليفة كان له أثر طيب؛ حيث ظهرت دعوة جادة إلى إعادة سلطان الخليفة العباسي إلى ما كان عليه، وشاءت الأقدار أن يكون ذلك على يد الخليفة المعتمد الذي حاول أن يمسك بزمام الأمور، وساعده على ذلك أنه استعان بأخيه "الموفق" الذي ولاه قيادة الجيش. وكان الموفق يتمتع بشخصية قوية ومقدرة عسكرية ممتازة وهمة عالية وعزيمة لا تلين؛ فسيطر على زمام الأمور السياسية والإدارية، وأصبح الخليفة لا سلطان له أمام نفوذ أخيه.

ويصف أحد المؤرخين هذا الوضع بقوله: "وكانت دولة المعتمد دولة عجيبة الوضع، وكان هو وأخوه الموفق طلحة كالشركيين في الخلافة: للمعتمد الخطبة والسكة والتسمي بأمير المؤمنين، ولأخيه طلحة الأمر والنهي وقيادة العسكر ومحاربة الأعداء ومرابطة الثغور وترتيب الوزراء والأمراء".

ثورة الزنج

في هذه الفترة الحرجة التي كانت تمر بها الخلافة العباسية قامت ثورة كبرى عرفت باسم ثورة الزنج، هددت كيان الدولة العباسية أكثر مما هددها الأتراك، وهؤلاء الزنج كانوا جماعات من العبيد السود المجلوبين من أفريقيا الشرقية للعمل في استصلاح الأراضي الواقعة بين مدينتي البصرة وواسط، وكان عددهم كبيرا يُعدّ بالألوف ويعملون في جماعات، ويحيون حياة سيئة ولا يتقاضون أجورا يومية ولا يتجاوز قوتهم اليومي قليلا من الطحين والتمر والسَّويق.

استغل "علي بن محمد" هذه الأوضاع وكان رجلا طموحا مغامرا فنجح في استمالة الزنج إليه، مستغلا أوضاعهم السيئة فمنّاهم بالتحرر من العبودية وتمكينهم من الوصول إلى السلطة، ثم اشتط في دعوته فادعى صفات النبوة، وأعلن أنه مرسل من الله لإنقاذ العبيد البائسين، وانتحل نسبًا إلى آل البيت.

نجح صاحب الزنج في فترة قصيرة (255-261هـ = 869-875م) من أن يسيطر على البصرة وما حولها، بعد نجاحه في هزيمة جيش الدولة، ثم امتد نفوذه ليشمل الأهواز وعبادان وواسط، وكانت سياسته تجنح إلى العنف والإرهاب وإراقة الدماء؛ فدمر المدن التي احتلها وأباد كثيرا من أهلها وعاث فيها فسادا، والذي فعله بالبصرة خير دليل على ذلك؛ حيث ذكر المؤرخون أن الزنج قتلوا أكثر من 300 ألف إنسان بالبصرة وحدها، وأسروا عددا كبيرا من النساء والأطفال.

الموفق والقضاء على ثورة الزنج

بعد تولي المعتمد على الله منصب الخلافة عهد إلى أخيه الموفق بمهمة القضاء على هذه الفتنة قبل أن يستفحل خطرها؛ فخرج من بغداد إلى واسط في شهر (صفر 267 هـ= 881م) وهزم فريقا كبيرا من الزنج، وتوالت انتصاراته حتى أجلاهم عن الأهواز، وحاصر مدينتهم "المختارة"، وبنى مدينة بإزائها تسمى الموفقية نسبه إليه، وجعلها معسكرا دائمًا له ولجيشه. وفي الوقت نفسه ضرب حصارا اقتصاديا على المختارة؛ لمنع وصول المؤن إليها حتى نجح في اقتحام المدينة والاستيلاء عليها.

وبعد القضاء على الحركة الثائرة أصدر الموفق بيانا أعلن فيه انتهاء الاضطرابات والفوضى بعد حرب دامت أكثر من 14 سنة (255–270هـ)، ودعا سكان هذه المناطق للرجوع إلى مدنهم وقراهم.. وهكذا نجحت الخلافة العباسية –وهي تمر بمرحلة عصيبة في تاريخها- من القضاء على حركة عنيفة؛ مما يدل على ما تضمه الدولة من إمكانات كامنة في مؤسسة الحكم يُمكن أن تُستغل إذا وجدت الخليفة المناسب.

محاولة نقل الخلافة للقاهرة

يئس الخليفة العباسي المعتمد من تسلط أخيه الموفق وفرض سيطرته عليه؛ فصار كالمحجور عليه، ولم يكن له حول ولا قوة فبعث برسالة إلى أحمد بن طولون واليه على مصر ينبئه بأنه خارج إليه فِرارًا من سيطرة أخيه، واستجابةً لرسالة كان ابن طولون قد كتبها إليه في سنة (268 هـ = 882م) يعده فيها بالحماية والنصرة.

وانتهز الخليفة فرصة انشغال أخيه الموفق بإخماد ثورة الزنج فخرج من مدينة سامراء عاصمة الخلافة آنذاك متظاهرا بالصيد، واتجه صوب الرقة للحاق بابن طولون الذي كان في دمشق؛ فلما علم الموفق بأمر هذه المحاولة أمر عامله على الموصل برد الخليفة إلى سامراء في شعبان (269هـ = فبراير 883م) وبذلك فشلت فكرة نقل الخلافة إلى القاهرة بفضل يقظة الموفق.

ملامح حضارية

على الرغم من المشكلات الضخمة التي ألمّت بالدولة العباسية في عصرها الثاني فإن هذه الفترة تُعدّ من أخصب فترات التاريخ الإسلامي في عطائها الحضاري وثرائها الفكري، ويكفي أن نعلم أن هذه الفترة شهدت تألق عمدة المحدثين وسيد الحفاظ الإمام "البخاري" المتوفى سنة (256هـ = 870 م) صاحب الجامع الصحيح، أصح كتب السنة، والتاريخ الصغير، والتاريخ الكبير.. بالإضافة إلى مجموعة أخرى من أعلام المحدثين من أمثال: الإمام مسلم النيسابوري المتوفى سنة (261هـ= 875م) صاحب كتاب الجامع الصحيح، أصح كتب السنة بعد صحيح البخاري. والإمام ابن ماجه المتوفى سنة (273هـ = 886م) وأبو داود المتوفى سنة (275هـ = 888م) والترمذي المتوفى سنة (279 هـ = 892م).

وشهد هذا العصر تألق عدد كبير من النابهين في اللغة والأدب والشعر، من هؤلاء: محمد بن يزيد المبرّد المتوفى سنة (285هـ = 898م) وصاحب كتاب الكامل، وكان إمام النحاة في عصره، ولمع أيضا ابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة (276هـ=889م) وقد ترك لنا هذا العالم الكبير عددا من الموسوعات ذات الشأن مثل: عيون الأخبار، والشعر والشعراء، وأدب الكاتب الذي تحدث فيه عما يحتاج إليه الأديب من فنون الثقافة والمعرفة ليمارس الكتابة.

ولمع في مجال الشعر كوكبة من أعظم شعراء العربية مثل: البحتري المتوفى سنة (284هـ=897م) صاحب الديباجة الشعرية الرائعة والموسيقى العذبة الراقية، وابن الرومي المتوفى (283هـ=896م) الذي اشتهر بقدرته على توليد المعاني وابتكار الصور والأخيلة.

ونشطت حركة التأليف التاريخي، وتألق عدد من كبار المؤرخين كابن قتيبه الذي أشرنا إليه.. وهو عالم موسوعي يضرب في كل فن من المعرفة بسهم وافر، واليعقوبي المتوفى سنة (278هـ =891م) صاحب كتاب تاريخ اليعقوبي، والبلدان الذي يعدّ من أقدم ملفات التراث الجغرافي العربي، والبلاذري المتوفى سنة (279هـ = 892م) وهو من أبرز مؤرخي هذه الفترة وله كتابان عظيمان هما: فتوح البلدان، ويعد من أوثق الكتب التي تحدثت عن تاريخ الفتوح الإسلامية، وأنساب الأشراف وهو موسوعة كبيرة تتناول التاريخ الإسلامي من خلال الإنسان، كما حظيت العلوم الطبية والرياضية والفلكية والطبيعية بنصيب وافر من العناية والدراسة.

وفاة الموفق

نجح الموفق في كل ما قام به من أعمال أن يعيد للدولة العباسية سلطانها وللخلافة هيبتها، وأن يكبح بحكمته وحزمه جماح الأتراك، وأن يعيد تنظيم الجيش ويقرّ الأمن والاستقرار؛ لذا لم يكن غريبا أن يطلق المؤرخون على هذه اليقظة "صحوة الخلافة".. وتوفي الموفق في (22 من صفر 278 هـ = 5 من يونيو 891م


منقول

عبدالغفور الخطيب
24-03-2006, 02:38 AM
ابن سينا.. المعلّم الثالث

(في ذكرى وفاته: 23 من صفر 370هـ)


عاش ابن سينا في أواخر القرن الرابع الهجري وبدايات القرن الخامس من الهجرة، وقد نشأ في أوزبكستان، حيث ولد في "خرميش" إحدى قرى "بخارى" في شهر صفر (370 هـ= أغسطس 908م).

وحرص أبو عبد الله بن سينا على تنشئته تنشئة علمية ودينية منذ صغره، فحفظ القرآن ودرس شيئا من علوم عصره، حتى إذا بلغ العشرين من عمره توفي والده، فرحل أبو علي الحسين بن سينا إلى جرجان، وأقام بها مدة، وألف كتابه "القانون في الطب"، ولكنه ما لبث أن رحل إلى "همذان" فحقق شهرة كبيرة، وصار وزيرا للأمير "شمس الدين البويهي"، إلا أنه لم يطل به المقام بها؛ إذ رحل إلى "أصفهان" وحظي برعاية أميرها "علاء الدولة"، وظل بها حتى خرج من الأمير علاء الدولة في إحدى حملاته إلى همذان؛ حيث وافته المنية بها في (رمضان 428 هـ= يونيو 1037م).

في محراب العلم والإيمان

وكان ابن سينا عالما وفيلسوفا وطبيبا وشاعرا، ولُقِّب بالشيخ الرئيس والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، كما عرف بأمير الأطباء وأرسطو الإسلام، وكان سابقا لعصره في مجالات فكرية عديدة، ولم يصرفه اشتغاله بالعلم عن المشاركة في الحياة العامة في عصره؛ فقد تعايش مع مشكلات مجتمعه، وتفاعل مع ما يموج به من اتجاهات فكرية، وشارك في صنع نهضته العلمية والحضارية.

وكان لذلك كله أبلغ الأثر في إضفاء المسحة العقلية على آرائه ونظرياته، وقد انعكس ذلك أيضا على أفكاره وآثاره ومؤلفاته، فلم يكن ابن سينا يتقيد بكل ما وصل إليه ممن سبقوه من نظريات، وإنما كان ينظر إليها ناقدا ومحللا، ويعرضها على مرآة عقله وتفكيره، فما وافق تفكيره وقبله عقله أخذه وزاد عليه ما توصل إليه واكتسبه بأبحاثه وخبراته ومشاهداته، وكان يقول: إن الفلاسفة يخطئون ويصيبون كسائر الناس، وهم ليسوا معصومين عن الخطأ والزلل.

ولذلك فقد حارب التنجيم وبعض الأفكار السائدة في عصره في بعض نواحي الكيمياء، وخالف معاصريه ومن تقدموا عليه، الذين قالوا بإمكان تحويل بعض الفلزات الخسيسة إلى الذهب والفضة، فنفى إمكان حدوث ذلك التحويل في جوهر الفلزات، وإنما هو تغيير ظاهري في شكل الفلز وصورته، وفسّر ذلك بأن لكل عنصر منها تركيبه الخاص الذي لا يمكن تغييره بطرق التحويل المعروفة.

وقد أثارت شهرة ابن سينا ومكانته العلمية حسد بعض معاصريه وغيرتهم عليه، ووجدوا في نزعته العقلية وآرائه الجديدة في الطب والعلوم والفلسفة مدخلا للطعن عليه واتهامه بالإلحاد والزندقة، ولكنه كان يرد عليهم بقوله: "إيماني بالله لا يتزعزع؛ فلو كنت كافرا فليس ثمة مسلم حقيقي واحد على ظهر الأرض".

ريادة فلكية

كان لابن سينا ريادات في العديد من العلوم والفنون؛ ففي مجال علم الفلك استطاع ابن سينا أن يرصد مرور كوكب الزهرة عبر دائرة قرص الشمس بالعين المجردة في يوم (10 جمادى الآخرة 423 هـ = 24 من مايو 1032م)، وهو ما أقره الفلكي الإنجليزي "جير مياروكس" في القرن السابع عشر.

واشتغل ابن سينا بالرصد، وتعمق في علم الهيئة، ووضع في خلل الرصد آلات لم يُسبق إليها، وله في ذلك عدد من المؤلفات القيمة، مثل:

- كتاب الأرصاد الكلية.

- رسالة الآلة الرصدية.

- كتاب الأجرام السماوية.

- كتاب في كيفية الرصد ومطابقته للعلم الطبيعي.

- مقالة في هيئة الأرض من السماء وكونها في الوسط.

- كتاب إبطال أحكام النجوم.

عالم جيولوجيا

وله أيضا قيمة في علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) خاصة في المعادن وتكوين الحجارة والجبال، فيرى أنها تكونت من طين لزج خصب على طول الزمان، وتحجر في مدد لا تضبط، فيشبه أن هذه المعمورة كانت في سالف الأيام مغمورة في البحار، وكثيرا ما يوجد في الأحجار إذا كسرت أجزاء من الحيوانات المائية كالأصداف وغيرها.

كما ذكر الزلازل وفسرها بأنها حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض؛ بسبب ما تحته، ولا محالة أن ذلك السبب يعرض له أن يتحرك ثم يحرك ما فوقه، والجسم الذي يمكن أن يتحرك تحت الأرض، وهو إما جسم بخاري دخاني قوى الاندفاع أو جسم مائي سيّال أو جسم هوائي أو جسم ناري.

ويتحدث عن السحب وكيفية تكونها؛ فيذكر أنها تولد من الأبخرة الرطبة إذا تصعّدت الحرارة فوافقت الطبقة الباردة من الهواء، فجوهر السحاب بخاري متكاثف طاف الهواء، فالبخار مادة السحب والمطر والثلج والطل والجليد والصقيع والبرد وعليه تتراءى الهالة وقوس قزح.

عالم نبات

وكان لابن سينا اهتمام خاص بعلم النبات، وله دراسات علمية جادة في مجال النباتات الطبية، وقد أجرى المقارنات العلمية الرصينة بين جذور النباتات وأوراقها وأزهارها، ووصفها وصفا علميا دقيقا ودرس أجناسها، وتعرض للتربة وأنواعها والعناصر المؤثرة في نمو النبات، كما تحدث عن ظاهرة المساهمة في الأشجار والنخيل، وذلك بأن تحمل الشجرة حملا ثقيلا في سنة وحملا خفيفا في سنة أخرى أو تحمل سنة ولا تحمل أخرى.

وأشار إلى اختلاف الطعام والرائحة في النبات، وقد سبق كارل متز الذي قال بأهمية التشخيص بوساطة العصارة، وذلك في سنة 1353 هـ = 1934م.

ابن سينا والأقرباذين

وكان لابن سينا معرفة جيدة بالأدوية وفعاليتها، وقد صنف الأدوية في ست مجموعات، وكانت الأدوية المفردة والمركبة (الأقرباذين) التي ذكرها في مصنفاته وبخاصة كتاب القانون لها أثر عظيم وقيمة علمية كبيرة بين علماء الطب والصيدلة، وبلغ عدد الأدوية التي وصفها في كتابه نحو 760 عقَّارًا رتبها ألفبائيا.

ومن المدهش حقا أنه كان يمارس ما يعرف بالطب التجريبي ويطبقه على مرضاه، فقد كان يجرب أي دواء جديد يتعرف عليه على الحيوان أولا، ثم يعطيه للإنسان بعد أن تثبت له صلاحيته ودقته على الشفاء.

كما تحدث عن تلوث البيئة وأثره على صحة الإنسان فقال: "فما دام الهواء ملائما ونقيا وليس به أخلاط من المواد الأخرى بما يتعارض مع مزاج التنفس، فإن الصحة تأتي". وذكر أثر ملوثات البيئة في ظهور أمراض حساسية الجهاز التنفسي.

الطبيب الإنسان

بالرغم من الشهرة العريضة التي حققها ابن سينا كطبيب والمكانة العلمية العظيمة التي وصل إليها حتى استحق أن يلقب عن جدارة بأمير الأطباء، فإنه لم يسعَ يوما إلى جمع المال أو طلب الشهرة؛ فقد كان يعالج مرضاه بالمجان، بل إنه كثيرا ما كان يقدم لهم الدواء الذي يعده بنفسه.

كان ابن سينا يستشعر نبل رسالته في تخفيف الألم عن مرضاه؛ فصرف جهده وهمته إلى خدمة الإنسانية ومحاربة الجهل والمرض.

واستطاع ابن سينا أن يقدم للإنسانية أعظم الخدمات بما توصل إليه من اكتشافات، وما يسره الله له من فتوحات طبيبة جليلة؛ فكان أول من كشف عن العديد من الأمراض التي ما زالت منتشرة حتى الآن، فهو أول من كشف عن طفيل "الإنكلستوما" وسماها الدودة المستديرة، وهو بذلك قد سبق الإيطالي "دوبيني" بنحو 900 سنة، وهو أول من وصف الالتهاب السحائي، وأول من فرّق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفا بذلك ما استقر عليه أساطين الطب اليوناني القديم.

كما كشف لأول مرة عن طرق العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والجو، وقال: إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدا لا تُرى بالعين المجردة، وهي التي تسبب بعض الأمراض، وهو ما أكده "فان ليوتهوك" في القرن الثامن عشر والعلماء المتأخرون من بعده، بعد اختراع المجهر.

وكان ابن سينا سابقا لعصره في كثير من ملاحظاته الطبية الدقيقة، فقد درس الاضطرابات العصبية والعوامل النفسية والعقلية كالخوف والحزن والقلق والفرح وغيرها، وأشار إلى أن لها تأثيرا كبيرا في أعضاء الجسم ووظائفها، كما استطاع معرفة بعض الحقائق النفسية والمرضية عن طريق التحليل النفسي، وكان يلجأ في بعض الأحيان إلى الأساليب النفسية في معاجلة مرضاه.

ابن سينا وعلم الجراحة

وقد اتبع ابن سينا في فحص مرضاه وتشخيص المرض وتحديد العلاج الطريقة الحديثة المتبعة الآن، وذلك عن طريق جس النبض والقرع بإصبعه فوق جسم المريض، وهي الطريقة المتبعة حاليا في تشخيص الأمراض الباطنية، والتي نسبت إلى "ليوبولد أينبرجر" في القرن الثامن عشر، وكذلك من خلال الاستدلال بالبول والبراز.

ويظهر ابن سينا براعة كبيرة ومقدرة فائقة في علم الجراحة، فقد ذكر عدة طرق لإيقاف النزيف، سواء بالربط أو إدخال الفتائل أو بالكي بالنار أو بدواء كاو، أو بضغط اللحم فوق العرق.

وتحدث عن كيفية التعامل مع السهام واستخراجها من الجروح، ويُحذر المعالجين من إصابة الشرايين أو الأعصاب عند إخراج السهام من الجروح، وينبه إلى ضرورة أن يكون المعالج على معرفة تامة بالتشريح.

كما يعتبر ابن سينا أول من اكتشف ووصف عضلات العين الداخلية، وهو أول من قال بأن مركز البصر ليس في الجسم البلوري كما كان يعتقد من قبل، وإنما هو في العصب البصري.

وكان ابن سينا جراحا بارعا، فقد قام بعمليات جراحية ودقيقة للغاية مثل استئصال الأورام السرطانية في مراحلها الأولى وشق الحنجرة والقصبة الهوائية، واستئصال الخراج من الغشاء البلوري بالرئة، وعالج البواسير بطريقة الربط، ووصف بدقة حالات النواسير البولية كما توصل إلى طريقة مبتكرة لعلاج الناسور الشرجي لا تزال تستخدم حتى الآن، وتعرض لحصاة الكلى وشرح كيفية استخراجها والمحاذير التي يجب مراعاتها، كما ذكر حالات استعمال القسطرة، وكذلك الحالات التي يحذر استعمالها فيها.

الأمراض التناسلية

كما كان له باع كبير في مجال الأمراض التناسلية، فوصف بدقة بعض أمراض النساء، مثل: الانسداد المهبلي والأسقاط، والأورام الليفية.

وتحدث عن الأمراض التي يمكن أن تصيب النفساء، مثل: النزيف، واحتباس الدم، وما قد يسببه من أورام وحميات حادة، وأشار إلى أن تعفن الرحم قد ينشأ من عسر الولادة أو موت الجنين، وهو ما لم يكن معروفا من قبل، وتعرض أيضا للذكورة والأنوثة في الجنين وعزاها إلى الرجل دون المرأة، وهو الأمر الذي أكده مؤخرا العلم الحديث.

كتاب عربي علّم العالم

وقد حظي كتابه القانون في الطب شهرة واسعة في أوربا، حتى قال عنه السيد "وليم أوسلر": إنه كان الإنجيل الطبي لأطول فترة من الزمن.

وترجمه إلى اللاتينية "جيرارد أوف كريمونا"، وطبع نحو 15 مرة في أوربا ما بين عامي (878هـ= 1473م، و906 هـ = 1500م) ثم أعيد طبعه نحو عشرين مرة في القرن السادس عشر.

وظل هذا الكتاب المرجع الأساسي للطب في أوربا طوال القرنين الخامس والسادس عشر، حتى بلغت طبعاته في أوربا وحدها أكثر من 40 طبعة.

واستمر يُدرَّس في جامعات إيطاليا وفرنسا وبلجيكا حتى أواسط القرن السابع عشر، ظل خلالها هو المرجع العلمي الأول بها.

قانون ابن سينا للحركة والسكون

أما في مجال الفيزياء فقد كان ابن سينا من أوائل العلماء المسلمين الذين مهدوا لعلم الديناميكا الحديثة بدراستهم في الحركة وموضع الميل القسري والميل المعاون، وإليه يرجع الفضل في وضع القانون الأول للحركة، والذي يقول بأن الجسم يبقى في حالة سكون أو حركة منتظمة في خط مستقيم ما لم تجبره قوى خارجية على تغيير هذه الحالة، فقد سبق ابن سينا إلى ملاحظة حركة الأجسام، واستنباط ذلك القانون الذي عبّر عنه بقوله: "إنك لتعلم أن الجسم إذا خُلي وطباعه ولم يعرض له من خارج تأثير غريب لم يكن له بد من موضع معين وشكل معين، فإذن له في طباعه مبدأ استيجاب ذلك".

وهو بذلك سبق إسحاق نيوتن بأكثر من ستة قرون وجاليليو بأكثر من 5 قرون وليوناردو دافنشي بأكثر من 4 قرون؛ مما يستحق معه أن ينسب إليه ذلك القانون الذي كان له فضل السبق إليه: "قانون ابن سينا للحركة والسكون".

كما ابتكر ابن سينا آلة تشبه الونير Vernier، وهي آلة تستعمل لقياس الأطوال بدقة متناهية.

واستطاع بدقة ملاحظة أن يفرق بين سرعتي الضوء والصوت، وهو ما توصل إليه إسحاق نيوتن بعد أكثر من 600 سنة، وكانت له نظرياته في (ميكانيكية الحركة)، التي توصل إليها "جان بيردان" في القرن الرابع عشر، و(سرعة الحركة) التي بنى عليها "ألبرت أينشتين" نظريته الشهيرة في النسبية.

ابن سينا في عيون الغرب

حظي ابن سينا بتقدير واحترام العلماء والباحثين على مر العصور حتى قال عنه "جورج ساتون": "إن ابن سينا ظاهرة فكرية عظيمة ربما لا نجد من يساويه في ذكائه أو نشاطه الإنتاجي".. "إن فكر ابن سينا يمثل المثل الأعلى للفلسفة في القرون الوسطى".

ويقول دي بور: "كان تأثير ابن سينا في الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى عظيم الشأن، واعتبر في المقام كأرسطو".

ويقول "أوبرفيل": "إن ابن سينا اشتهر في العصور الوسطى، وتردد اسمه على كل شفة ولسان، ولقد كانت قيمته قيمة مفكر ملأ عصره.. وكان من كبار عظماء الإنسانية على الإطلاق".

ويصفه "هولميارد" بقوله: "إن علماء أوربا يصفون "أبا علي" بأنه أرسطو طاليس العرب، ولا ريب في أنه عالم فاق غيره في علم الطب وعلم طبقات الأرض، وكان من عادته إذا استعصت عليه مسألة علمية أن يذهب إلى المسجد لأداء الصلاة، ثم يعود إلى المسألة بعد الصلاة بادئا من جديد؛ فيوفق في حلها".

ولا تزال صورة ابن سينا تزين كبرى قاعات كلية الطب بجامعة "باريس" حتى الآن؛ تقديرا لعلمه واعترافا بفضله وسبْقه.


منقول

عبدالغفور الخطيب
25-03-2006, 01:24 AM
الصاحب بن عباد.. الوزير العالم

(في ذكرى وفاته: 24 من صفر 385 هـ)


بلغت الدولة البويهية التي حكمت منطقة فارس والعراق في القرنين الرابع والخامس الهجريين مبلغا عظيما من الجاه والسلطان، وخضع لنفوذها خلفاء الدولة العباسية في الفترة التي امتدت بين سنتي (334 - 447هـ = 945 – 1055م) وأطلق على هذه الفترة عصر نفوذ البويهيين؛ حيث أصبح الخليفة العباسي مجردا من كل سلطان، ليس له من رسوم الخلافة سوى الدعاء على المنابر وكتابة اسمه على السّكة، وتعيين القضاة وخطباء المساجد.

وزراء بني بويه

وكان "بنو بويه" يحبّون العلم والأدب، ويستعينون بالعلماء والكتاب والشعراء في المناصب الكبرى بدولتهم كالوزارة التي تولاها نفر من سدنة العلم وأعلام الأدب والكتابة كأبي الفضل بن العميد الذي وَلِي الوزارة لركن الدولة البويهي سنة (328هـ = 939م) وظل في منصبه 30 عاما، وكان يُضرب به المثل في البلاغة والفصاحة حتى لقب بالجاحظ الثاني، وقيلت فيه العبارة السائرة: "بُدئت الكتابة بعبد الحميد وانتهت بابن العميد". والمقصود بعبد الحميد هنا هو "عبد الحميد بن يحيى" كاتب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.

وبعد وفاة أبي الفضل ابن العميد خلفه ابنه أبو الفتح في الوزارة، وكان كاتبا بليغا وسياسيا ماهرا، ويضاف إليهما الصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة البويهي.

وكان هؤلاء الوزراء من أصحاب الكفايات النادرة، التي تجمع إلى جانب الفطنة والذكاء والبلاغة والفصاحة مقدرةً فذة على إدارة شئون الدولة، وتسيير أمورها، وضبط أحوالها المالية، وقيادة جيوشها في المعارك، فكان الوزير منهم يجمع في منصبه اختصاصات وزارات عدة كالخارجية والداخلية والمالية والحربية، وهو أمر لم تشهده الوزارة من قبل.

الصاحب بن عباد

ولد إسماعيل بن عباد في "اصطخر" في (16 من ذي القعدة 326 هـ = 14 من أكتوبر 938م)، وكان أبوه كاتبًا ماهرًا، ولي الوزارة لركن الدولة البويهي، وقبل أن يكون وزيرا كان من أهل العلم والفضل، سمع من علماء بغداد وأصفهان والري، وروى عنه جماعة من العلماء، وعني بتربية ابنه، وتعهده بالتعليم والتثقيف؛ حتى يكون كاتبا مثله، يتصل ببلاط الملوك، ويخلفه في الوزارة.

اتصل إسماعيل بن عباد بأبي الفضل بن العميد الوزير المعروف، وتتلمذ على يديه، وتدرب على طريقته في الكتابة والقيام بأعمال الوزارة، وكان دائم الصحبة له حتى لُقِّب بالصاحب، كما تتلمذ على يد العالم الكبير أبي الحسين أحمد بن فارس، المتوفى سنة (375هـ = 985م)، وتوثقت بينهما أسباب الصلة والمودة، حتى إن ابن فارس لمّا ألّف كتابه في فقه اللغة أطلق عليه لقب تلميذه، فسماه الصاحبي، وأهداه إليه بعدما أصبح وزيرًا معروفًا.

منصب الوزارة

التحق الصاحب بن عباد بمؤيد الدولة ابن ركن الدولة البويهي أمير الري وأصفهان، وعمل له كاتبا، وظل مقدما عنده، ثم ولي له منصب الوزارة في سنة (366هـ = 976م)، وظل في الوزارة حتى وفاة مؤيد الدولة سنة (373هـ = 983م)، ثم أقره أخوه "فخر الدولة" على وزارته، وقد نجح الصاحب في إدارة شئون الدولة وتدبير أمورها على خير وجه، وجمع إلى جانب ما يتمتع به من ثقافة موفورة وعمل غزير وقدرة عالية على كتابة الرسائل الديوانية –كفاية حربية وموهبة عسكرية؛ فكان قائدا شجاعا حتى إنه فتح في خلال وزارته خمسين قلعة حصينة، وكان إداريا عظيما؛ فظلت الأنظمة الإدارية التي استحدثها تطبق في عهد من خلفه الوزراء.

وقد أَعْلَت هذه الملكات الخاصة من شأن الوزير النابه؛ فوثق به الأميران: مؤيد الدولة وأخوه فخر الدولة، وأطلقا يده في إدارة شئون البلاد التابعة لهما، وفرضت كفايته وخبرته احترام كبار رجال الدولة له، حتى قيل إن قواد بني بويه وحكامهم كانوا يقفون ببابه، ومن يُؤْذَن له في الدخول عليه يظن أنه قد بلغ الآمال وأقبلت عليه الدنيا.

وبلغ من علوّ مكانته وتأثيره في سياسة الدولة أن الأمير عضد الدولة أعظم أمراء دولة بني بويه كان يقول لجلسائه: إنه لا يحسد أحدا من الملوك إلا أخاه مؤيد الدولة؛ لتولي الصاحب بن عباد الوزارة له، وكان الأمير عضد الدولة – الذي كان يحكم العراق وما حولها – يخرج بنفسه لاستقبال الصاحب إذا قدم إليه؛ فقد خرج في سنة (370هـ = 980م) على رأس كبار رجال دولته إلى خارج مدينة بغداد لاستقبال الصاحب بن عباد وإكرامه.

ثقافة متنوعة

لم يكن الصاحب كاتبا موهوبا ووزيرا قديرا فحسب، وإنما جمع إلى ذلك مشاركة في علوم كثيرة؛ فله معرفة ورواية في الحديث النبوي؛ إذ سمع الحديث من أعلامه في العراق والري وأصبهان، وترجم له الحافظ الكبير أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "ذكر أخبار أصبهان"، باعتباره محدثا لا رجل دولة، وذكر في أخباره أنه كان يناظر ويدرس ويملي الحديث.

ووصف الصاحب بأنه كان من أفقه علماء الشيعة، وعقد له في وقت من الأوقات مجلس للإملاء وإلقاء الدرس، فاحتفل الناس لحضوره واحتشد لسماعه وجوه الأمراء وكبار العلماء، وكان ممن يكتب عنه القاضي عبد الجبار الهمذاني وأمثاله من كبار الفقهاء والمحدثين، وإلى جانب ذلك كان إماما في اللغة، متمكنا من علومها وأدواتها، يَشهد له بذلك المعجم الكبير الذي ألفه، والمعروف باسم المحيط، وقد رتب مواده اللغوية وفق ترتيب مخارج الحروف، مثلما فعل الخليل بن أحمد في معجمه العين؛ أول المعاجم العربية، وقد نشر هذا العمل الكبير في العراق.

رسائل الصاحب.. وثائق مهمة

غير أن الذي رفع مكانة الصاحب بن عباد وأفسح له مكانا متميزا بين أصحاب القلم والبيان في تاريخ الأدب العربي هو رسائله الإخوانية والديوانية، وهي رسائل بليغة العبارة وصافية الديباجة، متأنقة في اختيار اللفظ. ومن كلامه الذي يجري مجرى الأمثال: "من كَفَر النعمة استوجب النقمة"، و"مَن يهزُّه يسير الإشارة لم ينفعه كثير العبارة"، و"العلم بالتذكر والجهل بالتناكر".

ورسائل الصاحب المنشورة معظمها ديوانية، وتُعدّ وثائق بالغة القيمة والأهمية عن الدولة البويهية، عرض فيها لحروبهم وإدارتهم لشئون الدولة، ومعاهداتهم، وعهودهم لولاتهم وقادتهم وقُضاتهم.

ومن نماذج ما كتبه الصاحب من عهود: كتابه إلى قاضي القضاة "عبد الجبار بن أحمد"، وهو من كبار رجال القرن الرابع الهجري حين عيّنه في ولاية القضاء في جرجان وطبرستان، وتضمنت هذه الرسالة الفريدة التوجيهات التي تتصل بمصالح الرعية، وتكفل العدل لها، وتحقق المساواة بين أفرادها.

فبعد أن استعرض أصول التشريع ومصادر الأحكام التي هي كتاب أو سنة – ذكّر القاضي بضرورة الالتزام بالشورى، وحذّره من الاستبداد وإطاعة الهوى، ونبّهه إلى أهمية تهذيب نفسه، والعدل بين الخصوم، والعناية باختيار الأعوان، وفحص الشهود، والاستيثاق من عدالتهم، ورعاية اليتامى وأموالهم.. وإليك مقتطفات من تلك الرسالة: "... وأمره أن يهذب نفسه قبل أن يهذب عمله، ويؤدب عاداته قبل أن يؤدب من قبله، ويروض أخلاقه على الحلم؛ لئلا يقضي في حالة غيظ أو حنق أو ضجر أو ملال… وأمره بأن يعدل بين الخصوم في مجالس قضائه، ويعمهم بحسن استماعه وإصغائه… لئلا يطمع قوي في انظلام الضعيف، أو يجزع مشروف من اهتضام شريف، فالحق أكبر من كل ذي محل وثروة، والدين أعظم من كل ذي منزلة وحظوة.

.. وأمره أن يتخير كفاته وخلفاءه وكُتَّابة وأمناءه؛ فمن نصح وعفّ وصلح وكفّ أمّره، ومن صَدَف عن التورع والظلف (الزهد)، وانحرف إلى الجشع والنطف (الفساد) قدَّم عزله، فالمرء مسئول عن بطانته، كما هو مسئول عن أمانته…".

والرسالة طويلة، تعرَّض فيها لما يتصل بعمل القاضي من واجبات وأمور يجب الالتزام بها.

وللصاحب شعر جيد في المديح والوصف والغزل والإخوانيات، وقد جمع أشعاره "محمد آل ياسين"، ونشرها في النَّجف بالعراق، وله أيضا إسهامات في النقد الأدبي، وترك رسالة بعنوان "الكشف عن مساوئ المتنبي"، وهي لا تخلو من نظرات نقدية صائبة، وإن شابها تحامُل على الشاعر الكبير.

وتُوفي الصاحب بن عباد ليلة الجمعة في (24 من صفر 385هـ = 30 من مارس 955م) بالري، وأُغلقت المدينة لموته، وحضر الأمير "فخر الدولة البويهي" وكبار رجال دولته جنازته، ثم جلس لاستقبال المعزين فيه عدة أيام.

منقول

عبدالغفور الخطيب
26-03-2006, 02:01 AM
سيف الدولة.. لمحات تاريخية وثقافية

(في ذكرى وفاة سيف الدولة: 25 من صفر 356هـ)


ترجع الجذور الأولى للحمدانيين إلى تغلب بن وائل بن قاسط رأس قبيلة تَغْلِب الشهيرة، والذي ينتهي نسبه إلى ربيعة بن نزار.

وكانت تغلب من أعظم قبائل ربيعة شأنا في بلاد العرب قبل الإسلام لعهدها القديم، فلما أشرق نور الإسلام على الجزيرة العربية، وسارعت قبائل العرب إلى الدخول في الإسلام، كانت قبيلة تغلب من القبائل التي ناصبت الإسلام والمسلمين العداء، بل إنها ناصرت سجاح حينما ادعت النبوة، وساندتها وأتباعها في حربهم المسلمين، وحتى عندما انتهى أمرها وتبددت دعوتها بعدما تصدى أبو بكر الصديق للمرتدين، وقضى على أدعياء النبوة، فإن تغلب لم تستطع أن تُخفي عداءها للمسلمين، فوقفت في صف الروم في حربها ضد المسلمين سنة 12هـ = 637م.

بنو تغلب عبر التاريخ

ومع اتساع الدولة الإسلامية وانتشار الإسلام في الجزيرة العربية وما حولها، لم يتغير موقف بني تغلب كثيرا؛ فلم يدخل منها في الإسلام إلا قليل، وبقي معظمهم على نصرانيتهم، ومع ذلك فإن الخليفة الثاني الفاروق "عمر بن الخطاب" لم يفرض عليهم الجزية التي كانت تؤخذ من أهل الكتاب، وإنما اكتفى بأن أخذ منهم الصدقة التي كانت تؤخذ من المسلمين، ولكنه ضاعفها عليهم.

وفي عصر الدولة الأموية حظي أبناء تغلب من الشعراء بمكانة عظيمة، فظهر الأخطل والقطافي -وهما شاعران نصرانيان-، وكان لهما حظ وفير من المجد والشهرة في بلاد الأمويين.

فلما جاءت الدولة العباسية، كان لبني تغلب مكانة مرموقة في كنف الأسرة العباسية، وتمكنوا من إنشاء دولتهم المستقلة التي كان لها دورها الكبير في حركة التاريخ، وساهمت بشكل فعال في إرساء نهضة حضارية وفكرية عظيمة.

ظهور وتغلغل

ولكن البداية الحقيقية لظهور الحمدانيين على مسرح الأحداث ترجع إلى مؤسس هذه الأسرة "حمدان بن حمدون التغلبي" صاحب قلعة "ماردين" القريبة من "الموصل"، وذلك عندما خاض حمدون على رأس جنوده عدة معارك قوية ضد الروم، إلا أن بداية علاقتهم الفعلية بالعباسيين لم تتحدد إلا بعد عام (272هـ=885م)، عندما تحالف مع "هارون الشاري" الخارجي، واستطاعا غزو الموصل والاستيلاء عليها، وقد أدى ذلك إلى ثورة الخليفة العباسي المعتضد وغضبه عليه، فقبض عليه وحبسه.

ومع استفحال أمر "الشاري" ظلّ الخليفة يفكر في وسيلة للقضاء عليه، ووجدها "الحسين بن حمدان" فرصة لإظهار قدراته واكتساب ثقة الخليفة وإطلاق سراح أبيه من الحبس، واستطاع الحسين هزيمة الشاري بعد معركة قوية، وأسره وقدّمه إلى الخليفة يرسف في أغلاله؛ فسر الخليفة بذلك، وأطلق سراح أبيه، وبدأ مرحلة جديدة من التعاون مع بني حمدان؛ فاستعان بهم في محاربة القرامطة والتصدي لخطرهم، كما وجههم إلى العديد من الفتوحات في فارس ومصر والمغرب.

وهكذا استطاع الحمدانيون الوصول إلى أخطر المراكز، وتقلدوا أعلى المناصب، وشاركوا مشاركة فعلية في الحياة السياسية في بغداد لفترة غير قصيرة، واستطاعت الأسرة الحمدانية أن توثق صلاتها بالعباسيين، وأخذ نفوذهم يزداد، وتوغلوا في جميع مرافق الدولة، بالرغم من الدسائس والمؤامرات المستمرة التي ظلت تحاك ضدهم من بعض العناصر غير العربية في بلاط العباسيين، وبرز عدد كبير من أبناء هذه الأسرة كان في مقدمتهم الأمير "سيف الدولة الحمداني".

سيف الدولة.. الأمير الفارس

وُلد الأمير "سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدون التغلبي" في (303هـ = 915م) في مدينة "ميافارقين" -أشهر مدن ديار بكر- على إثر تولي أبيه إمارة الموصل.

وقد عُني أبوه بتعليمه وتنشئته على الفروسية منذ نعومة أظفاره، وأظهر سيف الدولة استعدادا كبيرا ومهارة فائقة في القنص والرمي وركوب الخيل منذ صغره.

ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى صار فارسا لا يُشَقّ له غبار، وخاض العديد من المعارك الطاحنة ضد أعداء الدولة والمتمردين عليها؛ سواء في الداخل أو في الخارج.

واستطاع الأمير الشاب أن يحقق انتصارا عظيما على البريدين الذين اقتحموا بغداد عام (330هـ = 942م) ودفعوا الخليفة العباسي "المتقي لله" إلى الخروج منها، واللجوء إلى الموصل للاستنجاد بالحمدانيين، فلما حقّق الأمير الشاب "علي بن أبي الهيجاء" النصر على البريدين بعد أن تعقبهم إلى المدائن، أنعم عليه الخليفة بلقب "سيف الدولة"، وأمر أن تُضرب باسمه الدنانير والدراهم.

الانتصار على البيزنطيين

وبدأ نجم سيف الدولة يعلو ويسطع منذ ذلك الحين؛ فحقق المزيد من الانتصارات على الروم والبيزنطيين، واستطاع أن يصدّ هجماتهم، كما تمكن من المحافظة على حدود الدولة الإسلامية ضد غاراتهم، واستطاع أن يتوغل داخل حدود الدولة البيزنطية.

وقد عُني سيف الدولة بتسليح جيشه في مواجهة استعدادات الجيش البيزنطي العسكرية القوية وتنظيمه الجيد، وتنوع تسليحه، فاتجه إلى توفير المال اللازم لتجهيز الجيش وتسليح الجنود، واهتم بتدريب رجاله وتربية جنوده تربية عسكرية صارمة.

واتخذ سيف الدولة مدينة "حلب" مركزا ليبدأ منها مرحلة جديدة من حياته؛ حيث أعلن إمارته على مناطق حلب والجزيرة الفراتية وإقليم الثغور والعواصم، وبدأ يدخل في مرحلة جديدة من الصراع مع الروم البيزنطيين والحروب الطاحنة معهم، واستطاع خلالها أن يحقق عدة انتصارات عليهم، ووجه إليهم العديد من الضربات المتلاحقة الموجعة، وألحق بهم سلسلة من الهزائم المتتالية.

الصراع مع الإخشيديين

وقد أثارت انتصارات سيف الدولة على الروم البيزنطيين حفيظة والإخشيديين الذين وجدوا عليه تلك البطولات والأمجاد، وخشوا من تعاظم نفوذه وقوة شوكته؛ فتحركوا لقتاله، ولكنهم ما لبثوا أن آثروا الصلح معه بعد أن لمسوا قوته وبأسه.

وبدأ الروم البيزنطيون يعيدون ترتيب صفوفهم وتنظيم قوتهم، وراحوا يهاجمون الثغور العربية في سنة (336هـ = 947م)، ولكن الأمير سيف الدولة الحمداني تصدّى لهم وتعقبهم، وجدد البيزنطيون هجماتهم مرة أخرى بعد عام، فتعقبهم سيف الدولة، وقتل منهم عددا كبيرا.

ولكن هجمات الروم البيزنطيين لم تتوقف؛ مما دفع سيف الدولة إلى تجهيز حملة كبيرة قوامها ثلاثون ألف فارس، وانضم إليهم جيش طرطوس في أربعة آلاف مقاتل، واستطاع اقتحام حدود الدولة البيزنطية، والتوغل داخل أراضيها، وفتح عددا من حصونها، وألحق بالبيزنطيين هزيمة منكرة، وأسر عددا من قادتهم؛ مما دفع البيزنطيين إلى طلب الهدنة منه، بعد أن ضاقوا ذرعا بالحروب الطاحنة التي كبدتهم العديد من الخسائر وأصابتهم بالوهن.

نهضة شاملة

وبالرغم من الطابع العسكري والحربي لدولة الحمدانيين بصفة عامة، وإمارة سيف الدولة على نحو خاص، فإن ذلك لم يصرف الأمير "سيف الدولة" عن الاهتمام بالجوانب الحضارية والعمرانية.

فقد شيّد سيف الدولة قصره الشهير بـ"قصر الحلبة" على سفح جبل الجوشن، وتميز بروعة بنائه وفخامته وجمال نقوشه وزخارفه، وكان آية من آيات الفن المعماري البديع، كما شيّد العديد من المساجد، واهتم ببناء الحصون المنيعة والقلاع القوية.

وشهدت الحياة الاقتصادية ازدهارا ملحوظا في العديد من المجالات؛ فمن ناحية الزراعة كثرت المزروعات، وتنوعت المحاصيل من الحبوب والفاكهة والثمار والأزهار، فظهر البُرّ والشعير والذرة والأرز والبسلة وغيرها. كما ظهرت أنواع عديدة من الفاكهة كالتين والعنب والرمان والبرقوق والمشمش والخوخ والتوت والتفاح والجوز والبندق والحمضيات. ومن الرياحين والأزهار والورد والآس والنرجس والبنفسج والياسمين. كما جادت زراعة الأقطان والزيتون والنخيل. وظهرت صناعات عديدة على تلك المزروعات، مثل: الزيتون، والزبيب، كما ظهرت صناعات أخرى كالحديد والرخام والصابون والكبريت والزجاج والسيوف والميناء.

ونشطت التجارة، وظهر العديد من المراكز التجارية المهمة في حلب والموصل والرقة وحران وغيرها.

وشهدت الحياة الفكرية والثقافية نهضة كبيرة ونشاطا ملحوظا في ظل الحمدانيين؛ فظهر الكثير من العلماء والأطباء والفقهاء والفلاسفة والأدباء والشعراء.

وكان سيف الدولة يهتم كثيرا بالجوانب العلمية والحضارية في دولته، وظهر في عصره عدد من الأطباء المشهورين، مثل "عيسى الرَّقي" المعروف بالتفليسي، و"أبو الحسين بن كشكرايا"، كما ظهر "أبو بكر محمد بن زكريا الرازي" الذي كان أعظم أطباء الإسلام وأكثرهم شهرة وإنتاجا.

ومن أبرز الفلكيين والرياضيين الذين ظهروا في عصر الحمدانيين في بلاد الشام "أبو القاسم الرَّقي"، و"المجتبى الإنطاكي" و"ديونيسيوس" و"قيس الماروني"، كما عُني الحمدانيون بالعلوم العقلية كالفلسفة والمنطق، فلَمع نجمع عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين الإسلاميين في بلاط الحمدانيين، مثل: "الفارابي"، و"ابن سينا".

أما في مجال العلوم العربية؛ فقد ظهر عدد من علماء اللغة المعروفين، مثل "ابن خالويه"، و"أبو الفتح بن جني"، و"أبو على الحسين بن أحمد الفارسي"، و"عبد الواحد بن علي الحلبي" المعروف بأبي الطيب اللغوي.

كما لمع عدد من الشعراء المعروفين، مثل "المتنبي"، و"أبو فراس الحمداني"، و"الخالديان: أبو بكر، وأبو عثمان"، و"السرى الرفاء" و"الصنوبري"، و"الوأواء الدمشقي"، و"السلامي" و"النامي".

وظهر كذلك عدد كبير من الأدباء المشهورين، وفي طليعتهم "أبو الفرج الأصفهاني" صاحب كتاب "الأغاني" الذي أهداه إلى سيف الدولة؛ فكافأه بألف دينار، و"ابن نباتة"، وظهر أيضا بعض الجغرافيين، مثل: "ابن حوقل الموصلي" صاحب كتاب "المسالك والممالك"…

ولم يلبث سيف الدولة أن عاجله المرض، ثم تُوفي في (25 من صفر 356هـ = 10 من فبراير 966م)، وقيل في رمضان، وهو في الثالثة والخمسين من عمره.

وقد ظلت آثار تلك النهضة الثقافية والحضارية ذات أثر كبير في الفكر العربي والثقافة الإسلامية على مدى قرون عديدة وأجيال متعاقبة.

منقول

عبدالغفور الخطيب
28-03-2006, 02:04 AM
صلاح الدين.. أخلاق الفارس الإسلامي

(في ذكرى وفاته: 27 من صفر 589هـ)


شاءت الأقدار أن يتولى صلاح الدين الأيوبي الوزارة للخليفة العاضد الفاطمي، سنة (564هـ = 1168م)، خلفا لعمه "أسد الدين شيركوه" الذي لم ينعم بالوزارة سوى أشهر قليلة، وبتوليه هذا المنصب تغيرت حركة التاريخ في القرن السادس الهجري، فسقطت دولة كانت في النزع الأخير، وتعاني سكرات الموت، وقامت دولة حملت راية الجهاد ضد الإمارات الصليبية في الشام، واستردت بيت المقدس من بين مخالبهم، بعد أن ظل أسيرا نحو قرن من الزمان.

صلاح الدين وزيرًا

شهدت السنوات الأخيرة من عمر الدولة الفاطمية في مصر صراعا محموما بين "شاور" و"ضرغام" على منصب الوزارة، ولم ينجح واحد منهما في حسم الصراع لمصلحته، والانفراد بالمنصب الكبير، فاستعان كل منهما بقوة خارجية تعينه على تحقيق هدفه؛ فاستعان ضرغام بالصليبيين، واستعان الآخر بنور الدين محمود سلطان حلب، فلبَّى الفريقان الدعوة، وبدأ سباق بينهما لاستغلال هذا الصراع كلٌّ لصالحه، والاستيلاء على مصر ذات الأهمية البالغة لهما في بسط نفوذهما وسلطانهما في تلك المنطقة.

وانتهى الصراع بالقضاء على الوزيرين المتنافسين سنة (564هـ = 1168م)، وتولى "أسد الدين شيركوه" قائد حملة نور الدين منصب الوزارة للخليفة العاضد الفاطمي، ثم لم يلبث أن تُوفي شيركوه فخلفه في الوزارة ابن أخيه صلاح الدين الذي كان في الثانية والثلاثين من عمره.

وزير سنِّي في دولة شيعية

كانت المفارقة أن يتولى صلاح الدين السُّني المذهب الوزارة لدولة شيعية، وأن يدين في الوقت نفسه بالولاء لنور الدين الزنكي سلطان حلب التابع لدولة الخلافة العباسية، وتحولت مهمته من منع مصر من السقوط في أيدي الصليبيين إلى السعي في ردها إلى أحضان الخلافة العباسية.

ولم يكن لصلاح الدين من سابق الأعمال أو خبرة السنين ما يُسَهِّل عليه القيام بهذه المهمة الصعبة، لكنه نجح في أدائها على نحو يثير الإعجاب، والتقدير، واستعان في تحقيقها بوسائل جديدة تدل على فرط الذكاء وعمق البصيرة، وحسن التصرف، وقوة الإدراك والوعي بحركة التاريخ، وتفضيل التغيير السلمي الواعي على غيره من وسائل التغيير، وتهيئة الأجواء له حتى لا تصطدم به أي عوائق.

ولكي ينجح صلاح الدين في تحقيق هدفه كان عليه أن يقوي المذهب السني في مصر؛ حتى يتمكن من إسقاط الدولة الفاطمية، وإلغاء المذهب الإسماعيلي الشيعي، واستغرقت هذه المهمة ثلاث سنوات، لجأ في أثنائها إلى العمل المتأني والخطوات المحسوبة، فعزل القضاة الشيعيين، وأحل محلهم قضاة من أهل السنة، وأنشأ عددا من المدارس لتدريس الفقه السني.

حتى إذا وجد أن الفرصة المناسبة قد لاحت، وأن الأجواء مستعدة للإعلان عن التغيير، أقدم على خطوة شجاعة، فأعلن في الجمعة الأولى من شهر المحرم (567هـ = سبتمبر1171) قطْع الخطبة للخليفة الفاطمي الذي كان مريضًا وملازمًا للفراش، وجعلها للخليفة العباسي، فكان ذلك إيذانا بانتهاء الدولة الفاطمية، وبداية عصر جديد.

بناء الوحدة الإسلامية

قضى صلاح الدين السنوات الأولى بعد سقوط الدولة الفاطمية في تثبيت الدولة الجديدة، وبسط نفوذها وهيبتها على كل أرجائها، خاصة أن للدولة الفاطمية أنصارًا وأعوانًا ساءهم سقوطها، وأحزنهم إضعاف مذهبها الإسماعيلي، فناهضوا صلاح الدين، ودبروا المؤامرات للقضاء على الدولة الوليدة قبل أن يشتد عودها، وكان أشد تلك الحركات مؤامرة "عمارة اليمني" للقضاء على صلاح الدين، وفتنة في أسوان اشتعلت لإعادة الحكم الفاطمي، لكن تلك الحركات باءت بالفشل، وتمكَّن صلاح الدين من القضاء عليها تماما.

وبعد وفاة "نور الدين محمود" سنة (569هـ = 1174م) تهيأت الفرصة لصلاح الدين الذي يحكم مصر نيابة عنه، أن يتطلع إلى ضم بلاد الشام إلى حكمه؛ لتقوية الصف الإسلامي، وتوحيد الجهود استعدادا للوقوف أمام الصليبيين، وتحرير الأراضي المغتصبة من أيديهم، فانتهز فرصة استنجاد أحد أمراء دمشق به، فسار إلى دمشق، وتمكن من السيطرة عليها دون قتال سنة (570هـ = 1174م)، ثم على حمص وحماة وبعلبك، ثم أعلن عن استقلاله عن بيت نور الدين محمود وتبعيته للخلافة العباسية التي منحته لقب سلطان، وأصبح حاكما على مصر، ثم عاود حملته على الشام سنة (578هـ = 1182م)، ونجح في ضم حلب وبعض المدن الشامية، وأصبح شمال الشام كله تحت سيطرته، وتعهَّد حاكم الموصل بإرسال مساعدات حربية إذا طلب منه ذلك.

واستغرق هذا العمل الشاق من أجل توحيد الجبهة الإسلامية أكثر من عشر سنوات، وهي الفترة من سنة (570هـ = 1174م) إلى سنة (582هـ = 1186م)، وهي فترة لم يتفرغ فيها تماما لحرب الصليبيين.

من نصر إلى نصر

اطمأن الناصر صلاح الدين إلى جبهته الداخلية، ووثق تماما في قوتها وتماسكها، فانتقل إلى الخطوة الأخرى، وانصرف بكل قوته وطاقته إلى قتال الصليبيين، وخاض معهم سلسلة من المعارك كُلِّلت بالنصر، ثم توج انتصاراته الرائعة عليهم في معركة "حطين" سنة (583هـ = 1187م)، وكانت معركة هائلة أُسر فيها ملك بيت المقدس وأرناط حاكم حصن الكرك، وغيرهما من كبار قادة الصليبيين.

وترتب على هذا النصر العظيم، أن تهاوت المدن والقلاع الصليبية، وتساقطت في يد صلاح الدين؛ فاستسلمت قلعة طبرية، وسقطت عكا، وقيسارية، ونابلس، وأرسوف، ويافا وبيروت وغيرها، وأصبح الطريق ممهدا لأن يُفتح بيت المقدس، فحاصر المدينة المقدسة، حتى استسلمت وطلبت الصلح، ودخل صلاح الدين المدينة السليبة في (27 من رجب 583هـ = 2 من أكتوبر 1187م)، وكان يوما مشهودا في التاريخ الإسلامي.

ارتجت أوروبا لاسترداد المسلمين لمدينتهم المقدسة، وتعالت صيحات قادتهم للأخذ بالثأر والانتقام من المسلمين، فأرسلت حملة من أقوى حملاتهم الصليبية وأكثرها عددا وعتادا، وقد تألفت من ثلاثة جيوش ألمانية وفرنسية وإنجليزية، نجح جيشان منها في الوصول إلى موقع الأحداث، في حين غرق ملك ألمانيا في أثناء عبوره نهرًا بآسيا الصغرى، وتمزق شمل جيشه.

استطاع الجيش الفرنسي بقيادة "فيليب أغسطس" من أخذ مدينة عكا من المسلمين، واستولى نظيره الإنجليزي بقيادة "ريتشارد قلب الأسد" من الاستيلاء على ساحل فلسطين من "صور" إلى "حيفا"؛ تمهيدا لاستعادة بيت المقدس، لكنه فشل في ذلك، واضطر إلى طلب الصلح، فعُقد صلح بين الطرفين، عُرف بصلح الرملة في (22 من شعبان 588هـ = 2 من سبتمبر 1192م)، ولحق ريتشارد بملك فرنسا عائدا إلى بلاده.

إنجازات حضارية

يظن الكثير من الناس أن صلاح الدين شغلته أعمال الجهاد عن الانصراف إلى شئون الدولة الأخرى الحضارية، ولعل صورة الفارس المحارب صلاح الدين قد طغت على الجوانب الأخرى من شخصيته، فأخفت بعضا من ملامحها المشرقة وقسماتها المضيئة.

وأول عمل يلقانا من أعمال صلاح الدين هو دعمه للمذهب السني؛ بإنشائه مدرستين لتدريس فقه أهل السنة، هما المدرسة الناصرية لتدريس الفقه الشافعي، والمدرسة القمحية لتدريس الفقه المالكي، وسُميت بذلك؛ لأنها كانت توزع على أساتذتها ومعيديها وتلاميذها قمحًا، كانت تغله أرض موقوفة عليها، وفي الوقت نفسه قصر تولي مناصب القضاء على أصحاب المذهب الشافعي، فكان ذلك سببا في انتشار المذهب في مصر وما يتبعها من أقاليم.

وبرز في عصر صلاح الدين عدد من الشخصيات العلمية والفكرية، مثل "القاضي الفاضل" المتوفَّى سنة (596هـ = 1200م) رئيس ديوان الإنشاء وصاحب القلم البديع في الكتابة، وكان صلاح الدين يستشيره في أدق أمور الحرب والسياسة، و"العماد الأصفهاني" المتوفَّى سنة (597هـ = 1201م)، وصاحب المؤلفات المعروفة في الأدب والتاريخ، ونجح مع القاضي الفاضل في ازدهار ديوان الإنشاء في مصر، وهذا الديوان يشبه في وظيفته وزارة الخارجية.

وعُني صلاح الدين ببناء الأسوار والاستحكامات والقلاع، ومن أشهر هذه الآثار "قلعة الجبل"؛ لتكون مقرًّا لحكومته، ومعقلا لجيشه، وحصنا منيعا يمكِّنه من الدفاع عن القاهرة، غير أن صلاح الدين لم يتمكن من إتمام تشييدها في عهده، وظلت القلعة مقرا لدواوين الحكم في مصر حتى وقت قريب، وأحاط صلاح الدين الفسطاط والعسكر وأطلال القلاع والقاهرة، أحاطها جميعا بسور طوله 15كم، وعرضه ثلاثة أمتار، وتتخلله الأبراج، ولا تزال بقاياه قائمة حتى اليوم في جهات متفرقة.

واستقرت النظم الإدارية؛ فكان السلطان يرأس الحكومة المركزية في العاصمة، يليه نائب السلطان؛ وهو المنصب الذي استحدثه صلاح الدين لينوب عنه في أثناء غيابه يليه الوزير، وكان يقوم بتنفيذ سياسات الدولة، ويلي ذلك الدواوين، مثل: "ديوان النظر" الذي يشرف على الشئون المالية، و"ديوان الإنشاء" ويختص بالمراسلات والأعمال الكتابية، و"ديوان الجيش" ويختص بالإشراف على شئون الجيش، و"ديوان الأسطول" الذي عُني به صلاح الدين عناية فائقة لمواجهة الصليبيين الذين كانوا يستخدمون البحر في هجومهم على البلاد الإسلامية، وأفرد له ميزانية خاصة، وعهد به إلى أخيه العادل، وقد اشترك الأسطول في عدة معارك بحرية في سواحل مصر والشام، منها صدِّه لحملة أرناط على مكة والمدينة.

وعُني صلاح الدين بالمؤسسات الاجتماعية التي تعين الناس وتخفف عنهم بعض عناء الحياة؛ فألغى الضرائب التي كانت تفرض على الحجاج الذين يمرون بمصر، وتعهد بالإنفاق على الفقراء والغرباء الذين يلجئون إلى المساجد، وجعل من مسجد "أحمد بن طولون" مأوى للغرباء من المغاربة.

واشتهر صلاح الدين بسماحته وجنوحه إلى السلم؛ حتى صار مضرب الأمثال في ذلك، فقد عامل الصليبيين بعد استسلام المدينة المقدسة معاملة طيبة، وأبدى تسامحا ظاهرا في تحصيل الفداء من أهلها، وكان دخول المسلمين بيت المقدس دون إراقة دماء وارتكاب آثام صفحة مشرقة ناصعة، تُناقض تماما ما ارتكبه الفرنج الصليبيون عند استيلائهم على المدينة سنة (492هـ = 1099م) من الفتك بأهلها المسلمين العُزَّل وقتل الألوف منهم.

وفي أثناء مفاوضات صلح الرملة التي جرت بين المسلمين والصليبيين مرض السلطان صلاح الدين، ولزم فراشه، ثم لقي ربَّه في (27 من صفر 589هـ = 4 من مارس 1193م)، وكان يوم وفاته يوما لم يُصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين.

ولما تُوفِّي لم يخلف مالا ولا عقارا، ولم يوجد في خزائنه شيء من الذهب والفضة سوى دينار واحد، وسبعة وأربعين درهما، فكان ذلك دليلا واضحا على زهده وعفة نفسه وطهارة يده.

منقول

عبدالغفور الخطيب
30-03-2006, 02:15 AM
أنفذوا بعث أسامة

(في ذكرى تولية الرسول صلى الله عليه وسلم له: 29 من صفر 11 هـ)



كان أول أمر أصدره الخليفة "أبو بكر الصديق" بعد أن تمت له البيعة بالخلافة أن قال: "لِيُتَمَّ بعث أسامة".. وكان قرارًا صعبًا صدر في ظروف أشد صعوبة وحرجًا؛ فالعرب قد ارتدّت عن الإسلام، واضطربت شبه الجزيرة العربية، واستفحل خطر مدَّعيي النبوة: "مُسيلمة الكذّاب" في اليمامة، و"طلحة بن خويلد الأسدي" في منطقة بذاخة، شرقي المدينة المنورة، و"سَجاح" التي ادعت النبوة في قومها، بني تميم.

القائد الصغير السن

وأسامة بن زيد هو قائد الجيش الذي أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بتجهيزه وإعداده، وإمداده بكبار الصحابة من المهاجرين والأنصار؛ لتأمين شبه الجزيرة من الروم ذوي البأس والقوة، وكان أسامة حدثًا لم يتجاوز العشرين من عمره عندما عقد له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لواء القيادة في (آخر يوم من صفر سنة 11 هـ = 28 من مايو 632 هـ).

وقد سبق هذا البعث عدة حملات عسكرية لتأمين الحدود الإسلامية من مداهمة الروم لها، بعدما بزغ الدِّين الجديد، وصارت له دولة قوية، يخشى الروم من تزايد نفوذها وامتداد سلطانها، وكانت غزوة "مؤتة" التي استشهد فيها "زيد بن حارثة" قائدها ووالد أسامة، واحدةً من تلك الحملات، تبعتها غزوة "تبوك" في (غرة رجب من العام التاسع للهجرة)، وقد خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) على رأس جيش ضخم، بلغ تعداده ثلاثين ألفًا، بعدما جاءته الأنباء بأن الروم يُعدّون العدة للهجوم عليه، فلما بلغ "تبوك" تبين أن ليس للروم جموع بها، فأقام هناك ثلاثة أسابيع؛ رتب خلالها أوضاع المنطقة، وفرض سلطانه وهيبته عليها، وكانت هذه الحملة نذيرًا جعل الروم يتراجعون إلى ما وراء حدودهم دون قتال.

جدارة أسامة بالإمارة

لم تختلف مهمة أسامة كثيرًا عن الحملات السابقة؛ فقد أمره (صلى الله عليه وسلم) أن يوطئ الخيل تخوم "البلقاء" و"الداروم" من أرض فلسطين، وأن يفاجئ العدو قبل أن يستعد لخوض المعركة، فتحلّ به الهزيمة، وتلحق به الخسائر؛ فتجَهّز الناس، وانضموا إليه.

وقد تحدث بعض الصحابة في شأن تولية أسامة قيادة جيش يضم كبار المهاجرين والأنصار من أمثال عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وقتادة بن النعمان؛ فقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين والأنصار؟ وبلغت هذه المقالة النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في مرضه الأخير، وجيش أسامة مقيم بالجَرْف خارج المدينة يتأهب للمسير، فغضب النبي (صلى الله عليه وسلم) وأمر نساءه أن يُرقن عليه الماء حتى تهدأ الحُمّى، ثم خرج إلى المسجد، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ فوالله لئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبل، وأيم الله إن كان للإمارة لَخَلِيقٌ، وإن ابنه من بعده لخليقٌ بالإمارة".

وكان أسامة حقًّا خليق بالإمارة؛ حيث كان شجاعًا مقدامًا منذ نشأته، فانضم إلى جيش المسلمين وهو في طريقه إلى "أُحد"، لكن النبي (صلى الله عليه وسلم) ردّه لصغر سنه، ثم أبلى أحسن البلاء في "حُنَيْن"، وثبت فيها ثبات الأبطال.

إصرار أبي بكر على إرسال جيش أسامة

لم يتحرك جيش أسامة القابع في "الجرف" خارج المدينة حتى وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) واشتعلت فتنة المرتدين، وأحدقت الأخطار بالمدينة، ورأى أسامة أن يؤجل خروج الجيش حتى تسكن الفتنة، وتهدأ الأوضاع وتعود إلى حالتها من الأمن والاستقرار، وأفضى بهذا الرأي للخليفة أبي بكر الصديق، وعزر من هذا الرأي أن كثيرًا من الصحابة كانوا يؤيدونه؛ نظرًا لضرورة بقاء الجيش في المدينة، لحمايتها من المرتدين الذين يحيطون بها من كل جانب.

غير أن الصدّيق حين سمع هذا الرأي ثارت ثائرته، وقال: "والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفتني لأنفذت بعث أسامة، كما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته".

ثم قال لعمر بن الخطاب حين نقل إليه رسالة الأنصار بأن يولّي عليهم رجلاً أقدم سنًا من أسامة: "ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب، استعمله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتأمرني أن أنزعه".

تحرُّك جيش أسامة

أذعن الجميع لأمر الخليفة الذي أصرّ على إنفاذ جيش أسامة، وخرج إلى المعسكر ليودع أسامة ماشيًا على قدميه في (1 من ربيع الآخر 11 هـ = 27 من يونيو 632م)، وأمسك بخطام البغلة التي يركبها أسامة، فأحس أسامة بالحرج، وهو يرى الشيخ الوقور صاحب رسول الله وخليفته على المسلمين يفعل هذا، فقال: "يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتركَبَنَّ أو لأنزلنَّ". فقال أبو بكر: "والله لا تنزل، ووالله لا أركب.. وما عليّ أن أغبّر قدمي ساعة في سبيل الله"، ثم أوصاه بوصية جامعة توضح في جلاء آداب الحرب في الإسلام قال فيها:"… لا تخونوا، ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له…".

جيش أسامة يحقق هدفه

سار جيش أسامة حتى بلغ البلقاء؛ حيث تقع مؤتة، بعد عشرين يومًا من تحرُّكه من المدينة، وهناك نزل بعسكره، وأغار على "آبل"، وبث خيوله في قبائل "قضاعة"، وقضى على كل من وقف في وجهه من أعداء الله وأعداء رسوله، وأجبر المرتدين من قضاعة على الهرب إلى أماكن بعيدة عن طريق الشام؛ لأنهم لو بقوا في مواطنهم لازداد الخطر على المدينة؛ لأن المرتدين من قبائل عبس وذبيان - وكانت منازلهم إلى الشمال من المدينة - قد زحفوا على المدينة، بعدما ابتعد أسامة بجيشه، وكانت قضاعة من ورائهما تمثّل خطرًا داهمًا، إذا هي آزرت عبسًا وذبيان في زحفهما على المدينة.

وكان هرقل بحمص حين جاءته أنباء جيش أسامة، وما فعله بالقبائل العربية الموالية له في أطراف دولته على التخوم بينه وبين شبه الجزيرة العربية، فدعا بطانته، وقال لهم: "هذا الذي حذرتكم، فأبيتم أن تقبلوه مني، قد صارت العرب تأتي من مسيرة شهر فتُغِير عليكم، ثم تخرج من ساعتها ولم يصبها شيء". ثم أشار على أخيه بأن يبعث بحامية ترابط بالبلقاء، فلما تَزَل هناك حتى قدمت جيوش الفتح الإسلامية في الشام؛ فأَجْلَتها عن موضعها، وفتحت مدن الشام.

عودة الجيش الظافر

عاد أسامة بجيشه، وما إن بلغ مشارف المدينة حتى خرج لاستقباله أبو بكر الصديق ومعه جماعة من كبار المهاجرين والأنصار، وكلهم فرح وبِشر، ودخل أسامة المدينة، وقصد من فوره إلى المسجد النبوي الشريف؛ حيث صلى لله شكرًا على ما أنعم به عليه من نصر وما حققه من نتائج، حيث ألقت الفزع والهلع في قلوب القبائل العربية التي مرّت عليها في شمال شبه الجزيرة العربية، وقالوا: "لو لم يكن للقوم قوة لما أرسلوا جيوشهم تُغِير على بُعد عنهم القبائل القوية"؛ ولذا كانت حركة الردة في تلك المناطق أضعف منها في أي مكان آخر.


منقول

عبدالغفور الخطيب
31-03-2006, 02:07 AM
"دومة الجَنْدَل".. الخروج من الهزيمة إلى النصر

(في ذكرى الخروج لها: 1 ربيع الأول 5هـ)


لم تهدأ ثائرة مشركي مكة بعد هزيمتهم في بدر على أيدي المسلمين، ومقتل عدد كبير من رجالات قريش وصناديد العرب وعتاة الكفر على أسنة رماح المسلمين وحد سيوفهم، فظلوا يتحينون الفرصة للانتقام من محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، وإنزال الهزيمة بهم، يريدون بذلك أن يمحوا عن أنفسهم عار هزيمتهم الكبرى في بدر.

وحانت لهم تلك الفرصة في أُحد، خاصة بعد أن خالف الرماة أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) وتخلوا عن موقعهم أعلى الجبل، فوجدها خالد بن الوليد داهية العرب وكان على رأس فرسان قريش فرصة مواتية للالتفاف حول جيش المسلمين وإلحاق الهزيمة بهم.

واستطاع خالد صعود الجبل وقتل من بقي من رماة المسلمين، ثم فاجأ جيش المسلمين بمن معه من المشركين؛ فانكشف المسلمون، وكانت محنة قاسية ألحقت بهم هزيمة أليمة، برغم صمودهم واستبسالهم في القتال، ولكن وقع المفاجأة كان شديدا، وسرعة المباغتة حسمت المعركة لصالح المشركين.

وعاد المسلمون إلى المدينة يلملمون جراح الحرب وأتراح الهزيمة، ولم تكن آلام الجرحى ولهفات الثكالى تساوي شيئا أمام مرارة الهزيمة وإخفاق راية المسلمين في إحدى معاركهم ضد المشركين.

تسببت الهزيمة في حرج موقف المسلمين في المدينة -بالرغم من بقاء سلطانهم عليها- أمام اليهود والمشركين الشامتين والمترقبين زوال دولة المسلمين من المدينة، وإن كانوا حتى ذلك الحين وبالرغم مما مُني به المسلمون من الهزيمة لا يقوون على مجاهرة المسلمين بشعورهم أو مناصبتهم العداء.

وأدرك النبي (صلى الله عليه وسلم) ما يعمل في صدور المسلمين من الحزن والأسى، وما يشعرون به من مرارة الهزيمة وجرح الإخفاق، بالرغم من مواساة القرآن الكريم للمسلمين وعزائه لهم في قوله تعالى: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين" آل عمران – 140.

فقد كانت قلوب المسلمين وهِمَهم تهفو إلى الخروج من دائرة الحزن وتجاوز الهزيمة إلى الإعلان عن قوتهم، وإظهار بأسهم لأعدائهم المتربصين بهم، سواء من الداخل (في المدينة) أو من الخارج (قريش وقبائل العرب من المشركين).

مؤامرات اليهود وخيانتهم عهد النبي

أراد النبي (صلى الله عليه وسلم) كما أراد المسلمون أن يثبتوا لأعدائهم أنهم ما زالوا يملكون من القوة والبأس ما يستعيدون به مكانتهم وهيبتهم في نفوس العرب واليهود.

وكان بين المسلمين واليهود من سكان المدينة عهد وضعه النبي (صلى الله عليه وسلم) وأقره الطرفان منذ اللحظة الأولى لدخول النبي (صلى الله عليه وسلم) المدينة، تُكفل بمقتضاه حرية العقيدة والعبادة للطرفين، كما كانت بينهما وثيقة دفاع مشترك عن المدينة ضد أي خطر يتهددها أو عدوان عليها من الخارج.

ولكن طمع اليهود في الاستئثار بالمدينة وما جُبلوا عليه من الغدر والمكر والخداع جعلهم يتآمرون على النبي (صلى الله عليه وسلم) ويخططون لاغتياله والتخلص منه ومن دعوته، وعلم النبي (صلى الله عليه وسلم) بما حاكه يهود بني النضير ضده، بعد أن أطلعه الله على تدبيرهم ومؤامرتهم.

فأرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى بني النضير يأمرهم بالجلاء عن المدينة، ليعود الأمن والاستقرار يرفرف من جديد عليها، بعد أن تخلص المسلمون من غدرهم ومؤامراتهم، وتمتعوا بما أفاء الله عليهم به من أموال اليهود وحدائقهم.

وعلم النبي (صلى الله عليه وسلم) بعزم مشركي مكة على الخروج لملاقاة المسلمين في جيش كبير؛ فاستعد لهم وخرج للقائهم في نحو ألف فارس، وجعل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وخرج المشركون من مكة بقيادة أبي سفيان بن حرب في نحو ألفي فارس، ولكن أبا سفيان قرر العودة إلى مكة بعد مسيرة يومين فرجع بأصحابه، وظل النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمون ينتظرون 8 أيام قاموا خلالها ببعض العمليات التجارية مع قبائل المنطقة ربحوا فيها أموالا كثيرة، ثم عادوا إلى المدينة تسبقهم بشرى انسحاب قريش من مواجهتهم في بدر الآخرة وفرار المشركين من لقائهم؛ وهو ما أعاد إلى المسلمين المزيد من الثقة والطمأنينة، وأكسبهم المزيد من الهيبة والعزة في نفوس أعدائهم.

الخطر القادم من الشمال

ولكن ما لبث النبي (صلى الله عليه وسلم) أن علم باجتماع قبائل "دومة الجَنْدَل" وتجهزهم لحرب المسلمين وتهديد المدينة، وكانوا يعتدون على القوافل التي تمر بهم، ويتعرضون لمن يدنون من أراضيهم فينهبون التجارة ويسلبون الأموال ويقتلون كل من يعترضهم، حتى أصبحوا مصدر خطر على قوافل التجارة التي تأتي إلى المدينة والتي ينتظرها المسلمون ويعتمدون عليها.

فندب النبي (صلى الله عليه وسلم) المسلمين للخروج لقتال تلك القبائل وكف أذاها والقضاء على تهديدها المستمر للمدينة؛ فخرج معه ألف من المسلمين، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة "سباع بن عُرْفُطة الغفاري" وانطلق المسلمون في طريقهم إلى دومة الجندل.

كانت المسافة طويلة والطرق موحشة والصحراء قاحلة شديدة القيظ، وكان على المسلمين أن يقطعوا نحو 300 كم ليصلوا إلى دومة الجندل في شمال الجزيرة العربية، ما بين الحجاز والشام على بعد نحو 10 مراحل من المدينة.

واختار النبي (صلى الله عليه وسلم) معه دليلا من بني عذرة يقال له "مذكور" كان شديد الذكاء، على قدر فائق من المهارة والخبرة والدراية بدروب الصحراء وطرقها الخفية ومضايقها.

وانطلق النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه يقطعون الفيافي والقفار، مستهينين بالمصاعب والمشاق، متحملين القيظ الشديد وجدب الصحراء وقلة الماء، لا يبالون بالموت، يدفعهم إيمانهم بالله ورسوله إلى اجتياز تلك الصحراء القاحلة والفيافي الموحشة؛ طاعة لله تعالى، واستجابة لنداء النبي صلى الله عليه وسلم، يحركهم إيمانهم القوي بالنصر والظفر.

وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يسير ليلا ويكمن نهارا؛ حتى لا يشعر به أحد من المشركين ولا تنتبه إلى قدومه قبائل دومة الجندل، فيصل إليها قبل أن تستعد للقائه؛ وهو ما يكفل له تحقيق عنصر المفاجأة ومباغتة العدو.

كما أراد النبي (صلى الله عليه وسلم) بذلك أيضا أن يتقي وأصحابه قيظ الصحراء وحرها الشديد، ولفح شمسها ولهيب رمالها؛ فلا يقابل المسلمون أعداءهم وهم خائرو القوة، منهكون من أثر وعورة الطريق وحرارة الجو.

انتصار بلا قتال

فلما اقترب النبي (صلى الله عليه وسلم) من دومة الجندل أخبره الدليل بوجود قطعان من الإبل والماشية ترعى في الصحراء، وكانت لقوم من تميم فانطلق المسلمون ليستولوا عليها، واستطاعوا أن يجمعوا عددا منها، بينما فر الكثير منها وتفرقت في كل اتجاه.

وشعر أهل دومة الجندل بقدوم المسلمين فأسرعوا بالفرار تاركين ديارهم ومتاعهم لينجوا بأنفسهم من المسلمين.

ونزل النبي (صلى الله عليه وسلم) بساحتهم فلم يجد بها أحدا فأقام النبي بها أياما وبث السرايا تبحث في كل الأنحاء، ولكنهم لم يلقوا أحدا ولم يظفروا إلا برجل منهم أتى به محمد بن مسلمة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فسأله عن أصحابه فقال: هربوا أمس، فعرض عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) الإسلام فأسلم.

وبقي النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمون بها أياما، ثم رجعوا إلى المدينة في 20 من ربيع الآخر 5 هـ= 18 من سبتمبر 626 م.

كانت غزوة "دومة الجندل" -كما أطلق عليها بعض العسكريين المعاصرين – عملية عسكرية ذات طابع تعرّضي للدفاع عن قاعدة الإسلام في المدينة، إذ إن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم ينتظر حتى يفاجئه أعداؤه بشن هجومهم على المدينة، وإنما بادر بالإغارة عليهم فور علمه بما عزموا عليه.

وقد استهدفت تلك الغزوة تحقيق عدة أهداف تكتيكية وإستراتيجية؛ فقد ساهمت في القضاء على روح الضعف والتخاذل التي كادت تصيب المسلمين بعد هزيمتهم في أحد، وساعدت على التخلص من آثار تلك الهزيمة التي أصابتهم، كما عملت على رفع الروح المعنوية لديهم واستعادة الثقة بالنفس، وفي الوقت نفسه تدمير الروح المعنوية لجنود الأعداء.

كما أنها كانت بمثابة استعراض لقوة المسلمين لإرهاب أعدائهم وتبديد أطماعهم في المسلمين، بالإضافة إلى ما حققته من إحباط لخطط العدو الهجومية ووأدها في مهدها، وحرمان العدو من تحقيق عنصر المفاجأة وسرعة المبادأة.

العبقرية العسكرية للرسول القائد

قد تجلت العبقرية العسكرية للنبي (صلى الله عليه وسلم) في تلك الغزوة من عدة وجوه منها:

-استخدام ما يُعرف بالإنذار المبكر، ومعرفة تحركات العدو وخططه العسكرية مبكرا.

-عدم الاستهانة بالعدو، والاستعداد الجيد للمعركة، والاستعانة بأهل الخبرة والمتخصصين في فنون الحرب ودروب الصحراء.

-السرية التامة وإخفاء والتمويه المتقن، وذلك بسلك طرق غير مألوفة، والسير والتحرك ليلا، والكمون والراحة نهارا.

-الحرص على تأكيد السيطرة على الموقف، وإعلان السيادة وتحقيق النصر عند فرار الأعداء، وذلك بالبقاء في ديار الأعداء الهاربين لمدة طويلة.

-تحقيق عنصر المبادأة أو المبادرة ومفاجأة الأعداء بالهجوم عليهم في عقر دارهم، قبل أن يكملوا استعدادهم، وبذلك يتمكن من إحراز النصر.


منقول

عبدالغفور الخطيب
02-04-2006, 02:36 AM
"المعري".. فيلسوف الشعراء

(في ذكرى وفاته: 3 ربيع الأول 449هـ)


نشأ "أبو العلاء المعري" في أسرة مرموقة تنتمي إلى قبيلة "تنوخ" العربية، التي يصل نسبها إلى "يَعرُب بن قحطان" جدّ العرب العاربة.

ويصف المؤرخون تلك القبيلة بأنها من أكثر قبائل العرب مناقب وحسبًا، وقد كان لهم دور كبير في حروب المسلمين، وكان أبناؤها من أكثر جند الفتوحات الإسلامية عددًا، وأشدهم بلاءً في قتال الفرس.

وُلد أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان في بلدة "معرَّة النعمان" من أعمال "حلب" بشمال "سوريا" في (27 من ربيع الأول 363هـ = 26 من ديسمبر 973م).

ونشأ في بيت علم وفضل ورياسة متصل المجد، فجدُّه "سليمان بن أحمد" كان قاضي "المعرَّة"، وولي قضاء "حمص"، ووالده "عبد الله" كان شاعرًا، وقد تولى قضاء المعرَّة وحمص خلفًا لأبيه بعد موته، أمَّا أخوه الأكبر محمد بن عبد الله (355 - 430هـ = 966 – 1039م) فقد كان شاعرًا مُجيدًا، وأخوه الأصغر "عبد الواحد بن عبد الله" (371 – 405هـ = 981 - 1014م) كان شاعرًا أيضًا.

محنة في محنة

وعندما بلغ أبو العلاء الثالثة من عمره أُصيب بالجدري، وقد أدَّى ذلك إلى فقد بصره في إحدى عينيه، وما لبث أن فقد عينه الأخرى بعد ذلك.

ولكن هذا البلاء على قسوته، وتلك المحنة على شدتها لم تُوهِن عزيمته، ولم تفُتّ في عضده، ولم تمنعه إعاقته عن طلب العلم، وتحدي تلك الظروف الصعبة التي مرَّ بها، فصرف نفسه وهمته إلى طب العلم ودراسة فنون اللغة والأدب والقراءة والحديث.

فقرأ القرآن على جماعة من الشيوخ، وسمع الحديث عن أبيه وجدِّه وأخيه الأكبر وجدَّتِه "أم سلمة بنت الحسن بن إسحاق"، وعدد من الشيوخ، مثل: "أبي زكريا يحيى بن مسعر المعري"، و"أبي الفرج عبد الصمد الضرير الحمصي"، و"أبي عمرو عثمان الطرسوسي".

وتلقَّى علوم اللغة والنحو على يد أبيه وعلى جماعة من اللغويين والنحاة بمعرَّة النعمان، مثل: "أبي بكر بن مسعود النحوي"، وبعض أصحاب "ابن خالوية".

وكان لذكائه ونبوغه أكبر الأثر في تشجيع أبيه على إرساله إلى "حلب" – حيث يعيش أخواله – ليتلقى العلم على عدد من علمائها، وهناك التقى بالنحوي "محمد بن عبد الله بن سعد" الذي كان راوية لشعر "المتنبي"، ومن خلاله تعرَّف على شعر "المتنبي" وتوثقت علاقته به.

ولكن نَهَم "أبي العلاء" إلى العلم والمعرفة لم يقف به عند "حلب"، فانطلق إلى "طرابلس" الشام؛ ليروى ظمأه من العلم في خزائن الكتب الموقوفة بها، كما وصل إلى "أنطاكية"، وتردد على خزائن كتبها ينهل منها ويحفظ ما فيها.

وقد حباه الله تعالى حافظة قوية؛ فكان آية في الذكاء المفرط وقوة الحافظة، حتى إنه كان يحفظ ما يُقرأ عليه مرّة واحدة، ويتلوه كأنه يحفظه من قبل، ويُروى أن بعض أهل حلب سمعوا به وبذكائه وحفظه – على صغر سنه – فأرادوا أن يمتحنوه؛ فأخذ كل واحد منهم ينشده بيتًا، وهو يرد عليه ببيت من حفظه على قافيته، حتى نفد كل ما يحفظونه من أشعار، فاقترح عليهم أن ينشدوه أبياتًا ويجيبهم بأبيات من نظمه على قافيتها، فظل كل واحد منهم ينشده، وهو يجيب حتى قطعهم جمعيًا.

بين اليأس والرجاء

عاد "أبو العلاء" إلى "معرة النعمان" بعد أن قضى شطرًا من حياته في "الشام" يطلب العلم على أعلامها، ويرتاد مكتباتها.

وما لبث أبوه أن تُوفي، فامتحن أبو العلاء باليُتم، وهو ما يزال غلامًا في الرابعة عشرة من عمره، فقال يرثي أباه:

أبي حكمت فيه الليالي ولم تزل
رماحُ المنايا قادراتٍ على الطعْنِ

مضى طاهرَ الجثمانِ والنفسِ والكرى
وسُهد المنى والجيب والذيل والرُّدْنِ


وبعد وفاة أبيه عاوده الحنين إلى الرحلة في طلب العلم، ودفعه طموحه إلى التفكير في الارتحال إلى بغداد، فاستأذن أمه في السفر، فأذنت له بعد أن شعرت بصدق عزمه على السفر، فشد رحاله إليها عام (398هـ = 1007م).

نجم يسطع في سماء "بغداد"

واتصل "أبو العلاء" في بغداد بخازن دار الكتب هناك "عبد السلام البصري"، وبدأ نجمه يلمع بها، حتى أضحى من شعرائها المعدودين وعلمائها المبرزين؛ مما أثار عليه موجدة بعض أقرانه ونقمة حساده، فأطلقوا ألسنتهم عليه بالأقاويل، وأثاروا حوله زوابع من الفتن والاتهامات بالكفر والزندقة، وحرّضوا عليه الفقهاء والحكام، ولكن ذلك لم يدفعه إلى اليأس أو الانزواء، وإنما كان يتصدى لتلك الدعاوى بقوة وحزم، ساخرًا من جهل حساده، مؤكدًا إيمانه بالله تعالى ورضاه بقضائه، فيقول تارة:

غَرِيَتْ بذمِّي أمةٌ....وبحمدِ خالقِها غريتُ


وعبدتُ ربِّي ما استطعـ.....ـتُ، ومن بريته برِيتُ



ويقول تارة أخرى:

خُلِقَ الناسُ للبقاء فضلَّت.... أمةٌ يحسبونهم للنفادِ


إنما ينقلون من دار أعما.....لٍ إلى دار شقوة أو رشادِ



ولم يكن أبو العلاء بمعزل عن المشاركة في الحياة الاجتماعية والفكرية في عصره؛ فنراه يشارك بقصائده الحماسية في تسجيل المعارك بين العرب والروم، كما يعبر عن ضيقه وتبرمه بفساد عصره واختلال القيم والموازين فيه، ويكشف عن كثير مما ظهر في عصره من صراعات فكرية ومذهبية، كما يسجل ظهور بعض الطوائف والمذاهب والأفكار الدينية والسياسية.

وقد عرف له أهل بغداد فضله ومكانته؛ فكانوا يعرضون عليه أموالهم، ويلحُّون عليه في قبولها، ولكنه كان يأبى متعففًا، ويردها متأنفًا، بالرغم من رقة حالة، وحاجته الشديدة إلى المال، ويقول في ذلك:

لا أطلبُ الأرزاقَ والمو....لى يفيضُ عليَّ رزقي


إن أُعطَ بعضَ القوتِ أعـ.....ـلم أنَّ ذلك فوق حقي



وكان برغم ذلك راضيًا قانعًا، يحمد الله على السراء والضراء، وقد يرى في البلاء نعمة تستحق حمد الخالق عليها فيقول:

"أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر".



رسالة الغفران

لم يطل المقام بأبي العلاء في بغداد طويلاً؛ إذ إنه دخل في خصومة مع "المرتضي العلوي" أخي "الشريف الرضي"، بسبب تعصب "المعري" للمتنبي وتحامل المرتضي عليه؛ فقد كان أبو العلاء في مجلس المرتضي ذات يوم، وجاء ذكر المتنبي، فتنقصه المرتضي وأخذ يتتبع عيوبه ويذكر سرقاته الشعرية، فقال أبو العلاء: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قصيدته: "لك يا منازل في القلوب منازل" لكفاه فضلاً.

فغضب المرتضي، وأمر به؛ فسُحب من رجليه حتى أُخرج مهانًا من مجلسه، والتفت لجلسائه قائلاً: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر تلك القصيدة؟ فإن للمتنبي ما هو أجود منها لم يذكره. قالوا: النقيب السيد أعرف! فقال: إنما أراد قوله:

وإذا أتتك مذمَّتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأنِّي كامل


وفي تلك الأثناء جاءت الأخبار إلى أبي العلاء بمرض أمه، فسارع بالرجوع إلى موطنه بعد نحو عام ونصف العام من إقامته في بغداد.

العودة إلى الوطن

غادر أبو العلاء بغداد في (24 من رمضان 400 هـ = 11 من مايو 1010م)، وكانت رحلة العودة شاقة مضنية، جمعت إلى أخطار الطريق وعناء السفر أثقال انكسار نفسه، ووطأة همومه وأحزانه، وعندما وصل أبو العلاء إلى بلدته كانت هناك مفاجأة قاسية في انتظاره.. لقد تُوفِّيت أمه وهو في طريق عودته إليها.

ورثاها أبو العلاء بقصيدة تقطُر لوعة وحزنًا، وتفيض بالوجد والأسى. يقول فيها:

لا بارك الله في الدنيا إذا انقطعت
أسباب دنياكِ من أسباب دنيانا


ولزم داره معتزلاً الناس، وأطلق على نفسه "رهين المحبسين"، وظلَّ على ذلك نحو أربعين عامًا، لم يغادر خلالها داره إلا مرة واحدة، عندما دعاه قومه ليشفع لهم عند "أسد الدولة بن صالح بن مرداس" - صاحب حلب - وكان قد خرج بجيشه إلى "المعرة" بين عامي (417،418هـ = 1026،1027م)؛ ليخمد حركة عصيان أهلها، فخرج أبو العلاء، متوكئا على رجُل من قومه، فلما علم صالح بقدومه إليه أمر بوقف القتال، وأحسن استقباله وأكرمه، ثم سأله حاجته، فقال أبو العلاء:

قضيت في منزلي برهةً.......سَتِير العيوب فقيد الحسد


فلما مضى العمر إلا الأقل......وهمَّ لروحي فراق الجسد


بُعثت شفيعًا إلى صالح...... وذاك من القوم رأي فسد


فيسمع منِّي سجع الحمام..... وأسمع منه زئير الأسد



فقال صالح: بل نحن الذين تسمع منَّا سجع الحمام، وأنت الذي نسمع منه زئير الأسد. ثم أمر بخيامه فوضعت، ورحل عن "المعرة".

أبو العلاء النباتي

وكان أبو العلاء يأخذ نفسه بالشدة، فلم يسع في طلب المال بقدر ما شغل نفسه بطلب العلم، وهو يقول في ذلك:

"وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب، ولا أتكثر بلقاء الرجال، ولكن آثرت الإقامة بدار العلم، فشاهدت أنفس مكان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه".

ويُعدُّ أبو العلاء من أشهر النباتيين عبر التاريخ؛ فقد امتنع عن أكل اللحم والبيض واللبن، واكتفى بتناول الفاكهة والبقول وغيرها مما تنبت الأرض.

وقد اتخذ بعض أعدائه من ذلك المسلك مدخلاً للطعن عليه وتجريحه وتسديد التهم إليه، ومحاولة تأويل ذلك بما يشكك في دينه ويطعن في عقيدته.

وهو يبرر ذلك برقة حاله وضيق ذات يده، وملاءمته لصحته فيقول:

"ومما حثني على ترك أكل الحيوان أن الذي لي في السنة نيِّفٌ وعشرون دينارًا، فإذا أخذ خادمي بعض ما يجب بقي لي ما لا يعجب، فاقتصرت على فول وبلسن، وما لا يعذب على الألسن.. ولست أريد في رزقي زيادة ولا لسقمي عيادة".

وعندما كثر إلحاح أهل الفضل والعلم على أبي العلاء في استزارته، وأبت به مروءته أن يرد طلبهم أو يقطع رجاءهم، وهم المحبون له، العارفون لقدره ومنزلته، المعترفون بفضله ومكانته؛ فتح باب داره لا يخرج منه إلى الناس، وإنما ليدخل إليه هؤلاء المريدون.

فأصبح داره منارة للعلم يؤمها الأدباء والعلماء، وطلاب العلم من كافة الأنحاء، فكان يقضي يومه بين التدريس والإملاء، فإذا خلا بنفسه فللعبادة والتأمل والدعاء.

وكما لم تلن الحياة لأبي العلاء يومًا في حياته، فإنها أيضًا كانت قاسية عند النهاية؛ فقد اعتلّ شيخ المعرَّة أيامًا ثلاثة، لم تبق من جسده الواهن النحيل إلا شبحًا يحتضر في خشوع وسكون، حتى أسلم الروح في (3 من ربيع الأول 449هـ = 10 من مايو 1057م) عن عمر بلغ 86 عامًا.

آثاره أبي العلاء

وقد ترك أبو العلاء تراثًا عظيمًا من الشعر والأدب والفلسفة، ظل موردًا لا ينضب للدارسين والباحثين على مر العصور، وكان له أكبر الأثر في فكر وعقل كثير من المفكرين والعلماء والأدباء في شتى الأنحاء، ومن أهم تلك الآثار:

- رسالة الغفران: التي ألهبت خيال كثير من الأدباء والشعراء على مَرِّ الزمان، والتي تأثر بها "دانتي" في ثُلاثيته الشهيرة "الكوميديا الإلهية".

- سقط الزند: وهو يجمع شعر أبي العلاء في شبابه، والذي استحق به أن يوصف بحق أنه خليفة المتنبي.

- لزوم ما لا يلزم (اللزوميات)، وهو شعره الذي قاله في كهولته، وقد أجاد فيه وأكثر بشكل لم يبلغه أحد بعده، حتى بلغ نحو (13) ألف بيت.

- الفصول والغايات (في تمجيد الله والمواعظ).

- عبث الوليد: وهو شرح نقدي لديوان "البحتري".

- معجز أحمد: وهو شرح ديوان "أبي الطيب المتنبي".

- رسالة الملائكة.

- رسالة الحروف.

- الرسالة الإغريضية.

- الرسالة المنيحية.



منقول

عبدالغفور الخطيب
03-04-2006, 03:08 AM
محمد الفاتح.. صاحب البشارة

(في ذكرى وفاته: 4 ربيع الأول 886هـ)



شاءت الأقدار أن يكون السلطان العثماني محمد الفاتح هو صاحب البشارة التي بشّر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه: "لتَفْتَحُنّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش" [مسند أحمد: 4/335].

وانتظر المسلمون ثمانية قرون ونصف قرن حتى تحققت البشارة، وفُتحت القسطنطينية بعد محاولات جادة بدأت منذ عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه (32هـ=652م)، وازدادت إصرارًا في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في مرتين: الأولى سنة (49هـ = 666م) والثانية بين سنتي (54-60=673-679م)، واشتعلت رغبة وأملاً طموحًا في عهد سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي سنة (99هـ=719م).. لكن هذه المحاولات لم يُكتب لها النجاح والتوفيق.

نشأة محمد الفاتح

ولد السلطان محمد الفاتح في (27 من رجب 835 هـ = 30 من مارس 1432م)، ونشأ في كنف أبيه السلطان "مراد الثاني" سابع سلاطين الدولة العثمانية، الذي تعهّده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرًا بالسلطنة والنهوض بمسئولياتها؛ فأتم حفظ القرآن، وقرأ الحديث، وتعلم الفقه، ودرس الرياضيات والفلك وأمور الحرب، وإلى جانب ذلك تعلم العربية والفارسية واللاتينية واليونانية، واشترك مع أبيه السلطان مراد في حروبه وغزواته.

ثم عهد إليه أبوه بإمارة "مغنيسيا"، وهو صغير السن، ليتدرب على إدارة شئون الدولة وتدبير أمورها، تحت إشراف مجموعة من كبار علماء عصره، مثل: الشيخ "آق شمس الدين"، و"المُلا الكوراني"؛ وهو ما أثر في تكوين شخصية الأمير الصغير، وبناء اتجاهاته الفكرية والثقافية بناءً إسلاميًا صحيحًا.

وقد نجح الشيخ "آق شمس الدين" في أن يبث في روح الأمير حب الجهاد والتطلع إلى معالي الأمور، وأن يُلمّح له بأنه المقصود ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم، فشبَّ طامح النفس، عالي الهمة، موفور الثقافة، رهيف الحس والشعور، أديبًا شاعرًا، فضلاً عن إلمامه بشئون الحرب والسياسة.

تولى محمد الفاتح السلطنة بعد وفاة أبيه في (5 من المحرم 855 هـ=7من فبراير 1451م)، وبدأ في التجهيز لفتح القسطنطينية، ليحقق الحلم الذي يراوده، وليكون هو محل البشارة النبوية، وفي الوقت نفسه يسهل لدولته الفتية الفتوحات في منطقة البلقان، ويجعل بلاده متصلة لا يفصلها عدو يتربص بها.

ومن أبرز ما استعد له لهذا الفتح المبارك أن صبَّ مدافع عملاقة لم تشهدها أوروبا من قبل، وقام ببناء سفن جديدة في بحر مرمرة لكي تسد طريق "الدردنيل"، وشيّد على الجانب الأوروبي من "البوسفور" قلعة كبيرة عُرفت باسم قلعة "روملي حصار" لتتحكم في مضيق البوسفور.

فتح القسطنطينية

وبعد أن أتم السلطان كل الوسائل التي تعينه على تحقيق النصر، زحف بجيشه البالغ 265 ألف مقاتل من المشاة والفرسان، تصحبهم المدافع الضخمة، واتجهوا إلى القسطنطينية، وفي فجر يوم الثلاثاء الموافق (20 من جمادى الأولى 857هـ= 29 من مايو 1453م) نجحت قوات محمد الفاتح في اقتحام أسوار القسطنطينية، في واحدة من العمليات العسكرية النادرة في التاريخ، وسيأتي تفاصيلها في يوم فتحها.. وقد لُقب السلطان "محمد الثاني" من وقتها بـ"محمد الفاتح" وغلب عليه، فصار لا يُعرف إلا به.

ولما دخل المدينة ترجّل عن فرسه، وسجد لله شكرًا، ثم توجه إلى كنيسة "آيا صوفيا"، وأمر بتحويلها مسجدًا، وأمر بإقامة مسجد في موضع قبر الصحابي الجليل "أبي أيوب الأنصاري" الذي كان ضمن صفوف المحاولة الأولى لفتح المدينة العريقة، وقرر اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته، وأطلق عليها اسم "إسلام بول" أي دار الإسلام، ثم حُرفت بعد ذلك واشتهرت بإستانبول، وانتهج سياسة متسامحة مع سكان المدينة، وكفل لهم ممارسة عباداتهم في حرية كاملة، وسمح بعودة الذين غادروا المدينة في أثناء الحصار إلى منازلهم.

ما بعد الفتح

بعد إتمام هذا الفتح الذي حققه محمد الثاني وهو لا يزال شابًا لم يتجاوز الخامسة والعشرين -وكان هذا من آيات نبوغه العسكري المبكر – اتجه إلى استكمال الفتوحات في بلاد البلقان، ففتح بلاد الصرب سنة (863هـ=1459م)، وبلاد المورة (865هـ= 1460م)، وبلاد الأفلاق والبغدان (رومانيا) سنة (866هـ=1462م)، وألبانيا بين عامي (867-884م=1463-1479م)، وبلاد البوسنة والهرسك بين عامي (867-870هـ=1463-1465م)، ودخل في حرب مع المجر سنة (881هـ=1476م)، كما اتجهت أنظاره إلى آسيا الصغرى ففتح طرابزون سنة (866هـ=1461م).

كان من بين أهداف محمد الفاتح أن يكون إمبراطورًا على روما، وأن يجمع فخارًا جديدًا إلى جانب فتحة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، ولكي يحقق هذا الأمل الطموح كان عليه أن يفتح إيطاليا، فأعدَّ لذلك عدته، وجهّز أسطولاً عظيمًا، تمكّن من إنزال قواته وعدد كبير من مدافعه بالقرب من مدينة "أوترانت"، ونجحت تلك القوات في الاستيلاء على قلعتها، وذلك في (جمادى الأولى 885هـ= يوليو 1480م).

وعزم محمد الفاتح على أن يتخذ من تلك المدينة قاعدة يزحف منها شمالاً في شبه جزيرة إيطاليا، حتى يصل إلى روما، لكن المنيّة وافته في (4 من ربيع الأول 886هـ=3 من مايو 1481م)، واُتهم أحد أطبائه بدس السم له في الطعام، وكان لموته دوي هائل في أوروبا، التي تنفست الصعداء حين علمت بوفاته، وأمر البابا أن تقام صلاة الشكر ثلاثة أيام ابتهاجًا بهذا النبأ.

محمد الفاتح رجل الدولة وراعي الحضارة

لم تكن ميادين الجهاد والحرب التي خاضها محمد الفاتح خلال مدة حكمه التي بلغت ثلاثين عامًا هي أبرز إنجازات محمد الفاتح؛ حيث اتسعت الدولة العثمانية اتساعًا عظيمًا لم تشهده من قبل -وإنما كان رجل دولة من طراز رفيع، فقد استطاع بالتعاون مع الصدر الأعظم "قرة مانلي محمد باشا"، وكاتبه "ليث زاده محمد جلبي" وضع الدستور المسمى باسمه، وقد بقيت مبادئه الأساسية سارية المفعول في الدولة العثمانية حتى عام (1255هـ=1839م).

واشتهر محمد الفاتح بأنه راع للحضارة والأدب، وكان شاعرًا مجيدًا له ديوان شعر، وقد نشر المستشرق الألماني "ج. جاكوب" أشعاره في برلين سنة (1322هـ=1904م)، وكان الفاتح يداوم على المطالعة وقراءة الأدب والشعر، ويصاحب العلماء والشعراء، ويصطفي بعضهم ويُوليهم مناصب الوزارة.

ومن شغفه بالشعر عهد إلى الشاعر "شهدي" أن ينظم ملحمة شعرية تصور التاريخ العثماني على غرار "الشاهنامة" التي نظمها الفردوسي. وكان إذا سمع بعالم كبير في فن من الفنون قدّم له يد العون والمساعدة بالمال، أو باستقدامه إلى دولته للاستفادة من علمه، مثلما فعل مع العالم الفلكي الكبير "علي قوشجي السمرقندي"، وكان يرسل كل عام مالاً كثيرًا إلى الشاعر الهندي "خواجه جيهان"، والشاعر الفارسي "عبد الرحمن جابي".

واستقدم محمد الفاتح رسامين من إيطاليا إلى القصر السلطاني، لإنجاز بعض اللوحات الفنية، وتدريب بعض العثمانيين على هذا الفن.

وعلى الرغم من انشغال الفاتح بالجهاد فإنه عُني بالإعمار وتشييد المباني الراقية، فعلى عهده أنشئ أكثر من ثلاثمائة مسجد، منها في العاصمة "إستانبول" وحدها (192) مسجدًا وجامعًا، بالإضافة إلى (57) مدرسة ومعهدًا، و(59) حمامًا.

ومن أشهر آثاره المعمارية مسجد السلطان محمد، وجامع أبي أيوب الأنصاري، وقصر "سراي طوب قبو".

لقد كان الفاتح مسلمًا ملتزمًا بأحكام الشريعة الإسلامية، تقيًا ورعًا بفضل النشأة التي نشأها وأثرت فيه تأثيرًا عظيمًا، أما سلوكه العسكري فكان سلوكًا متحضرًا، لم تشهده أوروبا في عصورها الوسطى ولم تعرفه شريعتها من قبل.


منقول

عبدالغفور الخطيب
04-04-2006, 02:46 AM
مذبحة القلعة..

(في ذكرى وقوعها: 5 من صفر 1226 هـ)


بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر سنة (11216 هـ= 1801م)، سادت مصر حالةٌ من الفوضى والاضطراب، نتيجة لصراع المماليك على الحكم، وانقسامهم على أنفسهم، فبعضهم يسعى إلى السيطرة على الحكم في البلاد والوصول إلى السلطة بدعم من إنجلترا، التي بدأ شعورها يتنامى بأهمية مصر، وخشيت من عودة النفوذ الفرنسي إليها، ومن ثم فقد حرصت على أن توطد أقدامها في مصر، وأن يكون أصحاب السلطة فيها من الموالين لها؛ فسعت إلى تأييد تلك الطائفة من المماليك ومعاونتها على الوصول إلى الحكم.

أما الفريق الآخر فكان يرى أنه يمكنه الاستقلال بالحكم دون مساعدة من أي قوى خارجية، وذلك بإيجاد نوع من التحالف والتنسيق بين بعض قوى المماليك ذات المصالح المشتركة، والأهداف المتقاربة.

قوى شعبية وزعامات وطنية

وظهرت قوة أخرى في مصر لا تقل نفوذًا ولا تأثيرًا عن المماليك الذين بدأت قواهم تخور وشوكتهم تضعف؛ نتيجة الصراع الدائم بينهم والمؤامرات المستمرة.

بدأت تلك القوة الجديدة -قوة القيادات الشعبية متمثلة في العلماء والمشايخ والتجار- يزداد تأثيرها ويتسع نفوذها مع ضعف المماليك، وأفرزت تلك القوة زعامات وطنية أصيلة حاولت أن تساهم بشكل جاد في توجيهه الأمة، وإقالتها من عثرتها، والنهوض بها في مواجهة الأخطار المحدقة بها، سواء في الداخل أو الخارج.

وشعرت تلك القيادات الشعبية والوطنية بحاجة البلاد إلى شخصية قوية يلتف حولها الجميع لتتولى زمام الأمور في لبلاد، وتقود مسيرة الحياة فيها.

ووجدت تلك القيادات بغيتها في أحد ضباط الحامية العثمانية، حيث توسمت فيه القدرة والكفاءة لتولى حكم مصر، وكان ذلك الضابط هو "محمد علي" الذي التفت حوله القيادات الشعبية حتى صدر فرمان ولايته لمصر في (12 صفر 1220هـ= 12 من مايو 1805م).

وسعت تلك القيادات إلى تثبيت دعائم حكم محمد علي لمصر، فقادوا حملة لجمع التبرعات وتدبير الأموال اللازمة لدفع المرتبات المتأخرة للجنود الذين بدأ التمرد يسري بينهم، كما كان لتلك القيادات دور مهم في الإبقاء عليه واليًا للبلاد رغم محاولات "الباب العالي" نقله من مصر.

الإنجليز في رشيد

وكان لتحالف تلك القيادات الوطنية ومن حولها جموع الشعب مع محمد علي أكبر الأثر في إلحاق الهزيمة بالحملة العسكرية الإنجليزية التي ضمت نحو أربعة آلاف جندي قرب "رشيد"، في (18 من المحرم 1222 هـ= 29 من مارس 1807م) والتي جاءت لتأييد بعض عناصر المماليك، وتمكينهم من الوصول إلى الحكم في مصر ليكونوا أعوانًا لهم.

وأحس محمد علي بخطورة المماليك، وتهديدهم لأمن واستقرار البلاد؛ فعمل على إبعادهم عن القاهرة، وتعقّبهم في الصعيد، حتى استطاع أن يخضع الصعيد لحكمه، واستقرت له الأمور، وأبدى له بعض المماليك الذين فروا إلى الصعيد الطاعة والولاء، فسمح لهم بالعودة إلى القاهرة، ولكنهم ظلوا يتآمرون عليه ويدبرون المكائد للتخلص منه.

أصبحت مقاليد السلطة في مصر بيد محمد علي، واستقر له حكم البلاد، ولكنه بدأ يشعر بالقلق إزاء تصاعد نفوذ القيادة الشعبية، والزعامة الوطنية التي كانت سببًا في وصوله إلى الحكم، واختارته واليًا على البلاد، فبدأ يسعى إلى التخلص منها خوفًا من انفرادها بالحكم بعد أن تُستنزف قوته في حرب المماليك، وسعى محمد علي إلى الوقيعة بين القيادة الشعبية متمثلة في المشايخ، ثم نفى السيد "عمر مكرم" خارج القاهرة في عام [1224 هـ=1809م]، واستطاع أن يقلص نفوذ المشايخ، ويحدّ من دورهم في الحياة العامة.

محمد علي ومؤامرات المماليك

وبالرغم من محاولات محمد علي الدءوبة للتخلص من مراكز القوى في دولته متمثلة في زعماء المماليك، فإنه ظل يقاسي من مؤامراتهم وغدرهم، وكانت كل الدلائل تشير إلى أن المماليك سيتعاونون مع الإنجليز.

وفي بداية شهر (المحرم 1226 هـ= يناير 1811م) سافر محمد علي إلى السويس، ليتفقد الأعمال التي كانت تجري في مينائها، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى القاهرة في (10 من المحرم 1226هـ= فبراير 1811م) بعد أن وصلته الأخبار بضبط رسائل مريبة متبادلة بين مماليك القاهرة، وزملائهم في الوجه القبلي.

في تلك الأثناء أرسل إليه السلطان العثماني "محمود" يطلب منه إرسال قواته إلى نجد للمساعدة في القضاء على الثورة الوهابية، وعندئذ قرر محمد علي القضاء على المماليك قبل خروج الجيش بقيادة ابنه "طوسون" إلى "نجد"؛ حتى لا يثوروا ضده بعد خروج الجيش.

يوم المهرجان!



أعد "محمد علي" مهرجانًا فخمًا بالقلعة دعا إليه كبار رجال دولته، وجميع الأمراء والبكوات والكشاف المماليك، فلبى المماليك تلك الدعوة وعدوها دليل رضاه عنهم، وقبل ابتداء الحفل دخل البكوات المماليك على محمد علي فتلقاهم بالحفاوة، ودعاهم إلى تناول القهوة معه، وشكرهم على إجابتهم دعوته، وألمح إلى ما يناله ابنه من التكريم إذا ما ساروا معه في الموكب، وراح محمد علي يتجاذب معهم أطراف الحديث؛ إمعانًا في إشعارهم بالأمن والود.

وحان موعد تحرك الموكب، فنهض المماليك وبادلوا محمد علي التحية، وانضموا إلى الموكب، وكان يتقدم الركب مجموعة من الفرسان في طليعة الموكب، بعدها كان والي الشرطة ومحافظ المدينة، ثم كوكبه من الجنود الأرناؤود، ثم المماليك، ومن بعدهم مجموعة أخرى من الجنود الأرناؤود، وعلى إثرهم كبار المدعوين ورجال الدولة.

وتحرك الموكب ليغادر القلعة، فسار في طريق ضيق نحو باب "العزب"، فلما اجتاز الباب طليعة الموكب ووالي الشرطة والمحافظ، أُغْلِق الباب فجأة من الخارج في وجه المماليك، ومن ورائهم الجنود الأرناؤود، وتحول الجنود بسرعة عن الطريق، وتسلقوا الصخور على الجانبين، وراحوا يمطرون المماليك بوابل من الرصاص، أخذت المفاجأة المماليك وساد بينهم الهرج والفوضى، وحاولوا الفرار، ولكن كانت بنادق الجنود تحصدهم في كل مكان، ومن نجا منهم من الرصاص فقد ذُبِح بوحشية.

وسقط المماليك صرعى مضرجين في دمائهم، حتى امتلأ فناء القلعة بالجثث، ولم ينج من المماليك الأربعمائة والسبعين الذين دخلوا القلعة في صبيحة ذلك اليوم إلا واحد يسمى "أمين بك" كان في مؤخرة الصفوف، واستطاع أن يقفز بجواده من فوق سور القلعة، وهرب بعد ذلك إلى الشام.

الفوضى تسود المدينة

وصل خبر تلك المذبحة إلى الجماهير المحتشدة في الشوارع لمشاهدة الموكب فسرى الذعر بينهم، وتفرق الناس، وأقفلت الدكاكين والأسواق، وهرع الجميع إلى بيوتهم، وخلت الشوارع والطرقات من المارة.

وسرعان ما انتشرت جماعات من الجنود الأرناؤود في أنحاء القاهرة يفتكون بكل من يلقونه من المماليك وأتباعهم، ويقتحمون بيوتهم فينهبون ما تصل إليه أيديهم، ويغتصبون نساءهم، وتجاوزوا بالقتل والنهب إلى البيوت المجاورة.

وكثر القتل، واستمر النهب، وسادت الفوضى ثلاثة أيام، قُتل خلالها نحو ألف من المماليك ونُهب خمسمائة بيت، ولم يتوقف السلب والنهب إلا بعد أن نزل محمد علي إلى شوارع المدينة، وتمكن من السيطرة على جنوده وأعاد الانضباط.. وهكذا استطاع محمد علي الانفراد بالحكم، ولكن على أشلاء المعارضين.‏

منقول

عبدالغفور الخطيب
05-04-2006, 04:20 AM
"أرغون".. والتحالف ضد المسلمين

(في ذكرى وفاته: 6 من ربيع الأول 690هـ)


يعد أرغون بن آباقاخان واحدًا من أكثر سلاطين الإيلخانيين عداء للإسلام وحقدًا على المسلمين، ومن أشدهم جبروتًا وظلمًا وسفكًا لدماء المسلمين.

والإيلخانيون أسرة مغولية حكمت إيران زهاء قرن من الزمان، وامتد حكمهم من نحو عام (654هـ = 1256م) إلى عام (756هـ= 1355م).

ومؤسس هذه الأسرة هو "هولاكو خان بن تولوي بن جنيكيز خان"، وقد استطاع هولاكو توحيد صفوف المغول تحت رايته واجتاح العالم الإسلامي، مرتكبًا العديد من المذابح والفظائع التي تقشعر لها الأبدان حتى سقطت بغداد في أيدي المغول سنة (656 هـ= 1258م).

قطز يقضي على صلف هولاكو

تمكن هولاكو من الاستيلاء على معظم أقاليم العالم الإسلامي، فاستطاع الاستيلاء على الجزيرة والشام ودمشق وحلب وديار بكر وربيع، ولم يبق أمامه سوى مصر التي كان يحكمها المماليك. فأرسل هولاكو برسالة إلى السلطان قطز سلطان المماليك، تمتلئ بالوعيد والتهديد، وتقطر بالصلف والغرور، وتحمل معاني المهانة والتحقير، يدعوه فيها إلى المبادرة بالاستسلام، والإسراع بتقديم فروض الطاعة والولاء لسلطان المغول، وإعلان الخضوع.

ولم يكن أمام قطز إزاء كل هذا الصلف والغرور إلا أن يرد بحسم وقوة على وعيد هولاكو وتهديده، ويمحو تلك الإهانة التي وجهها إلى سلطان المسلمين، فأمر بقتل رسل هولاكو والخرج بجيشه للتصدي لصلف المغول، فالتقى بهم في يوم (25 من رمضان 658 هـ= 24 من أغسطس 1260م) في عين جالوت؛ حيث ألحق بهم هزيمة منكرة، ودفعهم إلى الفرار في تلك الموقعة.

وفي عام (663 هـ= 1265م) تُوفي هولاكو خان، عن عمر بلغ ثمانية وأربعين عامًا، تاركًا لأبنائه وأحفاده تلك الإمبراطورية الشاسعة التي امتدت من الهند شرقًا إلى شواطئ البحر المتوسط غربا، وضمت إيران، والعراق وسوريا وآسيا الصغرى.

وتعاقب على عرش الإيلخانيين في إيران عدد من أبناء هولاكو خان وأحفاده، الذين شاركوا في الحفاظ على تلك الإمبراطورية، وعملوا على زيادتها واتساعها ومنهم آباقا خان، -أو أبغا كما تسميه المصادر العربية-، وهو أكبر أبناء هولاكو وأول خلفائه على مملكته العريقة.

وبالرغم من أن آباقا خان كان بوذيًا فإنه كان شديد العطف على المسيحيين، وقد ارتبط بملوك أوروبا المسيحية وباباواتها، وعقد معهم عددًا من المعاهدات كما تحالف معهم ضد الدول الإسلامية في مصر والشام وآسيا الصغرى، وسعى إلى القضاء على سلطان المماليك ودولتهم في مصر والشام، وارتكب عددًا من المذابح ضد المسلمين، حتى إنه قتل من المسلمين العزل في آسيا الوسطى ما يزيد على مائتي ألف مسلم؛ انتقامًا منه لهزيمة جيوشه فيها على يد جنود بيبرس.

تكودار أول حاكم إيلخاني مسلم

وتُوفي آباقا خان سنة (680 هـ = 1281م)، وخلفه أخوه "أحمد تكودار"، وكان تكودار قد اعتنق المسيحية في صغره، وسُمي "نيقولا"، ولكنه أسلم بعد ذلك وسمى نفسه أحمد تكودار؛ فكان أول حاكم إيلخاني يعتنق الإسلام.

وقد حاول تكودار أن يحمل المغول اعتناق الإسلام، ونجح في إقناع عدد كبير منهم، كما سعى إلى تحسين العلاقات بينه وبين المماليك، وإنهاء حالة الحرب والصراع بين المغول والمسلمين.

وقد شجّع هذا ابن أخيه الأمير أرغون بن أباقا خان إلى الثورة عليه بمساعدة كبار أمراء المغول وقادتهم، وانتهى الأمر بمقتل تكودار في (17 من ربيع الآخر 683هـ = 4 من يوليو 1284م). وأصبح الطريق إلى العرش ممهدًا أمام أرغون، الذي كان يعتبر ذلك حقه منذ وفاة أبيه آباقا خان.

اعتلاء أرغون العرش

وكان أرغون دمويًا يكره المسلمين؛ فسعى منذ اليوم الأول إلى إقصائهم عن جميع الوظائف والمناصب المهمة في الدولة، وعندما شعر "شمس الدين الجويني" صاحب الديوان ببوادر الغدر من أرغون بعد توليه الحكم فر من خراسان إلى أصفهان؛ خوفًا من بطشه، ولكنه خشي على أسرته من جبروت أرغون وتنكيله بهم؛ فقرر العودة إلى أصفهان، والتوسل إلى أرغون للعفو عنه وعن أقاربه، مستشفعًا بطول خدمته هو وأقاربه للإيلخانيين لنحو ثلاثين سنة.

ولكن خصومه اتهموه بخيانة السلطان السابق ودس السم له، فعقدوا له محاكمة صورية، وتقرر أن يفتدي شمس الدين نفسه بالمال، فطلب مهلة لتدبير المال، فباع أملاكه، واقترض من أصدقائه وقومه، حتى تمكن من جمع ما يقرب من أربعين تومانًا (أربعمائة ألف من الذهب)، وبالرغم من ذلك فقد صدر الحكم بإعدامه هو وأبنائه الأربعة وحفيده، وعدد من أفراد أسرته، وتم تنفيذ الحكم في (4 من شعبان 683هـ = 17 من أكتوبر 1248م)، كما تم إعدام أبنائه الأربعة، وصودرت جميع أمواله وممتلكاته.

التحالف ضد المسلمين

وسار أرغون على نهج أبيه وجده من التحالف مع المسيحيين، والسعي الدائب إلى القضاء على المماليك، وتقويض سلطانهم، والاستيلاء على أملاكهم، ومن ثم فقد حرص على إرسال السفراء والبعوث والرسائل إلى ملوك أوروبا وباباواتها، كما سعى إلى التحالف مع حكام دول أوروبا المسيحية، وإثارتهم لحرب المماليك، وفي سبيل ذلك أرسل السفارات والوفود والرسل إليهم يحملون رسائله لتشجيعهم على التعاون، وحثهم على حرب المماليك.

فأرسل رسالة إلى البابا "هونوريوس الرابع" سنة (684هـ = 1285م) قال فيها:

"أنفذنا إليك رسلنا لتلتمس من قداستكم إرسال جيش إلى مصر، فإذا قدمتم من جهة وجئنا من الجهة الأخرى، استطعنا بفضل عساكرنا الأصحاء الأشداء أن نستولي على هذه البلاد، ولتخطرنا عن طريق رسول صادق أمين كيف يجري تحقيق هذا الموضوع، وسوف نطرد بذلك المسلمين بفضل ما يبذله من مساعدة كل من البابا والخان الكبير، ولكنه لم يتلق ردًا منه.

ثم أرسل رابان صوما Rabban Sawma (أي الحبر الصائم)، وكان أحد كبار رجال الكنيسة في آسيا سفيرًا إلى فيليب لوبل ملك فرنسا، وإداوارد الأول ملك إنلجترا سنة (686، 687هـ = 1287، 1288م)، فعرض عليهما التحالف معه، وتكوين حلف (أوروبي مغولي) للقضاء على نفوذ المماليك في آسيا الصغرى والعراق والشام.

وقد لقيت تلك الأفكار والمقترحات استجابة كبيرة لدى كل من الملكين، إلا أنها لم تخرج إلى حيز التنفيذ.

تقريب المسيحيين واليهود

وكان أرغون شديد الاهتمام بالعمران وإقامة الأبنية؛ فأنشأ قصرين كبيرين في الجانب الغربي من "تبريز"، كما شيّد مدينة "بين القصرين"، واهتم ببناء العمائر ذات النقوش الجميلة والسقوف المقرنسة والشرفات المقوسة، وسميت تلك المدينة بـ"الأرغونية"، كذلك عُني بترميم الكنائس التي تهدمت في عصر السلطان أحمد تكودار.

وراح أرغون يُقرب المسيحيين واليهود، فعهد بالوزارة إلى طبيب يهودي يُدعى "سعد الدولة" كان قد نجح في علاجه من علة شديدة أصابته، ومنذ ذلك الحين قرّبه أرغون وجعله من خاصته حتى إذا ما آلت إليه أمور السلطنة كافأه بمنصب الوزارة، وجعله كبير مستشاريه.

سعد الدولة ومؤامراته

اشتهر "سعد الدولة" بالذكاء والمكر، وتميز بالمرونة وطلاقة الحديث باللغتين التركية والمغولية، كما كان على دراية تامة بكل ما يجري في بلاط الإيلخانيين، وساعده على ذلك أنه كان طبيبًا؛ مما مكنه من الاتصال بكل الأطراف ذات النفوذ في البلاط، والتردد على جميع ذوي المكانة والسلطان في الدولة.

واستطاع سعد الدولة بدهائه أن يوطد لنفسه، ويكتسب ولاء الرعية وحبها له، ويستميل قلوب الناس إليه، من خلال قيامه بعدة إجراءات إصلاحية؛ فقد منع السادة الإقطاعيين من نهب أموال الناس وابتزازهم، وعمل على تخفيف وطأة الضرائب والالتزامات عن كاهل الشعب.

وأراد أن يجعل لحكومته طابعًا عسكريًا صارمًا، فحرَّم على القادة العسكريين الامتناع عن تنفيذ قرارات المحاكم.

وسعى سعد الدولة في البداية إلى إرضاء المسلمين ومصانعتهم، وتجنب إثارة سخطهم حتى تستقر له الأمور؛ فزاد فيما يرصد من الأوقاف على الأعمال الخيرية، وجعل النظر في قضايا المسلمين وفقاً للشريعة الإسلامية، وشجّع العلماء والأدباء، ولكنه في الوقت نفسه راح يكيد للمسلمين، ويضيق عليهم، ويمنعهم من الوصول إلى المناصب الرفيعة والوظائف الكبرى.

ثم لجأ سعد الدولة إلى مؤامرة أخرى لإثارة أرغون ضد المسلمين وتحريضه على اجتثاثهم، فأوعز إليه أن النبوة قد انتقلت إليه بالتوارث عن جنكيز خان، وأنه بذلك أصبح رسولا من عند الله، وكان يسعى من وراء ذلك إلى التعجيل بوقوع الفتنة والصدام بين أرغون والمسلمين، وهو أمر واقع بلا ريب بعد أن يرفض المسلمون اعتناق دينه الجديد.

واستشعر سعد الدولة قوة نفوذه ومضاء سلطانه، فأطلق يده في كل شئون الدولة، واستبد بالسلطة، وعهد بالمناصب العليا والوظائف الكبرى لأقاربه وأبناء نحلته من اليهود، حتى صاروا يسيطرون على كل أجهزة الدولة ومرافقها، وأصبح لهم الكلمة العليا في جميع أمور الدولة من دون أمراء المغول، من غير أن يملكوا من الخبرات أو الكفاءات والمهارات ما يؤهلهم لذلك.

وقد أثار هذا المسلك نقمة أمراء المغول عليه، وتربصهم به بعد أن أصبح هو الآمر الناهي، ووجدوا أنفسهم معزولين عن الدولة والسلطان، لا يملكون أية سلطة أو نفوذ حقيقي في البلاد، فاتفقوا على التخلص منه والقضاء على أتباعه وأنصاره.

وسرعان ما سنحت لهم الفرصة عندما مرض أرغون واشتد عليه المرض، فقرر الأمراء التعجيل بالتخلص من سعد الدولة وأتباعه؛ فقبضوا عليه وساقوه إلى منزل الأمير "طغا جاد" أكثر الناقمين عليه وأشدهم عداوة له حيث تم القضاء عليه في صفر (690هـ = فبراير 1291م).

ولم تمض أيام قلائل حتى تُوفي أرغون في (6 من ربيع الأول 690هـ = 9 من مارس 1291م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
07-04-2006, 02:07 AM
ابن باديس.. رائد الإصلاح في الجزائر

(في ذكرى وفاته: 8 ربيع الأول 1359هـ)


كانت الجزائر أول أقطار العالم العربي وقوعًا تحت براثن الاحتلال، وقُدّر أن يكون مغتصبها الفرنسي من أقسى المحتلين سلوكًا واتجاهًا، حيث استهدف طمس هوية الجزائر ودمجها باعتبارها جزءًا من فرنسا، ولم يترك وسيلة تمكنه من تحقيق هذا الغرض إلا اتبعها، فتعددت وسائلة، وإن جمعها هدف واحد، هو هدم عقيدة الأمة، وإماتة روح الجهاد فيها، وإفساد أخلاقها، وإقامة فواصل بينها وبين هويتها وثقافتها وتراثها، بمحاربة اللغة العربية وإحلال الفرنسية محلها، لتكون لغة التعليم والثقافة والتعامل بين الناس.

غير أن الأمة لم تستسلم لهذه المخططات، فقاومت بكل ما تملك، ودافعت بما توفر لديها من إمكانات، وكانت معركة الدفاع عن الهوية واللسان العربي أشد قوة وأعظم تحديًا من معارك الحرب والقتال، وقد عبّر ابن باديس، عن إصرار أمته وتحديها لمحاولات فرنسا بقوله: "إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها، وفي أخلاقها وعنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج، ولها وطن محدد معين هو الوطن الجزائري".

المولد والنشأة

ولد "عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس" المعروف بعبد الحميد بن باديس في (11 من ربيع الآخِر 1307 هـ= 5 من ديسمبر 1889م) بمدينة قسطنطينة، ونشأ في أسرة كريمة ذات عراقة وثراء، ومشهورة بالعلم والأدب، فعنيت بتعليم ابنها وتهذيبه، فحفظ القرآن وهو في الثالثة عشرة من عمره، وتعلّم مبادئ العربية والعلوم الإسلامية على يد الشيخ "أحمد أبو حمدان الونيسي" بجامع سيدي محمد النجار، ثم سافر إلى تونس في سنة (1326هـ= 1908م) وانتسب إلى جامع الزيتونة، وتلقى العلوم الإسلامية على جماعة من أكابر علمائه، أمثال العلّامة محمد النخلي القيرواني المتوفى سنة (1342هـ= 1924م)، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الذي كان له تأثير كبير في التكوين اللغوي لعبد الحميد بن باديس، والشغف بالأدب العربي، والشيخ محمد الخضر الحسين، الذي هاجر إلى مصر وتولى مشيخة الأزهر.

وبعد أربع سنوات قضاها ابن باديس في تحصيل العلم بكل جدّ ونشاط، تخرج في سنة (1330هـ= 1912م) حاملاً شهادة "التطويع" ثم رحل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وهناك التقى بشيخه "حمدان الونيسي" الذي هاجر إلى المدينة المنورة، متبرّمًا من الاستعمار الفرنسي وسلطته، واشتغل هناك بتدريس الحديث، كما اتصل بعدد من علماء مصر والشام، وتتلمذ على الشيخ حسين أحمد الهندي الذي نصحه بالعودة إلى الجزائر، واستثمار علمه في الإصلاح، إذ لا خير في علم ليس بعده عمل، فعاد إلى الجزائر، وفي طريق العودة مرّ بالشام ومصر واتصل بعلمائهما، واطّلع على الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية لهما.

ابن باديس معلمًا ومربيًا

آمن ابن باديس بأن العمل الأول لمقاومة الاحتلال الفرنسي هو التعليم، وهي الدعوة التي حمل لواءها الشيخ محمد عبده، في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، وأذاعها في تونس والجزائر خلال زيارته لهما سنة (1321هـ= 1903م)، فعمل ابن باديس على نشر التعليم، والعودة بالإسلام إلى منابعه الأولى، ومقاومة الزيف والخرافات، ومحاربة الفرق الصوفية الضالة التي عاونت المستعمر.

وقد بدأ ابن باديس جهوده الإصلاحية بعد عودته من الحج، بإلقاء دروس في تفسير القرآن بالجامع الأخضر بقسطنطينة، فاستمع إليه المئات، وجذبهم حديثة العذب، وفكره الجديد، ودعوته إلى تطهير العقائد من الأوهام والأباطيل التي علقت بها، وظل ابن باديس يلقي دروسه في تفسير القرآن حتى انتهى منه بعد خمسة وعشرين عامًا، فاحتفلت الجزائر بختمه في (13 من ربيع الآخر 1357هـ= 12 من يونيو 1938م).

ويُعدّ الجانب التعليمي والتربوي من أبرز مساهمات ابن باديس التي لم تقتصر على الكبار، بل شملت الصغار أيضًا، وتطرقت إلى إصلاح التعليم تطوير ومناهجه، وكانت المساجد هي الميادين التي يلقي فيها دروسه، مثل الجامع الأخضر، ومسجد سيدي قموش، والجامع الكبير بقسطنطينة، وكان التعليم في هذه المساجد لا يشمل إلا الكبار، في حين اقتصرت الكتاتيب على تحفيظ القرآن للصغار، فعمد ابن باديس إلى تعليم هؤلاء الصغار بعد خروجهم من كتاتيبهم.

ثم بعد بضع سنوات أسس جماعة من أصحابه مكتبًا للتعليم الابتدائي في مسجد سيد بومعزة، ثم انتقل إلى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست سنة (1336هـ= 1917م)، ثم تطوّر المكتب إلى مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية التي أنشئت في (رمضان 1349 هـ= 1931م) وتكونت هذه الجمعية من عشرة أعضاء برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس.

وقد هدفت الجمعية إلى نشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف الدينية والعربية، والصنائع اليدوية بين أبناء المسلمين وبناتهم، ويجدر بالذكر أن قانون الجمعية نصّ على أن يدفع القادرون من البنين مصروفات التعليم، في حين يتعلم البنات كلهن مجانًا.

وكوّن ابن باديس لجنة للطلبة من أعضاء جمعية التربية والتعليم الإسلامية، للعناية بالطلبة ومراقبة سيرهم، والإشراف على الصندوق المالي المخصص لإعانتهم، ودعا المسلمين الجزائريين إلى تأسيس مثل هذه الجمعية، أو تأسيس فروع لها في أنحاء الجزائر، لأنه لا بقاء لهم إلا بالإسلام، ولا بقاء للإسلام إلا بالتربية والتعليم.

وحثّ ابن باديس الجزائريين على تعليم المرأة، وإنقاذها مما هي فيه من الجهل، وتكوينها على أساسٍ من العفة وحسن التدبير، والشفقة على الأولاد، وحمّل مسئولية جهل المرأة الجزائرية أولياءها، والعلماء الذين يجب عليهم أن يعلّموا الأمة، رجالها ونساءها، وقرر أنهم آثمون إثمًا كبيرًا إذا فرطوا في هذا الواجب.

وشارك ابن باديس في محاولة إصلاح التعليم في جامع الزيتونة بتونس، وبعث بمقترحاته إلى لجنة وضع مناهج الإصلاح التي شكّلها حاكم تونس سنة (1350 هـ=1931م)، وتضمن اقتراحه خلاصة آرائه في التربية والتعليم، فشمل المواد التي يجب أن يدرسها الملتحق بالجامع، من اللغة والأدب، والعقيدة، والفقه وأصوله، والتفسير، والحديث، والأخلاق، والتاريخ، والجغرافيا، ومبادئ الطبيعة والفلك، والهندسة، وجعل الدراسة في الزيتونة تتم على مرحلتين: الأولى تسمى قسم المشاركة، وتستغرق الدراسة فيه ثماني سنوات، وقسم التخصص ومدته سنتان، ويضم ثلاثة أفرع: فرع للقضاء والفتوى، وفرع للخطاب والوعظ، وفرع لتخريج الأساتذة.

ابن باديس وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين

احتفلت فرنسا بالعيد المئوي لاحتلال الجزائر في سنة (1349هـ= 1930م) فشحذ هذا الاحتفال البغيض همّة علماء المسلمين في الجزائر وحماسهم وغيرتهم على دينهم ووطنهم، فتنادوا إلى إنشاء جمعية تناهض أهداف المستعمر الفرنسي، وجعلوا لها شعارًا يعبر عن اتجاههم ومقاصدهم هو: "الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا"، وانتخبوا ابن باديس رئيسًا لها، وسنتعرض لهذه الجمعية ودورها في حماية الثقافة العربية الإسلامية في حديث لاحق.

وقد نجحت الجمعية في توحيد الصفوف لمحاربة المستعمر الفرنسي وحشد الأمة الجزائرية ضدها، وبعث الروح الإسلامية في النفوس، ونشر العلم بين الناس، وكان إنشاء المدارس في المساجد هو أهم وسائلها في تحقيق أهدافها، بالإضافة إلى الوعّاظ الذين كانوا يجوبون المدن والقرى، لتعبئة الناس ضد المستعمر، ونشر الوعي بينهم.

وانتبهت فرنسا إلى خطر هذه التعبئة، وخشيت من انتشار الوعي الإسلامي؛ فعطّلت المدارس، وزجّت بالمدرسين في السجون، وأصدر المسئول الفرنسي عن الأمن في الجزائر، في عام (1352هـ= 1933م) تعليمات مشددة بمراقبة العلماء مراقبة دقيقة، وحرّم على غير المصرح لهم من قبل الإدارة الفرنسية باعتلاء منابر المساجد، ولكي يشرف على تنفيذ هذه الأوامر، عيّن نفسه رئيسًا للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

ولكي ندرك أهمية ما قام به ابن باديس ورفاقه من العلماء الغيورين، يجب أن نعلم أن فرنسا منذ أن وطأت قدماها الجزائر سنة (1246 هـ= 1830م) عملت على القضاء على منابع الثقافة الإسلامية بها، فأغلقت نحوا من ألف مدرسة ابتدائية وثانوية وعالية، كانت تضم مائة وخمسين ألف طالب أو يزيدون، ووضعت قيودًا مهنية على فتح المدارس، التي قصرتها على حفظ القرآن لا غير، مع عدم التعرض لتفسير آيات القرآن، وبخاصة الآيات التي تدعو إلى التحرر، وتنادي بمقاومة الظلم والاستبداد، وعدم دراسة تاريخ الجزائر، والتاريخ العربي الإسلامي، والأدب العربي، وتحريم دراسة المواد العلمية والرياضية.

إسهامات ابن باديس السياسية

لم يكن ابن باديس مصلحًا فحسب، بل كان مجاهدًا سياسيًا، مجاهرًا بعدم شرعية الاحتلال الفرنسي، وأنه حكم استبدادي غير إنساني، يتناقض مع ما تزعمه من أن الجزائر فرنسية، وأحيا فكرة الوطن الجزائري بعد أن ظنّ كثيرون أن فرنسا نجحت في جعل الجزائر مقاطعة فرنسية، ودخل في معركة مع الحاكم الفرنسي سنة (1352هـ= 1933م) واتهمه بالتدخل في الشئون الدينية للجزائر على نحو مخالف للدين والقانون الفرنسي، وأفشل فكرة اندماج الجزائر في فرنسا التي خُدع بها كثير من الجزائريين سنة (1353 هـ= 1936م).

ودعا نواب الأمة الجزائريين إلى قطع حبال الأمل في الاتفاق مع الاستعمار، وضرورة الثقة بالنفس، وخاطبهم بقوله: "حرام على عزتنا القومية وشرفنا الإسلامي أن نبقى نترامى على أبواب أمة ترى –أو ترى أكثريتها- ذلك كثيرا علينا…! ويسمعنا كثير منها في شخصيتنا الإسلامية ما يمس كرامتنا"، وأعلن رفضه مساعدة فرنسا في الحرب العالمية الثانية.

وكانت الصحف التي يصدرها أو يشارك في الكتابة بها من أهم وسائله في نشر أفكاره الإصلاحية، فأصدر جريدة "المنتقد" سنة (1345 هـ= 1926م) وتولى رئاستها بنفسه، لكن المحتل عطّلها؛ فأصدر جريدة "الشهاب" واستمرت في الصدور حتى سنة (1358هـ= 1939م) واشترك في تحرير الصحف التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مثل "السنة" و"الصراط" و"البصائر".

وظل هذا المصلح -رغم مشاركته في السياسة- يواصل رسالته الأولى التي لم تشغله عنها صوارف الحياة، أو مكائد خصومه من بعض الصوفية أذيال المستعمر، أو مؤامرات فرنسا وحربها لرسالته، وبقي تعليم الأمة هو غايته الحقيقية، وإحياء الروح الإسلامية هو هدفه السامق، وبث الأخلاق الإسلامية هو شغله الشاغل، وقد أتت دعوته ثمارها، فتحررت الجزائر من براثن الاحتلال الفرنسي، وإن ظلت تعاني من آثاره.

وقد جمع "عمار الطالبي" آثار ابن باديس، ونشرها في أربعة مجلدات، ونشرها في الجزائر سنة (1388هـ= 1968م).

وتوفي ابن باديس في (8 من ربيع الأول 1359 هـ= 16 من إبريل 1940م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
08-04-2006, 02:16 AM
(في ذكرى اندلاعها: 9 ربيع الأول 1327هـ)

تولى السلطان عبد الحميد الثاني عرش دولة الخلافة العثمانية سنة (1293هـ=1876م) في ظروف بالغة الصعوبة شديدة القسوة تموج بالفتن والمؤامرات، لا تكاد تخرج الدولة من أزمة حتى تدخل فيما هو أشد منها، ولا تتخلص من حرب حتى يفرض عليها أعداؤها حربا أخرى، ولا تنجو من بنود معاهدة مجحفة حتى تُجرّ إلى معاهدة أشد إجحافا.

وتكالب على جسد الدولة المنهك الدول الكبرى الأوربية يقتطعون منه أجزاء غالية، ويمنون أنفسهم بالمزيد؛ فكان من أعز أماني روسيا أن تستولي على إستنبول حاضرة دولة الخلافة، وتضع يدها على مضيقي البوسفور والدردنيل لتخرج سفنها من البحر الأسود إلى المياه الدافئة وفي البحر المتوسط وتعود دون قيد أو شرط.. واحتلت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا أقطارا عربية.

ولولا أصالة الدولة وعراقتها لأصبحت كلأ مباحا لدول أوربا، أو غدت هباء منبثًا في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، لكنها ظلت تقاوم عوادي الزمن وحقد أوربا الصليبي أكثر من قرنين من الزمان، حتى آلت الخلافة إلى عبد الحميد الثاني والدولة تعاني من الوهن والإعياء اللذين لم يكن لعبد الحميد بطبيعة الحال يد فيهما.. وكان عليه أن يستنفر كل ما في دولته من مكامن القوة وأسباب الحياة والرغبة في البقاء ما يمكنه من دفع غوائل أوربا، وقيادة دولته بحكمة حتى تشفى وتبرأ من أدوائها، أو ينفخ في روحها أسباب التعلق بالحياة؛ فتنهض من رقدتها وتعود إلى سابق عهدها.

ولاية عبد الحميد الثاني

تولى السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة في (10 من شعبان عام 1293هـ= 31 من أغسطس 1876م) وبدأ في قيادة الدولة التي تحيط بها المشكلات من كل جانب، فالديون المتراكمة على الدولة بلغت 252 مليون ليرة ذهبية، وكان هذا مبلغا هائلا وقتها. وروسيا القيصرية تتربص بدولته الدوائر؛ فأعلنت الحرب عليها وألحقت بها هزيمة هائلة عُدّت من نكبات التاريخ العثماني. والبوسنة والهرسك تموج بها ثورة هائلة تبغي الانفصال عن الدولة، أو على الأقل تُحكم حكما ذاتيا مسيحيا. والصرب والجبل الأسود تحاربان الدولة مؤازرة للثائرين بتحريض من روسيا التي لم تكن أصابعها بعيدة عن إثارة الفتنة وإمداد أعداء الدولة بالسلاح. وإنجلترا تطلب من سفيرها في إستنبول مقابلة السلطان عبد الحميد وتوجيه اللوم إلى الدولة العثمانية واتهامها بإقرار الظلم في بلغاريا، وتعريض المسيحيين بها للذبح، ومطالبتها باسم الملكة فيكتوريا تعويض ثوار بلغاريا، وبناء كنائسهم على نفقة الدولة العثمانية، وتقديم العون لهم عاجلا، وتوقيع عقوبات رادعة على المسئولين العثمانيين ببلغاريا.

ومضى السلطان يواجه بعد ذلك أخطارا جساما وحروبا متلاحقة تشنها أوربا والشعوب المسيحية التي بقيت خاضعة للدولة.

وآزرت هذه الأخطار الخارجية، معارضةٌ داخلية نشطة ومنظمة، في صورة جمعيات سرية وعلنية وعسكرية ومدنية، واتخذت لنفسها برامج سياسية ظاهرها المطالبة بإعادة الدستور، وباطنها الإطاحة بحكم السلطان عبد الحميد.

وعلى الرغم من ذلك فإن السلطان عبد الحميد لم ينشغل بتلك الأخطار عن القيام بتنفيذ برامج إصلاحية شملت مناحي الحياة للنهوض بالدولة من عثرتها؛ فتوسع في نشر التعليم بشتى مراحله، وأنشأ جامعة إستنبول والمدارس العليا ودور المعلمين، وعني بالتعليم العسكري وإنشاء المدارس الحربية، وعمل على إصلاح القضاء بإصدار قوانين تنظم شئونه، وتوسع في مد السكك الحديدية في ولايات الدولة، ووسائل المواصلات الأخرى، واحتضن فكرة الجامعة الإسلامية؛ باعتبارها سياجا يحمي الدولة من أخطار الدول الأوربية.

الاتحاد والترقي

تعرّض السلطان عبد الحميد لهجمة شرسة من قبل خصومه وأعدائه، فألصقوا به كل التهم، التي تشوّه صورته في العالم العربي والإسلامي، ونسبوا إليه كل نقيصة، ولم يتركوا عملا من أعماله إلا وعابوه، وأساءوا تفسيره ولو كان عملا إصلاحيا ظاهرا للعيان، ولم يكن ذلك إلا بسبب رفضه إعطاء اليهود أي جزء من فلسطين، ودعوته إلى إحياء الخلافة وتقويتها وتبنّيه للجامعة الإسلامية، ووقوفه أمام أطماع أوربا.

وكان وراء هذه الحملات المنظمة، الدعاية الصهيونية، والجمعيات العلنية والسرية التي كانت تناهض حكم السلطان عبد الحميد، وتعمل على تقويض حكمه، وتباشر نشاطها من داخل الدولة في أماكن بعيده عن العاصمة، وأحيانا من خارجها في بعض الدول الأوربية، ويقف على رأس تلك الجمعيات المناهضة للسلطان، جمعية الاتحاد والترقي، وهي منظمة سرية ظهرت سنة 1308هـ= 1890م، واستقر بها المطاف في مدينة سالونيك، وضمت أخلاطا شتى من عناصر من جنسيات مختلفة وديانات متعددة، وكان أكثر أعضائها من الأتراك العثمانيين، يليهم اليهود ثم بعض العرب، ومعظم هؤلاء من الضباط العسكريين، ويستهدفون القضاء على حكم السلطان عبد الحميد.

وكانت هذه الجمعية تمارس نشاطها من ثلاث ولايات عثمانية -تكوّن ما يعرف بـ"مقدونيا"- هي: موناستير وقوصوه وسلانيك؛ حيث كان المناخ ملائما، لعملها حيث كانت تخضع لنظام الرقابة الدولية على الشئون المالية وأجهزة الأمن، وتركز نشاطها في الدعوة إلى إصلاح الأحوال العامة في الدولة العثمانية، وإنهاء حكم عبد الحميد الثاني وإعادة الدستور.

وكان هؤلاء الاتحاديون يظنون أنهم بإزالة حكم عبد الحميد يمكنهم التقريب بين عناصر الدولة المختلفة، وتخفيف مضايقات أوربا التي تبغض السلطان عبد الحميد، وأن إعادة الدستور ستعجّل بتحسين العلاقات بين الدولة العثمانية وأوربا.

نجحت الجمعية في حمل السلطان عبد الحميد على إعلان الدستور في 23 من جمادى الأولى 1326هـ = 23 من يوليو 1908م، وأجريت الانتخابات العامة، وتولت الجمعية الحكم –وقد سبق أن أصدر السلطان عبد الحميد الدستور للمرة الأولى في مستهل عهده، ثم لم يلبث أن عطّل العلم به- واستأثرت الجمعية بالنفوذ، وأصبح السلطان عبد الحميد لا حول له ولا قوة.

فلتعش الشريعة المحمدية

ولم يكد يمر تسعة أشهر على صدور الدستور حتى اندلعت ثورة عارمة ومظاهرة كبيرة في العاصمة في 9 من ربيع الأولى 1327هـ = 31 من مارس 1908م تطالب بإلغاء الدستور، وإعلان الشريعة المحمدية، وإسقاط حكومة الاتحاد والترقي، وفض المجلس النيابي.

وقد ضمت هذه المظاهرة التي اشتهرت في التاريخ العثماني بـ"حادث 31 مارس" عناصر من رجال الدين وأئمة المساجد وبعض المتصوفة، وكذلك عناصر عسكرية من جنود الحامية العسكرية المرابطة في إستنبول، وقد وقع هؤلاء الجنود تحت تأثير العناصر الأولى الذين زعموا أن الدستور يخالف الشريعة الإسلامية، وأن الخليفة أصدره مضطرا.

وبلغ الحماس بالمتظاهرين إلى حد أن حاصروا مجلس "المبعوثان" (المجلس النيابي) ومبنى الباب العالي، وقتلوا طائفة من الضباط والجنود، وأطلقوا الأعيرة النارية في شوارع العاصمة، وكانوا يصيحون بأعلى صوتهم: "باشا سون شريعة محمدية" أي فلتعش الشريعة المحمدية، وفي الوقت نفسه أرسلوا وفدا إلى السلطان يطالبونه بتنفيذ رغباتهم، فلقيت مطالبهم استجابة منه، وأمر بتأليف وزارة جديدة لتنفيذ هذه المطالب.

اتهمت حكومة الاتحاد والترقي السلطان بتدبير هذه المظاهرة العارمة، واتخذوا من ذلك ذريعة للتحرك وتحقيق أمانيهم القديمة بخلع السطلان عبد الحميد؛ فتحركت سريعا واحتل جيشها العاصمة، واجتمع مجلس "المبعوثان" مع أعضاء الأعيان، وقرروا خلع السلطان عبد الحميد، وتعيين أخيه "محمد رشاد" سلطانا للدولة باسم محمد الخامس، وكان رجلا مسنًّا في الرابعة والستين من عمره لا يملك من أمره شيئا، وذلك في 6 من ربيع الآخر 1327هـ= 27 من إبريل 1909م.

وندب "المجلسان" وفدا لإبلاغ السلطان بقرار العزل، تكوّن من أربعة أشخاص من بينهم يهودي يسمى "قرصو أفندي" كان يكنّ شديد العداوة للسلطان المخلوع لأنه طرده من قصره حين حاول التأثير عليه لقبول تهجير اليهود إلى فلسطين، فوجد في هذه المناسبة فرصة للتشفي والانتقام؛ ولهذا لم يكن غريبا أن تسهم الحركة الصهيونية بكل أجهزتها الإعلامية والسياسية في حملات التشهير بالسلطان عبد الحميد، الذي كان حَجَر عثرة أمام أهدافهم ومؤامرتهم لتهويد فلسطين.

ومن العجيب أن الذين خلعوا السلطان عبد الحميد تحت دعوى أنه حاكم مستبد كانوا أشد طغيانا واستبدادا وهم يحكمون باسم الدستور، فضلا عن حماقاتهم وجهلهم بأصول الحكم؛ الأمر الذي عجّل بسقوط الدولة.

منقول

عبدالغفور الخطيب
09-04-2006, 03:00 AM
ألب أرسلان بطل ملاذ كرد

(في ذكرى وفاته: 10 ربيع الأول 465هـ)


نجح السلاجقة في النصف الأول من القرن الخامس الهجري في إقامة دولة قوية في خراسان وبلاد ما وراء النهر على حساب الدولة الغزنوية، وأن يعلنوا تبعيتهم للخلافة العباسية، ثم لم تلبث هذه الدولة أن اتسعت بسرعة هائلة؛ فسيطرت على إيران والعراق، وتوج "طغرل بك" إنجازاته العسكرية بدخول بغداد في (25 من رمضان 447هـ = 23 ديسمبر 1055م)، وبدأ عصر جديد للدولة العباسية، أطلق عليه المؤرخون عصر نفوذ السلاجقة؛ حيث كانت السلطة الفعلية في أيديهم، ولم يبقَ للخليفة سوى بعض المظاهر والرسوم.

ويُعَدُّ طغرل بك من كبار رجال التاريخ؛ فهو المؤسِّس الحقيقي لدولة السلاجقة، نشأت على يديه، ومدت سلطانها تحت بصره، وغدت أكبر قوة في العالم الإسلامي، ونفخت الرُّوح في جسد الدولة العباسية الواهن؛ فدبت فيه الحياة، بعد أن أوشكت على الموت، منذ أن أعلن "البساسيري" أحد قادة الجند تبعية بغداد للدولة الفاطمية في مصر، في سابقة لم تحدث في تاريخها.

الولاية
تُوفِّي طغرل بك في سنة (455هـ = 1063م) دون أن يترك ولدًا يخلفه على سدة الحكم، فشب صراع على الحكم، حسمه ابن أخيه ألب أرسلان لصالحه بمعونة وزيره النابه نظام الملك، المعروف بالذكاء وقوة النفوذ، وسعة الحيلة، وتنوع الثقافة.

وكانت سوابق ألب أرسلان تزكِّي اختياره للحكم؛ فهو قائد ماهر، وفارس شجاع، نشأ في خراسان، حيث كان والده "جغري" حاكمًا عليها، وأُسندت إليه قيادة الجيوش في سن مبكرة، فأظهر شجاعة نادرة في كل المعارك التي خاض غمارها، وبعد وفاة أبيه تولى هو إمارة خراسان خلفًا له.

ولم تسلم الفترة الأولى من عهده من الفتن والثورات، سواء من ولاته، أو من بعض أمراء البيت الحاكم؛ فقضى على فتنة ابن عم أبيه "شهاب الدولة قتلمش سنة (456هـ الموافق 1064م)، وكانت فتنة هائلة كادت تقضي على ألب أرسلان بعد أن استولى على "الري" عاصمة الدولة، وأعلن نفسه سلطانًا، وأحبط محاولة عمه "بيغو" للاستقلال بإقليم هراة سنة (457 = 1065م)، وبعد سنوات من العمل الجاد نجح ألب أرسلان في المحافظة على ممتلكات دولته، وتوسيع حدودها، ودانت له الأقاليم بالطاعة والولاء، وأُخمِدَت الفتنة والثورات، وتصاعد نفوذه، وقويت شكوته، حتى أصبحت دولته أكبر قوة في العالم الإسلامي في سنة (463هـ = 1070م) مما شجَّعه على التفكير في تأمين حدود دولته من غارات الروم.

فتح بلاد الروم

اطمأن ألب أرسلان إلى جبهته الداخلية المستقرة؛ فبدأ يتطلع إلى ضم المناطق النصرانية المجاورة له؛ بهدف نشر الإسلام فيها؛ فأعد جيشًا بلغ أربعين ألف جندي لهذا الغرض، وتمكن به من فتح بلاد الأرمن، وجورجيا، والأجزاء المطلة على بلاد الروم، وكان لهذه الانتصارات أثرها؛ فتحرك قيصر الروم الذي أدرك أن بلاده معرضة للهجوم من ألب أرسلان، وأن القتال معه وشيك لا محالة؛ فخرج على رأس جيش كبير لمواجهة غزو السلاجقة لممتكلاته، وذلك في سنة (463هـ = 1070)؛ لتطويق الجيش السلجوقي، واستولى على حلب، وكان حاكمها يتبع الخليفة الفاطمي في مصر.

فطن ألب أرسلان إلى محاولات القيصر؛ فبعث ابنه"ملكشاه" على رأس قوة من جيشه؛ لاسترداد حلب من الروم، وتأمين الحدود الشمالية لبلاد الشام؛ فنجح في مهمته، واستولى على حلب، وأصبحت تابعة للسلاجقة، وضم القدس أيضًا، وأجزاء من بلاد الشام.

موقعة ملاذ كرد

لم يجد قيصر الروم بدًا من الهجوم على جيش ألب أرسلان بعد أن فشلت خطته في تطويق الجيش الإسلامي؛ فخرج بجيوشه الجرارة التي ضمت أخلاطًا من الروس والبلغاريين واليونانيين والفرنسيين إلى المنطقة التي يعسكر فيها جيش السلاجقة في "ملاذكرد"، وكان جيش ألب أرسلان صغيرًا إذا ما قُورِنَ بجيش القيصر، الذي يبلغ عدده مائتي ألف جندي، ويفوقه أسلحة وعتادًا.

أسرع ألب أرسلان بقواته الصغيرة، واصطدم بمقدمة الجيش الرومي الهائل، ونجح في تحقيق نصر خاطف، يحقق له التفاوض العادل مع القيصر؛ لأنه كان يدرك أن قواته الصغيرة لا قِبَل لها بمواجهة هذا الجيش العظيم، غير أن القيصر رفض دعوة ألب أرسلان إلى الصلح والهدنة، وأساء استقبال مبعوثه؛ فأيقن ألب أرسلان ألاَّ مفرَّ له من القتال، بعد أن فشلت الجهود السلمية في دفع الحرب؛ فعمد إلى جنوده يشعل في نفوسهم رُوح الجهاد، وحب الاستشهاد، والصبر عند اللقاء، ووقف الإمام "أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري" يشد من أزر السلطان، ويقول له: "إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره، وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح".

وحين دنت ساعة اللقاء صلَّى بهم الإمام أبو نصر البخاري، وبكى السلطان؛ فبكى الناس لبكائه، ودعا، ودعوا معه، ولبس البياض وتحنَّط وقال: "إن قُتِلت فهذا كفني"، والتقى الفريقان، وحمل المسلمون على أعدائهم حملة صادقة، وأبلوا بلاءً حسنًا، وهجموا عليهم في جرأة وشجاعة، وأمعنوا فيهم قتلاً وتجريحًا، وما هي إلا ساعة من نهار حتى انكشف غبار المعركة عن جثث الروم تملأ ساحة القتال، ووقع قيصر الروم "رومانوس ديوجينس" أسيرًا في أيديهم، وحلَّت الهزيمة بهذا الجيش الجبَّار في (ذي القعدة 463هـ = أغسطس 1071م).

ما بعد ملاذ كرد

افتدى الروم قيصرهم بفدية كبيرة قدرها مليون ونصف المليون من الدينارات، وعقدوا صلحًا مع السلاجقة مدته خمسون عامًا، وتعهدوا بدفع جزية سنوية طوال هذه المدة، واعترفوا بسيطرة السلاجقة على المناطق التي فتحوها من بلاد الروم، وتعهدوا بعدم الاعتداء على ممتلكات دولة السلاجقة.

وكان من نتائج هذا النصر العظيم أن تغيرت صورة الحياة والحضارة في هذه المنطقة؛ فاصطبغت بالصبغة الإسلامية بعد أن أشرقت عليها شمس الإسلام، ودخل سكانها في الإسلام، وتعلموا مبادئه وشرائعه.

الوزير نظام الملك

وما كان للسلطان ألب أرسلان أن يحقق كل هذه الإنجازات بدون جهود وزيره العظيم نظام الملك، الذي لم يكن وزيرًا لامعًا وسياسيًّا ماهرًا فحسب؛ بل كان داعيًا للعلم والأدب محبًّا لهما، أنشأ المدارس المعروفة باسمه "المدارس النظامية"، وأجرى لها الرواتب، وجذب إليها كبار الفقهاء والمحدثين، وفي مقدمتهم حجة الإسلام "أبو حامد الغزالي".

وقد ارتفع شأن ألب أرسلان بعد انتصاره الباهر، وصار مرهوب الجانب في الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، وحقق شهرة واسعة هو ووزيره نظام الملك الذي أسهم في وضع سياسة السلاجقة، وأشرف على تنفيذها، غير أن السلطان ألب أرسلان لم يهنأ كثيرًا بما حققه، ويجني ثمار نصره، ويواصل فتوحاته، فقد قُتِلَ بعد عام ونيف من موقعة ملاذ كرد على يد أحد الثائرين عليه، وهو في الرابعة والأربعين من عمره في (10 من ربيع الأول 465 هـ = 29 من نوفمبر 1072م"، وخلفه ابنه ملكشاه صاحب الإنجازات العسكرية والحضارية في القرن الخامس الهجري.

منقول

عبدالغفور الخطيب
10-04-2006, 01:46 AM
الدولة الطاهرية.. ملامح نشأة وحضارة

(في ذكرى وفاة عبد الله بن طاهر: 11 ربيع الأول 230هـ)

نجح "عبد الله بن طاهر" في إرساء دعائم تلك الدولة الفتية الناشئة، التي غرس أبوه بذرتها الأولى في تربة الدولة العباسية العريقة، واستطاع أن يوفر لها من أسباب النجاح، ما مكنها في تلك السنوات القليلة التي عاشتها (205 – 259هـ = 820 – 782م) من أن يكون لها دور بارز في مسيرة الحياة، وأن تترك بصمات واضحة في تاريخ تلك المنطقة، وتسجل اسمها بأحرف من نور في ذاكرة التاريخ عبر الأعوام والعصور.

جذور الدولة الطاهرية ومولدها

كانت الدولة الطاهرية دولة فارسية إسلامية، نشأت في ظل الصراع الدائم والمتجدد بين العرب والفرس في العصر العباسي، وساعد على ظهورها ذلك الاتجاه الجديد الذي اتخذته الخلافة العباسية نحو اللامركزية في الحكم والإدارة.

وتنسب الدولة الطاهرية إلى "طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق"، وكان أبوه أحد وجهاء "خراسان" ومن سادتها في عصر الخليفة العباسي "هارون الرشيد"، وقد ولاه "الرشيد" "بوشنج" –إحدى مدن "خراسنان"- والتي تقع بين "هراة" و"سرخس".

وقد ولد "طاهر" في "بوشنج" سنة (159هـ = 775م) ونشأ في كنف أسرة عريقة ذات مجد ورياسة، فأخذ عن أبيه الخبرة السياسية والمهارة العسكرية والدراية بفنون الحرب والقتال، وعُنِي أبوه بتربيته وتعليمه، فشب شجاعًا جوادًا مضحيًا.

وكان "طاهر" ذا مكانة خاصة لدى الخليفة "المأمون بن الرشيد"، وهو الذي لقبه بذي اليمنين؛ لشجاعته وجرأته في الحرب.

بعد وفاة "هارون الرشيد" –سنة (194هـ = 807م)- حدث نزاع حول الخلافة بين ابنيه: "الأمين" و"المأمون"، وتصاعد الخلاف إلى حد الحرب والاقتتال، وفي ظل تلك الأجواء المشحونة بالقتال والصراع، وجد "طاهر بن الحسين" طريقه إلى تحقيق حلمه الكبير في الاستقلال بخراسان حينما استطاع إلحاق الهزيمة بـ"علي بن عيسى" قائد جيش "الأمين"، فبالرغم من تفوق جيش "علي بن عيسى" في العدة والعتاد فإن "طاهر" استطاع بخبرته العسكرية وقيادته الواعية أن يقود جيشه إلى النصر، محطمًا صلف وغرور "علي بن عيسى" وثقته المفرطة في قوته وقدراته.

وأسرعت رسل "طاهر بن الحسين" لتزف إلى "المأمون" بشرى ذلك الانتصار، حاملة معها كتاب "طاهر" إليه ورأس "علي بن عيسى".

وعندما علم "الأمين" بهزيمة جيشه ومقتل قائد جنده، أرسل إلى "طاهر" يتوعده ويهدده، ولكن "طاهر" لم يبال بتهديده، فأرسل إليه الأمين جيشًا آخر بقيادة "عبد الرحمن بن جبلة"، ولكن "طاهر" تمكن بخبرته ومهارته من إلحاق الهزيمة به والاستيلاء على "الأهواز"، فأرسل "الأمين" إليه جيشين آخرين لدحره وهزيمته، وفي هذه المرة يلجأ "طاهر" إلى المكيدة والحرب النفسية، حيث احتال حتى يوقع الخلاف والشقاق بين الجنود، وتمكن –في النهاية- من السيطرة على الموقف وتحقيق النصر.

وأدت تلك الانتصارات المتتالية التي حققها "طاهر" إلى خروج عمال "الأمين" عن طاعته، والمسارعة إلى خلعه وإعلان الطاعة لأخيه، واتجه "طاهر" بجيوشه إلى "بغداد" فحاصرها مدة طويلة حتى ضاق الناس واشتد الجوع، فلما تمكن من دخولها قبض على "الأمين" ثم أمر بقتله.

بداية ولاية الطاهريين على خراسان

واستقر الأمر للمأمون بالخلافة –سنة (198هـ = 813م)- فأسند إلى "طاهر" ولاية "خراسان" وبقية ولايات المشرق، وولّى ابنه "عبد الله" على "الرقة" وعهد إليه بحرب "نصر بن شبث" القائد العربي الذي خرج على العباسيين لتقريبهم العجم.

فلما توفى "طاهر" –سنة (207هـ = 822م)- عهد "المأمون" إلى "عبد الله بن طاهر" بولاية "خراسان" خلفًا لأبيه، فاستخلف "عبد الله" عليها أخاه "طلحة"، فاستمر عليها حتى توفي بعد سبع سنين.

واستطاع "عبد الله" أن يدفع "نصر بن شبث" إلى الاستسلام –سنة (209هـ = 824م)- بعد أن وعده بالأمان، فقضى بذلك على واحدة من أخطر حركات التمرد والعصيان التي واجهت العباسيين.

عبد الله بن طاهر في مصر

وبعد ذلك اتجه "عبد الله" بجيشه إلى "مصر" التي كانت تموج بالفتن والاضطرابات بعد تمرد ولاتها على سلطان العباسيين، فزحف إليها بجيشه –سنة (211هـ = 826م)- وأرسل إلى "عهد بن السري" –والي مصر- يدعوه إلى السمع والطاعة للخليفة "المأمون"، ولكن "ابن السري" حاول رشوته بهدية كبيرة، أرسلها إليه خفية، فردها "عبد الله"، وكتب إليه يقول: "لو قبلت هديتك نهارًا لقبلتها ليلاً.. بل أنتم بهديتكم تفرحون".

ولم يجد "ابن السري" بدًا من الاستسلام، فاستسلم له في (5 من صفر 211هـ = 17 من مايو 826م)، ودخلها "عبد الله" واليًا عليها.

وقد شهدت فترة ولاية "عبد الله بن طاهر" على مصر –بالرغم من قصرها- استقرارًا وازدهارًا ملحوظًا في مختلف نواحي الحياة؛ فقد أعاد الأمن والهدوء إلى البلاد بعد أن تمكن من القضاء على الفوضى والاضطراب، كما شهدت العديد من مظاهر العمران، فقد أدخل "عبد الله" زيادات وتحسينات ملموسة في بناء الجامع العتيق بالفسطاط –"جامع عمرو بن العاص"- وزاد من عدد أبوابه، ودعم جدرانه، ورقّم مبانيه.

وحفلت كذلك ببعض مظاهر الإصلاح الاقتصادي، وتجلى ذلك في الاهتمام بتحسين أحوال الناس، والارتقاء بظروفهم المعيشية، كما اهتم بتطوير الزراعة.. ومما يذكر له أنه أول من أدخل زراعة البطيخ "العبدلي" الجيد –نسبة إلى "عبد الله"- بمصر.

وتميزت فترة ولايته بالعدل والنزاهة وحسن السيرة، والجود وحب الخير، فيروى أنه عندما دخل مصر منحه "المأمون" خراجها سنة، فصعد "عبد الله" المنبر، ولم ينزل حتى وزعها كلها على الناس.

حركة بابك الخرمي

وما لبث "عبد الله" أن ترك مصر بعد أن اطمأن إلى استقرار الأمور بها، واستتباب الأمن والنظام فيها، وعاد إلى "بغداد" فأرسل الخليفة ابنه "العباس"، وأخاه "المعتصم"، وكبار رجال الدولة وأعيانها لاستقباله على مشارف المدينة تكريمًا له وتقديرًا لمكانته، ثم استقبله الخليفة في قصره وأكرمه وأظهر الحفاوة به.

وفي تلك الأثناء ظهرت حركة "بابك الخرمي" أولى الحركات الخارجة على سلطان الخلافة، والتي كانت واحدة من الفرق الهدامة التي تدعو إلى إباحة الأموال والنساء، وتستحل القتل والغصب.

وأراد "بابك" أن يحرك مشاعر "الفرس" لتأييده، فأشاع أنه من نسل "فاطمة بنت أبي مسلم الخراساني"، وأنه جاء لإقامة دولة الفرس، واستفحلت تلك الحركة، واشتد خطرها بعد أن استحل "بابك" دماء المسلمين والذميين على حد سواء، وفشلت كل محاولات الخلافة للقضاء عليهم، بعد هزيمة "محمد بن حميد" قائد الجيش الذي أرسله "المأمون" لقتال "بابك الخرمي" ومقتل "ابن حميد"، وأدى ذلك إلى انتشار الفزع في القرى المجاورة، وازداد نفوذ "بابك"، وتنامى خطره بعد أن انضم إليه قُطّاع الطرق، وأصحاب النحل الفاسدة، والناقمون على الخلافة.

فأرسل "المأمون" "عبد الله بن طاهر" –سنة (213هـ = 828م)- للقضاء على فتنة "بابك"، فلما علم "بابك" بقدومه لجأ إلى جبال "أذربيجان"، لتجنب الهزيمة أمام جيش "عبد الله"، الذي اضطر إلى رفع الحصار عنه والعودة إلى "خراسان".

القضاء على حركة المازبار

كما تصدى "عبد الله" كذلك لحركة "المازبار" في جبال "طبرستان"، وكان "المازبار" قد خرج على الخليفة "المأمون"، واشتدت فتنته في عهد الخليفة "المعتصم" –سنة (218-227هـ = 833-842م)- واعتنق "المزدكية" واستخف بالإسلام والمسلمين، واشتدت فتنته حتى ضج الناس، وهربوا من "طبرستان" بعد أن اشتد بها الخراب، فأخرج إليه "عبد الله بن طاهر" ثلاثة جيوش حاصرته حتى تمكنت من هزيمته وأسره، فساقوه إلى "عبد الله" في "خراسان" مكبلاً بالأغلال.

الدولة الطاهرية.. نمط فريد من الحكم والإدارة

وكانت الدولة الطاهرية نمطًا فريدًا من أساليب الحكم، فهي لم تكن دولة منفصلة تمامًا عن الخلافة، كما لم تكن أيضًا ولاية تابعة بشكل مباشر لسلطة الخليفة، يعين عليها الولاة أو يعزلهم، وإنما كانت إمارة شبه مستقلة يحكمها أمير، يتوارث أبناؤه الإمارة من بعده.

وقد عمل "عبد الله بن طاهر" على توطيد أركان تلك الدولة الناشئة، واهتم بتنظيم النواحي الإدارية فيها، فكان يشدد الرقابة على عماله، ويحاسبهم على ما يخولهم فيه من سلطات إدارية، وكان حريصًا على الكتابة إليهم ومتابعتهم؛ فَسَادَ في عهده العدل والإنصاف.

واهتم كذلك بالنواحي الحربية والعسكرية في إمارته، فقد كان إقليم "خراسان" –مقر "الدولة الطاهرية"- يعد من ثغور دولة الخلافة الإسلامية، ومن ثم فقد اهتم بتحصينه، ووضع الفرق والحاميات العسكرية لحماية تلك الثغور، وعندما وجد "عبد الله" مدينة "نيسابور" المقر القديم للجند، قد ازدحمت بالجند والسكان، نقل مقر الجند إلى ضاحية جديدة هي "الشاذياخ"، وذلك لمنع المنافرة بين جنوده وسكان المدينة، وحتى لا يميل الجند إلى الحياة المدنية الوديعة، وظلت "نيسابور" عاصمة للدولة الطاهرية ومركزًا للحكم.

وعُنِي "عبد الله بن طاهر" بالقضاء، فنظم مجالس القضاء، واهتم بإقامة الحدود على الجرائم، وكان يعتني باختيار القضاة الذين يتحلون بسعة العلم والدقة والأمانة.

وعمل "عبد الله" على إيجاد وسيلة اتصال جيدة بينه وبين عماله من جهة، وبينه وبين الخلافة من جهة أخرى، لنقل الرسائل والمكاتبات الرسمية، واهتم بإصلاح وتطوير نظام البريد، وتلافي بعض السلبيات التي كانت تحدث من قبل نتيجة استغلال عمال البريد لوظيفتهم –وكانوا يتبعون الخلافة مباشرة، وينقلون إليها أخبار الولاة- فكان بعضهم يبتز الولاة ويهدد القضاة وعمال الخراج بالإساءة إليهم عند الخلفاء، فاستخدم "عبد الله بن طاهر" الحمام الزاجل في مراسلاته مع عمال دولته ومكاتباته للخلافة.

حضارة وثقافة

وشهدت "الدولة الطاهرية" –في عهد "عبد الله بن طاهر"- ازدهارًا اقتصاديًا ملحوظًا، فقد اهتم بالزراعة وهو ما أدى إلى تنوع المحاصيل، وشق الترع وقنوات الري، وعندما اشتد النزاع بين المزارعين حول استخدام تلك القنوات أصدر عددًا من التشريعات والقوانين التي تنظم العلاقة بين المزارعين في استخدامها.

كما نشطت بعض الصناعات التي تخصصت في إنتاجها مدن معينة، فاشتهرت "مرو" بصناعة المنسوجات الحريرية والقطنية، كما اشتهرت أيضًا بصناعة الألبان وتجفيف الفواكه، واشتهرت "كركان" بصناعة الأخشاب، وتميزت "طبرستان" بصناعة المفروشات والأكسية الطبرية، وجادت كذلك الصناعات المعدنية وخاصة الحديد في إقليم ما وراء النهر، وكان لصناعة السجاد أهمية خاصة فقد انتشرت تلك الصناعة في إيران منذ القدم، بالإضافة إلى صناعة الجلود والخزف والأسلحة.

وقد أدى ذلك إلى رواج التجارة في تلك المناطق، وازدهار أسواقها، وظهور أسواق شهيرة بها مثل أسواق "نيسابور" و"كرمان".

النهضة الفكرية والعلمية في عهد عبد الله بن طاهر

كما شهدت الحياة الفكرية والعلمية والثقافية نهضة كبيرة في عهد "عبد الله بن طاهر"، فكان يشجع العلماء والأدباء والشعراء، وكان "عبد الله" شاعرًا بليغًا يهتم باللغة العربية وفنونها وآدابها، فالتف حوله عدد من الأدباء والعلماء والفقهاء، منهم "أبو عبيد الله القاسم بن سلام" –المتوفى سنة (224هـ = 839م)- وكان "عبد الله بن طاهر" يشمله بالعطف والرعاية، فكان إذا ألف كتابًا أهداه إلى "عبد الله" فيكافئه على ذلك بالأموال الكثيرة، كما ارتبط كذلك بالشاعر "كلثوم بن عمرو بن الحارث" –"العنابي"- وكانت بينهما علاقة وطيدة، وارتبط به كذلك "يوحنا بن ماسويه" الطبيب الشهير، وألف له كتاب: "الصداع وعلله وأوجاعه وجميع أدويته".

واستمر "عبد الله بن طاهر" يبذل جهده في جد وإخلاص لبناء صرح تلك الدولة التي حملت اسم عائلته لأكثر من نصف قرن من الزمان، حتى ينهض بها أبناؤه وأحفاده من بعده، لا يتوانى في سبيل تحقيق هذا الهدف لحظة، ولا يغفل عن تنفيذ تلك الغاية طرفة عين حتى توفى في (11 من ربيع الأول 230هـ = 26 من نوفمبر 844م) عن عمر بلغ (48) عامًا.


منقول

عبدالغفور الخطيب
11-04-2006, 02:11 AM
ميلاد النبي: الحدث.. وطرق الاحتفال

(في ذكرى مولده: 12 ربيع الأول من عام الفيل)


كانت "مكة" على موعد مع حدث عظيم كان له تأثيره في مسيرة البشرية وحياة البشر طوال أربعة عشر قرنًا من الزمان، وسيظل يشرق بنوره على الكون، ويرشد بهداه الحائرين، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

كان ميلاد النبي "محمد" صلى الله عليه وسلم أهم حدث في تاريخ البشرية على الإطلاق منذ أن خلق الله الكون، وسخر كل ما فيه لخدمة الإنسان، وكأن هذا الكون كان يرتقب قدومه منذ أمد بعيد.

وفي (12 من ربيع الأول) من عام الفيل شرف الكون بميلاد سيد الخلق وخاتم المرسلين "محمد" صلى الله عليه وسلم.

وقد ذهب الفلكي المعروف "محمود باشا الفلكي" في بحث له إلى أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولد يوم الإثنين (9 من ربيع الأول الموافق 20 من أبريل سنة 571 ميلادية).

نسبه الشريف

هو "أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة"، ويمتد نسبه إلى "إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان"، وينتهي إلى "إسماعيل بن إبراهيم" عليهما السلام.

وأمه "آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة"، ويتصل نسب أمه مع أبيه بدءًا من "كلاب بن مرة".

ورُوي في سبب تسميته أن أمه أُمرت أن تسميه بذلك وهي حامل، وروي أن جده عبد المطلب رأى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره، لها طرف في السماء وطرف في الأرض، وطرف في المشرق وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة منها نور، وإذ بأهل المشرق والمغرب يتعلقون بها؛ فتأولها بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل السماء فسماه "محمد".

وتبدو أسباب التهيئة والإعداد من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم في مهمته الجليلة ورسالته العظيمة، جلية واضحة منذ اللحظة الأولى في حياته، بل إنها كانت قبل ذلك، وقد تجلى ذلك حتى في اصطفاء اسمه صلى الله عليه وسلم، فليس في اسمه أو اسم أبيه أو جده ما يحط قدره وينقص منزلته، وليس في اسمه شيء محتقر، كما أنه ليس اسمه اسمًا مصغرًا تستصغر معه منزلته، وليس فيه كبرياء أو زيادة تعاظم يثير النفور منه.

ابن الذبيحين

ويعرف النبي صلى الله عليه وسلم بابن الذبيحين، فأبوه "عبد الله" هو الذبيح الذي نذر "عبد المطلب" ذبحه ثم فداه بمائة من الإبل، وجده "إسماعيل" – عليه السلام- هو الذبيح الذي فداه ربه بذبح عظيم.

وقد اجتمع للنبي صلى الله عليه وسلم من أسباب الشرف والكمال ما يوقع في نفوس الناس استعظامه، ويسهل عليهم قبول ما يخبر به، وأول تلك الأسباب كان شرف النسب "وأشرف النسب ما كان إلى أولي الدين، وأشرف ذلك ما كان إلى النبيين، وأفضل ذلك ما كان إلى العظماء من الأنبياء، وأفضل ذلك ما كان إلى نبي قد اتفقت الملل على تعظيمه".

ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يهوديًا ولا نصرانيًا ولا مجوسيًا، لأنه لو كان من أهل ملة لكان خارجًا عن دين من يدعوهم فيكون عندهم مبتدعًا كافرًا، وذلك ما يدعوهم إلى تنفير الناس منه، وإنما كان حنيفًا مسلمًا على مله آبائه: "إبراهيم" و"إسماعيل" عليهما السلام.

مولد النبي صلى الله عليه وسلم إيذان بزوال الشرك

كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم نذيرا بزوال دولة الشرك، ونشر الحق والخير والعدل بين الناس، ورفع الظلم والبغي والعدوان.

وكانت الدنيا تموج بألوان الشرك والوثنية وتمتلئ بطواغيت الكفر والطغيان، وعندما أشرق مولد سيد الخلق كانت له إرهاصات عجيبة، وصاحبته ظواهر غريبة وأحداث فريدة، ففي يوم مولده زلزل إيوان "كسرى" فسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار "فارس" ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة "ساوة".

وروى عن أمه أنها قالت: "رأيت لما وضعته نورًا بدا مني ساطعًا حتى أفزعني، ولم أر شيئًا مما يراه النساء". وذكرت "فاطمة بنت عبد الله" أنها شهدت ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: "فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن عليَّ".

وروى أنه صلى الله عليه وسلم ولد معذورًا مسرورًا -أي مختونًا مقطوع السرة- وأنه كان يشير بإصبع يده كالمسبّح بها.

محمد اليتيم

فقد محمد صلى الله عليه وسلم أباه قبل مولده، وكانت وفاة أبيه بالمدينة عند أخوال أبيه من "بني النجار" وهو في الخامسة والعشرين من عمره.

وعلى عادة العرب فقد أرسله جدُّه إلى البادية ليسترضع في "بني سعد"، وكانت حاضنته "حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي"، فلم يزل مقيمًا في "بني سعد" يرون به البركة في أنفسهم وأموالهم حتى كانت حادثة شق الصدر، فخافوا عليه وردوه إلى جده "عبد المطلب" وهو في نحو الخامسة من عمره.

لم تلبث أمه "آمنة" أن توفيت في "الأبواء" – بين "مكة" و "المدينة" – وهي في الثلاثين من عمرها، وكان محمد صلى الله عليه وسلم قد تجاوز السادسة بثلاثة أشهر.

وكأنما كان على "محمد" صلى الله عليه وسلم أن يتجرع مرارة اليتم في طفولته، ليكون أبًا لليتامى والمساكين بعد نبوته، وليتضح أثر ذلك الشعور باليتم في حنوّه على اليتامى وبره بهم، ودعوته إلى كفالتهم ورعايتهم والعناية بهم.

محمد في كفالة جده وعمه

عاش "محمد" صلى الله عليه وسلم في كنف جده "عبد المطلب" وكان يحبه ويعطف عليه، فلما مات "عبد المطلب" وكان "محمد" في الثامنة من عمره، كفله عمه "أبو طالب"، فكان خير عون له في الحياة بعد موت جده، وكان أبو طالب سيدًا شريفًا مطاعًا مهيبًا، مع ما كان عليه من الفقر، وكان "أبو طالب" يحب محمدًا ويؤثره على أبنائه ليعوضه ما فقده من حنان وعطف.

وحينما خرج "أبو طالب" في تجارة إلى "الشام" تعلق به "محمد" فرقّ له "أبو طالب" وأخذه معه، فلما نزل الركب "بصرى" -من أرض "الشام"- وكان بها راهب اسمه "بحيرى" في صومعة له، فلما رآه "بحيرى" جعل يلحظه لحظًا شديدًا، ويتفحصه مليًا، ثم أقبل على عمه "أبي طالب" فأخذ يوصيه به، ويدعوه إلى الرجوع به إلى بلده، ويحذره من اليهود.

محمد في مكة

وشهد "محمد" صلى الله عليه وسلم حرب الفجار – الذين فجّروا القتال في شهر الله الحرام رجب- وكان في السابعة عشرة من عمره.

وحضر "حلف الفضول" وقد جاوز العشرين من عمره، وقد قال فيه بعد بعثته: "حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما يسرني به حمر النعم، ولو دُعيت إليه اليوم لأجبت".

وقد عُرف النبي صلى الله عليه وسلم – منذ حداثة سنه – بالصادق الأمين، وكان موضع احترام وتقدير "قريش" في صباه وشبابه، حتى إنهم احتكموا إليه عندما اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة، حينما أعادوا بناءها بعدما تهدّمت بسبب سيل أصابها، وأرادت كل قبيلة أن تحظى بهذا الشرف حتى طار الشرُّ بينهم، وكادوا يقتتلون، فلما رأوه مقبلاً قالوا: قد رضينا بحكم "محمد بن عبد الله"، فبسط رداءه، ثم وضع الحجر وسطه، وطلب أن تحمل كل قبيلة جانبًا من جوانب الرداء، فلما رفعوه جميعًا حتى بلغ الموضع، أخذه بيده الشريفة ووضعه مكانه.

وعندما بلغ "محمد" صلى الله عليه وسلم الخامسة والعشرين تزوج السيدة "خديجة بنت خويلد"، قبل أن يُبعث، فولدت له "القاسم" و"رقية" و"زينب" و"أم كلثوم"، وولدت له بعد البعثة "عبد الله".

من البعثة إلى الوفاة

ولما استكمل النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة كانت بعثته، وكانت "خديجة" أول من آمن به من النساء، وكان "أبو بكر الصديق" أول من آمن به من الرجال، و"علي بن أبي طالب" أول من آمن من الصبيان.

وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين يكتم أمره، ويدعو الناس سرًا إلى الإسلام، فآمن به عدد قليل، فلما أمر بإبلاغ دعوته إلى الناس والجهر بها، بدأت قريش في إيذائه وتعرضت له ولأصحابه، ونال المؤمنون بدعوته صنوف الاضطهاد والتنكيل، وظل المسلمون يقاسون التعذيب والاضطهاد حتى اضطروا إلى ترك أوطانهم والهجرة إلى "الحبشة" ثم إلى المدينة.

ومرّت الأعوام حتى عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحًا –في العام العاشر من الهجرة- ونصر الله المسلمين بعد أن خرجوا منها مقهورين، ومكّن لهم في الأرض بعد أن كانوا مستذلّين مستضعفين، وأظهر الله دينه وأعز نبيه ودحر الشرك وهزم المشركين.

وفي العام التالي توفي النبي صلى الله عليه وسلم في (12 من ربيع الأول 11هـ = 7 من يونيو 632م) عن عمر بلغ (63) عامًا.

بدايات الاحتفال بالمولد النبوي

لعل أول من أحدث الاحتفال بذكرى المولد النبوي هو الملك المظفر "أبو سعيد كوكبري بن زيد الدين علي بن بكتكين" صاحب إربل، وكان أحد الملوك الأمجاد، وكان يحتفل به احتفالاً هائلاً يحضره الأعيان والعلماء ويدعو إليه الصوفية والفقراء.

وقد اختلف العلماء حول شرعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وانقسموا بين مؤيد ومعارض، وكان من أشد المنكرين لذلك المعارضين له؛ باعتباره بدعة مذمومة الشيخ "تاج الدين اللخمي" الذي يقول: "لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطّالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكّالون".

وقد انبرى الإمام "السيوطي" للرد عليه وتفنيد مزاعمه وإبطال حججه، وإذا كان بعض الناس يرتكبون أفعالاً منكرة في الاحتفال بالمولد، من لهو وصد عن ذكر الله وغير ذلك، فإن تعظيم هذا اليوم إنما يكون بزيادة الأعمال الصالحة والصدقات وغير ذلك من ألوان القربات إلى الله تعالى.

وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم؛ فصامه موسى. قال: فأنا أحق بموسى منكم؛ فصامه وأمر بصيامه.. (بخاري: كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء، رقم 2004).

ولعل في إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى فضيلة هذا اليوم حينما سأله سائل عن صوم يوم الإثنين فقال: "ذلك يوم ولدت فيه"؛ ففيه تشريف لهذا اليوم الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم.

كيف نحتفل بالمولد؟

يميل أكثر العلماء إلى شرعية الاحتفال بالمولد النبوي، ووجوب إحياء هذه الذكرى بالذكر والعبادة، والتماس مواطن القدوة في حياة صاحب الذكرى صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به وإحياء سننه، والسير على نهجه وشرعته.

يقول الإمام "ابن حجر العسقلاني": "أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرّى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة".

ويقول الإمام "السخاوي": "لو لم يكن في ذلك إلا إرغام الشيطان، وسرور أهل الإيمان من المسلمين لكفى، وإذا كان أهل الصليب اتخذوا مولد نبيهم عيدًا أكبر، فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر".

ويقول العلامة "فتح الله البناني": "إن أحسن ما ابتُدع في زماننا هذا ما يُفعل كل عام في اليوم الذي يوافق مولده صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك –على ما فيه من الإحسان إلى الفقراء- مشعر بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك"


منقول

عبدالغفور الخطيب
13-04-2006, 01:12 AM
هارون الرشيد.. والعصر الذهبي للدولة العباسية

(في ذكرى توليه الخلافة: 14 من ربيع الأول 170هـ)



لم يحظَ خليفة بعد الخلفاء الراشدين بالشهرة الواسعة وذيوع الذكر، مثلما حظي الخليفة العباسي هارون الرشيد، غير أن تلك الشهرة امتزج في نسجها الحقيقة مع الخيال، واختلطت الوقائع مع الأساطير، حتى كادت تختفي صورة الرشيد، وتضيع قسماتها وملامحها، وتظهر صورة أخرى له أقرب إلى اللهو واللعب والعبث والمجون، وأصبح من الواجب نفض الروايات الموضوعة، والأخبار المدسوسة حتى نستبين شخصية الرشيد كما هي في الواقع، لا كما تصورها الأوهام والأساطير.

ما قبل الخلافة

نشأ الرشيد في بيت ملك، وأُعد ليتولى المناصب القيادية في الخلافة، وعهد به أبوه الخليفة "المهدي بن جعفر المنصور" إلى من يقوم على أمره تهذيبًا وتعليمًا وتثقيفًا، وحسبك أن يكون من بين أساتذة الأمير الصغير "الكسائي"، والمفضل الضبي، وهما مَن هما علمًا ولغة وأدبًا، حتى إذا اشتد عوده واستقام أمره، ألقى به أبوه في ميادين الجهاد، وجعل حوله القادة الأكفاء، يتأسى بهم، ويتعلم من تجاربهم وخبراتهم، فخرج في عام (165 هـ= 781م) على رأس حملة عسكرية ضد الروم، وعاد محملاً بأكاليل النصر، فكوفئ على ذلك بأن اختاره أبوه وليًا ثانيًا للعهد بعد أخيه موسى الهادي.

وكانت الفترة التي سبقت خلافته يحوطه في أثنائها عدد من الشخصيات السياسية والعسكرية، من أمثال "يحيى بن خالد البرمكي"، و"الربيع بن يونس"، و"يزيد بن مزيد الشيباني" و"الحسن بن قحطبة الطائي"، و"يزيد بن أسيد السلمي"، وهذه الكوكبة من الأعلام كانت أركان دولته حين آلت إليه الخلافة، ونهضوا معه بدولته حتى بلغت ما بلغت من التألق والازدهار.

تولّيه الخلافة


تمت البيعة للرشيد بالخلافة في (14 من شهر ربيع الأول 170هـ= 14 من سبتمبر 786م)، بعد وفاة أخيه موسى الهادي، وبدأ عصر زاهر كان واسطة العقد في تاريخ الدولة العباسية التي دامت أكثر من خمسة قرون، ارتقت فيه العلوم، وسمت الفنون والآداب، وعمَّ الرخاء ربوع الدولة.

وكانت الدولة العباسية حين آلت خلافتها إليه مترامية الأطراف تمتد من وسط أسيا حتى المحيط الأطلنطي، مختلفة البيئات، متعددة العادات والتقاليد، معرضة لظهور الفتن والثورات، تحتاج إلى قيادة حكيمة وحازمة يفرض سلطانها الأمن والسلام، وتنهض سياستها بالبلاد، وكان الرشيد أهلاً لهذه المهمة الصعبة في وقت كانت فيه وسائل الاتصال شاقة، ومتابعة الأمور مجهدة، وساعده على إنجاز مهمته أنه أحاط نفسه بكبار القادة والرجال من ذوي القدرة والكفاءة، ويزداد إعجابك بالرشيد حين تعلم أنه أمسك بزمام هذه الدولة العظيمة وهو في نحو الخامسة والعشرين من عمره، فأخذ بيدها إلى ما أبهر الناس من مجدها وقوتها وازدهار حضارتها.

استقرار الدولة

ولم تكن الفترة التي قضاها الرشيد في خلافة الدولة العباسية هادئة ناعمة، وإنما كانت مليئة بجلائل الأعمال في داخل الدولة وخارجها، ولم يكن الرشيد بالمنصرف إلى اللهو واللعب المنشغل عن دولته العظيمة إلى المتع والملذات، وإنما كان "يحج سنة ويغزو كذلك سنة".

واستهل الرشيد عهده بأن قلد "يحيى بن خالد البرمكي" الوزارة، وكان من أكفأ الرجال وأمهرهم، وفوّض إليه أمور دولته، فنهض بأعباء الدولة، وضاعف من ماليتها، وبلغت أموال الخراج الذروة، وكان أعلى ما عرفته الدولة الإسلامية من خراج، وقدره بعض المؤرخين بنحو 400 مليون درهم، وكان يدخل خزينة الدولة بعد أن تقضي جميع الأقاليم الإسلامية حاجتها.

وكانت هذه الأموال تحصل بطريقة شرعية، لا ظلم فيها ولا اعتداء على الحقوق، بعد أن وضع القاضي "أبو يوسف" نظامًا شاملاً للخراج باعتباره واحدًا من أهم موارد الدولة، يتفق مع مبادئ الشرع الحنيف، وذلك في كتابه الخراج.

وكان الرشيد حين تولى الخلافة يرغب في تخفيف بعض الأعباء المالية عن الرعية، وإقامة العدل، ورد المظالم، فوضع له "أبو يوسف" هذا الكتاب استجابة لرغبته، وكان لهذا الفائض المالي أثره في انتعاش الحياة الاقتصادية، وزيادة العمران، وازدهار العلوم، والفنون، وتمتع الناس بالرخاء والرفاهية.

وأُنفقت هذه الأموال في النهوض بالدولة، وتنافس كبار رجال الدولة في إقامة المشروعات كحفر الترع والأنهار، وبناء الحياض، وتشييد المساجد، وإقامة القصور، وتعبيد الطرق، وكان لبغداد نصيب وافر من العناية والاهتمام من قبل الخليفة الرشيد وكبار رجال دولته، حتى بلغت في عهده قمة مجدها وتألقها؛ فاتسع عمرانها، وزاد عدد سكانها حتى بلغ نحو مليون نسمة، وبُنيت فيها القصور الفخمة، والأبنية الرائعة التي امتدت على جانبي دجلة، وأصبحت بغداد من اتساعها كأنها مدن متلاصقة، وصارت أكبر مركز للتجارة في الشرق، حيث كانت تأتيها البضائع من كل مكان.

وغدت بغداد قبلة طلاب العلم من جميع البلاد، يرحلون إليها حيث كبار الفقهاء والمحدثين والقراء واللغويين، وكانت المساجد الجامعة تحتضن دروسهم وحلقاتهم العلمية التي كان كثير منها أشبه بالمدارس العليا، من حيث غزارة العلم، ودقة التخصص، وحرية الرأس والمناقشة، وثراء الجدل والحوار. كما جذبت المدينة الأطباء والمهندسين وسائر الصناع.

وكان الرشيد وكبار رجال دولته يقفون وراء هذه النهضة، يصلون أهل العلم والدين بالصلات الواسعة، ويبذلون لهم الأموال تشجيعًا لهم، وكان الرشيد نفسه يميل إلى أهل الأدب والفقه والعلم، ويتواضع لهم حتى إنه كان يصب الماء في مجالسه على أيديهم بعد الأكل.

وأنشأ الرشيد "بيت الحكمة" وزودها بأعداد كبيرة من الكتب والمؤلفات من مختلف بقاع الأرض كالهند وفارس والأناضول واليونان، وعهد إلى "يوحنا بن ماسوية" بالإشراف عليها، وكانت تضم غرفًا عديدة تمتد بينها أروقة طويلة، وخُصصت بعضها للكتب، وبعضها للمحاضرات، وبعضها الآخر للناسخين والمترجمين والمجلدين.

هارون الرشيد مجاهدًا

كانت شهرة هارون الرشيد قبل الخلافة تعود إلى حروبه وجهاده مع الروم، فلما ولي الخلافة استمرت الحروب بينهما، وأصبحت تقوم كل عام تقريبًا، حتى إنه اتخذ قلنسوة مكتوبًا عليها: غاز وحاج.

وقام الرشيد بتنظيم الثغور المطلة على بلاد الروم على نحو لم يعرف من قبل، وعمرها بالجند وزاد في تحصيناتها، وعزل الجزيرة وقنسرين عن الثغور، وجعلها منطقة واحدة، وجعل عاصمتها أنطاكية، وأطلق عليها العواصم، لتكون الخط الثاني للثغور الملاصقة للروم، ولأهميتها كان لا يولي عليها إلا كبار القادة أو أقرب الأقربين إليه، مثل "عبد الملك بن صالح" ابن عم أبي جعفر المنصور أو ابنه "المعتصم".

وعمّر الرشيد بعض مدن الثغور، وأحاط كثيرًا منها بالقلاع والحصون والأسوار والأبواب الحديدية، مثل: قلطية، وسميساط، ومرعش، وكان الروم قد هدموها وأحرقوها فأعاد الرشيد بناءها، وأقام بها حامية كبيرة، وأنشأ الرشيد مدينة جديدة عرفت باسم "الهارونية" على الثغور.

وأعاد الرشيد إلى الأسطول الإسلامي نشاطه وحيويته، ليواصل ويدعم جهاده مع الروم ويسيطر على الملاحة في البحر المتوسط، وأقام دارًا لصناعة السفن، وفكّر في ربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، وعاد المسلمون إلى غزو سواحل بحر الشام ومصر، ففتحوا بعض الجزر واتخذوها قاعدة لهم، مثلما كان الحال من قبل، فأعادوا فتح "رودس" سنة (175هـ= 791م)، وأغاروا على أقريطش "كريت" وقبرص سنة (190هـ= 806م).

واضطرت دولة الروم أمام ضربات الرشيد المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة، فعقدت "إيريني" ملكة الروم صلحًا مع الرشيد، مقابل دفع الجزية السنوية له في سنة (181هـ= 797م)، وظلت المعاهدة سارية حتى نقضها إمبراطور الروم، الذي خلف إيريني في سنة (186هـ = 802م)، وكتب إلى هارون: "من نقفور ملك الروم إلى ملك العرب، أما بعد فإن الملكة إيريني التي كانت قبلي أقامتك مقام الأخ، فحملت إليك من أموالها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك، وإلا فالحرب بيننا وبينك".

فلما قرأ هارون هذه الرسالة ثارت ثائرته، وغضب غضبًا شديدًا، وكتب على ظهر رسالة الإمبراطور: "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام".

وخرج هارون بنفسه في (187 هـ= 803م)، حتى وصل "هرقلة" وهي مدينة بالقرب من القسطنطينية، واضطر نقفور إلى الصلح والموادعة، وحمل مال الجزية إلى الخليفة كما كانت تفعل "إيريني" من قبل، ولكنه نقض المعاهدة بعد عودة الرشيد، فعاد الرشيد إلى قتاله في عام (188هـ= 804م) وهزمه هزيمة منكرة، وقتل من جيشه أربعين ألفا، وجُرح نقفور نفسه، وقبل الموادعة، وفي العام التالي (189هـ=805م) حدث الفداء بين المسلمين والروم، ولم يبق مسلم في الأسر، فابتهج الناس لذلك.

غير أن أهم غزوات الرشيد ضد الروم كانت في سنة ( 190 هـ= 806م)، حين قاد جيشًا ضخماً عدته 135 ألف جندي ضد نقفور الذي هاجم حدود الدولة العباسية، فاستولى المسلمون على حصون كثيرة، كانت قد فقدت من أيام الدولة الأموية، مثل "طوانة" بثغر "المصيصة"، وحاصر "هرقلة" وضربها بالمنجنيق، حتى استسلمت، وعاد نقفور إلى طلب الهدنة، وخاطبه بأمير المؤمنين، ودفع الجزية عن نفسه وقادته وسائر أهل بلده، واتفق على ألا يعمر هرقلة مرة أخرى.

بلاط الرشيد محط أنظار العالم

ذاع صيت الرشيد وطبق الآفاق ذكره، وأرسلت بلاد الهند والصين وأوروبا رسلها إلى بلاطه تخطب وده، وتطلب صداقته، وكانت سفارة "شارلمان" ملك الفرنجة من أشهر تلك السفارات، وجاءت لتوثيق العلاقات بين الدولتين، وذلك في سنة ( 183هـ= 779م)؛ فأحسن الرشيد استقبال الوفد، وأرسل معهم عند عودتهم هدايا قيمة، كانت تتألف من حيوانات نادرة، منها فيل عظيم، اعتبر في أوروبا من الغرائب، وأقمشة فاخرة وعطور، وشمعدانات، وساعة كبيرة من البرونز المطلي بالذهب مصنوعة في بغداد، وحينما تدق ساعة الظهيرة، يخرج منها اثنا عشر فارسًا من اثنتي عشرة نافذة تغلق من خلفهم، وقد تملك العجب شارلمان وحاشيته من رؤية هذه الساعة العجيبة، وظنوها من أمور السحر.

الرشيد وأعمال الحج

نظم العباسيون طرق الوصول إلى الحجاز، فبنوا المنازل والقصور على طول الطريق إلى مكة، طلبًا لراحة الحجاج، وعُني الرشيد ببناء السرادقات وفرشها بالأثاث وزودها بأنواع الطعام والشراب، وبارته زوجته "زبيدة" في إقامة الأعمال التي تيسر على الحجيج حياتهم ومعيشتهم، فعملت على إيصال الماء إلى مكة من عين تبعد عن مكة بنحو ثلاثين ميلاً، وحددت معالم الطريق بالأميال، ليعرف الحجاج المسافات التي قطعوها، وحفرت على طولها الآبار والعيون.

وفاة الرشيد

كان الرشيد على غير ما تصوره بعض كتب الأدب، دينا محافظًا على التكاليف الشرعية، وصفه مؤرخوه أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، ويتصدق من ماله الخاص، ولا يتخلف عن الحج إلا إذا كان مشغولاً بالغزو والجهاد، وكان إذا حج صحبه الفقهاء والمحدثون.

وظل عهده مزاوجة بين جهاد وحج، حتى إذا جاء عام (192 هـ= 808م) فخرج إلى "خرسان" لإخماد بعض الفتن والثورات التي اشتعلت ضد الدولة، فلما بلغ مدينة "طوس" اشتدت به العلة، وتُوفي في (3 من جمادى الآخر 193هـ= 4 من إبريل 809م) بعد أن قضى في الخلافة أكثر من ثلاث وعشرين سنة، عدت العصر الذهبي للدولة العباسية.


منقول

عبدالغفور الخطيب
14-04-2006, 02:31 AM
عبيد الله المهدي.. مؤسس الدول الفاطمية

(في ذكرى وفاته: 15 من ربيع الأول 322هـ)


بدأ الضعف يدب في أوصال الخلافة العباسية السُّنّية، وظهرت أمارات الإعياء على جسدها الواهن، ولاحت آيات الضعف في ملامح الوجه والقسمات، وذلك في مطلع القرن الرابع، بعد أن تفككت الدولة، وصارت دولاً وممالك صغيرة، لا يربطها بدولة الخلافة سوى الاسم والدعاء للخليفة على المنابر.

وشهد هذا القرن بزوغ ثلاث خلافات، تنازعت السلطة في العالم الإسلامي: الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في إفريقية، والخلافة الأموية في قرطبة، وأصبح للعالم الإسلامي -لأول مرة- ثلاثة من الخلفاء في ثلاثة أماكن مختلفة، يقتسمون الحكم، ويتنازعون فيما بينهم.

قيام الدولة الفاطمية

نجح أبو عبد الله الشيعي داعية الإسماعيلية في إعلان قيام الدولة الفاطمية في "رقادة" عاصمة دولة الأغالبة في (21 من ربيع الآخر 297هـ= 8 من يناير 910م)، ومبايعة عبيد الله المهدي بالخلافة، وجاء هذا النجاح بعد محاولات فاشلة قام بها الشيعة منذ قيام الدولة الأموية للظفر بالخلافة.

وقد نجح أبو عبد الله الشيعي منذ أن وطأت قدماه بلاد "كتامة" في المغرب العربي في منتصف ربيع الأول (288هـ= فبراير 901م) في جمع الأتباع، وجذب الأنصار إلى دعوته، مستغلاً براعته في الحديث، وقدرته على الإقناع، وتظاهره بالتقوى والصلاح، ثم صارح بعض زعماء كتامة بحقيقة دعوته بعد أن اطمأن إليهم، وأنه داعية للمعصوم من أهل البيت، ولمَّح إلى أنهم هم السعداء الذين اختارهم القدر ليقوموا بهذه المهمة الجليلة.

وبعد أن أحسن أبو عبد الله الشيعي تنظيم جماعته، والتزموا طاعته، بدأ في مرحلة الصدام مع القوى السياسية الموجودة في المنطقة، فشرع في سنة (289هـ = 901م) في مهاجمة دولة الأغالبة، ودخل معها في عدة معاركة، كان أشهرها معركة "كينوتة" في سنة (293هـ=906م) وعُدَّت نقطة تحوّل في ميزان القوى لصالح أبي عبد الله الشيعي؛ حيث توالت انتصاراته على دولة الأغالبة، فسقطت في يده قرطاجنة، وقسنطينة، وقفصة، ودخل "رقادة" عاصمة الأغالبة في (أول رجب 296هـ = 26 من مارس 909م).

عبيد الله المهدي

لا يستطيع أحد القطع برأي حاسم في نسب "عبيد الله المهدي"، فالشيعة الإسماعيلية يؤكدون صحة نسبه إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، في حين يذهب المؤرخون من أهل السُنّة وبعض خصوم الفاطميين من الشيعة إلى إنكار نسب عبيد الله إلى علي بن أبي طالب.

ولكن على أية حال نحن أمام رجل يسمى عبيد الله، ويدّعي أنه صاحب الحق في إمامة المسلمين، وأنه من سلالة الإمام جعفر الصادق، وقد نجح أحد دعاته في إقامة دولة باسمه في إقليم إفريقية، وجزء كبير من المغرب الأوسط.

خرج عبيد الله المهدي من مكمنه في "سلمية" من أرض حمص ببلاد الشام في سنة (292 هـ = 905م)، واتجه إلى المغرب، بعد الأنباء التي وصلته عن نجاح داعيته أبي عبد الله الشيعي في المغرب، وإلحاح كتامة في إظهار شخصية الإمام الذي يقاتلون من أجله، وبعد رحلة شاقة نجح عبيد الله المهدي في الوصول إلى "سجلماسة" متخفيا في زي التجار، واستقر بها.

ومن ملجئه في سجلماسة في المغرب الأقصى أخذ عبيد الله المهدي يتصل سرًا بأبي عبد الله الشيعي الذي كان يطلعه على مجريات الأمور، ثم لم يلبث أن اكتشف "اليسع بن مدرار" أمير سجلماسة أمر عبيد الله؛ فقبض عليه وعلى ابنه "أبي القاسم" وحبسهما، وظلا في السجن حتى أخرجهما أبو عبد الله الشيعي بعد قضائه على دولة الأغالبة.

وكان أبو عبد الله الشيعي حين علم بخبر سجنهما قد عزم على السير بقواته لتخليصهما من السجن، فاستخلف أخاه "أبا العباس" واتجه إلى سجلماسة، ومر في طريقه إليها على "تاهرت" حاضرة الدولة الرسمية فاستولى عليها، وقضى على حكم الرّستميين، وبلغ سجلماسة فحاصرها حتى سقطت في يده، وأخرج المهدي وابنه من السجن.

ويذكر المؤرخون أن أبا عبد الله الشيعي حين أبصر عبيد الله المهدي ترجّل وقابله بكل احترام وإجلال، وقال لمن معه: هذا مولاي ومولاكم قد أنجز الله وعده وأعطاه حقه وأظهر أمره.

وأقام أبو عبد الله الشيعي وعبيد الله المهدي في سجلماسة أربعين يوما، ثم رحلوا عائدين فدخلوا رقادة في يوم الخميس الموافق (20 من شهر ربيع الآخر 297هـ= 7 من يناير 910م).

وخرج أهل القيروان مع أهل رقادة يرحبون بالإمام المهدي، وفي يوم الجمعة التالي أمر عبيد الله أن يُذكر اسمه في الخطبة في كل من رقادة والقيروان، معلنا بذلك قيام الدولة الفاطمية.

خلاقة عبيد الله الفاطمي

استهدف عبيد الله الفاطمي منذ أن بويع بالخلافة واستقامت له الأمور أن يدعم مركزه، وأن تكون كل السلطات في يديه، وأن يكون السيد المطلق على الدولة الناشئة والدعوة الإسماعيلية، وكان لا بد من أن يصطدم مع أبي عبد الله الشيعي مؤسس الدولة، ولم يجد غضاضة في التخلص منه بالقتل في سنة (298هـ= 911م) بعد أن أقام له دعائم ملكه، وأنشأ دولة بدهائه وذكائه قبل سيفه وقوته.

أثار مقتل أبي عبد الله الشيعي فتنة كبيرة قام بها أتباعه من أهل كتامة، وقدّموا طفلا ادعوا أنه المهدي المنتظر، وامتدت هذه الدعوة وقويت، واضطر عبيد الله إلى إرسال حملة قوية إلى أرض كتامة بقيادة ابنه لقمع هذه الفتنة، فألحق بهم الهزيمة وقتل الطفل الذي ولّوه باسم المهدي.

بناء المهدية


خاب أمل أهل المغرب في عبيد الله المهدي، وساء ظنهم به بعد أن ذهبت الوعود التي وعدهم بها أبو عبد الله الشيعي سُدى، فلم ينقطع الفساد بخلافة المهدي، ولم يحل العدل والإنصاف محل الظلم والجور، بالإضافة إلى السياسة المالية المتعسفة التي انتهجها الفاطميون في جمع الضرائب، والتفنن في تنويعها حتى فرضوا ضريبة على أداء فريضة الحج.

وزاد الأمر سوءا قيام عبيد الله المهدي ودعاته بسبّ الصحابة على المنابر فيما عدا علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، والتغيير في صيغة الأذان، وهو ما لا يمكن أن يقبله شعب نشأ على السنة، وتعصّب لمذهب الإمام مالك.

وكان من نتيجة ذلك أن اشتعلت عدة ثورات ضد عبيد الله المهدي، ولكنه وإن نجح في إخمادها فإنه أصبح غير مطمئن على نفسه في مجتمع يرفض مذهبه ويقاطع دولته مقاطعة تامة؛ ولذا حرص على أن يبعد عن السكنى في رقادة مركز المقاومة السُنّي، وأسس مدينة جديدة عُرفت باسم "المهدية" في سنة (303هـ= 915م) على طرف الساحل الشرقي لإفريقية (تونس) فوق جزيرة متصلة بالبر، ولم ينتقل إليها إلا في سنة (308هـ= 920م) بعد أن استكمل بناءها وتشييدها، وأقام تحصيناتها ومرافقها المختلفة، وأصبحت المهدية قلعة حصينة للفاطميين بالمغرب ومركزا لعملياتهم الحربية والبحرية، وظلت حتى مطالع العصر الحديث أكبر مركز إسلامي للجهاد في البحر المتوسط.

التفكير في غزو مصر

تطلع المهدي إلى فتح مصر والأندلس؛ لأنه رأى أن المغرب لم تسلس له قيادتها، وتشتعل فيها الثورات من وقت لآخر، كما أنها قليلة الموارد، وبدأ في التأهب لفتح هذين الإقليمين؛ فوجه أولى حملاته إلى مصر بقيادة "حباسة بن يوسف" في سنة (301هـ = 913م) فدخل مدينة "سرت" بالأمان، ثم زحف إلى "أجدابية"، واستولى عليها بالأمان، ثم دخل "برقة".

وفي أثناء إقامته ببرقة التقى بالجيوش العباسية، ودارت بينهما عدة معارك انتهت بهزيمة العباسيين، وزحف حباسة نحو الإسكندرية، وأدركه "أبو القاسم بن عبيد الله المهدي" بجيش كبير فدخلا الإسكندرية معا، بعد أن غادرها أهلها، وواصلا الزحف حتى الفيوم، لكن الحملة اضطرت إلى الرجوع والانسحاب بعد ظهور قوات العباسيين بقيادة "مؤنس الخادم"، ثم تكررت المحاولة سنة (307هـ= 919م) ولكن لم يُكتب لها النجاح، كما أن محاولات المهدي لفتح الأندلس باءت بالفشل.

وقد نبهت هذه المحاولات الخلافة العباسية إلى أن استمرار هذه المحاولات يتطلب وجودا عسكريا قويا في مصر، بعد أن اكتشف القائد مؤنس الخدام الذي تصدّى لهذه المحاولات وجود موالين للفاطميين في مصر؛ فأسند العباسيون إلى "ابن طغج الإخشيد" ولاية مصر، بالإضافة إلى ولايته على الشام؛ حتى يتمكن من مواجهة خطط الفاطميين.

وفاة عبيد الله المهدي

وبعد فترة حكم ناهزت ربع قرن من الزمان توفي المهدي في (15 من ربيع الأول 322 هـ= 5 من مارس 934م) وخلفه ابنه أبو القسام محمد، وكانت فترة عبيد الله المهدي بمثابة عهد التأسيس وإرساء القواعد، بعد عهد التمهيد والإعداد على يد الداعي أبي عبد الله الشيعي.


منقول

عبدالغفور الخطيب
15-04-2006, 03:14 AM
معركة ساحة الدم.. النصر حليف الوحدة

(في ذكرى نشوبها: 16 من ربيع الأول 513هـ)


أسفرت الحملة الصليبية الأولى على المشرق الإسلامي عن قيام أربع إمارات، كانت أسبقهن في الظهور إمارة الرها التي قامت في (ربيع الأول سنة 491هـ= فبراير 1098م)، وتلا ذلك قيام إمارة أنطاكية في (رجب 491هـ= يونيو 1098م)، ثم مملكة بيت المقدس في (شعبان سنة 492هـ= يوليو 1099م)، ثم مملكة طرابلس في (ذي الحجة سنة 502هـ= يوليو 1109م).

وكان هذا النجاح اللافت الذي حققته الحملة الصليبية في سنوات معدودة لا يعود إلى خطة محكمة أو إرادة صلبة أو قيادة حكيمة أو عدد وفير أو عتاد هائل بقدر ما كان راجعا إلى تهاون من المسلمين واستخفافهم بعدوهم، وإلى الانشغال بخلافات وأهواء شخصية ومطامح ضيقة ومطامع صغيرة.

وكان ما كان، وألفى المسلمون أنفسهم ورايات الصليب ترفرف على بيت المقدس ومدن الساحل الشامي وهم لا يحركون ساكنا، وعجزت المحاولات التي قام بها بعض قادة المسلمين عن تحرير الأرض المغتصبة وإعادة الحق إلى أهله، وبقي الأمر كما هو عليه، وهو ما جعل الناس يتحركون للبحث عن مخرج من الأزمة، ولكنه كان حراكا ضعيفا اكتفى بالبكاء والعويل، وهذا هو شر سلاح يلجأ إليه الإنسان المكبل بالأغلال، العاجز عن التغيير، وهذا ما عبر عنه الشاعر الكبير أبو المظفر الأبيوردي وكان معاصرا لتلك النكبة فقال:

وشر سلاح المرء دمع يفيضه
..................... إذ الحرب شبّت نارها بالصوارم

وكيف تنام العين مـلء جفونها
......................... على هفوات أيقظـت كل نـائم

وإخوانكم بالشام أضحى مقيلهم
.......................ظهور المَذَاكِي أو بطون القَشَاعِم

تسومهم الرومُ الهوانَ وأنتمُ
....................... تجرون ذيل الخفض فعل المُسالم

أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى
............................. رماحهم والدين واهي الدعائم

أترضى صناديد الأعاريب بالأذى
.............................. ويغضي على ذل كماة الأعاجم


والمَذَاكِي الإبل، والقَشَاعِم النسور.

سقوط أنطاكية

بعد أن تواترت الأنباء بسير الحملة الصليبية الأولى، وأنها في طريقها إلى الشام وأن أنطاكية هي هدفها، أسرع حاكمها "ياغي سيان" بالاستعداد لساعة الحسم، فأعد مدينته كي تتحمل حصارا طويلا، فملأ قلاعها بالمقاتلين والمجاهدين ومخازنها بالمؤن والطعام، وحفر خندقا لحمايتها وتحصينها، وزيادة في الاحتياط أرسل إلى الخليفة العباسي وحكام دمشق وحمص والموصل يطلب منهم النجدة والمساعدة.

وبدأت طلائع الصليبيين تتوافد على المدينة في (شهر ذي القعدة سنة 490هـ= أكتوبر 1097م) وضربت حصارا حول المدينة، ودارت عدة اشتباكات خفيفة بين ياغي سيان والصليبيين لم تحسم أمرا أو تغير وضعا، وجاءت أول نجدة للمدينة بعد ثلاثة أشهر من "دقّاق" والى دمشق، لكنها عجزت عن تحقيق النصر وفك حصار المدينة، ولم يكن حظ النجدتين الحلبية والموصلية بأفضل حالا من نجدة دمشق، وانتهى الأمر بسقوط المدينة التي صمدت للحصار نحو تسعة أشهر في (1 من رجب 492هـ= 3 من يونيو 1098م).

دخل الصليبيون المدينة وحصلت مذبحة رهيبة راح ضحيتها أعداد كبيرة من الرجال والنساء، وغرس بوهيمند قائد الحملة علمه القرمزي فوق القلعة إيذانا بسقوط المدينة، في الوقت الذي كانت تدوي فيه صيحات جنود الصليبيين "إنها إرادة الله".

أنطاكية إمارة صليبية


وهكذا نتيجة لانقسام المسلمين وتفرق كلمتهم استولى الصليبيون على أنطاكية ليقيم فيها بوهيمند النورماندي ثاني إمارة صليبية في الشرق، ويفتح الطريق للاستيلاء على بيت المقدس وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل.

بدأ الحاكم الجديد يرسي أركان إمارته ويثبت دعائمها على حساب جيرانه المسلمين، وتطلع إلى حلب للسيطرة عليها فأعد خطة لها، لكنها لم تنجح في تحقيق هدفه؛ إذ وقع في الأسر في إحدى حملاته العسكرية سنة (493هـ= 1100م)، وظل في أسره نحو ثلاثة أعوام، وخرج بعدها ليعاود توسعاته على حساب جيرانه المسلمين المشغولين بقتال بعضهم.

ثم طمع في الاستيلاء على "حران" لتأمين إمارته، واستعد لغزوها، لكنه مني بهزيمة مدوية، راح ضحيتها آلاف من جنده، ووقع في الأسر عدد من أمراء الصليبيين، وأفقدته الهزيمة ثقته وطموحه فآثر العودة إلى إيطاليا، وترك إمارة أنطاكية لابن أخته الأمير تنكريد في (سنة 498هـ= 1104م)، وكان رجلا شجاعا وقائدا عسكريا بارعا، استطاع أن يعيد لأنطاكية ما فقدته بعد هزيمتها في حرّان على حساب مدينة حلب.

وصار الأمير تنكريد هو صاحب السلطة في المنطقة الممتدة من جبال طوروس إلى وسط بلاد الشام، وهو ما أزعج حكام الشام المسلمين، وجعلهم يتطلعون إلى إقامة حلف بينهم لمجابهة هذا الخطر الداهم، لكنه لم يفلح في التصدي والوقوف في وجهه، بسبب الفرقة والحرص على المصالح الشخصية التي جعلت بعضهم يدفع الجزية لأمير أنطاكية عن يد وهم صاغرون، وبعضهم الآخر يدخل معه في حلف ضد إخوانه المسلمين.

وبعد وفاة تنكريد في (8 من جمادى الآخرة 506هـ= 12 من ديسمبر 1112م) خلفه في حكم أنطاكية روجردي سالرنو، ولم يكن أقل من سلفه طاقة ومهارة وجرأة، فألحق بالمسلمين هزيمة كبيرة في معركة تل دانيث في (23 من ربيع الآخر سنة 509هـ= 14 من سبتمبر 1115م). وعد هذا النصر أهم انتصار حققه الصليبيون منذ الحملة الصليبية الأولى.

حلب في خطر

وكانت مدينة حلب ذات أهمية بالغة لمن يريد مجابهة الصليبيين وإيقاف خطرهم؛ بسبب موقعها الحيوي، فهي تقع في مركز حصين بين إمارتين صليبيتين هما الرها وأنطاكية، بالإضافة إلى ما تتمتع به من مزايا بشرية واقتصادية وخطوط مواصلات، تسمح بالاتصال بالقوى الإسلامية المنتشرة في الجزيرة والفرات والأناضول وشمالي الشام وأوسطه مما يعد أساسيا لاستمرار حركة الجهاد، ولم تكن كل هذه الأمور خافية على قادة الأمراء الصليبيين الذين كانوا يتابعون أحوالها عن كثب وينتظرون الفرصة للاستيلاء عليها.

وكانت أحوال حلب في هذه الفترة غير مستقرة، وبدأ الضعف يدب فيها بعد وفاة حاكمها "رضوان بن تتش" سنة (507هـ= 1113م) وخلفه في حكمها أبناؤه، وكانوا ضعافا غير قادرين على تسيير شئون البلاد، فتحكم فيهم أوصياؤهم، وصارت حلب سهلة المنال، فتحالف روجر أمير أنطاكية مع كبار مسئوليها كي يمنع إيلغازي صاحب مردين من الاستيلاء عليها وضمها إلى دولته، ووصل الأمر بحلب أن أصبح المسئولون عنها يعتمدون على روجر الصليبي في رد الطامعين في الاستيلاء عليها من أمراء المسلمين.

ولم تأت سنة (511هـ= 1118م) حتى صارت حلب تحت رحمة أنطاكية، وهو ما جعل أهلها يستنجدون بإيلغازي بن أرتق، وكان واحدا من أبرز المجاهدين ضد الوجود الصليبي في بلاد الشام، وقامت سياسته على أساس التحالف مع الأمراء المسلمين ضد الصليبيين.

الوحدة سبيل النجاح

ولما قدم إيلغازي إلى حلب قام بعدة إجراءات إصلاحية وسيطر على أمور البلدة، وصادر أموال الأمراء الذين كانوا قد سيطروا على شئون حلب في الفترة السابقة، واستعان بها في حشد قواته من التركمان لمجابهة الصليبيين.

وقام بتوحيد العمل مع طفتكين حاكم دمشق التي لم تسلم من اعتداءات الصليبيين، فذهب إليه في دمشق، واتفقا على حشد قواتهما والبدء بمهاجمة أنطاكية، وحددا شهر صفر من سنة (513هـ= 1119م) موعدا للاجتماع.

غير أن إيلغازي كانت حركته أسرع من حركة حليفه، فاستطاع أن يحشد أكثر من عشرين ألفا من مقاتلي التركمان، واتجه بهم إلى الرها، فتخوف أمراؤها الصليبيون، وأرسلوا إليه يطلبون مصالحته نظير تنازلهم عن أسرى المسلمين الذين في حوزتهم، فأجابهم إلى ذلك، واشترط عليهم البقاء في بلدهم وعدم التوجه لمساعدة أمير أنطاكية في حالة حدوث قتال معه، وكانت هذه خطوة صائبة من إيلغازي تمكن بموجبها من عزل إحدى القوى الصليبية الكبيرة.

ثم عبر إيلغازي وحلفاؤه الفرات وهاجموا "تل باشر" و"تل خالد" والمناطق المحيطة بهما، وانتشرت قوات إيلغازي في مناطق وجود الصليبيين، واستولى على حصن قسطون، ثم مدينة "قنسرين" التي اتخذها قاعدة لشن الغارات على "حارم" وجبل "السماق".

اللقاء الحاسم

ولما شعر "روجر" أمير أنطاكية بالخطر الذي يتهدده اضطر إلى طلب النجدة من "بونز" أمير طرابلس ومن بلدوين الثاني ملك بيت المقدس، وعسكر خارج أنطاكية في انتظار المدد من رفاقه الصليبيين، لكنه لم يصبر لحين وصول النجدة، وتقدم صوب القوات الإسلامية على رأس ثلاثة آلاف فارس، وتسعة آلاف راجل، وعسكر في "تل عفرين" وهو موضع ظن روجر أنه مانعهم من هجمات المسلمين حتى تأتيهم الإمدادات.

وفي الوقت نفسه كانت عيون إيلغازي تأتي إليه بأخبار روجر وجيشه، وكانت جماعة من جواسيسه قد تزيت بزي التجار، ودخلت معسكر الصليبيين لمعرفة استعداداته، وأراد إيلغازي أن ينتظر حليفه طفتكين القادم من دمشق قبل الدخول في المعركة، لكن أمراءه رفضوا وحثوه على قتال العدو، فأسرع بالسير إلى ملاقاة أعدائه، الذين فوجئوا بقوات المسلمين تحيط بهم في فجر السبت الموافق (16 من ربيع الأول 513هـ= 28 من يونيو 1119م)، ودارت معركة هائلة لم تثبت في أثنائها قوات الصليبيين وتراجعت أمام الهجوم الكاسح، وسقط آلاف القتلى من هول القتال، وكان من بينهم روجر نفسه.

ولكثرة القتلى اشتهرت هذه المعركة لدى مؤرخي الصليبيين باسم معركة ساحة الدم، وفضلا عن القتلى فقد وقع في أيدي المسلمين من السبي والغنائم والدواب ما لا يحصى.

وبعد المعركة نزل إيلغازي في خيمة روجر وحمل إليه المسلمون ما غنموه فلم يأخذ منهم إلا سلاحا يهديه لملوك الإسلام، ورد عليهم ما حملوه بأسره، وكتب إلى سائر أمراء المسلمين يبشرهم بهذا النصر العظيم.

واكتفى إيلغازي بهذا النصر، ولو توجه إلى أنطاكية لما استعصى عليه فتحها لأنها كانت خالية من الجند، ولاحتل مكانة أرسخ وأكثر شهرة في الحروب الصليبية، ولكن قدر لهذه المدينة أن تبقى بعد ذلك حوالي قرنين من الزمان حتى فتحها السلطان الظاهر بيبرس.


منقول

عبدالغفور الخطيب
16-04-2006, 01:25 AM
شكري القوتلي.. والحياة في ظلال المشنقة

(في ذكرى مولده: 17 ربيع الأول 1309هـ)

يُعد شكري القوتلي واحدًّا من أبرز دعاة الوحدة العربية في العصر الحديث، وأحد أبطال التحرر في العالم العربي، وقادة حركة المقاومة ضد الاستعمار البغيض، الذي جثم على صدر الأمة العربية دهرًا طويلاً، وعاق بقيوده العالم العربي عن مواكبة ركب التقدم والرقي.

وظل شكري القوتلي رمزًا للمقاومة والصمود ضد المستعمر، ولم تجدِ معه كل محاولات التهديد والابتزاز، ولم يوهن السجن من عزيمته، ولم ترهبه ظلال المشنقة التي لاحت أمام ناظريه ثلاث مرات في حياته المليئة بالنضال والكفاح، حتى تحقق حلمه الكبير، ونالت سوريا استقلالها، وأصبح القوتلي أول زعيم وطني تولى رئاسة الجمهورية السورية.

مولد القوتلي ونشأته

وُلد شكري محمود القوتلي في [17 من إبريل الأول 1309 هـ= 21 من أكتوبر 1891م]، ونشأ في بيت عريق عرف بالصلاح والتقوى والاستقامة، وكانت أسرته قد نزحت – منذ نحو ستة قرون قبل ميلاده- من بغداد إلى دمشق، وحظيت بمكانة بارزة في المجتمع العربي، ونالت تقدير واحترام الملوك والحكام، ليس في سوريا فحسب، وإنما في الوطن العربي كله، حتى إن الخديوي إسماعيل حينما دعا حكام الدول والرؤساء والشخصيات الكبيرة لحضور الاحتفال بافتتاح قناة السويس -سنة [1286 هـ= 1869م]- كان محمد سعيد القوتلي -شقيق جد شكري القوتلي- في طليعة المدعوين من الشخصيات العربية البارزة.

ونشأ القوتلي -منذ صغره- محبًا للغة العربية، وبعد أن حصل على الشهادة الابتدائية التحق بثانوية عنبر في (دمشق)؛ حيث أتمَّ دراسته الثانوية فيها، ثم اشترك في مسابقة للكلية الشاهانية في إستانبول –وهي أرقي مدرسة للعلوم السياسية والإدارية في الدولة العثمانية - فكان ترتيبه الخامس بين (350 ) طالبًا من الناجحين، فالتحق بالكلية الشاهانية سنة [ 1326هـ= 1908م].

من الجامعة إلى المشنقة

وفي أثناء فترة دراسته بالكلية كان النشاط العربي قد بدأ على نطاق واسع، وتأسس المنتدى الأدبي الذي ضم نخبة من الشباب العربي الوطني المتحمس، وكان منهم شكري القوتلي الذي استطاع هو وإخوانه أن يوطدوا أقدام المنتدى.

وبعد أن أتم دراسته بها عاد القوتلي إلى دمشق سنة [ 1332هـ= 1913م]، كما اشترك أيضًا في جمعية "العربية الفتاة" التي انتشرت انتشارًا واسعًا، وكانت تعمل على نشر الفكرة العربية، وتدافع عن مصالح العرب وحقوقهم.

وقد أدى نشاط القوتلي وبعض زملائه من أعضاء الجمعية إلى القبض عليهم وإيداعهم في السجن، ولكنهم ما لبثوا أن أطلقوا سراحه بغية مراقبته حتى يصلوا إلى أماكن بقية رفاقه، وفطن القوتلي إلى ذلك، فأخذ الحذر، ولم يتصل بأحد منهم، وعندما يئسوا من نجاح خطتهم اعتقلوه ثانية، وأودعوه سجن "خالد الباشا" بدمشق، ومورس معه ومع زملائه أشد ألوان التعذيب والتنكيل، فكان بعضهم يذكر أسماء أعضاء الجماعة تحت وطأة التعذيب.

وخشي القوتلي أن يضطر إلى ذكر أسماء الأعضاء الذين يعلمهم جميعًا، ولم يجد أمامه إلا الانتحار، واستطاع الحصول على موسى فقطع به شريانه، إلا أن حارسه انتبه بعد أن رأى الدم يسيل بغزارة من شريانه المقطوع، وأسرع رفيقه في السجن الدكتور "أحمد قدري" فأنقذه من الموت في آخر لحظة، وتم نقله إلى المستشفى؛ حيث مكث به شهرًا للعلاج، ثم أعيد إلى السجن، وقُدِّم إلى المحاكمة أمام المجلس الحربي فحكم عليه بالإعدام.

من الثورة إلى المشنقة مرة أخرى


وعندما قام الملك حسين بالثورة العربية على الأتراك سنة (1335هـ= 1916م) قام قادة الثورة باحتجاز عدد من الضباط والجنود الأتراك، وهددوا بإعدامهم إذا لم يطلق سراح العرب المعتقلين، وكان منهم القوتلي ورفاقه.

وأنشأ القوتلي حزب "الاستقلال"، فكان أول حزب في العهد الجديد حمل على عاتقه مسئولية توعية الشعب وتهيئته للنضال ضد المستعمر الفرنسي الذي احتل سوريا عام [1339هـ= 1920م] بعد خروج الأتراك منها، وحاول القوتلي ورفاقه منع الفرنسيين من دخول سوريا بعد أن وصلوا إلى مشارق مدينة ميسلون، ولكنهم لم يتمكنوا من صدهم، فقد كانت المعركة غير متكافئة بين الجانبين، ودخل الفرنسيون سوريا وسيطروا عليها.

ولم ييئس القوتلي فقد ظل في طليعة الأحرار الذين هبّوا يدافعون عن وطنهم، وهو ما أثار المستعمرين فاعتقوا عددًا من رفاقه، وحكموا عليه سنة [1339هـ= 1920م] وصادروا أملاكه، فاضطر القوتلي ورفاقه إلى النزوح إلى مصر والأقطار العربية الأخرى وإلى عدد من دول أوروبا يستنفرونها ويستنصرون بها على المستعمر الفرنسي، وهو ما اضطر الفرنسيين إلى مصانعتهم وملاينتهم، فأصدروا عفوًا عن السجناء السياسيين، وأعلنوا استعداهم للتفاوض مع القوتلي ورفاقه.

الإعدام من جديد!

وعاد القوتلي وعدد من رفاقه المبعدين إلى سوريا سنة [1343 هـ= 1924م]، وحاول الفرنسيون إقناع الوطنين بالتفاوض معهم، ولكن القوتلي كان يعلن دائمًا أنه لا تفاوض قبل الجلاء.

وهبَّ الشعب السوري كله في ثورة عارمة ضد المستعمر الفرنسي، وكان القوتلي أحد قادتها ومؤججي جذوتها، لكن الفرنسيين واجهوا تلك الثورة بالبطش والعنف، واستقدموا جيشًا كبيرًا لإخمادها والقضاء على قادتها، حتى تمكّنوا من إخماد تلك الثورة، وحُكم على القوتلي بالإعدام مرة أخرى سنة [1344 هـ= 1925م]، فترك دمشق، وراح يتنقل بين القاهرة والقدس والرياض، يحرك المشاعر والنفوس ضد الفرنسيين، ويكشف جرائمهم ويندد بفظائعهم.

وشارك القوتلي في المؤتمر العربي القومي الذي عقده عدد من أحرار العرب في القدس سنة [1350 هـ= 1931م] ليقرروا الميثاق التاريخي الذي ينبغي للعرب السير عليه خلال المرحلة المقبلة.

وعندما شكّل "جميل مردم" أول وزارة في عهد الاستقلال جعل شكري القوتلي وزيرًا للمالية والدفاع، فاستطاع أن يحقق وفرًا كبيرًا في موازنة الدولة، كما أسس وزارة الدفاع، وهو ما أثار عليه حنق الفرنسيين من جديد.

القوتلي وحلم الوفاق العربي

وفي عام [ 1356هـ= 1937م] ذهب القوتلي لأداء فريضة الحج، فعقد مع الملك "عبد العزيز بن سعود" اتفاقًا لتسيير خط السكك الحديدية من الحجاز إلى دمشق إلى المدينة.

وبدأ الفرنسيون يضيقون بسياسة القوتلي تجاه لمِّ الشمل العربي والتعاون بين الحكومات العربية، وميله العلني إلى الوحدة العربية.

وراح القوتلي ينادي بالاستقلال، بجلاء فرنسا عن سوريا، وسافر إلى أوروبا ليشرح قضية بلاده ويستجلب لها المؤيدين، حتى أصبح محطَّ إعجاب الجماهير وثقتهم، وصار الإجماع على زعامته منقطع النظير، فكلمة واحدة منه تثير ثائرة الناس، وكلمة تهدئهم، وهو ما جعل الفرنسيين يخشون الإقدام على أي إجراء تعسفي ضده، فعمدوا إلى اللين والمناورة، وشعر القوتلي بذلك فأغلق باب التفاوض معهم.

ولجأ الفرنسيون إلى تعيين حكومة جديدة، واختير "خالد العظم" رئيسًا لها، وأدرك القوتلي أن وراء ذلك خطة مدبرة لإسكات الشعب حتى تنتهي الحرب العالمية الثانية، فتفرض سياستها، ووجودها بالحديد والنار.

وسافر القوتلي إلى كل من السعودية "والعراق" يستحث حكومتهما للاحتجاج على سياسة فرنسا ضد السوريين ومساعدة سوريا لنيل حريتها واستقلالها، وسعى في الوقت نفسه للوساطة بين الدولتين لإنهاء الخلافات الحدودية بينهما، حتى تمكن ـ بعد جهد متواصل ـ من إحلال الوئام والوفاق بينهما.

القوتلي رئيسا لسوريا

وفي [15 من شعبان 1362 هـ= 17 من أغسطس 1943م] انتخب شكري القوتلي رئيسًا للجمهورية بالإجماع، وانتقلت سوريا إلى مرحلة جديدة نحو الحرية والاستقلال.

وتوالت الاعترافات الدولية باستقلال سوريا من جميع دول العالم عدا فرنسا التي لم تعترف إلا بعد مُضي أكثر من ثلاث سنوات.

واجتمع الرئيس القوتلي بالمستر تشرشل -وزير خارجية بريطانيا- في [ربيع الأول 1364هـ= فبراير 1945م]، ودار البحث طويلاً حول ضرورة التفاهم مع فرنسا، لكن القوتلي أبى أن يعترف لفرنسا بأي حق في سوريا، وأعلن عن استعداده لقيادة الثورة بنفسه إذا رفضت فرنسا الانسحاب من سوريا.

وعندما عقد مؤتمر الأقطاب ـ الذي حضره روزفلت وستالين وتشرشل ـ لإقرار ميثاق الأمم المتحدة في [28 من صفر 1364 =11 من فبراير 1945م] لدعوة الدول للانضمام إلى هيئة الأمم، وجّهت الولايات المتحدة الدعوة إلى الدول لحضور الاجتماع، وأغفلت سوريا ولبنان بإيعاز من فرنسا، ولكن القوتلي بذل جهودًا كبيرة مع ممثلي الدول العربية والأجنبية، حتى تم توجيه الدعوة إلى سوريا ولبنان لحضور المؤتمر، وانضما رسميا إلى عضوية هيئة الأمم المتحدة، وتمَّ الاعتراف بهما دوليًا.

في سبيل الوحدة العربية

كذلك كان للقوتلي دور بارز في تأسيس جامعة الدول العربية منذ أن بدأت المشاورات الخاصة لتكوين الجامعة في الإسكندرية في [17 من شوال 1362 هـ= 16 من أكتوبر 1943م] وحتى عقد ميثاقها في [20 من شوال 1363 هـ= 7 من أكتوبر 1944م] ثم موافقة الدول العربية عليه في [8 من ربيع آخر سنة 1364 هـ= 22 من مارس 1945م].

وكان موقف القوتلي دائمًا مستمدًا من إيمانه العميق بضرورة الوحدة العربية، وهو ما عبّر عنه بقوله: إن البلاد السورية تأبى أن يرتفع في سمائها لواء يعلو على لوائها إلا لواء واحد، وهو لواء الوحدة العربية.

وأكد أيضًا رئيس الوفد السوري "سعد الله الجابري" حينما أعلن أن سوريا مستعدة للتخلي عن كيانها واستقلالها في سبيل الوحدة العربية.

وكان القوتلي يستنفر الهمم لنصرة فلسطين وذلك عندما بدأت المؤامرات الأمريكية البريطانية لإقامة إسرائيل، وتحقيق حلم الصهيونية العالمية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

القوتلي أسطورة البطولة والوفاء

سعى القوتلي لتحقيق استقلال سوريا وجلاء الفرنسيين عنها، لكن فرنسا كانت حريصة على بقاء جيوشها في سوريا وجعلها مستعمرة لفرنسا، وأقدمت فرنسا على تصعيد خطير وعدوان سافر، فأنزلت جيوشها استعدادًا لمواجهة شاملة مع الشعب السوري، وشنت حربًا وحشية مدمرة راح ضحيتها عدد كبير من الأطفال والشيوخ والنساء، واستخدمت فيها كل أساليب الوحشية، ولكن الشعب السوري الأعزل استبسل في المقاومة، واستهان بالمخاطر والموت في سبيل عقيدته وحريته.

وبالرغم من مرض القوتلي فإنه لم يعبأ بمرضه، وانطلق يُلهب حماس شعبه، ويحثه على الصمود والمقاومة ضد الاستعمار، وهو على فراش المرض، حتى استطاع الشعب السوري أن يجبر الفرنسيين على الفرار بعد أن ألحق بهم هزيمة منكرة وفوجئت بريطانيا بما حدث، وهالها أن ينتصر الشعب السوري على حليفتها، فزحف الجيش البريطاني بمصفحاته الضخمة على سوريا، وأصبحت سوريا تحارب بمفردها أعتى قوتين استعماريتين.

واتجهت سوريا إلى مجلس الأمن تطالب بانسحاب الجيوش البريطانية والفرنسية عن أراضيها، ولم تتوان في طلبها ذلك حتى تم جلاء الجيوش الأجنبية عن سوريا في [15 من جماد الأول 1365 هـ= 17 من إبريل 1946م]، وصار هذا اليوم –يوم الجلاء- عيدًا قوميًا لسوريا وزعيمها.

إلى الرئاسة من جديد

واتجه القوتلي إلى الإصلاح الداخلي في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعمرانية.

وفي [29 من جمادى الأولى 1368 هـ= 29 من مارس 1949م] فوجئ السوريون بأنباء الانقلاب الذي قام به رئيس الأركان "حسني الزعيم"، واُعتقل على إثره القوتلي ووزراؤه في السجن "المنزه"، وانهالت برقيات الاحتجاج على اعتقال القوتلي من كل مكان، ولكن القوتلي قرر أن يستقيل، فأُطلق سراحه بعد شهر من سجنه، وفُرضت عليه إقامة جبرية في بيته، حتى سافر إلى مصر.

وارتفعت الأصوات في "سوريا" تطالب بعودة القوتلي وذهب إليه وفد كبير ضم عددًا من الشخصيات السياسية في سوريا يرجونه العودة إلى وطنه.

وعاد القوتلي إلى سوريا، وطلب منه أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية، لكنه اعتذر للشعب، وقال: إنه لا يرغب في الرئاسة، ولكن النواب تمسكوا بترشيحه، وتم اقتراع سري على منصب رئيس الجمهورية في مجلس النواب فاز فيه القوتلي بنحو ثلثي الأصوات.

وعاد القوتلي ليتسلم صلاحيات رئيس الجمهورية مرة أخرى في [صفر 1375 هـ= سبتمبر 1955م]، وكان حلم الوحدة العربية لا يزال يداعب خياله ويراود عقله، حتى تحقق ذلك أخيرًا حينما أُعلن عن قيام الوحدة بين (مصر وسوريا) ومولد "الجمهورية العربية المتحدة" وتنازل القوتلي للرئيس جمال عبد الناصر عن الرئاسة، واستقبلت جماهير الشعبين في مصر وسوريا نبأ الوحدة بالفرحة الغامرة والترحاب الشديد، ولكن هذه الوحدة لم تستمر كثيرًا فقد انفصلت الدولتان في [ربيع الآخر 1381 هـ= سبتمبر 1961م].

وكان لفشل التجربة الوحدة أسوأ الأثر في حياة القوتلي فقد بدأت صحته تعتل، وأصيب بالقرحة، واستقر في بيروت حيث كان يعالج بها، فعاش فيها حتى تُوفي عام [1387 هـ= 1967م] ودُفن في دمشق تلك المدينة التي أحبها وعاش يناضل من أجلها.


منقول

عبدالغفور الخطيب
17-04-2006, 01:44 AM
المعتصم بالله وملحمة عمُّوريّة

(في ذكرى وفاته: 18 ربيع الأول 227هـ)


آلت دولة الخلافة العباسية إلى المعتصم بالله بعد أن استقرت أحوالها، وامتدت أطرافها، وانتعشت الحياة الاقتصادية بها، وازدهرت الزراعة، فنمت غلتها، ورخصت أسعارها، وتقدمت الصناعة، واستُخرجت الثروات المعدنية من باطن الأرض، وانتعشت التجارة على نحو لم تعرفه الدولة الإسلامية من قبل بسبب الطرق الآمنة، وسهولة الانتقال من شرق البلاد إلى غربها دون عوائق تذكر.

وكان من أثر تلك النهضة الاقتصادية أن نمت موارد الخلافة، وزادت إيرادات بيت المال؛ الأمر الذي جعل الدولة تعمل على تحسين المرافق العامة وتيسير الحياة على الناس، وتأمين حدود الدولة المترامية، وتشجيع العلم ومكافأة أهله والعناية بالترجمة، وبناء المؤسسات العلمية، وإنشاء المكتبات.

ولاية المعتصم بالله

مرض الخليفة المأمون في طرسوس، ولم يكن قد عقد لأحد بعده بولاية العهد، فاستدعى أخاه المعتصم وعهد إليه بالخلافة من بعده، دون ابنه العباس الذي كان موجودا معه في طرسوس للقيام بغزو الدولة البيزنطية، ورد هجماتها، لكن مرضه حال دون إتمام ذلك.

ولعل الذي جعل المأمون يؤثر أخاه بالحكم دون ابنه أن الخلافة العباسية كانت تتهددها الأخطار من الداخل والخارج في ثورة بابك الخرمي في فارس، وهجمات البيزنطيين، وكان المعتصم بطلا شجاعا متمرسا بالحرب خبيرا بشئونها، فآثر المأمون المصلحة العليا للخلافة بتولية من يصلح لهذه الفترة، وتمت البيعة بعد وفاته في (19 من رجب 218هـ= 10 من أغسطس 833م).

وكان المعتصم يتميز بقوته الجسدية وشدته في الحرب، حتى قيل عنه إنه كان يصارع الأسود ويحمل ألف رطل، ويمشي بها خطوات، غير أنه لم يكن معنيًا بالعلوم والآداب كأخويه الأمين والمأمون.

وبالغ بعض المؤرخين فذكر أنه كان أميًا لا يكتب، أو أنه كان ضعيف الكتابة على قول ابن خلّكان، وابن كثير، لكن ذلك لم يكن له أدنى تأثير في الحركة الفكرية والعلمية التي عمّت الخلافة فقد كانت البلاد مدفوعة بطاقة عارمة نحو الرقي والتقدم.

القضاء على الفتن والثورات

كانت وصية المأمون لأخيه المعتصم أن يقضي على فتنة بابك الخرمي، وكان زعيم طائفة ضالة، يعتقد أصحابها بالحلول والتناسخ، ويدعون إلى الإباحية الجنسية، وبدأت تلك الفتنة في أذربيجان ثم اتسع نطاقها إلى همدان وأصبهان وبلاد الأكراد، وجرجان، وأصبحت خطرا يحدق بالدولة العباسية، ووجدت عونًا ومساندة من الروم.

وحاول المأمون أن يقضي على تلك الفتنة التي اشتعل أوارها، وأرسل إليها الحملات العسكرية، لكنها لم تستطع القضاء على تلك الفتنة، وتوفي المأمون دون أن يتحقق أمله، وحمل المعتصم مهمة القضاء على هذه الحركة، فنجح في ذلك على الرغم من مهارة بابك الخرمي العسكرية، وقدرته على وضع الخطط العسكرية، مستغلا معرفته بطبيعة الإقليم الذي يتحصن فيه، من جبال ومضايق ووديان.

وامتدت الحرب أربع سنوات، حتى تمكن "الأفشين" أبرع قادة المعتصم من إخماد الفتنة، والقبض على بابك الخرمي في (10 من شوال 222هـ= 16 من سبتمبر 837م)، وكانت هذه الفتنة من أعظم الفتن التي تعرضت لها الدولة العباسية، شغلت الخلافة أكثر من عشرين سنة، وقُتل من أجل القضاء عليها آلاف المسلمين، قدّرهم الطبري المؤرخ بنحو مائتين وخمسين ألف مسلم، وأنفقت الدولة العباسية من أجلها ملايين الدراهم والدنانير.

ولم يكد المعتصم يستريح من فتنة بابك الخرمي حتى شبّت فتنة أخرى في إقليم طبرستان، حيث قام وليها "المازيار" بشق عصا الطاعة، ومحاولة الاستقلال بالإقليم بعيدا عن سلطة الدولة العباسية، ولم تفلح المحاولات التي بذلها المعتصم لحل المشكلة سلمًا مع المازيار الذي تمادى في غيه، فلجأ المعتصم إلى السيف، حتى تمكن من القضاء عليه في سنة (224هـ= 839م).

بناء سامرّاء


لم يكن قد انقضى على بناء بغداد قرن واحد حتى عرضت للمعتصم فكرة بناء عاصمة جديدة، بعدما ضاقت بغداد بجنده الأتراك الذين أكثر من استخدامهم في الجيش، ولم تسلم العاصمة من مضايقاتهم، حتى أكثر الناس الشكوى من سلوكهم.

واختار المعتصم لعاصمته الجديدة مكانا يبعد 130 كم رأسا من شمال بغداد، شرقي نهر دجلة، وشرع في تخطيط عاصمته سنة (221هـ= 836م) وبعث إليها بالمهندسين والبنّاءين وأهل المهن من الحدادين والنجارين وغيرهم، وحمل إليها الأخشاب والرخام وكل ما يحتاج إليه البناء.

وعُني الخليفة بتخطيط المدينة وتقسيمها باعتبارها مركزا حضاريا ومعسكرا لجيشه، ففصل الجيش ودواوين الدولة عن السكان، واهتم بفصل فرق الجيش بعضها عن بعض، وامتدت المدينة على ضفة دجلة الغربية نحو 19 كم، وكان تخطيط المدينة رائعا، يتجلى في شق عدة شوارع متوازية على طول النهر، يتصل بعضها ببعض عن طريق دروب عدة، وكان أهم شوارع المدينة بعد شارع "الخليج" الذي على دجلة "الشارع الأعظم"، وكان يمتد في عهد المعتصم 19 كم من الجنوب إلى الشمال بعرض مائة متر تقريبا.

وعُنِي المعتصم بزراعة القسم الغربي من دجلة تجاه المدينة، وشجع قادته على المساهمة في الزراعة، وحرص أن تكون عاصمته الجديدة مجمعا للصناعات المعروفة في عهده، واهتم ببناء الأسواق، وجعل كل تجارة منفردة مثلما هو الحال في أسواق بغداد، وجعل شارع الخليج الذي على دجلة رصيفًا ومرسى لسفن التجارة.

وكانت المدينة الجديدة جميلة بقصورها الضخمة ومبانيها الرائعة وشوارعها المتسعة، ومسجدها الجامع وغيره من المساجد، فدعيت بـ"سُرّ مَن رأى"، وزاد إقبال الناس على السكنى بها.

وتكشف الآثار الباقية من سامراء عن مدى التقدم العمراني والحضاري الذي كانت عليه الخلافة العباسية في القرن الثالث الهجري.

وامعتصماه.. فتحت عمورية

استغل الروم انشغال الخليفة المعتصم في القضاء على فتنة بابك الخرمي، وجهزوا جيشا ضخما قاده ملك الروم، بلغ أكثر من مائة ألف جندي، هاجم شمال الشام والجزيرة، ودخل مدينة "زِبَطْرة" التي تقع على الثغور، وكانت تخرج منها الغزوات ضد الروم، وقتل الجيش الرومي من بداخل حصون المدينة من الرجال، وانتقل إلى "ملطية" المجاورة فأغار عليها، وعلى كثير من الحصون، ومثّل بمن صار في يده من المسلمين، وسَمَلَ أعينهم، وقطع آذانهم وأنوفهم، وسبى من المسلمات فيما قيل أكثر من ألف امرأة.

وصلت هذه الأبناء المروعة إلى أسماع الخليفة، وحكى الهاربون الفظائع التي ارتكبها الروم مع السكان العزل؛ فتحرك على الفور، وأمر بعمامة الغزاة فاعتم بها ونادى لساعته بالنفير والاستعداد للحرب.

ويذكر بعض الرواة أن امرأة ممن وقعت في أسر الروم قالت: وامعتصماه، فنُقل إليه ذلك الحديث، وفي يده قَدَح يريد أن يشرب ما فيه، فوضعه، ونادى بالاستعداد للحرب.

وهذا ما عناه أبو تمام في قوله مادحا للخليفة بعدما حقق نصر:

لبيّت صوتًا زِبَطريًا هَرَقْتَ لَهُ
.................كَأْسَ الْكَرَى وَرُضَابَ الْخُرّدِ الْعُرُبِ


وخرج المعتصم على رأس جيش كبير، وجهّزه بما لم يعدّه أحد من قبله من السلاح والمؤن وآلات الحرب والحصار، حتى وصل إلى منطقة الثغور، ودمّرت جيوشه مدينة أنقرة ثم اتجهت إلى عمورية في (جمادى الأولى 223هـ= أبريل 838م) وضربت حصارا على المدينة المنيعة دام نصف عام تقريبا، ذاقت خلاله الأهوال حتى استسلمت المدينة، ودخلها المسلمون في (17 من رمضان سنة 223هـ= 13 من أغسطس 838م) بعد أن قُتل من أهلها ثلاثون ألفا، وغنم المسلمون غنائم عظيمة، وأمر الخليفة المعتصم بهدم أسوار المدينة المنيعة وأبوابها وكان لهذا الانتصار الكبير صداه في بلاد المسلمين، وخصّه كبار الشعراء بقصائد المدح، ويأتي في مقدمة ذلك، بائية أبي تمام الخالدة التي منها قوله:

فتْحٌ الفتوح تعالى أن يحيط به
.............. نظمٌ من الشعراء أو نثرٌ من الخُطَبِ

فتْحٌ تفتّح أبواب السماء له
................وتبرز الأرض في أثوابها القُشُب

يا يومَ وقعةِ عمّوريّة انصرفت
................. منك المُنى حُفّلاً معسولة الحَلَب

أبقيت جد بني الإسلام في صَعَد
...........والمشركين ودار الشرك في صَبَب


وفاة المعتصم

ظل المعتصم يواصل فتوحاته وغزواته، ففُتحت بعض مدن صقلية، وغزت جنوده "قِلّورية" وتقع في جنوب إيطاليا، وتسمى الآن "كاليريا"، وكذلك جزيرة "مالطة" ولم تكن غُزيت من قبل.

وفي يوم الخميس الموافق (18 من ربيع الأول 227هـ= 5 من يناير 842م) وافاه الأجل المحتوم، بعد أن أصبح اسمه نموذجاه دائما للمروءة والدفاع عن الدين والوطن.


منقول

عبدالغفور الخطيب
17-04-2006, 02:20 AM
المعتصم بالله وملحمة عمُّوريّة

(في ذكرى وفاته: 18 ربيع الأول 227هـ)


آلت دولة الخلافة العباسية إلى المعتصم بالله بعد أن استقرت أحوالها، وامتدت أطرافها، وانتعشت الحياة الاقتصادية بها، وازدهرت الزراعة، فنمت غلتها، ورخصت أسعارها، وتقدمت الصناعة، واستُخرجت الثروات المعدنية من باطن الأرض، وانتعشت التجارة على نحو لم تعرفه الدولة الإسلامية من قبل بسبب الطرق الآمنة، وسهولة الانتقال من شرق البلاد إلى غربها دون عوائق تذكر.

وكان من أثر تلك النهضة الاقتصادية أن نمت موارد الخلافة، وزادت إيرادات بيت المال؛ الأمر الذي جعل الدولة تعمل على تحسين المرافق العامة وتيسير الحياة على الناس، وتأمين حدود الدولة المترامية، وتشجيع العلم ومكافأة أهله والعناية بالترجمة، وبناء المؤسسات العلمية، وإنشاء المكتبات.

ولاية المعتصم بالله

مرض الخليفة المأمون في طرسوس، ولم يكن قد عقد لأحد بعده بولاية العهد، فاستدعى أخاه المعتصم وعهد إليه بالخلافة من بعده، دون ابنه العباس الذي كان موجودا معه في طرسوس للقيام بغزو الدولة البيزنطية، ورد هجماتها، لكن مرضه حال دون إتمام ذلك.

ولعل الذي جعل المأمون يؤثر أخاه بالحكم دون ابنه أن الخلافة العباسية كانت تتهددها الأخطار من الداخل والخارج في ثورة بابك الخرمي في فارس، وهجمات البيزنطيين، وكان المعتصم بطلا شجاعا متمرسا بالحرب خبيرا بشئونها، فآثر المأمون المصلحة العليا للخلافة بتولية من يصلح لهذه الفترة، وتمت البيعة بعد وفاته في (19 من رجب 218هـ= 10 من أغسطس 833م).

وكان المعتصم يتميز بقوته الجسدية وشدته في الحرب، حتى قيل عنه إنه كان يصارع الأسود ويحمل ألف رطل، ويمشي بها خطوات، غير أنه لم يكن معنيًا بالعلوم والآداب كأخويه الأمين والمأمون.

وبالغ بعض المؤرخين فذكر أنه كان أميًا لا يكتب، أو أنه كان ضعيف الكتابة على قول ابن خلّكان، وابن كثير، لكن ذلك لم يكن له أدنى تأثير في الحركة الفكرية والعلمية التي عمّت الخلافة فقد كانت البلاد مدفوعة بطاقة عارمة نحو الرقي والتقدم.

القضاء على الفتن والثورات

كانت وصية المأمون لأخيه المعتصم أن يقضي على فتنة بابك الخرمي، وكان زعيم طائفة ضالة، يعتقد أصحابها بالحلول والتناسخ، ويدعون إلى الإباحية الجنسية، وبدأت تلك الفتنة في أذربيجان ثم اتسع نطاقها إلى همدان وأصبهان وبلاد الأكراد، وجرجان، وأصبحت خطرا يحدق بالدولة العباسية، ووجدت عونًا ومساندة من الروم.

وحاول المأمون أن يقضي على تلك الفتنة التي اشتعل أوارها، وأرسل إليها الحملات العسكرية، لكنها لم تستطع القضاء على تلك الفتنة، وتوفي المأمون دون أن يتحقق أمله، وحمل المعتصم مهمة القضاء على هذه الحركة، فنجح في ذلك على الرغم من مهارة بابك الخرمي العسكرية، وقدرته على وضع الخطط العسكرية، مستغلا معرفته بطبيعة الإقليم الذي يتحصن فيه، من جبال ومضايق ووديان.

وامتدت الحرب أربع سنوات، حتى تمكن "الأفشين" أبرع قادة المعتصم من إخماد الفتنة، والقبض على بابك الخرمي في (10 من شوال 222هـ= 16 من سبتمبر 837م)، وكانت هذه الفتنة من أعظم الفتن التي تعرضت لها الدولة العباسية، شغلت الخلافة أكثر من عشرين سنة، وقُتل من أجل القضاء عليها آلاف المسلمين، قدّرهم الطبري المؤرخ بنحو مائتين وخمسين ألف مسلم، وأنفقت الدولة العباسية من أجلها ملايين الدراهم والدنانير.

ولم يكد المعتصم يستريح من فتنة بابك الخرمي حتى شبّت فتنة أخرى في إقليم طبرستان، حيث قام وليها "المازيار" بشق عصا الطاعة، ومحاولة الاستقلال بالإقليم بعيدا عن سلطة الدولة العباسية، ولم تفلح المحاولات التي بذلها المعتصم لحل المشكلة سلمًا مع المازيار الذي تمادى في غيه، فلجأ المعتصم إلى السيف، حتى تمكن من القضاء عليه في سنة (224هـ= 839م).

بناء سامرّاء


لم يكن قد انقضى على بناء بغداد قرن واحد حتى عرضت للمعتصم فكرة بناء عاصمة جديدة، بعدما ضاقت بغداد بجنده الأتراك الذين أكثر من استخدامهم في الجيش، ولم تسلم العاصمة من مضايقاتهم، حتى أكثر الناس الشكوى من سلوكهم.

واختار المعتصم لعاصمته الجديدة مكانا يبعد 130 كم رأسا من شمال بغداد، شرقي نهر دجلة، وشرع في تخطيط عاصمته سنة (221هـ= 836م) وبعث إليها بالمهندسين والبنّاءين وأهل المهن من الحدادين والنجارين وغيرهم، وحمل إليها الأخشاب والرخام وكل ما يحتاج إليه البناء.

وعُني الخليفة بتخطيط المدينة وتقسيمها باعتبارها مركزا حضاريا ومعسكرا لجيشه، ففصل الجيش ودواوين الدولة عن السكان، واهتم بفصل فرق الجيش بعضها عن بعض، وامتدت المدينة على ضفة دجلة الغربية نحو 19 كم، وكان تخطيط المدينة رائعا، يتجلى في شق عدة شوارع متوازية على طول النهر، يتصل بعضها ببعض عن طريق دروب عدة، وكان أهم شوارع المدينة بعد شارع "الخليج" الذي على دجلة "الشارع الأعظم"، وكان يمتد في عهد المعتصم 19 كم من الجنوب إلى الشمال بعرض مائة متر تقريبا.

وعُنِي المعتصم بزراعة القسم الغربي من دجلة تجاه المدينة، وشجع قادته على المساهمة في الزراعة، وحرص أن تكون عاصمته الجديدة مجمعا للصناعات المعروفة في عهده، واهتم ببناء الأسواق، وجعل كل تجارة منفردة مثلما هو الحال في أسواق بغداد، وجعل شارع الخليج الذي على دجلة رصيفًا ومرسى لسفن التجارة.

وكانت المدينة الجديدة جميلة بقصورها الضخمة ومبانيها الرائعة وشوارعها المتسعة، ومسجدها الجامع وغيره من المساجد، فدعيت بـ"سُرّ مَن رأى"، وزاد إقبال الناس على السكنى بها.

وتكشف الآثار الباقية من سامراء عن مدى التقدم العمراني والحضاري الذي كانت عليه الخلافة العباسية في القرن الثالث الهجري.

وامعتصماه.. فتحت عمورية

استغل الروم انشغال الخليفة المعتصم في القضاء على فتنة بابك الخرمي، وجهزوا جيشا ضخما قاده ملك الروم، بلغ أكثر من مائة ألف جندي، هاجم شمال الشام والجزيرة، ودخل مدينة "زِبَطْرة" التي تقع على الثغور، وكانت تخرج منها الغزوات ضد الروم، وقتل الجيش الرومي من بداخل حصون المدينة من الرجال، وانتقل إلى "ملطية" المجاورة فأغار عليها، وعلى كثير من الحصون، ومثّل بمن صار في يده من المسلمين، وسَمَلَ أعينهم، وقطع آذانهم وأنوفهم، وسبى من المسلمات فيما قيل أكثر من ألف امرأة.

وصلت هذه الأبناء المروعة إلى أسماع الخليفة، وحكى الهاربون الفظائع التي ارتكبها الروم مع السكان العزل؛ فتحرك على الفور، وأمر بعمامة الغزاة فاعتم بها ونادى لساعته بالنفير والاستعداد للحرب.

ويذكر بعض الرواة أن امرأة ممن وقعت في أسر الروم قالت: وامعتصماه، فنُقل إليه ذلك الحديث، وفي يده قَدَح يريد أن يشرب ما فيه، فوضعه، ونادى بالاستعداد للحرب.

وهذا ما عناه أبو تمام في قوله مادحا للخليفة بعدما حقق نصر:

لبيّت صوتًا زِبَطريًا هَرَقْتَ لَهُ
.................كَأْسَ الْكَرَى وَرُضَابَ الْخُرّدِ الْعُرُبِ


وخرج المعتصم على رأس جيش كبير، وجهّزه بما لم يعدّه أحد من قبله من السلاح والمؤن وآلات الحرب والحصار، حتى وصل إلى منطقة الثغور، ودمّرت جيوشه مدينة أنقرة ثم اتجهت إلى عمورية في (جمادى الأولى 223هـ= أبريل 838م) وضربت حصارا على المدينة المنيعة دام نصف عام تقريبا، ذاقت خلاله الأهوال حتى استسلمت المدينة، ودخلها المسلمون في (17 من رمضان سنة 223هـ= 13 من أغسطس 838م) بعد أن قُتل من أهلها ثلاثون ألفا، وغنم المسلمون غنائم عظيمة، وأمر الخليفة المعتصم بهدم أسوار المدينة المنيعة وأبوابها وكان لهذا الانتصار الكبير صداه في بلاد المسلمين، وخصّه كبار الشعراء بقصائد المدح، ويأتي في مقدمة ذلك، بائية أبي تمام الخالدة التي منها قوله:

فتْحٌ الفتوح تعالى أن يحيط به
.............. نظمٌ من الشعراء أو نثرٌ من الخُطَبِ

فتْحٌ تفتّح أبواب السماء له
................وتبرز الأرض في أثوابها القُشُب

يا يومَ وقعةِ عمّوريّة انصرفت
................. منك المُنى حُفّلاً معسولة الحَلَب

أبقيت جد بني الإسلام في صَعَد
...........والمشركين ودار الشرك في صَبَب


وفاة المعتصم

ظل المعتصم يواصل فتوحاته وغزواته، ففُتحت بعض مدن صقلية، وغزت جنوده "قِلّورية" وتقع في جنوب إيطاليا، وتسمى الآن "كاليريا"، وكذلك جزيرة "مالطة" ولم تكن غُزيت من قبل.

وفي يوم الخميس الموافق (18 من ربيع الأول 227هـ= 5 من يناير 842م) وافاه الأجل المحتوم، بعد أن أصبح اسمه نموذجاه دائما للمروءة والدفاع عن الدين والوطن.


منقول

عبدالغفور الخطيب
18-04-2006, 02:19 AM
هولاكو.. إعصار من الشرق

(في ذكرى وفاته: 19 ربيع الأول 663هـ)


بعد سلسلة من الصراعات على تولي السلطة بين أمراء البيت الحاكم، تولى "منكوقا آن بن تولوي بن جنكيز خان" عرش المغول في (ذي الحجة 648هـ = إبريل 1250م)، وعمل على إقرار الأمن وإعادة الاستقرار وإقامة الإصلاحات والنظم الإدارية، واختيار القادة الأكْفَاء لإدارة شئون ولاياتهم.

وبعد أن نجح في أن يقرّ الأحوال الداخلية وتخلص من مناوئيه اتجه نحو الفتح والغزو وتوسيع رقعة بلاده؛ فجهز حملتين كبيرتين لهذا الغرض، فأرسل أخاه الأوسط "قوبيلاي" على رأس حملة لفتح أقاليم الصين الجنوبية، ونصّب أخاه الأصغر على رأس حملة لغزو إيران والقضاء على الطائفة الإسماعيلية وإخضاع الخلافة العباسية.

حملة هولاكو على إيران

لم يكن هولاكو قد جاوز السادسة والثلاثين من عمره حين عهد إليه أخوه "منكوقا آن" بهذه المهمة فخرج على رأس جيش هائل قُدّر بنحو 120 ألف جندي من خيرة جنود المغول، بالإضافة إلى كبار القادة والفرسان، وحرص الخان الأكبر أن يوصي أخاه قبل التحرك بأن يلتزم بالعادات والتقاليد ويطبّق قوانين جده جنكيز خان، وأن يكون هدفه هو إدخال البلاد من ضفاف نهر "جيحون" حتى مصر في دولة المغول، وأن يعامل من يخضع لسلطانه معاملة طيبة، ويذيق الذل من يبدي المقاومة حتى ولو كان الخليفة العباسي نفسه، فعليه أن يزيحه ويقضي عليه إذا ما اعترض طريقه.

وحقق هولاكو هدفه الأول بالاستيلاء على قلاع طائفة الإسماعيلية سنة (654هـ = 1256م) بعد معارك عديدة واستماتة بذلها أفراد الطائفة في الدفاع عن حصونهم وقلاعهم، لكنها لم تُجدِ نفعا إزاء قوة الجيش المغولي، وكان لقضاء المغول على هذه الطائفة المنحرفة وقع حسن وأثر طيب في نفوس العالم الإسلامي، وعمّه الفرح على الرغم مما كان يعانيه من وحشية المغول وسفكهم للدماء؛ وذلك لأن الإسماعيلية كانت تبث الهلع والفزع في النفوس، وتشيع المفاسد والمنكرات والأفكار المنحرفة.

هولاكو في بغداد

مضى هولاكو في تحقيق هدفه الآخر بالاستيلاء على بغداد والقضاء على الخلافة العباسية؛ فأرسل إلى الخليفة المستعصم بالله يتهدده ويتوعده، ويطلب منه الدخول في طاعته وتسليم العاصمة، ونصحه بأن يسرع في الاستجابة لمطالبه؛ حتى يحفظ لنفسه كرامتها ولدولته أمنها واستقرارها، لكن الخليفة رفض هذا الوعيد وقرر أن يقاوم، على الرغم من ضعف قواته وما كان عليه قادته من خلاف وعداء، فضرب هولاكو حصاره على المدينة المنكوبة التي لم تكن تملك شيئا يدفع عنها قدَرَها المحتوم، فدخل المغول بغداد سنة (656هـ = 1258م) وارتكب هولاكو وجنوده من الفظائع ما تقشعر لهوله الأبدان.

اهتز العالم الإسلامي لسقوط الخلافة العباسية التي أظلّت العالم الإسلامي أكثر من خمسة قرون، وبلغ الحزن الذي ملأ قلوب المسلمين مداه حتى إنهم ظنوا أن العالم على وشك الانتهاء، وأن الساعة آتية عما قريب لهول المصيبة التي حلّت بهم، وإحساسهم بأنهم أصبحوا بدون خليفة، وهو أمر لم يعتادوه منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم).

هولاكو يجتاح الشام

شرع هولاكو بعد سقوط بغداد في الاستعداد للاستيلاء على بلاد الشام ومصر، وفق الخطة المرسومة التي وضعها له أخوه "منكوقا آن" فخرج من أذربيجان في رمضان (657هـ = 1259م) متجها إلى الشام، ونجح بالتعاون مع حلفائه المسيحيين في الاستيلاء على "ميافارقين" بديار حلب، وهي أول مدينة تبتدئ بها الحملة المغولية، ولم تسقط إلا بعد عامين من الحصار، نفدت خلالها المؤن، وهلك معظم سكان المدينة، وبعد سقوط "ميافارقين" واصل هولاكو زحفه نحو "ماردين" فسقطت بعد ثمانية أشهر، وفي أثناء حصار "ميافارقين" كانت قوات من جيش هولاكو تغزو المناطق المحاورة فاستولت على "نصيبين" و"حران" و"الرها" و"البيرة".

بعد ذلك تقدم هولاكو على رأس قواته لمحاصرة حلب، ونصب المغول عشرين منجنيقا حول المدنية وصاروا يمطرونها بوابل من القذائف حتى استسلمت في (التاسع من صفر 658هـ= الحادي والثلاثون من يناير 1260م) وبعد حلب سقطت قلعة "حارم" و"حمص" و"المعرة"، وأصبح طريق الحملة مفتوحا إلى دمشق.

ولما وصلت الأنباء باقتراب المغول من دمشق فرَّ الملك "الناصر يوسف الأيوبي" مع قواته، تاركا مدينته لمصيرها المحتوم، ولم يكن أمام أهالي دمشق بعدما عرفوا ما حل بحلب بعد مقاومتها لهولاكو سوى تسليم مدينتهم، حتى لا تلقى مصير حلب، فسارع عدد من أعيانها إلى زعيم المغول يقدمون الهدايا ويطلبون منه الأمان، في مقابل تسليم مدينتهم فقبل هولاكو ذلك، ودخل المغول المدينة في (السابع عشر من صفر 658هـ= 2 من فبراير 1260م).

رحيل هولاكو المفاجئ إلى إيران

أدى تحقيق الانتصارات المتتالية للمغول إلى الاعتقاد بأنه لن تستطيع قوة في الأرض أن تتصدى لهم، وأن هؤلاء بلاء من الله سلطه على المسلمين الذين ركنوا إلى الراحة وأهملوا قرآنهم وسُنّة نبيهم وخارت عزائمهم.. وفي وسط هذه الحيرة جاءت الأنباء إلى هولاكو بوفاة أخيه "منكوقا آن خان" في (شعبان 657هـ= أغسطس 1259م) وكان عليه أن يكون قريبا من عملية اختيار خان جديد للمغول، ويساند ترشيح أخيه الأوسط "قوبيلاي" لهذا المنصب، فاضطر إلى العودة إلى إيران وكان في نيته أن يكتفي بما حققه، ولكنه عدل عن ذلك بسبب إلحاح القوات المسيحية التي كانت معه على الاستمرار في الغزو واستعادة بيت المقدس من المسلمين، فأبقى قوة من عساكره تحت إمرة أمهر قواده كيتوبوما (كتبغا) لإتمام عملية الغزو.

انتهاء أسطورة المغول في عين جالوت

وقبل أن يغادر هولاكو الشام (سنة 658هـ = 1260م) أرسل إلى قطز رسالة كلها وعيد وتهديد، يدعوه فيها إلى الاستسلام وإلقاء السلاح، وأنه لا جدوى من المقاومة أمام قوة كُتب النصر لها دائما، غير أن السلطان قطز لم يهتز لكلمات هولاكو، أو يتملكه الخوف والفزع كما تملك غيره من قادة الشام فآثروا الهوان على العزة والكرامة، والحياة تحت سلطان وثني على الموت والاستشهاد دفاعا عن الدين والوطن.

وكان قطز على قدر الحدث العظيم والخطب الجلل، فقتل رُسل هولاكو، وخرج للقتال ولم ينتظر قدوم المغول، والتقى الفريقان في (15 من رمضان 658هـ = 24 من أغسطس 1260م) في موقعه "عين جالوت" بفلسطين، وحمل المسلمون على المغول الذين كانوا تحت قيادة كتبغا حملة صادقة، وقاتلوهم باستبسال وشجاعة من الفجر حتى منتصف النهار، فكتب الله لهم النصر، وهُزِم المغول هزيمة منكرة لأول مرة في تاريخهم، بعد أن كانت القلوب قد يئست من النصر عليهم.

وكان لهذا النصر أثره العظيم في تاريخ المنطقة العربية والعالم الإسلامي، بل في تاريخ العالم بأسره؛ حيث احتفظت مصر بما لها من حضارة ومدنية، وطردت المغول من دمشق، وأصبحت بلاد الشام حتى نهر الفرات تحت حكم المماليك، وخلّصت أوربا من شر عظيم لم يكن لأحد من ملوكها قدرة على دفعه ومقاومته.

هولاكو بعد الهزيمة

حاول هولاكو أن يثأر لهزيمة جيشه في عين جالوت، ويعيد للمغول هيبتهم في النفوس؛ فأرسل جيشا إلى حلب فأغار عليها ونهبها، ولكنه تعرّض للهزيمة بالقرب من حمص في المحرم (659هـ = ديسمبر 1260م) فارتد إلى ما وراء نهر الفرات.

ولم تساعد الأحوال السياسية المغولية في أن يعيد هولاكو غزواته على الشام ويستكمل ما بدأه، فبعد موت "منكوقا آن" تنازع أمراء البيت الحاكم السلطة وانقسمت الإمبراطورية المغولية إلى ثلاث خانات مستقلة، استقل هولاكو بواحدة منها هي خانية فارس، ثم دخل هولاكو في صراع مع "بركة خان" القبيلة الذهبية، مغول القبجاق (جنوب روسيا) واشتعلت الحرب بينهما.

وكان هولاكو يعد نفسه نصيرًا وحاميًا للمسيحية بتأثير زوجته "طقز خاتون" في الوقت الذي أسلم فيه بركة خان ومال إلى نصرة المسلمين، وأدى هذا الصراع إلى تعطل النشاط الحربي لهولاكو في الشام، ثم ما لبث أن أدى نشوب الحروب الداخلية بين أمراء المغول إلى توقف عمليات الغزو والتوسع تماما.

هولاكو يشجع العلماء


وعلى الرغم مما اشتهر به هولاكو من قوة وغلظة وإسراف في القتل وسفك الدماء، فإنه لم يغفل تشجيع رجال الأدب والعلم، فحظي "الجويني" المؤرخ الفارسي المعروف بتقدير هولاكو، ونجح في إقناع هولاكو بألا يحرق مكتبة الإسماعيلية، وكان من نتيجة ارتحاله إلى منغوليا ووقوفه على الأحوال هناك أن ألّف كتاب "تاريخ جنكيز خان وأخلافه". ويؤثر عنه أنه كلف العالم الرياضي "نصير الدين الطوسي" ببناء مرصد في مدينة "مراغة" زوده بأدق الأجهزة المعروفة في زمانه، ويقال بأن المكتبة التي أنشأها الطوسي وألحقها بالمرصد كانت تحوي ما يزيد على 400 ألف مجلد.

وفاة هولاكو

وفي (19 من ربيع الأول 663هـ 9 من يناير 1265م) توفي هولاكو بالقرب من مراغة وهو في الثامنة والأربعين من عمره، تاركا لأبنائه وأحفاده مملكة فسيحة عرفت بإيلخانية فارس، ولم تلبث زوجته "طقز خاتون" أن لحقت به، وحزن لوفاتهما المسيحيون بالشرق، وعدّوهما من القديسين.


منقول

عبدالغفور الخطيب
20-04-2006, 02:33 AM
دولة المماليك تلفظ أنفاسها الأخيرة

(في ذكرى مقتل طومان باي: 21 ربيع الأول 923هـ)


شهدت مدينة المنصورة بمصر صرخة ميلاد دولة المماليك سنة 647هـ= 1250م، حيث أبلى فرسانها في جهادهم ضد حملة لويس التاسع بلاء حسنا، وضربوا أروع الأمثلة في الشجاعة والفداء، حتى مُنيت الحملة بالفشل ولحق بها عار الهزيمة، وترتب على هذا النصر المبين أن علت مكانة فرسان المماليك، وارتفع شأنهم باعتبارهم القوة التي هيأت لها الأقدار أن تنهض بمهمة الدفاع عن العالم الإسلامي الذي كانت تتناوشه قوتان: إعصار المغول القادم من الشرق، وخطر الصليبيين القابع في بلاد الشام.

وقد نجح المماليك بعد قيام دولتهم في التصدي لهذين الخطرين؛ حيث انتصر "قطز" في عين جالوت بفلسطين على المغول في سابقة لم تحدث من قبل، في الوقت الذي عجز فيه الأيوبيون حكام الشام في التصدي للمغول بتخاذلهم عن المواجهة والقتال، ثم تابع خليفته "الظاهر بيبرس" استكمال المسيرة الظافرة في الجبهتين معا، فحارب المغول والصليبيين، وألحق بهما هزائم فداحة.

واكتسب المماليك شرعيتهم في الحكم وتقدير الناس لهم باعتبارهم حماة الإسلام والمدافعين عن أهله وأرضه، وظلت دولتهم تقوم بهذا الدور في الفترة الأولى من عهدها المعروفة باسم دولة المماليك البحرية حتى كان لهم شرف إخراج الوجود الصليبي من الشام، والقضاء على خطر المغول، ثم تابع السلاطين المماليك في الفترة الثانية المعروفة باسم دولة المماليك البرجية القيام بهذا الدور في الدفاع عن أرض الإسلام ضد هجمات الصليبين الذين نقلوا نشاطهم العسكري إلى البحر المتوسط واتخذوا من قبرص ورودس مركزًا لنشاطهم.

ثم أصاب دولة المماليك ما يصيب الدول في أواخر عهدها من ضعف ووهن، فلم تعد قادرة على أن تقوم بدورها الفعال كما كانت تقوم به من قبل، وتهددها خطر البرتغاليين في الخليج العربي بعد أن تنامت قوتهم بعد اكتشافهم طريق "الرجاء الصالح"، وكثرت فيها المنازعات بين قادتها وأمرائها.

هذا، في الوقت الذي تصاعدت فيه قوة الدولة العثمانية الفتية، وتطلعت إلى المشرق الإسلامي لتضمه إلى سلطانها بعد أن نجحت في بسط نفوذها، وتوسيع دولتها في أوروبا، ولم تكن دولة المماليك وهي في هذه الحالة تستطيع أن تدفع قدرها المحتوم وترد الخطر الداهم الذي أحدق بها من كل جانب، ولكنها حاولت في صحوة تشبه صحوة الموت أن تسترد عافيتها، فلم تفلح فأفسحت مكانها لمن يستكمل المهمة، ويقود المسيرة.

هزيمة الغوري في مرج دابق


ساءت العلاقة بين العثمانيين والمماليك، وفشلت محاولات الغوري في عقد الصلح مع السلطان العثماني "سليم الأول" وإبرام المعاهدة للسلام، فاحتكما إلى السيف، والتقى الفريقان عند "مرج دابق" بالقرب من حلب في (25 من رجب 922هـ = 24 من أغسطس 1516م).

وأبدى المماليك في هذه المعركة ضروبا من الشجاعة والبسالة، وقاموا بهجوم خاطف زلزل أقدام العثمانيين، وأنزل بهم خسائر فادحة، حتى فكّر سليم الأول في التقهقر، وطلب الأمان، غير أن هذا النجاح في القتال لم يدم طويلا فسرعان ما دب الخلاف بين فرق المماليك المحاربة، وانحاز بعضها إلى الجيش العثماني بقيادة "خايربك".

وسرت إشاعة في جيش المماليك أن الغوري سقط قتيلا، فخارت عزائمهم ووهنت قواتهم، وفرّوا لا يلوون على شيء، وضاع في زحام المعركة وفوضى الهزيمة والفرار، نداء الغوري وصيحته في جنوده بالثبات والصمود وسقط عن فرسه جثة هامدة من هول الهزيمة، وتحقق للعثمانيين النصر الذي كان بداية لأن يستكمل سليم الأول فتوحاته في الشام وأن يستولي على مدنه واحدة بعد أخرى، بعدها سلَّم معظمها له بالأمان دون قتال.

طومان باي سلطانا

اتفقت كلمة الأمراء في مصر على اختيار "طومان باي" للسلطنة، فأخذ يستعد لمقاومة العثمانيين وعزم للخروج لقتالهم ولا ينتظر مجيئهم، ولكنه اصطدم بتخاذل المماليك، واستهانتهم بخطورة الموقف، وعدم تقديرهم للمسئولية في الوقت الذي أرسل فيه السلطان سليم الأول رسالة إلى طومان باي يعرض عليه الصلح ويبقيه على حكم مصر في مقابل أن يقر بتبعيته للدولة العثمانية، غير أن هذه المساعي السلمية لم تكلل بالنجاح.

واضطر طومان باي إلى مواصلة الاستعداد للقتال، فخرج إلى "الريدانية" وتحصّن بها فحفر خندقا على طول الخطوط الأمامية، ووضع مدافعه الكبيرة وأعد أسلحته وبنادقه وحاول شحذ همة مماليكه وقواته ولكن دون جدوى؛ فقد جبن كثير منهم عن اللقاء حتى كان بعضهم لا يقيم بالريدانية إلا في خلال النهار حتى يراهم السلطان، وفي المساء يعودون إلى القاهرة للمبيت في منازلهم.

ولم يكن من شأن جيش كهذا أن يثبت في معركة أو يصمد للقاء أو يتحقق له النصر، فحين علم طومان باي وهو في الريدانية بتوغل العثمانيين في البلاد المصرية حاول جاهدا أن يقنع أمراءه بمباغتة العثمانيين عند الصالحية، وهم في حالة تعب وإعياء بعد عبورهم الصحراء، لكنهم رفضوا، معتقدين أن الخندق الذي حفروه بالريدانية كفيل بحمايتهم ودفع الخطر عنهم، لكنه لم يغن عنهم شيئا، فقد تحاشت قوات العثمانيين التي تدفقت كالسيل مواجهة المماليك عند الريدانية عندما علمت تحصيناتها، وتحولت عنها، واتجهت صوب القاهرة، فلحق بهم طومان باي.

والتحم الفريقان في معركة هائلة في (29 من ذي الحجة 922هـ = 23 من يناير 1517م)، وأبلى طومان باي في المعركة بلاء حسنا، وقتل "سنان باشا الخادم" الصدر الأعظم بيده، وكثر القتلى بين الفريقين، غير أن العثمانيين حملوا على المماليك حملة صادقة زلزلت الأرض من تحتهم، فضاقت عليهم بما رحبت، وانسحب طومان باي ومن بقي معه إلى نواحي الفسطاط، ودخلت طلائع الجيش العثماني مدينة القاهرة، وأخذوا يتعقبون جنود المماليك في كل مكان.

سليم الأول في القاهرة

وفي يوم الإثنين الموافق (3 من المحرم 923هـ = 26 من يناير 1517م) دخل سليم الأول مدينة القاهرة في موكب حافل، يتقدمه الخليفة العباسي والقضاة، وقد أحاطت به جنوده الذين امتلأت بهم شوارع القاهرة، يحملون الرايات الحمراء شعار الدولة العثمانية، وكتب على بعضها "إنا فتحنا لك فتحا مبينا"، وفي بعضها "نصر من الله وفتح قريب".

ولم يكد يهنأ سليم الأول بهذا الفتح حتى باغته طومان باي في "بولاق"؛ وذلك في اليوم الخامس من المحرم، واشترك معه المصريون في هذه الحملة المفاجئة، وأشعلوا في معسكر سليم الأول النيران، وظن الناس أن النصر آت لا محالة، واستمرت مقاومة المماليك أربعة أيام وليال، وظهروا فيها على العثمانيين، حتى إنه خطب لطومان باي في القاهرة في يوم الجمعة، وكان قد دعي لسليم الأول في الجمعة التي سبقتها، غير أن هذا الفوز لم يحسم المعركة لصالح طومان باي؛ إذ سرعان ما لجأ الجنود العثمانيون إلى سلاح البنادق، وأمطروا به من فوق المآذن الأهالي والمماليك، فأجبروهم على الفرار، وفرَّ طومان باي إلى "البهنا" التي تقع غربي النيل في جنوب القاهرة.

استمرار المقاومة

ظل طومان باي يعمل على المقاومة بما تيسر له من وسائل، واجتمع حوله كثير من الجنود وأبناء الصعيد حتى قويت شوكته، غير أنه أدرك أن هذا غير كاف لتحقيق النصر، فأرسل إلى سليم الأول يفاوضه في الصلح، فاستجاب له السلطان العثماني، وكتب له كتابا بهذا، وبعث به مع وفد من عنده إلى طومان باي، لكن الوفد تعرض لهجوم من بعض المماليك وقتل بعض رجاله؛ فحنق السلطان سليم الأول وخرج لقتال طومان باي بنفسه، والتقى الجيشان قرب قرية "الوردان" بالجيزة في (9 من ربيع الأول 923 هـ =1 من إبريل 1517م)؛ حيث دارت معركة حامية استمرت يومين وانتهت بهزيمة طومان باي وفراره إلى البحيرة.

على باب زويلة

لجأ طومان باي إلى أحد رؤساء الأعراب بإقليم البحيرة طالبا منه العون والحماية فأحسن استقباله في بادئ الأمر، ثم وشي به إلى السلطان سليم الأول، فسارع بإرسال قوة للقبض عليه فأتت به إليه، وأخذ السلطان يتأمله معجبا بشجاعته وفروسيته، ثم عاتبه واتهمه بقتل رسله الذين أرسلهم لمفاوضته في الصلح، فنفى طومان باي التهمة عن نفسه، وبرر استمراره في القتال بأن الواجب يحتم عليه هذا، وكاد السلطان العثماني من إعجابه بشجاعة طومان باي أن يعفو عنه، ولكنه لم يفعل تحت تأثير الوشاة الذين حرّضوا السلطان على قتله بحجة أن لا بقاء لملكه في مصر ما دام طومان باي على قيد الحياة.

وفي يوم الأحد الموافق (21 من شهر ربيع الأول 923 هـ = 15 من إبريل 1517م) أخرج طومان باي من سجنه، وسار وسط حرس عدته 400 جندي إلى باب "زويلة"؛ حيث نصبت له مشنقة فتقدم لها هادئ النفس ثابت الجنان والناس من حوله يملئون المكان حيث لقي حتفه وسقط ميتا؛ فصرخ الناس صرخة مدوية تفيض حزنا وألما، وظلت جثته معلقة ثلاثة أيام ثم دفنت في قبة السلطان الغوري، وبموته انتهت دولة المماليك وسقطت الخلافة العباسية، وأصبحت مصر ولاية عثمانية

منقول

عبدالغفور الخطيب
21-04-2006, 01:59 AM
الكامل.. والتفريط في بيت المقدس

في ذكري عقد معاهدة تسليمه :22 ربيع الأول 626 هـ


يذكر التاريخ الإسلامي بكل تقدير وإعجاب نجاح صلاح الدين الأيوبي في استرداد بيت المقدس في يوم مبارك وافق ذكرى الإسراء والمعراج، في (27 من رجب 583هـ = 2 من أكتوبر 1187م)، وزاد من جلال الفتح العظيم روح السماحة الكريمة، والنبل الرفيع، والأخلاق العالية التي أضفاها الفاتح النبيل على انتصاره الخالد؛ فلم تغلب عليه شهوة الثأر والانتقام من الصليبيين الذين مارسوا أحط الأخلاق وحشية وأخسها فعلاً، حين استولوا على القدس في (22 من شعبان 492هـ = 15 من يوليو 1099م)، حيث أقيمت المذابح للمسلمين العزل، وأبيحت المدينة المقدسة للسلب والنهب والقتل عدة أيام، حتى امتلأت الشوارع بجثث المسلمين وقتلاهم.

الكامل وبيت المقدس

ولم يكد يمضي على عودة مدينة القدس إلى أحضان المسلمين خمسة وثلاثون عامًا حتى كانت عرضة للمساومة والتفريط من قبل السلطان الكامل بن العادل الأيوبي سلطان مصر، في واحدة من أعجب التنازلات التي يقدم عليها حاكم مسلم حين تشتد به الأزمة، وتحيط به الملمات من كل جانب، فيقدم على عمل طائش، بعيد عن الحكمة والسداد، ويفرط في المقدسات التي لا يملك التصرف في أمرها شيئًا.

هذا ما أقدم عليه السلطان الأيوبي قبل أن تسقط دمياط في يد الصليبيين في (27 من شعبان 616هـ = 5 نوفمبر 1219م) في حملتهم الصليبية الخامسة على مصر، فعرض عليهم -بعد أن يئس من قدرة دمياط على الصمود – استعداده لإعادة بيت المقدس إليهم مقابل الجلاء عن مصر.

لكن هذا العرض السخي المفرط في التنازل لم يلق إجماعًا في قبوله من قبل الصليبيين فرفضوه؛ إذ كانوا يمنون أنفسهم بالاستيلاء على مصر، وظلوا في دمياط ثمانية عشر شهرًا كاملة دون تحرك جادٍ منهم، حتى تمكن المصريون من الانتصار عليهم وطردهم من دمياط، وفشلت الصفقة، ونجا بيت المقدس من المقايضة والوقوع في يد الصليبيين.

انقسام البيت الأيوبي

كان لتضامن أبناء السلطان العادل الثلاثة: الكامل محمد، والمعظم عيسى، والأشرف موسى أثره الواضح في تحقيق النصر في دمياط، وإفشال الحملة الصليبية الخامسة بقيادة "حنادي برين"، وكان المأمول أن يظل هذا التحالف قويًا، لكن ذلك لم يحدث، فانفرط العقد، وانكفأ كل واحد منهم حول ذاته، يعظّم من شأن مصالحه ومكاسبه، دون نظر إلى مصلحة أمته؛ فشب صراع بين الكامل وأخيه السلطان المعظم عيسى صاحب دمشق.

واستعان كل منهما بقوى خارجية لمؤازرته في مواجهة الآخر، فاستنجد الملك المعظم بالسلطان جلال الدين بن خوارزم شاه سلطان الدولة الخوارزمية، في حين استعان السلطان الكامل بالإمبراطور فريدريك الثاني صاحب صقلية وإمبراطور الدولة الرومانية في غرب أوروبا.

وكان الثمن الذي أعلنه السلطان الكامل للإمبراطور فريدريك هو تسليمه بيت المقدس وجميع فتوح صلاح الدين بالساحل الشامي، وذلك مقابل مساعدته في حربه ضد أخيه المعظم، ويا له من ثمن غالٍ في مقابل هدف غير نبيل.

وإذا كان السلطان الكامل قد عرض تسليم القدس للصليبيين مقابل الجلاء عن دمياط، فإنه قد يلتمس له البعض الغدر فيما أقدم عليه؛ فإن هول المصيبة قد أطاش بلبّه، وأعجزه عن التفكير السليم، ولكن ليس له عذر في عرضه الثاني، فضلاً عن كونه لا يملك الحق في هذا التنازل أصلا، وهذا من أعجب ما يقابله الإنسان في تصفحه للتاريخ الإسلامي: تفريط دون حاجة، وتنازل مقابل أهداف غير نبيلة.

فرصة فريدريك الثاني

أرسل السلطان الكامل مبعوثه الأمير "فخر الدين يوسف" بهذا العرض إلى الإمبراطور فريدريك الثاني، فأحسن فريدريك استقباله في صقلية، ورد على السلطان بسفارة مماثلة، وقد دعم هذا العرض السخي ما كان يعتمل في نفس الإمبراطور من القيام بحملة صليبية إلى الشام، وقطعَ تردده في النهوض بهذه المهمة التي كان يستحثه البابا جريجوري التاسع في النهوض بها؛ فغادر صقلية في (رجب 625هـ = يونيو 1228م) قاصدًا بلاد الشام، ممنيًا نفسه ببيت المقدس، وبمجدٍ يحققه، يظل التاريخ الأوروبي يلهج بذكره.

وكانت تلك الحملة التي عُرفت في تاريخ الحروب الصليبية بالحملة الصليبية السادسة من أعجب الحملات؛ فلم يتجاوز أفرادها ستمائة فارس فقط، وأسطول هزيل، وكأن الإمبراطور فريدريك جاء إلى الشام ليفاوض لا ليحارب، أو أتى إلى الشرق في نزهة جميلة.

وعندما وصل إلى "عكا" وجد الأمور على غير ما يتمنى، فالسبب الذي من أجله استدعاه السلطان الكامل قد زال وانتهى، فالملك المعظم عيسى الذي كان يعمل على التوسع على حساب إخوته وأهل بيته قد توفي، فلم تعد هناك حاجة تدعو السلطان الكامل إلى الوفاء بوعده للإمبراطور فريدريك، بعد أن اقتسم الأخوان الكامل محمد والأشرف موسى ممتلكات أخيهما المعظم عيسى مثير القلاقل، وعادت الأمور في البيت الأيوبي إلى الهدوء والاستقرار.

سلاح المفاوضة والاستعطاف

ساء موقف الإمبراطور فريدريك الثاني من تغير الأوضاع، ولم يبق له سوى سلاح المفاوضة والاستعطاف، لتحقيق الهدف الغالي والأمل المنشود؛ فأرسل سفارة إلى السلطان الكامل تحمل له هدايا نفيسة، وتطلب منه الوفاء بما تعهّد به للإمبراطور، وتسليم بيت المقدس له، وكان طبيعيًا أن يرفض السلطان الكامل هذا الطلب بعدما تبدلت الأحوال التي ألجأته إلى القيام بهذا العرض، غير أن رفض السلطان زاد من إصرار الإمبراطور على تكرار الطلب، والمبالغة في استمالة السلطان واستعطافه إلى حد التذلل والبكاء، وبلغ به الأمر إلى أنه كتب للسلطان الكامل في أثناء المفاوضات: "أنا مملوكك وعتيقك وليس لي عما تأمره خروج، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر، وقد علم البابا والملوك باهتمامي وطلوعي، فإن رجعت خائبًا انكسرت حرمتي بينهم!… فإن رأى السلطان أن ينعم عليّ بقبضة البلد والزيارة، فيكون صدقة منه، ويرتفع رأسي بين ملوك البحر".

تسليم بيت المقدس


أفلحت هذه السياسة وأثمرت استعطافات فريدريك في استمالة قلب السلطان الكامل، وكان رجلاً متسامحًا، ففرّط فيما لا يملكه، وتسامح فيما لا يجوز التسامح فيه، ووافق على تسليم بيت المقدس دون أن يبذل الإمبراطور في الاستيلاء عليه قطرة دم، أو ضربة سيف، أو طعنة رمح، وإنما فاز ببيت المقدس بدمعة عين، وخداع نفس، وحقق ما عجز عن تحقيقه ريتشارد قلب الأسد بجيوشه الضخمة وإمكانياته الكبيرة.

واتفق الفريقان على عقد اتفاقية يافا في (22 من ربيع الأول 626هـ = 18 من فبراير 1229م) بمقتضاها تقرر الصلح بين الطرفين لمدة عشر سنوات، على أن يأخذ الصليبيون بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وصيدا.

ونصت المعاهدة على أن تبقى مدينة القدس على ما هي عليه، فلا يُجدّد سورها، وأن يظل الحرم بما يضمه من المسجد الأقصى وقبة الصخرة بأيدي المسلمين، وتُقام فيه الشعائر، ولا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط.

وبعد عقد الصلح اتجه فريدريك إلى بيت المقدس، فدخل المدينة المقدسة في (19 من ربيع الآخر 626هـ = 17 من مارس 1229م)، وفي اليوم التالي دخل كنيسة القيامة، ليُتوّج ملكًا على بيت المقدس.

الحزن عادة!!

استقبل المسلمون نبأ تسليم المدينة المقدسة بالأسى والحزن، وعم السخط أرجاء العالم الإسلامي، وأقيمت المآتم في المدن الكبرى.

ويصور المقريزي ما حل بالمسلمين من ألم بقوله: "فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمة والمؤذنون من القدس إلى مخيم الكامل، وأذّنوا على بابه في غير وقت الأذان.. واشتد الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشفاعات عليه في سائر الأقطار".

ولما أحس السلطان الكامل أنه تورط مع ملك الفرنج أخذ يهوّن من أمر تسليم بيت المقدس، ويعلن أنه لم يعط الفرنج إلا الكنائس والبيوت الخربة، على حين بقي المسجد الأقصى على حاله.. غير أن هذه المبررات لم تنطلِ على أحد من الناس.

وظل بيت المقدس أسيرًا في أيدي الصليبيين نحو خمسة عشر عامًا يشكو إلى الله ظلم الحكام وسوء تصرفهم، حتى نجح الخوارزميون في تحريره في (3 من صفر 642هـ = 11 من يوليو 1244م).. ولهذا الفتح حديث آخر

منقول

عبدالغفور الخطيب
22-04-2006, 02:12 AM
الغزنوي.. فاتح الهند

(في ذكري وفاته: 23 ربيع الأول 421هـ)

اهتم الخلفاء الراشدون بفتح بلاد الهند؛ فبعثوا منذ عهد عمر بن الخطاب عدة حملات على أطراف هذه البلاد، غير أن الفتح المنظم بدأ في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، حيث قام عامله على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي بهذه المهمة العظيمة، فأعد حملة عسكرية وجهزها بما يكفل لها النجاح من عدة وعتاد، وأسند قيادتها إلى واحد من أكفأ القادة وأمهرهم هو ابن أخيه محمد بن القاسم، وكان دون العشرين من عمره، فنهض بهذه المهمة على خير وجه، وتمكن من التوغل في بلاد الهند، وفتح مدينة "ديبل" وأقام بها مسجدا، وترك بها حامية من أربعة آلاف جندي، وأصبحت ديبل أول مدينة عربية في الهند.

وهذه المدينة كان موقعها قريبا من "كراتشي" لكنها اندرست ولم يعد لها وجود الآن، وواصل القائد المظفر حملته الناجحة في شمال الهند، وهو ينتقل من نصر إلى نصر، وأهالي البلاد تقبل عليه؛ فرحًا به لسماحته وحسن سياسته، وتعدّه محررَها من ظلم الهندوس واستعبادهم.

غير أن هذا الحلم الجميل بدا يتحطم ويتبدد؛ فقد توفي الحجاج الثقفي صاحب اليد البيضاء في هذا الفتح، ومن بعده الخليفة الوليد بن عبد الملك، وتولى العراق حاكم جديد، فأوقف الفتح وعزل محمد بن القاسم عن ولاية السند.

وظلت السند تابعة للدولة الأموية ومن بعدها الدولة العباسية، وحافظ المسلمون على ما فتحوه، وتوسعوا قليلا في ضم أجزاء أخرى إلى دولتهم، حتى سيطر المسلمون على المنطقة الواقعة بين كابل وكشمير والملتان.

قيام الدولة الغزنوية

كانت "غزنة" بأفغانستان ولاية نائية، تخضع للدولة السامانية التي تحكم خراسان وما وراء النهر، ويقوم عليها ولاة من قِبلها، وشاءت الأقدار أن يلي غزنة سنة (366هـ= 976م) والٍ يسمى "سبكتكين" كان يتمتع بهمة عالية وكفاءة نادرة، وطموح عظيم، فنجح في أن يبسط نفوذه على البلاد المجاورة، وشرع في غزو أطراف الهند، وسيطر على كثير من المعاقل والحصون هناك، حتى تمكن من تأسيس دولة كبيرة في جنوبي غرب آسيا، وتوفي سنة (387هـ=997م).

ولاية محمود بن سبكتكين

بعد موت سبكتكين خلفه ابنه إسماعيل، بعد أن عهد إليه أبوه بالملك من بعده، غير أن أخاه الأكبر محمود -وكان سند والده في غزواته وحروبه- رفض أن يقر لأخيه بالملك لضعفه وسوء تدبيره، فنهض عليه واستطاع بعد سبعة أشهر أن ينتزع الملك لنفسه، ويقبض على زمام الأمور، وبدأ عهد جديد لم تشهده المنطقة من قبل، فلم يكد يستقر الأمر له، حتى بدأ نشاطًا واسعًا في الفتوح، وأثبت أنه واحد من كبار الفاتحين في تاريخ الإسلام، حتى قيل إن فتوحه تعدل في المساحة فتوح عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قضى محمود الغزنوي الفترة الأولى من حكمه في تثبيت أركان دولته، وتوسيع رقعتها على حساب الدولة السامانية التي دبّ الضعف في أوصالها، فرأى الفرصة سانحة للقضاء عليها، وتم له ذلك في (جمادى الأولى 389هـ= أبريل 999م) بعد انتصاره على عبد الملك بن نوح الساماني في موقعة حاسمة عند مرو، وأصبحت خراسان خاضعة له، ثم تصدى للدولة البويهية، وانتزع منها الري وبلاد الجبل وقزوين.

فتح الهند

بعد أن استقرت الأحول لمحمود الغزنوي واستتب له الحكم، وأقرته الخلافة العباسية على ما تحت يده من بلاد، تطلّع إلى بسط سيطرته على بلاد الهند، ومد نفوذه إليها ونشر الإسلام بين أهلها؛ ولذلك تعددت حملاته على الهند حتى بلغت أكثر من سبع عشرة حملة، وظل يحارب دون فتور نحوًا من سبع وعشرين سنة، بدأت من عام (390هـ= 1000م)، حيث قاد حملته الأولى على رأس عشرة آلاف مقاتل، والتقى عند مدينة بشاور بجيش "جيبال" أحد ملوك الهندوس، وحقق نصر غاليا، ووقع الملك الهندي في الأسر، الذي لم يستطع أن يتحمل هزيمته والعار الذي لحق به، فأقدم على حرق نفسه، بعدما أطلق الغزنوي سراحه مقابل فدية كبيرة.

ثم تعددت حملات الغزنوي، وفي كل مرة كان يحقق نصرا، ويضيف إلى دولته رقعة جديدة، ويبشر بالإسلام بين أهالي المناطق المفتوحة، ويغنم غنائم عظيمة، حتى توج فتوحاته في الهند بفتح بلاد "الكجرات"، ثم توجه إلى مدينة "سومنات" سنة (416هـ= 1025م) وكان بها معبد من أكبر معابد الهند، يحوي صنما اسمه "سومنات" وكان الهندوس يعظمونه ويحملون إليه كل نفيس، ويغدقون الأموال على سدنته، وكانت مدينة سومنات تقع في أقصى جنوب الكجرات على شاطئ بحر العرب، فقطع الغزنوي الصحاري المهلكة حتى بلغها، واقتحم المعبد، وهزم الجموع الغفيرة التي حاولت إنقاذ المعبد، ووقع آلاف الهندوس قتلى، وسقط المعبد في أيدي المسلمين.

وغنم الغزنوي أموالا عظيمة قُدرت بنحو عشرين مليون دينار، وعاد إلى غزنة سنة (417هـ=1026م) وظلت ذكرى هدم معبد سومنات عالقة في ذاكرة الهندوس لم يمحها كرّ السنين، ولا تغيرها الأحول، حتى إذا ما ظفرت الهند باستقلالها عمدت إلى بناء هذا المعبد من جديد في احتفال مهيب.

ولم يكن الغزنوي مدفوعا في فتوحاته برغبة جامحة في كسب الغنائم أو تحقيق مجد يذكره له التاريخ، ولكن قاده حماسه لنشر الإسلام، وإبلاغ كلمة التوحيد في مجتمع وثني، وكانت تلك الحملات مسبوقة بطلب الدخول في الإسلام، وإلى هذا أشار السير "توماس أرنولد" في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" بقوله: وفي الحق أن الإسلام قد عُرض في الغالب على الكفار من الهندوس قبل أن يفاجئهم المسلمون.

وكانت حصيلة جهود محمود الغزنوي أن أتمّ فتح شمال شبة القارة الهندية، ففتح إقليم كابلستان، وملتان، وكشمير، وأخضع البنجاب، ونشر الإسلام في ربوع الهند، وفتح طريقا سلكه من جاء بعده.

وقد نظر المؤرخون المسلمون إلى أعماله نظر إعجاب وتقدير، فقد بلغ بفتوحاته إلى "حيث لم تبلغه في الإسلام راية، وأقام بدلا من بيوت الأصنام مساجد الإسلام".

النهضة الحضارية والثقافية

اكتسب الغزنوي مكانته في التاريخ بفتوحاته التي لم تُسبق، وبجهوده الحضارية التي لم يشغله عنها فتوحاته وغزواته، وكان العزنوي نفسه مولعا بعلم الحديث، يستمع إلى علمائه كما كان فقيها له مؤلفات، ولا يكاد يسمع بعالمٍ له مكانة حتى يستدعيه إلى دولته، فاستقدم "أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني" المتوفى سنة (440هـ= 1049م) الذي نبغ في علوم كثيرة، في مقدمتها الرياضة والفلك، وعُدّ من أعظم رجال الحضارة الإسلامية، وتُرجمت كتبه إلى اللغات الأوروبية، وأطلقت روسيا اسمه على جامعة أنشأتها حديثا.

وعني السلطان بالشعر وكان له به شغف، ومن أشهر الشعراء الذين ازدانت بهم دولته الشاعر الفارسي "عنصري" وكان نديما للسلطان وشاعرا له، منحه لقب "ملك الشعراء" في مملكته، و"المسجدي"، و"الفرخي" وهو شاعر فارسي عظيم قيل فيه: إن الفرخي لدى الفرس بمثابة المتنبي لدى العرب.

أما أبرز الشعراء في هذا العصر فهو "الفردوسي" صاحب "الشاهنامة" التي نظمها في خمسة وعشرين عاما من الجهد والإبداع، وتشمل أخبار الفرس القدامى، وهي من عيون الأدب العالمي.

ومن أبرز كتّاب الدولة ومؤرخيها "أبو الفتح البستي" وكان كاتبا للسلطان وموضع سره ومستشاره في كثير من الأمور، وله شعر رائق ونظم جيد، و"أبو نصر محمد بن عبد الجبار العتبي" مؤرخ الدولة الغزنوية وكاتب السلطان مع أبي الفتح البستي، له كتاب "اليميني" نسبة إلى يمين الدولة لقب السلطان محمود الغزنوي، تناول فيه تاريخ الدولة الغزنوية.

وأصبحت غزنة في عهد السلطان محمود منارة للعلم ومقصدا للعلماء، وغدت عامرة بالمساجد والقصور والأبنية التي لا تقل بهاءً وجمالا عن المنشآت الهندية التي اشتهرت بدقة التصميم وجمال العمارة.

وفاة الغزنوي

ظل السلطان محمود الغزنوي يواصل جهاده حتى مرض، وطال به مرضه نحو سنتين، ومع ذلك لم يحتجب عن الناس أو يمنعه المرض من مباشرة أمور رعيته حتى توفي قاعدًا في (23 من شهر ربيع الأول 421هـ= 29 من أبريل 1030م) بعد أن أنشأ دولة واسعة، ضمّت معظم إيران وبلاد ما وراء النهر وشمال الهند كله، ونشر دينًا لا يزال له أتباع كثيرون في الهند.

منقول

عبدالغفور الخطيب
23-04-2006, 03:01 AM
قيام دولة المماليك في مصر والشام

(في ذكرى وفاة أيبك: 24 من ربيع الأول 655هـ)


يرجع ظهور المماليك في العالم الإسلامي إلى ما قبل دولتهم في مصر والشام بأمد بعيد؛ إذ استخدمهم الخلفاء العباسيون الأوائل، واعتمدوا عليهم في توطيد دولتهم، واستعانوا بهم في الجيش والإدارة، ولعلَّ الخليفة المأمون العباسي (198-218هـ= 813-833م) هو أول من استعان بهم، ثم استكثر منهم الخليفة المعتصم (218-227هـ= 833-843م)، وشكّل فرقا عسكرية من الأتراك، وكان يُعنى بشرائهم صغارا ويستجلبهم من سمرقند وفرغانة والسند، وغيرها من أقاليم ما وراء النهر، حتى بلغ عددهم بضعة عشر ألفا، فلمّا ضاقت بهم بغداد، وزاحموا الناس في الطرقات نقلهم المعتصم معه إلى "سامراء" عاصمته الجديدة التي بناها لتكون حاضرة لملكه.

ولم يلبث أن شاع استخدام المماليك في كثير من أجزاء العالم الإسلامي، وكانت مصر ممن انتهجت هذا النهج، فأكثر "أحمد بن طولون" الذي تولَّى حكم مصر سنة 254هـ = 868م من شراء المماليك الديالمة، سكان بحر قزوين حتى بلغ عددهم أكثر من 24 ألفا، والتزم الإخشيديون سُنة أسلافهم الطولونيين في جلب المماليك الأتراك والاستعانة بهم في الجيش.

وفي الهند قامت لهم دولة قبل أن تقوم في مصر بعد أن نجح "قطب الدين أيبك" في إنشاء دولة عُرفت باسم دولة "الملوك المماليك"، وظلَّت دولتهم قائمة مدة 84 عاما، بدأت عقب سقوط الدولة الغورية سنة 602هـ = 689م.

الصالح أيوب والمماليك

عُني الصالح أيوب (638-647هـ = 1240 – 1249م) منذ أن تولّى حكم مصر بالإكثار من شراء المماليك الأتراك بعد أن ساندوه في توطيد سلطانه، حتى صار معظم جيشه منهم، وبنى لهم قلعة خاصة بجزيرة "الروضة" في وسط النيل وأسكنهم بها، وجعلها مقرا لحكمه، وعُرف هؤلاء المماليك الجدد باسم المماليك "البحرية الصالحية".

وقد برز هؤلاء المماليك البحرية وتعاظم شأنهم في خضم أحداث الحملة الصليبية السابعة التي مُنيت بهزيمة بالغة سنة 648هـ = 1250م، وانتهت بأسر الملك "لويس التاسع" قائد الحملة في المنصورة، وتبدد قواته بين القتل والأسر.

نهاية الدولة الأيوبية

تُوفي الصالح أيوب في أثناء المعركة وخلفه ابنه توران شاه في حكم مصر، لكنه لم يحسن معاملة المماليك البحرية، الذين كان لهم الفضل الأكبر في تحقيق النصر، وحسدهم على مكانتهم التي بلغوها بفضل شجاعتهم وقوة بأسهم، وخشي من نفوذهم فأعرض عنهم، وأوجس منهم خيفة وأضمر لهم السوء، غير أنه لخفته ولهوجته كان يجاهر بذلك عند سكره بالليل فينفلت لسانه بما يضمره قلبه من قتلهم والتخلص منهم.

يُضاف إلى ذلك سوء تدبيره وفساد سياسته بإبعاده كبار رجال دولته من الأمراء وأهل الحل والعقد، وتقريبه رجاله وحاشيته وإغداقه عليهم بالأموال والإقطاعات ولم يكن أمام المماليك سوى التخلص من توران شاه قبل أن يتخلص هو منهم، فنجحوا في قتله في فارسكور في صباح يوم الإثنين الموافق (28 من المحرم 648هـ = 2من مايو 1250م)، وبمقلته انتهت الدولة الأيوبية في مصر وبدأ عصر جديد.

قيام دولة المماليك

وجد المماليك أنفسهم أمام وضع جديد لم يعهدوه من قبل، فهم اليوم أصحاب الكلمة النافذة والتأثير البالغ، ولم يعودوا أداة في أيدي من يستخدمهم لمصلحته وتحقيق هدفه، وعليهم أن يختاروا من بينهم سلطانا جديدا للبلاد، فاتفقت كلمتهم على اختيار أرملة أستاذهم "شجرة الدر" سلطانة للبلاد، في سابقة لم تحدث في التاريخ الإسلامي إلا نادرا، وبايعوها بالسلطنة في (2 من صفر 648هـ = 5 مايو 1250م).

غير أن الظروف لم تكن مواتية لأن تستمر شجرة الدر في الحكم، على الرغم مما أبدته من مهارة وحزم في إدارة شئون الدولة، فلقيت معارضة شديدة في داخل البلاد وخارجها، وثارت ثائرة الأيوبيين في الشام لمقتل توران شاه وجلوس شجرة الدر على سدة الحكم، ورفضت الخلافة العباسية في بغداد أن تُقر صنيع المماليك، فكتب الخليفة إليهم: "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نُسيِّر إليكم رجلا".

تنازل شجرة الدر وولاية عز الدين أيبك

لم تجد شجرة الدر بُدا من أن تتنازل عن الحكم للأمير "عز الدين أيبك" أتابك العسكر الذي تزوجته وتلقب بالملك المعز، وكانت المدة التي قضتها شجرة الدر على عرش البلاد 80 يوما، ولم يكن تولِّيها الحكم ناتجا عن موافقة شعبية أو اختيار من الخلافة العباسية، وإنما كان وليد الظروف التى أحاطت بمصر في ذلك الوقت.

تولَّى الملك المعز عرش البلاد، ولم تهدأ أصوات المعارضين لانفراد المماليك بالحكم، بل زاد حدة، وكان على السلطان الجديد للدولة الوليدة أن يواجه بحزم خطر الأيوبيين في الشام وتهديداتهم، وكانوا قد اجتمعوا تحت زعامة "الناصر يوسف" صاحب حلب ودمشق لاسترداد مصر من المماليك، باعتبارهم مغتصبين حق الأيوبيين في حكم مصر، وزحفوا على مصر فالتقى معهم أيبك بقواته في معركة بالقرب من الصالحية في (10 من ذي القعدة سنة 648هـ = 2 من فبراير 1251م)، وانتهت بانتصاره وفرار الناصر يوسف ورجاله إلى الشام.

وقد دفع هذا النصر الملك المعز إلى الزحف إلى الشام للقضاء على المعارضة الأيوبية، غير أن تدخل الخليفة المعتصم العباسي وضع حدًّا للنزاع بين الطرفين؛ فتم الصلح بينهما سنة 651هـ = 1253م على أن تكون مصر والجزء الجنوبي من فلسطين بما في ذلك غزة وبيت المقدس وبلاد الساحل للمعز أيبك، على حين تظل البلاد الشامية في أيدى الأيوبيين، وهكذا انتهت العقبة الأولى في تأسيس الدولة المملوكية الناشئة بإيقاف النزاع والصراع مع ملوك البيت الأيوبي.

عقبات في طريق قيام دولة المماليك

ولم يكد السلطان أيبك يتخلص من هذه العقبة حتى واجهته عدة مشكلات داخلية، بدأت بقيام الأعراب بثورة شعبية في الصعيد والشرقية تحت زعامة "حصن الدين ثعلب"، هددت البلاد؛ فاضطر السلطان إلى أن يرسل حملة عسكرية بقيادة "فارس الدين أقطاي" لقمع هذه الثورة في مهدها؛ فنجح في القضاء عليها قبل أن يستفحل خطرها.

أما العقبة الثانية التي واجهت أيبك في الداخل فهي ازدياد نفوذ المماليك البحرية بزعامة "فارس الدين أقطاي"، خاصة بعد نجاحهم في تحقيق انتصارات داخلية وخارجية، فهدد نفوذهم مكانة السلطان، واشتد خطرهم حتى أصبح يهدد أمن الناس وسلامتهم، وعجز السلطان عن مواجهتهم والتصدي لاستخفافهم به؛ فكان "أقطاي" لا يظهر في مكان إلا وحوله رجاله ومماليكه في أبهة عظمية كأنه ملك متوج، وبالغ في تحقيره للسلطان في مجلسه فلا يسميه إلا أيبكا، وتطلعت نفسه نحو السلطنة، ولقّبه زملاؤه بالملك الجواد.

استشعر السلطان الخطر وأحس بالخوف من ازدياد نفوذ "أقطاي"؛ فعزم على التخلص منه فاستدعاه إلى القلعه بحجة استشارته في أمر من أمور الدولة، وهناك تخلص منه بالقتل في (3 من شعبان 652هـ = 18 من سبتمبر 1254م)، وألقى هذا الحادث الرعب في قلوب كبار المماليك البحرية فسارعوا بالهرب إلى خارج البلاد، والتجأ بعضهم إلى ملوك البيت الأيوبي في الشام، ولجأ بعضهم الآخر إلى دولة سلاجقة الروم، وتعقب أيبك من بقي منهم في مصر فقبض عليهم، وكتب إلى الملوك الذين لجأ إليهم المماليك يحذرهم منهم ومن غدرهم.

نهاية السلطان أيبك

أسلمت البلاد قيادها للمعز، وتخلص من القوى المناوئة له، وكان من المنتظر أن تنعم البلاد بالهدوء بعد الفوضى والقتال، وينعم هو بزعامة بلد له شأن، ولكن ذلك لم يدم، ودخل في صراع مع زوجته شجرة الدر زاد من ضراوته عزمه على الزواج من إحدى بنات البيت الأيوبي، وبدأ يفكر في الخلاص منها، غير أنها كانت أسبق منه، فدبرت مؤامرة لقتله في (24 من ربيع الأول 655هـ = 11 من إبريل 1257م)، ثم لم تلبث هي الأخرى أن قُتلت بعده بأيام قليلة.

وبعد مقتله تعصب المماليك المعزية لابن سيدهم المدعو "نور الدين علي" بن أيبك، وكان في الخامسة عشرة من عمره، وأقاموه سلطانا على البلاد، ولمّا تعرض الشرق الإسلامي لخطر المغول الذي اجتاح الشام وأصبحت مصر على مقربة من هذا الخطر، قام "قطز" نائب السلطنة بعزل السلطان الصغير، وتولى الحكم لمواجهة الخطر المغولى الداهم، وخرج إلى ملاقاة المغول في "عين جالوت" وحقق نصار تاريخيا في (26 من رمضان 658هـ = 3 من سبتمبر 1260م)، وطرد المغول من المنطقة، وضمَّ الشام إلى سلطان المماليك الذين أصبحوا سادة الموقف، ومن بيدهم مقاليد الأمور في مصر والشام.

منقول

عبدالغفور الخطيب
24-04-2006, 02:14 AM
رضية الدين.. سلطانة الهند!

(في ذكرى وفاتها: 25 من ربيع الأول 638هـ)




يذكر التاريخ الإسلامي لـ "أروى بنت أحمد الصالحية" أنها أول امرأة تحكم دولة في العالم الإسلامي، فقد تولّت عرش دولة اليمن بعد وفاة زوجها الملك "المكرم" سنة (477هـ= 1084م) وتصرفت في أمور الدولة، واتخذت لنفسها ألقابا عديدة، منها الحُرّة، الملكة، والسيدة السديدة، وظلت تحكم البلاد نحو 55 عامًا.

وشاءت الأقدار أن تكون "رضية الدين" هي النموذج الثاني الذي يعتلي الملك؛ حيث تولَّت حكم دولة المماليك بالهند، تلتها شجرة الدر في مصر؛ حيث كانت أول سلطانة لدولة المماليك في مصر سنة (648هـ=1250م) وحكمت ثمانين يومًا.

وتشترك الملكات الثلاث في رجاحة العقل، وحسن التدبير، وسعة الحيلة، والتمتع بالذكاء والبصيرة، وإن افترقن في المدة التي قضينها في الحكم.

قيام دولة المماليك في الهند


قامت الدولة الغورية (543-613هـ= 1148-1215م) على أنقاض الدولة الغزنوية التي كانت تملك بلاد الغور والأفغان والهند الشمالية، واستعان السلطان "محمد الغوري" في حكم بلاده بالمماليك الذين كان يشتريهم ويخصّهم بعنايته، ويعدهم للغزو والجهاد، ويرقي منهم من تؤهله ملكاته ومواهبه للقيادة ومناصب الحكم، وعُرف من بين هؤلاء المماليك "قطب الدين أيبك"، ولاه الغوري ولاية دلهي.

وكان قطب الدين قائدا ماهرا وحاكما عادلا يتمسك بالإسلام ويكره الظلم والعسف، ويبغض نظام الطبقات الذي كان سائدا بالهند، ويُنسب له في دلهي مسجد رائع، ذو منارة سامقة، ما تزال قائمة حتى اليوم تُعْرف باسمه "قطب منار"، ويصل ارتفاعها إلى 250 قدمًا.

ولم تطل الحياة بالسلطان محمد الغوري حيث تعرض لعملية اغتيال في سنة (603هـ= 1206م) وتهيأت الظروف لأن تبرز مدينة دلهي، باعتبارها عاصمة لدولة سلاطين المماليك بالهند، ولم يهنأ قطب الدين أيبك بما هيأته له الظروف، فقد لقي حتفه هو الآخر إثر وقوعه من على ظهر فرسه سنة (608هـ= 1210م) وخلفه ابنه "آرام شاه" لكنه لم يكن مؤهلا لأن يتولى شئون البلاد فقام "التمش" أحد مماليك أبيه البارزين بخلعه من الحكم بمساعدة بقية الأمراء، وجلس على عرش البلاد في عام (614هـ= 1216م).

ولاية التمش


يعد "التمش" المؤسس الحقيقي لدولة الممالك بالهند، وهو في الأصل مملوك اشتراه السلطان قطب الدين أيبك من غزنة، ومكنتّه مواهبه من تولي المناصب الكبيرة، وحظي بثقة سيده؛ فولاه رئاسة حرسه، ثم عهد إليه بإدارة بعض الولايات الهندية.

وما إن أمسك "التمش" بمقاليد الأمور في البلاد حتى كشف عن كفاءة نادرة وقدرة على الإدارة والتنظيم، ورغبة في إقامة العدل وإنصاف المظلومين، فينسب إليه أنه قام بتأسيس مجلس من كبار أمراء المماليك عُرف باسم "الأربعين" لمعاونته في إدارة البلاد، ويُؤثَر عنه أنه أمر أن يلبس كل مظلوم ثوبا مصبوغا، وكان أهل الهند جميعا يلبسون الأبيض، فإذا قعد للناس أو مرّ على جمع من الناس، فرأى أحدا يرتدي ثوبا مصبوغا؛ نظر في قضيته وأنصفه ممن ظلمه.

وقد عاصر "التمش" اجتياح المغول المدمّر لما حولهم من البلاد بقيادة زعيمهم جنكيز خان، غير أن المغول انسحبوا سريعا من الهند، واتجهت أبصارهم نحو الغرب؛ فنجت بلاد التمش من الخراب والدمار، في حين تكفّل هذا الإعصار المغولي بالقضاء على أعداء دولته في الشمال؛ الأمر الذي مكّنه من توسيع رقعة بلاده، وأن يستعيد جميع ممتلكات سيده "قطب الدين أيبك" في شمال الهند.

وبلغ الفوز مداه بأن اعترفت الخلافة العباسية بولايته على الهند، وأقرّته سلطانا على البلاد، وبعث له الخليفة "المستنصر بالله" العباسي بالتقليد والخلع والألوية في سنة (626هـ= 1229م) فأصبح أول سلطان في الهند يتسلم مثل هذا التقليد، وبدأ في ضرب نقود فضية نُقش عليها اسمه بجوار اسم الخليفة العباسي، فكانت أول نقود فضية عربية خالصة تُضرب في الهند.

ولاية السلطانة رضية الدين

توفي السلطان "التمش" سنة (634هـ= 1236م) وخلفه ابنه "ركن الدين فيروز"، غير أنه كان منشغلا عن مسئولية الحكم وتبعاته باللهو واللعب، تاركا تصريف أمور دولته إلى أمّه التي استبدّت بالأمر وهو ما جعل الأحوال تزاد سوءا، وتشتعل المعارضة ضده، وانتهت الأزمة بأن بايع كثير من الأمراء "رضية الدين بنت التمش"، وأجلسوها على عرش السلطنة، وكانت تتمتع بصفات طيبة من رجاحة العقل، وشجاعة النفس، وعلى حظ كبير من الذكاء، تحفظ القرآن الكريم، وتلم بالفقه الإسلامي.

وكان أبوها يسند إليها بعض المهام، حتى إنه فكّر في أن يجعلها "وليّة للعهد" دون إخوانها الذكور الذين انشغلوا باللهو والملذات، وقد تحقق ما كان يراه أبوها ولا يراه سواه ممن كانوا يعترضون عليه إيثاره لها، فما إن آلت إليها السلطنة حتى دلّت على ما تتمتع به من صفات، حتى إن مؤرخي الهند، أطلقوا عليها اسم "ملكة دوران بلقيس جهان"، أي فتنة العالم.

فترة ولاياتها

جلست "رضية الدين" على عرش سلطنة دلهي نحو أربع سنوات (634-637هـ= 1236-1369م) بذلت ما في وسعها من طاقة لتنهض بالبلاد التي خوت خزائنها من المال لإسراف أخيها، وسارت على خطا أبيها في سياسته الحكيمة العادلة، لكنها اصطدمت بكبار أمراء الملوك الذين يشكلون جماعة الأربعين، ويستأثرون بالسلطة والنفوذ، وحاولت الملكة جاهدة أن تسوسهم، وتحتال على تفريق كلمتهم، وتعقُّب المتمردين والثائرين عليها، وكانت تظهر بمظهر الرجال، وتجلس على العرش والعباءة عليها، والقلنسوة على رأسها وتقود جيشها وهي تمتطي ظهر فيلها.

ولما استقرت أحوال مملكتها انصرفت إلى تنظيم شئونها، فعينت وزيرا جديدا للبلاد، وفوضت أمر الجيش إلى واحد من أكفأ قادتها هو "سيف الدين أيبك"، ونجحت جيوشها في مهاجمة قلعة "رنتهبور" وإنقاذ المسلمين المحاصرين بها، وكان الهنود يحاصرون القلعة بعد وفاة أبيها السلطان "التمش".

غير أن هذه السياسة لم تلق ترحيبا من مماليك سلطنتها الذين أنفوا أن تحكمهم امرأة، وزاد من بغضهم لهذا الأمر أن السلطانة قرّبت إليها رجلا فارسيًا يُدعى "جمال الدين ياقوت"، كان يشغل منصب قائد الفرسان، ولم تستطع السلطانة أن تُسكت حركات التمرد التي تقوم ضدها، كما كانت تفعل في كل مرة، فاجتمع عليها المماليك وأشعلوا الثورة ضدها، وحاولت أن تقمعها بكل شجاعة، لكنها هُزمت، وانتهى الأمر بقتلها في (25 من ربيع الأول 637هـ= 25 من أكتوبر 1239م) وتولَّي أخيها السلطان "معز الدين" عرش البلاد.



منقول

عبدالغفور الخطيب
27-04-2006, 02:10 AM
مراد الرابع وطغيان الإنكشارية

(في ذكرى فتح تبريز: 28 ربيع الأول 1405 هـ)


عُرفت فرقة الإنكشارية بأنها أقوى فرق الجيش العثماني، وأعزها نفرًا، وأكثرها نفوذا، استمدت مكانتها من كون أفرادها يمتازون بالكفاءة القتالية، والشجاعة المفرطة، والثبات الراسخ، والضراوة في المعارك، حتى صار اسمهم يثير الفزع في القلوب، ويحرك مكامن الخوف، فتفزع أنفس الأعداء قبل النزال، ويتحقق النصر بالرعب قبل أن تحققه ضربات السيوف وطعنات الرماح.

وكان سلوكهم العسكري في بادئ الأمر يتسم بالطاعة والهدوء، وتنفيذ ما يوكل إليهم من مهام دون تدخل أو اعتراض، فاستفادت منهم الدولة في ساحات القتال، وأفسحت لهم الطريق إلى تقلّد أعلى الرتب وأرفع المناصب.

حتى إذا ضعفت الدولة وضاعت هيبة سلاطينها، زاد تدخلهم في شئون الدولة، ولجئوا إلى سلاح التمرد والعصيان، وإشعال الفتنة والثورات؛ حتى تستجيب لهم الدولة، وتخضع لما يطلبون، ولو كان قتل وزير أو خلع سلطان.

السلطان مراد الرابع

تولى السلطان مراد الرابع عرش الدولة العثمانية، والأخطار تحدق بها من الداخل والخارج؛ فقد بويع بالسلطنة بعد عزل عمه السلطان "مصطفى الأول" في (15 من ذي القعدة 1032هـ= 11 من سبتمبر 1623م)، وكانت فرق الإنكشارية تعبث بمصالح البلاد العليا، وتعيث في الأرض فسادًا، حتى إنهم قتلوا السلطان "عثمان الثاني" (1027 ـ 1031 هـ= 1618 - 1622م) وكان سلطانًا -على الرغم من صغر سنه- يحاول أن ينهض بالدولة، ويبث فيها روح الإصلاح، ويبعث الحياة في مؤسسات الدولة التي شاخت وهرمت، لكن الإنكشارية لم تمكنه من ذلك، واعترضت طريقه، وتدخلت فيما لا يعنيها، ولم يجد السلطان مفرًا من تقليص نفوذهم، وقمع تمردهم، ولو كان ذلك بتصفية وجودهم العسكري، لكنهم كانوا أسبق منه، فأشعلوا ثورة في عاصمة الخلافة في (رجب 1031هـ= مايو 1622م) عرفت في التاريخ بـ"الهائلة العثمانية" راح ضحيتها السلطان الشاب الذي لم يجاوز عمره الثامنة عشرة.

وبعد مقتل السلطان ولّوا السلطان "مصطفى الأول" وكان لا يملك من أمره شيئا، وصارت مقاليد البلاد في يد الإنكشارية، وعمّت أرجاء الدولة الفوضى والاضطرابات، وظلت ثمانية عشر شهرًا دون أن تجد يدًا حازمة تعيد للدولة أمنها وسلامتها.

واستمرارًا لهذا العبث قام الإنكشارية بعزل السلطان "مصطفى الأول" وولوا مكانه ابن أخيه السلطان "مراد الرابع بن أحمد الأول"، وكان حدثًا لا يتجاوز الثانية عشرة، فصارت أمه "كوسم مهبيكر" نائبة السلطنة، تقوم بالأمر دونه، لكن مقاليد الأمور كانت بيد الإنكشارية التي علا شأنها وازداد نفوذها، واطمأنت إلى أن السلطنة في يد ضعيفة.

ولاية السلطان مراد الرابع

عانت الدولة العثمانية في الفترة الأولى من ولاية مراد الرابع عدم الاستقرار واستمرار الاضطرابات والفوضى الداخلية التي تجاوزت عاصمة الخلافة إلى أطرافها؛ حيث أشهر والي طرابلس الشام استقلاله، وطرد الإنكشارية من ولايته، وفعل الشيء نفسه "أباظة باشا" والي "أرضروم"، واستولى على أنقرة وصادر إقطاعيات الإنكشارية.

وانتهزت الدولة الصفوية هذه الفوضى التي عمّت الدولة العثمانية فاستولت على بغداد، وحاولت الدولة أن تستردها، فبعثت جيشًا يقوده الصدر الأعظم "حافظ باشا" فحاصر المدينة في (1033 هـ= 1624م) وضيق عليها الخناق، ولكن دون جدوى فتذمّر الإنكشارية، وأجبروا الصدر الأعظم على رفع الحصار والعودة إلى الموصل، ومنها إلى ديار بكر، وهناك ثارت عليه الإنكشارية، فعزله السلطان حتى تهدأ الأوضاع، وعين مكانه "خليل باشا" الذي سبق أن تولى هذا المنصب قبل ذلك، لكنه لم يستمر طويلا، وخلفه "خسرو باشا" في سنة (1035هـ= 1627م).

وبعد تولّيه الصدارة اتجه إلى أرضروم، ونجح في إجبار أباظة باشا على التسليم، والدخول في طاعة الدولة، وذلك في سنة (1037هـ= 1629م) لكنه لم يفلح في استرداد بغداد، واضطر إلى رفع الحصار عنها في سنة (1039هـ= 1631م) وفي طريق العودة عزله السلطان مراد الرابع وأعاد حافظ باشا إلى منصب الصدارة مرة أخرى.

ثورة الإنكشارية

كان خسرو باشا ظلومًا باطشًا، يستند في سلطانه على جماعة الإنكشارية في إستنبول التي يوجهها كما يشاء، فلما عزله السلطان أراد أن يكيد له، فأوعز إلى رؤساء الإنكشارية أن السلطان لم يعزله إلا لوقوفه إلى جانبهم وتعاطفه معهم، فثارت الإنكشارية في العاصمة، وطالبت السلطان بإعادة خسرو باشا إلى منصبه، لكن السلطان رفض مطلبهم، فاشتعلت ثورتهم في (19 رجب 1041هـ= 10 من فبراير 1632)، وقتلوا حافظ باشا أمام السلطان الذي لم يستطع أن يبسط حمايته عليه، ويدفع عنه أذاهم.

كان السلطان يعلم أن خسرو باشا وراء هذه الثورة؛ فأمر بالقبض عليه، لكنه لم يذعن للأمر ورفض التسليم، وكانت هذه أول مرة في التاريخ العثماني يعترض وزير على أمر سلطاني، لكن القوات المكلّفة بالقبض عليه حاصرته في قصره، وقتلته في (19 من شعبان 1041 هـ= 11 من مارس 1632م) وفي اليوم الثاني أشعل الإنكشاريون ثورة هائلة أمام باب سراي السلطان؛ في محاولة لإرهاب السلطان وإفزاعه، لكنه واجه التمرد بالحزم، ورفض مطالبهم، واجتمع بالديوان والعلماء وأعلن أن الفوضى تغلغلت في كيان الدولة، وأن الجيش أصبح لا يحارب، وصار الجندي لا يؤدي واجبه لتدخله في سياسة الدولة، وهدد بأنه لن يتردد في البطش بمن لا يطيعه مهما كان ذلك الشخص.

استتباب الأمن في البلاد

انتهت فترة نيابة السلطانة "كوسم" التي دامت نحو تسع سنوات، وأصبح مراد الرابع طليق اليد في إدارة شئون الدولة، بعد أن ضرب بيد من حديد على الثائرين، وقتل كل من ثبت أن له علاقة بالفتنة، فسكنت الثورة واستقرت الأوضاع، وبدأ السلطان في اتخاذ الإجراءات التي تعيد النظام إلى الدولة؛ حتى يفرغ لاستعادة ما فقدته الدولة من أراضيها.

خرج السلطان بنفسه على رأس حملة كبيرة إلى بلاد فارس في سنة (1045 هـ= 1635م) وكان النظامُ يسود فرق الجيوش البالغة نحو 200 ألف جندي، فأعاد الانضباط، وما كانت عليه الجيوش العثمانية في أيام سليمان القانوني من ضبط ونظام. واستهل الجيش انتصاراته بفتح مدينة "أريوان" في الشمال الغربي من إيران في (25 من صفر 1045 هـ= 10 من أغسطس 1635م) ثم قصد مدينة "تبريز" ففتحها في (28 من ربيع الأول 1045هـ= 10 من سبتمبر 1635م)، ولم يواصل الجيش فتوحاته في إيران؛ إذ عاد السلطان إلى بلاده طلبًا للراحة.

وما كاد السلطان يستقر في إستنبول حتى عاود الصفويون القتال، فاستردوا "أريوان" بقيادة الشاه "صافي" بعد حصار لها دام ثلاثة أشهر، واستعادوا مدينة "تبريز" مع أجزاء كبيرة من أذربيجان.

استنفرت هذه الأخبار حماس السلطان الشاب، فخرج في جيش كبير أحسن إعداده، واتجه إلى بغداد، وشرع في حصارها في (8 من رجب 1048 هـ= 15 من نوفمبر 1638م) وكان في المدينة المحاصرة حامية كبيرة تبلغ 40000 جندي، ولم يستطع الشاه الإيراني الاقتراب من الجيش العثماني، واعتمد على قوة جيشه المرابط في المدينة، وأبراج قلعتها الحصينة، لكن ذلك لم يغن عنها شيئا، فسقطت المدينة بعد حصار دام تسعة وثلاثين يومًا، في (18 من شعبان 1048 هـ= 25 من ديسمبر 1638م)، وعادت المدينة إلى الدولة العثمانية بعد أن بقيت في يدي الصفويين خمسة عشر عامًا.

بعد ذلك رغب الشاه الصفوي في الصلح، وعرض على الدولة أن يترك لها مدينة بغداد مقابل أن تترك له مدينة "أريوان"، ودارت المفاوضات بينهما نحو عشرة أشهر، انتهت بعقد الصلح بينهما في (21 من جمادى الأولى 1049هـ= 19 من سبتمبر 1639م).

وفاة السلطان مراد الرابع

وبعد ثمانية أشهر من عودة السلطان مراد الرابع من حملته المظفرة توفي في (16 من شوال 1049 هـ= 8 من فبراير 1640م) وكانت سنه قد تجاوزت السابعة والعشرين بستة أشهر، ولم يترك ولدًا.

ويُعدّ السلطان مراد الرابع من كبار سلاطين الدولة العثمانية، نجح في إعادة النظام إلى الدولة، وأعاد الانضباط إلى الجيش، وأنعش خزانة الدولة التي أُنهكت نتيجة القلاقل والاضطرابات، ومدّ في عمر الدولة نحو نصف قرن من الزمان وهي مرهوبة الجانب، قبل أن تتناوشها أوروبا بحروبها المتصلة.

يؤخذ عليه أنه في سبيل ذلك استعان بوسائل استبدادية، حتى قيل إنه قتل عشرين ألفا في سبيل تأمين النظام في الدولة.


منقول

عبدالغفور الخطيب
28-04-2006, 02:46 AM
دمشق بوابة صلاح الدين إلى الوحدة

(في ذكرى دخول صلاح الدين دمشق: 29 ربيع الأول 570هـ)


مرّت الأمة العربية والإسلامية بمرحلة شديدة من الضعف والانقسام قبيل ظهور "صلاح الدين الأيوبي" على مسرح الأحداث، وأصبح العرب والمسلمون مطمعًا لدول أوروبا، وصارت بلاد المسلمين نهبًا للصليبيين المتربصين بالأمة الإسلامية، فقد كانت الخلافة العباسية تؤذن بالزوال، وأصبح الخليفة العباسي بلا أي سلطان، بل لقد صار هو نفسه تحت وصاية القادة الأتراك الذين ازداد نفوذهم وأصبحت لهم السطوة والسلطة في الخلافة، وصارت وظيفة إمرة الأمراء يفوق سلطانها سلطان الخلافة، حتى أطلق المؤرخون على الخلفاء العباسيين في ذلك الوقت المستضعفين.

ظهور أسرة الأيوبيين

وفي ظل تلك الأجواء المشحونة بالتفكك والتخاذل ظهرت أسرة صلاح الدين، تلك الأسرة الكردية التي أسلمت منذ وقت مبكر، وكان لها من البأس والقوة ما مكّنها من السيطرة على عامة أرض فارس في عهد الدولة الأموية.

واشتدت قوتهم وازداد نفوذهم مع ضعف الخلافة العباسية، إلا أن ظهور السلاجقة في العراق قضى على تلك الدويلات الصغيرة التي أنشأها الأكراد، خاصة في الأجزاء الغربية من جبال إيران.

وتذكر المصادر التاريخية أن "شادي" جد صلاح الدين هاجر مع أسرته من أذربيجان إلى العراق التي كان يسيطر عليها السلاجقة، واستطاع أن يتصل ببعض رجال الدولة السلجوقية، وكان متميزا بالجرأة والشجاعة وشخصيته القوية فمنحوه حكم قلعة "تكريت"، فلما تُوفي شادي ورثه ابنه الأكبر "أيوب"، وأصبح حاكما عليها، وكان يعاونه أخوه الأصغر "شيركوه".

وفي تلك القلعة وُلِد "صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي" في سنة (532هـ=1137م).

في بلاط الأتابكة

واضطر أبناء شادي إلى ترك القلعة واللجوء إلى الأتابكة في الموصل فرارا من السلاجقة بعد أن قتل شيركوه قائدا سلجوقيا كاد يبطش بامرأة هناك، ولقي الأخوان أيوب وشيركوه الحفاوة والتكريم من "عماد الدين زنكي" حاكم الموصل الذي ألحقهما بالعمل معه، وجعل أيوب أميرًا على "بعلبك"، فلما قتل "عماد الدين" على يد غلمانه سنة (541هـ=1146م) ظل الأخوان إلى جانب ابنيه "نور الدين محمود" و"غازي"؛ فاتسع نفوذهما وقوى سلطانهما.

دمشق في حياة صلاح الدين

لعلَّ أولى ذكريات دمشق في وعي صلاح الدين ووجدانه ترجع إلى فترة مبكرة من صباه، وهو غلام صغير لم يتجاوز الحادية العشرة، عندما غزا الصليبيون دمشق في حملتهم الثانية إلى المشرق وحاصروها في (ربيع الأول 543هـ=يونيو 1148م)، فتصدى لهم أبوه "أيوب" مع "معين الدين أنر" حاكم دمشق ـ استمات أهل دمشق في الدفاع عنها في ملحمة بطولية رائعة حتى اضطر الصليبيون في النهاية إلى قبول العرض الذي طرحه "أنر" عليهم بتسليمهم حصن "بانياس" مقابل رفع الحصار عن دمشق، خاصة بعدما علموا بخروج الأميرين الزنكيين نور الدين وأخيه غازي لنجدة أنر، ولكن خروج الصليبيين من دمشق على هذا النحو بعد مصالحة "أنر" لهم دفع نور الدين إلى أن يفكر جديا في الاستيلاء عليها وضمها إلى أملاكه، وقوي هذا العزم في نفس نور الدين بعد أن توفي أخوه غازي وأصبحت مقاليد الأمور كلها في يده.

وقد ساهم الأخوان أيوب وشيركوه بقدر كبير في تحقيق أمنية نور الدين، فلما آلت إليه دمشق سنة 549هـ=1154م نقل إليها مركز حكمه، وعيّن أيوب حاكما عليها وجعل شيركوه نائبا عنه، واتخذ صلاح الدين رئيسا للشرطة، وكان في السابعة عشرة من عمره.

نور الدين والفاطميون

واتسعت دولة "نور الدين" لتمتد من حلب إلى دمشق، وكان لجهود الأخوين "أيوب" و"شيركوه" أكبر الأثر في توطيد أركان تلك الدولة الفتية، وفي الوقت الذي كان نجم دولة "نور الدين" في الشام آخذا في الصعود كانت أوضاع دولة الفاطميين في مصر في تدهور مستمر، خاصة بعدما تفاقم الصراع بين كل من "شاور" و"ضرغام" على الوزارة، والذي انتهى بانتصار "ضرغام" وطرد "شاور" من مصر سنة (558هـ=1163م).

ولجأ "شاور" بعد هزيمته إلى "نور الدين" في الشام فاستنجد به، وأطمعه في مصر، ووعده بثلث خراجها، وتعهد أن يكون تابعًا مخلصًا له.

فأرسل "نور الدين" حملة عسكرية كبيرة جعل على رأسها "شيركوه"، وخرج معه ابن أخيه "صلاح الدين" ـ وكان في الخامسة والعشرين من عمره ـ حتى دخلوا القاهرة، وألحقوا بضرغام وجنوده هزيمة منكرة، وقُتل مع من بقي من أتباعه.

ولكن "شارو" ما لبث أن نكث بعهوده، وأظهر الغدر، بعد أن استعاد الوزارة، واستعان بالصليبيين لمحاربة "شيركوه" و"صلاح الدين".

واستمر الصراع بين الجانبين عدة سنوات حتى استطاع "شيركوه" ومعه "صلاح الدين" دخول "مصر" في (ربيع الأول 564 هـ-ديسمبر 1168م)، وأراد "شاور" تدبير مؤامرة للخلاص من "شيركوه" ومن معه، وإخراج جيشه من مصر، ولكن شيركوه أسرع بالقبض عليه، فأمر الخليفة الفاطمي "العاضد" بإعدامه، فأعدم في (17 من ربيع الآخر 564هـ=19 من يناير 1169م)، وبموته استقرت الأمور في البلاد، وتقلّد شيركوه الوزارة إلا أنه تُوفي بعد نحو شهرين من تقلده الوزارة، فخلفه عليها صلاح الدين وكان عمره (31) عامًا.

صلاح الدين وزيرًا

وكان الخليفة الفاطمي يظن أن "صلاح الدين" سيكون أداة طيعة في يده لصغر سنه، ولكن الوزير الشاب خيب ظنَّ الخليفة، وعمل منذ الوهلة الأولى على استمالة قلوب الناس إليه، وأنفق في سبيل ذلك أموالاً طائلة، حتى سيطر سيطرة تامة على الجند، واستطاع القضاء على الجنود السودان الذين كان الخليفة الفاطمي يعتمد عليهم.

وما لبث الخليفة "العاضد" أن تُوفي في (المحرم 567هـ= سبتمبر 1171م)، فانتهت بوفاته الدولة الفاطمية، وقضى صلاح الدين على كل أثر لها في مصر.

بداية الوحدة الإسلامية


كان الخطر الصليبي لا يزال يحدق بالأمة العربية والإسلامية، وأدرك "صلاح الدين" أنه لا مجال لصد ذلك الغزو الصليبي إلا بالوحدة الإسلامية، ولمِّ شتات الإمارات المختلفة تحت لواء واحد قوي.

وقد لاحت له الفرصة حينما علم بوجود بعض القلاقل والاضطرابات في الشام، فاستخلف أخاه "العادل" على مصر، واتجه على رأس جيشه إلى الشام فدخل دمشق في (آخر ربيع الأول 572 هـ = 29 من أكتوبر 1174).

وبدخول صلاح الدين مدينة دمشق بدأت أولى خطواته نحو تحقيق الوحدة الإسلامية الكبرى التي عاش يحلم بها، وتمكن ـ بعد ذلك ـ من الاستيلاء على عدة مدن من أهمها "حمص"، و"حماة"، و"حلب"، واستطاع أن يحقق الأمن والاستقرار للبلاد، وأحسن تدبير أمور الدولة، حتى أصبحت بلاد الشام التي فتحها خاضعة له، واستطاع "صلاح الدين" أن يحظى باعتراف الخليفة العباسي "المستضيء" بسيادته على مصر والشام واليمن.

وعاد "صلاح الدين" إلى مصر، ليبدأ التخطيط والإعداد للقضاء على النفوذ الصليبي في المشرق، بعد أن حقق حلمه بقيام الواحدة الإسلامية الكبرى بين مصر والشام، والذي توجّه ـ بعد ذلك ـ بانتصاره الساحق على الصليبيين في حطين.


منقول

عبدالغفور الخطيب
29-04-2006, 04:35 AM
الماوردي.. منظرا سياسيا

(في ذكرى وفاته: 30 من ربيع الأول سنة 450هـ)


ساءت الأحوال بالخلافة العباسية في أخريات أيامها بعدما ضعف الخلفاء واستبد بهم وبأمر الحكم المماليك والوزراء، ولم يجد حكام الأقاليم غضاضة في أن يستقلوا عن هذا الخليفة كليا، أو أن يبقوا على رابطة الاسم فقط بينهم وبين تلك الخلافة الضعيفة.

في هذا الجو نشأ الماوردي، معاصرا خليفتين من أطول الخلفاء بقاء في الحكم: الخليفة العباسي القادر بالله، ومن بعده ابنه القائم بأمر الله الذي وصل الضعف به مبلغه حتى إنه قد خُطب في عهده للخليفة الفاطمي على منابر بغداد.

المولد والنشأة

ولد "علي بن محمد البصري الماوردي" في البصرة عام 364 هجرية، لأب يعمل ببيع ماء الورد فنسب إليه فقيل "الماوردي". ارتحل به أبوه إلى بغداد، وبها سمع الحديث، ثم لازم واستمع إلى أبي حامد الإسفراييني.

ولما تشرب وتضلّع من العلم تصدّى للتدريس، مرة ببغداد وأخـرى بالـبـصرة. ثم استقر به المقام ببغداد، فدرّس الحديث وتفسير القرآن، وألف بها كتبه. وفي سنة 429هـ تلقب بأقضى القضاة، وكانت مرتبته أدنى من قاضي القضاة، ثم بعد ذلك تولى منصب قاضي القضاة.

كان الماوردي ديّنا، وله علاقة طيبة مع الخليفة العباسي ورجال الدولة في زمانه. وكان الخليفة يثق به، ويجعله سفيراً ووسيطا بينه وبين بني بويه، وبينه وبين حكام دولة السلاجقة.

ولقد كان لقربه واتصاله برجال السلطة -فضلا عن ثقافته العالية- أكبر الأثر في اتجاهه للكتابة فيما يسمى الآن "الفقه السياسي".

ومن كتبه في هذا المجال: أدب الدنيا والدين، الأحكام السلطانية، قانون الوزارة. ومن كتبه الأخرى: سياسة أعلام النبوة، الحاوي في الفقه، تفسير القرآن "النكت والعيون"، كتاب الأمثال، معرفة الفضائل... وغيرها.

نهجه في التفسير

يعد تفسير الماوردي "النكت والعيون" من أوجز التفاسير التي عنيت باللغة والأدب، ونقل فيه الآراء التفسيرية السابقة له، ولم يقتصر على نقلها بل نقدها. والتفسير يندرج تحت مدرسة التفسير بالرأي؛ حيث أعمل الماوردي جهده ورأيه في شرح وتفسير الآيات، نافيا أن يكون فعله مما يعدّ تفسيرا بالهوى والرأي المنهي عنه.

وفي هذا يقول: "تمسك بعض المتورعة ممن قلّت في العلم طبقته، وضعفت فيه خبرته، واستعمل هذا الحديث على ظـاهره، وامتنع أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده عند وضوح شواهده، إلا أن يرد بها نقل صحيح، ويدل عليها نص صريح.. وهذا عدول عما تعبد اللّه تعالى به خلقه في خطابهم بلسان عربي مبين، قد نبه على معانيه ما صرّح من اللغز والتعمية التي لا يوقف عليها إلا بالمواضعة إلى كلام حـكـيم أبان عن مراده، وقطع أعذار عباده، وجعل لهم سبلا إلى استنباط أحكامه، كما قال تعالى: لعلمه الذين يستنبطونه منهم. ولو كان ما قالوه صحيحا لكان كلام اللّه غير مفهوم، ومـراده بـخـطابه غير معلوم، ولصار كاللغز المعمّى، فبطل الاحتجاج به، وكان ورود النص على تأويله مغنيا عن الاحتجاج بتنزيله.. وأعوذ باللّه من قول في القرآن يؤدي إلى التوقف عنه".

وقد نال تفسيره هذا عناية المفسرين المتأخرين عنه ونقلوا عنه، كابن الجوزي في "زاد المسير"، والقرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن".

ملامح كتبه "السياسية"


من أهم كتب الماوردي كتاب "أدب الدنيا والدين" الذي تناول فيه موضوعات أخلاقية ووعظية وإرشادية وفضائل دينية تناولا عمليا لا نظريا.

والكتاب يشتمل على ملاحظات قيمة وأفكار وخطط وبرامج إصلاحية خلقيا واجتماعيا وسياسيا وتعليميا، سواء كان ذلك للفرد أم المجتمع.

وهو في تناوله لهذه الموضوعات لا يفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي ولم يكن هذه بالأساس في ذهنه؛ حيث ذكر أن ما يستقيم به الدين تستقيم به الدنيا، وما يكون به صلاح الآخرة يكون به صلاح الأولى؛ ففي الكتاب مثلا إشارة إلى ما يسوق الناس إلى الكد والبحث عن الغنى، ويوضح الماوردي من خلال ذلك أن المسلم لا يبحث عن المال لذاته ولكن لأنه وسيلة تساعده في دنياه وتزيده حسنات في أخراه.

وقد تناول الكاتب هذه الموضوعات تناولا عقليا مازجا بين النقل والعقل، محاولا بكتابته وأسلوبه القرب من حياة الشريحة العظمى من الناس.

الأحكام السلطانية

جمع الماوردي ما سبقه من إشارات وتلميحات في مسائل الفقه السياسي في هذا الكتاب. والكتاب ليس مجرد تتبع لهذه الإشارات والتلميحات، بل إن صاحبه ينطلق من هذه الإشارات مؤسسا لنفسه إطارا فكريا سياسيا، مستندا في ذلك إلى المقارنة بين حجج وأدلة سابقيه، محاولا أن يكون عمليا في كتابه لتسير عليه السلطة التنفيذية.

يبدأ الكتاب بتعريف الإمامة وشروط تقلدها، وكيفية انعقادها، وتوضيح العلاقة بين الدولة والإمامة، والعلاقة بينها وبين الشعب، مع توضيح ما يؤدي إلى عزل الإمام.

وبعد ذلك يتطرق الماوردي في كتابه إلى الوزارة والإمارة، مبينا المهام التي تُسأل عنها أجهزة الدولة سواء المالية أو العسكرية أو القضائية.

ولم يكن تأليف الماوردي للكتاب تأطيرا لما هو موجود من نظم بقدر ما سعى إلى أن يؤطر من خلال وجهة النظر الإسلامية، مستندا في ذلك إلى النصوص التي ساقها من القرآن والسنة.

قوانين الوزارة

ومن كتب الماوردي السياسية أيضا كتاب "قوانين الوزارة"، وفيه تناول كل ما يخص الوزارة، ابتداء من تعريفها وأنواعها، إلى مؤهلات الوزراء وعلاقتهم ببعضهم وبمن يرأسهم. وأشار في هذا الكتاب إلى أن أهم أهداف الوزراء هي تحقيق الأمن العام، والنماء والخصب الدائم، وسيادة العدل.

لقد عاش الماوردي حياة ملؤها العلم والتعليم. عاش منظرا للساسة ومرشدا للتلاميذ في حلقات العلم، وحاول جاهدا أن تكون علاقته بالساسة نابعة مما دعا إليه في كتبه، ولذلك أجلّه الساسة وأكرموه، حتى وافته منيته ببغداد عن عمر يناهز 86 عاما.


منقول

عبدالغفور الخطيب
01-05-2006, 02:04 AM
عبد الرحمن الثاني والعصر الذهبي للأمويين في الأندلس

(في ذكرى وفاته: 3 ربيع الآخر 238هـ)


شهدت الخلافة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمن الثاني ازدهارا كبيرا لم تشهده من قبل، وعاشت قرطبة أزهى عصورها في ظل الخليفة الأموي الشاب الذي أحب حياة الأبّهة والثراء، وعشق العلوم والفنون والآداب، واهتم كثيرا بنواحي العمران والزراعة، وكان له دور بارز في إنشاء أول أسطول حربي كبير في الأندلس.

ميلاد عبد الرحمن الثاني ونشأته

ولد عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام الأموي بطليطلة سنة (176هـ=792م).

وكان منذ حداثة سنه شغوفا بالعلم، فدرس الأدب والحديث والفقه، وعُرف منذ حداثة سنه بالذكاء والنبوغ، وكان يتسم بشخصية قوية وعقل راجح، وفكر مستنير، وخلق حسن، وميل إلى الهدوء في حزم وقوة، وكان أديبا وشاعرا، خبيرا بشئون الحرب والسياسة، وهو ما جعله موضع ثقة أبيه، فكان يرسله في المهام العظيمة، ويندبه للأمور الجليلة، ويوليه قيادة الجند في حرب الفرنج.

الخليفة والرعية

وعندما توفي الحكم بن هشام في (27 من ذي الحجة 206هـ=14 من مايو 822م) خلفه ابنه عبد الرحمن على الملك، وهو في نحو الثلاثين من عمره، وقبل أن يتسلم الخليفة الشاب مقاليد الحكم فوجئ بخروج عم أبيه "عبد الله البلنسي" إليه لينتزع الملك منه، فتجهز له عبد الرحمن واستعد لمواجهته، وعندما بلغ ذلك عبد الله خاف وضعفت عزيمته، وانسحب إلى بلنسية ثم ما لبث أن مات، فخلصت الإمارة لعبد الرحمن.

واتجه عبد الرحمن منذ اللحظة الأولى لتوليه الخلافة إلى محاولة مد جسور الثقة بينه وبين الرعية، والعمل على إزالة الآثار المؤلمة التي تركها أبوه في نفوس الناس بعد المذابح الذي تمت في عهده.

وكان عبد الرحمن مؤهلا بطبعه الهادئ ولين جانبه لاكتساب ثقة الناس فيه، والتفاهم حوله، واستعادة شعورهم الضائع بالأمان.

واستطاع عبد الرحمن أن يكتسب حب الناس له وثقتهم فيه بحكمته وذكائه في معالجة الأمور؛ فقد تغاضى عن كثير من الأخطاء، وأبدى قدرا كبيرا من السماحة واللين، وكان بعيدا عن الغدر والقسوة، لا يتسرع في اتخاذ القرار، ولا يلجأ إلى الشدة إلا بمقدار ما تقتضي الحاجة.

في مواجهة الفتن والتهديدات

لم تكن الفتن الداخلية التي تواجه عبد الرحمن تؤثر فيه كثيرا، ولم تكن مصدر قلق أو إزعاج حقيقي بالنسبة له، ومن ثم فلم يكن يتعجل إخمادها والقضاء عليها، وفي الوقت نفسه لم يكن يهملها حتى تزداد خطرا ويستفحل أمرها، وإنما كان يراقب تلك الفتنة والقلاقل وينتظر حتى تهدأ فيتمكن من إخمادها والقضاء عليها بأقل مجهود، كما فعل مع فتنة المضريين واليمنيين، والتي استمرت نحو سبع سنوات.

وكان عبد الرحمن شديد الاهتمام بتأمين حدود البلاد الشمالية، بعد أن تزايد عدوان الفرنجة عليها، فأرسل حملة عسكرية كبيرة بقيادة "عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث" سنة (208هـ=823م) وقد نجحت تلك الحملة في إلحاق الهزيمة بالنصارى المتربصين، وألحقت بهم خسائر كبيرة بعد أن أحرقت حصونهم، وقتلت منهم عددا كبيرا، وعادت الحملة إلى قرطبة محمّلة بالغنائم، وهي تسوق الأسرى والأسلاب.

وكان لهذه الحملة أثرها الكبير في ردع الفرنج، واستشعارهم قوة المسلمين، ووقوع هيبتهم في قلوب ملوك الفرنج.

القضاء على فتنة ماردة

وما لبثت البلاد أن تعرضت لعدد من الفتن والثورات والقلاقل الداخلية التي شملت ماردة وطليطلة ومدنًا أخرى.

وكانت فتنة ماردة من أكبر تلك الفتن وأشدها خطرا؛ فقد دامت سنوات عديدة، واستنفدت الكثير من الجهد والمال والدماء لإخمادها والقضاء عليها، وترجع بداية تلك الفتنة إلى عام (213هـ=828م) حينما ثار أهل ماردة على واليهم فقتلوه؛ فأرسل إليهم عبد الرحمن جيشا فحاصرها حتى أعلنوا طاعتهم له وأظهروا الطاعة والولاء، وأعطوا له الرهائن من أهلها، فعاد الجيش أدراجه بعد أن هدم أسوار المدينة، وأمر عبد الرحمن بإلقاء حجارة السور في النهر، حتى لا يعيد أهل ماردة بناء السور مرة أخرى.

ولكنهم سرعان ما عادوا إلى العصيان، وأسرو عامل عبد الرحمن عليهم، وجددوا بناء السور مرة أخرى؛ فسار إليهم بعد الرحمن في جيش كبير وجعل معه رهائن أهل ماردة، فلما حاصرهم أرسلوا إليه فبادلوا رهائنهم بالعامل الذي أسروه ومن كانوا معه.

وطال حصار عبد الرحمن لهم دون أن يتمكن من فتحها، فرجع بجيوشه، ثم أرسل إليهم جيشا آخر بعد ذلك عام (218هـ=833م) ففتحها.

عدوان النورمان على الأندلس

وظل عبد الرحمن يواصل الجهاد ضد الفرنج، فكان يرسل الجيوش إلى الشمال فتشتبك مع الفرنج في أطراف الثغر الأعلى، واستطاع في سنة (228هـ=842م) أن يلحق الهزيمة بملك بلاد البشكنس حتى اضطره إلى طلب الأمان، وكان عبد الرحمن يسعى من وراء تلك الحروب إلى تأمين بلاده، وفرض هيبته وقوته على البشكنس؛ حتى لا يفكروا في مهاجمة بلاده مرة أخرى.

وابتداء من سنة (229هـ=843م) تعرضت الشواطئ الغربية للأندلس لغارات النورمان، وهم أهل الشمال من سكان "إسكنديناوة" و"دانيماركة" الذين كانوا في أوج قوتهم، فكانوا يغيرون على شواطئ أوروبا الغربية بأساطيل من سفن صغيرة ذات أشرعة سوداء، وكانت تدخل مصبات الأنهار وترسو داخل البلاد، وتغير على المدن، فتعمل فيها نهبًا وتخريبًا ثم تحرقها قبل أن تولّي هاربة.

وكان أول ظهورها قرب شواطئ "أشبونة" فكتب واليها "وهب الله بن حزم" إلى عبد الرحمن يخبره بذلك فأرسل إلى عماله يطلب منهم الاستعداد واليقظة.

وتقدم أسطول النورمان فأغار على "قادس"، وتقدمت قواتهم داخل البلاد، ونهبوا وأحرقوا الكثير من ديارها، كما أحرقوا المسجد الجامع، فتصدى لهم عبد الرحمن بجيوشه في عدة معارك عنيفة، حتى استطاع المسلمون أن يوقعوا بالنورمان هزيمة كبيرة عند طليطلة شمال إشبيلية سنة (230هـ=844م).

إنشاء الأسطول الإسلامي

كان من نتيجة العدوان النورماني على المسلمين، وعدم وجود قوة حربية بحرية للمسلمين للتصدي لهم ومواجهتهم، والرد على عدوانهم؛ أن تنبّه عبد الرحمن إلى أهمية إنشاء أسطول بحري للمسلمين.

بدأ عبد الرحمن خطوات سريعة نحو إنشاء دور لصناعة السفن، واتخاذ عدد من القواعد البحرية الإسلامية، ولم تكد تمضي عدة سنوات حتى كان للأندلس أسطولان قويان: أحدهما يعمل في المحيط الأطلسي ومركزه أشبونة، والثاني في البحر المتوسط وقاعدته مالقة.

ومع انتصاف القرن التاسع الميلادي بدأت الأندلس تظهر كقوة بحرية كبرى في المنطقة، وكانت أولى ثمار إنشاء ذلك الأسطول فتح جزر البليار الكبرى الثلاث: ميورقة، ومنورقة، ويابسة التي ضُمّت إلى الأندلس، وأصبحت منذ عام (235هـ=849م) ولاية أندلسية تُعرف باسم ولاية الجزائر الشرقية.

فتنة الرهبان المسيحيين

وفي نهاية عهد عبد الرحمن الثاني ظهرت فتنة كبرى، أثارها نفر من الرهبان المتعصبين، الذين أثارهم الحقد وأعماهم التعصب، فراحوا يسخرون من الإسلام، ويستهزئون به ويجاهرون بالعداوة له، وإهانة مقدساته علنًا أمام الناس، فكان رجال الشرطة يقبضون عليهم ويقتادونهم إلى القضاة الذين يحاولون استتابتهم دون جدوى، فيحكمون عليهم بالإعدام، وكان هذا ما يسعى إليه هؤلاء حتى يثيروا عواطف الناس، ويصيروا في صورة الشهداء، وكثر خروجهم على هذا النحو منذ سنة (237هـ=851م).

وقد أظهر عبد الرحمن الثاني من الحكمة والروية وبُعد النظر في الأمور ما مكّنه من معالجة تلك المشكلة بقدر كبير من الصبر والأناة وحسن التصرف، فطلب من زعماء النصارى أن يعقدوا مجمعًا دينيًا في قرطبة للنظر في أمر هذه المحنة بالحكمة والعقل.

وبالفعل انعقد المجمع، وأصدر قرارا يستنكر فيه هذه الحركة الحمقاء، وما لبثت الأمور أن هدأت، وعاد الوئام بين المسلمين والنصارى.

حضارة وعمران مع عبد الرحمن

وبعد ذلك بنحو عام توفي "عبد الرحمن الثاني" في (3 من ربيع الآخر 238هـ=23 من سبتمبر 852م) بعد حكم دام إحدى وثلاثين سنة.

وكانت تلك الفترة تعد من أزهى فترات التاريخ الأندلسي التي اتسمت بالعديد من مظاهر العمران والتحضر، وتمتعت البلاد خلالها بالرفاهية والرخاء؛ فقد اهتم عبد الرحمن بالنواحي الحضارية والعمرانية، وكان له اهتمام خاص بالمنشآت والمباني، فبنى مسجد إشبيلية الجامع، وزاد في مسجد قرطبة قدر بهوين من ناحية القبلة، ونقل المحراب إلى الجزء الجديد، وأقام أقواسا فوق الأعمدة الأصلية، فكانت الأقواس المزدوجة من روائع العمارة الإسلامية، وكان صحن المسجد مكشوفا، تُزرع فيه أشجار النارنج، حتى يتنسم المصلون في المسجد رائحته الطيبة، ولا يزال المسجد قائما حتى اليوم بكل عقوده وأروقته، ومحاريبه، ولكن لحقت به يد التعصّب فحولته إلى كاتدرائية في القرن السادس عشر الميلادي.

كما ظهر في هذه الفترة عدد كبير من العلماء والفقهاء والأدباء، والمبدعين، ومن أبرزهم: عباس بن فرناس الفيلسوف والرياضي والشاعر المعروف وصاحب أول محاولة للطيران، ويحيى بن يحيى الليثي الفقيه والقاضي الشهير، وزرياب الموسيقي المعروف الذي ابتكر طريقة لكتابة الموسيقى، ويحيى بن حكم الجياني المعروف بالغزال الشاعر الفيلسوف.

منقول

عبدالغفور الخطيب
04-05-2006, 02:04 AM
عماد الدين زنكي.. خدم الإسلام وقتلته الباطنية

(في ذكرى استشهاده: 6 ربيع الآخر 540هـ)


في خضم الاجتياح الصليبي للمشرق الإسلامي كان المسلمون يتطلعون إلى قائد قوي وزعيم مخلص يلم شعثهم، ويجمع شتاتهم، ويوحد جهودهم، ويسير بهم نحو غايتهم المنشودة وهدفهم الأسمى في طريق الجهاد والتحرير.

فإن الأرض التي أنبتت أولئك الأبطال العظام الذين قادوا حركة التاريخ، ورفعوا لواء الإسلام، وتقدموا بالمسلمين نحو الأمجاد والبطولات، لم تجدب عن أن تقدم جيلاً من القادة الأمجاد، يستكملون مسيرة الآباء، ويعيدون مجد الأجداد.

ولم تعقم الأرحام التي أنجبت رهبان الليل وفرسان النهار أن تنجب جيلاً من الأبناء والأحفاد، الذين توارثوا مجد الآباء وشرف الأجداد.

وفي ليل اليأس المطبق وظلام الانكسار الموجع والاستسلام المهين، لاحت بارقة أمل في العيون، ما لبثت أن صارت شعاعًا توهج ليضيء الطريق، فانتبهت النفوس من غفوتها، وأفاقت القلوب من حسرتها، وتلاقت الهمم وتوحدت السواعد، والتف الجميع حول ذلك البطل المرتقب الذي جاء ليحقق الحلم، ويجدد الأمل، ويمحو شبح الهزيمة، ويعيد العزة والكرامة إلى ملايين المسلمين، ليس في عصره فقط، وإنما لجميع المسلمين عبر العصور والأزمان.

وكان ذلك البطل هو "عماد الدين زنكي".

أسرة عماد الدين

وُلد "عماد الدين زنكي بن آق سنقر بن عبد الله آل ترغان" نحو سنة [477هـ = 1084م] في أسرة تنتمي إلى قبائل "الساب يو" التركمانية، وكان والده "آق سنقر" مملوكًا للسلطان السلجوقي "ملكشاه"، وكان مقربًا إليه، ذا حظوة ومكانة لديه، وقد اعتمد عليه في كثير من الأمور فلم يخذله قط، وهو ما جعله ينال ثقته ورضاه، وزاد من منزلته عنده، ورفع من قدره لديه.

واشترك "آق سنقر" في كثير من معارك السلاجقة؛ فولاه السلطان "ملكشاه" ولاية "حلب"، واستطاع "آق سنقر" – خلال تلك الفترة - أن ينشر الأمن في البلاد، ويوقف أعمال السلب والنهب التي انتشرت في ذلك الوقت، وألحقت ضررًا بالغًا بالزراعة والتجارة، بعد أن تصدى لنشاط قطاع الطرق واللصوص، وكتب إلى عماله يأمرهم بتتبع المفسدين وتوفير الأمن والحماية للمسافرين.

وكانت العلاقة بين السلطان "ملكشاه" وبين "آق سنقر" تقوم على التفاهم المشترك والتقدير المتبادل بينهما.

فلما توفى "ملكشاه" عام [485هـ = 1096م]، تولى الحكم من بعده ابنه "بريكا روق"، فثار عليه عمه "تاج الدين تتش"، وتصدى له "آق سنقر" بجيوشه، ولكن "تتش" تمكن من هزيمة قواته في [جمادي الأولى 487هـ = مايو 1094م] وأسره، وما لبث أن قتله.

وهكذا بذل "آق سنقر" حياته وفاءً لسلطانه "ملكشاه"، وحفاظًا على ولده "بركيا روق" من بعده.

تضحية ووفاء

ولم ينس السلطان الجديد تضحية "آق سنقر" في سبيل عرشه ووفاءه له، فوجه جل اهتمامه وعنايته نحو ابنه الوحيد "عماد الدين زنكي" الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره.

وأقام "عماد الدين" في "حلب" في رعاية مماليك أبيه، ثم ما لبث أن انتقل عام [489هـ = 1096م] إلى "الموصل" ليحظى برعاية القائد السلجوقي "كربوقا"، فظل ملازمًا له حتى تُوفِّي سنة [495هـ = 1101م]، فخلفه عليها "شمس الدين جكرمش" الذي قرّ به وأحبه واتخذه ولدًا، وظل "عماد الدين" ملازمًا له حتى تُوفِّي سنة [500هـ = 1106م]، فتولى "الموصل" من بعده "جاولي سقاو"، وتوطدت علاقة "عماد الدين" بالوالي الجديد، حتى خرج ذلك الوالي على السلطان، فانفصل "عماد الدين" عنه، وانضم إلى الوالي الجديد "مودودو به التونتكين" الذي عينه السلطان على الموصل، وكان ذلك مدعاة إلى إكبار السلطان له، وثقته فيه، وزيادة حظوته ومكانته عنده.

بطل وبطولات

واشترك "عماد الدين" مع "مودود" في معاركه الكثيرة التي خاضها ضد الصليبيين في "الشام" و"الجزيرة"، وقد لفت إليه الأنظار بشجاعته الفائقة ومهارته القتالية العالية.

وعندما تولى السلطان السلجوقي "محمود" - بعد وفاة السلطان "محمد" سنة [511هـ = 1117م) - حدثت عدة محاولات للثورة ضده، ولكن "عماد الدين" ظل على ولائه للسلطان، فاستطاع أن يحظى بثقته فيه وتقديره له، كما أثبت جدارته في ولايته الجديدة بواسط، وتمكن من صد هجمات الأعراب الدائمة عليها، ونشر الأمن في ربوعها.

ومع مطلع عام [517هـ = 1123م] استطاع السلاجقة – بفضل الخطة البارعة التي اتبعها "عماد الدين" – أن يلحقوا هزيمة ساحقة بجيوش "دبيس" الخارج على الخليفة العباسي، وخلّصوا الخلافة من خطر محقق كاد يعصف بها، فانضم "دبيس" إلى الصليبيين بعد هزيمته، وساهم معهم في حصار "حلب" طمعًا في الاستيلاء عليها.

الهروب إلى تكريت

وعندما تدهورت العلاقات بين الخليفة العباسي المسترشد والسلطان السلجوقي "محمود" في عام [519هـ = 1125م] كان لعماد الدين دور كبير في إنهاء الصراع بينهما، وتجاوز الأزمة بأمان قبل أن يتفاقم الموقف، وتحدث مواجهة وخيمة العواقب بين الطرفين.

وعندما تُوفّي السلطان "محمود" في منتصف عام [525هـ = 1131م] أراد السلطان "مسعود بن محمد" – حاكم "أذربيجان" – الاستيلاء على عرش السلاجقة في العراق، واستطاع استمالة "عماد الدين" لمساعدته في المطالبة به، ولكن أخاه "سلجوقشاه" الطامح أيضًا في العرش سبقه إلى الخليفة العباسي ليحظى بموافقته، ودارت معركة بين الطرفين انتهت بهزيمة "عماد الدين"، وأسر عدد كبير من قواته، وهو ما اضطره إلى اللجوء إلى "تكريت"؛ حيث أحسن واليها "نجم الدين أيوب" استقباله وأكرم وفادته، وساعده حتى تمكن من إعادة تنظيم قواته.

عماد الدين والسلطان مسعود

واستطاع "مسعود" أن يصبح سلطانًا على السلاجقة في العراق وبلاد فارس، بعد أن قضى على منافسيه، ورفض "عماد الدين" الخضوع للسلطان الجديد، فساءت العلاقة بينهما، وفي الوقت نفسه دخل "عماد الدين" في صراع آخر مع الخليفة العباسي، الذي خرج إليه على رأس ثلاثين ألف مقاتل، وحاصره نحو ثمانين يومًا، ولكن "عماد الدين" استطاع الصمود والمقاومة حتى عرض عليه الخليفة "المسترشد" الصلح في مطلع عام [528هـ = 1133م]، فوافق "عماد الدين" دون تردد.

ثم ما لبثت أن تحسنت العلاقات بين السلطان "مسعود" و"عماد الدين زنكي"، وإن ظل السلطان غير مطمئن لِمَا كان يتمتع به "عماد الدين" من استقلال، وما يمتلكه من نفوذ ظل يتسع على مر الأيام.

العالم الإسلامي والحرب الصليبية الأولى

استطاع الصليبيون- بعد حملتهم الصليبية الأولى- أن يستولوا على جزء كبير من بلاد الشام والجزيرة خلال الفترة من [489هـ = 1069م] إلى [498هـ = 1105م]، وأنشئوا فيها إماراتهم الصليبية الأربع: الرها، وإنطاكية، وطرابلس، وبيت المقدس.

وأصبح الوجود الصليبي في المشرق الإسلامي يشكل خطرًا بالغًا على بقية بلاد المسلمين، خاصة أن العالم الإسلامي- في ذلك الوقت- كان يعاني حالة من الفوضى والتشتت والضياع، بسبب تنازع الحكام والولاة، والخلاف الدائم بين العباسيين والفاطميين من جهة، وبين الخلافة العباسية التي بدأ الضعف يدب إليها ومحاولات التمرد والاستقلال عنها التي راحت تتزايد يومًا بعد يوم من جهة أخرى.

وسعى الصليبيون إلى بسط نفوذهم وإحكام سيطرتهم على المزيد من البلاد إليهم، وإنشاء إمارات صليبية جديدة؛ لتكون شوكة في ظهر العالم الإسلامي، تمهيدًا للقضاء التام عليه.

الاستعداد للمعركة الكبرى

ولم يشأ "عماد الدين" أن يدخل في حرب مع الصليبيين منذ البداية، فقد كان يريد أن يوطد دعائم إمارته الجديدة، ويدعم جيشه، ويعزز إمكاناته العسكرية والاقتصادية قبل أن يقدم على خوض غمار المعركة ضد الصليبيين.

وعمل على توحيد الإمارات الصغيرة المتناثرة من حوله تحت لواء واحد، فقد كان خطر تلك الإمارات المتنازعة لا يقل عن خطر الصليبيين المحدق بهم، وذلك بسبب التنازع المستمر بينهم، وغلبة المصالح الخاصة والأهواء على أمرائهم.

ومن ثم فقد عمل على تهيئة الأمة الإسلامية وتوحيدها قبل أن يخوض معركتها المرتقبة.

واستطاع الاستيلاء على "حلب"، كما هاجم عددًا من المواقع الصليبية المحيطة بها، وتمكن من الاستيلاء على خمسة منها، كما تمكن من الاستيلاء على "بعرين" التي وجد الصليبيون في استيلائه عليها خطرًا يهدد الإمارات الصليبية في المشرق، وحاول الصليبيون إنقاذ "بعرين"، ولكن حملتهم التي قادها الإمبراطور البيزنطي "حنا كومنين" فشلت في ذلك.

وعمل "عماد الدين" على تفتيت التحالف الخطير الذي قام بين الصليبيين في الشام والبيزنطيين، واستطاع أن يزرع الشك بين الطرفين ليقضي على التعاون بينهما، كما سعى في الوقت نفسه إلى طلب النجدات العسكرية من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.

الطريق إلى الرها

وسعى "عماد الدين" للاستيلاء على "دمشق" ليوحد الجبهة الشامية تمهيدًا للقائه المرتقب مع الصليبيين، إلا أن أمراءها استنجدوا بالصليبيين، وهو ما اضطره إلى التراجع عنها.

واستطاع أن يدعم موقفه بالاستيلاء على بعض المواقع وعدد من الحصون الخاضعة لإمارة "الرها" الصليبية، وتمكن بذلك من قطع الاتصال بين أمير "الرها" وبين حلفائه.

وكانت إمارة "الرها" واحدة من أهم الإمارات الصليبية في المشرق، وذلك لقوة تحصينها، وقربها من "العراق" التي تمثل مركز الخلافة الإسلامية، ونظرًا لما تسببه من تهديدات وأخطار للمناطق الإسلامية المجاورة لها.

ومن ثم فقد اتجهت نية "عماد الدين" إلى إسقاطها، وصح عزمه على فتحها، وراح يدرس الموقف بدقة، فأدرك أنه لن يتمكن من فتح "الرها" إلا إذا استدرج "جوسلين"- أمير "الرها"- وقواته خارجها، فلجأ إلى حيلة بارعة أتاحت له الوصول إلى مأربه؛ إذ تظاهر بالخروج إلى "آمد" لحصارها، وفي الوقت نفسه كان بعض أعوانه يرصدون تحركات أمير "الرها"، الذي ما إن اطمأن إلى انشغال "عماد الدين" عنه بحصار "آمد" حتى خرج بجنوده إلى "تل باشر"- على الضفة الغربية للفرات- ليستجم ويتفرغ لملذاته.

وقد كان هذا ما توقعه "عماد الدين"، فأسرع بالسير إلى "الرها" في جيش كبير، واستنفر كل من يقدر على القتال من المسلمين لجهاد الصليبيين، فاجتمع حوله حشد هائل من المتطوعين، فحاصر "الرها" من جميع الجهات، وحاول التفاهم مع أهل "الرها" بالطرق السلمية، وبذل جهدًا كبيرًا لإقناعهم بالاستسلام، وتعهد لهم بالأمان، ولكنهم أبوا، فما كان منه إلا أن شدد الحصار عليهم، واستخدم الآلات التي جلبها معه لتدمير أسوار المدينة قبل أن يتمكن الصليبيون من تجميع جيوشهم لإنقاذ المدينة.

حصار الرها وسقوطها

وبعد (28) يومًا من الحصار انهارت بعض أجزاء الحصن، ثم ما لبثت القلعة أن استسلمت لقوات "عماد الدين" في [28 من جمادي الآخرة 539هـ = 27 من نوفمبر 1144م]، فأصدر "عماد الدين" أوامره إلى الجند بإيقاف أي أعمال للقتل أو الأسر أو السلب، وإعادة ما استولوا عليه من غنائم وأسلاب، فأعادوا كل ما أخذوه إلى أصحابه.

وبدأ من فوره عملية تجديد وإصلاحات شاملة للمدينة، فأعاد بناء ما تهدم من أسوارها، وتعمير ما ضرب في الحرب أثناء اقتحام المدينة، وسار في أهلها بالعدل وحسن السيرة، حتى يعموا في ظله بالأمن والعدل، واحتفظوا بكنائسهم وأوديتهم فلم يتعرض لهم في عبادتهم وطقوسهم.

لغز اغتيال عماد الدين

كان فتح "الرها" هو أجلّ وأعظم أعمال "عماد الدين"، ولم يمض عامان على ذلك النصر العظيم، حتى تم اغتياله في [6 من ربيع الآخرة 541هـ = 15 من سبتمبر 1146م] خلال حصاره لقلعة "جعبر" على يد "يرنقش"- كبير حرسه- الذي تسلل إلى مخدعه فذبحه وهو نائم.

ويرى عدد من المؤرخين أن اغتيال "عماد الدين" جاء لأسباب سياسية أكثر منها شخصية، فقد كان في أوج انتصاره على الصليبيين، كما حقق انتصارًا آخر على المستوى الإسلامي بعد أن نجح في توحيد الصفوف وتكوين جبهة إسلامية قوية، ومن ناحية أخرى فقد كانت قلعة "جعبر" على وشك السقوط بعد أن بلغ حصاره لها مداه، فضلاً عن أن قاتله "يرنقش" كان من الباطنية، وقد استطاع التستر والانتظار طويلاً- على عادة الباطنية- حتى حانت اللحظة المناسبة لتنفيذ جريمته، فاغتال "عماد الدين" وهو في قمة مجده وانتصاره.

منقول

عبدالغفور الخطيب
06-05-2006, 03:12 AM
الأشرف برسباي.. فاتح قبرص

(في ذكرى توليته: 8 ربيع الآخر 825هـ)


اصطلح المؤرخون على تقسيم تاريخ دولة المماليك التي حكمت مصر والشام والحجاز إلى عصرين: عصر دولة المماليك البحرية (648- 784هـ = 1250- 1381م) نسبة إلى بحر النيل؛ حيث اختار السلطان الصالح "نجم الدين أيوب" جزيرة الروضة في وسط النيل لتكون مقرا لمماليكه، أما العصر الآخر؛ فأُطلق عليه "عصر دولة المماليك الجراكسة" أو المماليك البرجية (784- 922هـ = 1382- 1517م) نسبة إلى بلاد الجراكسة التي جُلبوا منها إلى مصر، أو نسبة إلى برج قلعة القاهرة، حيث كانوا يقيمون في ثكنات حوله.

وقد اتسمت الفترة الثانية بأن بلغت دولة المماليك أقصى اتساع لها في القرن التاسع الهجري، فأضافت إلى رقعتها جزيرة قبرص، وكانت تمثل خطرا داهما على نفوذها، وحاولت أن تضم "رودس" حتى تقضي على الحروب الصليبية تماما، بعد أن انتقل نشاطها من الشام إلى البحر المتوسط، لكنها لم تفلح في ضم رودس، كما بسطت نفوذها على أعالي الفرات، وأطراف آسيا الصغرى، وهو ما جعلها تتبوأ مكانة رفيعة في العالم الإسلامي.

ولاية برسباي

بدأ "برسباي" حياته مثل آلاف المماليك الذين يُجلبون إلى مصر، ويتلقون تعليما شرعيا وتربية خاصة في فنون الحرب والقتال، ثم يلتحقون بخدمة السلاطين، وكبار الأمراء، وترتقي ببعضهم مواهبهم وملكاتهم إلى المناصب القيادية في الدولة، وقد تسعدهم الأقدار فيصعدون إلى سدة الحكم والسلطنة، فيصبحون ملء الأسماع والأبصار، وتتطلع إليهم الأفئدة والقلوب، بعد أن كانوا مجهولي النسب، مغموري الأصل، ولكن رفعتهم همتهم أو ذكاؤهم وحيلتهم.

كان برسباي مملوكا للأمير "دقماق المحمدي" نائب "ملطية"، الذي اشتراه من أحد تجار الرقيق، ومكث في خدمته زمنا، ولقب بالدقماق نسبة إليه، فأصبح يعرف ببرسباي الدقماقي، ثم أهداه سيده إلى السلطان الظاهر "برقوق" سلطان مصر، فأعتقه، وجعله من جملة مماليكه وأمرائه، وبعد وفاة السلطان برقوق تقلّب في مناصب متعددة في عهد من خلفه من السلاطين، حتى نجح في اعتلاء عرش السلطنة في (8 من ربيع الآخر 825هـ = 1 من إبريل 1422م)، وهو السلطان الثامن في ترتيب سلاطين دولة المماليك الجركسية، والثاني والثلاثون في الترتيب العام لسلاطين دولة المماليك.

وقد نجح السلطان برسباي في الفترة التي قضاها في الحكم -وهي نحو سبعة عشر عاما- في إشاعة الأمن والاستقرار، والقضاء على الثورات والفتن، التي شبت في البلاد، والضرب على أيدي الخارجين على النظام، كما فعل مع ثورة طائفة المماليك الأجلاب، وهم الذين جاءوا إلى مصر كبارًا، وكانوا قد عاثوا في الأرض فسادًا لتأخر رواتبهم في عامي (835هـ = 1431م)، (838هـ = 1434م)، وقد مكّنه ذلك الاستقرار الذي نعمت به البلاد من القيام بغزو جزيرة قبرص.

فتح قبرص

اتخذ القبارصة من جزيرتهم مركزًا للوثوب على الموانئ الإسلامية في شرق البحر المتوسط وتهديد تجارة المسلمين، فقام "بطرس الأول لوزجنان" ملك قبرص بحملته الصليبية على الإسكندرية في سنة (767هـ = 1365م)، وأحرق الحوانيت والخانات والفنادق، ودنس المساجد وعلق القبارصة عليها الصلبان، واغتصبوا النساء، وقتلوا الأطفال والشيوخ، ومكثوا بالمدينة ثلاثة أيام يعيثون فيها فسادا، ثم غادروها إلى جزيرتهم، وتكررت مثل هذه الحملة على طرابلس الشام في سنة (796هـ = 1393م).

وظلت غارات القبارصة لا تنقطع على الموانئ الإسلامية، ولم تفلح محاولات سلاطين المماليك في دفع هذا الخطر والقضاء عليه، وبلغ استهانة القبارصة بهيبة دولة المماليك واغترارهم بقوتهم أن اعتدى بعض قراصنتهم على سفينة مصرية سنة (826هـ = 1423م)، وأسروا من فيها، ولم تفلح محاولات السلطان برسباي في عقد معاهدة مع "جانوس" ملك قبرص، تَضْمن عدم التعدي على تجار المسلمين.

وتمادى القبارصة في غرورهم، فاستولوا على سفينتين تجاريتين، قرب ميناء دمياط، وأسروا من فيهما، وكانوا يزيدون على مائة رجل، ثم تجاوزوا ذلك فاستولوا على سفينة محملة بالهدايا كان قد أرسلها السلطان برسباي إلى السلطان العثماني "مراد الثاني"، عند ذلك لم يكن أمام برسباي سوى التحرك لدفع هذا الخطر، والرد على هذه الإهانات التي يواظب القبارصة على توجيهها لدولة المماليك، واشتعلت في نفسه نوازع الجهاد، والشعور بالمسئولية، فأعد ثلاث حملات لغزو قبرص، وذلك في ثلاث سنوات متتالية.

الحملات الثلاث

خرجت الحملة الأولى في سنة (827هـ = 1424م)، وكانت حملة صغيرة نزلت قبرص، وهاجمت ميناء "ليماسول"، وأحرقت ثلاث سفن قبرصية كانت تستعد للقرصنة، وغنموا غنائم كثيرة، ثم عادت الحملة إلى القاهرة.

شجع هذا الظفر أن يبادر برسباي بإعداد حملة أعظم قوة من سابقتها لغزو قبرص، فخرجت الحملة الثانية في رجب (828هـ = مايو 1425م) مكونة من أربعين سفينة، واتجهت إلى الشام، ومنها إلى قبرص، حيث نجحت في تدمير قلعة ليماسول، وقُتل نحو خمسة آلاف قبرصي، وعادت إلى القاهرة تحمل بين يديها ألف أسير، فضلاً عن الغنائم التي حُملت على الجمال والبغال.

وفي الحملة الثالثة استهدف برسباي فتح الجزيرة وإخضاعها لسلطانه، فأعد حملة أعظم من سابقتيها وأكثر عددا وعُدة، فأبحرت مائة وثمانون سفينة من رشيد في (829هـ = 1426م)، واتجهت إلى ليماسول، فلم تلبث أن استسلمت للقوات المصرية في (26 من شعبان 829هـ = 2من يوليو 1426م)، وتحركت الحملة شمالا في جزيرة قبرص، وحاول ملك الجزيرة أن يدفع القوات المصرية، لكنه فشل وسقط أسيرا، واستولت القوات المصرية على العاصمة "نيقوسيا"، وبذا دخلت الجزيرة في طاعة دولة المماليك.

واحتفلت القاهرة برجوع الحملة الظافرة التي تحمل أكاليل النصر، وشقّت الحملة شوارع القاهرة التي احتشد أهلها لاستقبال الأبطال في (8 من شوال 829هـ = 14 من أغسطس 1426م)، وكانت جموع الأسرى البالغة 3700 أسير تسير خلف الموكب، وكان من بينها الملك جانوس وأمراؤه.

استقبل برسباي بالقلعة ملك قبرص، وكان بحضرته وفود من أماكن مختلفة، مثل: شريف مكة، ورسل من آل عثمان، وملك تونس، وبعض أمراء التركمان، فقبّل جانوس الأرض بين يدي برسباي، واستعطفه في أن يطلق سراحه، فوافق السلطان على أن يدفع مائتي ألف دينار فدية، مع التعهد بأن تظل قبرص تابعة لسلطان المماليك، وأن يكون هو نائبا عنه في حكمها، وأن يدفع جزية سنوية، واستمرت جزيرة قبرص منذ ذلك الوقت تابعة لمصر، حتى سنة (923هـ = 1517م) التي سقطت فيها دولة المماليك على يد السلطان العثماني "سليم الأول".

العلاقات مع الدول المجاورة

ارتبطت مصر في عهد برسباي بعلاقات ودية مع الدولة العثمانية، وتبادل التهنئة، فأرسل مراد الثاني بعثة في سنة (827هـ = 1423م) إلى القاهرة لتهنئة برسباي بالسلطنة، كما بعث إليه ببعثة مماثلة حين حقق برسباي انتصاره التاريخي على القبارصة، وقضى على خطرهم، وقد شهدت هذه البعثة الاحتفالات التي أقيمت في القاهرة ابتهاجا بعودة الجيش الظافر، وحضرت مقابلة السلطان برسباي في القلعة لجانوس وهو في أغلاله بعد هزيمته المنكرة وسقوط جزيرته.

وفي عهد السلطان برسباي تأزمت العلاقات بينه وبين الدولة التيمورية في فارس، وكان "شاه رخ" قد بعث إلى السلطان المملوكي يطلب منه إرسال بعض المؤلفات لعلماء مصر البارزين، مثل: فتح الباري لابن حجر، وتاريخ المقريزي، وأن يسمح له بكسوة الكعبة المعظمة، غير أن السلطان رفض، بل ولم يرسل له الكتب التي طلبها، ولم ييئس الشاه من الرفض فعاود الطلب والرجاء، وكان برسباي يرى أن كسوة الكعبة حق لسلاطين مصر لا يشاركهم في هذا الشرف أحد.

وكان من شأن هذا التوتر أن ساءت العلاقات بين السلطانين، واستعد كل منهما للآخر، وهنا يُذكر لعلماء مصر موقفهم الشجاع من برسباي حين أراد فرض ضرائب على الناس للإعداد للحملة الحربية؛ إذ رفضوا تصرفه، وانتقدوا إسرافه، وقالوا له: لا يجوز للسلطان أن يفرض الأموال على المسلمين، وزوجته تلبس في يوم ختان ابنها ثوبا يساوي ثلاثين ألف دينار.

الحياة الاقتصادية

اعتمدت الحياة الاقتصادية في العصر المملوكي على التجارة والصناعة والزراعة، غير أن التجارة استأثرت بالنصيب الأكبر في الاقتصاد المملوكي؛ حيث كانت التجارة العالمية تمر عبر حدود الدولة المملوكية، وقصد التجار الأوروبيون موانئها للشراء والبيع، الأمر الذي عاد على الدولة بالخير الوفير.

واتخذ السلطان برسباي عدة إجراءات لتنشيط حركة التجارة وترغيب التجار بشتى الطرق للنزول في الموانئ التابعة لدولته، فخفض الرسوم المفروضة على التجار في بعض الموانئ كميناء جدة، وأسبغ حمايته على التجار، وأمّن بضاعتهم من السلب والنهب، ودعّم علاقاته مع دول أوروبا ومدنها، فعقد معهم الاتفاقيات التجارية التي أسهمت في انتعاش حركة التجارة معهم.

وضرب السلطان الدينار الأشرفي ليكون أساس التعامل التجاري، وأبطل التعامل بالنقد البندقي والفلورنسي، وشجع الناس على استعمال نقوده التي سكّها بأن رفع سعرها ليكون لها قوة شرائية كبيرة تدفع إلى التعامل بها.

غير أن السلطان احتكر تجارة بعض السلع: كالسكر، والفلفل، والأقمشة الواردة من الموصل وبعلبك، وهو ما أدى إلى ارتفاع سعرها ومعاناة الناس في شرائها.

وامتدت همة السلطان برسباي إلى العناية بالزراعة، فأمر بحفر الخليج الناصري بعد أن كاد يطمر، وعُني ببناء الجسور، وإقامة القناطر، وإصلاح ما تهدم منها، ونظرا لهذه الرعاية، فلم تتعرض المحاصيل للهلاك بسبب نقصان المياه طوال المدة التي قضاها في الحكم.

النواحي الحضارية

لم يتلقَّ السلطان تعليما منظما مثل كثير من المماليك في القلعة، وإنما كان تعليمه محدودا، لكنه استكمل هذا النقص بأن اتخذ العالم الفقيه المؤرخ "بدر الدين العيني" مُعلما ومربيا، فكان يسامره ليقرأ له التاريخ، ثم يفسره له بالتركية، وكان الشيخ ضليعا فيها، كما كان يعلمه أمور الدين، حتى إن السلطان كان يقول: لولا العيني لكان في إسلامنا شيء.

وعُني السلطان ببناء ثلاث مدارس إحداها بالخانكة التابعة لمحافظة القليوبية، وقد بالغ في بنائها وزخرفتها، والثانية بالقاهرة بشارع "المعز لدين الله"، وهي المعروفة بالأشرفية نسبة إلى لقب صاحبها، وتمت عمارتها سنة (829هـ = 1425م)، وهي السنة التي فتح فيها قبرص، والثالثة بالصحراء خارج القاهرة، وهي التي دُفن فيها، كما عُني بشئون الحجاج، فأمر بحفر الآبار على طول الطريق من مصر إلى الحجاز.

لم يكتف السلطان بما شيد من مبانٍ ومنشآت، فشملت عنايته المدارس والخانقاوات التي بنيت قبله بعد أن أهملها مباشروها ونُظّار أوقافها، فشكل مجلسا من القضاة يتولون النظر في أوقاف هذه المدارس ومراجعة شروطها للتحقق من التزام النظار بهذه الشروط، وأسند رئاسة هذه المدارس إلى شيخ الإسلام "ابن حجر العسقلاني".

وكان من شأن هذه المدارس أن نشّطت الحركة العلمية، وازدهرت العلوم والفنون، وحسبك أن يكون من أعلام عصر السلطان برسباي الحافظ "ابن حجر العسقلاني" صاحب "فتح الباري" و"الدر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"، و"الإصابة"، والحافظ "بدر الدين العيني" صاحب "عمدة القاري شرح صحيح البخاري"، و"عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان"، والمؤرخ العظيم المقريزي صاحب كتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك" و"اتعاظ الحنفا"، و"الخطط المقريزية".

وفاة السلطان

وبعد أن قضى السلطان برسباي في الحكم نحو سبعة عشر عاما، تُوفي في (ذي الحجة 841هـ = مايو 1437م)، بعد أن ارتبط اسمه بالجهاد ضد الصليبيين، وأضاف إلى دولته جزيرة قبرص، وهو ما أضفى على سلطنته رونقًا وشهرة.

منقول

عبدالغفور الخطيب
09-05-2006, 01:50 AM
جيوش محمد على أبواب إستانبول

(في ذكرى معركة نصيبين: 11 ربيع الآخر 1255هـ)

اجتاحت جيوش "إبراهيم باشا بن محمد علي" بلاد الشام عام (1247هـ=1931م)، وتساقطت مدنه واحدة تلو الأخرى دون مقاومة تُذكر، حتى مدينة عكا التي استعصت على نابليون بونابرت ولم يفلح في اقتحامها، نجح إبراهيم باشا في فتحها، وكان لسقوطها دوي عظيم، ونال فاتحها ما يستحقه من تقدير وإعجاب.

ومضى الفاتح في طريقه حتى بلغ "قونيه"، وكان العثمانيون قد هجروها حين ترامت الأنباء بقدوم إبراهيم باشا وجنوده، ولم يبق بها سوى الجيش العثماني بقيادة رشيد باشا، وكان قائدًا ماهرًا يثق فيه السلطان العثماني ويطمئن إلى قدرته وكفاءته، ولم يكن هناك مفر من القتال، فدارت رحى الحرب بين الفريقين في (27 من جمادى الآخرة 1248هـ= 21 من نوفمبر 1832م) عند قونيه، ولقي العثمانيون هزيمة كبيرة، وأُسر القائد العثماني، وأصبح الطريق مفتوحًا إلى القسطنطينية.

أسباب الحملة على الشام

كان السبب المعلن لقيام محمد علي بحملته الظافرة على الشام هو اشتعال النزاع بينه وبين عبد الله باشا والي عكا، الذي رفض إمداد محمد علي بالأخشاب اللازمة لبناء أسطوله، وآوى عنده بعض المصريين الفارين من الخدمة العسكرية ودفع الضرائب، ورفض إعادتهم إلى مصر، وكان الخليفة العثماني "محمود الثاني" يقف وراء النزاع، ويُعضِّد والي عكا في معارضته محمد علي، ولم تكن العلاقة بين الخليفة العثماني وواليه في مصر على ما يرام.

غير أن الذي جعل محمد علي يقدم على هذه الخطوة هو أنه كان يرى أن سوريا جزء متمّم لمصر، ولا يتحقق الأمن بمصر ويأمن غائلة العدو إلا إذا كانت سوريا تحت سيطرته وسلطانه، وأن حدود مصر الطبيعية في جهة الشرق هي جبال طوروس، وليست صحراء العرب، ومن ثم كان يتحين الفرصة لتحقيق هدفه، حتى إذا ما لاحت انتهزها، وجرّد حملته إلى الشام.

اتفاقية كوتاهية

فزع السلطان محمود الثاني من الانتصارات التي حققها إبراهيم باشا فلجأ إلى الدول الأوروبية لمساعدته والوقوف إلى جانبه، لكنها لم تُجبه؛ لانشغالها بأحوالها الداخلية، ورأت في النزاع القائم مسألة داخلية يحلها السلطان وواليه، عند ذلك لجأ السلطان إلى روسيا –العدو اللدود للدولة العثمانية- لتسانده وتساعده، فاستجابت على الفور، ولم تتلكأ، ووجدت في محنة الدولة فرصة لزيادة نفوذها في منطقة المضايق، فأرسلت قوة بحرية رست في البسفور، وهو ما أقلق فرنسا وإنجلترا، وتوجستا من تدخل روسيا وانفرادها بالعمل، والتظاهر بحماية الدولة العثمانية، وكانت الدولتان تتمسكان بالمحافظة على كيان الدولة العثمانية؛ خشية من روسيا التي لم تكن تُخفي أطماعها في جارتها المسلمة.

تحركت الدولتان لفض النزاع وإعادة الأمن بين الخليفة وواليه الطموح، ولم يكن أمام السلطان العثماني سوى الرضوخ لشروط محمد علي في الصلح، فلا فائدة من حرب نتائجها غير مضمونة لصالحه، في الوقت الذي يسيطر فيه إبراهيم باشا على الشام، ويلقى ترحيبًا وتأييدًا من أهله.

عُقد الصلح في كوتاهية في (18 من ذي القعدة 1249هـ= 8 من إبريل 1833م)، واتفق الطرفان على أن تتخلى الدولة العثمانية لمحمد علي عن سوريا وإقليم أدنة مع تثبيته على مصر وجزيرة كريت والحجاز، في مقابل جلاء الجيش المصري عن باقي بلاد الأناضول.

اشتعال الثورة في الشام

لم يكن صلح كوتاهية بين الطرفين سوى هدنة مسلحة قبلته الدولة العثمانية على مضض، وأُكرهت على قبوله؛ ولذا كانت تعد العدة لنقض الصلح وتنتظر الفرصة السانحة لاسترداد ما أخذه محمد علي منها قسرا وكرها دون رضى واتفاق، وإنما أملاه السيف وفرضته آلة الحرب.

وسنحت الفرصة للسلطان العثماني في سنة (1250هـ=1834م) حين قامت الثورة في سوريا على إثر ما أدخله إبراهيم باشا من النظم الجديدة في إدارة شئون البلاد للنهوض بها ولم يكن للناس عهد بها، وزاد من ثورة الناس ضد الحكم المصري ما فرضه على الناس من ضرائب، وإجبار الناس على الالتحاق بالجيش ونزع السلاح من أيدي الأهالي.

وعلى الرغم من أن سوريا شهدت نشاطًا في التجارة، وازدهارًا في الصناعة واستتبابًا في الأمن بفضل المشروعات التي أدخلها إبراهيم باشا في البلاد، فإن ذلك لم يكن كافيا لنَيل رضى الناس؛ إذ صاحبه استبداد وقهر.

لم تكن أصابع السلطان العثماني بعيدة عن إشعال الثورة، وتأجيج الغضب في القلوب، فشبّت الفتنة في أماكن عديدة، وبذل إبراهيم باشا جهودًا خارقة في إخماد الفتنة وقمع الثورة، واستنفد ذلك أموالاً طائلة ونفوسًا كثيرة.

الحملة الثانية على الشام

فشلت المفاوضات بين الدولة العثمانية ومصر في تسوية النزاع بينهما بطريقة ودية، فأعلن محمد علي عن عزمه في قطع العلائق التي تربط مصر بدولة الخلافة العثمانية، وقد كان يعينه على ذلك تنامي قوته وازدياد نفوذه، وعجزت الدول الأوروبية أن تثنيه عن عزمه، ولم يكن يرضيها ظهور قوة إسلامية فتية، ربما يشاء لها القدر أن تبثّ الحياة في جسد الخلافة الواهن، فيهب من رقدته، ويسترد بعضا من عافيته، فيعيد إلى الأذهان جلال هيبته، وعظمة قوته.

كان السلطان العثماني قد أعد العدة لاسترداد سوريا من محمد علي، فحشد قواته على الحدود، ولما أتم العثمانيون استعدادهم بدءوا في زحفهم، فعبروا نهر الفرات وواصلوا زحفهم حتى اجتازت طلائعهم الحدود المرسومة السورية - التركية التي حددتها اتفاقية كوتاهية، فأرسل إبراهيم باشا إلى أبيه يخبره بالأمر، وفي الوقت نفسه لم ينتظر رد أبيه، بل تحرك بجيشه الذي كان يقيم بحلب؛ حيث أجلى العثمانيين عن مواقعهم، وفي أثناء ذلك جاء الرد من محمد علي إلى ابنه بألا يكتفي بصد هجوم العثمانيين وأن يعبر الحدود إذا اقتضى الأمر ذلك لسحق الجيش العثماني.

معركة نزيب (نصيبين)

اتجه إبراهيم باشا بجيشه الذي يبلغ أربعين ألف مقاتل إلى حيث يعسكر الجيش العثماني، ويحتل مواقعه الحصينة في بلدة نزيب التي تقع بالقرب من الحدود التركية - السورية، وكان الجيش العثماني يبلغ تعداده أربعين ألف مقاتل، وقد أُعِدّ إعدادًا حسنا، وعلى كفاءة عالية في فنون القتال.

وفي (11 من ربيع الآخر 1255هـ = 24 من نوفمبر 1839م) التقى الفريقان عند قرية نزيب في معركة هائلة حسمها إبراهيم باشا لصالحه، وألحق بالعثمانيين هزيمة مدوية، وكان ثمن النصر باهظا؛ حيث سقط أربعة آلاف جندي مصري بين قتيل وجريح.

وقبل أن تصل أنباء هذه الكارثة إلى عاصمة الخلافة العثمانية كان السلطان محمود الثاني قد قضى نحبه في (17 من ربيع الآخر 1255هـ= 30 من يونيو 1839م)، وخلفه ابنه عبد الحميد، وكان شابا لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره، تسلّم قيادة الدولة العثمانية في ظروف بالغة الصعوبة، فأراد أن يحسم الخلاف مع محمد علي؛ حقنًا لدماء المسلمين، ومنعًا للتدخل الأجنبي، وبعث برسول إليه للتفاوض في أمر الصلح، ونقاط الخلاف بين الطرفين.


منقول

عبدالغفور الخطيب
15-05-2006, 02:05 AM
استشهاد الخليفة الموحدي على أسوار شنترين

(في ذكرى استشهاد عبد المؤمن الكومي: 17 ربيع الآخر 580هـ)


نجح "عبد المؤمن علي" في تأسيس دولة الموحدين بالمغرب، واستكمال ما بدأه أستاذه الشيخ "محمد بن تومرت" الذي بدأ دعوته الإصلاحية في القرن السادس الهجري، ودعا إلى إنشاء دولة تلتزم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتستهدف إقامة خلافة إسلامية، تستلهم عصور الراشدين، وتعيد ما كان عليه السلف الصالح من تقوى وعدل، وكان من شأن هذه الدعوة أن اجتذبت الأتباع، والتفّ حولها الأعوان والأنصار، حتى إذا اشتد عودها؛ نظمت من أتباعها جيشًا ناوش الدولة القائمة، وكانت دولة المرابطين، فلم تأخذ الأمر على نحوٍ من الجدية والاهتمام في بادئ الأمر، ثم تنبهت إلى خطورة هذه الدعوة عليها، وكان لا بد من الصدام معها، وهذا ما حدث.

ولما توفي ابن تومرت في سنة (524هـ= 1130م) خلفه عبد المؤمن علي، وتحمل أعباء الدعوة، ومتابعة تنظيم أعوانها، والإعداد لمجابهة دولة المرابطين، فدخل معها في صراع عسكري، دام أكثر من خمسة عشر عامًا، حتى كلل جهوده بإحكام قبضته على المغرب الأقصى، ودخول مراكش عاصمة المرابطين في سنة (541 هـ= 1146م) معلنًا قيام دولة الموحدين، وتابع عبد المؤمن جهوده في بسط نفوذه، فبعث بحملاته حتى وصلت طرابلس، محققًا الوحدة السياسية للمغرب الإسلامي، وتلقب بلقب خليفة، ونجح في ضم بلاد الأندلس إلى دولته وتنظيم شئونها، وتحصين دفاعاتها أمام هجمات النصارى، وبعد وفاته سنة (588 هـ= 1163م) خلفه ابنه يوسف.

ولاية يوسف بن علي

لما توفي عبد المؤمن بن علي في (27 جمادى الآخرة سنة 558 هـ= 2 من يونيو 1163م) خلفه محمد ابنه الأكبر، وبايعه الناس، فتولى الخلافة شهرًا ونصفًا، ثم عُزل عنها لأمور أُخذت عليه، وأقام شيوخ الموحدين أخاه أبا يعقوب يوسف، وكان في الثلاثين من عمره عندما تولى الأمر، وكان قد قضى سنوات طويلة في الأندلس، واليًا على إشبيلية من قبل أبيه، فتدرب على قيادة الأمور، وتدبير شئون الدولة، وعُرف بثقافته الواسعة ودراسته على كثير من علماء الأندلس، وبحبه للجهاد في سبيل الله.

صعوبات واجهت "يوسف"

كانت دولة الموحدين تحكم أقاليم شاسعة لم يسبق دخولها في لواء واحد مثل الأندلس والمغرب الأقصى والمغرب الأوسط وإفريقية، وكانت مهمة مَن يتولى الأمر في مثل هذه الدولة المترامية الأطراف، المتفاوتة في الثقافة ومستوى الحياة -أن يحافظ عليها كتلة واحدة دون أن ينفصل منها جزء، أو ينتزع منها عدوٌ شيئا، فما بالك والثورات لا تهدأ في إفريقية، والنصارى القشتاليون لا يفتئون يهددون المسلمين في الأندلس؛ ولذا كانت مهمة أبي يعقوب يوسف في غاية الصعوبة؛ حتى تسلس له قيادة الدولة، ويعم الهدوء والأمن ربوع البلاد.

وما إن استقر أبو يعقوب في عاصمته حتى هبّت في وجهة ثورة عارمة في جبال "غمارة" يقودها واحد من زعماء صنهاجة التي تابعته في الثورة، فأرسل إليها قائده أبا حفص، لكنه لم ينجح في إخمادها، فاضطر الخليفة إلى الخروج بنفسه لقتالهم، فهزمهم، وقمع الفتنة في مهدها.

ولم يكد يمضي عامان على حكمه حتى قامت فتنة كبيرة في الأندلس، أشعل جذوتها "محمد بن سعد بن مردانيش" في شرقي الأندلس يريد الاستقلال بما تحت يديه، واستعان بالنصارى القشتاليين والأرغونيين، وأغار على قرطبة، فسير له أبو يعقوب جيوشًا ضخمة يقودها أخواه: أبو سعيد، وأبو حفص، وتمكنا من إلحاق الهزيمة بابن مردانيش الذي فرّ هاربًا، وعاد القائدان إلى مراكش سنة (561 هـ= 1166م).

حملة شنترين

بلغ الخليفةَ أبا يعقوب أن الملكين: فرديناند ملك ليون، وألفونسو أنريكي ملك البرتغال المسيحيين، يوسّعان حدودهما على حساب أملاك المسلمين في الأندلس، فعزم الخليفة الموحدي على استتباب الأمن في الأندلس، والقضاء تمامًا على خطر ابن مردانيش الذي يلقى دعمًا من النصارى هناك.

خرج الخليفة الموحدي إلى الأندلس سنة (566هـ= 1171 م) ومعه جيوشه الجرارة، ونزل بإشبيلية عاصمة دولته في الأندلس، وأرسل جيوشه للقضاء على ابن مردانيش الذي كان يتحصن في "مرسية" فحاصرته جموع الموحدين، وتوفي وهو محاصَر في (رجب 567 هـ= مارس 1173)، وقام ابنه بالدخول في طاعة الموحدين، وسلّم لهم الحصون التي كانت تابعة لأبيه، مثل حصون بلنسية ومرسية وشاطبة ودانية ولورقة.

وظل أبو يعقوب في إشبيلية بالأندلس أربع سنوات، نظم خلالها عدة حملات ضد البرتغاليين والقشتاليين، ثم عاد إلى "مراكش" في سنة (571 هـ= 1177م)، غير أن الأحوال لم تلبث أن ساءت في الأندلس من جديد، وعاد الملكان المسيحيان إلى سيرتهما الأولى في التهام بلاد الأندلس.

وكان الملك البرتغالي قد اشتد خطره بعد أن تحالف مع ألفونسو الثامن الذي تولى عرش ليون وقشتالة خلفًا لفرناندو الثاني، ولم يكن أمام الخليفة الموحدي سوى العبور بجيش عظيم لإيقاف الخطر البرتغالي الداهم، والحفاظ على ما بقي من دولة الإسلام في الأندلس التي لم تزل تتناقص رقعتها سنة بعد أخرى أمام هجمات النصارى هناك.

سار الجيش الموحدي نحو "شنترين" كبرى قواعد غربي الأندلس، وكانت قد سقطت في أيدي البرتغاليين سنة (541 هـ= 1146م) وحاصرها حصارًا شديد، وكان ألفونسو أنريكي قد ترامت إليه أنباء هذه الحملة فزاد في تحصين شنترين، وشحنها بالمؤن وآلات الحرب، واستعد للحصار.

لم تفلح هجمات الموحدين في اقتحام المدينة الحصينة، ولم يترك أبو يعقوب وسيلة يضيق بها على المدينة إلا اتبعها من قطع المؤن والعتاد عن الوصول إليها، فما زاد ذلك أهلها إلا صمودًا واستبسالا في الدفاع، وجلدًا في تحمل مشاق الحصار.

وفي أثناء الحصار أصدر الخليفة أمرًا برفع الحصار عن المدينة المنهكَة في (1 من ربيع الأول= 2 من يوليو 1184م)، ويختلف المؤرخون في السبب الذي جعل الخليفة يصدر قراره المفاجئ، فيذهب بعضهم إلى خشية الموحدين من هجوم البرد؛ إذ كان الوقت آخر فصل الخريف، وخافوا أن يفيض النهر فلا يستطيعون عبوره، وتنقطع عنهم الإمدادات، فأشاروا على الخليفة الموحدي بفك الحصار والرجوع إلى إشبيلية.

وذهب بعضهم إلى أن الخليفة أمر بانتقال الجيش إلى موضع آخر، وكلف ابنه بالاستعداد للرحيل من تلك الليلة لغزو مدينة أشبونة، ففهم خطأ، وظن أنه أمره بالرحيل في جوف الليل إلى إشبيلية.

وتذهب رواية أخرى أن الخليفة الموحدي علم بسير ملك ليون وقشتالة بجنوده لنجدة المدينة المحاصرة، فخشي الخليفة أن يعمل القشتاليون على إعاقة عبوره النهر إلى الضفة اليسرى، فعجّل بالرحيل.

وأيًا ما كان السبب الذي حمل الخليفة على اتخاذ قراره المفاجئ، فإن عملية ارتداد الجيش الضخم كانت تتسم بالفوضى وتتم على عجل، ولم يكن هناك ما يدعو إلى الارتباك.

استشهاد الخليفة

فُهم قرار الخليفة خطأ، وسارع قادته بتنفيذ قراره على وجه السرعة، فعبر معظم الجيش في جوف الليل إلى الضفة الأخرى، فلما أسفر الصباح فوجئ الخليفة بالحقيقة المروعة ولم يبق حول الخليفة سوى قوات قليلة، فانحدر الخليفة نحو النهر، وبقي ابنه في نفر من جنوده لحماية انسحاب الجيش، لكن نصارى شنترين أدركوا ما حدث في معسكر المسلمين، فبادروا بالخروج من المدينة، وهجموا على القوات المنسحبة، فسقط عدد كبير، وأصيب الخليفة بسهم مسموم، وتدارك الناس حين سمعوا صرخات الخليفة، فاقبلوا مسرعين، وتراجع البرتغاليون إلى شنترين، بينما حمل الجنود خليفتهم جريحًا في محفّة، ثم لم يلبث أن لقي ربه شهيدا في (ربيع الآخر 580 هـ = يوليو 1184م).

أبو يعقوب في التاريخ

كان الخليفة أبو يعقوب يوسف من أعظم خلفاء دولة الموحدين، وإذا كان لم يحقق نتائج عظيمة في ميادين الحرب مثلما حقق أبوه الخليفة عبد المؤمن بن علي، أو ابنه الخليفة يعقوب المنصور، فإنه حقق شيئًا عظيمًا في النواحي الإدارية والعمرانية.

اتسم الخليفة أبو يعقوب بالحزم، وتحري العدل، وقمع الظلم والبغي، يدفعه إلى ذلك تقواه وورعه وتبحره في علوم الشريعة، وله في ذلك رسالة بديعة كتبها إلى أخيه والي قرطبة وإلى سائر الولاة بالأندلس بشأن تحري الدقة والأمانة في عقد الأحكام وتوقيع العقوبات، وبلغ من حرصه في ذلك أنه أمر بألا يُقضى بحكم الإعدام على شخص إلا بعد أن تُرفع النازلة (القضية) إليه، مشفوعة بالأسباب التي دفعت القاضي إلى الحكم، وأقوال الشهود ونحوها.

وكان الخليفة شغوفًا بالعلم يجلّ أهله ويقربهم إلى مجلسه، وكان هو عالمًا بارعًا في الفقه، يحفظ صحيح البخاري، ملمًا بعلوم العربية، وكان في مدة إقامته بالأندلس يزين مجلسه بقادة الفكر وزعماء الرأي من أمثال أبي بكر بن طفيل، وابن رشد الفيلسوف، وأبي بكر بن عبد الملك بن زهر الطبيب العبقري، واستأثر ابن طفيل بحب الخليفة وعنايته، فكان لا يفارق مجلسه، ولا يصبر على بعده، وكان رسوله إلى العلماء يدعوهم لحضور مجلسه.

وللخليفة مشاركة علمية بسيطة تكشف عن براعته في علم الحديث والعلوم الشرعية، فله كتاب "الجهاد" يحمل اسمه، وقد أُلحق هذا الكتاب بكتاب "أعزّ ما يُطلب" للمهدي ابن تومرت.

وكان الخليفة محبًا للعمران، كلفًا بإقامة العمائر، فشيد طائفة منها، رفعت اسمه بين ملوك المغرب قاطبة، وحسبك ما قام به في أثناء إقامته بإشبيلية حاضرة الأندلس من المنشآت العظيمة، مثل: مسجد إشبيلية الجامع، وصومعته العظيمة التي أتمّها ولده يعقوب المنصور، ومشروع إمداد إشبيلية بالماء وتجديد أسوارها التي خربتها السيل، وإنشاء القصور والبساتين في إشبيلية .

منقول

عبدالغفور الخطيب
16-05-2006, 02:14 AM
فتح مصر.. أرض الكنانة

(في ذكري سقوط حصن بابليون : 18 ربيع الآخر 20 هـ)


لم يمنع تأخر إسلام عمرو بن العاص من أن يتبوأ مكانة رفيعة بين أبطال الإسلام، تقدمه مواهبه، وتزكيه أعماله، ولم يكن النبي (صلى الله عليه وسلم) ليغفل عن ذلك؛ فلم يجعل تأخر سابقته في الإسلام تحول دون النفع منه، وكان شأن عمرو بن العاص في ذلك شأن خالد بن الوليد ارتفعت بهما أقدارهما إلى ما يستحقان من تقدير وإعجاب.

وقدر النبي (صلى الله عليه وسلم) في عمرو كفايته وحزمة، فجعله قائدًا لبعض سراياه، مثل سرية ذات السلاسل لإخضاع قبيلة قضاعة، فتم له النصر، ورأى فيه عقلاً ومهارة، وسياسة وحكمة، فاختاره صلى الله عليه وسلم سفيرًا يحمل كتابه إلى ملكي عمان، يدعوهما إلى الإسلام، فنجح في مهمته، وأسلم الملكان وتبعهما خلق كثير، ثم ولاه النبي صلى الله عليه وسلم صدقة عمان، وظل في منصبه ما يقرب من سنتين حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد إلى المدينة.

لقاء الجابية

لما تم للمسلمين فتح بلاد الشام وفلسطين اتجهت أنظارهم إلى مصر، وقد لمعت هذه الفكرة في ذهن عمرو بن العاص أحد قادة فتوح الشام، فعرضها على الخليفة عمر بن الخطاب حين قدم "الجابية" من أعمال دمشق سنة (18هـ = 639م) وكان الخليفة العادل قد غادر المدينة إلى بلاد الشام ليتسلم مدينة القدس صلحًا، بعد أن أصر بطريرك المدينة المقدسة على حضور الخليفة ليتسلمها بنفسه.

وكان فتح مصر ودخولها تحت سلطان المسلمين ضرورة ملحة، تفرضها دواعي الاستقرار واستتباب الأمن والسلام في الشام، بعد أن رأى عمرو أن سواحل سورية وفلسطين لن تكون في مأمن أبدًا ما دام أسطول الروم يعتمد في قواعده على مصر.

تردد الخليفة في قبول هذه الفكرة في بادئ الأمر، وكان عمر يكره أن يبتعد عنه جيشه أو يفصل بينه وبينهم بحار ومفاوز، فيصعب عليه أن يتابعهم، ويتتبع أخبارهم، كما أنه كان ضنينًا بجنوده حريصًا على حياتهم لا يوردهم مورد الهلاك، ولا يدفع بهم إلا حيثما تتحقق الثمرة وترجى الفائدة، غير أن عمرو لم يزل به يقنعه ويضمن له أسباب النجاح والظفر، والبعد عن مكامن الخطر، حتى رضي الخليفة العادل وأذن له بالفتح.

مقدمات الفتح


خرج عمرو بن العاص من "قيسارية" بالشام على رأس قوة صغيرة تبلغ نحو أربعة آلاف جندي في أواخر سنة (18هـ = 639م)، مخترقًا رمال سيناء حتى وصل العريش في (ذي الحجة 18هـ = ديسمبر 639م)، وقضى بها عيد الأضحى، بعد أن فتحها من غير مقاومة، فلم تكن بها حامية للدفاع عنها، ثم غادرها غربًا سالكًا طريقًا بعيدًا عن البحر، وهو طريق كان يسلكه الفاتحون والمهاجرون والسائحون منذ أقدم العصور، حتى وصل إلى مدينة "الفرما" وهي مدينة قديمة، ذات حصون قوية شرقي مدينة بورسعيد الحالية، وكان لها ميناء يطل على البحر، ويصل إليها جدول ماء من النيل. وقد اضطر المسلمون إلى حصارها شهرًا أو أقل من ذلك، أبلوا خلالها بلاءً حسنًا، حتى فتحت المدينة في (أول المحرم 19هـ = 2 من يناير 640م) وأجمع المؤرخون أن للقبط يدًا في هذا النصر، إذ كانوا أعوانًا للفاتح الشجاع.

الطريق إلى بابليون

تقدم عمرو حتى وصل إلى "بُلْبَيْس" في (15 من المحرم سنة 19هـ=16 من يناير 640م) فحاصرها شهرًا حتى تمكن من فتحها بعد قتال شديد مع الروم، واستشهد من المسلمين عدد غير قليل في حين خسر الروم ألف قتيل، ووقع في الأسر نحو ثلاثة آلاف، وأصبح الطريق ممهدًا لعمرو لكي يصل إلى رأس الدلتا وحصن بابليون.

وواصل عمرو سيره حتى بلغ قرية "أم دنين"، وهي قرية كانت تقع على النيل شمال حصن بابليون، وموقعها الحالي في قلب القاهرة عند الحديقة التي تشغلها حديقة الأزبكية وما حولها، وكان النيل يومئذ يمر بهذا المكان.

عمرو يطلب المدد

تنبه الروم على خطورة موقفهم، بعد أن أصبح المسلمون في وسط البلاد، فانحدر الروم إلى حصن بابليون لتنظيم الدفاع، ونشب قتال بين الفريقين، لكنه لم يكن حاسمًا، وكان الروم يستغلون اتصال حصن بابليون بحامية "أم دنين" عن طريق النيل فيشنون غارات سريعة على المسلمين، ولم تكن قواتهم من الضخامة بحيث تتحمل خسائر متلاحقة تصيبهم من الروم، فاضطر عمرو إلى طلب النجدة، حتى يكمل مسيرته، ويعوض ما فقده خلال غزوته، فبعث إليه عمر بن الخطاب بأربعة آلاف مقاتل، وبكتاب يقول فيه: "قد أمددتك بأربعة آلاف، فيهم أربعة رجال، الواحد منهم بألف رجل"، وكان هؤلاء الأربعة هم: الزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، والمقداد بن الأسود، وكلهم من شجعان الرجال وأبطال الحرب.

معركة هليوبوليس

ولما وصل المدد إلى عمرو بن العاص في (جمادى الآخرة سنة 19هـ=يونيو سنة 640م) سار بجيشه إلى مدينة عين شمس (هليوبوليس)، وقامت خطته على أن يجتذب إليه جند الروم لينازلهم خارج الحصن، ولم تكن للعرب وقتئذ خبرة تامة باقتحام الحصون والاستيلاء عليها.

وخرجت جيوش الروم لملاقاة المسلمين في السهل الواقع بين الحصن ومدينة عين شمس وكانت عيون عمرو قد نقلت إليه أخبار هذا التحرك، فأعد خطة ماهرة، واستعد بقلب جيشه عند عين شمس، وأرسل في جنح الليل كمينًا من جيشه استقر غربًا في قرية أم دنين، وآخر اختبأ عند جبل المقطم.

ولما بدأت المعركة وكانت في (رجب سنة 19هـ = يوليو 640م)، واشتد القتال، انقضت الكتيبة المختبئة عند الجبل بقيادة خارجة بن خدافة على مؤخرة الروم، وأعملت فيهم السيف، فأخذتهم المفاجأة، وتملكهم الفزع والرعب، فولوا هاربين نحو قرية "أم دنين" وكان في انتظارهم الكتيبة الأخرى، فأحاطت بهم وأمعنت فيهم قتلاً وضربًا، وفر الباقون إلى حصن بابليون.

حصار حصن بابليون

مكن هذا النصر معسكرات المسلمين من أن تشرف على حصن بابليون مباشرة من جهته الشمالية والشرقية، ولا تزال بقايا هذا الحصن موجودة في حي مصر القديمة، وكانت أسوار هذا الحصن تضم مساحة تزيد عن الستين فدانًا.

ضرب المسلمون حصارًا قويًا على الحصن المنيع، غير عابئين بمجانيق الروم، تدفعهم حماستهم وحب الجهد ونيل الشهادة في مهاجمة الحصن، والقيام بسلسلة من المناوشات التي كانت نتائجها تضعف معنويات المحاصرين، ولم يكد يمضي على الحصار شهر حتى دب اليأس في نفس "المقوقس" حاكم مصر، فأرسل في طلب المفاوضة والصلح، فبعث عمرو بن العاص وفدًا من المفاوضين على رأسه عبادة بن الصامت الذي كلف بألا يتجاوز في مفاوضته أمورًا ثلاثة يختار الروم واحدة منها، وهي: الدخول في الإسلام، أو قبول دفع الجزية للمسلمين، أو الاحتكام إلى القتال، فلم يقبل الروم العرضين الأولين، وأصروا على مواصلة القتال.

وحاول المقوقس أن يعقد صلحًا مع عمرو بعد أن تيقن أنه لا قبل له بمواجهة المسلمين، وآثر الصلح وحقن الدماء، واختار أن يدفع الجزية للمسلمين، وكتب شروط الصلح، وأرسلها إلى هرقل إمبراطور الروم للموافقة عليها، وأسرع إلى الإسكندرية مغادرًا الحصن، وأردف شروط الصلح برسالة إلى هرقل يعتذر فيها لسيده عما أقدم عليه من الصلح مع السلمين، فما كان من هرقل إلا أن أرسل إليه وإلى قادة الروم يعنفهم على تخاذلهم وتهاونهم إزاء المسلمين، ولم يكن لهذا معنى سوى رفض شروط الصلح.

استأنف المسلمون القتال وشددوا الحصار بعد فشل الصلح، وفي أثناء ذلك جاءت الأنباء بوفاة هرقل ففتّ ذلك في عضد الجنود داخل الحصن، وزادهم يأسًا على يأس، في الوقت الذي صحت فيه عزائم المسلمين، وقويت معنوياتهم، وقدموا أروع أمثلة الشجاعة والفداء، وفي غمرة الحصار تطوَّع الزبير بن العوام بتسلق سور الحصن في ظلام الليل، وتمكن بواسطة سلم وضع له أن يصعد إلى أعلى السور، ولم يشعر الروم إلا بتكبيرة الزبير، تهزُّ سكون الليل، ولم يلبث أن تبعه المسلمون يتسابقون على الصعود، تسبقهم تكبيراتهم المدوية فتنخلع لها أفئدة الروم التي ملأها اليأس، فكانت تلك التكبيرات أمضى من كل سلاح قابلهم، ولم تكد تشرق شمس يوم (18 من ربيع الآخر سنة 20 هـ=16 من إبريل 641م) حتى كان قائد الحصن يعرض الصلاح على عمرو ومغادرة الحصن، فكان ذلك إيذانًا بعهد جديد تسلكه مصر، ولا تزال تحمل رايته حتى يومنا هذا.


منقول

عبدالغفور الخطيب
18-05-2006, 04:26 AM
غرناطة وأمل البقاء

(في ذكرى معركة ألبيرة: 20 ربيع الآخر 718هـ)

انحصرت دولة الإسلام في الأندلس منذ مطلع القرن السابع الهجري في مملكة غرناطة التي شغلت الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة الأندلسية، وكانت تضم ثلاث ولايات كبيرة هي: غرناطة، وألمرية، ومالقة، وحملت هذه الدولة الصغيرة مهمة المحافظة على الإسلام في هذه البقعة، والتمسك به في ظل عدو ماكر يتربص بها الدوائر، وينقضّ كل فترة ليلتهمَ جزءا من أراضيها.

ونجحت هذه المملكة في أن تبقى، على الرغم من المحن التي أطبقت عليها من كل جانب، وظلت تدفع الأخطار عن نفسها بالجهاد والمقاومة تارة، وبالحيلة والمصانعة تارة أخرى، وطال عمرها أكثر من قرنين ونصف من الزمان، وهي تقاوم عوادي الزمن وضعف الهمم، وخور العزائم، إلى أن لقيت مصرعها في (2 من ربيع الأول 897 هـ = 2 من يناير 1492م) في مأساة مروعة من المآسي التي شهدها العالم الإسلامي في تاريخه.

وقد نجح بنو الأحمر ملوك غرناطة في أن يقيموا دولة قوية وحضارة زاهرة لا يزال ما بقي منها شاهدًا على عصر راق، وفترة زاهية، وحضارة مزدهرة، ولو لقيت هذه المملكة عونًا مستمرًا من العالم الإسلامي، ودعمًا قويًا، لما سقطت، ولقاومت عدوها الغادر، ولربما استردت ما سُلب من المسلمين، ولأعادت للأندلس وحدته.

ولاية إسماعيل بن الأحمر

تولى السلطان "أبو الوليد إسماعيل بن الأحمر" عرش مملكة غرناطة في (713 هـ = 1313م)، وكان سلطانًا قويًا، محبًا للعدل، اشتهر بإقامة الحدود، وتطبيق الشرع، وكانت دولته في عنفوان قوتها وفتوة شبابها، فأحيا الجهاد، وردّ هجمات النصارى عن بلاده، ودفع غوائلهم، وأظهر قوته وبأسه.

وفي بداية عهده قام القشتاليون كعادتهم بغزو غرناطة، واستولوا على عدد من القواعد والحصون، والتقوا مع المسلمين في وادي "فرتونة" سنة (716هـ = 1317م) لقي المسلمون فيها هزيمة شديدة.

ولما رأى القشتاليون نجاح غزوتهم غرّهم ظفرهم وفوزهم، وعزموا على الاستيلاء على الجزيرة الخضراء ليحولوا دون وصول الإمداد إلى المسلمين من عدوة المغرب، لكن السلطان إسماعيل بادر إلى تحصينها، وجهز الأساطيل لحمايتها من البحر.

معركة ألبيرة

عدل القشتاليون عن مشروعهم، وعولوا على مهاجمة غرناطة، ولم يكن أمام السلطان إسماعيل سوى طلب النجدة من سلطان المغرب، لكنه لم يمد له يد العون والمساعدة، وتركه يلقى عدوه دون مؤازرة وتأييد، وزحف القشتاليون بجيشهم الجرار على غرناطة تؤازرهم فرقة متطوعة من الإنجليز يقودها أمير إنجليزي.

لم يكن أمام المسلمين سوى الاعتصام بالله ، والتمسك بالصبر والثبات، وحسن الإعداد، وكان جيشهم لا يتجاوز سبعة آلاف جندي، لكنهم صفوة مختارة، وأبطال صناديد، يقودهم شيخ الغزاة "أبو سعيد عثمان بن أبي العلاء" وهو ممن توافرت له الشجاعة والجرأة، وحسن القيادة، وحكمة التصرف، فلم يهلع لكثرة جيش عدوه، أو يهتز فؤاده.

تقدم فرسان المسلمين فالتقوا بطلائع النصارى في (20 من ربيع الآخر سنة 718 هـ = 21 من يونيو 1318م) وما هي إلى ساعة حتى ردوهم بخسائر فادحة، ثم زحف أبو سعيد بجنده البواسل، ونشبت معركة حامية الوطيس، ثبت فيها المسلمون، وأيدهم الله بجند من عنده، وانكشف غبار المعركة عن فوز مستحق للمسلمين، وقُتل عدد كبير من القشتاليين، من بينهم قادتهم وأمراؤهم، وأُسر منهم بضعة آلاف، ومن نجا من المعركة منهم تكفل النهر بهلاكه عند محاولته الهرب والفرار. وخرج أهل غرناطة وهم لا يصدقون ما أسفرت عنه المعركة، يجمعون الأسلاب والغنائم.

تجديد معاهدة الصلح مع أراجون

كانت قوة الدولة دافعًا إلى قيام ملك أراجون "خايمي الثاني" بتجديد معاهدة الصلح مع السلطان إسماعيل؛ رغبة منه في الصلح وإقرار الأمن لمدة خمسة أعوام، وذلك في سنة (721هـ = 1321م)، ونصت المعاهدة على تأمين أراضي الطرفين تأمينًا تمامًا، فلا يعتدي طرف منهما على الآخر، ويتعهد كل منهما بمعاداة من يعادي الآخر، وألا يؤوي له عدوًا أو يحميه، وأن تكون سفن كل منهما وشواطئه ومراسيه آمنة.

التحول إلى الهجوم

ساءت أحوال مملكة قشتالة في هذه الفترة، وشحت مواردها، وقلّ رجالها، بسبب الحروب التي كانت تشتعل بين أمرائها من حين إلى آخر، وكانت الإدارة المالية في حالة يرثى لها من الاستغلال والفساد واغتصاب الأموال، فضلا عن فساد القضاء، وسوء استعمال السلطة.

كانت هذه الأحوال فرصة لأن يسترد المسلمون بعضًا مما فقدوه من مدن وقلاع، وجاء انتصار ألبيرة، لكي يسترد المسلمون ثقتهم في أنفسهم، فتعاقبت غزوات المسلمين في أراضي النصارى، وعادت الدولة الإسلامية في الأندلس فتية ناهضة، بعد أن ظن الناس أنها شارفت طور الفناء، فزحف السلطان إسماعيل إلى مدينة "بياسة"، وحاصرها حصارًا شديدًا، ورماها المسلمون بالآت تشبه المدافع كانت تقذف عليهم الحديد والنار، حتى استسلمت سنة (724 هـ = 1324م)، وفي العام التالي (725 هـ = 1325) سار إسماعيل إلى "مرتش" واستولى عليها عَنْوَة، وكانت غزوة موفقة، غنم المسلمون فيها غنائم وفيرة، وعاد السلطان إلى غرناطة مكللا بالنصر.

وفاة مفاجئة

ولم تمض على عودة إسماعيل بن الأحمر ثلاثة أيام حتى قتلته يد الغدر على باب قصره، وكان قاتله ابن عمه، حقد عليه لأنه ظفر بجارية حسناء في معركة مرتش التي حقق فيها نصرًا عظيمًا.. ولقي إسماعيل ربه في (26 من رجب 725هـ = 8 من يوليو 1325م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
19-05-2006, 02:12 AM
عبد الباسط عبد الصمد.. صوت من السماء

(في ذكرى وفاته: 21 ربيع الآخر 1409هـ)


التغني بالقرآن فنٌ قديم، بدأ منذ أن نزل القرآن وتلقاه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذه الصحابة الكرام من النبي صلى الله عليه وسلم فخالط قلوبهم، وامتزجت به أرواحهم، وكان بعضهم ندي الصوت، عذب النغم، جميل الأداء، يؤثر صوته بالقرآن في النفس، ويطرب الأذن، ويريح الأفئدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب سماع القرآن من هؤلاء الأفذاذ، ويثني عليهم، فيقول عن سالم مولى حذيفة وكان قارئا مجيدا: "الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا"، ويقول عن أبي موسى الأشعري: "إنه أوتي مزمارا من مزامير آل داود" لفرط جمال صوته، وحسن أدائه، ويجعل أبيّ بن كعب في الذروة في دنيا التلاوة، ويصفه بأنه أقرأ أمته للقرآن.

وإذا كان هذا حال بعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فما بالك بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم وتلاوته للقرآن.. وأدع الصحابي الجليل "جبير بن مطعم" يصف قراءة النبي صلى الله عليه وسلم.. يقول جبير: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه، فلما سمعته قرأ: "أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون" خلت أن فؤادي قد انصدع، وكاد قلبي يطير".

وظلت تلاوة القرآن محتفظة بأصولها الموروثة، وبالأحكام التي يعرفها علماء التجويد منذ العهد النبوي، تتوارثها الأجيال بالتلقي والتلقين، دون الاقتصار على النقل من الكتب المدونة في علوم القرآن.

دولة القراءة في مصر

وشاء الله أن تتصدر مصر دولة إقراء القرآن الكريم في القرنين الثالث والرابع عشر الهجريين، وتربع قراؤها على عرش الإقراء والقراءة، ولمع في هذين المجالين أعلام بررة، فبرز في خدمة كتاب الله إقراءً وتأليفا: الشيخ محمد أحمد المتولي المتوفى سنة (1313هـ= 1895م)، والشيخ محمد مكي نصر، والشيخ علي محمد الضباع المتوفى سنة (1380هـ= 1960م) والشيخ عامر عثمان العالم الثبت المتوفى سنة (1408هـ= 1988م) وغيرهم.

أما دنيا التلاوة والقراءة فقد برز من مصر مشاهير القرّاء، الذين ملئوا الدنيا تلاوة خاشعة، وقراءة تأخذ بالألباب، مع جمال في الصوت وحُسن في الأداء، وتمثّل للمعاني، وحضور في القلب، فتسمع القرآن وهو يتلى فتنساب آياته إلى قلبك، وتحيا معانيه في نفسك، كأنك تحيا فيه أو يحيا هو فيك، وحسبك أن يكون من بين هؤلاء الأعلام الشيخ محمد رفعت، ومصطفى إسماعيل، وعبد الفتاح الشعشاعي، وأبو العينين شعيشع، وعبد العظيم زاهر، ومحمود خليل الحصري، ومحمد صديق المنشاوي، وكامل يوسف البهتيمي، وعبد الباسط عبد الصمد.

وقد أثّرت طريقة أداء هؤلاء في قرّاء الدنيا شرقًا وغربًا، فقلدوهم في التلاوة وطريقة الأداء، وتطريب الصوت، مع الاحتفاظ بأصول القراءة.. وشاع بين أهل العلم العبارة السائرة: "القرآن الكريم نزل بمكة وقُرِئ في مصر، وكُتب في إستانبول"، وبلغ من صدق هذه العبارة أنها صارت كالحقائق يصدقها التاريخ، ويؤكدها الواقع.

عبد الباسط عبد الصمد

ومن بين الذين لمعوا بقوة في دنيا القراءة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، حيث تبوأ مكانة رفيعة بين أصحاب الأصوات العذبة والنغمات الخلابة، وطار اسمه شرقا وغربا، واحتفى الناس به في أي مكان نزل فيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

والشيخ عبد الباسط من مواليد بلدة "أرمنت" التابعة لمحافظة قنا بصعيد مصر سنة (1346هـ= 1927م)، حفظ القرآن الكريم صغيرا، وأتمه وهو دون العاشرة من عمره على يد الشيخ محمد سليم، ثم تلقى على يديه القراءات السبع، وكان الشيخ به معجبًا، فآثره بحبه ومودته، حيث وجد فيه نبوغا مبكرا؛ فعمل على إبرازه وتنميته، وكان يصحبه إلى الحفلات التي يدعى إليها، ويدعوه للقراءة والتلاوة وهو لا يزال غضًا لم يتجاوز الرابعة عشرة، وكان هذا مرانًا لصوته وتدريبا لأدائه.

وبدأت شهرة الشيخ في الصعيد مع إحياء ليالي شهر رمضان، حيث تُعقد سرادقات في الشهر الكريم تقيمها الأسر الكبيرة، ويتلى فيها القرآن، وكان الناس يتنافسون في استقدام القرّاء لإحياء شهر رمضان.

كما كانت موالد الأولياء الكبار في الصعيد ميدانًا للقراء، يتلون كتاب الله للزوار، وكان للصعيد قراؤه من أمثال: صدّيق المنشاوي الملقب بـ"قارئ الصعيد" وهو والد القارئين: محمود ومحمد صديق المنشاوي، والشيخ عبد الراضي، وعوضي القوصي، وقد استفاد الشيخ عبد الباسط من طرائقهم في التلاوة، كما تأثر بمشاهير القراء في القاهرة، مثل الشيخ محمد رفعت ومصطفى إسماعيل، وعلي حزين، وكان يقطع عشرات الكيلومترات ليستمع إليهم من مذياع في مقهى، وكانت أجهزة الراديو في ذلك الوقت قليلة لا يملكها كثيرون.

التألق والشهرة

قدم الشيخ عبد الباسط إلى القاهرة سنة (1370هـ= 1950م) في أول زيارة له إلى المدينة العتيقة، وكان على موعد مع الشهرة وذيوع الصيت، وشهد مسجد السيدة زينب مولد هذه الشهرة؛ حيث زار المسجد في اليوم قبل الأخير لمولد السيدة الكريمة، وقدمه إمام المسجد الشيخ "علي سبيع" للقراءة، وكان يعرفه من قبلُ، وتردد الشيخ وكاد يعتذر عن عدم القراءة لولا أن شجعه إمام المسجد فأقبل يتلو من قوله تعالى في سورة الأحزاب: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" وفتح الله عليه، وأسبغ عليه من نعمه، فكأنه لم يقرأ من قبل بمثل هذا الأداء، فجذب الأسماع، وأرهفت واجتمعت عليه القلوب وخشعت، وسيطر صوته الندي على أنفاس الحاضرين، فأقبلوا عليه وهم لا يصدقون أن هذا صوت رجل مغمور، ساقته الأقدار إليهم فيملؤهم إعجابا وتقديرا.

التقدم إلى الإذاعة

وما هي إلا سنة حتى تقدم الشيخ الموهوب إلى الإذاعة سنة (1371هـ= 1951م) لإجازته، وتشكلت لجنة من كبار العلماء، وضمّت الشيخ الضياع شيخ عموم المقارئ المصرية، والشيخ محمود شلتوت قبل أن يلي مشيخة الجامع الأزهر، والشيخ محمد البنا، وقد أجازته اللجنة واعتمدته قارئا، وذاع صيته مع أول قراءة له في الإذاعة، وأصبح من القرّاء الممتازين، وصار له وقت محدد مساء كل يوم سبت، تذاع قراءته على محبّيه ومستمعيه.

اختير الشيخ سنة (1372هـ=1952م) قارئًا للسورة في مسجد الإمام الشافعي، ثم قارئا للمسجد الحسيني خلفًا لزميله الشيخ "محمود علي البنا" سنة (1406هـ= 1985م) ثم كان له فضل في إنشاء نقابة لمحفظي القرآن الكريم، وانتُخب نقيبًا للقرّاء في سنة (1405هـ= 1984م).

وقد طاف الشيخ معظم الدول العربية والإسلامية، وسجل لها القرآن الكريم، وكانت بعض تسجيلاته بالقراءات السبع، ولا يزال يذاع في إذاعة القرآن الكريم بمصر المصحف المرتل الذي سجله بصوته العذب وأدائه الجميل، بتلاوة حفص عن عاصم، مع الأربعة العظام: الشيخ محمود خليل الحصري، ومصطفى إسماعيل، ومحمد صدّيق المنشاوي، ومحمود علي البنا، وقد استقبل المسلمون في العالم هذه التسجيلات الخمسة للقرآن بالإعجاب والثناء، ولا تزال أصوات هؤلاء الخمسة تزداد تألقا مع الأيام، ولم يزحزحها عن الصدارة عشرات الأصوات التي اشتهرت، على الرغم من أن بعضها يلقى دعمًا قويًا، ولكنها إرادة الله في أن يرزق القبول لأصوات بعض عباده، وكأنه اصطفاهم لهذه المهمة الجليلة.

وفاة الشيخ

ظل الشيخ عبد الباسط موضع عناية واهتمام في كل مكان ينزل به، وخصه الملوك والأمراء بالأوسمة والنياشين؛ تكريما له وإحسانا إلى أنفسهم قبل أن يحسنوا إليه، وتوفي الشيخ في يوم الأربعاء الموافق (21 من ربيع الآخر 1409 هـ= 30 من ديسمبر 1988م) بعد أن ملأ الدنيا بصوته العذب وطريقته الفريدة.



منقول

عبدالغفور الخطيب
20-05-2006, 02:56 AM
المعتضد بالله.. وصحوة الخلافة العباسية

(في ذكرى وفاته: 22 ربيع الآخر 289هـ)

انتعشت الخلافة العباسية بعد تولي الخليفة المعتمد على الله المنصب الرفيع سنة (256 هـ = 870م)، وعاد لها ما كانت تتمتع به من هيبة وإجلال، وتقدير وتعظيم، وانقضى نفوذ الأتراك الذين عبثوا بالخلفاء، واستبدوا بالحكم دونهم، ولم يعد لهم من الأمر شيء، ولم يكن الخليفة المعتمد هو الذي يقف وراء هذا الانتعاش الذي تشهده الخلافة، وإنما كان أخوه وولي عهده الموفق طلحة هو باعث هذه الصحوة، وكان قائدًا ماهرًا، وسياسيًا فذا، ذا همة عالية وعزيمة قوية، تمكن من الإمساك بزمام الأمور، وقيادة الجند، ومحاربة الأعداء، والمرابطة على الثغور، وتعيين الوزراء والأمراء، وكان قضاؤه على ثورة الزنج أعظم إنجاز له، وكانت ثورة عارمة دامت أكثر من أربعة عشر عامًا، وكادت تعصف بالخلافة.

المعتضد بالله

توفى الموفق سنة (278 هـ = 891 م)، بعد أن أعاد هيبة الخلافة، وثبت سلطة الحكومة المركزية، فبايع الخليفة "المعتمد على الله" ابن أخيه "العباس" بولاية العهد الثانية بعد ابنه "المفوض إلى الله"، ولقبه بـ"المعتضد بالله"، وانتقلت إليه سلطات أبيه الموفق، وكان المعتضد بالله مثل أبيه في الحزم والرأي والشجاعة، شارك أباه في حروبه ضد الزنج، وفي أعماله الإدارية، فاكتسب خبرة واسعة، ونال ثقة الجند وتقديرهم، وطُبع على القيادة وتصريف الأمور؛ ولذلك لم يقنع بولاية العهد الثانية، وتطلع أن يكون خليفة بعد المعتمد مباشرة لا بعد ابنه، وكان الجند في صفه، ولم يجد عمه المعتمد بُدًّا من الرضوخ لابن أخيه، فبايعه بولاية العهد بعده، وعزل ابنه منها، ولم تَدُم حياة المعتمد طويلاً؛ حيث توفي بعد أشهر قليلة في (19 من رجب 279 هـ = 15 من أكتوبر 892م).

خلافة حازمة

ولما بويع المعتضد بالخلافة سار على نهج أبيه الموفق في الحزم والعزم، وسلك مسلكه في إقامة العدل، وإقرار الأمن، وإشاعة السلام؛ ولذلك كان ينهض على الفور حين تشب فتنة وتشتغل ثورة فيقضي عليها، ويخرج إليها بنفسه، دلالة على عنايته بها، وإدراكه لخطورتها إذا أهمل في تداركها وقمعها.

وكانت الفترة التي ولي فيها المعتضد الخلافة فترة قلاقل وثورات، ولكن الخليفة اليقظ قضى عليها، ولم يدعها تتفاقم وتزداد اشتعالا، ومن ثم شهدت الخلافة استقرارًا وهدوءاً، فأخمد ثورة "بني شيبان" بأرض الجزيرة سنة (280 هـ = 893م)، وكانوا يهاجمون المدن، ويقتلون الناس، ويسلبون أموالهم، كما قضى سنة (281 هـ = 894 م) على ثورة "حمدان بن حمدون"، الذي كان يطمح في تأسيس إمارة له، أيضا استولى على قلعة "ماردين" وتحصن بها، وقمع ثورة الخوارج في الموصل، التي تزعمها "هارون بن عبد الله الشاري" سنة (283هـ = 896م).

ظهور حركة القرامطة

شهدت فترة المعتضد ظهور حركة القرامطة؛ حيث قدم الكوفة سنة (278 هـ = 891م) رجل يُدعى"حمدان قرمط"، وأقام بها، وتظاهر بالعبادة والزهد، والدعوة إلى إمام من آل البيت، فلقيت دعوته نجاحًا عند أنصار العلويين. وبعد أن وثق من بعضهم بدأ في بث دعوته الغريبة وأفكاره البعيدة عن الإسلام، ثم اشتد خطر هذه الحركة بعد ظهور زعيمها في البحرين "أبي سعيد الجنَّابي" سنة (286 هـ = 899م)، واستطاع أن يبسط نفوذه على "البحرين" و"هجر"، وكسب أنصارًا كثيرين، وتحولت البحرين إلى مركز للقرامطة ومعقلاً لنشاطهم، وخرجت منه حملاتهم الحربية لنشر أفكارهم الهدامة تحت شعارات برّاقة، يخدعون بها البسطاء.

ولم ينجح المعتضد في القضاء على هذه الحركة؛ لأنه لم يُقدّر خطورتها حق قدرها، وصرف جهده إلى قمع فتن كانت تبدو لديه أكثر خطورة منها.

ويجدر بالذكر أنه ظهر في أيامه "ابن حوشب" في بلاد اليمن؛ حيث كان يقوم بنشر الدعوة للمهدى الفاطمي، و"أبو عبد الله الشيعي"، الذي كان يدعو للفاطميين في بلاد المغرب، إلى أن تمكن من إقامة دولتهم في المغرب بعد ذلك.

وأيًّا كان الأمر، فإن الخلافة لم تهتز إزاء هذه الفتنة والثورات، واستطاع بحزمه أن يثبت أركان الدولة، وأن يعيد إليها سلطاتها ونفوذها.

سياسته مع الرعية

يصف المؤرخون الخليفة المعتضد بالله بأنه كان حازمًا مع قواده، شديد الوطأة عليهم، إذا غضب على واحد منهم أمر بإلقائه في حفرة وردم عليه؛ ولذلك سكنت فتنة الأتراك، ولم يجرؤ واحد منهم على إحداث شغب أو إثارة فتنة، وكان يُسمى "السفاح الثاني"؛ لأنه جدد مُلك بني العباس، مثلما أقام أبو العباس السفاح دولتهم.

ومع هذه القسوة البالغة كان عادلاً مع رعيته، فقد دفع عنهم الظلم وأسقط عنهم المكوس والضرائب، وأبطل ديوان المواريث، وكان أصحاب التركات يلقون منه عنتًا، وأمر برد ما يفضل من سهام المواريث على ذوي الأرحام.

وكان لاستقرار الدولة في عهده نتائج إيجابية على الوضع الاقتصادي، فعنيت الدولة في عهده بأمور الري، وتسليف الفلاحين الحبوب والحيوانات، وأخَّر موعد استيفاء الخراج.

زواجه من قطر الندى

ارتبط اسم المعتضد بزواجه من "قطر الندى" بنت "خماروية بن أحمد بن طولون"، وكانت العلاقة بين دولة الخلافة والطولونيين في مصر على غير ما يُرام في عهد أحمد بن طولون، وقد حاول ابنه خمارويه أن يفتح صفحة جديدة من العلاقات، ويحل الأمن والسلام محل الخصام والحرب، وكان الطرفان يرغبان في ذلك. وزيادةً في توثيق عرى المودة بينهما، تزوج الخليفة المعتضد من قطر الندى ابنة خمارويه، وكان جهازها الذي أعده أبوها أسطوريًا بالغًا في الإسراف إلى حد يفوق الخيال، وهنا أدعُ المؤرخ الكبير "ابن تغري بردي" يصف جهازها ورحلتها من مصر إلى بغداد؛ حيث يقول: "إنه جهزها بجهاز عظيم يتجاوز الوصف حتى قيل: إنه دخل معها في جملة جهازها ألف هاون من الذهب… ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته قطر الندى، أمر فبني لها على رأس كل منزلة تنزل فيها قصرٌ فيما بين مصر وبغداد… وكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فكانت إذا وافت المنزلة وجدت قصرًا قد فرش، فيه جميع ما تحتاج إليه، وقد علقت فيه الستور، وأُعِد فيه كل ما يصلح لمثلها، وكانت في سيرها من مصر إلى بغداد على بُعد الشقة كأنها في قصر أبيها…".

وكان هذا الإسراف من قبل خمارويه سببًا في إفلاس مالية البلاد، وكانت مصر من أغنى الدول وأكثرها ثراءً، ويبدو أن الخلافة العباسية عندما يئست من إخضاع دولة الطولونيين بالقوة لجأت إلى إضعافها بالسياسة، حتى قيل: إن المعتضد أراد بزواجه من قطر الندى أن يفقر أباها خمارويه في جهازها.

انتقال عاصمة الخلافة إلى بغداد

ظلت مدينة "سامراء" عاصمة الخلافة العباسية منذ حوالي سنة(221 هـ = 836م) في عهد الخليفة المعتصم بالله- إلى أوائل خلافة المعتضد الذي بنى القصر الحسني ببغداد، وقرر نقل العاصمة إلى بغداد، وكان من أثر ذلك أن هجر الناس سامراء، وخربت بعد أن كانت تضارع بغداد حسنًا وبهاء، وكان بسامراء قبور ستة من الخلفاء العباسيين هم: الواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمعتز، والمهتدي، والمعتمد.

الحركة العلمية

كان عصر المعتضد يموج بالحركة العلمية، والنشاط الثقافي، والذي لم يتأثر بالانقلابات السياسية التي كانت تحدث في حركة الدولة، وكان الازدهار العلمي يمشى قُدما إلى الإمام، يموج بالحركة والنشاط، وشهدت فترة المعتضد، وهي امتداد لفترة عمه وأبيه، تألق عدد كبير من النابهين في اللغة والأدب والتاريخ والجغرافيا والحديث، يأتي في مقدمتهم "الحافظ بن أبي الدنيا" المتوفّى (281هـ = 894م) صاحب "حلية الأولياء"، و"المبرد" اللغوي المشهور المتوفى (285هـ = 894م) إمام النحاة في عصره، وصاحب كتاب "الأمل"، و"ابن واضح اليعقوبي"، المتوفَّى (292هـ = 905م)، وكان من أكابر مؤرخي عصره، ونبغ "ثابت بن قرة" الرياضي المشهور، وابن الفقيه الهمداني الجغرافي، وكلاهما قد تُوفي في سنة (287هـ = 900م).

ولمع في مجال الشعر كوكبة من أعظم شعراء العربية، مثل: "ابن الرومي"، المتوفّى سنة ( 283هـ = 896م)، الذي اشتهر بقدرته على توليد المعاني وابتكار الأخيلة الجديدة، و"البحتري" المتوفى سنة (284 هـ = 897م) صاحب الديباجة الشعرية الرائعة، والموسيقى العذبة الجميلة.

وفاة المعتضد

وفي (22 من ربيع الآخر 289 = 6 من مارس 902م) توفِّي الخليفة المعتضد، بعد أن حكم الدولة تسع سنوات وتسعة أشهر، أعاد لها هيبتها ومجدها، وخلفه ابنه "علي المكتفي"، ولم يكن مثل أبيه من الحزم والشدة، فدخلت الدولة في مرحلة الضعف والتفكك.


منقول

عبدالغفور الخطيب
22-05-2006, 03:24 AM
حطين أحداث ونتائج

(في ذكرى نشوبها: 24 ربيع الآخر 583هـ)


هيأت الأقدار لصلاح الدين الأيوبي أن يسطع في القرن السادس الهجري سطوعا باهرًا، وأن تبرز مواهبه وملكاته على النحو الذي يثير الإعجاب والتقدير، وأن يتبوأ بأعماله العظيمة مكانا بارزًا بين قادة العالم، وصانعي التاريخ.

وكانت وفاة نور الدين محمود سنة (569هـ = 1174م) نقطة تحوّل في حياة صلاح الدين؛ إذ أصبحت الوحدة الإسلامية التي بناها نور الدين محمود-هذا البطل العظيم- معرّضة للضياع، ولم يكن هناك من يملأ الفراغ الذي خلا بوفاته، فتقدم صلاح الدين ليكمل المسيرة، ويقوّي البناء، ويعيد الوحدة، وكان الطريق شاقا لتحقيق هذا الهدف وإعادة الأمل.

بناء الوحدة الإسلامية

توفي نور الدين محمود، وترك ولدا صغيرا لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، فشب نزاع بين الأمراء على من يقوم بالوصاية على الأمير الصغير، وانفرط عقد الدولة النورية، وكان صلاح الدين في مصر يراقب ما يحدث في الشام عن كثب، ينتظر الفرصة المواتية لتوحيد الجبهة الإسلامية، ولم يطل انتظاره حيث جاءته دعوة من أمراء دمشق لتسلّمها، فهب إليها على الفور، واستقبله أهلها استقبالا حسنا، وتسلم المدينة وقلعتها في سنة (570هـ = 1174م) ثم اتجه إلى حمص فاستولى عليها، ثم عرج على حماة فضمها أيضا إلى دولته، وأصبح على مشارف حلب نفسها، وحاول أن يفتحها لكنها استعصت عليه، بعد أن استنجد قادتها بالصليبيين؛ فتركها وفي أعماقه أنه سيأتي إليها مرة أخرى، ولكن تأخرت عودته ثماني سنوات، حتى تمكن من فتحها وضمها في (18 من صفر 579هـ = 12 من يونيه 1183م) وكان استيلاء صلاح الدين على حلب وما حولها خطوة هائلة في بناء الجبهة الإسلامية المتحدة، التي امتدت تحت زعامته من جبال طوروس شمالا حتى بلاد النوبة جنوبا.

لم يعد أمام صلاح الدين لاستكمال الوحدة سوى مدينة الموصل، فحاصرها أكثر من مرة، إلى أن تم الصلح، بعد أن سعى إليه والي الموصل "عز الدين مسعود"، قبل أن يكون تابعا لصلاح الدين، واتفق على ذلك في صفر سنة (582هـ = 1186م).

جبهة الصليبيين


في أثناء الفترة التي عمل فيها صلاح الدين على إحياء الدولة الإسلامية المتحدة؛ استعدادا لخطة الجهاد التي رسمها لطرد الصليبيين، ارتبط بعقد هدنة مع هؤلاء الصليبيين مدتها أربع سنوات؛ حتى يتفرغ تماما لتنظيم دولته وترتيب أوضاعها الداخلية.

غير أن أرناط حاكم الكرك شاء بحماقته ألا يترك الصليبيين ينعمون بتلك الهدنة؛ حيث أقدم على عمل طائش نقض الهدنة وأشعل الحرب، فاستولى على قافلة تجارية متجهة من مصر إلى دمشق، وأسر حاميتها ورجالها، وألقى بهم أسرى في حصن الكرك.

حاول صلاح الدين أن يتذرع بالصبر فبعث إلى أرناط مقبحًا فعله، وتهدده إذا لم يرد أموال القافلة ويطلق سراح الأسرى. وبدلا من أن يستجيب أرناط أساء الرد، واغتر بقوته، ورد على رسل صلاح الدين بقوله: "قولوا لمحمد يخلصكم".

ولما حاول ملك بيت المقدس أن يتدارك الموقف أصرّ أرناط على رأيه، ورفض إعادة أموال القافلة وإطلاق الأسرى، فزاد الأمر تعقيدا، ولم يبق أمام صلاح الدين سوى الحرب والقصاص.

مقدمات حطين

عبّأ صلاح الدين قواه واستعد لمنازلة الصليبيين وخوض معركة الجهاد الكبرى التي ظل يعد لها عشر سنوات منتظرا الفرصة المواتية لإقدامه على مثل هذا العمل، ولم تكن سياسة أرناط الرعناء سوى سبب ظاهري لإشعال حماس صلاح الدين، وإعلان الحرب على الصليبيين.

غادرت قوات صلاح الدين التي تجمعت من مصر وحلب والجزيرة وديار بكر مدينة دمشق في المحرم (583هـ = مارس 1187م) واتجهت إلى حصن الكرك فحاصرته ودمرت زروعه، ثم اتجهت إلى الشوبك، ففعلت به مثل ذلك، ثم قصدت بانياس بالقرب من طبرية لمراقبة الموقف.

وفي أثناء ذلك تجمعت القوات الصليبية تحت قيادة ملك بيت المقدس في مدينة صفورية، وانضمت إليها قوات ريموند الثالث أمير طرابلس، ناقضا الهدنة التي كانت تربطه بصلاح الدين، مفضلا مناصرة قومه، على الرغم من الخصومة المتأججة بينه وبين ملك بيت المقدس.

كان صلاح الدين يرغب في إجبار الصليبيين على المسير إليه، ليلقاهم وهم متعبون في الوقت الذي يكون هو فيه مدخرًا قواه، وجهد رجاله، ولم يكن من وسيلة لتحقيق هذا سوى مهاجمة طبرية، حيث كانت تحتمي بقلعتها زوجة ريموند الثالث، فثارت ثائرة الصليبيين وعقدوا مجلسًا لبحث الأمر، وافترق الحاضرون إلى فريقين: أحدهما يرى ضرورة الزحف إلى طبرية لضرب صلاح الدين، على حين يرى الفريق الآخر خطورة هذا العمل لصعوبة الطريق وقلة الماء، وكان يتزعم هذا الرأي ريموند الثالث الذي كانت زوجته تحت الحصار، لكن أرناط اتهم ريموند بالجبن والخوف من لقاء المسلمين، وحمل الملك على الاقتناع بضرورة الزحف على طبرية.

موقعة حطين

بدأت القوات الصليبية الزحف في ظروف بالغة الصعوبة في (21 من ربيع الآخر 583هـ = 1 من يوليو 1187م) تلفح وجوهها حرارة الشمس، وتعاني قلة الماء ووعورة الطريق الذي يبلغ طوله نحو 27 كيلومترا، في الوقت الذي كان ينعم فيه صلاح الدين وجنوده بالماء الوفير والظل المديد، مدخرين قواهم لساعة الفصل، وعندما سمع صلاح الدين بشروع الصليبيين في الزحف، تقدم بجنده نحو تسعة كيلومترات، ورابط غربي طبرية عند قرية حطين.

أدرك الصليبيون سطح جبل طبرية المشرف على سهل حطين في (23 من ربيع الآخر 583هـ = 3 من يوليو 1187م) وهي منطقة على شكل هضبة ترتفع عن سطح البحر أكثر من 300 متر، ولها قمتان تشبهان القرنين، وهو ما جعل العرب يطلقون عليها اسم "قرون حطين".

وقد حرص صلاح الدين على أن يحول بين الصليبيين والوصول إلى الماء في الوقت الذي اشتد فيه ظمؤهم، كما أشعل المسلمون النار في الأعشاب والأشواك التي تغطي الهضبة، وكانت الريح على الصليبيين فحملت حر النار والدخان إليهم، فقضى الصليبيون ليلة سيئة يعانون العطش والإنهاك، وهم يسمعون تكبيرات المسلمين وتهليلهم الذي يقطع سكون الليل، ويهز أرجاء المكان، ويثير الفزع في قلوبهم.

صباح المعركة

وعندما أشرقت شمس يوم السبت الموافق (24 من ربيع الآخر 583هـ = 4 من يوليو 1187م) اكتشف الصليبيون أن صلاح الدين استغل ستر الليل ليضرب نطاقا حولهم، وبدأ صلاح الدين هجومه الكاسح، وعملت سيوف جنوده في الصليبيين، فاختلت صفوفهم، وحاولت البقية الباقية أن تحتمي بجبل حطين، فأحاط بهم المسلمون، وكلما تراجعوا إلى قمة الجبل، شدد المسلمون عليهم، حتى بقي منهم ملك بيت المقدس ومعه مائة وخمسون من الفرسان، فسيق إلى خيمة صلاح الدين، ومعه أرناط صاحب حصن الكرك وغيره من أكابر الصليبيين، فاستقبلهم صلاح الدين أحسن استقبال، وأمر لهم بالماء المثلّج، ولم يعط أرناط، فلما شرب ملك بيت المقدس أعطى ما تبقّى منه إلى أرناط، فغضب صلاح الدين وقال: "إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فينال أماني"، ثم كلمه وذكّره بجرائمه وقرّعه بذنوبه، ثم قام إليه فضرب عنقه، وقال: "كنت نذرت مرتين أن أقتله إن ظفرت به: إحداهما لما أراد المسير إلى مكة والمدينة، والأخرى لما نهب القافلة واستولى عليها غدرًا".

نتائج حطين

لم تكن هزيمة الصليبين في حطين هزيمة طبيعية، وإنما كانت كارثة حلت بهم؛ حيث فقدوا زهرة فرسانهم، وقُتلت منهم أعداد هائلة، ووقع في الأسر مثلها، حتى قيل: إن من شاهد القتلى قال: ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال: ما هناك قتيل.

وغدت فلسطين عقب حطين في متناول قبضة صلاح الدين، فشرع يفتح البلاد والمدن والثغور الصليبية واحدة بعد الأخرى، حتى توج جهوده بتحرير بيت المقدس في (27 من رجب 583هـ = 12 من أكتوبر 1187م) ولهذا الفتح العظيم حديث آخر.

منقول

عبدالغفور الخطيب
23-05-2006, 02:45 AM
الجويني.. إمام الحرمين

(في ذكرى وفاته 25 ربيع الآخر 468 هـ)


ولد الجويني في (18 من المحرم 419هـ= 12 من فبراير 1028م) في بيت عرف بالعلم والتدين؛ فقد كان أبوه "عبد الله بن يوسف بن محمد بن عبد الله بن حيوه" واحدًا من علماء نيسابور المعروفين، وأحد فقهاء المذهب الشافعي، وله مؤلفات كثيرة في التفسير والفقه والعقائد والعبادات، وقد اشتهر بحبه الشديد للعلم، كما عُرف بالصلاح والورع، ومن ثم فقد حرص على تنشئة ابنه "عبد الملك" تنشئة إسلامية صحيحة، في جو من العلم والأدب والثقافة الإسلامية.

وكان مثالا أو قدوة تمثلها ابنه في كثير من الصفات، وحرص الأب على أن يعلم ابنه بنفسه منذ حداثة سنه؛ فدَرَّس له الفقه والعربية وعلومها، واجتهد في تعليمه الفقه والخلاف والأصول. واستطاع الجويني أن يحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وكان يحضر مجالس والده حتى برز على أقرانه، وتفوق على كثير ممن كانوا يتلقون العلم في مدرسة أبيه، وقد ساعده على ذلك ما حباه الله به من عقل راجح، وذهن متقد، وحافظة قوية، مع حبه للعلم وشغفه بالاطلاع والبحث.

بين الدرس والتدريس

وكان الجويني ذا روح وثّابة إلى الحق والمعرفة، يميل إلى البحث والنقد والاستقصاء؛ فلا يقبل ما يأباه عقله، ويرفض ما بدا له فيه أدنى شبهة أو ريبة، وظل الجويني ينهل من العلم والمعرفة في شغف ودأب شديدين حتى صار من أئمة عصره المعروفين وهو لم يتجاوز العشرين من عمره، فلما توفي أبوه جلس مكانه للتدريس وهو في تلك السن المبكرة؛ فكان يدرس المذهب الشافعي، ويدافع عن العقيدة الأشعرية، ولكن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في البحث ومواصلة التحصيل والاطلاع؛ فكان تلميذا وأستاذا في آن واحد.

ومع أن والده كان هو المعلم الأول في حياته، فإن ذلك لم يمنعه من التلقي على مشاهير علماء عصره؛ فأخذ علوم الفقه عن "أبي القاسم الإسفراييني"، كما تلقى علوم القرآن الكريم على يد "أبي عبد الله محمد بن علي النيسابوري الجنازي" الذي عرف بشيخ القراء، وغيرهم.

في الحجاز

كان نجم الجويني قد بدأ يلمع في نيسابور وما حولها، وانتشر صيته حتى بلغ العراق والشام والحجاز ومصر، لكنه تعرض لبعض العنت والتضييق، فاضطر إلى مغادرة نيسابور، وتوجه إلى بغداد فأقام فيها فترة وتوافد عليه الطلاب والدارسون، وما لبث أن رحل إلى الحجاز فأقام بمكة وظل بها أربع سنوات يدرّس ويفتي ويناظر ويؤم المصلين بالمسجد الحرام حتى لقبه الناس بـ"إمام الحرمين" لعلمه واجتهاده وإمامته، وكان يقضي يومه بين العلم والتدريس ويقيم ليله طائفا متعبدا في الكعبة المشرفة؛ فصفت نفسه، وعلت همته، وارتفع قدره.

وقد عرف التصوف الحق طريقه إلى قلب الجويني؛ فكانت مجالسه الصوفية رياضة روحية وسياحة نفسية يحلق بها في آفاق إيمانية وحبه، يبكي فيبكي الحاضرون لبكائه، ويجد فيها مجاهدة لنفسه ومراجعة لها.

وعاد الجويني مرة أخرى إلى نيسابور؛ حيث قام بالتدريس في "المدرسة النظامية" التي أنشأها له الوزير "نظام الملك" لتدريس المذهب السني.

وظل الإمام الجويني يدرس بالمدرسة النظامية، فذاع صيته بين العلماء، وقصده الطلاب والدارسون من البلاد الأخرى.

وكانت هذه الفترة من أخصب الفترات في حياة الإمام؛ ففيها بلغ أوج نضجه العلمي، وصنف الكثير من مؤلفاته.

مؤلفاته

ومؤلفات الجويني على كثرتها لم تنل القدر الملائم لها من العناية والاهتمام من قبل الباحثين والمحققين، فمعظمها لا يزال مخطوطا، ولم يُطبع منها إلا عدد قليل منها:

- الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد.

- البرهان في أصول الفقه.

- الرسالة النظامية (أو العقيدة النظامية).

- الشامل في أصول الدين.

- غياث الأمم في التياث الظلم. ومعناه: منقذ الأمم من الوقوع في الظُلَم.

- لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة.

- الورقات في أصول الفقه.

وبرغم ما عرف به الجويني من غزارة العلم، وما اتسم به من رجاحة العقل وحب العلم، وما بذله من جهد صادق في خدمة الدين، فإنه كان هدفا لبعض الطاغين عليه، الذين حاولوا النيل من علمه والتشكيك في صحة عقيدته، وذلك من خلال أقوال اقتطعوها من كلامه، وأخرجوها من سياقها، وراحوا يفسرونها على هواهم، وفق ما أرادوا توجيهها إليه، ولكنها اتهامات مرسلة، ومطاعن واهية لا تستند إلى حقائق علمية.

وبعد رحلة حياة حافلة بالعلم والعطاء، أصيب الجويني بعلة شديدة، فلما أحس بوطأة المرض عليه انتقل إلى "بشتنقان" للاستشفاء بجوها المعتدل، ولكن اشتد عليه المرض فمات بها، وذلك في مساء الأربعاء (25 من ربيع الآخر 478هـ= 20 من أغسطس 1185م) عن عمر بلغ تسعا وخمسين عاما.‏‏

منقول

عبدالغفور الخطيب
24-05-2006, 04:01 AM
ابن سِيدَهْ وصناعة المعاجم العربية

(في ذكرى وفاته: 26 ربيع الآخر 458هـ)


كانت مدينة مرسية التي تقع في شرقي الأندلس تموج بحركة علمية زاهرة، وتنتشر فيها حلقات العلم التي يتصدرها أئمة أعلام، ويقصدها طلاب العلم ومحبو الثقافة والمعرفة، وكانت تنثر في تلك الحلقات مسائل الفقه وقضايا اللغة والأدب، أو تختص بإقراء القرآن ورواية الحديث.

مولد ابن سِيدَهْ ونشأته

استقبلت مدينة مرسية مولد علي بن إسماعيل سنة 398هـ = 1007م، ونشأ في بيت علم، فكان أبوه معلما للغة والنحو، فتعهد ابنه بالرعاية والتعليم، وشاءت الأقدار أن يكون الطفل ضريرا مثل أبيه، لكن الله رزقه حافظة لاقطة وذهنا متوقدا، وذكاء حادا، عوض فقدان البصر.

ولم تطل الحياة بأبيه، فتوفي وترك ابنه صغيرا لم يحصل شيئا ذا بال، لكن همة الصغير الناشئ سمت على اليتم وفقد العائل، فتردد على حلقات العلم ينهل منها بشغف لا يقف عند حد، حتى إن أبا عمر الطلمنكي حين دخل مرسية أراد أهلها أن يسمعوا عليه كتاب "الغريب المصنف" لأبي عبيد القاسم بن سلام وهو من كتب اللغة التي تُعنى بالغريب فقال لهم: انظروا من يقرأ لكم، وأمسك أنا كتابي، فأتوه بابن سِيده، فقرأ عليه من حفظه الكتاب كله من أوله إلى آخره.

شيوخه وأساتذته

يذكر المؤرخون أن ابن سيده أخذ عن صاعد البغدادي الوافد على الأندلس من المشرق، وكان من العارفين باللغة وفنون الأدب والأخبار، وتتلمذ على أبي عمر أحمد بن محمد الطلمنكي المتوفى سنة 428هـ = 1036م، وكان إماما في القراءات، ثقة في رواية اللغة، مفسرا محدثا، مشهورا بالورع ومحاربة البدع.

وقد درس ابن سيده ما كان شائعا في عصره وما يتفق مع حالته، فعني بعلوم اللغة والدين، ونهل منهما بالقدر الذي كانت تسعفه به ذاكرته الجبارة، حتى وصفه معاصروه بأنه كان حافظا لم يكن في زمانه أعلم منه بالنحو واللغة والأشعار وأيام العرب، كما توفر على علوم الحكمة والمنطق حتى وصفه صاعد اللغوي بأنه من حُذّاق المنطق، وقال فيه ابن قاضي شهبة في طبقاته: "ومن وقف على خطبة كتاب المُحْكَم علم أنه من أرباب العلوم العقلية، وكتب خطبة كتاب في اللغة إنما تصلح أن تكون خطبة لكتاب الشفاء لابن سينا".

ابن سِيدَهْ في بلاط مجاهد العامري

كانت الفترة التي عايشها ابن سيده فترة قلق وصراع على السلطة بعد وفاة المنصور بن أبي العامر، وانتهاء دولة الأمويين في الأندلس سنة 428هـ، وأسفر الصراع عن ظهور دول الطوائف واستقلال كل إمارة بأمير يتولى أمرها، وكان من نصيب مدينة دانية في شرقي الأندلس أن استقل بحكمها مجاهد بن عبد الله العامري، وكان من أصحاب الهمة العالية، محبا للعلم وأهله؛ فقصده العلماء والفقهاء يلقون في كنفه كل رعاية وتقدير، فقصده ابن سيده وانقطع له، وألف له أعظم كتبه: المخصص والمحكم.

مؤلفات ابن سِيدَه

ترك ابن سيده مؤلفات كثيرة وصل إلينا بعضها، وفُقد بعضها الآخر، أو لا يزال مطمورا في دور الكتب والمحفوظات لم تمتد إليه يد البحث، ومن الكتب الغائبة التي تذكرها المصادر التي ترجمت له: الأنيق في ستة مجلدات، وهو شرح لديوان الحماسة لأبي تمام، وشرح إصلاح المنطق لابن السِّكّيت، والوافي في علم القوافي، وله كتاب شاذ اللغة في خمسة مجلدات، وكتاب في التذكير والتأنيث.

وأما ما وصل إلينا من مؤلفات ابن سيده فثلاثة هي: المشكل من شعر المتنبي، والمحكم والمحيط الأعظم، والمخصص. والكتابان الأخيران هما اللذان طيّرا شهرة ابن سيده وجعلاه يتبوأ منزلة رفيعة بين صانعي المعاجم العربية، باعتباره واحدا من روادها العظام، وسنتناولها بشيء من التفصيل رغبة في الإفادة.

المحكم والمحيط الأعظم

وهو معجم عربي كبير ألفه ابن سِيدَه في إمارة مجاهد بن عبد الله العامري، والتزم في ترتيب مواده الترتيب الذي اخترعه الخليل بن أحمد في معجمه العين، وكانت طريقته تقوم على ترتيب الحروف تبعا لمخارجها مبتعدا بالأعمق في الحلق، ومنتهيا بما يخرج من الشفتين فاستقام له الترتيب التالي: ع ح هـ خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ذ ث ر ل ن ف ب م و ي ا ء، وسمى كل حرف منها كتابا، مع تقسيم كل كتاب إلى أبواب حسب أبنية الألفاظ من حيث كونها ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو خماسية، والأخذ بمبدأ التقاليب، فمثلا حرف العين الذي استهل به معجمه يمكن أن يتغير موضعه في البناء الثنائي مرتين، فيأتي أول البناء الثنائي أو ثانيه، وفي البناء الثلاثي يمكن أن يكون العين في أوله أو ثانيه أو ثالثه، وفي البناء الرباعي يكون أربعا، وفي الخماسي يكون خمسا، فإذا كان الحرف الثاني مع العين في البناء الثنائي باء، فإنه لا يمكن أن يأتي منهما إلا صورتان هما عب وبع، فإذا كانت العين في البناء الثلاثي ومعها حرفان كالباء والدال، أمكن أن يأتي منها ست صور هي: عبد بعد بدع عدب، دعب، دبع، وترتفع هذه الصور في البناء الرباعي إلى 24 صورة، وفي الخماسي إلى 120 صورة.

وقد أراد ابن سِيده أن يجمع في كتابه ما تشتت من المواد اللغوية في الكتب والرسائل وتصحيح ما ورد فيها من أخطاء وربط اللغة بالقرآن والحديث، مع العناية بالتنظيم والاختصار في ترتيب المواد كتقديم المجرد على المزيد والمفرد على الجمع وتحاشي التكرار، وبذلك خطا ابن سيده بمناهج تأليف المعاجم خطوة مفيدة إلى الأمام، غير أن طريقة هذه المعاجم في ترتيب موادها كانت تلقى صعوبة في الكشف والاستخدام، الأمر الذي أدى إلى ظهور مدارس أخرى في المعاجم لتيسير البحث في الكشف عن المواد اللغوية، حتى استقرت إلى ما هو متبع الآن في المعاجم الحديثة مثل المعجم الوسيط.

المخصص

وهو أضخم المعاجم العربية التي تعنى بجمع ألفاظ اللغة وتكوينها حسب معانيها لا تبعًا لحروفها الهجائية، فلم يكن الغرض من تأليفها جمع اللغة واستيعاب مفرداتها شأن المعاجم الأخرى، وإنما كان الهدف هو تصنيف الألفاظ داخل مجموعات وفق معانيها المتشابهة، بحيث تنضوي تحت موضوع واحد.

وقد قسم ابن سيده كتابه إلى أبواب كبيرة سماها كتبا تتناول موضوعا محددا، ورتب هذه الكتب ترتيبا منطقيا، فبدأ بالإنسان ثم الحيوان ثم الطبيعة فالنبات، وأعطى كل كتاب عنوانا خاصا به مثل: خلق الإنسان والنساء واللباس والطعام والأمراض والسلاح والخيل والإبل والغنم والوحوش والحشرات والطير والسماء والفلك.

ثم قسم كل كتاب بدوره إلى أبواب صغيرة حسبما يقتضيه المقام إمعانا في الدقة ومبالغة في التقصي والتتبع، فيذكر في باب الحمل والولادة أسماء ما يخرج مع الولد أولا، ثم يذكر الرضاع والفطام والغذاء وسائر ضروب التربية ويتحدث عن غذاء الولد وأسماء أول أولاد الرجل وآخرهم، ثم أسماء ولد الرجل في الشباب والكبر، وهكذا.

ويلتزم في شرح الألفاظ ببيان الفروق بين الألفاظ والمترادفات وتفسيرها بوضوح، مع الإكثار من الشواهد، وذكر العلماء الذين استقى عنهم مادته.

وقد طُبع المخصص في سنة 1316هـ = 1898م في سبعة عشر جزءا، ونشر معهد المخطوطات العربية معجم المحكم بعناية عدد من كبار المحققين.

وفاة ابن سيده

وبعد حياة علمية حافلة تُوفي ابن سِيدَه في "دانية" عشية يوم الأحد الموافق (26 من ربيع الآخر 408هـ = 27 من مارس 1065م)، وعمره ستون سنة أو نحوها.

منقول

عبدالغفور الخطيب
29-05-2006, 05:42 AM
ابن البواب.. عبقري الخط العربي

في ذكرى وفاته 2 من جمادى الأولى 413هـ

كان الخط الذي يكتب به العرب في بدء ظهور الإسلام هو الخط الأنباري الحيري، الذي سُمِّي بعد انتقاله إلى الحجاز بـ"الحجازي"، وهو أصل الخط النسخ، وكان يكتب به عدد قليل من العرب، ولا يتجاوز من يكتبه من قريش بضعة عشر شخصًا، ولما انتصر النبي (صلى الله عليه وسلم) في "بدر" وأسر جماعة من قريش كان فيهم من يتقن الكتابة، قَبِلَ الفداء من الأميين منهم، وجعل الكاتب يفدي نفسه بتعليم عشرة من صبيان المدينة، فانتشرت الكتابة بين المسلمين، وما كاد يتم نزول القرآن حتى كان لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أكثر من أربعين كاتبًا.

وأشهر كُتاب الصحابة أربعةُ وهم ممن كتبوا المصاحف لعثمان، وهم: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام.

ولما فتح المسلمون الممالك نزلت جمهرة من الكتاب الكوفة، واعتنوا بتجويد الخط العربي، وهندسة أشكاله؛ حتى صار خط أهل الكوفة مميزًا بشكله عن الخط الحجازي، واستحق أن يُسمى باسم خاص هو "الخط الكوفي"، وكانت تكتب به المصاحف.

وفي عهد الدولة الأموية بدأ الخط العربي في السمو والارتقاء، ونبغ في نهاية عصرها رجل يقال له "قطبة المحرر"، اشتهر بجمال الخط، ويُعزى إليه الفضل في تحويل الخط العربي من الشكل الكوفي إلى ما يقارب الصورة التي نرى الخط عليها الآن، وهو الذي ابتكر القلم الجليل الذي يُكتب به على المباني ونحوها، وهو ما نسميه الآن بالخط "الجلي" أي الكبير الواضح.

وفي صدر الدولة العباسية لَمَع في فن كتابة الخط "إبراهيم الشحري" وأخوه "يوسف"، وقد ولّد الأول من الخط "الجليل" قلم الثلثين، ثم ولّد قلم الثلث، ووّلد يوسف من "الجليل" قلمًا دقيقًا للتوقيع، أطلق عليه "القلم الرِّياسي" نسبة إلى "الفضل بن سهل" ذي الرياستين وزير المأمون، الذي أمر ألا تحرر الكتب السلطانية إلا به.

وتعلم "الأحول المحرر" الخط من "إبراهيم الشحري"، وأجاد في فنه، واخترع أقلامًا جديدة مبتكرة، وعن الأحول أخذ الوزير "أبو علي محمد بن مقلة" وأخوه "أبو عبد الله الحسن"، وتم على أيديهما هندسة خط النسخ والجليل وفروعه على الأشكال التي نعرفها الآن، كما قدّرا مقاييس الحروف وأبعادها وضبطاها ضبطًا محكمًا، ووضعا القواعد لها، وعن الوزير "ابن مقلة" أخذ "أبو عبد الله بن أسد" القارئ المُتوفّى سنة (410هـ = 1019م)، وعلى يديه تعلم "ابن البواب" عبقري الخط العربي، موضع دراستنا اليوم.

نشأة ابن البواب

في بغداد وُلد "أبو الحسن علي بن هلال بن عبد العزيز"، المعروف بابن البواب؛ لأن أباه كان يعمل بوابًا، ولا يعرف على وجه اليقين تاريخ مولده، وإن كان يرجح أنه ولد في حدود سنة (350هـ = 961م).

نشأ ابن البواب في بغداد، وتلقى علوم العربية عن أبي الفتح عثمان بن جني اللغوي المعروف، المتوفَّى سنة (392هـ = 1002م)، وتعلم فنون الكتابة الخطية على يد ابن أسد الخطاط المشهور.

عمل ابن البواب في أول شبابه ومستهل حياته في تزيين سقوف البيوت وجدرانها، ثم عمل في صناعة الأختام قبل أن يعمل في مجال الخط الذي برع فيه.

وكان كاتبًا ماهرًا إلى جانب كونه خطاطًا بارعًا، وله رسالة بارعة أنشأها في فن الكتابة، ذكرها "ياقوت الحموي" في معجم الأدباء، وأثنى ابن الفوطي على أدبه، فقال: "ورزق مع ملاحة الكتاب محاسن الآداب، من الفضل الظاهر والنظم الباهر".

طريقته في الخط


يذكر المؤرخون أن ابن البواب هذب طريقة ابن مقلة الخطاط العظيم، ونقحها وكساها طلاوة وبهجة. وابن مقلة هذا بلغ من الإتقان والذيوع إلى الحد الذي وصفه "أبو حيان التوحيدي" بأنه نبي في الخط، أُفرغ الخطُّ في يده كما أوحي إلى النحل في تسديس بيوته. ويصفه الثعالبي بأن خطه يضرب به المثل في الحسن؛ لأنه أحسن خطوط الدنيا. فإذا كان هذا هو حال ابن مقلة الخطاط الكبير، فانظر إلى مبلغ ابن البواب في هذا الفن.

ويرى القزويني في "آثار البلاد": "أن ابن البواب نقل طريقة ابن مقلة إلى طريقته التي عجز عنها جميع الكتاب من حسنها وحلاوتها وقوتها وصفائها، فإنه لو كتب حرفًا واحدًا مائة مرة لا يخالف شيء منها شيئًا؛ لأنها قلبت في قالب واحد".

وقد درس المستشرق "رايس" خصائص خط ابن البواب، مستعينًا بالمصحف الشريف الذي خطّه ابن البواب، والمحفوظ في مكتبة "جستر بيتي" بدبلن، وقام بالمحاولة نفسها الباحث العراقي هلال ناجي في كتابه "ابن البواب" عبقري الخط العربي عبر العصور. واستطاع أن يقف على خصائص طريقة ابن البواب في الكتابة من خلال الاستعانة بنصوص له، تصف الطريقة المثلى لشكل كل حرف وهيئته.

آثاره

ترك ابن البواب منظومة في فن الخط وآثارًا فنية خطها للمصحف الشريف وبعض الكتب. أما المنظومة فهي: رائية ابن البواب في الخط والقلم، وهي في أدوات الكتابة، وقد نشرها نفر من الباحثين مثل: محمد بهجة الأثري، ولها شرح بقلم ابن الوحيد شرف الدين محمد بن شريف الزرعي، المتوفى في القاهرة سنة (711هـ = 1311م) بعنوان "شرح ابن الوحيد على رائية ابن البواب"، ونشر هذا الشرح في تونس سنة (1387هـ = 1967م).

ومن آثاره الباقية: المصحف الذي كتبه في بغداد سنة (391هـ = 1000م)، وهو محفوظ في مكتبة "جستر بيتي" في دبلن بأيرلندا، وهو مزخرف زخرفة رائعة لا تقل جمالاً عن خطه، وهي من عمل ابن البواب نفسه.

وخط رسالة أبي عثمان بن بحر الجاحظ في مدح الكتب والحث على جمعها، وهي محفوظة في خزانة متحف الآثار التركية الإسلامية بالآستانة، وهي مختومة بقوله: "كتبه علي بن هلال حامد الله تعالى على نعمه".

وخط شعر سلامة بن جندل، وتحتفظ خزانة "قصر بغداد" بمتحف "سراي طوب قبو" بالآستانة بنسخة منها، كما تحتفظ مكتبة "آيا صوفيا" بالآستانة بنسخة أخرى، ومن آثاره التي وصلتنا "دعاء روي عن زيد بن ثابت"، وديوان شعر الحادرة، وهو من مخطوطات دار الكتب المصرية، ورسالة أحمد بن الواثق إلى محمد بن يزيد التمالي النحوي يسأله عن أفضل البلاغتين.

وفاته

وقد لقي ابن البواب الثناء والتقدير من المؤرخين، فأجمعوا على أنه كان إمامًا في الخط لم ينافسه أحد، ولقبوه بألقاب بديعة، فيقول عنه الذهبي: إنه ملك الكتابة. ولقبه المؤرخ ابن الفوطي بأنه "قلم الله في أرضه"، ومدحه ابن الرومي، فقال يمدح جمال خطه:

ولاح هلال مثل نون أجادها ...... بجاري النُّضار الكاتب ابن هلال

وظل ابن البواب موضع تقدير وإجلال حتى لقي ربه في (2 من جمادى الأولى 413هـ = 3 من أغسطس 1022م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
01-06-2006, 01:51 AM
ابن الأثير.. صاحب "الكامل" في التاريخ

(في ذكرى ميلاده: 4 من جمادى الأولى 555هـ)

كانوا ثلاثة إخوة، برزوا في علوم اللغة والأدب والتاريخ والحديث والفقه، واشتهر كل واحد منهم بـ"ابن الأثير"، وهم جميعا من أبناء بلدة "جزيرة ابن عمر" التابعة للموصل، وكان أبوهم من أعيان هذه البلدة وأثريائها، أما أكبرهم فهو مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد، فقيه محدث، اشتغل بدراسة القرآن والحديث والنحو حتى صار علما بارزا، وترك مؤلفات عظيمة أشهرها: "جامع الأصول في أحاديث الرسول" جمع فيه الكتب الصِّحَاح الستة، وتوفي سنة (606هـ= 1209م).

وأما أصغرهم فهو ضياء الدين أبو الفتح نصر الله، المعروف بضياء الدين بن الأثير، الكاتب الأديب، أتقن صنعة الكتابة، واشتهر بها بجودة أسلوبه وجمال بيانه، التحق بخدمة صلاح الدين وأبنائه في حلب ودمشق، وترك مصنفات أدبية قيّمة، أشهرها: "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر"، وهو من أهم الكتب التي تعالج فن الكتابة وطرق التعبير، وتوفي سنة (637هـ= 1239م).

أما أوسطهم فهو عز الدين بن الأثير المؤرخ الكبير، وهو موضع حديثنا.

المولد والنشأة

ولد علي بن أبي الكرم محمد بن محمد المعروف بعز الدين بن الأثير في (4 من جمادى الآخرة سنة 555هـ= 13 من مايو 1160م) بجزيرة ابن عمر، وعني أبوه بتعليمه، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم استكمل دراسته بالموصل بعد أن انتقلت إليها أسرته، وأقامت بها إقامة دائمة، فسمع الحديث من أبي الفضل عبد الله بن أحمد، وأبي الفرج يحيى الثقفي، وتردد على حلقات العلم التي كانت تُعقد في مساجد الموصل ومدارسها، وكان ينتهز فرصة خروجه إلى الحج، فيعرج على بغداد ليسمع من شيوخها الكبار، من أمثال أبي القاسم يعيش بن صدقة الفقيه الشافعي، وأبي أحمد عبد الوهاب بن علي الصدمي. ورحل إلى الشام وسمع من شيوخها، ثم عاد إلى الموصل ولزم بيته منقطعا للتأليف والتصنيف.

ثقافته

في رحلته الطويلة لطلب العلم وملاقاة الشيوخ، والأخذ منهم، درس ابن الأثير الحديث والفقه والأصول والفرائض والمنطق والقراءات؛ لأن هذه العلوم كان يجيدها الأساتذة المبرزون ممن لقيهم ابن الأثير، غير أنه اختار فرعين من العلوم وتعمق في دراستهما هما: الحديث والتاريخ، حتى أصبح إماما في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به، حافظا للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، خبيرا بأنساب العرب وأيامهم وأحبارهم، عارفًا بالرجال وأنسابهم لا سيما الصحابة.

وعن طريق هذين العلمين بنى ابن الأثير شهرته في عصره، وإن غلبت صفة المؤرخ عليه حتى كادت تحجب ما سواها. والعلاقة بين التخصصين وثيقة جدا؛ فمنذ أن بدأ التدوين ومعظم المحدثين العظام مؤرخون كبار، خذ مثلا الإمام الطبري، فهو يجمع بين التفسير والفقه والتاريخ، والإمام الذهبي كان حافظا متقنا، وفي الوقت نفسه كان مؤرخا عظيما، وكذلك كان الحافظ ابن عساكر بين هاتين الصفتين… والأمثلة كثيرة يصعب حصرها.

مؤلفاته

وقد توافرت لابن الأثير المادة التاريخية التي استعان بها في مصنفاته، بفضل صلته الوثيقة بحكام الموصل، وأسفاره العديدة في طلب العلم، وقيامه ببعض المهام السياسية الرسمية من قبل صاحب الموصل، ومصاحبته صلاح الدين في غزواته -وهو ما يسر له وصف المعارك كما شاهدها- ومدارسته الكتب وإفادته منها، ودأبه على القراءة والتحصيل، ثم عكف على تلك المادة الهائلة التي تجمعت لديه يصيغها ويهذبها ويرتب أحداثها حتى انتظمت في أربعة مؤلفات، جعلت منه أبرز المؤرخين المسلمين بعد الطبري وهذه المؤلفات هي:

-الكامل في التاريخ، وهو في التاريخ العام.

-والتاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، وهو في تاريخ الدول، ويقصد بالدولة الأتابكية الدولة التي أسسها عماد الدين زنكي في الموصل سنة (521هـ = 1127م) وهي الدولة التي عاش في كنفها ابن الأثير.

-وأسد الغابة في معرفة الصحابة، وهو في تراجم الصحابة.

-واللباب في تهذيب الأنساب، وهو في الأنساب.

وبذلك يكون ابن الأثير قد كتب في أربعة أنواع من الكتابة التاريخية، وسنتعرض لاثنين منهما بإيجاز واختصار.

الكامل في التاريخ

وهو تاريخ عام في 12 مجلدًا، منذ الخليقة وابتداء أول الزمان حتى عصره، حيث انتهى عند آخر سنة (628هـ) أي إنه يعالج تاريخ العالم القديم حتى ظهور الإسلام، وتاريخ العالم الإسلامي منذ ظهور الإسلام حتى عصره، والتزم في كتابه بالمنهج الحولي في تسجيل الأحداث، فهو يسجل أحداث كل سنة على حدة، وأقام توازنًا بين أخبار المشرق والمغرب وما بينهما على مدى سبعة قرون وربع قرن، وهو ما أعطى كتابه طابع التاريخ العام أكثر أي تاريخ عام لغيره، وفي الوقت نفسه لم يهمل الحوادث المحلية في كل إقليم، وأخبار الظواهر الجوية والأرضية من غلاء ورخص، وقحط وأوبئة وزلازل.

ولم يكن ابن الأثير في كتابه ناقل أخبار أو مسجل أحداث فحسب، وإنما كان محللا ممتازا وناقدا بصيرا؛ حيث حرص على تعليل بعض الظواهر التاريخية ونقد أصحاب مصادره، وناقش كثيرا من أخبارهم.. وتجد لديه النقد السياسي والحربي والأخلاقي والعملي يأتي عفوا بين ثنايا الكتاب، وهو ما جعل شخصيته التاريخية واضحة تماما في كتابة على الدوام.

وتعود أهمية الكتاب إلى أنه استكمل ما توقف عنده تاريخ الطبري في سنة (302هـ) وهي السنة التي انتهى بها كتابه، فبعد الطبري لم يظهر كتاب يغطي أخبار حقبة تمتد لأكثر من ثلاثة قرون، كما أن الكتاب تضمن أخبار الحروب الصليبية مجموعة متصلة منذ دخولهم في سنة (491=1097) حتى سنة (628هـ= 1230)، كما تضمن أخبار الزحف التتري على المشرق الإسلامي منذ بدايته في سنة (616هـ= 1219م). وقد كتب ابن الأثير تاريخه بأسلوب نثري مرسل لا تكلف فيه، مبتعدا عن الزخارف اللفظية والألفاظ الغريبة، معتنيا بإيراد المادة الخبرية بعبارات موجزة واضحة.

أُسْد الغابة

وموضوع هذا الكتاب هو الترجمة لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم الذين حملوا مشعل الدعوة، وساحوا في البلاد، وفتحوا بسلوكهم الدول والممالك قبل أن يفتحوها بالطعن والضرب. وقد رجع ابن الأثير في هذا الكتاب إلى مؤلفات كثيرة، اعتمد منها أربعة كانت عُمُدًا بالنسبة له، هي: "معرفة الصحابة" لأبي نعيم، و"الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن الأثير، و"معرفة الأصحاب" لابن منده، و"الذيل على معرفة الأصحاب" لابن منده.

وقد اشتمل الكتاب على ترجمة (7554) صحابيا وصحابية تقريبا، يتصدره توطئه لتحديد مفهوم الصحابي؛ حتى يكون القارئ على بينه من أمره. والتزم في إيراد أصحابه الترتيب الألفبائي، ويبتدئ ترجمته للصحابي بذكر المصادر التي اعتمد عليها، ثم يشرع في ذكر اسمه ونسبه وهجرته إن كان من المهاجرين، والمشاهد التي شهدها مع الرسول صلى الله عليه وسلم إن وجدت، ويذكر تاريخ وفاته وموضعها إن كان ذلك معلوما، وقد طبع الكتاب أكثر من مرة.

وفاته

ظل ابن الأثير بعد رحلاته مقيما بالموصل، منصرفا إلى التأليف، عازفا عن المناصب الحكومية، متمتعا بثروته التي جعلته يحيا حياة كريمة، جاعلا من داره ملتقى للطلاب والزائرين حتى توفي في (شعبان 639هـ= 1232م).


منقول

عبدالغفور الخطيب
04-06-2006, 02:38 AM
محمد عبده رائد الإصلاح في العصر الحديث

( ذكرى وفاته في 8 من جمادى الأولى 1323هـ)


يُعدّ "الإمام محمد عبده" واحدًا من أبرز المجددين في الفقه الإسلامي في العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة؛ فقد ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، كما شارك في إيقاظ وعي الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة التطورات السريعة في العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية.

في الجامع الأحمدي

وُلد الإمام "محمد عبده" في عام (1266هـ = 1849م) لأب تركماني الأصل، وأم مصرية تنتمي إلى قبيلة "بني عدي" العربية، ونشأ في قرية صغيرة من ريف مصر هي قرية "محلة نصر" بمحافظة البحيرة.

أرسله أبوه- كسائر أبناء قريته- إلى الكُتّاب، حيث تلقى دروسه الأولى على يد شيخ القرية، وعندما شبَّ الابن أرسله أبوه إلى "الجامع الأحمدي"- جامع السيد البدوي- بطنطا، لقربه من بلدته؛ ليجوّد القرآن بعد أن حفظه، ويدرس شيئًا من علوم الفقه واللغة العربية.

وكان محمد عبده في نحو الخامسة عشرة من عمره، وقد استمر يتردد على "الجامع الأحمدي" قريبًا من العام ونصف العام، إلا أنه لم يستطع أن يتجاوب مع المقررات الدراسية أو نظم الدراسة العقيمة التي كانت تعتمد على المتون والشروح التي تخلو من التقنين البسيط للعلوم، وتفتقد الوضوح في العرض، فقرر أن يترك الدراسة ويتجه إلى الزراعة.. ولكن أباه أصر على تعليمه، فلما وجد من أبيه العزم على ما أراد وعدم التحول عما رسمه له، هرب إلى بلدة قريبة فيها بعض أخوال أبيه.

مع الشيخ درويش خضر

وهناك التقى بالشيخ الصوفي "درويش خضر"- خال أبيه- الذي كان له أكبر الأثر في تغيير مجرى حياته.

وكان الشيخ درويش متأثرًا بتعاليم السنوسية التي تتفق مع الوهابية في الدعوة إلى الرجوع إلى الإسلام الخالص في بساطته الأولى، وتنقيته مما شابه من بدع وخرافات.

واستطاع الشيخ "درويش" أن يعيد الثقة إلى محمد عبده، بعد أن شرح له بأسلوب لطيف ما استعصى عليه من تلك المتون المغلقة، فأزال طلاسم وتعقيدات تلك المتون القديمة، وقرّبها إلى عقله بسهولة ويسر.

وعاد محمد عبده إلى الجامع الأحمدي، وقد أصبح أكثر ثقة بنفسه، وأكثر فهمًا للدروس التي يتلقاها هناك، بل لقد صار "محمد عبده" شيخًا ومعلمًا لزملائه يشرح لهم ما غمض عليهم قبل موعد شرح الأستاذ.

وهكذا تهيأ له أن يسير بخطى ثابتة على طريق العلم والمعرفة بعد أن عادت إليه ثقته بنفسه.

في الأزهر

انتقل محمد عبده من الجامع الأحمدي إلى الجامع الأزهر عام (1282 هـ = 1865م)، وقد كان الأزهر غاية كل متعلم وهدف كل دارس، فدرس الفقه والحديث والتفسير واللغة والنحو والبلاغة، وغير ذلك من العلوم الشرعية واللغوية.

وكانت الدراسة في الأزهر- في ذلك الوقت- لا تخرج عن هذه العلوم في شيء، فلا تاريخ ولا جغرافيا ولا طبيعة ولا كيمياء ولا رياضيات وغير ذلك من العلوم التي كانت توصف- آنذاك- بعلوم أهل الدنيا.

ولذلك فَقَدْ شَابَ الدراسة في الأزهر- في ذلك الوقت- كثير من التخلف والجمود، وتوقفت العلوم عند ظواهر الأشياء دون النفاذ إلى الجوهر، ومن ثم كانت الدراسة تنصبّ على المتون والحواشي والشروح بالدرجة الأولى.

واستمر "محمد عبده" يدرس في "الأزهر" اثني عشر عامًا، حتى نال شهادة العالمية سنة (1294هـ = 1877م).

رجال في حياة الإمام

تأثر الشيخ "محمد عبده" بعدد من الرجال الذين أثروا حياته وأثّروا فيها، وكان من أولهم الشيخ "درويش خضر" الذي كان يلتقي به في إجازته من كل عام، فيتعهده بالرعاية الروحية والتربية الوجدانية، فيصب في روحه من صوفيته النقية، ويشحذ عزيمته ونفسه بالإرادة الواعية، ويحركه للاتصال بالناس، والتفاعل مع المجتمع، ويدعوه إلى التحدث إلى الناس ونصحهم ووعظهم.

وهو الذي ساعده على تجاوز حدود العلوم التي درسها بالأزهر، ونبهه إلى ضرورة الأخذ من كل العلوم، بما فيها تلك العلوم التي رفضها الأزهر وضرب حولها سياجًا من المنع والتحريم.

ومن ثم فقد اتصل "محمد عبده" بالرجل الثاني الذي كان له أثر كبير في توجيهه إلى العلوم العصرية، وهو الشيخ "حسن الطويل" الذي كانت له معرفة بالرياضيات والفلسفة، وكان له اتصال بالسياسة، وعُرف بالشجاعة في القول بما يعتقد دون رياء أو مواربة.

وقد حركت دروس الشيخ "حسن الطويل" كوامن نفس محمد عبده، ودفعته إلى البحث عن المزيد، وقد وجد ضالته أخيرًا عند السيد "جمال الدين الأفغاني".

صداقة ووئام بين الأفغاني والإمام

كان الأفغاني يفيض ذكاء وحيوية ونشاطا، فهو دائم الحركة، دائم التفكير، دائم النقد، دائم العطاء، وكان محركًا للعديد من ثورات الطلاب ومظاهراتهم؛ فقد وهب نفسه لهدف أسمى وغاية نبيلة هي إيقاظ الدولة الإسلامية من سُباتها، والنهوض بها من كبوتها وضعفها، فعمل على تبصرة الشعوب بحقوقها من خلال تنوير عقول أبنائها.

ووجد "الأفغاني" في "محمد عبده" الذكاء وحسن الاستعداد، وعلو الهمة، فضلا عن الحماسة في الدعوة إلى الإصلاح، ورأى "محمد عبده" من خلال "الأفغاني" الدنيا التي حجبتها عنه طبيعة الدراسة في الأزهر.. وتلازم الشيخان، ونشأت بينهما صداقة صافية، وساد بينهما نوع من الوئام والتوافق والانسجام على أساس من الحب المتبادل والاحترام والتقدير.

الإمام معلمًا

بعد أن نال "محمد عبده" شهادة العالمية من الأزهر، انطلق ليبدأ رحلة كفاحه من أجل العلم والتنوير، فلم يكتف بالتدريس في الأزهر، وإنما درّس في "دار العلوم" وفي "مدرسة الألسن"، كما اتصل بالحياة العامة.

وكانت دروسه في الأزهر في المنطق والفلسفة والتوحيد، وكان يُدرّس في دار العلوم مقدمة ابن خلدون، كما ألّف كتابًا في علم الاجتماع والعمران.

واتصل بعدد من الجرائد، فكان يكتب في "الأهرام" مقالات في الإصلاح الخلقي والاجتماعي، فكتب مقالا في "الكتابة والقلم"، وآخر في "المدبر الإنساني والمدبر العقلي والروحاني"، وثالثا في "العلوم العقلية والدعوة إلى العلوم العصرية".

المنهج الإصلاحي للإمام

وحينما تولّى الخديوي "توفيق" العرش، تقلد "رياض باشا" رئاسة النظار، فاتجه إلى إصلاح "الوقائع المصرية"، واختار الشيخ محمد عبده ليقوم بهذه المهمة، فضم "محمد عبده" إليه "سعد زغلول"، و"إبراهيم الهلباوي"، والشيخ "محمد خليل"، وغيرهم، وأنشأ في الوقائع قسمًا غير رسمي إلى جانب الأخبار الرسمية، فكانت تحرر فيه مقالات إصلاحية أدبية واجتماعية، وكان الشيخ "محمد عبده" هو محررها الأول. وظل الشيخ "محمد عبده" في هذا العمل نحو سنة ونصف السنة، استطاع خلالها أن يجعل "الوقائع" منبرًا للدعوة إلى الإصلاح.

وكان في مصر تياران قويان يتنازعان حركة الإصلاح:

الأول: يمثله فريق المحافظين الذين يرون أن الإصلاح الحقيقي للأمة إنما يكون من خلال نشر التعليم الصحيح بين أفراد الشعب، والتدرج في الحكم النيابي، وكان الإمام "محمد عبده" والزعيم "سعد زغلول" ممن يمثلون هذا التيار.

والثاني: يدعو إلى الحرية الشخصية والسياسية تأسيًا بدول أوروبا، وكانت نواته جماعة من المثقفين الذين تعلموا في أوروبا، وتأثروا بجو الحرية فيها، وأعجبوا بنظمها، ومنهم "أديب إسحاق".

وكان هؤلاء ينظرون إلى محمد عبده ورفاقه على أنهم رجعيون، ولا يوافقونهم فيما ذهبوا إليه من أن الإصلاح ينبغي أن يأتي بالتدريج ليستقر، وليس طفرة فيزول.

الإمام والثورة العرابية

وعندما اشتغلت الثورة العرابية سنة (1299هـ = 1882م) التفّ حولها كثير من الوطنيين، وانضم إليهم الكثير من الأعيان وعلماء الأزهر، واجتمعت حولها جموع الشعب وطوائفه المختلفة، وامتزجت مطالب جنود الجيش بمطالب جموع الشعب والأعيان والعلماء، وانطلقت الصحف تشعل لهيب الثورة، وتثير الجموع، وكان "عبد الله النديم" من أكثر الخطباء تحريضًا على الثورة.

وبالرغم من أن "محمد عبده" لم يكن من المتحمسين للتغيير الثوري السريع فإنه انضم إلى المؤيدين للثورة، وأصبح واحدًا من قادتها وزعمائها، فتم القبض عليه، وأودع السجن ثلاثة أشهر، ثم حُكم عليه بالنفي لمدة ثلاث سنوات.

بين بيروت وباريس

انتقل "محمد عبده" إلى "بيروت" سنة (1300هـ = 1883م)؛ حيث أقام بها نحو عام، ثم ما لبث أن دعاه أستاذه الأفغاني للسفر إليه في باريس حيث منفاه، واستجاب "محمد عبده" لدعوة أستاذه حيث اشتركا معًا في إصدار مجلة "العروة الوثقى" التي صدرت من غرفة صغيرة متواضعة فوق سطح أحد منازل باريس؛ حيث كانت تلك الغرفة هي مقر التحرير وملتقى الأتباع والمؤيدين.

لقد أزعجت تلك المجلة الإنجليز، وأثارت مخاوفهم كما أثارت هواجس الفرنسيين، وكان الإمام محمد عبده وأستاذه وعدد قليل من معاونيهم يحملون عبء تحرير المجلة وتمهيد السبل لها للوصول إلى أرجاء العالم الإسلامي، وكانت مقالات الإمام تتسم في هذه الفترة بالقوة، والدعوة إلى مناهضة الاستعمار، والتحرر من الاحتلال الأجنبي بكل صوره وأشكاله. واستطاع الإنجليز إخماد صوت "العروة الوثقى" الذي أضجّ مضاجعهم وأقلق مسامعهم، فاحتجبت بعد أن صدر منها ثمانية عشر عددا في ثمانية أشهر، وعاد الشيخ "محمد عبده" إلى بيروت سنة (1302هـ = 1885م) بعد أن تهاوى كل شيء من حوله، فقد فشلت الثورة العرابية، وأغلقت جريدة "العروة الوثقى"، وابتعد عن أستاذه الذي رحل بدوره إلى "فارس".

وكان على "محمد عبده" أن يشغل وقته بالتأليف والتعليم، فشرح "نهج البلاغة" ومقامات "بديع الزمان الهمذاني"، وأخذ يدرّس تفسير القرآن في بعض مساجد "بيروت"، ثم دُعي للتدريس في "المدرسة السلطانية" ببيروت، فعمل على النهوض بها، وأصلح برامجها، فكان يدرّس التوحيد والمنطق والبلاغة والتاريخ والفقه، كما كتب في جريدة "ثمرات الفنون" عددًا من المقالات تشبه مقالاته في "الوقائع".

وبالرغم من أن مدة نفيه التي حكم عليه بها كانت ثلاث سنوات فإنه ظل في منفاه نحو ست سنين، فلم يكن يستطيع العودة إلى مصر بعد مشاركته في الثورة على الخديوي "توفيق"، واتهامه له بالخيانة والعمالة، ولكن بعد محاولات كثيرة لعدد من الساسة والزعماء، منهم: "سعد زغلول"، والأميرة "نازلي"، و"مختار باشا"، صدر العفو عن "محمد عبده" سنة (1306هـ = 1889م)، وآن له أن يعود إلى أرض الكنانة.

العودة إلى مصر

كان كل شيء قد أصبح في يد الإنجليز، وكان أهم أهداف الشيخ "محمد عبده" إصلاح العقيدة، والعمل على إصلاح المؤسسات الإسلامية كالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية.. واتخذ "محمد عبده" قراره بمسالمة الخديوي، وذلك حتى يتمكن من تنفيذ برنامجه الإصلاحي الذي يطمح إلى تحقيقه، والاستعانة بالإنجليز أنفسهم إذا اقتضى الأمر، فوضع تقريرًا بعد عودته حول الإصلاحات التي يراها ضرورية للنهوض بالتعليم، ورفعه إلى "اللورد كرومر" نفسه، فحقيقية الأمر التي لا جدال فيها أنه كان القوة الفاعلة والحاكم الحقيقي لمصر.

وكان الشيخ "محمد عبده" يأمل أن يكون ناظرًا لدار العلوم أو أستاذًا فيها بعد عودته إلى مصر، ولكن الخديوي والإنجليز كان لهما رأي آخر؛ ولذلك فقد تم تعيينه قاضيًا أهليًا في محكمة بنها، ثم الزقازيق، ثم عابدين، ثم عين مستشارًا في محكمة الاستئناف سنة (1313هـ = 1895م).

بدأ يتعلم اللغة الفرنسية وهو قاضٍ في "عابدين"- وكانت سنه حينئذ قد شارفت على الأربعين- حتى تمكّن منها، فاطلع على القوانين الفرنسية وشروحها، وترجم كتابًا في التربية من الفرنسية إلى العربية.

الإمام مفتيًا

وعندما تُوفي الخديوي "توفيق" سنة (1310هـ = 1892م)، وتولي الخديوي عباس، الذي كان متحمسًا على مناهضة الاحتلال، سعى الشيخ "محمد عبده" إلى توثيق صلته به، واستطاع إقناعه بخطته الإصلاحية التي تقوم على إصلاح الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، وصدر قرار بتشكيل مجلس إدارة الأزهر برئاسة الشيخ "حسونة النواوي"، وكان الشيخ محمد عبده عضوا فيه، وهكذا أتيحت الفرصة للشيخ محمد عبده لتحقيق حلمه بإصلاح الأزهر، وهو الحلم الذي تمناه منذ أن وطئت قدماه ساحته لأول مرة.

وفي عام (1317هـ = 1899م) تم تعيينه مفتيًا للبلاد، ولكن علاقته بالخديوي عباس كان يشوبها شيء من الفتور، الذي ظل يزداد على مر الأيام، خاصة بعدما اعترض على ما أراده الخديوي من استبدال أرض من الأوقاف بأخرى له إلا إذا دفع الخديوي للوقف عشرين ألف فرقًا بين الصفقتين.

الحملة الشرسة ضد الإمام

وتحول الموقف إلى عداء سافر من الخديوي، فبدأت المؤامرات والدسائس تُحاك ضد الإمام الشيخ، وبدأت الصحف تشن هجومًا قاسيًا عليه لتحقيره والنيل منه، ولجأ خصومه إلى العديد من الطرق الرخيصة والأساليب المبتذلة لتجريحه وتشويه صورته أمام العامة؛ حتى اضطر إلى الاستقالة من الأزهر في سنة (1323هـ = 1905م)، وإثر ذلك أحس الشيخ بالمرض، واشتدت عليه وطأة المرض، الذي تبيّن أنه السرطان، وما لبث أن تُوفي بالإسكندرية في (8 من جمادى الأولى 1323 هـ = 11 من يوليو 1905م) عن عمر بلغ ستة وخمسين عامًا.

منقول

عبدالغفور الخطيب
07-06-2006, 05:02 AM
أبو حنيفة.. الإمام الأعظم

(في ذكرى وفاته: 11 من جمادى الأولى 150هـ)

نزل الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود مدينة الكوفة عقب إنشائها على عهد عمر بن الخطاب سنة 17 هـ ليعلّم الناس ويفقّههم في دينهم، فالتف الناس حوله، وكان بحرا زاخرا من بحور العلم، وكان متأثرا بطريقة عمر بن الخطاب في الاستنباط والبحث، والأخذ بالرأي عند افتقاد النص، مع الاحتياط والتحري في قبول الحديث النبوي.

وبرز من تلامذة ابن مسعود عدد من الفقهاء الأفذاذ، يأتي في مقدمتهم عبيدة بن قيس السلماني، وعلقمة بن قيس النخعي الذي قال عنه شيخه ابن مسعود: لا أعلم شيئا إلا وعلقمة يعلمه، بالإضافة إلى شُريح الكندي الذي ولي قضاء الكوفة في عهد عمر، واستمر على القضاء اثنتين وستين سنة.

وحمل أمانة العلم من بعدهم طبقة لم يدركوا ابن مسعود، ولكن تفقهوا على يد أصحابه، وكان أبرز هذه الطبقة إبراهيم بن يزيد النخعي، فقيه العراق دون منازع، فضلا عن تمكنه الراسخ في علوم الحديث، وهو ينتمي إلى أسرة كريمة، اشتهر كثير من أفرادها بالنبوغ والاشتغال بالفقه.

وعلى يد إبراهيم النخعي تتلمذ حمّاد بن سليمان، وخلفه في درسه، وكان إماما مجتهدا، كانت له بالكوفة حلقة عظيمة، يؤمها طلاب العلم، وكان من بينهم أبو حنيفة النعمان الذي فاق أقرانه وانتهى إليه الفقه وتقلد زعامة مدرسة الرأي من بعد شيخه، والتفّ حوله الراغبون في الفقه، برز منهم تلامذة بررة، على رأسهم أبو يوسف، ومحمد، وزُفر، وعملوا معه على تكوين المذهب الحنفي.

المولد والنشأة

استقبلت الكوفة مولودها النعمان بن ثابت بن النعمان المعروف بأبي حنيفة سنة (80 هـ 699م) وكانت آنذاك حاضرة من حواضر العلم، تموج بحلقات الفقه والحديث والقراءات واللغة والعلوم، وتمتلئ مساجدها بشيوخ العلم وأئمته، وفي هذه المدينة قضى أبو حنيفة معظم حياته متعلما وعالما، وتردد في صباه الباكر بعد أن حفظ القرآن على هذه الحلقات، لكنه كان منصرفا إلى مهنة التجارة مع أبيه، فلما رآه عامر الشعبي الفقيه الكبير ولمح ما فيه مخايل الذكاء ورجاحة العقل أوصاه بمجالسة العلماء والنظر في العلم، فاستجاب لرغبته وانصرف بهمته إلى حلقات الدرس وما أكثرها في الكوفة، فروى الحديث ودرس اللغة والأدب، واتجه إلى دراسة علم الكلام حتى برع فيه براعة عظيمة مكّنته من مجادلة أصحاب الفرق المختلفة ومحاجّاتهم في بعض مسائل العقيدة، ثم انصرف إلى الفقه ولزم حماد بن أبي سليمان، وطالت ملازمته له حتى بلغت ثمانية عشر عاما.

شيوخه

وكان أبو حنيفة يكثر من أداء فريضة الحج حتى قيل إنه حج 55 مرة، وقد مكنته هذه الرحلات المتصلة إلى بيت الله الحرام أن يلتقي بكبار الفقهاء والحفّاظ، يدارسهم ويروي عنهم، وممن التقى بهم من كبار التابعين: عامر الشعبي المتوفى سنة (103 هـ= 721م)، وعكرمة مولى ابن عباس المتوفى سنة (105 هـ = 723م)، ونافع مولى ابن عمر المتوفى (117هـ= 735م)، وزيد بن علي زين العابدين المتوفى سنة (122هـ = 740م)، ويصل بعض المؤرخين بشيوخ أبي حنيفة إلى 4 آلاف شيخ، وتذكر بعض الروايات أنه التقى ببعض الصحابة الذين عاشوا إلى نهاية المائة عام الأولى، وروى عنهم بعض الأحاديث النبوية وهو بذلك ترتفع درجته إلى رتبة التابعين، على أن الراجح أنه وإن صح أنه التقى بعض الصحابة الذين امتدت بهم الحياة حتى عصره فإنه لم يكن في سن من يتلقّى العلم، ولا سيما أنه بدأ العلم في سن متأخرة وأنه انصرف في بداية حياته إلى العمل بالتجارة.

رئاسة حلقة الفقه

وبعد موت شيخه حماد بن أبي سليمان آلت رياسة حلقة الفقه إلى أبي حنيفة، وهو في الأربعين من عمره، والتفّ حوله تلاميذه ينهلون من علمه وفقهه، وكانت له طريقة مبتكرة في حل المسائل والقضايا التي كانت تُطرح في حلقته؛ فلم يكن يعمد هو إلى حلها مباشرة، وإنما كان يطرحها على تلاميذه، ليدلي كل منهم برأيه، ويعضّد ما يقول بدليل، ثم يعقّب هو على رأيهم، ويصوّب ما يراه صائبا، حتى تُقتل القضية بحثا، ويجتمع أبو حنيفة وتلاميذه على رأي واحد يقررونه جميعا.

وكان أبو حنيفة يتعهد تلاميذه بالرعاية، وينفق على بعضهم من ماله، مثلما فعل مع تلميذه أبي يوسف حين تكفّله بالعيش لما رأى ضرورات الحياة تصرفه عن طلب العلم، وأمده بماله حتى يفرغ تماما للدراسة، يقول أبو يوسف المتوفى سنة (182هـ = 797م): "وكان يعولني وعيالي عشرين سنة، وإذا قلت له: ما رأيت أجود منك، يقول: كيف لو رأيت حمادا –يقصد شيخه- ما رأيت أجمع للخصال المحمودة منه".

وكان مع اشتغاله يعمل بالتجارة، حيث كان له محل في الكوفة لبيع الخزّ (الحرير)، يقوم عليه شريك له، فأعانه ذلك على الاستمرار في خدمة العلم، والتفرغ للفقه.

أصول مذهبه

نشأ مذهب أبي حنيفة في الكوفة مهد مدرسة الرأي، وتكونت أصول المذهب على يديه، وأجملها هو في قوله: "إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فيها أخذت بقول أصحابه من شئت، وادع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب فلي أن أجتهد كما اجتهدوا".

وهذا القدر من أصول التشريع لا يختلف فيه أبو حنيفة عن غيره من الأئمة، فهم يتفقون جميعا على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة لاستنباط الأحكام منهما، غير أن أبا حنيفة تميّز بمنهج مستقل في الاجتهاد، وطريقة خاصة في استنباط الأحكام التي لا تقف عند ظاهر النصوص، بل تغوص إلى المعاني التي تشير إليها، وتتعمق في مقاصدها وغاياتها.

ولا يعني اشتهار أبي حنيفة بالقول بالرأي والإكثار من القياس أنه يهمل الأخذ بالأحاديث والآثار، أو أنه قليل البضاعة فيها، بل كان يشترط في قبول الحديث شروطا متشددة؛ مبالغة في التحري والضبط، والتأكد من صحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التشدد في قبول الحديث هو ما حمله على التوسع في تفسير ما صح عنده منها، والإكثار من القياس عليها حتى يواجه النوازل والمشكلات المتجددة.

ولم يقف اجتهاد أبي حنيفة عند المسائل التي تعرض عليه أو التي تحدث فقط، بل كان يفترض المسائل التي لم تقع ويقلّبها على جميع وجوهها ثم يستنبط لها أحكاما، وهو ما يسمى بالفقه التقديري وفرص المسائل، وهذا النوع من الفقه يقال إن أبا حنيفة هو أول من استحدثه، وقد أكثر منه لإكثاره استعمال القياس، روي أنه وضع ستين ألف مسألة من هذا النوع.

تلاميذ أبي حنيفة

لم يؤثر عن أبي حنيفة أنه كتب كتابا في الفقه يجمع آراءه وفتاواه، وهذا لا ينفي أنه كان يملي ذلك على تلاميذه، ثم يراجعه بعد إتمام كتابته، ليقر منه ما يراه صالحا أو يحذف ما دون ذلك، أو يغيّر ما يحتاج إلى تغيير، ولكن مذهبه بقي وانتشر ولم يندثر كما اندثرت مذاهب كثيرة لفقهاء سبقوه أو عاصروه، وذلك بفضل تلاميذه الموهوبين الذين دونوا المذهب وحفظوا كثيرا من آراء إمامهم بأقواله وكان أشهر هؤلاء:

أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم المتوفى (183هـ = 799م) وهو يعدّ أول من دوّن الكتب في مذهب أبي حنيفة، ووصل إلينا من كتبه "الآثار"، وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، وساعده منصبه في القضاء على أن يمكّن لمذهب أبي حنيفة الذيوع والانتشار.

محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة (189هـ = 805م) وهو يعد صاحب الفضل الأكبر في تدوين المذهب، على الرغم من أنه لم يتتلمذ على شيخه أبي حنيفة إلا لفترة قصيرة، واستكمل دراسته على يد أبي يوسف، وأخذ عن الثوري والأوزاعي، ورحل إلى مالك في المدينة، وتلقى عنه فقه الحديث والرواية.

تدوين المذهب

وصلت إلينا كتب محمد بن الحسن الشيباني كاملة، وكان منها ما أطلق عليه العلماء كتب ظاهر الرواية، وهي كتب المبسوط والزيادات، والجامع الكبير والجماع الصغير، والسير الكبير والسير الصغير، وسميت بكتب ظاهرة الرواية؛ لأنها رويت عن الثقات من تلاميذه، فهي ثابتة عنه إما بالتواتر أو بالشهرة.

وقد جمع أبو الفضل المروزي المعروف بالحاكم الشهيد المتوفى سنة (344هـ = 955م) كتب ظاهر الرواية بعد حذف المكرر منها في كتاب أطلق عليه "الكافي"، ثم قام بشرحه شمس الأئمة السرخسي المتوفى سنة (483هـ = 1090م) في كتابه "المبسوط"، وهو مطبوع في ثلاثين جزءا، ويعد من أهم كتب الحنفية الناقلة لأقوال أئمة المذهب، بما يضمه من أصول المسائل وأدلتها وأوجه القياس فيها.

انتشار المذهب

انتشر مذهب أبي حنيفة في البلاد منذ أن مكّن له أبو يوسف بعد تولّيه منصب قاضي القضاة في الدولة العباسية، وكان المذهب الرسمي لها، كما كان مذهب السلاجقة والدولة الغرنوية ثم الدولة العثمانية، وهو الآن شائع في أكثر البقاع الإسلامية، ويتركز وجوده في مصر والشام والعراق وباكستان والهند والصين.

وفاة أبي حنيفة

مد الله في عمر أبي حنيفة، ورزقه الله القبول، وهيأ له من التلاميذ النابهين من حملوا مذهبه ومكنوا له، وحسبه أن يكون من بين تلاميذه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر، والحسن بن زياد، وأقر له معاصروه بالسبق والتقدم، قال عنه النضر بن شميل: "كان الناس نياما عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبيّنه"، وبلغ من سمو منزلته في الفقه أن قال الشافعي: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة".

كما كان ورعا شديد الخوف والوجل من الله، وتمتلئ كتب التاريخ والتراجم بما يشهد له بذلك، ولعل من أبلغ ما قيل عنه ما وصفه به العالم الزاهد فضيل بن عياض بقوله: "كان أبو حنيفة رجلا فقيها معروفا بالفقه، مشهورا بالورع، واسع المال، معروفا بالأفضال على كل من يطيف به، صبورا عل تعليم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام، فكان يحسن أن يدل على الحق، هاربا من مال السلطان".

وتوفي أبو حنيفة في بغداد بعد أن ملأ الدنيا علما وشغل الناس في (11 من جمادى الأولى 150 هـ = 14 من يونيو 767م).


منقول

عبدالغفور الخطيب
08-06-2006, 02:04 AM
من "الدوشرمة" "للأوجاق".. رحلة فن "سنان"

(في ذكرى وفاته: 12 جمادى الأولى 996هـ)


كانت الدولة العثمانية تنقل الأطفال الذين تجمعهم إلى عاصمة الخلافة العثمانية، حيث يدرسون التركية والتاريخ الإسلامي العام والتاريخ العثماني والنظم العثمانية وفق مناهج أعدت بعناية وتعرض عليهم مبادئ الإسلام الصحيحة حتى إذا اعتنقوه شبوا على التمسك به والتعلق بالدولة العثمانية، وإلى جانب ذلك كان يتلقون تربية عسكرية صارمة، وهذه العملية عرفت في التاريخ العثماني باسم "الدوشرمة".

وكانت الدولة تقسمهم إلى ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى تعد لشغل الوظائف والخدمة في القصور السلطانية، والمجموعة الثانية تعد لشغل الوظائف المدنية الكبرى في الدولة، والمجموعة الثالثة يعد أفرادها ليكونوا عصب فرق المشاة في الجيش العثماني التي عرفت بالإنكشارية، ومعناها الجنود الجدد، وكان عددهم ساحقا جدا بالنسبة للمجموعتين الأوليين.

وكان سنان باشا واحدا من أولئك الفتيان الذين ضمتهم الدولة وقامت برعايتهم وتعليمهم، وجاءت شهرته الواسعة من خلال أعماله المعمارية التي تضاهي الآثار العمرانية الأوربية لعصر النهضة، وتقف أعماله التي تزيد عن أربعمائة أثر معماري شاهدة على عبقريته في عالم البناء والتشييد، واعتبرته دائرة المعارف الإسلامية التي أصدرها المستشرقون واحدا من أعظم المعماريين الذين ظهروا في التاريخ.

المولد والنشأة

ولد سنان باشا في قرية "آغير ناص" التابعة لولاية قيصرية في الأناضول سنة (896هـ=1490م) في عهد السلطان بايزيد الثاني بن محمد الفاتح، وعرف منذ صغره بحبه لشق قنوات المياه في الحدائق، وشغفه ببناء الأكواخ وحظائر الحيوانات.

ولا يعرف على وجه الدقة السنة التي انتقل فيها إلى العاصمة التي تلقى تعليمه في إحدى مدارسها، لكن المعروف أنه التحق بمدرسة ابتدائية تسمى "عجمي أوغلا نلر"، وفيها تعلم القراءة والكتابة والفنون التطبيقية، ثم استكمل تعليمه في "الأوجاق" المعماري الخاص. والأوجاق هو مدرسة العمارة التي تربى فيها كبار المعماريين من أمثال: سنان باشا، وداود أغا، وغيرهما ممن شيدوا أعظم الآثار في تاريخ العمارة العثمانية والعالمية.

الاطلاع على التراث المعماري

كان لانضمام سنان باشا إلى سلاح الانكشارية واشتراكه في الحروب العثمانية في الشرق والغرب أثر كبير في تنمية خبراته ومعارفه المعمارية والفنية؛ نتيجة لمشاهداته للطرز المعمارية في البلاد التي فتحها العثمانيون، والوقوف عليها دارسا ومتأملا، حيث اشترك مع الجيش العثماني في موقعة جالديران سنة (920هـ=1514م) بين العثمانيين والصفويين التي انتهت بدخول العثمانيين مدينة "تبريز" عاصمة الصفويين، وفي هذه المدينة العظيمة شاهد سنان المباني المعمارية الصفوية بخصائصها الفنية والجمالية المعبرة عن الفن الإيراني الشهير، كما رافق الجيش العثماني عند دخوله حلب ودمشق حيث جذبت الطرز المعمارية العربية اهتمامه. وفي القاهرة وقف على العمارة المملوكية المعروفة بضخامتها وبهائها.

واشترك في عهد السلطان سليمان القانوني في كثير من حملاته على أوربا التي حقق فيها انتصارات مدوية، وفي كل هذه الحملات كان سنان مشغولا بالوقوف على روائع العمارة الأوربية في اليونان والمجر.

وكانت نقطة البداية لظهور سنان المعماري سنة (948هـ=1534م) حين اشترك في الحملة العثمانية على إيران تحت قيادة لطفي باشا الصدر الأعظم الذي كلفه ببناء سفن للنقل العسكري لاجتياز "بحيرة وان" فأنجز سنان هذه المهمة على خير وجه.

وبعد وفاة "عجم علي" كبير المعماريين الرسميين في الدولة العثمانية عين سنان باشا في منصبه تقديرا لكفاءته سنة (945هـ=1538م)، وكان رئيس المهندسين تابعا للسلطان، ولم يكن عضوا في الديوان الهمايوني (السلطاني)، وبتوليه هذا المنصب أصبح مسئولا عن إقامة الأعمال المعمارية من قصور ومدارس وأضرحة وسبل مياه وحمامات ومطاعم خيرية، ومتوليا شق الطرق في العاصمة وبناء الأرصفة، ومراقبة أعمال البناء في كل أرجاء الدولةالعثمانية، وكانت له صلاحية اتخاذ القرارات الخاصة بهدم الأبنية المخالفة للنظام، والإشراف على أبنية القلاع، وعهد إليه بالإشراف على المهندسين المعماريين في الخاصة السلطانية، وكانوا أهم الشخصيات الفنية في عصره مثل: المعماري داود أغا الذي بنى الجامع الجديد "يني جامع"، في إستانبول وهو أثر معماري عظيم، والمعماري محمد أغا الصدفكار الذي شيد جامع السلطان أحمد المشهور بالجامع الأزرق الذي يعد أحد التحف المعمارية الخالدة في العالم.

بدايات سنان المعمارية

كانت أول أعمال سنان باشا المعمارية قيامه ببناء المجمع الذي يضم بداخله مصحة بتكليف من "خاصكي خرم سلطان" زوجة السلطان سليمان القانوني سنة (946هـ=1539م)، وعرفت هذه المصحة باسم "دار شفا خاصكي" وقد خصصت هذه الدار فيما بعد لعلاج النساء وحدهن.

كما قام بتشييد جامعين في "أوسكودار" و"وأدرنة قابي" بتكليف من الأميرة "مهرماه" ابنة السلطانة "خرم" مع بعض العمائر الأخرى. أما التكليف الأول الذي تلقاه من السلطان سليمان القانوني فهو تشييد "جامع شهرزادة" الذي انتهى من بنائه سنة (955هـ=1548م) واستغرق بناؤه أربع سنوات، وهذا الجامع يقع في شهرزادة باشي في إستانبول، وقد أمر السلطان سليمان ببنائه تخليدا لذكرى ابنه الأمير محمد من السلطانة خرم الذي توفي شابا.

ويتكون هذا المبنى من جامع ومطعم خيري ومطبخ وكتاب للصبيان ومدرسة وضريح، والجامع مكون من ثلاثة أجزاء: الصحن الخارجي والصحن الداخلي ويحيط به أروقة مغطاة بست عشرة قبة، والأعمدة التي ترتكز عليها الأروقة من الرخام، وفي وسط هذا الصحن ميضأة ذات ثماني زوايا، والجامع مغطى بقبة مركزية قطرها 42 و18 مترا. وتقع المقبرة خارج المسجد حيث يوجد ضريح الأمير محمد بن السلطان سليمان، وقد وصل سنان في تخطيط هذا المسجد إلى نظام الجامع ذي القبة الضخمة، وهو أول أعماله الكبيرة في عالم البناء والعمارة.

جامع السليمانية

ويعد جامع السليمانية من أشهر الأعمال المعمارية التي أنجزها سنان باشا في عهد السلطان القانوني، بل في التاريخ العثماني كله، وهو يمثل أكثر مراحل سنان نضجا وتطورا، بناه في إستانبول سنة (946هـ=1557م)، على ربوة عالية تطل على القرن الذهبي، وهو يتكون إلى جانب الجامع من دار لإطعام الفقراء وبيمارستان ومدرسة للطب وحمام وكتاب للصبية وأربع مدارس عالية وعدد كبير من الحوانيت. وتوجد خلف الجامع مقبرة تضم ضريحين، أحدهما للسلطان سليمان والآخر لزوجته خرم. كما شيد سنان لنفسه فيما بعد ضريحا عند رأس المجمع.

واستخدم سنان في بناء جامع السليمانية نظام القبة الوسطى التي تفتح على الجانبين بزوج من القباب الإضافية وتوسعت بأنصاف القباب، ويبلغ ارتفاع القبة الوسطى عن الأرض 53 مترا، وقطرها 27 مترا، وتغطي مساحة الجزء الداخلي من الجامع.

ولم يبخل السلطان على مسجده بالمال فأنفق عليه في سخاء، فهناك الرخام المنقوش والنوافذ الملونة والأبواب البرونزية والشبكات الحديدية على النوافذ.

وعهد سنان إلى أشهر خطاطي عصره مثل حسن أفندي جلبي القره حصاري بكتابة خطوط المسجد التي جاءت غاية في الفن والتجويد والإبداع.

أما عن مآذن الجامع فهي أربعة، كل منها في زاوية من زواياه، والمئذنتان الأماميتان قصيرتان نسبيا، وفي كل واحدة منهما شرفتان، والمئذنتان الأخريان أكثر طولا، وفي كل منهما ثلاث شرفات، وبذلك يكون في جامع السليمانية أربع مآذن ترمز كما أراد لها سنان إلى أن السلطان سليمان القانوني هو رابع السلاطين العثمانيين منذ فتح القسطنطينية، وترمز الشرفات العشر إلى أن السلطان هو عاشر سلاطين آل عثمان منذ عثمان مؤسس الدولة العثمانية.

السليمية أعظم أعمال سنان

وصل سنان إلى القمة في عالم البناء والتشييد في جامع السليمية الذي يعد أعظم ما بني حسب رأي خبراء العمارة، وقد شيده بناء على أمر من السلطان سليم الثاني الذي خلف والده سليمان القانوني في حكم الدولة العثمانية، واختار سنان أعلى ربوة في أدرنة ليقيم عليها الجامع بحيث يمكن مشاهدته من أنحاء المدينة، وبدأ سنان في بنائه سنة (976هـ=1568م)، وكان عمره آنذاك أربعة وثمانين عاما، وانتهى منه بعد ست سنوات.

ويقول سنان عن دواعي إبداعه في هذا المسجد: إن المعماريين الآخرين يقولون إننا متفوقون على المسلمين لأن عالم الإسلام يخلو من قبة عظيمة مثل آيا صوفيا، وإن بناء مثل هذه القبة الضخمة أمر غاية في الصعوبة، وكان لكلامهم هذا تأثيره المؤلم في قلب هذا العبد العاجز (يقصد نفسه)، لذلك بذلت الهمة العالية في بناء هذا الجامع، وبعون الله ثم بتشجيع السلطان سليم خان قمت بإظهار المقدرة، وأقمت قبة هذا الجامع أعلى من قبة آيا صوفيا بستة أذرع وأعمق بأربعة أذرع.

وغطى سنان المكان كله في الجامع بقبة واحدة قطرها 5 و31 مترا دون اللجوء إلى أنصاف القباب التي كان قد استخدمها من قبل في جامع شهرزادة والسليمانية، وترتفع كل مئذنة من مآذن الجامع الأربع 81 و70مترا، وهي دقيقة نحيلة، وهي من أعلى المآذن في العالم، وتقع كل واحدة منها في زاوية من زوايا الجامع الأربع، وكل منها ذات ثلاث شرفات، وتتميز المئذنتان الواقعتان ناحية الباب الرئيسي بأن لكل شرفة من شرفاتها الثلاث سلالم مستقلة، أما المئذنتان الأخريان فلكل منها سلم واحد. ومنبر الجامع وميضأته من الرخام، وكتب خطوطه المولوي حسن بن قره حصاري. وجامع السليمية مبني على شكل كلية تشمل إلى جانب الجامع مدرسة للصبيان ودارا للقراء ودارا للحديث.

أعمال سنان الأخرى

ولم تقتصر أعمال سنان المعمارية التي بلغت 441 عملا معماريا على العاصمة، بل امتدت لتشمل كثيرا من أنحاء الدولة العثمانية، فشيد جامع محمد باشا البوسني في صوفيا عاصمة بلغاريا، وجامع خسرو باشا المعروف بجامع الخسروية في حلب، وجامع السلطان سليمان، ومطعم السلطان الخيري في دمشق، وقام في مكة بترميم قباب الحرم المكي وبناء مطعم خيري باسم خاصكي سلطان، ومدرسة السلطان سليمان، وله إلى جانب ذلك أعمال معمارية في البصرة والقدس والمدينة المنورة.

وأعمال سنان متنوعة تشمل الجوامع والكليات التي تعني في العمارة العثمانية مجموعة المنشآت الخيرية والمدارس المحيطة بالجامع، والحمامات وبيوت القوافل، والكباري والجسور والطرق وسبل المياه والأضرحة، غير أن الأعمال التي طيرت شهرته وحفرت اسمه بين عباقرة العمارة في التاريخ هي: جامع شهرزادة، وجامع السليمانية في إستانبول، وجامع السليمية في أدرنة.

وكان لسنان تلاميذ كثيرون انتشروا في أنحاء العالم الإسلامي، ساروا على نهجه في العمارة فيقول الرحالة التركي المعروف أوليا جلبي في رحلته إلى مصر في القرن السابع عشر: إن جامع إسكندر باشا في القاهرة جامع عثماني الطراز لطيف جدا، تم بناؤه تقليدا لخطة المعماري سنان في جامع رستم بإستانبول، كما أن تلاميذه قلدوه في بناء جامع السلطان أحمد.

وفاته

امتدت حياة سنان باشا حتى اقترب من المائة، وعاصر خمسة من سلاطين الدولة العثمانية، هم بايزيد الثاني، وسليم الأول، وسليمان القانوني، وسليم الثاني، ومراد الثالث، وبعد حياة مليئة بجلائل الأعمال توفي سنان باشا في (12 من جمادى الأولى سنة 996هـ= 9 من أبريل سنة1588م) تاركا ذكرى لا تضيع.


منقول

عبدالغفور الخطيب
12-06-2006, 02:14 AM
الأندلس.. مرسوم بتنصير المسلمين!

(في ذكرى صدوره: 16 جمادى الأولى 931هـ)


سقطت غرناطة –آخر قلاع المسلمين في إسبانيا- سنة (897هـ=1492م)، وكان ذلك نذيرًا بسقوط صرح الأمة الأندلسية الديني والاجتماعي، وتبدد تراثها الفكري والأدبي، وكانت مأساة المسلمين هناك من أفظع مآسي التاريخ؛ حيث شهدت تلك الفترة أعمالاً بربرية وحشية ارتكبتها محاكم التحقيق (التفتيش)؛ لتطهير أسبانيا من آثار الإسلام والمسلمين، وإبادة تراثهم الذي ازدهر في هذه البلاد زهاء ثمانية قرون من الزمان.

وهاجر كثير من مسلمي الأندلس إلى الشمال الإفريقي بعد سقوط مملكتهم؛ فرارًا بدينهم وحريتهم من اضطهاد النصارى الأسبان لهم، وعادت أسبانيا إلى دينها القديم، أما من بقي من المسلمين فقد أجبر على التنصر أو الرحيل، وأفضت هذه الروح النصرانية المتعصبة إلى مطاردة وظلم وترويع المسلمين العزل، انتهى بتنفيذ حكم الإعدام ضد أمة ودين على أرض أسبانيا.

ونشط ديوان التحقيق أو الديوان المقدس الذي يدعمه العرش والكنيسة في ارتكاب الفظائع ضد الموريسكيين (المسلمين المتنصرين)، وصدرت عشرات القرارات التي تحول بين هؤلاء المسلمين ودينهم ولغتهم وعاداتهم وثقافتهم، فقد أحرق الكردينال "خمينس" عشرات الآلاف من كتب الدين والشريعة الإسلامية، وصدر أمر ملكي يوم (22 ربيع أول 917هـ=20 يونيو 1511) يلزم جميع السكان الذي تنصروا حديثًا أن يسلموا سائر الكتب العربية التي لديهم، ثم تتابعت المراسيم والأوامر الملكية التي منعت التخاطب باللغة العربية وانتهت بفرض التنصير الإجباري على المسلمين، فحمل التعلق بالأرض وخوف الفقر كثيرًا من المسلمين على قبول التنصر ملاذًا للنجاة، ورأى آخرون أن الموت خير ألف مرة من أن يصبح الوطن العزيز مهدًا للكفر، وفر آخرون بدينهم، وكتبت نهايات متعددة لمأساة واحدة هي رحيل الإسلام عن الأندلس.

محاكم التحقيق

توفي فرناندو الخامس ملك إسبانيا في (17 ذي الحجة 921هـ=23 يناير 1516م) وأوصى حفيده شارل الخامس بحماية الكاثوليكية والكنيسة واختيار المحققين ذوي الضمائر الذين يخشون الله لكي يعملوا في عدل وحزم لخدمة الله، وتوطيد الدين الكاثوليكي، كما يجب أن يسحقوا طائفة محمد!

وقد لبث "فرناندو" زهاء عشرين عامًا بعد سقوط الأندلس ينزل العذاب والاضطهاد بمن بقي من المسلمين في أسبانيا، وكانت أداته في ذلك محاكم التحقيق التي أنشئت بمرسوم بابوي صدر في (رمضان 888هـ= أكتوبر 1483م) وعين القس "توماس دي تركيمادا" محققًا عامًا لها ووضع دستورًا لهذه المحاكم الجديدة وعددًا من اللوائح والقرارات.

وقد مورست في هذه المحاكم معظم أنواع التعذيب المعروفة في العصور الوسطى، وأزهقت آلاف الأرواح تحت وطأة التعذيب، وقلما أصدرت هذه المحاكم حكمًا بالبراءة، بل كان الموت والتعذيب الوحشي هو نصيب وقسمة ضحاياها، حتى إن بعض ضحاياها كان ينفذ فيه حكم الحرق في احتفال يشهده الملك والأحبار، وكانت احتفالات الحرق جماعية، تبلغ في بعض الأحيان عشرات الأفراد، وكان فرناندو الخامس من عشاق هذه الحفلات، وكان يمتدح الأحبار المحققين كلما نظمت حفلة منها.

وبث هذا الديوان منذ قيامه جوًا من الرهبة والخوف في قلوب الناس، فعمد بعض هؤلاء الموريسكيين إلى الفرار، أما الباقي فأبت الكنيسة الكاثوليكية أن تؤمن بإخلاصهم لدينهم الذي أجبروا على اعتناقه؛ لأنها لم تقتنع بتنصير المسلمين الظاهري، بل كانت ترمي إلى إبادتهم.

شارل الخامس والتنصير الإجباري

تنفس الموريسكيون الصعداء بعد موت فرناندو وهبت عليهم رياح جديدة من الأمل، ورجوا أن يكون عهد "شارل الخامس" خيرًا من سابقه، وأبدى الملك الجديد –في البداية- شيئًا من اللين والتسامح نحو المسلمين والموريسكيين، وجنحت محاكم التحقيق إلى نوع من الاعتدال في مطاردتهم، وكفت عن التعرض لهم في أراجون بسعي النبلاء والسادة الذين يعمل المسلمون في ضياعهم، ولكن هذه السياسة المعتدلة لم تدم سوى بضعة أعوام، وعادت العناصر الرجعية المتعصبة في البلاط وفي الكنيسة، فغلبت كلمتها، وصدر مرسوم في (16 جمادى الأولى 931هـ=12 مارس 1524م) يحتم تنصير كل مسلم بقي على دينه، وإخراج كل من أبى النصرانية من إسبانيا، وأن يعاقب كل مسلم أبى التنصر أو الخروج في المهلة الممنوحة بالرق مدى الحياة، وأن تحول جميع المساجد الباقية إلى كنائس.

ولما رأى الموريسكيون هذا التطرف من الدولة الإسبانية، استغاثوا بالإمبراطور شارل الخامس، وبعثوا وفدًا منهم إلى مدريد ليشرح له مظالمهم، فندب شارل محكمة كبرى من النواب والأحبار والقادة وقضاة التحقيق، برئاسة المحقق العام لتنظر في شكوى المسلمين، ولتقرر ما إذا كان التنصير الذي وقع على المسلمين بالإكراه، يعتبر صحيحًا ملزمًا، بمعنى أنه يحتم عقاب المخالف بالموت.

وقد أصدرت المحكمة قرارها بعد مناقشات طويلة، بأن التنصير الذي وقع على المسلمين صحيح لا تشوبه شائبة؛ لأن هؤلاء الموريسكيين سارعوا بقبوله اتقاء لما هو شر منه، فكانوا بذلك أحرارًا في قبوله.

وعلى أثر ذلك صدر أمر ملكي بأن يرغم سائر المسلمين الذين تنصروا كرهًا على البقاء في أسبانيا، باعتبارهم نصارى، وأن ينصر كل أولادهم، فإذا ارتدوا عن النصرانية، قضى عليهم بالموت أو المصادرة، وقضى الأمر في الوقت نفسه، بأن تحول جميع المساجد الباقية في الحالة إلى كنائس.

وكان قدر هؤلاء المسلمين أن يعيشوا في تلك الأيام الرهيبة التي ساد فيها إرهاب محاكم التحقيق، وكانت لوائح الممنوعات ترد تباعًا، وحوت أوامر غريبة منها: حظر الختان، وحظر الوقوف تجاه القبلة، وحظر الاستحمام والاغتسال، وحظر ارتداء الملابس العربية.

ولما وجدت محكمة تفتيش غرناطة بعض المخالفات لهذه اللوائح، عمدت إلى إثبات تهديدها بالفعل، وأحرقت اثنين من المخالفين في (شوال 936هـ=مايو 1529م) في احتفال ديني.

الموريسكيون وشارل الخامس

كان لقرارات هذا الإمبراطور أسوأ وقع لدى المسلمين، وما لبثت أن نشبت الثورة في معظم الأنحاء التي يقطنونها في سرقسطة وبلنسية وغيرهما، واعتزم المسلمون على الموت في سبيل الدين والحرية، إلا أن الأسبان كانوا يملكون السلاح والعتاد فاستطاعوا أن يخمدوا هذه الثورات المحلية باستثناء بلنسية التي كانت تضم حشدًا كبيرًا من المسلمين يبلغ زهاء (27) ألف أسرة، فإنها استعصت عليهم، لوقوعها على البحر واتصالها بمسلمي المغرب.

وقد أبدى مسلمو بلنسية مقاومة عنيفة لقرارات التنصير، ولجأت جموع كبيرة منهم إلى ضاحية (بني وزير)، فجردت الحكومة عليهم قوة كبيرة مزودة بالمدافع، وأرغمت المسلمين في النهاية على التسليم والخضوع، وأرسل إليهم الإمبراطور إعلان الأمان على أن يتنصروا، وعدلت عقوبة الرق إلى الغرامة، وافتدى الأندلسيون من الإمبراطور حق ارتداء ملابسهم القومية بمبلغ طائل.

وكانت سياسة التهدئة من شارل الخامس محاولة لتهدئة الأوضاع في جنوب الأندلس حتى يتفرغ للاضطرابات التي اندلعت في ألمانيا وهولندا بعد ظهور مارتن لوثر وأطروحاته الدينية لإصلاح الكنيسة وانتشار البروتستانتية؛ لذلك كان بحاجة إلى توجيه كل اهتمامه واهتمام محاكم التحقيق إلى "الهراطقة" في شمال أوروبا، كما أن قيام محاكم التحقيق بما يفترض أن تقوم به كان يعني إحراق جميع الأندلسيين؛ لأن الكنيسة تدرك أن تنصرهم شكلي لا قيمة له، يضاف إلى ذلك أن معظم المزارعين الأندلسيين كانوا يعملون لحساب النبلاء أو الكنيسة، وكان من مصلحة هؤلاء الإبقاء على هؤلاء المزارعين وعدم إبادتهم.

وكان الإمبراطور شارل الخامس حينما أصدر قراره بتنصير المسلمين، وعد بتحقيق المساواة بينهم وبين النصارى في الحقوق والواجبات، ولكن هذه المساواة لم تتحقق قط، وشعر هؤلاء أنهم ما زالوا موضع الريب والاضطهاد، ففرضت عليم ضرائب كثيرة لا يخضع لها النصارى، وكانت وطأة الحياة تثقل عليهم شيئًا فشيئًا، حتى أصبحوا أشبه بالرقيق والعبيد، ولما شعرت السلطات بميل الموريسكيين إلى الهجرة، صدر قرار في سنة (948هـ=1514م)، يحرم عليهم تغيير مساكنهم، كما حرم عليهم النزوح إلى بلنسية التي كانت دائمًا طريقهم المفضل إلى الهجرة، ثم صدر قرار بتحريم الهجرة من هذه الثغور إلا بترخيص ملكي، نظير رسوم فادحة. وكان ديوان التحقيق يسهر على حركة الهجرة ويعمل على قمعها بشدة.

ولم تمنع هذه الشدة من ظهور اعتدل من الإمبراطور في بعض الأوقات، ففي سنة (950هـ=1543م) أصدر عفوًا عن بعض المسلمين المتنصرين؛ تحقيقًا لرغبة مطران طليطلة، وأن يسمح لهم بتزويج أبنائهم وبناتهم من النصارى الخلص، ولا تصادر المهور التي دفعوها للخزينة بسبب الذنوب التي ارتكبوها.

وهكذا لبثت السياسة الأسبانية أيام الإمبراطور شارل الخامس (922هـ=1516م) حتى (963هـ=1555م) إزاء الموريسكيين تتردد بين الشدة والقسوة، وبين بعض مظاهر اللين والعفو، إلا أن هؤلاء المسلمين تعرضوا للإرهاق والمطاردة والقتل ووجدت فيهم محاكم التحقيق الكنسية مجالاً مفضلاً لتعصبها وإرهابها.

الألخمادو

وكانت الأمة الأندلسية خلال هذا الاستشهاد المحزن، الذي فرض عليها تحاول بكل وسيلة أن تستبقي دينها وتراثها، فكان الموريسيكيون بالرغم من دخولهم في النصرانية يتعلقون سرًا بالإسلام، وكثير منهم يؤدون شعائر الإسلام خفية، وكانوا يحافظون على لغتهم العربية، إلا أن السياسة الإسبانية فطنت إلى أهمية اللغة في تدعيم الروح القومية؛ لذلك أصدر الإمبراطور شارل الخامس سنة ( 932 هـ=1526م) أول قانون يحرم التخاطب بالعربية على الموريسكيين، ولكنه لم يطبق بشدة؛ لأن هؤلاء الموريسكيين دفعوا له (100) ألف دوقة حتى يسمح لهم بالتحدث بالعربية، ثم أصدر الإمبراطور فيليب الثاني سنة (964هـ1566م) قانونًا جديدًا يحرم التخاطب بالعربية، وطبق بمنتهى الشدة والصرامة، وفرضت القشتالية كلغة للتخاطب والتعامل، ومع ذلك وجد الموريسكيون في القشتالية متنفسًا لتفكيرهم وأدبهم، فكانوا يكتبونها سرًا بأحرف عربية، وأسفر ذلك بمضي الزمن عن خلق لغة جديدة هي "الألخميادو" وهي تحريف إسباني لكلمة "الأعجمية"، ولبثت هذه اللغة قرنين من الزمان سرًا مطمورًا، وبذلك استطاعوا أن يحتفظوا بعقيدتهم الإسلامية، وألف بها بعض الفقهاء والعلماء كتبًا عما يجب أن يعتقد المسلم ويفعله حتى يحتفظ بإسلامه، وشرحوا آيات القرآن باللغة الألخميادية وكذلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أشهر كتاب هذه اللغة الفقيه المسمى "فتى أبيرالو" وهو مؤلف لكتب التفسير، وتلخيص السنة، ومن الشعراء محمد ربدان الذي نظم كثيرًا من القصائد والأغنيات الدينية؛ وبذلك تحصن الموريسيكيون بمبدأ "التقية" فصمدوا في وجه مساعي المنصرين الذين لم تنجح جهودهم التبشيرية والتعليمية والإرهابية في الوصول إلى تنصير كامل لهؤلاء الموريسيكيين، فجاء قرار الطرد بعد هذه الإخفاقات.

ولم تفلح مساعي الموريسيكيين في الحصول على دعم خارجي فعال من الدولة العثمانية أو المماليك في مصر، رغم حملات الإغارة والقرصنة التي قام بها العثمانيون والجزائريون والأندلسيون على السفن والشواطئ الأسبانية، ودعم الثوار الموريسيكيين.

واستمرت محاكم التحقيق في محاربة هؤلاء المسلمين طوال القرن السادس عشر الميلادي، وهو ما يدل على أن آثار الإسلام الراسخة في النفوس بقيت بالرغم من المحن الرهيبة وتعاقب السنين، ولعل من المفيد أن نذكر أن رجلاً أسبانيًا يدعى "بدية" توجه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج سنة (1222هـ=1807م) أي بعد 329 سنة من قيام محاكم التحقيق.


منقول

عبدالغفور الخطيب
16-06-2006, 02:45 AM
فتح القسطنطينية.. بشارة نبوية

(في ذكرى فتحها 20 من جمادى الأولى 857هـ)

انتظر المسلمون أكثر من ثمانية قرون حتى تحققت البشارة النبوية بفتح القسطنطينية، وكان حلمًا غاليا وأملا عزيزا راود القادة والفاتحين لم يُخب جذوته مر الأيام وكر السنين، وظل هدفا مشبوبا يثير في النفوس رغبة عارمة في تحقيقه حتى يكون صاحب الفتح هو محل ثناء النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش".

وقد بدأت المحاولات الجادة في عهد معاوية بن أبي سفيان وبلغ من إصراره على فتح القسطنطينية أن بعث بحملتين الأولى سنة 49 هـ = 666، والأخرى كانت طلائعها في سنة 54 هـ = 673م، وظلت سبع سنوات وهي تقوم بعمليات حربية ضد أساطيل الروم في مياه القسطنطينية، لكنها لم تتمكن من فتح المدينة العتيدة، وكان صمود المدينة يزيد المسلمين رغبة وتصميما في معاودة الفتح؛ فنهض "سليمان بن عبد الملك" بحملة جديدة سنة (99 هـ = 719م) ادخر لها زهرة جنده وخيرة فرسانه، وزودهم بأمضى الأسلحة وأشدها فتكا، لكن ذلك لم يعن على فتحها فقد صمدت المدينة الواثقة من خلف أسوارها العالية وابتسمت ابتسامة كلها ثقة واعتداد أنها في مأمن من عوادي الزمن وغوائل الدهر، ونامت ملء جفونها رضى وطمأنينة.

ثم تجدد الأمل في فتح القسطنطينية في مطلع عهود العثمانيين، وملك على سلاطينهم حلم الفتح، وكانوا من أشد الناس حماسا للإسلام وأطبعهم على حياة الجندية؛ فحاصر المدينة العتيدة كل من السلطان بايزيد الأول ومراد الثاني، ولكن لم تكلل جهودهما بالنجاح والظفر، وشاء الله أن يكون محمد الثاني بن مراد الثاني هو صاحب الفتح العظيم والبشارة النبوية الكريمة.

محمد الفاتح

ولد السلطان محمد الفاتح في (27 من رجب 835 هـ= 30 من مارس 1432م)، ونشأ في كنف أبيه السلطان مراد الثاني سابع سلاطين الدولة العثمانية، الذي تعهده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرا بالسلطنة والنهوض بتبعاتها؛ فحفظ القرآن وقرأ الحديث وتعلم الفقه ودرس الرياضيات والفلك، وأتقن فنون الحرب والقتال، وأجاد العربية والفارسية واللاتينية واليونانية، واشترك في الحروب والغزوات، وبعد وفاة أبيه في (5 من المحرم 855هـ = 7 من فبراير 1451م) تولى الفاتح السلطنة فتى في الثانية والعشرين من عمره وافر العزم شديد الطموح.

بناء قلعة رومللي حصار

كان السلطان بايزيد الأول قد أنشأ على ضفة البوسفور الآسيوية في أثناء حصاره للقسطنطينية حصنا تجاه أسوارها عُرف باسم قلعة الأناضول، وكانت تقوم على أضيق نقطة من مضيق البوسفور، وعزم محمد الفاتح أن يبني قلعة على الجانب الأوروبي من البوسفور في مواجهة الأسوار القسطنطينية، وقد جلب لها مواد البناء وآلاف العمال، واشترك هو بنفسه مع رجال دولته في أعمال البناء، وهو ما ألهب القلوب وأشعل الحمية في النفوس، وبدأ البناء في الارتفاع شامخ الرأس في الوقت الذي كان فيه الإمبراطور قسطنطين لا يملك وقف هذا البناء، واكتفى بالنظر حزنا وهو يرى أن الخطر الداهم سيحدق به دون أن يملك مندفعه شيئا.

ولم تمض ثلاثة شهور حتى تم بناء القلعة على هيئة مثلث سميك الجدران، في كل زاوية منها برج ضخم مغطى بالرصاص، وأمر السلطان بأن ينصب على الشاطئ مجانيق ومدافع ضخمة، وأن تصوب أفواهها إلى الشاطئ، لكي تمنع السفن الرومية والأوروبية من المرور في بوغاز البوسفور، وقد عرفت هذه القلعة باسم "رومللي حصار"، أي قلعة الروم.

بوادر الحرب

توسل الإمبراطور قسطنطين إلى محمد الفاتح بالعدول عن إتمام القلعة التي تشكل خطرًا عليه، لكنه أبي ومضى في بنائه، وبدأ البيزنطيون يحاولون هدم القلعة والإغارة على عمال البناء، وتطورت الأحداث في مناوشات، ثم لم يلبث أن أعلن السلطان العثماني الحرب رسميا على الدولة البيزنطية، وما كان من الإمبراطور الرومي إلا أن أغلق أبواب مدينته الحصينة، واعتقل جميع العثمانيين الموجودين داخل المدينة، وبعث إلى السلطان محمد رسالة يخبره أنه سيدافع عن المدينة لآخر قطرة من دمه.

وأخذ الفريقان يتأهب كل منهما للقاء المرتقب في أثناء ذلك بدأ الإمبراطور قسطنطين في تحصين المدينة وإصلاح أسوارها المتهدمة وإعداد وسائل الدفاع الممكنة، وتجميع المؤن والغلال، وبدأت تردد على المدينة بعض النجدات خففت من روح الفزع التي سيطرت على الأفئدة، وتسربت بعض السفن تحمل المؤن والغذاء، ونجح القائد الجنوبي "جون جستنياني" مع 700 مقاتل محملين بالمؤن والذخائر في الوصول إلى المدينة المحاصرة؛ فاستقبله الإمبراطور قسطنطين استقبالا حسنًا وعينه قائدًا عامًا لقواته، فنظم الجيش وأحسن توزيعهم ودرب الرهبان الذي يجهلون فن الحرب تمامًا، وقرر الإمبراطور وضع سلسلة لإغلاق القرن الذهبي أمام السفن القادمة، تبدأ من طرف المدينة الشمالي وتنتهي عند حي غلطة.

استعدادات محمد الفاتح

كان السلطان محمد الثاني يفكر في فتح القسطنطينية ويخطط لما يمكن عمله من أجل تحقيق الهدف والطموح، وسيطرت فكرة الفتح على عقل السلطان وكل جوارحه، فلا يتحدث إلا في أمر الفتح ولا يأذن لأحد من جلسائه بالحديث في غير الفتح الذي ملك قلبه وعقله وأرقه وحرمه من النوم الهادئ.

وساقت له الأقدار مهندس مجري يدعى "أوربان"، عرض على السلطان أن يصنع له مدفعا ضخما يقذف قذائف هائلة تكفي لثلم أسوار القسطنطينية؛ فرحب به السلطان وأمر بتزويده بكل ما يحتاجه من معدات، ولم تمض ثلاثة أشهر حتى تمكن أوربان من صنع مدفع عظيم لم يُر مثله قط، فقد كان يزن 700 طن، ويرمي بقذائف زنة الواحدة منها 12 ألف رطل، ويحتاج جره إلى 100 ثور يساعدها مائة من الرجال، وعند تجربته سقطت قذيفته على بعد ميل، وسمع دويه على بعد 13 ميلا، وقد قطع هذا المدفع الذي سُمي بالمدفع السلطاني الطريق من أدرنة إلى موضعه أمام أسوار القسطنطينية في شهرين.

بدء الحصار

وصل السلطان العثماني في جيشه الضخم أمام الأسوار الغربية للقسطنطينية المتصلة بقارة أوروبا يوم الجمعة الموافق (12 من رمضان 805هـ= 5 من إبريل 1453م) ونصب سرادقه ومركز قيادته أمام باب القديس "رومانويس"، ونصبت المدافع القوية البعيدة المدى، ثم اتجه السلطان إلى القبلة وصلى ركعتين وصلى الجيش كله، وبدأ الحصار الفعلي وتوزيع قواته، ووضع الفرق الأناضولية وهي أكثر الفرق عددًا عن يمينه إلى ناحية بحر مرمرة، ووضع الفرق الأوروبية عن يساره حتى القرن الذهبي، ووضع الحرس السلطاني الذي يضم نخبة الجنود الانكشارية وعددهم نحو 15 ألفًا في الوسط.

وتحرك الأسطول العثماني الذي يضم 350 سفينة في مدينة "جاليبولي" قاعدة العثمانيين البحرية في ذلك الوقت، وعبر بحر مرمرة إلى البوسفور وألقى مراسيه هناك، وهكذا طوقت القسطنطينية من البر والبحر بقوات كثيفة تبلغ 265 ألف مقاتل، لم يسبق أن طُوقت بمثلها عدة وعتادًا، وبدأ الحصار الفعلي في الجمعة الموافق (13 من رمضان 805هـ = 6 من إبريل 1453م)، وطلب السلطان من الإمبراطور "قسطنطين" أن يسلم المدينة إليه وتعهد باحترام سكانها وتأمينهم على أرواحهم ومعتقداتهم وممتلكاتهم، ولكن الإمبراطور رفض؛ معتمدًا على حصون المدينة المنيعة ومساعدة الدول النصرانية له.

وضع القسطنطينية

تحتل القسطنطينية موقعا منيعا، حبته الطبيعة بأبدع ما تحبو به المدن العظيمة، تحدها من الشرق مياه البوسفور، ويحدها من الغرب والجنوب بحر مرمرة، ويمتد على طول كل منها سور واحد. أما الجانب الغربي فهو الذي يتصل بالقارة الأوروبية ويحميه سوران طولهما أربعة أميال يمتدان من شاطئ بحر مرمرة إلى شاطئ القرن الذهبي، ويبلغ ارتفاع السور الداخلي منهما نحو أربعين قدمًا ومدعم بأبراج يبلغ ارتفاعها ستين قدما، وتبلغ المسافة بين كل برج وآخر نحو مائة وثمانين قدما.

أما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه خمسة وعشرين قدما، ومحصن أيضا بأبراج شبيهة بأبراج السور الأول، وبين السورين فضاء يبلغ عرضه ما بين خمسين وستين قدما، وكانت مياه القرن الذهبي الذي يحمي ضلع المدينة الشمالي الشرقي يغلق بسلسلة حديدية هائلة يمتد طرفاها عند مدخله بين سور غلطة وسور القسطنطينية، ويذكر المؤرخون العثمانيون أن عدد المدافعين عن المدينة المحاصرة بلغ أربعين ألف مقاتل.

اشتعال القتال

بعد ما أحسن السلطان ترتيب وضع قواته أمام أسوار القسطنطينية بدأت المدافع العثمانية تطلق قذائفها الهائلة على السور ليل نهار لا تكاد تنقطع، وكان دوي اصطدام القذائف بالأسوار يملأ قلوب أهل المدينة فزعا ورعبا، وكان كلما انهدم جزء من الأسوار بادر المدافعون عن المدينة إلى إصلاحه على الفور، واستمر الحال على هذا الوضع.. هجوم جامح من قبل العثمانيين، ودفاع مستميت يبديه المدافعون، وعلى رأسهم جون جستنيان، والإمبراطور البيزنطي.

وفي الوقت الذي كانت تشتد فيه هجمات العثمانيين من ناحية البر حاولت بعض السفن العثمانية تحطيم السلسلة على مدخل ميناء القرن الذهبي واقتحامه، ولكن السفن البيزنطية والإيطالية المكلفة بالحراسة والتي تقف خلف السلسلة نجحت في رد هجمات السفن العثمانية، وصبت عليها قذائفها وأجبرتها على الفرار.

وكانت المدينة المحاصرة تتلقى بعض الإمدادات الخارجية من بلاد المورة وصقلية، وكان الأسطول العثماني مرابطا في مياه البوسفور الجنوبية منذ (22 من رمضان 805هـ = 15 من إبريل 1453م)، ووقفت قطعة على هيئة هلال لتحول دون وصول أي مدد ولم يكد يمضي 5 أيام على الحصار البحري حتى ظهرت 5 سفن غربية، أربع منها بعث بها البابا في روما لمساعدة المدينة المحاصرة، وحاول الأسطول العثماني أن يحول بينها وبين الوصول إلى الميناء واشتبك معها في معركة هائلة، لكن السفن الخمس تصدت ببراعة للسفن العثمانية وأمطرتها بوابل من السهام والقذائف النارية، فضلا عن براعة رجالها وخبرتهم التي تفوق العثمانيين في قتال البحر، الأمر الذي مكنها من أن تشق طريقها وسط السفن العثمانية التي حاولت إغراقها لكن دون جدوى ونجحت في اجتياز السلسلة إلى الداخل.

السفن العثمانية تبحر على اليابسة!!

كان لنجاح السفن في المرور أثره في نفوس أهالي المدينة المحاصرة؛ فانتعشت آمالهم وغمرتهم موجة من الفرح بما أحرزوه من نصر، وقويت عزائمهم على الثبات والصمود، وفي الوقت نفسه أخذ السلطان محمد الثاني يفكِّر في وسيلة لإدخاله القرن الذهبي نفسه وحصار القسطنطينية من أضعف جوانبها وتشتيت قوى المدينة المدافعة.

واهتدى السلطان إلى خطة موفقة اقتضت أن ينقل جزءًا من أسطوله بطريق البر من منطقة غلطة إلى داخل الخليج؛ متفاديا السلسلة، ووضع المهندسون الخطة في الحال وبُدئ العمل تحت جنح الظلام وحشدت جماعات غفيرة من العمال في تمهيد الطريق الوعر الذي تتخلله بعض المرتفعات، وغُطي بألواح من الخشب المطلي بالدهن والشحم، وفي ليلة واحدة تمكن العثمانيون من نقل سبعين سفينة طُويت أشرعتها تجرها البغال والرجال الأشداء، وذلك في ليلة (29 من رمضان 805هـ = 22 من إبريل 1453م).

وكانت المدافع العثمانية تواصل قذائفها حتى تشغل البيزنطيين عن عملية نقل السفن، وما كاد الصبح يسفر حتى نشرت السفن العثمانية قلوعها ودقت الطبول وكانت مفاجأة مروعة لأهل المدينة المحاصرة.

وبعد نقل السفن أمر السلطان محمد بإنشاء جسر ضخم داخل الميناء، عرضه خمسون قدما، وطوله مائة، وصُفَّت عليه المدافع، وزودت السفن المنقولة بالمقاتلين والسلالم، وتقدمت إلى أقرب مكان من الأسوار، وحاول البيزنطيون إحراق السفن العثمانية في الليل، ولكن العثمانيين علموا بهذه الخطة فأحبطوها، وتكررت المحاولة وفي كل مرة يكون نصيبها الفشل والإخفاق.

الهجوم الكاسح وسقوط المدينة

استمر الحصار بطيئا مرهقا والعثمانيون مستمرون في ضرب الأسوار دون هوادة، وأهل المدينة المحاصرة يعانون نقص المؤن ويتوقعون سقوط مدينتهم بين يوم وآخر، خاصة وأن العثمانيين لا يفتئون في تكرار محاولاتهم الشجاعة في اقتحام المدينة التي أبدت أروع الأمثلة في الدفاع والثبات، وكان السلطان العثماني يفاجئ خصمه في كل مرة بخطة جديدة لعله يحمله على الاستسلام أو طلب الصلح، لكنه كان يأبى، ولم يعد أمام السلطان سوى معاودة القتال بكل ما يملك من قوة.

وفي فجر يوم الثلاثاء (20 من جمادى الأولى 857هـ= 29 من مايو 1453م)، وكان السلطان العثماني قد أعد أهبته الأخيرة، ووزَّع قواته وحشد زهاء 100 ألف مقاتل أمام الباب الذهبي، وحشد في الميسرة 50 ألفًا، ورابط السلطان في القلب مع الجند الإنكشارية، واحتشدت في الميناء 70 سفينة _بدأ الهجوم برًا وبحرًا، واشتد لهيب المعركة وقذائف المدافع يشق دويها عنان السماء ويثير الفزع في النفوس، وتكبيرات الجند ترج المكان فيُسمع صداها من أميال بعيدة، والمدافعون عن المدينة يبذلون كل ما يملكون دفاعا عن المدينة، وما هي إلا ساعة حتى امتلأ الخندق الكبير الذي يقع أمام السور الخارجي بآلاف القتلى.

وفي أثناء هذا الهجوم المحموم جرح "جستنيان" في ذراعه وفخذه، وسالت دماؤه بغزارة فانسحب للعلاج رغم توسلات الإمبراطور له بالبقاء لشجاعته ومهارته الفائقة في الدفاع عن المدينة، وضاعف العثمانيون جهدهم واندفعوا بسلالمهم نحو الأسوار غير مبالين بالموت الذي يحصدهم حصدا، حتى وثب جماعة من الانكشارية إلى أعلى السور، وتبعهم المقاتلون وسهام العدو تنفذ إليهم، ولكن ذلك كان دون جدوى، فقد استطاع العثمانيون أن يتدفقوا نحو المدينة، ونجح الأسطول العثماني في رفع السلاسل الحديدية التي وُضعت في مدخل الخليج، وتدفق العثمانيون إلى المدينة التي سادها الذعر، وفر المدافعون عنها من كل ناحية، وما هي إلا ثلاث ساعات من بدء الهجوم حتى كانت المدينة العتيدة تحت أقدام الفاتحين.

محمد الفاتح في المدينة

ولما دخل محمد الفاتح المدينة ظافرا ترجل عن فرسه، وسجد لله شكرا على هذا الظفر والنجاح، ثم توجه إلى كنيسة "أيا صوفيا"؛ حيث احتشد فيها الشعب البيزنطي ورهبانه، فمنحهم الأمان، وأمر بتحويل كنيسة "أيا صوفيا" إلى مسجد، وأمر بإقامة مسجد في موضع قبر الصحابي الجليل "أبي أيوب الأنصاري"، وكان ضمن صفوف الحملة الأولى لفتح القسطنطينية، وقد عثر الجنود العثمانيون على قبره فاستبشروا خيرًا بذلك.

وقرر الفاتح الذي لُقِّب بهذا اللقب بعد الفتح اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته، وأطلق عليها اسم "إسلام بول" أي "دار الإسلام"، ثم حُرفت واشتهرت بـ "إستانبول"، وانتهج سياسة سمحة مع سكان المدينة، وكفل لهم حرية ممارسة عبادتهم، وسمح بعودة الذين غادروا المدينة في أثناء الحصار والرجوع إلى منازلهم، ومنذ ذلك الحين صارت إستانبول عاصمة للبلاد حتى سقطت الخلافة العثمانية في (23 من رجب 1342 هـ= 1 مارس 1924م)، وقامت دولة تركيا التي اتخذت من أنقرة عاصمة لها.




منقول

عبدالغفور الخطيب
17-06-2006, 02:28 AM
خير الدين بارباروسا.. قبودان البحرية العثمانية

في ذكرى حصاره لمدينة نيس بفرنسا: 21 جمادى الأول 950 هـ


اتجه الإسبان بعد سقوط الأندلس في أيديهم إلى شمال إفريقيا، متطلعين إلى بسط أيديهم على تلك المناطق، فاحتلوا "المرسى" الكبير في غرب الجزائر سنة (911هـ = 1505م)، واستولوا على مدن: مليلة، والجزائر، وبجاية، وطرابلس، ووهران، وغيرها من المدن الساحلية، وكان ذلك خطرًا داهمًا هدد المسلمين في شمال إفريقيا، ولم تكن هناك قوى منظمة يمكنها دفع هؤلاء الغزاة الجدد.

وأثار هذا الخطر عددًا من البحارة المسلمين من سكان تلك المناطق، فتحركت في نفوسهم نوازع الجهاد والغيرة على بيضة الإسلام، وكانوا قد خدموا من قبل في الأسطول العثماني، فتكونت لديهم خبرة جيدة بالبحر وبفنون القتال، فتعاهدوا على مواجهة الغزاة الجدد، واتخذوا من جزيرة "جربة"، التونسية مركزًا للقيام بعملياتهم الحربية في البحر المتوسط، وكان يقوم على هذه العمليات الأخَوَان "عروج" و"خير الدين بارباروسا".

وقد أثمرت سياسة هؤلاء البحارة في مهاجمة سفن الإسبان، فتوقفوا عن مهاجمة الثغور الإسلامية، وأحجمت الدول الأوروبية التي كانت تنوي انتهاج هذه السياسة. وتوج الأخوان جهودهما باستعادة ميناء "بجاية" الجزائري من الإسبان سنة (921 هـ = 1515م) ونقل عروج قاعدة عملياته البحرية إلى ميناء "حيجل" الجزائري؛ ليتمكن من توجيه ضربات موجعة للإسبان.

استطاع عروج أن يقيم حكومة قوية في الجزائر، وأن يطرد الإسبان من السواحل التي احتلوها، ويوسع من نطاق دولته حتى بلغت "تلمسان". وفي هذه الأثناء اتصل بالسلطان العثماني "سليم الأول"، وكان قد تمكن من ضم مصر إلى دولته، وأعلن طاعته وولاءه للدولة العثمانية، غير أن إسبانيا هالها ما يفعله "عروج" ورجاله، ورأت في ذلك خطرًا يهدد سياستها التوسعية، ويقضي على أحلامها ما لم تنهض لقمع هذه الدولة الفتية، فأعدت حملة عظيمة بلغت خمسة عشر ألف مقاتل، تمكنت من التوغل في الجزائر ومحاصرة تلمسان، ووقع عروج أسيرًا في أيديهم، وقتلوه في (شعبان 924 هـ = أغسطس 1518م).

ولاية خير الدين على الجزائر

خلف "خير الدين بارباروسا" أخاه في جهاده ضد الإسبان، ولم تكن قواته تكفي لمواجهة خطر الإسبان، فاستنجد بالدولة العثمانية طالبًا العون منها والمدد، فلبّى السلطان "سليم الأول" طلبه، وبعث إليه قوة من سلاح المدفعية، وأمده بألفين من جنوده الإنكشارية الأشداء، ثم واصل السلطان "سليمان القانوني" هذه السياسة، ووقف خلف خير الدين يمده بالرجال والسلاح.

ولم يكن خير الدين أقل حماسة وغَيْرة من أخيه، فواصل حركة الجهاد، وتابع عملياته البحرية حتى تمكن من طرد الإسبان من الجيوب التي أقاموها على ساحل الجزائر، وضمّ إلى دولته مناطق جديدة، وقادته رغبته الجامحة في مطاردة الإسبان إلى غزو السواحل الإسبانية، الأمر الذي أفزع الغزاة، وألقى الهلع في قلوبهم، ثم قام خير الدين بعمل من جلائل الأعمال؛ حيث أنقذ سبعين ألف مسلم أندلسي من قبضة الإسبان الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب، فنقلهم في سنة (936هـ = 1529م) على سفنه إلى شمالي إفريقيا.

خير الدين في إستانبول

قام السلطان سليمان القانوني باستدعاء خير الدين بارباروسا إليه في إستانبول، وعهد إليه بإعادة تنظيم الأسطول، والإشراف على بناء عدد من سفنه، ثم وكل إليه مهمة ضم تونس إلى الدولة العثمانية، قبل أن يتمكن السلطان الإسباني "شارل الخامس" من الاستيلاء عليها، وكانت ذات أهمية كبيرة لموقعها المتوسط في السيطرة على الملاحة في حوض البحر المتوسط.

غادر خير الدين العاصمة العثمانية على رأس ثمانين سفينة وثمانية آلاف جندي، واتجه إلى تونس، ونجح في القضاء على الدولة الحفصية التي كانت تحكم تونس، وأعلن تبعيتها للدولة العثمانية سنة (941 هـ = 1534م).

أثار هذا النصر شارل الخامس وزاده حنقًا، ورأى فيه تهديدًا للمواصلات البحرية التي تربط بين إيطاليا وإسبانيا، وانتصارًا للإسلام، وتشجيعًا لمجاهدي شمال إفريقيا على مواصلة الهجوم على السواحل الإسبانية واستنقاذ المسلمين الأندلسيين؛ ولهذا تحرك على الفور، وقاد حملة جرارة على تونس، تمكنت من الاستيلاء عليها في السنة نفسها، ورد خير الدين على هذا الانتصار بغارة مفاجئة على جزر البليار في البحر المتوسط، فأسر ستة آلاف من الإسبان، وعاد بهم إلى قاعدته في الجزائر، ووصلت أنباء هذه الغارة إلى "روما" وسط احتفالات البابوية بانتزاع تونس من المسلمين.

قادة الأسطول العثماني

أراد السلطان سليمان القانوني مكافأة خير الدين على جهوده وخدماته للإسلام، فعيّنه قائدًا عامًّا للأسطول العثماني، وجعل في منصبه بالجزائر ابنه "حسن باشا"، الذي واصل جهود أبيه في مهاجمة الإسبانيين في غرب البحر المتوسط.

وقاد "خير الدين بارباروسا" عدة حملات بحرية موفقة، كان من أشهرها فوزه العظيم في معركة "بروزة" بالبحر المتوسط. كانت معركة هائلة تداعت لها أوربا؛ استجابة لنداء البابا في روما، فتكوّن تحالف صليبي من 600 سفينة تحمل نحو ستين ألف جندي، ويقوده قائد بحري من أعظم قادة البحر في أوربا هو "أندريا دوريا"، وتألفت القوات العثمانية من 122 سفينة تحمل اثنين وعشرين ألف جندي، والتقى الأسطولان في بروزة في (4 من جمادى الأولى 945 هـ = 28 من سبتمبر 1538م)، وفاجأ "خير الدين" خصمه قبل أن يأخذ أهبته للقتال، فتفرقت سفنه من هول الصدمة، وهرب القائد الأوروبي من ميدان المعركة التي لم تستمر أكثر من خمس ساعات، تمكن في نهايتها خير الدين من حسم المعركة لصالحه.

وقد أثار هذا النصرُ الفزعَ والهلعَ في أوربا، وأعاد للبحرية العثمانية هيبتها في البحر المتوسط، في الوقت الذي استقبل فيه السلطان سليمان القانوني أنباء النصر بفرحة غامرة، وأمر بإقامة الاحتفالات في جميع أنحاء دولته.

خير الدين يغزو فرنسا

كانت فرنسا ترتبط بعلاقات وثيقة مع الدولة العثمانية في عهد سليمان القانوني؛ ولذلك لم يتأخر السلطان عن تقديم المساعدات الحربية التي طلبها منه "فرانسوا الأول" ملك فرنسا في أثناء الحرب التي اشتعلت من جديد بينه وبين الإمبراطور شارل الخامس حول "دوقية ميلان" شمال إيطاليا.

كلّف السلطان القانوني قائده الباسل خير الدين بقيادة الحملة، وكانت آخر مرة يقود فيها إحدى حملاته المظفرة، فغادر إستانبول في (23 من صفر 950 هـ = 28 من مايو 1543م) على رأس قوة بحرية كبيرة، استولت وهي في طريقها إلى فرنسا على مدينتي "مسينة" التابعة لصقلية و"ريجيو" الإيطالية دون مقاومة، ثم استولت على ميناء "أوستيا" الإيطالي، وواصلت سيرها حتى دخلت ميناء طولون قاعدة البحرية الفرنسية في البحر المتوسط، ورفعت السفينة الفرنسية الأعلام العثمانية، وأطلقت مدافعها تحية لها، ودخل الأسطول الفرنسي المكون من أربع وأربعين قطعة تحت إمرة خير الدين، وتحرك الأسطولان إلى ميناء "نيس"، ونجحا في استعادة الميناء الفرنسي في (21 من جمادى الأولى 950 هـ = 22 من أغسطس 1543م).

ميناء طولون قاعدة إسلامية


ونظرًا للعلاقة الحسنة التي كانت تربط السلطان سليمان القانوني بفرانسوا الأول، فقد تم عقد معاهدة بين الدولتين بعد استعادة ميناء "نيس" في (16 من جمادى الآخرة 950 هـ = 16 من سبتمبر 1543م)، تنازلت فيها فرنسا عن ميناء طولون الفرنسي برضاها للإدارة العثمانية، وتحول الميناء الحربي لفرنسا إلى قاعدة حربية إسلامية للدولة العثمانية، التي كانت في حاجة ماسة إليه؛ حيث كان الأسطول العثماني يهاجم في غير هوادة الأهداف العسكرية الإسبانية التي كانت تهدد دول المغرب الإسلامي والملاحة في البحر المتوسط.

وفي الفترة التي تم فيها تسليم ميناء طولون للدولة العثمانية أُخلي الثغر الفرنسي من جميع سكانه بأوامر من الحكومة الفرنسية، وتحول إلى مدينة إسلامية عثمانية، رُفع عليها العلم العثماني، وارتفع الأذان في جنبات المدينة، وظل العثمانيون ثمانية أشهر، شنوا خلالها هجمات بحرية ناجحة بقيادة خير الدين على سواحل إسبانيا وإيطاليا.

وفاة خير الدين بارباروسا

كانت هذه الحملة المظفرة هي آخر حملة يقودها خير الدين، فلم تطل به الحياة بعد عودته إلى إستانبول، وتوفي في (5 من جمادى الأولى 953 هـ = 4 من يوليو 1546م)، مسطرًا صفحة مجيدة من صفحات التضحية والفداء والإخلاص للإسلام، وردع القوى الصليبية الباغية.


منقول

عبدالغفور الخطيب
22-06-2006, 11:57 AM
أبو بكر الطرطوشي.. سراج الملوك

(في ذكرى وفاته: 26 من جمادى الأولى 520هـ)


كان المسلمون الأوائل يعتقدون أن الإقامة في الرباطات والحياة في الثغور نوع من الجهاد، لأنهم يحرسون الحدود ويكونون طلائع الجيوش الإسلامية التي تصد هجمات الأعداء، وكانت الإسكندرية واحدة من تلك الثغور التي احتشدت بالمجاهدين والمرابطين منذ فتحها عمرو بن العاص وأشرق عليها نور الإسلام، وجذبت إليها عددًا كبيرًا من المسلمين وبخاصة من المغرب والأندلس.

وكان المسلمون في هذه البلاد النائية يمرون بالإسكندرية وهم في رحلتهم الشاقة إلى الحجاز للقيام بمناسك الحج، أو في طريقهم إلى حواضر العلم في المشرق الإسلامي لتلقي العلم ومشافهة العلماء والأخذ منهم، فإذا ما ألقوا رحالهم وطلبوا الراحة من وعثاء السفر، عاودوا رحلتهم إلى حيث يريدون.

وكان كثير من هؤلاء المارين تجذبهم الحياة في الإسكندرية فيقيمون بها ويتخذونها موطنًا لهم، فينالون شرف المرابطة في الثغور، أو المساهمة في إثراء حلقات العلم التي كانت تمتلئ بها مساجد الإسكندرية، وذلك إن كانوا من حملة العلم والفقه.

وازداد توثق الإسكندرية بالمغرب قوة وترابطًا بعد قيام الدولة الفاطمية، وهي التي قامت في بلاد المغرب ثم انتقلت إلى مصر وأنشأت القاهرة واتخذتها عاصمة لها، وأصبح المغرب منذ ذلك الحين ولاية تابعة لمصر، وكان من شأن هذا أن كثرت رحلات المغاربة والأندلسيين إلى مصر وإلى ثغرها البديع، ومن بين من جذبتهم الإسكندرية للحياة فيها العالم الزاهد والفقيه الكبير: أبو بكر الطرطوشي.

المولد والنشأة

في مدينة طرطوشة الأندلسية ولد أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف المعروف بأبي بكر الطرطوشي نسبة إلى بلده، وهي مدينة كبيرة تقوم على سفح جبل إلى الشرق من مدينتي بلنسية وقرطبة، بينها وبين البحر المتوسط عشرون ميلا، ومحاطة بسور منيع له أربعة أبواب، وبها دار لصناعة السفن، وتزدهر بها التجارة، وتعمر أسواقها بالبضائع وكان مولده في (26 من جمادى الأولى 451 هـ = 10 من يوليو 1059م).

وكانت طرطوشة يومئذ ثغر مملكة سرقطسة التي تتمتع في ظل أمرائها من بني هود بالرخاء وسعة العيش، وفي الوقت نفسه كانت من حواضر العلم في الأندلس، وتموج بالعلماء وحلقاتهم التي تمتلئ بطلبة العلم، وكان أبو الوليد الباجي أحد علمائها الكبار الذين تُشدّ إليهم الرحال، وعُدّ إمام عصره في الفقه وفي مسائل الخلاف.

حفظ الطرطوشي في بلده القرآن، وتعلم مبادئ القراءة والكتاب، ودرس شيئا من الفقه قبل أن ينتقل إلى مدينة سرقسطة ويتصل بكبير علمائها أبي الوليد الباجي، ويتتلمذ عليه وهو في العشرين من عمره أو نحوها، أي حوالي سنة (470 هـ = 1077م)، وظل ملازمًا له ينهل من علمه الواسع ويتأثر بمنهجه في التفكير.

الرحلة إلى المشرق

غادر الطرطوشي وطنه سنة (476 هـ = 1083م) وهو فتى غض الإهاب في السادسة والعشرين إلى المشرق العربي، فنزل مكة، وأدى مناسك الحج وألقى بعض الدروس، ثم قصد بغداد حاضرة الخلافة العباسية، وملتقى أئمة العلم، ومحط طلاب المعرفة من أرجاء الدنيا، وكان الوزير نظام الملك قد أنشأ المدارس التي سميت باسمه "المدارس النظامية" وكان أول من أنشأ معاهد مستقلة للعلم، يتفرغ فيها المعلمون للتدريس والتلاميذ للتعلم، وأوقف عليها أموالا طائلة حتى تنهض برسالتها السامية، وقد شهد الطرطوشي نظامية بغداد وهي في أوج تألقها وازدهارها، وتتلمذ بها.

وفي بغداد تفقه الطرطوشي على عدد من أعلام بغداد، فتتلمذ على كبير الفقهاء الشافعية في بغداد أبي بكر الشاشي، وكان يتولى التدريس بالمدرسة النظامية، ولزم أبا أحمد الجرجاني، وأبا سعد بن المتولي، وهم يومئذ أئمة الفقه الشافعي، ثم رحل إلى البصرة وتتلمذ فيها على أبي علي التستري المتوفى سنة (479 هـ = 1086م) وسمع منه سنن أبي داود.

ثم رحل إلى الشام، وطوّف في مدنه، فزار حلب وإنطاكية ونزل بمدينة بيت المقدس –رد الله غربتها، وأعادها إلى أحضان المسلمين، وخلصها من رجس اليهود-، وتجمع المصادر التي ترجمت له على أنه قضى الفترة التي عاشها في الشام معلمًا متمكنًا تهفو إلى علمه النفوس وتقبل عليه القلوب، وكان لزهده وورعه أثر في ذلك فاجتمع عليه الناس أينما حل.

في الإسكندرية

اتجه الطرطوشي بعد إقامته في الشام فترة من عمره إلى الإسكندرية تسبقه سمعته الطيبة وتهيئ له مكانًا في القلوب، فاشتاقت إلى رؤيته، ونزل الثغر في سنة (488 هـ = 1095م) وكانت مصر في تلك الفترة قد أمسك بزمامها الوزير الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي، الذي استبد بالحكم دون الخلفاء الفاطميين، فلم يعد لهم حول ولا قوة، وأصبح تصريف الأمور كلها في يد الوزير القوي.

استقر الطرطوشي في الإسكندرية وأقبل عليه طلاب العلم، وامتلأت حلقاته الدراسية بالراغبين في تعلم الفقه والحديث ومسائل الخلاف، ولم يمض وقت على مجيئه حتى تزوج بسيدة موسرة من نساء الإسكندرية، فتحسنت أحواله ولانت له الحياة، ووهبته دارًا من أملاكها، فاتخذ من دورها العلوي سكنا له معها، وجعل طابقها السفلي مدرسة يلقي فيها دروسه.

الدين النصيحة

وبعد أن استقرت به الحياة خرج الطرطوشي إلى القاهرة عاصمة البلاد وحاضرة الخلافة الفاطمية، وفي أثناء إقامته هناك زار الوزير الكبير الأفضل بن بدر الجمالي، لا ليمدحه أو يقدم له آيات الشكر، وإنما لينصحه ويعظه دون نظر إلى مكانته وهيبته، فقد امتلأ قلب الطرطوشي بخشية الله والخوف منه، فانتزع منه كل خوف لما سواه، واستوى عنده كل شيء، وهذا ما عبر عنه أحد الصالحين حين شاهد الطرطوشي وحضر دروسه في الشام فقال: "الذي عند أبي بكر الطرطوشي من العلم هو الذي عند الناس، والذي عنده مما ليس مثله عند غيره.. دينه".

ومما قاله الطرطوشي لهذا الوزير: "... واعلم أن هذا الملك الذي أصبحت فيه إنما صار إليك بموت من كان قبلك، وهو خارج عن يديك مثل ما صار إليك؛ فاتق الله فيما حولك من هذه الأمة، فإن الله سائلك عن النقير والقطمير والفتيل، قال الله تعالى: "فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون".

العلم في الهواء الطلق

عاد الطرطوشي إلى الإسكندرية ليستأنف نشاطه وسيرته الأولى مع تلاميذه الذين التفوا حوله، وكانت له طريقة محببة جعلت قلوب تلامذته تتعلق به وتأنس معه، فلم يكتف بما يعقده لهم من حلقات دراسية في بيته أو في المسجد، بل كان يصطحبهم في رحلات إلى البساتين والأماكن الجميلة، وهناك في الهواء الطلق يلقي دروسه أو يذكرهم بما حفظوه ودروسه.

وأترك أحد تلامذته يصف لنا ما يحدث في تلك الرحلات حيث يقول: "كان صاحب نزهة مع طلبته في أكثر الأوقات، يخرج معهم إلى البستان، فيقيمون الأيام المتوالية في فرحة ومذاكرة ومداعبة مما لا يقدح في حق الطلبة، بل يدل على فضلهم وسلامة صدرهم، وخرجنا معه في بعض النزهة فكنا ثلاثمائة وستين رجلا لكثرة الآخذين عنه المحبين في صحبته وخدمته".

غير أن هذا الإقبال جلب له خصومة قاضي المدينة "مكين الدولة بن حديد"، وزادها اشتعالا ما كان يثيره الطرطوشي من نقد حول تصرفات القاضي المالية حول المكوس والمغارم الظالمة، وكذلك أطلق الطرطوشي لسانه في نقد كثير من العادات التي تنافي الشرع الحكيم، وقد جمعها في كتاب أطلق عليه "بدع الأمور ومحدثاتها"، وأصدر فتاوى أثارت الرأي العام مثل فتواه بحرمة تناول الجبن الذي يأتي به الروم إلى المدينة.

وقد ضاق قاضي المدينة وأعوانه بمسلك الطرطوشي، وبعثوا على الوزير الأفضل بشكاواهم، وصدّر الوزير الأمر على أنه بداية للخروج على النظام وإثارة للشغب، ولا بد من التصرف بشدة مع الطرطوشي الذي اجتمع عليه الناس لعلمه وورعه وزهده، وما كان من الوزير إلا أن بعث في طلب الطرطوشي، فلما قدم عليه قابله مقابلة طيبة، وأمره بالإقامة في مسجد الرصد بالفسطاط، ومنع الناس من الاتصال به، وقرر له راتبًا شهريًا، وسمح لخادمه بالإقامة معه. وظل الطرطوشي محدد الإقامة منذ أواخر سنة (514 هـ = 1120م) حتى (شوال سنة 515 هـ = 1121م)، ثم انكشفت الغمة بمقتل الأفضل وتولي مأمون البطائحي أمور الوزارة، فأفرج عن الشيخ وأحسن وفادته.

سراج الملوك

عاد الطرطوشي إلى الإسكندرية واستأنف حياته السابقة: حياة الدرس والإقراء، وبدأ يؤلف كتابًا في فن السياسة والحكم، وما يجب أن يكون عليه الراعي والرعية، وأتم هذا الكتاب في سنة واحدة وسماه "سراج الملوك" وتوجه به إلى القاهرة (516 هـ = 1122م) ليقدمه إلى الوزير الجديد "مأمون البطائحي"، فاستقبله أحسن استقبال وجلس بين يديه؛ إمعانًا في التقدير والإجلال، وأغدق عليه عطفه ورعايته.

ولم يكن الطرطوشي ليكتفي بالاستقبال الطيب دون أن يعرض عليه ما يراه منافيًا للشرع، وبخاصة فيما يتعلق بالنظم المتبعة للمواريث، حيث كان القضاة الشيعة يفتون بأن ترث البنت كل تركة أبيها إذا كانت وحيدة لا أخ لها ولا أخت، وكان هذا مخالفًا للشرع؛ حيث تحرم العصبة من المشاركة في الميراث، فلما عرض الطرطوشي الأمر على الوزير وذكّره بأن هذا مخالف للمذاهب السُّنّية التي تقضي بألا ترث البنت في هذه الحالة أكثر من نصف التركة، وبعد مناقشة طويلة اعتذر الوزير بأنه لا يملك تغيير ما يقضي به المذهب الشيعي، لكنه وافق على حل وسط يرضي المذهب الشيعي ويرضي ما يقوله الطرطوشي، وأصدر أمرًا للقضاة بأن يُتّبع في الميراث مذهب الميت، فإن كان سنيًا اتُّبع المذهب السني، وإن كان شيعيًا اتبع المذهب الشيعي.

موضوع الكتاب

وكتاب "سراج الملوك" يتألف من أربعة وستين فصلا تتناول سياسة الملك وفن الحكم وتدبير أمور الرعية، وقد تناول في كتابه الخصال التي يقوم عليها الملك، والخصال المحمودة في السلطان والتي تمكّن له ملكه، وتسبغ الكمال عليه، والصفات التي توجب ذم السلطان، وعرّج على ما يجب على الرعية فعله إذا جنح السلطان إلى الجور، وتناول صحبة السلطان وسيرته مع الجند، وفي اقتضاء الجباية وإنفاق الأموال.

وتحدث الطرطوشي في كتابه عن الوزراء وصفاتهم وآدابهم، وتكلم عن المشاورة والنصيحة باعتبارهما من أسس الملك، وعرض لتصرفات السلطان تجاه الأموال والجباية، ولسياسته نحو عماله على المدن، وتناول سياسة الدولة نحو أهل الذمة، وما يتصل بذلك من أحكام، وتحدث عن شئون الحرب وما تتطلبه من سياسة وتدبير.

وللطرطوشي إلى جانب هذا الكتاب القيم عدد آخر من الكتب منها: مختصر تفسير الثعالبي، وشرح لرسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني، في الفقه المالكي، والكتاب الكبير في مسائل الخلاف، وكتاب الفتن، وكتاب الحوادث والبدع، أو بدع الأمور محدثاتها.

وكان الطرطوشي إلى جانب تضلعه في أمور الشريعة ومسائل الخلاف أديبًا بارعًا، ويظهر ذلك في أسلوبه الرشيق الجميل في كتابه سراح الملوك، وكان شاعرًا محسنًا، وقد احتفظ كتابه هذا بنماذج طيبة من شعره، ظلت أبيات منها سائرة على الألسنة حتى يومنا هذا، مثل قوله:

إن لله عبادًا فطنا
طلّقوا الدنيا وخافوا الفتنا

فكروا فيها، فلما علموا
أنها ليست لحي وطنا

جعلوها لجّة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سُفنا


وفاة الشيخ

بلغ أبو بكر الطرطوشي مكانة عالية، وصار من أقطاب الفقه المالكي في عصره، وأصبح ملجأ الناس في الفتوى يلوذون به حتى تضل بهم السبل، ثقة منهم في علمه ودينه وأمانته، وتطلع إليه الحكام التماسًا للرأي والمشورة وطلبا للفتيا فيما يقدمون عليه من أعمال، فطلب منه عاهل دولة المرابطين "يوسف بن تاشفين" فتواه في إقدامه على خلع ملوك الطوائف في الأندلس لانغماسهم في اللهو وانصرافهم عن الرعية، فأفتاه بذلك، متفقًا مع ما أفتى به فقهاء المغرب والأندلس من جواز ذلك.

نجح الشيخ أثناء إقامته بالإسكندرية، من إحداث نشاط علمي وافر، وتتلمذ عليه عدد كبير من الفقهاء، حمل بعضهم الراية من بعده، مثل: سند بن عنان الذي خلف الطرطوشي في مدرسته، وأبي طاهر بن عوف، وكانت له مدرسة مستقلة.

ظل الطرطوشي يواصل عمله في مدرسته حتى توفي في (26 من جمادى الأولى 520 هـ = 20 من يونيو 1127م) وهو في التاسعة والستين من عمره.


منقول

عبدالغفور الخطيب
23-06-2006, 02:36 AM
معركة أجنادين.. الطريق إلى فتح الشام

(في ذكرى نشوبها: 27 من جمادى الأولى 13هـ)


كان الصحابي الجليل "خالد بن سعيد بن العاص"، أول قائد عقد له أبو بكر الصديق لواء فتح الشام ، وأمره بأن يعسكر بجيشه في تيماء شمالي الحجاز، وأوصاه بعدم البدء في القتال إلا إذا قُوتل، وكان الخليفة الحصيف يقصد من وراء ذلك أن يكون جيش خالد عونًا ومددًا عند الضرورة، وأن يكون عينه على تحركات الروم لا أن يكون طليعة لفتح بلاد الشام .

وحدث ما كان منه بدٌ، فقد اشتبك خالد بن سعيد مع الروم التي استنفرت بعض القبائل العربية من بهراء وكلب ولخم وجذام وغسان لقتال المسلمين ، ولم تكن قوات خالد تكفي لقتال الروم ، فُهزم هزيمة قاسية في "مرج الصفر" في (4 من المحرم 13 هـ = 11 من مارس 634م) واستشهد ابنه في المعركة، ورجع بمن بقي معه إلى "ذي مروة" ينتظر قرار الخليفة.

الصديق يعقد أربعة ألوية

ولما وصلت أنباء الهزيمة إلى الخليفة أبي بكر الصديق أهمه الأمر، وجمع كبار الصحابة لتبادل الرأي والمشورة، واستقر الرأي على دفع العدوان، ورد الروم الذين قد يغرهم هذا النصر المفاجئ فيهددون أمن الدولة التي بدأت تستعيد أنفاسها بعد قضائها على حروب الردة، وتوالي أنباء النصر الذي تحقق في جبهة العراق.

جهّز الخليفة الصديق أربعة جيوش عسكرية، واختار لها أكفأ قواده، وأكثرهم مرانًا بالحرب وتمرسًا بالقتال، وحدد لكل جيش مهمته التي سيقوم بها.

أما الجيش الأول فكان تحت قيادة "يزيد بن أبي سفيان"، ووجهته "البلقاء"، وهي اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية، ويذكر "المدائني" أنه كان أول أمراء الشام خروجًا.

- وكان الجيش الثاني بقيادة "شرحبيل بن حسنة"، ووجهته منطقة "بُصرى".

- وجعل أبو بكر الصديق قيادة الجيش الثالث لـ "أبي عبيدة بن الجراح"، ووجهته منطقة "الجابية"، وقد لحق خالد بن سعيد الذي ذكرناه آنفًا بجيش أبي عبيدة.

- أما الجيش الرابع فكان بقيادة "عمرو بن العاص"، ووجهته "فلسطين". وأمرهم أبو بكر الصديق بأن يعاونوا بعضهم بعضًا، وإذا اجتمعوا معًا فالقيادة العامة لـ أبي عبيدة بن الجراح.

وصية الصديق للقادة

وكان الصديق كلما خرج لتوديع جيش من الجيوش الأربعة يوصي قائده بوصايا جامعة، تبين سلوك الفاتحين المسلمين وأخلاقهم في التعامل مع أهالي البلاد القادمين إليها. وأقتطف من وصية الصديق لـ يزيد بن أبي سفيان هذه الكلمات: "وإني موصيكم بعشر كلمات فاحفظوهن: لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا صبيًا صغيرًا ولا امرأة، ولا تهدموا بيتًا ولا بيعة، ولا تقطعوا شجرًا مثمرًا، ولا تعقروا بهيمة إلا لأكل، ولا تحرقوا نخلاً ولا تُغرقوه، ولا تعص، ولا تجبن…"

وجاء في وصيته لـ عمرو بن العاص: ".. اسلك طريق إيلياء حتى تنتهي إلى أرض فلسطين، وإياك أن تكون وانيًا عما ندبتك إليه، وإياك والوهن، وإياك أن تقول: جعلني ابن أبي قحافة في نحر العدو ولا قوة لي به، واعلم يا عمرو أن معك المهاجرين والأنصار من أهل بدر، فأكرمهم واعرف حقهم، ولا تتطاول عليهم بسلطانك.. وكن كأحدهم وشاورهم فيما تريد من أمرك، والصلاة ثم الصلاة، أذن بها إذا دخل وقتها، واحذر عدوك، وأمر أصحابك بالحرس، ولتكن أنت بعد ذلك مطلعًا عليهم..".

وكان مجموع تلك القوات نحو 24 ألف مقاتل، وقد نجحت تلك الجيوش في التوغل في جنوبي الشام، واشتبكت في مناوشات صغيرة مع الروم، واضطر قيصرهم إلى حشد ما يملك من قوات وعتاد حتى يدفع جيوش المسلمين التي أقبلت، ولا هم لها سوى فتح تلك البلاد ونشر العدل والمساواة فيها، ولما رأى المسلمون ما يحشده الروم من قوات ضخمة أرسلوا إلى الصديق يخبرونه بحالهم ويطلبون منه المدد، فأمدهم بعكرمة بن أبي جهل ومن معه من الرجال، وكان الصديق قد استبقاهم في المدينة تحسبًا لأي طارئ أو مفاجأة تحدث في أثناء الفتح، غير أن جبهة القتال لم يحدث فيها تغيير، ولم يغير المدد شيئًا مما يجري، وتجمد الموقف دون قتال يحسم الموقف في الوقت الذي كان فيه خالد بن الوليد في جبهة العراق ينتقل من نصر إلى نصر، والأبصار متعلقة بما يحققه من ظفر لا تكاد تصدق أن تتهاوى قوة الفرس أمام ضربات خالد حتى سقطت الحيرة في يديه.

الاستعانة بخالد بن الوليد

هال الخليفة أبا بكر أن تبقى الأوضاع في الشام دون تحريك، وأن يعجز القادة المجتمعون على تحقيق النصر في أول الجولات بينهم وبين قوات الروم التي لم تكن ضعيفة الجانب قليلة الجند، وإنما كانت تعيش فترة زاهية بعد فوزها على الفرس وعودة الثقة إليها.

وعزم الصديق على بث روح جديدة تعودت الفوز والظفر، ومشى النصر في ركابها كأنه قدرها المحتوم، ولم يكن غير خالد من يمكنه تغيير الأوضاع، وإثارة الهمم، ووضع الخطط التي تأتي بالنصر، وكان الصديق أكثر الناس ثقة في كفاءة خالد وقدرته العسكرية، فأطلق كلمته السائرة التي رددتها كتب التاريخ: "والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد".

وبعث الصديق إلى خالد بأن يقدم إلى الشام ومعه نصف قواته التي كانت معه في العراق، حتى يلتقي بأبي عبيدة بن الجراح ومن معه، ويتسلم القيادة العامة للجيوش كلها، وفي الوقت نفسه كتب الصديق إلى أبي عبيدة يخبره بما أقدم عليه، وجاء في كتابه: ".. فإني قد وليت خالدًا قتال الروم بالشام، فلا تخالفه، واسمع له وأطع أمره، فإني قد وليته عليك، وأنا أعلم أنك خير منه، ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، أراد الله بنا وبك سبل الرشاد والسلام عليك ورحمة الله".

امتثل خالد بن الوليد لأوامر الخليفة، وخرج من الحيرة بالعراق في (8 من صفر 13 هـ = 14 من أبريل 634م) في تسعة آلاف جندي، فسار شمالاً ثم عرج حتى اجتاز صحراء السماوة في واحدة من أجرأ المغامرات العسكرية في التاريخ، وأعظمها خطرًا؛ حيث قطع أكثر من ألف كيلو متر في ثمانية عشر يومًا في صحراء مهلكة حتى نزل بجيشه أمام الباب الشرقي لدمشق، ثم سار حتى أتى أبا عبيدة بالجابية؛ فالتقيا ومضيًا بجيشهما إلى "بصرى".

تجمعت الجيوش كلها تحت قيادة خالد بن الوليد، وحاصر بصرى حصارًا شديدًا واضطرت إلى طلب الصلح ودفع الجزية، فأجابها خالد إلى الصلح وفتحها الله على المسلمين في (25 من شهر ربيع الأول 13 هـ = 30 من مايو 634م)، فكانت أول مدينة فُتحت من الشام صلحًا على أن يؤمنوا على دمائهم وأموالهم وأولادهم، نظير الجزية التي سيدفعونها.

الاستعداد لأجنادين

بعد سقوط بُصرى استنفر هرقل قواته، وأدرك أن الأمر جد لا هذر فيه، وأن مستقبل الشام بات في خطر ما لم يواجه المسلمون بكل ما يملك من قوة وعتاد، حتى تسلم الشام وتعود طيعة تحت إمرته، فحشد العديد من القوات الضخمة، وبعث بها إلى بصرى حيث شرحبيل بن حسنة في قواته المحدودة، وفي الوقت نفسه جهّز جيشًا ضخمًا، ووجّهه إلى أجنادين من جنوب فلسطين، وانضم إليه نصارى العرب والشام.

تجمعت الجيوش الإسلامية مرة أخرى عند أجنادين، وهي موضع يبعد عن "بيت جبرين" بحوالي أحد عشر كيلو مترًا، وعن الرملة حوالي تسع وثلاثين كيلو مترًا، وكانت ملتقى مهمًا للطرق.

نظم خالد بن الوليد جيشه البالغ نحو 40 ألف جندي، وأحسن صنعه وترتيبه على نحو جديد، فهذه أول مرة تجتمع جيوش المسلمين في الشام في معركة كبرى مع الروم الذين استعدوا للقاء بجيش كبير بلغ 90 ألف جندي.

شكّل خالد جيشه ونظّمه ميمنة وميسرة، وقلبًا، ومؤخرة؛ فجعل على الميمنة "معاذ بن جبل"، وعلى الميسرة سعيد بن عامر، وعلى المشاة في القلب "أبا عبيدة بن الجراح"، وعلى الخيل "سعيد بن زيد"، وأقبل خالد يمر بين الصفوف لا يستقر في مكان، يحرض الجند على القتال، ويحثهم على الصبر والثبات، ويشد من أزرهم، وأقام النساء خلف الجيش يبتهلن إلى الله ويدعونه ويستصرخنه ويستنزلن نصره ومعونته، ويحمسن الرجال.

وتهيأ جيش الروم للقتال، وجعل قادته الرجالة في المقدمة، يليهم الخيل، واصطف الجيش في كتائب، ومد صفوفهم حتى بلغ كل صف نحو ألف مقاتل.

اشتعال المعركة

وبعد صلاة الفجر من يوم (27 من جمادى الأولى 13 هـ = 30 من يوليو 634م) أمر خالد جنوده بالتقدم حتى يقتربوا من جيش الروم، وأقبل على كل جمع من جيشه يقول لهم: "اتقوا الله عباد الله، قاتلوا في الله من كفر بالله ولا تنكصوا على أعقابكم، ولا تهنوا من عدوكم، ولكن أقدموا كإقدام الأسد وأنتم أحرار كرام، فقد أبيتم الدنيا واستوجبتم على الله ثواب الآخرة، ولا يهولكم ما ترون من كثرتهم فإن الله منزل عليهم رجزه وعقابه، ثم قال: أيها الناس إذا أنا حملت فاحملوا".

وكان خالد بن الوليد يرى تأخير القتال حتى يصلوا الظهر وتهب الرياح، وهي الساعة التي كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يحب القتال فيها، ولو أدى ذلك أن يقف مدافعًا حتى تحين تلك الساعة.

أعجب الروم بكثرتهم وغرتهم قوتهم وعتادهم فبادروا بالهجوم على الميمنة؛ حيث يقف معاذ بن جبل، فثبت المسلمون ولم يتزحزح أحد، فأعادوا الكرة على الميسرة فلم تكن أقل ثباتًا وصبرًا من الميمنة في تحمل الهجمة الشرسة وردها، فعادوا يمطرون المسلمين بنبالهم، فتنادى قادة المسلمين طالبين من خالد أن يأمرهم بالهجوم، حتى لا يظن الروم بالمسلمين ضعفا ووهنا ويعاودون الهجوم عليهم مرة أخرى، فأقبل خالد على خيل المسلمين، وقال: احملوا رحمكم الله على اسم الله" فحملوا حملة صادقة زلزلزت الأرض من تحت أقدام عدوهم، وانطلق الفرسان والمشاة يمزقون صفوف العدو فاضطربت جموعهم واحتلت قواهم.

فلما رأى القبقلار قائد الروم أن الأمر خرج من يده، وأن الهزيمة واقعة لا محالة بجنوده قال لمن حوله: لفوا رأسي بثوب، فلما تعجبوا من طلبه قال: يوم البئيس لا أحب أن أراه! ما رأيت في الدنيا يومًا أشد من هذا، وما لبث أن حز المسلمون رأسه وهو ملفوف بثوبه، فانهارت قوى الروم، واستسلمت للهزيمة، ولما بلغ هرقل أخبار الهزيمة أسقط في يده وامتلأ قلبه رعبًا.

بطولة وفداء

وفي هذه المعركة أبلى المسلمون بلاءً حسنًا، وضربوا أروع الأمثلة في طلب الشهادة، وإظهار روح الجهاد والصبر عند اللقاء، وبرز في هذا اليوم من المسلمين "ضرار بن الأزور"، وكان يومًا مشهودًا له، وبلغ جملة ما قتله من فرسان الروم ثلاثين فارسًا، وقتلت "أم حكيم" الصحابية الجليلة أربعة من الروم بعمود خيمتها.

وبلغ قتلى الروم في هذه المعركة أعدادًا هائلة تجاوزت الآلاف، واستشهد من المسلمين 450 شهيدًا.

وبعد أن انقشع غبار المعركة وتحقق النصر، بعث خالد بن الوليد برسالة إلى الخليفة أبي بكر الصديق يبشره بالنصر وما أفاء الله عليهم من الظفر والغنيمة، وجاء فيها: ".. أما بعد فإني أخبرك أيها الصديق إنا التقينا نحن والمشركين، وقد جمعوا لنا جموعا جمة كثيرة بأجنادين، وقد رفعوا صلبهم، ونشروا كتبهم، وتقاسموا بالله لا يفرون حتى يفنون أو يخرجونا من بلادهم، فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين على الله، فطاعناهم بالرماح، ثم صرنا إلى السيوف، فقارعناهم في كل فج.. فأحمد الله على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنيع لأوليائه"؛ فلما قرأ أبو بكر الرسالة فرح بها، وقال: "الحمد لله الذي نصر المسلمين، وأقر عيني بذلك".

منقول

عبدالغفور الخطيب
26-06-2006, 02:19 AM
"وادي المخازن".. معركة الملوك الثلاثة

(في ذكرى نشوبها: 30 من جمادى الأولى 986هـ)



عرف التاريخ الإنساني عددا من المعارك الفاصلة التي كانت نقاط تحول تاريخية نتيجة للآثار الإستراتيجية البعيدة التي تركتها تلك المعارك، حيث كانت بمثابة القسمات على وجه التاريخ، وحفرت وقائعها فضلا عن أسمائها في الذاكرة الإنسانية.

ومن هذه المعارك معركة بلاط الشهداء أو لابواتيه التي كانت تحولا في مسار الفتوح الإسلامية بأوربا، وتراجع العثمانيين أمام أسوار فيينا، ومعركة وادي المخازن بين الدولة السعدية في المغرب والعثمانيين من جانب، والبرتغال والأسبان وفلول المتطوعين المسيحيين الأوربيين من جانب آخر.

كان دافع البرتغاليين لخوض هذه المعركة هو استرداد شواطئ شمال أفريقيا وسحب البساط تدريجيا من تحت أقدام الإسلام في تلك المناطق وإرجاعها إلى حظيرة المسيحية، وإحكام السيطرة على طرق التجارة، خاصة مدخل البحر المتوسط من خلال السيطرة على مضيق جبل طارق، محاولين في ذلك استلهام تجربة حروب الاسترداد التي خاضتها أسبانيا ضد الوجود الإسلامي بها.

المتوكل.. على الأسبان والبرتغاليين

كانت الدولة السعدية -التي تعود لمحمد النفس الزكية أحد أئمة آل البيت النبوي- هي التي تسيطر على مراكش (المغرب)، وكان قيامها سنة (923هـ= 1517م) على أساس مجاهدة البرتغاليين، واستطاعت هذه الأسرة أن تحرر الكثير من شواطئ المغرب المطلة على المحيط الأطلنطي -والتي احتلها الأسبان في عدة حملات- حيث استطاعت دخول مراكش سنة (931هـ= 1525م) ثم فاس في (961هـ= 1554م) وكان ذلك بداية قيام تلك الدولة التي استمرت حتى عام (1011هـ=1603م)

وعندما توفي عبد الله الغالب السعدي حاكم الدولة السعدية تولى من بعده ابنه محمد المتوكل الحكم سنة (981هـ=1574م) وعرف عنه القسوة وإتيان المنكرات، فانقلب عليه عماه عبد المالك وأحمد واستنجدا بالعثمانيين -الذين كانوا موجودين بالجزائر- فقدم لهما العثمانيون المساعدات واستطاعا الانتصار على المتوكل في معركتين سنة (983هـ=1576م) واستطاع عبد المالك أن يدخل فاس عاصمة الدولة السعدية وأن يأخذ البيعة لنفسه، وأن يشرع في تأسيس جيش قوي ضم العرب والبربر وعناصر تركية وأندلسية.

ولم تؤد خسارة المتوكل أمام عميه عبد المالك وأحمد إلى أن يرضى بالأمر الواقع فرحل إلى الشواطئ البرتغالية واستنجد بالملك البرتغالي دون سباستيان ليساعده في استرداد ملكه مقابل أن يمنحه الشواطئ المغربية على المحيط الأطلسي.

واستطاعت المخابرات العثمانية في الجزائر أن ترصد هذه الاتصالات بين المتوكل والبرتغاليين، وبعث حسن باشا أمير أمراء الجزائر برسالة مهمة إلى السلطان العثماني بهذا الشأن، وكان العثمانيون في إستانبول على دراية بما يجري في أوربا فقد كان لديها معلومات عن اتصالات يجريها بابا روما ودوق فرنسا منذ عدة أشهر بهدف جمع جنود وإعداد سفن وتحميلها بمقاتلين لمساعدة البرتغال في غزوها للشاطئ المغربي، ورصدت المخابرات العثمانية الاتصالات بين ملك البرتغال سباستيان وخاله ملك أسبانيا فيليب الثاني ولكنها لم تستطع أن تقف على حقيقة الاتفاق الذي جرى بينهما، لكن المعلومات التي رصدتها أكدت أن ملك أسبانيا جمع حوالي عشرة آلاف جندي لمساعدة البرتغال في تأديبه ملك فاس عبد المالك السعدي.

أما الدولة السعدية فقد استطاعت سفنها أن تلقي القبض على سفارة كان قد أرسلها المتوكل إلى البرتغال تطالبهم بالتدخل لمساعدته في استرداد ملكه مقابل منحهم الشواطئ المغربية على المحيط الأطلسي، ولذا بدأ السعديون يأخذون أهبتهم للحرب القادمة من حيث الاستعدادات الحربية وحشد الجنود والاتصال بالعثمانيين الموجودين في الجزائر للحصول على دعمهم في الحرب القادمة ضد البرتغاليين والأسبان.

سباستيان: استرداد استرداد

كانت الهوس الديني مسيطرا على سباستيان وكان يرغب في أن يخوض حرب استرداد مسيحية أخرى في سواحل الشمال الأفريقي، ورأى أن تكون حربا كبيرة لا مجرد غارة خاطفة، ولذا بدأ مشاورات مع عدد من ملوك وأمراء أوربا وعلى رأسهم خاله فيليب الثاني الذي سمح للمتطوعين الأسبان بالتدفق على الجيش البرتغالي، وأمده بقوات من جيشه وسفن لنقل القوات إلى الشواطئ المغربية، وشارك بثلث نفقات الحملة شريطة الاكتفاء باحتلال ميناء العرائش على المحيط الأطلسي وعدم التوغل في الأراضي المغربية وألا تستمر الحرب أكثر من عام.

تدفقت جموع المتطوعين على الجيش البرتغالي من إيطاليا وألمانيا وغيرها من الدول الأوربية، وجمع سباستيان حوالي 18 ألف مقاتل، وكان بالجيش البرتغالي الكثير من المدافع والخيالة الذين كانوا عماد الحرب في تلك الفترة من التاريخ. واختلف في المجموع الكلي لجيش سباستيان وجموع الأسبان والمتطوعين المسيحيين الذين تدفقوا على هذا الجيش؛ إذ رفع البعض عددهم إلى حوالي 125 ألف مقاتل، وفي تقديرات أخرى 80 ألفا، بينما يقول المدققون إنه كان يزيد على 40 ألفا.

وقد ظن البرتغاليون أنهم ذاهبون إلى نزهة على الشواطئ المغربية؛ حيث أخذوا الأمر باستخفاف شديد؛ فقد كانوا واثقين من انتصارهم السهل، حتى إن الصلبان كانت مُعدة لتعليقها على المساجد المغربية الكبيرة في فاس ومراكش، بل وضعت تصميمات لتحويل قبلة جامع القرويين الشهير إلى مذبح كنسي، وكانت بعض النساء البرتغاليات من الطبقة الراقية يرغبن في مصاحبة الجيش لمشاهدة المعركة، وكان بعض البرتغاليين يرتدون الثياب المزركشة المبهرة وكأنهم سيحضرون سباقا أو مهرجانا.

الإبحار والخطة والمواجهة

أبحرت السفن البرتغالية والأسبانية من ميناء لشبونة في (19 ربيع ثان 986هـ= 24 من يونيو 1578م) ورست على شاطئ ميناء أصيلة فاحتلته، وفوجئ سباستيان بأن عدد قوات المتوكل قليل جدا.

بنى السعديون خطتهم للمواجهة على إطالة الفترة التي تبقاها قوات البرتغاليين في الشاطئ دون التوغل في الأراضي المغربية؛ حتى يتمكن السعديون من تجميع قواتهم ودفعها إلى المعركة، ثم بدأ السعديون في محاولة إغراء البرتغال بترك الشواطئ والتوغل في الأرض المغربية الصحراوية لإرهاقها وإبعادها عن مراكز تموينها على شاطئ المحيط.

نجحت خطة عبد المالك واستطاع أن يغري القوات البرتغالية والأسبانية بالزحف داخل المغرب حتى سهل فسيح يسمى سهل القصر الكبير أو سهل وادي المخازن بالقرب من نهر لوكوس، وكان يوجد جسر وحيد على النهر للعبور إلى الوادي.

كانت خطة عبد المالك القتالية أن يجعل القوات البرتغالية تعبر الجسر إلى الوادي ثم تقوم القوات المغربية بنسف هذا الجسر لقطع طريق العودة على البرتغاليين، ومن ثمة يكون النهر في ظهرهم أثناء القتال؛ بحيث لا يجد الجنود البرتغاليون غيره ليهرعوا إليه عند اشتداد القتال؛ وهو ما يعني أنهم سيغرقون به نظرا لما يحملونه من حديد ودروع.

بدأ القتال وكان شديدا نظرا للحماسة الدينية التي كانت تسيطر على كلا الطرفين، وأصيب عبد المالك بمرض شديد أقعده في الفراش، وقيل إن بعض الخدم وضع له سما. وقد زاد ضغط البرتغاليين والأسبان على بعض القوات المغربية فاختلت صفوفها فما كان من عبد المالك إلا أن ركب فرسه وحث جنده على الثبات، لكنه سقط فنقل إلى خيمته وأوصى إن توفاه الله تعالى أن يتم كتمان الخبر حتى الانتهاء من القتال حتى لا يؤثر ذلك في معنويات الجنود، وشاءت إرادة الله تعالى أن يُتوفى عبد المالك، وعمل رجال دولته بوصيته فكتموا الخبر.

استمر القتال حوالي أربع ساعات وثلث الساعة وفي أثنائها بدأت بشائر النصر تلوح في الأفق للمسلمين فحاول البرتغاليون الهروب من ميدان المعركة والعودة إلى الشاطئ لكنهم وجدوا أن جسر وادي المخازن قد نُسف فألقى الجنود ومعهم سباستيان بأنفسهم في الماء فمات هو وكثير من جنوده غرقا، أما الباقون فقتلوا في ميدان المعركة أو أسروا، أما البقية التي نجت وركبت البحر فقد استطاع حاكم الجزائر حسن باشا وقائده الريس سنان أن يعترض سفنهم وأن يأسر غالبيتهم؛ حيث أسر 500 شخص.

معركة الملوك الثلاثة

لقي في هذه المعركة ثلاثة ملوك حتفهم هم عبد المالك وسباستيان والمتوكل؛ ولذا عرفت بمعركة الملوك الثلاثة، وفقدت البرتغال في هذه الساعات ملكها وجيشها ورجال دولتها، ولم يبق من العائلة المالكة إلا شخص واحد، فاستغل فيليب الثاني ملك أسبانيا الفرصة وضم البرتغال إلى تاجه سنة (988هـ= 1580م)، وورث أحمد المنصور العرش السعدي في فاس، وأرسل سفارة إلى السلطان العثماني يعرض عليه فيها انضمام دولته لدولة الخلافة العثمانية.


منقول

عبدالغفور الخطيب
27-06-2006, 03:01 AM
الزبيدي.. نجم في سماء اللغة

(بمناسبة ذكرى وفاته: في غرة جمادى الآخرة 379 هـ)


لم تسلم اللغة العربية في أي عصر من العصور من التعرض للتصحيف والتحريف، وزحْف العامية إلى الفصحى، ومحاولة اقتحام الأعجمية حصونها المنيعة. وكانت العربية تنتصر دائمًا لنفسها بما عُرف عنها من المرونة واليسر، فكانت تفتح أبوابها لدخول الكلمات والألفاظ الجديدة والمصطلحات الحديثة التي تجدد بها شبابها في كل عصر، ولكنها لم تهمل- كغيرها من اللغات- جذورها القديمة الأصيلة، وإنما حملتها معها عبر وصلة حياتها الطويلة لتصل الحاضر بالماضي في عبقرية مدهشة جعلت العربية تتسع وتتنامى مع مرور العصور والأزمان دون أن تفقد شيئا من تراثها اللغوي ومعجمها العربي الأصيل.

وقد قيض الله لها من أبنائها من نصبوا أنفسهم للدفاع عنها والحفاظ عليها من تسلل اللحن والخطأ إلى لغة القرآن الكريم، وجعلوا معظم همهم وجُل همتهم في تنقيتها من هجوم اللحن عليها، وحفظ صحيح اللسان من أخطاء وأوهام العوام، وكان من هؤلاء أبو بكر الزبيدي.

ميلاده ونشأته

ولد "أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد الله بن مدجج بن محمد بن عبد الله بن بشر الزبيدي" في مدينة "إشبيلية" بالأندلس سنة (316 هـ = 928م).

والزبيدي نسبة إلى "زبيد"، وهو "منية بن صعب بن سعد العشيرة" رهط "عمرو بن معدي كرب"، وكان أجداده قد نزلوا حمص من بلاد الشام قبل أن ينزح آباؤه مع جموع الفاتحين من المسلمين إلى بلاد الأندلس.

وعاش في إشبيلية فترة طويلة من نشأته وشبابه؛ حيث تلقى العلم على أيدي عدد كبير من علمائها وشيوخها الأعلام، وكان لنبوغه وذكائه أثر كبير في تفوقه على كثير من أقرانه؛ حتى ذاعت شهرته، وطار صيته لما عرف به من تمكنه من علوم اللغة والنحو والأدب والسِيَر والأخبار، فكان أخبر أهل زمانه وأوحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة.

شيوخه وأساتذته

تلقى الزبيدي العلم على يد عدد كبير من أعلام عصره في الأدب واللغة والنحو، وكانت علاقته بهؤلاء الشيوخ وثيقة العُرَى، تشهد بذلك ترجماته لهم في كتابه الرائع "طبقات النحويين واللغويين"، ومنهم:

1- "أبو علي إسماعيل القاسم القالي"، المتوفَّى سنة (356 هـ = 967م)، صاحب "البارع في اللغة"، و"الأمالي والنوادر"، و"الممدود والمقصور"، وقد أخذ عنه الزبيدي اللغة والنوادر ولازمه طويلا، وينقل عنه كثيرًا في كتابه "لحن العامة".

2- "أبو عبد الله محمد بن يحيى الرباحي"، المتوفَّى سنة (358 هـ = 969 م)، وكان يمارس التدريس والتأديب في داره بقرطبة، فلازمه الزبيدي وتتلمذ عليه، وقد استأدبه الخليفة "الناصر" لولده "المغيرة"، ثم وكل إليه المستنصر بالله شؤون الدواوين، ويصفه الزبيدي بأنه كان قدوة لمؤدبي العربية في عصره، وكانت بينهما مساجلات شعرية لطيفة ذكرها الزبيدي في معرض ترجمته له.

3- "أبو محمد البياني قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف بن ناصح القرطبي"، المتوفى سنة (340 هـ = 951م)، كان محدثًا، وقد وصل إلى مكة وبغداد والكوفة، وقد أخذ عنه السير والتاريخ، وروى عنه في مواضع عدة من كتبه.

4- "أبو عثمان سعيد بن فحلون بن سعيد"، المتوفى سنة (341 هـ = 952م)، وهو من علماء الحديث، روى عن "عبد الرحمن النسائي" و"محمد بن وضاح" و"بقي بن مخلد" وغيرهم، وقد روي عنه الزبيدي في بعض كتبه.

5- "أبو عمر أحمد بن سعيد بن حزم بن يونس الصدفي"، المتوفى سنة (350 هـ = 961م). وكان من علماء السنن والأثر، عُني بجمع الحديث، وأكثر من الرحلة في طلب العلم على شيوخ وأعلام مصر ومكة والقيروان، وصنف كتابًا في تاريخ المحدثين، وقد روى عنه الزبيدي في مواضع كثيرة من مصنفاته.

الزبيدي في قرطبة

بلغت شهرة "الزبيدي" الخليفة "المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن"، المتوفى سنة (366 هـ = 977م)، فاستدعاه إلى قرطبة، وكان يحب العلم ويرعى العلماء، وقد امتلأ بلاطه بالعلماء والأدباء والشعراء، ونال الزبيدي عنده حظوة ومكانة عالية؛ حتى إنه اختاره ليكون مؤدبًا لابنه وولي عهده "هشام بن الحكم".

وأقبلت الدنيا على "الزبيدي في قرطبة، فنال بها دنيا عريضة في كنف الخليفة الأندلسي، وصارت له شهرة واسعة جاهًا رفيعًا.

وبالرغم مما حققه الزبيدي في قرطبة من الشهرة والجاه والرياسة فإنه كان دائم الحنين إلى إشبيلية مسقط رأسه، واشتد به الشوق إلى موطن طفولته وملاعب صباه، فاستأذن الخليفة المستنصر في العودة إلى إشبيلية، ولكن الخليفة تمسك به ولم يأذن له بالرجوع، ودعاه إلى البقاء معه، فكتب الزبيدي في ذلك أبياتًا من الشعر تفيض وجدًا وتقطر بالحزن والأسى:

ويحك يا سلم لا تراعي
لا بد للبين من زماع

لا تحسبيني صبرت إلا
كصبر مَيْتٍ على النـزاع

ما خلق الله من عذاب
أشـد من وقـفة الوداع


العودة إلى إشبيلية

تحققت أمنية الزبيدي في العودة إلى إشبيلية بعد أن أدى مهمته في تعليم وتأديب ابن الخليفة، وقد كافأه الخليفة على ذلك بأن ولاه منصب القضاء في إشبيلية.

وظل يمارس التدريس إلى جانب عمله في القضاء حتى تُوفي الخليفة المستنصر بالله، وما لبث الخليفة الجديد "هشام بن الحكم" أن جعله على خطة الشرطة، فلم ينقطع الزبيدي- صاحب الشرطة- عن العلم والأدب، وله موقف طريف في ذلك مع الوزير "أبي الحسن جعفر بن عثمان المصحفي"، وكان قد كتب كتابًا إلى الزبيدي فلاحظ الزبيدي أنه أخطأ في تصحيف لفظ فيه، فنبهه إلى ذلك شعرًا دون تصريح، وهو ما يدل على براعته الفائقة في النظم وتمكُّنه من اللغة وفصاحته.

الزبيدي شاعرًا

يشير الذين ترجموا للزبيدي إلى شاعريته وتمكُّنه من الأداة الشعرية، ويمتدحون شعره وينوهون إلى كثرته، فيقول عنه "أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي"، المتوفى سنة (488 هـ = 1095 م)، و"أحمد بن يحيى بن أحمد الضبي"، المتوفى سنة (599 هـ = 1203م): إنه كان شاعرًا كثير الشعر. غير أن الثعالبي يقول: إن الشعر كان أقل أدواته.

ومن شعره في أبيات إلى "أبي مسلم بن فهد":

وليس ثياب المرء تغني قلامة
إذا كان مقصورًا على قصر النفس

وليس يقيد العلم والحلم والحجا
- أبا مسلم - القعـود على الكرسـي


ومن شعره في الزهد:

لو لم تكن نار ولا جنة
للمـرء إلا أنـه يُقبَـرُ

لكان فيه واعظ زاجر
ناهٍ لمن يسمع أو يبصر


ومن شعره في الاغتراب في سبيل المال:

الفقر في أوطاننا غربة
والمال في الغربة أوطان

والأرض شيء كلها واحد
والناس جيران وإخوان


وله أشعار أخرى في وصف "النيلوفر"، وفي النصح والإرشاد، وفي تكذيب المنجمين، كما أن له عددًا من المنظومات اللغوية والمقطوعات المتضمنة غريب اللغة والأحاجي اللغوية والمساجلات النحوية.

مكانته العلمية واللغوية وثناء العلماء عليه

يُجمِع الذين ترجموا للزبيدي على فضله وريادته ومكانته العلمية الرفيعة.

يقول عنه "أبو منصور الثعالبي" صاحب يتيمة الدهر: "كان أحفظ أهل زمانه للإعراب والفقه واللغة والمعاني والنوادر".

ويقول عنه "الحميدي" صاحب "جذوة المقتبس": إنه "من الأئمة في اللغة والعربية".

ويقول "ابن الفرضي" صاحب "تاريخ علماء الأندلس": "كان واحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة".

ويضيف "ابن خلكان" صاحب "وفيات الأعيان": "وكان أخبر أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر، إلى علم بالسير والأخبار، ولم يكن بالأندلس في فنه مثله في زمانه".

ويقول عنه "الفتح بن خاقان" صاحب "مطمع الأنفس": "إمام اللغة والإعراب، كعبة الآداب.. نجم الأندلس في إقبالها".

أهم مؤلفات الزبيدي

وللزبيدي عدد غير كبير من المؤلفات لا يتجاوز السبعة، منها مؤلفان مطبوعان، وثلاثة مخطوطة، واثنان مفقودان، أما المطبوعان فهما:

"طبقات النحويين واللغويين": وقد حققه "محمد أبو الفضل إبراهيم" لأول مرة سنة (1373 هـ = 1954م)، ثم أعاد تحقيقه مرة أخرى في سنة (1392 هـ = 1973)، بعد ظهور مخطوطات أخرى لم يكن اطلع عليها. وهو كتاب في تراجم النحويين واللغويين، ألفه الزبيدي بناء على تكليف من الخليفة "المستنصر بالله" على نحو ما ذكر في مقدمة الكتاب.

"لحن العامة": وقد حققه د. عبد العزيز مطر كجزء من رسالته لنيل درجة الدكتوراه من كلية دار العلوم سنة (1384 هـ = 1964م).

ويذكر الزبيدي في مقدمة الكتاب أن الذي دعاه إلى تأليف هذا الكتاب هو الخليفة المستنصر بالله أيضا.


منقول

عبدالغفور الخطيب
28-06-2006, 03:02 AM
قيام الدولة الخلجية في الهند

(في ذكرى قيامها: 2 جمادى الآخرة 689هـ)

قامت "الدولة الغورية" (543 ـ 613 هـ = 1148ـ1215م) على أنقاض "الدولة الغزنوية" التي حكمت الهند أكثر من قرنين من الزمان، وتوغلت في شبه القارة الهندية، ونشرت الإسلام بين ربوعها، واستعان السلطات "محمد الغوري" في توطيد دعائم حكمه بالمماليك، الذين كان يشتريهم ويخصهم بعنايته، ويعدهم للغزو والجهاد، ويرقي منهم من كانت تؤهله ملكاته ومواهبه للقيادة والحكم.

ولم تطل الحياة بالسلطان الغوري، فقد توفي سنة (603 هـ=1206م)، وخلفه مملوكه "قطب الدين أيبك" الذي كان يحكم ولاية "دلهي"، وكان قائدًا ماهرًا وحاكمًا عادلاً؛ يتمسك بالإسلام، ويكره الظلم، ولم تطُل به الحياة –أيضًا-، فلقي حتفه إثر وقوعه من فوق ظَهْر فرسه سنة (608هـ = 1210م)، وخلفه ابنه "آرام شاه"، ولم يكن مؤهلا للحكم وإدارة شؤون البلاد؛ فخلفه "شمس الدين التمش" أحد مماليك أبيه البارزين سنة (614هـ = 1216م)، وتولى أمر الدولة، وكان رجلا موهوبا صاحب كفاءة عالية في الإدارة والتنظيم، ويُعد المؤسس الحقيقي لدولة المماليك في الهند، واستمرت فترة ولايته حتى سنة (634هـ = 1236م)، وخلفه أبناؤه، وكان من بينهم ابنته "رضية الدين".

ولم يكن من أبناء "التمش" من كان في كفاءته وقدرته، فبرز "غياث الدين بلبن" أحد قادته، فتولى الوزارة لناصر الدين محمود بن التمش، ونجح في إقامة الأمن، وقمع الفتن والاضطرابات، واستطاع أن يرد هجمة التتار الشرسة بقيادة "مانكوخان" على الهند سنة (643هـ = 1245م). وحين كرروا المحاولة ردهم خائبين مرة أخرى سنة (655هـ = 1257م).

ولما قويت قبضة "غياث الدين" على البلاد، وازداد نفوذه استأثر بالحكم، وحل محل بيت "التمش" في إدارة شؤون الحكم، وحكم أبناؤه معه ولايات الهند، لكنهم بعد وفاته سنة (685هـ = 1278م) لم يستطيعوا الاحتفاظ بدولتهم، فسقط حكهم بعد أربع سنوات من حكم عميد الأسرة "غياث الدين بلبن" حيث تمكن الخلجيون من القضاء عليهم.

من هم الخلجيون؟

الخلجيون أصلهم من الترك الأفغانيين، وكانوا أسرة محاربة، ظهر أمرها من أيام الغزنويين، ويرى بعض المؤرخين أنهم ينتسبون إلى "قليج خان" أحد أصهار "جنكيز خان" نزل بجبال "الغور" بعد هزيمة "خوارزم شاه"، وحرف اسمه بعد ذلك إلى "خلج"، وعرف ورثته بـ "الخلجيون"، واندمجوا في الحياة في "أفغانستان"، واعتنقوا الإسلام في عهد سلاطين الدولة الغزنوية، وضم الجيش الغزنوي فرقًا منهم أسهمت في فتح الهند.

وظهر أمرهم منذ أيام الدولة الغورية، وازداد نفوذهم في عهد المماليك، وتولوا حكم إقليم "البنغال"، ونهضوا بالوظائف الكبرى في الدولة.

قيام دولتهم

بعد وفاة "غياث الدين بلبن" تولى حفيدة "كيقباد" الحكم، وكان شابًا لاهيًا منصرفًا عن إدارة الدولة، وهو ما أطمع الخلجيين في الإطاحة بنظام الحكم في "دلهي"، فجمعوا أمرهم تحت قيادة زعيمهم "فيروز"، ودخلوا "دلهي"، وأسقطوا حكم بيت "غياث الدين بلبن"، وأعلن فيروز نفسه سلطانًا، ولقب نفسه بـ "جلال الدين"، وذلك في الثاني من جمادى الآخرة 689هـ = 13 من يونيو1290م).

جلال الدين فيروز شاه

استطاع السلطان جلال الدين أن يجذب القلوب التي كانت نافرة منه بعد اجتياح قواته مدينة "دلهي" وقتلها "كيقباد"، وقد كان شيخًا كبيرًا في السبعين من عمره، يميل إلى الحلم والسماحة؛ فنجح في أن يتألف القلوب من حوله، وبلغ من سماحته أنه عفا عن بعض الثائرين عليه، وفكَّ أغلالهم، وأجلسهم بمجلسه، وقال لهم: كنتم زملائي، وقد جعلني الله ملكًا؛ فأنا أشكر الله على نعمته، ولا أنسى الماضي، وأنتم بوفائكم لأميركم من "آل بلبن" قد قمتم بواجبكم، ولا يمكن أن أحاسبكم على هذا الوفاء.

وقد نجح السلطان "جلال الدين" في رد غارات المغول حين عاودوا هجومهم على الهند، وأسر منهم ألوفًا، وأنزلهم بضواحي "دلهي"، ثم خرج في سنة (694هـ = 1214م) لفتح "الدكن"، وتمكن من التغلب على إمارة "ديوكر" الهندية، ودخل الدكن؛ فكان أول من دخلها من سلاطين المسلمين.

وكان من إفراط السلطان في حسن الظن بمن حوله أن استطاع ابن أخيه علاء الدين محمد أن يستدرجه إلى مقامه في "كره"؛ بدعوى مشاهدة بعض الغنائم الثمينة التي أتى بها من "الدكن"، ودبر له مَن قتله قبل أن يلتقيا في (4 من رمضان 694 هـ = 18 من يوليو 1295م).

علاء الدين الخلجي

بعد أن غدر "علاء الدين" بعمه زحف بجيشه إلى "دلهي"، حين جمعت زوجة جلال الدين أنصار زوجها، ونادت بابنها "ركن الدين إبراهيم" سلطانًا خلفًا لأبيه، لكن علاء الدين هاجم دلهي، وأجبر ركن الدين على الفرار إلى "الملتان"، ونصَّب نفسه على عرش الهند في دلهي سنة (695 هـ = 1295م).

ولما استقرت الأمور لعلاء الدين بدأ يتجه لشؤون الدولة الحربية، ويعنى بالنواحي الاجتماعية، وكان سلطانًا قويًا طموحًا، نجح في دفع الخطر المغولي عن بلاده، وقاد جنده في فتوحات متصلة، حتى أظلت راية الإسلام شبه القارة الهندية كلها لأول مرة في التاريخ.

ولكي يدفع هجمات المغول أقام سلسلة من الحصون على حدوده الغربية، وزودها بالجند والسلاح، ولكن ذلك لم يحُلْ دون هجمات المغول على الهند، فتوالت حملاتهم على الرغم مما كان يتكبدونه من خسائر على أيدي علاء الدين وقادته، مثلما حدث في سنة (698هـ = 1298م) حين سار سلطان المغول "قتلق خواجه" على رأس قوات كثيفة، فتصدى لها علاء الدين وقائداه "ظفرخان" و"ألج خان"، وأنزلوا بالمغول هزيمة قاصمة، لكنها لم تمنعهم من موالاة الهجوم مرات أخرى حتى تمكن القائد "غازي ملك تغلق" من القضاء على خطرهم تمامًا.

وفي الوقت الذي كان فيه "علاء الدين" مشغولا بالقضاء على هجمات المغول كان يعد الجيوش لاستكمال فتح الهند، فأرسل في سنة (699هـ = 1299م) قائديْه "ألنخان" "ونصرت خان" لفتح حصن "رنتنبهور" أعظم حصون إقليم "الراجبوتانا"، فنجحا في مهمتهما بعد حروب دامية، ودخل الإقليم في طاعة "علاء الدين الخلجي"، ثم فتح إمارة "موار"، وكانت أمنع إمارات "الراجبوتانا" بقلعتها الحصينة القائمة على قمة جبل منحوتة في الصخر، ثم استولى على "ملوة" و"أوجين" و" دهري نجري"، ولم يكد يأتي عام (706 هـ = 1306) حتى كان "علاء الدين الخلجي" قد فتح "الهنستان" كلها من "البنغال" إلى "البنجاب".

وواصل علاء الدين فتوحاته؛ فأرسل قائده الحبشي "كافور"، فاخترق أقاليم "ملوة" و"الكجرات"، ثم أردف ذلك بجيش آخر يقوده "أدلوغ خان"، واستولى الجيشان على "ديوكر، وتوالت انتصارات علاء الدين بفضل كافور القائد المظفر، فقاد حملة هائلة في سنة (710 هـ = 1310م) تمكنت من فتح الجنوب الهندي كله.

وقد اغتر علاء الدين بهذه الانتصارات التي تحققت على يديه حتى لُقِّب بالإسكندر الثاني، وأسكرته الغنائم والكنوز التي غنمها في حروبه، وتراءى له أن يفتح العالم بجنده، كما فعل الإسكندر، وسرَحَ به الخيال إلى أبعد من ذلك، فصرح أن قادته هم بمنزلة الخلفاء الراشدين، ولكن عمه القاضي علاء الملك أيقظه من أحلامه الضالة، وذكَّره بأن النبوة قد انتهى زمانها، ورده إلى جادة الصواب، فعاد إليه عقله، وانتبه من غفلته.

الإصلاح الداخلي

وقد وجدت نصيحة القاضي صداها عند علاء الدين؛ فعدل عن رأيه إلى الاهتمام بشؤون دولته والعمل على نهضتها، ووضع النظم الإدارية والمالية التي تصلح من شأن مملكته، وقُدِّر لها أن تلقى قدرًا كبيرا من النجاح؛ فعم البلاد الرخاء، ونَعِمَ الناس بالأمن، وكان لرقابته على الأسواق وشدته في معاقبة التجار المدلسين ومنعه من الاحتكار أثرها في رواج التجارة، ورخص الأسعار، وبلغ من شدته أنه كان يأمر بالمطفِّف من التجار فتُقطَع من لحمه حيًا قطع يستكمل بها الميزان عظة لغيره من التجار.

وكان يفتح خزائن دولته العامرة، ويعطي منها التجار والمزارعين حين تشتد الحالة الاقتصادية أو يفسد الزرع حتى لا يتأثر الناس بقلة المعروض من البضائع كما وعُني بأمر الزراعة، وأسبغ رعايته على العلماء، وقد تحدث "ابن بطوطة" في رحلته عما شاهده من الرخاء الذي ينعم به المسلمون تحت حكم علاء الدين.

نهاية الدولة الخلجية

على أن السلطان علاء الدين حين تقدمت به السن أوكل تصريف شؤون دولته إلى "كافور" قائده المعروف، وانقاد له في كثير من الآراء، حتى إذا توفي سنة (715هـ = 1315م) كان كافور قد استبد بالأمر، وأمسك بزمام الدولة بعد أن أجلس على السلطنة طفلا صغيرًا من أبناء علاء الدين، وقد أدى ذلك إلى اشتعال الفتنة في البلاد، وانتهى الأمر بقتله على يد بعض الأمراء المنافسين له، وأقاموا مكانه سلطانا جديدًا يسمى "مبارك شاه الخلجي" سنة (716 هـ = 1316م).

وبدأ السلطان الجديد عهده بسيرة حسنة؛ فرفع كثيرًا من الضرائب من على كاهل الناس، ورد الأرض المغتصبة إلى أصحابها، وأطق سراح المعتقلين، لكن هذه السياسة لم تستمر كثيرًا، وارتد السلطان عنها دون مبرر واضح، وانغمس في الملذات، وانصرف عن متابعة شؤون الدولة؛ فساءت أحوال الدولة، وعادت سيرتها الأولى، وانتهز هذه الحالة المتردية قائده "خسرو" فتخلص منه بالقتل، وكان هندوكيا يُظهِر الإسلام ويُبطن له العداوة، فعاث في الأرض، وأطلق لأتباعه العنان؛ يفسدون، وينشرون ديانتهم الهندوكية، ويطمحون في القضاء على الإسلام، وبلغ من فسادهم أنهم كانوا يقتحمون المساجد، ويقيمون فيها أوثانهم، ويجعلون من المصاحف قواعد لها، وكاد الأمر يخرج من أيدي المسلمين، ولولا أن سارع "غازي ملك تغلق" قائد الخلجيين بالبنجاب، فقضى على هذه الفتنة العارمة سنة (720هـ = 1320م) لتعرض الإسلام في الهند إلى مخاطر لا يعلم مداها إلا الله، وبقضائه على الفتنة بدأ عصر جديد عُرف في التاريخ الإسلامي بعصر "بني تغلق"، وامتد في الهند نحو قرن من الزمان.


منقول

عبدالغفور الخطيب
30-06-2006, 03:23 AM
ابن سعد وطبقاته الكبرى

(في ذكرى وفاته: 4 من جمادى الآخرة 230هـ)

نشأ التدوين التاريخي الإسلامي مستقلاً تمامًا عن تواريخ الأمم الأخرى، فلم يتأثر بها أو يتابعها فيما يتصل بالموضوع والاهتمام والمنهج، وجاء التقويم الهجري معبّرًا عن التميز والاستقلال، وقد أعطى روحًا جديدة وشعورًا بالقيمة والأصالة، وكان سببًا رئيسيًا في تنظيم تاريخ الإسلام وفصله الواضح عن التواريخ الأخرى.

ونشأ علم التاريخ الإسلامي وتطور ضمن حركة النهضة الثقافية وعملية الاشتغال بالتدوين في القرنين الثاني والثالث الهجريين، فلم تكن نشأته منعزلة عن العلوم الأخرى، أو منفصلةً عنها، وارتبط في نشأته بعلم الحديث والسيرة النبوية، ونما في أحضانهما، كما ارتبط من ناحية أخرى بعلوم اللغة والأنساب والأدب واستفاد منها.

وهدف علم التاريخ عند المسلمين في بداياته إلى دراسة سيرة النبي (صلى الله عله وسلم) ومغازيه، وتناول حياة الصحابة وأعمالهم؛ باعتبارهم حملة العلم ورواة حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) وجاءت الكتابات الأولى في هذا الاتجاه، مثل: سيرة ابن إسحاق، والمغازي للواقدي، والطبقات الكبرى لابن سعد.

المولد والنشأة

في البصرة كان مولد "أبي عبد الله محمد بن سعد بن منيع" سنة (168هـ = 784م)، ولم يُعلَم شيء عن حياته الأولى، غير أنه ابن لمولى من المدينة يلتحق ولاءً بآل العباس، ثم انتقل إلى المدينة وعاش فيها حقبة من الزمن، ولقي شيوخها وتتلمذ على بعضهم. وتذكر بعض الأخبار أنه كان في المدينة سنة (189هـ = 805م)، أي أنه كان في سن الشباب وطلَبِ العلم، ثم نزل بغداد واتصل بالواقدي ولازمه.

شيوخه

وفي أثناء حِلّه وترحاله كان همه الشاغل هو لقاء الشيوخ وكتابة الحديث وجمع الكتب. وتُبيّن سلسلة رواته الذين اعتمد عليهم في طبقاته الكبرى اتصاله بعلماء البصرة والكوفة والمدينة وبغداد، ومن نزل هذه الأمصار من علماء البلاد الأخرى.

وكان بين شيوخه أهل الحديث والأخبار والسير والفقه والأنساب والنحو، مثل: "أبي زيد الأنصاري البصري النحوي"، و"محمد بن سعدان الضرير" وهو من كبار أهل الإقراء، و"سفيان بن عيينه"، و"أبو الوليد الطيالسي"، و"وكيع بن جراح"، و"سليمان بن حرب"، وهم من كبار المحدثين وممن لا يُشَك في عدالتهم ورسوخهم في علم الحديث.

ولم يكتف بالأخذ عن الشيوخ سماعًا، بل كان يستعين بما في الكتب والصحف، ويصرح هو بذلك بقوله: "نظرت في كتاب... و..."، وكانت مؤلفات هشام بن محمد الكلبي وموسى بن عقبة وابن إسحاق وعبد الله بن عمارة الأنصاري، مما اعتمد عليها واستخدمها في كتابه الطبقات الكبرى. لكل هذا لم يكن غريبًا أن يوصف "ابن سعد" بأنه كثير العلم، كثير الحديث والرواية، كثير الكتب.

اتصاله بالواقدي

اتصل ابن سعد بالواقدي محمد بن عمر، المتوفّى سنة (207هـ = 823م)، وكان قد انتهى إليه علم المغازي والسير، ونال شهرة واسعة في عصره، وقد لازمه ابن سعد والتصق به، حتى لقب بـ "كاتب الواقدي"، واجتمعت عنده كتبه، وهو ما جعل "أحمد بن حنبل" يبعث بأحد تلامذته كل جمعة إلى ابن سعد يأخذ شيئًا من كتب الواقدي، ويردها الجمعة الأخرى ويأخذ غيرها.

ولم تقتصر ثقافة ابن سعد على الحديث والأخبار والسير، بل كان له اهتمام بالفقه والغريب، واللغة وعلم القراءات، والتبحر في علم الإنساب؛ حتى إن هشام الكلبي، وهو من الرواة الذين أخذ عنهم ابن سعد الأنساب وكان عَلَمًا فيه– أخذ عن ابن سعد، وهو ما يدل على تمكنه من علم الأنساب واطلاعه الواسع عليه.

طبقات ابن سعد

لم يصل إلينا من مؤلفات ابن سعد سوى طبقاته، وتتضح فيه ثقافته الواسعة وعلمه الغزير، وقصد به خدمة السُنّة النبوية، فتحدث في مؤلفه ذلك عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة والتابعين إلى عصره.

والكتاب قسمان:

القسم الأول: يتناول أخبار النبي (صلى الله عليه وسلم)، واستعرض فيه حياة الرسول من صغره حتى بعثته، مع العناية بعلامات النبوة قبل الوحي وبعده، وذكر فترة الدعوة المكية والفترة المدنية، وذكر الوفود، وطريقة حياة النبي وما يختص به، وغزواته، ثم ينهِي هذا القسم بالحديث عن مرض النبي (صلى الله عليه وسلم) ووفاته ودفنه وميراثه وما رثي به من أشعار، وراعى في عرض مادة هذا القسم الترتيب الزمني، مع العناية بالترتيب الموضوعي فيما يتصل بعلامات النبوة وسفارات النبي (صلى الله عليه وسلم) وأخلاقه، وهذا الجزء كان الأساس الذي نشأ عليه ما يُسمى بشمائل النبي ودلائل النبوة، وهي موضوعات أفردها بعد ذلك كبار المحدثين والحفاظ بكتب مستقلة، مثل: شمائل النبي للترمذي، ودلائل النبوة لأبي نعيم، ودلائل النبوة للبيهقي.

واعتمد ابن سعد في مادته على "الواقدي" و"ابن إسحاق" و"موسى بن عقبة" وغيرهم؛ ولذا يعد هو آخر جامعي السيرة النبوية من المتصلين بالمصادر الأولى، وثاني مؤلف- بعد ابن إسحاق- يصلنا كتابه عن السيرة والطبقات كاملاً.

القسم الثاني: يشمل معظم الكتاب، ويضم تراجم للصحابة والتابعين، وقد انتهج ابن سعد في تخطيط هذا القسم ثلاثة أسس:

* الأساس الأول: نوعيّ؛ حيث قسم تراجمه إلى تراجم للرجال وتراجم للنساء، وجعلها في آخر الكتاب.

* الأساس الثاني: زمنيّ؛ حيث بدأ في تراجم الرجال بالالتزام بحسب الأقدمية والسبق في الإسلام، فبدأ بمن شهد بدرًا، ثم من له إسلام قديم ولم يشهد بدرًا، ثم من أسلم قبل فتح مكة.

وداخل هذا التقسيم راعى اعتبارات أخرى، فقدم المهاجرين على الأنصار، وقدم في المهاجرين من هو أقرب دمًا وصلة برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وفي الأنصار قدم الأوس على الخزرج.

* الأساس الثالث: مكانيّ، فبعد أن فرّغ مادته في طبقات الصحابة القائمة على الأساس الزماني، انتهج أساسًا مكانيًا؛ حيث وضع تراجم وفق المكان والبلد، فترجم لرجال المدينة، فمكة، فالطائف، ثم اليمن، واليمامة، والبحرين، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، وخراسان، والري، وهمدان، وقم، والأنبار، والشام، والجزيرة، ثم العواصم والثغور، فمصر، فإيلة، فإفريقية، فالأندلس.

ثم رتب تراجمه في كل مكان من هذه الأماكن ترتيبًا زمنيًا، فبدأ بالصحابة الذين نزلوا البلد والمصر، إن كان منهم من نزله، ثم الطبقة الأولى من التابعين الذين عاشوا مع الصحابي الذي نزل المدينة أو البلد، ثم الطبقة الثانية، ثم التي تليها...

غير أن هذا التقسيم أوقع ابن سعد في التكرار، فقد يكون مترجما لأحد الأشخاص في أكثر من موضع، كأن يكون من أهل بدر وهاجر إلى مِصْرٍ من الأمصار، فتتكرر ترجمته مرتين، ومع هذا فإن ابن سعد تلافى وضوح هذا الأمر بأن أطال الترجمة في موطن واحد وأوجز في المواطن الأخرى.

أهمية الكتاب

يعد الكتاب من أول ما أُلّف في هذا الموضوع، وكان أحد النماذج الأولى في موضوع التراجم التي تطورت منهجيته بعد ذلك، وتفرع فروعًا عديدة، فأصبح هناك قسم خاص لتراجم الصحابة، وآخر لرواة الحديث وضعت فيه مؤلفات مستقلة، مثلما فعل البخاري في كتابه "التاريخ الكبير"، وانفرد كل علم بالترجمة لرجاله؛ فهناك طبقات للفقهاء والمحدثين والشعراء واللغويين، كما تطورت منهجية التقسيم حتى صار الاعتماد على الترتيب الألفبائي هو الغالب في الترتيب.

وقد اعتمد على هذا الكتاب مَنْ تعرّض لتراجم الصحابة والتابعين؛ فكان مصدرًا مهمًا لابن عساكر في كتابه "تاريخ دمشق"، والذهبي في "سير أعلام النبلاء"، وتاريخ الإسلام وابن حجر في كتابيه: "الإصابة"، و"تهذيب التهذيب".

وقد بدأ في نشر الكتاب جماعة من العلماء الألمان منذ سنة (1321هـ = 1903م) بإشراف "شماو" في "برلين"، ثم تعددت طبعاته بعد ذلك.

تلاميذ ابن سعد

لم تحفظ لنا كتب التاريخ من أسماء تلاميذ ابن سعد إلا عددا قليلا، على الرغم من مكانته، وشهود المعاصرين له بالسبق والتقدم. وتلاميذه هم: الحارث بن أبي أسامة، والحسين بن فهم- وهما اللذان رويا الطبقات الكبرى، وحفظا لنا الطبقات على الصورة التي عليها الآن- وأبو بكر بن أبي الدنيا، والبلاذري المؤرخ المعروف، وأحمد بن عبيد.

وتوفي ابن سعد في بغداد في (4 من جمادى الآخرة 230هـ = 17 من يناير 892م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
05-07-2006, 02:20 AM
القاضي عياض.. حافظ المغرب

(في ذكرى وفاته: 9 من جمادى الآخرة 544هـ)

"مقام عياض مثل مقام البخاري والأئمة الأربعة؛ فهم حملة الشريعة وعلومها التي يبثُّونها في صدور الرجال بالتلقين والتأليف، ذَبُّوا عن الشريعة بسيوف علومهم؛ فبقيت علومهم خالدة تالدة إلى الأبد، وكم من ولي لله كان معهم وبعدهم بكثير، كان لهم تلاميذ وأوراد، وانقطعت تلك الأوراد وباد المريدون بمرور الأزمان، وأئمة العلم ما زالوا بعلومهم كأنهم أحياء.." هذا الكلام النفيس من بيان أبي عبد الله محمد الأمين في كتابه "المجد الطارف والتالد"، يصف مكانة القاضي عياض العلمية، وقدره الرفيع بين علماء الإسلام، وليس في كلام الشيخ مبالغة أو تزويد؛ فقد حقق القاضي عياض شهرة واسعة حتى قيل: لولا عياض لما عُرف المغرب، وكأنهم يعنون –في جملة ما يعنون- أنه أول من لفت نظر علماء المشرق إلى علماء المغرب حتى أواسط القرن السادس الهجري.

المولد والنشأة

يعود نسب القاضي "عياض بن موسى اليحصبي" إلى إحدى قبائل اليمن العربية القحطانية، وكان أسلافه قد نزلوا مدينة "بسطة" الأندلسية من نواحي "غرناطة" واستقروا بها، ثم انتقلوا إلى مدينة "فاس" المغربية، ثم غادرها جده "عمرون" إلى مدينة "سبتة" حوالي سنة (373 هـ = 893م)، واشتهرت أسرته بـ"سبتة"؛ لما عُرف عنها من تقوى وصلاح، وشهدت هذه المدينة مولد عياض في (15 من شعبان 476هـ = 28 من ديسمبر 1083م)، ونشأ بها وتعلم، وتتلمذ على شيوخها.

الرحلة في طلب العلم

رحل عياض إلى الأندلس سنة (507هـ = 1113م) طلبًا لسماع الحديث وتحقيق الروايات، وطاف بحواضر الأندلس التي كانت تفخر بشيوخها وأعلامها في الفقه والحديث؛ فنزل قرطبة أول ما نزل، وأخذ عن شيوخها المعروفين كـ"ابن عتاب"، و"ابن الحاج"، و"ابن رشد"، و"أبي الحسين بن سراج" وغيرهم، ثم رحل إلى "مرسية" سنة (508هـ = 1114م)، والتقى بأبي علي الحسين بن محمد الصدفي، وكان حافظًا متقنًا حجة في عصره، فلازمه، وسمع عليه الصحيحين البخاري ومسلم، وأجازه بجميع مروياته.

اكتفى عياض بما حصله في رحلته إلى الأندلس، ولم يلبث أن رحل إلى المشرق مثلما يفعل غيره من طلاب العلم، وفي هذا إشارة إلى ازدهار الحركة العلمية في الأندلس وظهور عدد كبير من علمائها في ميادين الثقافة العربية والإسلامية، يناظرون في سعة علمهم ونبوغهم علماء المشرق المعروفين.

عاد عياض إلى "سبتة" غزير العلم، جامعًا معارف واسعة؛ فاتجهت إليه الأنظار، والتفَّ حوله طلاب العلم وطلاب الفتوى، وكانت عودته في (7 من جمادى الآخرة 508هـ = 9 من أكتوبر 1114م)، وجلس للتدريس وهو في الثانية والثلاثين من عمره، ثم تقلد منصب القضاء في "سبتة" سنة (515 هـ = 1121م) وظل في منصبه ستة عشر عامًا، كان موضع تقدير الناس وإجلالهم له، ثم تولى قضاء "غرناطة" سنة (531هـ = 1136م) وأقام بها مدة، ثم عاد إلى "سبتة" مرة أخرى ليتولى قضاءها سنة (539هـ = 1144م).

القاضي عياض محدثًا

كانت حياة القاضي عياض موزعة بين القضاء والإقراء والتأليف، غير أن الذي أذاع شهرته، وخلَّد ذكره هو مصنفاته التي بوَّأَتْه مكانة رفيعة بين كبار الأئمة في تاريخ الإسلام، وحسبك مؤلفاته التي تشهد على سعة العلم وإتقان الحفظ، وجودة الفكر، والتبحر في فنون مختلفة من العلم.

وكان القاضي عياض في علم الحديث الفذَّ في الحفظ والرواية والدراية، العارف بطرقه، الحافظ لرجاله، البصير بحالهم؛ ولكي ينال هذه المكانة المرموقة كان سعيه الحثيث في سماع الحديث من رجاله المعروفين والرحلة في طلبه، حتى تحقق له من علو الإسناد والضبط والإتقان ما لم يتحقق إلا للجهابذة من المحدِّثين، وكان منهج عياض في الرواية يقوم على التحقيق والتدقيق وتوثيق المتن، وهو يعد النقل والرواية الأصل في إثبات صحة الحديث، وتشدد في قضية النقد لمتن الحديث ولفظه، وتأويل لفظه أو روايته بالمعنى، وما يجره ذلك من أبواب الخلاف.

وطالب المحدث أن ينقل الحديث مثلما سمعه ورواه، وأنه إذا انتقد ما سمعه فإنه يجب عليه إيراد ما سمعه مع التنبيه على ما فيه؛ أي أنه يروي الحديث كما سمعه مع بيان ما يَعِنُّ له من تصويب فيه، دون قطع برأي يؤدي إلى الجرأة على الحديث، ويفتح بابًا للتهجم قد يحمل صاحبه على التعبير والتصرف في الحديث بالرأي.

وألَّف القاضي في شرح الحديث ثلاثة كتب هي: "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" وهو من أدَلِّ الكتب على سعة ثقافة عياض في علم الحديث وقدرته على الضبط والفهم، والتنبيه على مواطن الخطأ والوهم والزلل والتصحيف، وقد ضبط عياض في هذا الكتاب ما التبس أو أشكل من ألفاظ الحديث الذي ورد في الصحيحين وموطأ مالك، وشرح ما غمض في الكتب الثلاثة من ألفاظ، وحرَّر ما وقع فيه الاختلاف، أو تصرف فيه الرواة بالخطأ والتوهم في السند والمتن، ثم رتَّب هذه الكلمات التي عرض لها على ترتيب حروف المعجم.

أما الكتابان الآخران فهما "إكمال المعلم" شرح فيه صحيح مسلم، و"بغية الرائد لما في حديث أم زرع من الفوائد".

وله في علم الحديث كتاب عظيم هو " الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع"

... فقيهًا

درس القاضي عياض على شيوخه بـ"سبتة" المدونة لابن سحنون، وهو مؤلَّف يدور عليه الفقه المالكي، ويُعَدُّ مرجعَهُ الأول بلا منازع، وقد كُتبت عليه الشروح والمختصرات والحواشي، غير أن المدونة لم تكن حسنة التبويب؛ حيث تتداخل فيها المسائل المختلفة في الباب الواحد، وتعاني من عدم إحكام وضع الآثار مع المسائل الفقهية.

وقد لاحظ القاضي عياض هذا عند دراسته "المدونة" على أكثر من شيخ؛ فنهض إلى عمل عظيم، فحرَّر رواياتها، وسمى رواتها، وشرح غامضها، وضبط ألفاظها، وذلك في كتابه "التنبيهات المستنبَطة على الكتب المدونة والمختلطة" ولا شكَّ أن قيام القاضي عياض بمثل هذا العمل يُعد خطوة مهمة في سبيل ضبط المذهب المالكي وازدهاره.

القاضي عياض مؤرخًا

ودخل القاضي ميدان التاريخ من باب الفقه والحديث، فألَّف كتابه المعروف " تدريب المدارك"، وهو يُعَدُّ أكبر موسوعة تتناول ترجمة رجال المذهب المالكي ورواة "الموطأ" وعلمائه، وقد استهلَّ الكتاب ببيان فضل علم أهل المدينة، ودافع عن نظرية المالكية في الأخذ بعمل أهل المدينة، باعتباره عندهم من أصول التشريع، وحاول ترجيح مذهبه على سائر المذاهب، ثم شرع في الترجمة للإمام مالك وأصحابه وتلاميذه، وهو يعتمد في كتابه على نظام الطبقات دون اعتبار للترتيب الألفبائي؛ حيث أورد بعد ترجمة الإمام مالك ترجمة أصحابه، ثم أتباعهم طبقة طبقة حتى وصل إلى شيوخه الذين عاصرهم وتلقى على أيديهم.

والتزم في طبقاته التوزيع الجغرافي لمن يترجم لهم، وخصص لكل بلد عنوانًا يدرج تحته علماءه من المالكية؛ فخصص للمدينة ومصر والشام والعراق عناوين خاصة بها، وإن كان ملتزما بنظام الطبقات.

وأفرد لعلمائه وشيوخه الذين التقى بهم في رحلته كتابه المعروف باسم "الغُنية"، ترجم لهم فيه، وتناول حياتهم ومؤلفاتهم وما لهم من مكانة ومنزله وتأثير، كما أفرد مكانا لشيخه القاضي أبي على الحسين الصدفي في كتابه "المعجم" تعرض فيه لشيخه وأخباره وشيوخه، وكان "الصدفي" عالمًا عظيما اتسعت مروياته، وصار حلقة وصل بين سلاسل الإسناد لعلماء المشرق والمغرب؛ لكثرة ما قابل من العلماء، وروى عنهم، واستُجيز منهم.

... أديبًا

وكان القاضي أديبًا كبيرًا إلى جانب كونه محدثًا فقيهًا، له بيان قوي وأسلوب بليغ، يشف عن ثقافة لغوية متمكنة وبصر بالعربية وفنونها، ولم يكن ذلك غريبًا عليه؛ فقد كان حريصًا على دراسة كتب اللغة والأدب حرصه على تلقي الحديث والفقه، فقرأ أمهات كتب الأدب، ورواها بالإسناد عن شيوخه مثلما فعل مع كتب الحديث والآثار، فدرس "الكامل" للمبرد و"أدب الكاتب" لابن قتيبة، و"إصلاح المنطق" لابن السكيت، و"ديوان الحماسة"، و"الأمالي" لأبي علي القالي.

وكان لهذه الدراسة أثرها فيما كتب وأنشأ، وطبعت أسلوبه بجمال اللفظ، وإحكام العبارة، وقوة السبك، ودقة التعبير.

وللقاضي شعر دوَّنته الكتب التي ترجمت له، ويدور حول النسيب والتشوق إلى زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم)، والمعروف أن حياته العلمية وانشغاله بالقضاء صرفه عن أداء فريضة الحج، ومن شعره الذي يعبر عن شوقه ولوعته الوجدانية ولهفته إلى زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم):

بشراك بشراك فقد لاحت قبابهم

فانزل فقد نلت ما تهوى وتختار

هذا المحصب، هذا الخيف خيف منى

هذي منازلهم هذي هي الدار

هذا الذي وخذت شوقًا له الإبل

هذا الحبيب الذي ما منه لي بدل

هذا الذي ما رأتْ عين ولا سمعت

أذْنٌ بأكرمَ من كَفِّهِ إن سألوا

ولا يمكن لأحد أن يغفل كتابه العظيم "الشفا بأحوال المصطفى" الذي تناول فيه سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقصد من كتابه إحاطة الذات النبوية بكل ما يليق بها من العصمة والتفرد والتميز عن سائر البشر، في الوقت الذي كانت فيه آراء جانحة تخوض في مسألة النبوة، وتسوِّي بين العقل والوحي. ولما كان النص الشرعي مصدرًا أساسيًا للمعرفة وأصلا لا يحتمل النزاع فيه متى ثبت بالسند الصحيح، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) مصدر هذه المعرفة، فقد انبرى القاضي عياض ببيان مقام النبوة وصيانته من كل ما لا يليق به.

وفاته

عاش القاضي عياض الشطر الأكبر من حياته في ظل دولة "المرابطين"، التي كانت تدعم المذهب المالكي، وتكرم علماءه، وتوليهم مناصب القيادة والتوجيه، فلما حلَّ بها الضعف ودبَّ فيها الوهن ظهرت دولة "الموحدين"، وقامت على أنقاض المرابطين، وكانت دولة تقوم على أساس دعوة دينية، وتهدف إلى تحرير الفكر من جمود الفقهاء والعودة إلى القرآن والسنة بدلاً من الانشغال بالفروع الفقهية، وكان من الطبيعي أن يصطدم القاضي عياض -بتكوينه الثقافي ومذهبه الفقهي- مع الدولة القادمة، بل قاد أهل "سبتة" للثورة عليها، لكنها لم تفلح، واضطر القاضي أن يبايع زعيم "الموحدين" عبد المؤمن بن علي الكومي.

ولم تطُلْ به الحياة في عهد "الموحدين"، فتوفي في (9 من جمادى الآخرة 544 هـ = 14 من أكتوبر 1149م)


منقول

عبدالغفور الخطيب
07-07-2006, 02:50 AM
الهمذاني.. رائد القصة والمقالة

(في ذكرى وفاته: 11 من جمادى الآخرة 398هـ)

يعد "بديع الزمان الهمذاني" المبتكر الأول لفن المقامة الذي انتشر على نحو واسع كأحد فنون النثر في الأدب العربي، كما يعد الرائد الحقيقي للصحافة، ليس في الأدب العربي فحسب، وإنما كان الصحفي الأول على الإطلاق؛ فقد كانت رسائله ومقاماته النقدية الاجتماعية هي البدايات الحقيقية الأولى لذلك الفن الذي عُرف فيما بعد بالصحافة.

الميلاد والنشأة

ولد "بديع الزمان أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني" في همذان سنة [358 هـ= 969م]، لأسرة عربية ذات علم وفضل ومكانة مرموقة، فقد كان أخوه "الحسين بن يحيى" مفتي همذان.

ونشأ "بديع الزمان" في بيئة علمية خصبة، حيث كانت همذان موطن عدد كبير من العلماء الأعلام الذين تتلمذ عليهم "بديع الزمان"، ومنهم " أحمد بن فارس" اللغوي المعروف، و"أبو بكر محمد بن الحسين الفراء" اللغوي الشهير.

وعندما بلغ "بديع الزمان" الثانية والعشرين من عمره غادر همذان متوجهًا إلى أصبهان حيث اتصل بالصاحب بن عباد وزير "بني بويه".

كانت " أصبهان" -عاصمة "بني بوية"- مدينة جميلة حافلة بالمناظر الساحرة والبساتين البديعة، والقصور الفخمة والطبيعة الفاتنة، ولذلك فقد كانت تجذب إليها الأدباء والشعراء، وكان للصاحب بن عباد دور كبير في تشجيع الأدباء والعلماء وإثراء الحركة الأدبية والعلمية في أصفهان، حتى غدت تلك المدينة، إحدى منارات العلم في ذلك العصر، ومحط أنظار العلماء والأدباء، وكعبة طلاب العلم من كل مكان.

في أصفهان

وأقبل بديع الزمان على مجالس الأدباء والشعراء في أصفهان، وسرعان ما جذب إليه الأنظار ببراعته وقوة حافظته، حتى إنه كان يحفظ و"ينشد الشعر لم يسمعه قط -وهو أكثر من خمسين بيتًا- إلا مرة واحدة، فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها ولا يخرم حرفًا، وينظر في الأربعة أو الخمسة الأوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهذّها عن ظهر قلب هذا ويسردها سردًا".

وكان الهمذاني يميل إلى الإسجاع والإغراب والأحاجي، وكان بارعًا متفردًا في هذا الباب، يروى أنه "كان يُقترح عليه عمل قصيدة وإنشاء رسالة في معنى بديع وباب غريب فيفرغ منها في الوقت والساعة، وكان ربما كتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخره، ثم هلم جرًّا إلى أوله، ويخرجه كأحسن شيء وأملحه".

وعُرف بسرعة بديهته وحضور ذهنه وقدرته الفائقة على النظم والارتجال، لا يكاد يباديه أحد أو يجاريه إنسان، فكان "يُقترح عليه كل عويص وعسير من النظم والنثر فيرجله أسرع من الطرف على ريق لم يبلغه، ونفس لا يقطعه، وكلامه كله عفو الساعة وفيض اليد ومسارقة القلم، ومسابقة اليد للفم، وكان يترجم ما يُقترح عليه من الأبيات الفارسية المشتملة على المعاني الغربية بالأبيات العربية".

الرحيل إلى نيسابور

إلا أن بديع الزمان السُّنّي المتعصب للعرب لم يستطع الاندماج في مجتمع بني بويه وبلاط الصاحب بن عباد الشيعي الخالص، ولم يطل مقام بديع الزمان بأصبهان، فتركها إلى جرحان، حيث أقام في كنف "أبي سعيد محمد بن منصور"، واتصل بأميرها "شمس المعالي قابوس بن وشمكير" أمير الدولة الزبادية، وكان أديبًا بليغًا، وله معه مراسلات بديعية.

غير أن بديع الزمان لم يلبث أن غادر جرحان لخلاف بينه وبين أبي سعيد، فاتجه إلى نيسابور سنة [382هـ= 992م].

وكانت نيسابور أعظم مدن خراسان في ذلك الوقت، وكانت ملتقى العلماء وأعلام الفكر والأدب، وكان العلماء والأدباء كثيرًا ما يعرّجون عليها في رحلاتهم بين المشرق والعراق، فيقيمون فيها بعض الوقت.

وذاعت شهرة بديع الزمان في نيسابور بعد مناظرته الشهيرة مع العالم الأديب "أبي بكر محمد بن العباس الخوارزمي" وانتصاره عليه بشكل لفت الأنظار إلى قدراته الأدبية الفذة، فطار بذلك صيته وعلت شهرته.

واستطاع بديع الزمان خلال فترة إقامته بنيسابور إملاء عدد كبير من المقامات بلغت أربعمائة مقامة، وقد اتصل خلالها بعدد كبير من أدباء نيسابور وأعلامها مثل: الأديب أبي نصر سهل بن المرزبان، وأبي جعفر الميكالي أحد وجهاء آل ميكال المقدّمين، وقد مدحه بديع الزمان ونال عطاءه، كما كانت له صلة طيبة بواحد من أكبر وجهاء نيسابور وهو أبو الطيب سهل بن محمد الصعلوكي، وكانت له حظوة ومكانة كبيرة عنده.

وطاب المقام لبديع الزمان بنيسابور بعدما نال من الشهرة والحظوة، ورغب في الاستقرار بها، ولكن حساده ومنافسيه سعوا بالوشاية ضده والدسائس عليه حتى أوغروا عليه أبا جعفر الميكالي، والصعلوكي، فحُرِم مما كان ينعم به من الشهرة والجاه والعطاء.

في ربوع خراسان

ولم يمضي عام على قدومه إلى نيسابور حتى كان قد خرج منها في أوائل سنة [383هـ = 993م] إلى سرخس حيث اتصل بالسلطان محمود الغزنوي الذي قربه وأحسن إليه، وأغدق عليه من عطاياه، وهناك تعرف إلى عدد كبير من أعيان سرخس وعلمائها.

ولكنه لم يلبث أن شد عصا الترحال إلى بجستان، فلقي ترحيبًا كبيرًا من أميرها "خلف بن أحمد"، ووجد في كنفه عيشًا رغدًا وحياة ناعمة هانئة، ومكانة كريمة، ولكن دسائس الحساد ومكائد المنافسين سرعان ما أفسدت ما بينه وبين الأمير، فتغير عليه، وعندئذ رحل إلى بوشينج، وهناك توثقت صلته بالوزير أبي نصر الميكالي، وبعد أن استقر بها زمنًا، رحل إلى هراة.

الاستقرار في هراة

كان سرور الهمذاني كبيرًا بهذه البلدة، وبالرغم مما شهدته تلك المدينة من الاضطرابات ـ نتيجة الحروب الكثيرة التي تعرضت لها، وتغير الولاة عليها، والمحن المختلفة التي أصابتها من غلاء وفقر ومصادرات وأمراض ـ فإن الهمذاني فضل الاستقرار بها، وعاش فيها حتى توفي.

وكان بديع الزمان يرصد كل ما يحدث بها من ظواهر اجتماعية، وأحداث سياسية، ونكبات اقتصادية، ومعارك حربية، ويسجل كل ما يراه من الجوانب السلبية التي سادت نواحي الحياة المختلفة في عصره، حتى غدت رسائله مصدرًا مهمًّا من مصادر التاريخ الاجتماعي لهراة في العقد الأخير من القرن الرابع الهجري.

وفي هراة استطاع الهمذاني أن يصيب قدرًا كبيرًا من الثراء، وأن يحقق نجاحًا ملحوظًا في نشاطه التجاري، فتوسعت علاقاته التجارية حتى بلغت مدينة بلخ، وقد ساعده على ذلك على زواجه من ابنة أبي علي الحسين الخشنامي ـ أحد أعيان هراة ـ بالإضافة إلى رعاية الوزير أبي نصر الميكالي له، وتوطد علاقته بحاكم هراة "أبي عامر عدنان بن محمد الضبي" و"أبي العباس الفضل بن أحمد الإسفراييني" وزير السلطان "محمود الغزنوني".

من أقوال العلماء فيه

قال عنه الثعالبي: "هو بديع الزمان ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد، وفرد الدهر، وغرة العصور، ومن لم يُدرك قرينه في النثر وملحه، وغرر النظم ونكته، ولم يُر أن أحدًا بلغ مبلغة من الأدب وسرّه، وجاء بمثل إعجازه وسمره، فإنه كان صاحب عجائب وبدائع وغرائب".

ويصف الحاكم أبو سعيد عبد الرحمن بن دست ـ جامع رسائل الهمذاني ـ بقوله: "وكان أبو الفضل طلق البديهة، سمح القريحة، شديد العارضة، زلال الكلام عذبه، فصيح اللسان غضبه، إن دعا الكتابة أجابته عفوًا، وأعطته قيادتها صفوًا، أو القوافي أتته ملء الصدور على القوافي، ثم كانت له طرق في الفروع هو افترعها، وسننٌ في المعاني هو اخترعها".

رسائل بديع الزمان

على الرغم من الشهرة الواسعة التي حققها بديع الزمان كأديب ورائد من رواد فن المقامة في الأدب العربي، وشاعر متميز، فإنه لم يترك نتاجًا أدبيًا وشعريًا كبيرًا، حيث لم يقدم ـ طوال عمره ـ سوى ثلاثة مصنفات هي: الرسائل، والمقامات، والديوان، ولكنه بالرغم من قلة إنتاجه فقد ترك بصمات واضحة على الأدب العربي، وكان واحدًا من أبرز رواده، ومن المبدعين القلائل الذين ابتكروا ألوانًا من الأدب لم يسبقهم إليها غيرهم.

وقد برع الهمذاني في فن الرسائل، كغيره من كبار أدباء عصره في القرن الرابع الهجري، الذي كان من أزهى عصور النثر الفني والكتابة الأدبية في تاريخ الأدب العربي؛ فقد كان القرن الرابع هو العصر الذهبي لكتابة الرسائل، واتسمت الكتابة فيه بالإغراق في ألوان البديع، والولع بالزخارف اللفظية، حتى غدت الرسائل وكأنها نسيج رائع موشّى بالأسجاع، محلّى بالمحسنات البديعية ولآلئ البيان.

وقد انقسمت الرسائل تبعًا لأغراضها وأساليبها إلى نوعين:

الرسائل الديوانية: وهي التي تكتب في شئون الدولة، وتسجل الأحداث التاريخية أو الأوامر والتوجيهات الرسمية إلى الولاة والأمراء والقواد وكبار الموظفين في الدولة.

وكان من أشهر كتاب هذه الرسائل: أبو الفضل بن العميد، والصاحب بن عباد، والوزير المهلبي، والأمير قابوس بن وشمكير.

الرسائل الإخوانية: وهي التي يكتبها الأدباء عامة من غير العاملين في دواوين الدولة، وهي غير محددة بموضوعات معينة، وإنما يكتبها الأدباء في مناسبات خاصة أو مطارحات أدبية ومساجلات بلاغية فيما بينهم.

وكان من أشهر كتاب تلك الرسائل ـ بالإضافة إلى من سبق ـ: أبو حيان التوحيدي، وأبو بكر الخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني.

وقد ترك بديع الزمان تراثًا وافرًا من الرسائل التي عكست بوضوح انطباعاته النفسية العميقة، وحسه الفني المرهف، ومزاجه الأدبي الرفيع، وكشفت بجلاء عن خلجاته وأحاسيسه وكثير من جوانبه النفسية وحالاته الوجدانية من فرح وسرور، أو تشاؤم وحزن، أو شكوى ونقمة، وتظهر شجاعته واعتداده بنفسه، فهو لا يبالي في هجومه على من يتعرض لنقدهم، وإظهار الجوانب السلبية التي يراها في أعمالهم وسلوكهم .

وتناول الهمذاني في رسائله العديد من الأغراض: كالمدح والهجاء، والشكوى والعتاب، والتهنئة والاعتذار، والاستعطاف والاستجداء، والنصح والإرشاد، والصداقة والإخاء، والفخر والاعتزاز بالنفس.

كما حظيت الحياة العامة والجوانب الاجتماعية - وخاصة العيوب والسلبيات التي كانت منتشرة في زمانه- بنصيب وافر من رسائله، ولعله في ذلك يكون أول رائد لفن المقالة الصحفية في الأدب العربي، بل ربما كان أول صحفي على الإطلاق عند العرب وغير العرب، فليست رسائله التي تناول فيها المشاكل العامة نقدًا وبناءً إلا مقالات صحفية مبّكرة، وإذا كانت ميزات الصحافة الحديثة سرعة انتشار الصحيفة، فإن رسائل بديع الزمان شأنها في ذلك شأن غيرها من رسائل معاصريه، فلقد كانت سرعان ما تصل إلى كل مكان من الأرض الإسلامية، يتلقفها الناس ويقرءونها.

ويعنى الهمذاني في رسائله بانتقاء الألفاظ الموسيقية العذبة، كما يحرص على توليد الصور المختلفة في غير تكلف ولا عنت، فهو يردد المعنى الواحد بصور شتى، وصيغ متعددة، كما يحرص على الاقتباس من القرآن الكريم، والشعر العربي، ويهتم بألوان البيان كالاستعارة والتشبيه، كما يولع بالمحسنات البديعية كالسجع والجناس والطباق المقابلة.

مقامات بديع الزمان


ترجع شهرة بديع الزمان الهمذاني إلى مقاماته الشهيرة التي كان له فضل السبق إليها، فهو أول من ابتكر فكرتها، وأطلق عليها هذا الاسم حتى اشتهر بها وقد أعجب كثير من الأدباء بهذا اللون الجديد من فنون الأدب، فاقتفوا أثره ونسجوا على منواله.

وأصل المقامة في اللغة: المجلس والجماعة من الناس، وقد أُطلقت على المحاضرة، كما أطلقت على المجالس التي كان يستقبل فيها الخلفاء الأدباء والعلماء.

ويذكر الثعالبي في ترجمته لبديع الزمان أنه أملى أربعمائة مقامة بنيسابور، ولكن الذي وصلنا منها لا يتجاوز اثنتين وخمسين مقامة فقط. وقد اخترع الهمذاني بطلين لمقاماته، سمى أحدهما عيسى بن هشام، والآخر أبا الفتح الإسكندري، وجعل الأول رواية، والثاني بطلا مغامرًا.

ولم يحرص بديع الزمان على أن يظهر أبا الفتح في جميع المقامات، بل كان يقلل من شأن مغامراته أحيانًا ويغفل ذكره أحيانًا، وشخصية أبي الفتح الإسكندري شخصية مثيرة متعددة الجوانب، تثير العجب وتدعو إلى الإعجاب، فهو يحترف الكُدية (التسول)، ويتميز بالفصاحة في اللسان، والبراعة في الشعر، كما أنه شخصية فكاهية مرحة، يتسم بالذكاء وخفة الظل، محب للمغامرة وارتياد المجهول.

وموضوعات المقامات -في معظمها- ذات صلة بالناس، وتتعلق بالحياة اليومية والمشكلات العامة، وتصور أخلاق المعاصرين وأحوال العصر أحسن تصوير.

وتتميز المقامات بكثرة الشواهد الشعرية، وحسن المواءمة بين الشعر والنثر، كما تظهر فيها قدرات الهمذاني البيانية العالية، وبراعته الفائقة في استخدام المحسنات البديعية.

بديع الزمان شاعرًا

لم يكن الهمذاني وحده من بين أدباء عصره الذي اقتحم ميدان الشعر، فإن كثيرًا من معاصريه مارسوا نظم الشعر حتى أصبح ذلك تقليدًا متبعًا عند قدامى الكتاب الذين حافظوا على تلك الظاهرة، وتوارثوها، حتى إننا لنجد أثرًا منها لدى كثير من الكتاب في العصر الحديث، مثل عباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، ومصطفى صادق الرافعي، وطه حسين.

ويحتل المديح الجانب الأكبر من ديوان الهمذاني، وتتوزع بقية الأغراض في الجزء المتبقي من الديوان. ويتفاوت شعره من حيث الجودة، وأجود شعره في أغراض المدح، فإذا كتب في غيره من الأغراض قل نصيبه من الجودة، وصارت طبيعة الكاتب هي الغالبة عليه.

ومن شعره الجيد في الحكمة:

يا من يطيل بناءه متوقيًا *** ريب المنون وصرفه لا تُحْرَجِ

فالموت يفرغ كل قصر شامخٍ *** والموت يفتح كل باب مرْتَجِ

ومن شعره في الوصف، ويتجلى فيه كلفه بالمحسنات البديعية:

خلع الربيع على الربى *** وربوعها خزًا وبزّا

أَوَما ترى الأقطار قد *** أخذت من الأمطار عِزّا

ومن شعره في مدح السلطان محمود بن سبكتكين:

أطلت شمس محمود *** على أنجم ساحان

وأمسـى آل بهـرام *** عبيدًا لابن خاقان

إذا ما ركـب الفيـل *** لحرب أو لميدان

رأت عيناك سلطانا *** على منكب شيطان

وتوفي بديع الزمان الهمذاني في [11 من جمادى الآخرة 398هـ= 23 من فبراير 1008م] عن عمر بلغ أربعين عامًا، وتذكر الروايات أنه مات بالسكتة، وعُجّل بدفنه فأفاق في قبره، وسمع صوته بالليل، فنُبش عنه، فوجدوه قابضًا على لحيته، ولكن ابن خلكان يذكر أنه مات مسمومًا دون أن يشير إلى من دس له السم، أو أن له أعداء.

منقول

عبدالغفور الخطيب
08-07-2006, 03:46 AM
السلطان أحمد الأول وإنقاذ مسلمي "الأندلس"

(في ذكرى مولده: 12 من جمادى الآخرة 998هـ)


يشترك السلطان العثماني أحمد الأول مع السلطان المملوكي "حسن بن محمد الناصر" في أن كليهما تولى الحكم في سن صغيرة، وتوفيا وهما دون الثلاثين، وأن كلاً منهما ترك أثرًا خالدًا يثير الدهشة والإعجاب، وهو ما جعل اسميهما يترددان على الألسنة مثلما ترددت أسماء مشاهير القادة وعباقرة الأدب والفن وجهابذته، وهما لم يكونا كذلك.

أما أحدهما- وهو السلطان حسن- فقد ترك بالقاهرة مسجدًا عظيمًا يحمل اسمه، ويجمع بين قوة البناء وعظمة التخطيط، وجمال الزخرفة ورقة النقوش، ولا يزال حتى الآن يدهش زائريه بفخامته وعمارته.

وأما الآخر- وهو السلطان أحمد الأول- فقد ترك أيضا مسجدًا عظيمًا عرف باسمه وهو "مسجد السلطان أحمد الأول"، والذي يعد من أعظم عمائر الدولة العثمانية، وأفخمها بناء، وأجملها هندسة، وصاحب هذا الأثر هو موضوع حديثنا.

المولد والنشأة

في "مانيسا" بغربي تركيا كان مولد أحمد الأول في (12 من جمادى الآخرة 998هـ = 18 من إبريل 1590م)، ونشأ في حجر أبيه محمد الثالث، الذي لم يكن قد تولّى خلافة الدولة. وبعد نحو خمس سنوات تولَّى محمد الثالث الحكم خلفًا لأبيه مراد الثالث، ودامت سلطنته تسع سنوات، وكان مثقفًا ثقافة عالية، وله ديوان شعر، وقد عُني بتربية ولده أحمد وإعداده ليكون أهلا لتحمل تبعات الخلافة الجسيمة، وعيّنه في ولاية العهد وهو في الثانية عشرة من عمره، ولم يمكث أحمد في ولاية العهد سوى عام ونصف العام؛ إذ توفّي أبوه السلطان محمد الثالث وتولى هو الخلافة من بعده، وهو في نحو الرابعة عشرة من عمره في (18 من رجب 1012هـ = 22 من يناير 1603م).

تولّى أحمد الأول السلطنة ولم يكن قد مارس إدارة الدولة، أو خرج لجبهات القتال، ولكن حاول أن يعمل ما وسعه الجهد في حماية مصالح الدولة التي كانت تمر بأزمة عنيفة؛ فقد كانت الدولة مشتبكة في قتال مع النمسا، والدولة الصفوية تتربص بها الدوائر.

الحرب مع النمسا

كانت الدولة العثمانية مشتبكة في حرب مع النمسا منذ سنة (1003هـ = 1594م)؛ بسبب قيام النمسا بالاعتداء على البوسنة، وقُتل حاكمها في معركة "سيساك" سنة (1002هـ = 1593م)، وكانت بداية الحرب سيئة بالنسبة للدولة العثمانية، ولحقت بها عدة خسائر، فخلعت ملداقيا وولاشيا وتراتسلفانية طاعة السلطان العثماني محمد الثالث سنة (1003هـ = 1594م)، وانضمت للنمسا، وتعرضت طرق مواصلات الدولة مع "بودا" و"بلجراد" للخطر، ولم يكن أمام السلطان العثماني سوى أن يقود الجيش بنفسه، فاشتعل الحماس في نفوس جنوده، وتمكّن من انتزاع حصن "إيجر"، ثم حقق نصرًا هائلاً في معركة "هاجوفا"، وأباد معظم الجيش النمساوي.

وبدلاً من أن يتقدم العثمانيون إلى الأمام لفتح بلاد جديدة عادوا إلى الخلف، وكانت فكرة المحافظة على ما تملكه الدولة قد سيطّرت على عقول سلاطين الدولة الذين فقدوا روح الفتوحات وطاقة التحرك، وظلت الجبهة العثمانية النمساوية مفتوحة، واستمرت المناوشات بعد ذلك.

ولما تولَّى السلطان أحمد الأول استمرت الحرب مع النمسا، واستعاد العثمانيون "إستركون" بعد حصار شديد بعد أن ظلت أسيرة في أيدي النمساويين عشر سنوات، كما استعادوا بعض القلاع، ووصل الجيش العثماني إلى أقصى الشمال الشرقي من المجر.

أدركت النمسا خسارتها في الحرب فطلبت الصلح، وكان هذا مطلبًا عثمانيًا حتى تتفرغ الدولة لحربها مع إيران، فعُقدت معاهدة بين الطرفين عُرفت باسم معاهدة "ستفاتوروك" في (10 من رجب 1015هـ = 11 من نوفمبر 1606م)، وانتهت بها تلك الحرب التي استمرت نحو ثلاث عشرة سنة ونصف السنة.

وبمقتضى هذه المعاهدة دفعت النمسا إلى الدولة العثمانية غرامة حرب قدرها 67000 سكة ذهبية، وأُلغيت الجزية التي كان يدفعها إمبراطور النمسا إلى الدولة العثمانية كل سنة، وثبتت الحدود على أساس أن لكلٍ الأراضي الموجودة تحت سيطرته، وأن تخاطب الدولة العثمانية حاكم النمسا باعتباره إمبراطورًا لا ملكًا، يقف على قدم المساواة مع السلطان العثماني.

الصراع مع إيران

بدأت الحرب بين الدولة العثمانية وإيران بهجوم الصفويين على تبريز في السنوات الأخيرة من حكم السلطان محمد الثالث، ونجح الشاه "عباس الكبير" في الاستيلاء على "تبريز"، منهيًا بذلك الحكم العثماني بها، وقد توغل في الأراضي العثمانية بعد أن عجزت الدولة العثمانية عن إيقاف هذا الزحف.

وقبل الطرفان الصلح، ووقّعا معاهدة عُرفت باسم معاهدة "إستانبول" في (24 من شعبان 1021هـ = 20 من نوفمبر 16012م)، وانتهت الحرب التي دامت نحو أربعة عشر عامًا بين البلدين، وبمقتضى هذه المعاهدة استعادت إيران ما يقرب من 400,000 كم2 من الأراضي التي كانت قد استولت عليها الدولة العثمانية من قبل، بما فيها مدينة بغداد.

القضاء على الثورات الداخلية

لم تكن الصراعات الخارجية وحدها موضع اهتمام السلطان أحمد وعنايته، وإنما واجهته مشكلات داخلية وقيام حركات التمرد والانفصال داخل أراضي الدولة العثمانية، وقد نجح في إخمادها والقضاء عليها؛ حيث قام الصدر الأعظم "مراد باشا"- وكان قائدًا محنكًا قد تجاوز الثمانين من عمره- بالقضاء على فتنة "جان بولاد" الكردي في حلب سنة (1016هـ = 1067م)، واضطر بولاد بعدها إلى الهرب إلى السلطان معتذرًا، فقبل السلطان عذره وعفا عنه.

كما نجح الصدر الأعظم في هزيمة "فلندر أوغلي" والي أنقرة، بعد أن استولى على "بروسة" و"مانيسا"، وشنَّ حملة على الأمير الدرزي "فخر الدين المعنّى" حاكم لبنان، الذي جمع حوله الأتباع من النصارى والدروز والنصيريين- وكانت تدعمه إيطاليا- وأعلن العصيان على الدولة سنة (1022هـ = 1613م)، وبعد هزيمته فر إلى إيطاليا.

إنقاذ مسلمي إسبانيا

بعد مائة وعشرين سنة من سقوط "غرناطة" آخر معاقل الإسلام في الأندلس سنة (898 هـ = 1429م) لم يعد هناك مسلم في إسبانيا والبرتغال، بعد صدور مرسوم ملكي في إسبانيا باسم "فيليب الثالث" سنة (1018هـ = 1609م) ينذر فيه المسلمين الموجودين في إسبانيا بتركهم الأراضي الملكية خلال 72 ساعة، وكان هذا أمرًا مستحيلاً في هذا الوقت، وكان الغرض من القرار هو إفناء آخر من بقي من المسلمين. واستمرت هذه المأساة الدامية عشرة أشهر، قُتل في أثنائها نحو 400,000 (أربعمائة ألف) مسلم، وفرّ من تبقّى إلى الجزائر، وتنصر بعضهم فوهبت له الحياة النصرانية.

في هذه الفترة أرسل السلطان أحمد الأول في سنة (1019هـ = 1610م) الحاج "إبراهيم أغا" إلى لندن سفيرًا فوق العادة، وكان الغرض الحقيقي من ذهابه إلى أوروبا الغربية جمع الأندلسيين الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى شمال إفريقيا فلجئوا إلى غرب أوروبا، وكان أكثرهم في عداد العبيد، وقد نجح الحاج إبراهيم في جمع العائلات التي تمكّن من العثور عليها، وقام بنقلها إلى الأراضي العثمانية.

مسجد السلطان أحمد الأول


أقام السلطان أحمد الأول في ساحة "آط ميدان" بإستانبول مسجدًا عظيمًا يحمل اسمه، وتولّى الفنان الصّداف "محمد أغا" مهمة إنشائه، وقد بدأ العمل في البناء سنة (1019هـ = 1069م)، وانتهى من تشييده بعد سبع سنوات ونصف السنة.

ويعد هذا المسجد أرحب ما أنشئ من المساجد السلطانية، وأكثرها مآذنَ؛ حيث ترتفع له ست مآذن سامقة، وتبلغ مساحة المسجد ما يعادل 64× 72 مترًا، وقطر قبته 23.50 مترًا، ويبلغ ارتفاعها 43 مترًا، وترتكز على أربع دعائم أسطوانية، قطر الواحدة منها خمسة أمتار، وتغطي جدران المسجد 21043 بلاطة خزفية تجمع أكثر من خمسين تصميمًا، وتشغل الزخارف المدهونة كل جزء من أجزاء المبنى، وقد أضفى لونها الأزرق على جو المسجد من الداخل إحساسًا قويًا بسيطرة هذا اللون؛ ولذا سُمي بـ"الجامع الأزرق".

السلطان أحمد في التاريخ

تولّى السلطان أحمد الحكم في سن صغيرة، وكان هذا من بين الأسباب التي أدت إلى تعرض الدولة إلى اضطرابات داخلية، غير أنه ما لبث أن أظهر جلدًا وحزمًا، وعمل بجدية في إدارة شؤون الدولة، ولم يترك كل شيء لوزرائه، وحاول جاهدًا حماية مصالح الدولة، وامتاز- إلى جانب ذلك- بأنه كان متدينًا، معتدلا في مظهره، شاعرًا، فارسًا، يستخدم السلاح بمهارة.

وفي عهده تحددت الامتيازات الأجنبية لكل من إنجلترا وفرنسا وهولندا وبولندا، واستطاعت هولندا من خلال تلك الامتيازات أن تدخل تجارة التبغ في العالم الإسلامي.

وفاة السلطان

استطاع السلطان أحمد الأول في الفترة الأخيرة من حكمه أن يكتسب خبرات واسعة، وأصبح سلطانًا ناضجًا عاقلا، وأظهر قدرات في الحكم أشبه بقدرات سلاطين الدولة العثمانية العظماء، لكن القدر لم يمهله فأصيب بالحمى في بطنه، ودام مرضه عدة أسابيع، ثم لم يلبث أن تُوفّي في (23 من ذي القعدة سنة 1026 هـ = 22 من نوفمبر 1617م)، ولم يكن قد أكمل الثامنة والعشرين من عمره.


منقول

عبدالغفور الخطيب
11-07-2006, 02:42 AM
الوليد بن عبد الملك.. العصر الذهبي للدولة الأموية

(في ذكرى وفاته: 15 من جمادى الآخرة 96هـ)


تُوفي الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بعد أن ترك دولة قوية مترامية الأطراف متماسكة البناء، ثرية بالموارد، غنية بالرجال والقادة، وقد استغرق تحقيق ذلك سنوات طويلة من عمر خلافته، قضاها في تنظيم الدولة، وإدارة شئونها، وإعادة الوحدة إليها بعد أن نازعه في الخلافة عبد الله بن الزبير، والمختار الثقفي، لكنه نجح في التخلص منهما بعد جهود مضنية وسنوات شاقة، وكان ساعده الأيمن في تحقيق الوحدة الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان سياسيًّا ماهرًا، وإداريا كفئًا وقائدًا مغوارًا استخدم الشدة والعزم في تثبيت أركان الدولة، وإعادة الهيبة لسلطانها، لكنه اشتط في تطبيق سياسته الحازمة، وأسرف في معاملة الناس.

وقد أنجز عبد الملك بن مروان أعمالاً إدارية ضخمة دفعت بدولته إلى طريق الرقي والتقدم بعد أن استتب الأمن وأُسكنت الفتنة، فقام بتعريب الدواوين والنقود وتنظيم شئون البريد، فلما تُوفي سنة (86هـ = 705م) كانت الدولة مستقرة تمامًا، وكان على خليفته الوليد بن عبد الملك أن يكمل المسيرة، ويرتقي بالدولة أشواطًا أبعد على طريق الرقي والإصلاح، وأن يزيد من رقعة دولته، ويفتح للإسلام آفاقًا جديدة وهذا ما كان.

المولد والنشأة

وُلد الوليد بن عبد الملك في خلافة معاوية بن سفيان حوالي سنة (50هـ = 670م) في المدينة المنورة، حيث كان يقيم أبوه "عبد الملك بن مروان بن الحكم"، وكان أكبر أبنائه، وحين هاجر مروان بن الحكم إلى الشام كان الوليد معه ضمن أسرته، والمعروف أنه ترك المدينة في ربيع الآخر سنة (64هـ = ديسمبر 683م) بعد أن أعلن عبد الله بن الزبير الدعوة إلى نفسه بالخلافة.

وكان عبد الملك بن مروان قبل أن يلي الخلافة ينهل من علم أهل المدينة وفقهائها، ويتأدب بأدبهم وأكثر من مجالسة العلماء، وروى عنه جماعة من التابعين، مثل: خالد بن معدان، وعروة بن الزبير، والزهري، ورجاء بن حيوة، وقد اشتهر بالفقه حتى قيل: كان فقهاء المدينة أربعة سعيد بن المسيب، وعروة، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان، والأخبار تكاد تتواتر على فقهه وغزارة علمه ورجاحة عقله.

وعرف عن عبد الملك أنه كان حريصًا على تربية أبنائه تربية صحيحة وإعدادهم لجسام الأمور، وأولى أكبر أبنائه عناية خاصة، وعُني بتدريبه على الإدارة والسياسة وفنون القتال، وحثه على التزود من العلم؛ فشبَّ الوليد على حب العربية، وكان أبوه يقول له: لا يلي العرب إلا من يحسن لغتهم، ونشأ على مداومة تلاوة القرآن؛ فكان يختمه في كل ثلاثة أيام، وقيل: في كل سبع، ولم يهمل هذا الورد حتى بعد أن تولى الخلافة وكثرت مهامه.

تولِّيه الخلافة

كان عبد العزيز بن مروان وليًّا للعهد في خلافة أخيه عبد الملك بن مروان، فلمّا تُوفي عبد العزيز سنة (85هـ = 704م) عين عبد الملك ابنه الوليد في ولاية العهد وبايعه الناس، فتولى الخلافة عقب وفاة أبيه في (15 من شوال 86هـ = 9 من أكتوبر 705م).

تولى الوليد الخلافة وهو في شرخ الشباب مزودًا بثقافة واسعة وخبرة إدارية ونضوج عقل، وتسلّم مقاليد الأمور، ودولته يسودها السلام بعد أن قضى أبوه معظم خلافته في القضاء على الفتن والحروب الداخلية التي كادت تمزق أوصال الدولة، وبدأ في الإصلاح والتعمير، وإحياء حركة الفتوحات الإسلامية في المشرق والمغرب؛ فتم على يديه في المدة التي قضاها في الخلافة وهي لا تعدو عشر سنوات ما قد تعجز الدول عن تحقيقه في قرون عديدة.

الحجاج الثقفي واستقرار الأمن

استعان الوليد بن عبد الملك بواليه على العراق "الحجاج بن يوسف الثقفي" في إقرار الأمن في شرق العالم الإسلامي، وتوسيع رقعته، وكان الوليد يعرف فضله ومكانته فتمسك به، وأطلق يده في شئون المشرق الإسلامي الذي كان منبع الثورات في العصر الأموي، ولم تهدأ أحوال المشرق، وتسكن ثوراته إلا على يد الحجاج الثقفي، وكان فضله على استقرار دولة عبد الملك بن مروان لا ينكر، وكانت وصية عبد الملك لأبنائه في مرض موته: أكرموا الحجاج؛ فإنه الذي وطأ لكم هذا الأمر.

وكان الحجاج مخلصًا لدولة بني أمية، لم يأل جهدا في توطيد سلطانهم وفي إقرار الأمن، والقيام بالإصلاحات، فلم يكن قائدًا عسكريًا بصيرًا بأساليب الحرب والسياسة فحسب، بل كان إداريًا حازمًا ومصلحًا ماليًا، فلما هدأت الفتنة واستقرت الأحوال انتقل الحجاج إلى ميادين جديدة من الإصلاح والتعمير، وكانت أياديه ظاهرة فيها، فاستكمل الحجاج في عهد الوليد بن عبد الملك الفتوحات الإسلامية في الجناح الشرقي للدولة، وعمل على إنعاش البلاد التي أنهكتها الحروب والثورات، فاهتم بإصلاح القنوات التي تخرج من دجلة والفرات، وأعاد فتح القنوات القديمة التي رُدمت، وشق قنوات جديدة، وعُني بإصلاح السدود، وتجفيف المستنقعات، وإحياء الأرض البور.

حركة الفتوحات الإسلامية

شهد عصر الوليد بن عبد الملك أعظم حركة للفتوحات الإسلامية في الدولة الأموية؛ فبسط المسلمون أيديهم على أكبر بقعة من العالم القديم المعروف آنذاك، واتسعت دولتهم على نحو لم تشهده من قبل، وبرز في عهده عدد من القادة الأكفاء الذين اتسموا بالقدرة العسكرية والمهارة الحربية وعُرفوا بالشجاعة والتضحية، فقاموا بعبء هذه الفتوحات وأعادوا للأذهان ذكرى الفتوحات التي تمت في عهد الخلفاء الراشدين.

ففي الجناح الشرقي للدولة حمل الحجاج الثقفي أهل العراق على الاشتراك في جيش "قتيبة بن مسلم الباهلي" لفتح بلاد ما وراء النهر، واستغرقت جهوده في الفتح عشر سنوات (86-96هـ = 705-714م)، فتح خلالها بخارى وسمرقند ووصل إلى إقليم كاشغر الذي يلامس حدود الصين.

وأرسل الحجاج ابن عمه محمد بن القاسم الثقفي لفتح إقليم السند في شبه القارة الهندية سنة (89هـ = 707م)، وكان دون العشرين من عمره، لكنه كان قائدًا عظيمًا، نجح في مهمته، وبسط سلطان الدولة في هذه البقاع، وفتح مدينة الديبل، وهي تبعد نحو 45 ميلا شرقي جنوب كراتشي في باكستان، وامتدت فتوحاته إلى ملتان في جنوب إقليم البنجاب.

وأما في الجناح الغربي فقد نجح موسى بن نصير وطارق بن زياد في عبور البحر المتوسط إلى شبه جزيرة أيبريا (إسبانيا) سنة (92هـ = 711م)، وتمكنا من فتح تلك البلاد التي أطلق عيها المسلمون اسم الأندلس، ولم يقف طموح موسى بن نصير عند هذا الحد بل عزم على فتح بلاد غالة (فرنسا الحالية) على أن يتجه شرقًا حتى يصل إلى القسطنطينية التي عجز المسلمون عن فتحها، ثم يستمر في فتوحاته حتى يصل إلى دمشق حاضرة الخلافة، لكن الخليفة الوليد حذره من مغبة القيام بهذا العمل، والتوغل في دروب مجهولة، وأمره بالعودة إلى دمشق.

ودأب الوليد على محاربة الدولة البيزنطية؛ لتأمين حدود دولته معها، وكان أخوه مسلمة بن عبد الملك بطل هذه الحروب، واشترك معه أبناء الخليفة الوليد في منازلة البيزنطيين وفتح حصونهم، وظلت الحملات تتوالى على بلاد الروم منذ سنة (88هـ = 706م)، ولا يكاد يخلو عام من حملة على الروم، واستعد الوليد لإرسال حملة برية وبحرية لغزو القسطنطينية، لكن المنية عاجلته قبل أن ينفذ هذا المشروع، فنهض به أخوه سليمان بن عبد الملك الذي ولي الخلافة من بعده.

النهضة العمرانية

عرف الوليد بن عبد الملك بأنه كان مغرمًا بالبناء والتشييد، محبًا للعمارة على نحو لم يعرفه خلفاء بني أمية؛ فحفر الآبار والعيون، وأصلح الطرق التي تربط بين أجزاء دولته المترامية الأطراف، وبنى المساجد والمستشفيات.

وأثنى المؤرخون على جهوده العظيمة في هذا الميدان الذي شمل معظم أرجاء دولته؛ فعُني بتجديد الكعبة وتوسيع المسجد الحرام، وأعاد بناء المسجد النبوي، وزاد فيه من جهاته كلها، فأدخل فيه حجرات أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم)، وعهد بهذه المهمة إلى ابن عمه وواليه على المدينة عمر بن عبد العزيز، وبعث إليه بالأموال والرخام والفسيفساء وبثمانين صانعا من الروم والقبط من أهل الشام، وجدد أيضا المسجد الأقصى بفلسطين ، ويعزى إليه فكرة عمل المحاريب المجوفة في المساجد، وإقامة المآذن، كما أرسل إلى واليه في مصر بتجديد جامع عمرو بن العاص.

أما أبدع ما أنشأه الوليد فهو الجامع الأموي بدمشق، الذي جاء آية من آيات الفن البديع والعمارة الإسلامية، وبالغ في تشييده وتزيينه؛ ليكون مظهرًا لقوة الدولة ومبلغ حضارتها، وأنفق عليه أموالاً طائلة واستغرق بناؤه عهد الوليد كله، وبقيت منه أعمال أنجزها أخوه سليمان بن عبد الملك من بعده.


قصر الوليد

وأنشأ الوليد قصر عمرة، وهو قصر صغير يقع على بعد خمسين ميلا شرقي عمان في الأردن، ولم يُعرف هذا القصر إلا في سنة (1316هـ = 1898م)؛ حيث اكتشفته البعثة العلمية التي كان يرأسها موزل، ويمتاز القصر بتصاوير جدرانه الرائعة ونقوش جميلة لطيور وحيوانات وزخارف نباتية.

استكمال التعريب

كانت عملية التعريب عملية طويلة بدأها عبد الملك وسار الوليد على نهجها؛ فأمر واليه على مصر عبد الله بن عبد الملك بتدوين الدواوين في مصر باللغة العربية بعد أن كانت تُكتب بالقبطية، فكان هذا تتمة لما بدأه عبد الملك بن مروان في سياسة التعريب التي لم تتم نهائيا إلا بعد تعريب دواوين خراسان سنة (124هـ = 741م)، وقد ساعد التعريب على شيوع اللغة العربية وانتشارها بين الموالي، وأصبحت لغة الثقافة، بالإضافة إلى كونها لغة الدين.

كان من نتيجة استقرار الدولة أن زادت ماليتها وتكدست خزائنها بالأموال، وأنفق الوليد جزءًا منها على البناء والتشييد، وخصص جزءًا آخر لتقديم الخدمات للناس دون أجر، فأمر بتشييد المستشفيات لذوي الأمراض المزمنة، وأعطى رواتب لذوي العاهات من العميان والمجذومين وغيرهما، ومنح كل مُقعد خادمًا، وكل ضرير قائدًا.

وفـــاته

نجح الوليد في مدة خلافته التي لم تتجاوز عشر سنوات أن يقيم دولة عظيمة، وأن ينعم الناس في ظلها بالرخاء، وأن تنشط حركة العمران، وتزدهر الثقافة وحلقات العلم في المساجد الكبرى، حتى صارت دولته أقوى دولة في العالم آنذاك، ولم تطل به الحياة فتوفي في (منتصف جمادى الآخرة سنة 96هـ = 25 من فبراير 715م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
17-07-2006, 03:12 AM
أبو بكر.. رقة بغير ضعف

(بمناسبة ذكرى وفاته: 21 من جمادى الآخرة 13هـ)


بالرغم من أن فترة خلافة أبي بكر الصديق لم تدم أكثر من عامين وثلاثة أشهر، فإنها كانت حافلة بالإنجازات العظيمة والأحداث الخطيرة، وكانت مسرحًا للعديد من الحوادث الجسام التي كادت تعصف بدولة الإسلام في مهدها، لولا أن قيّض الله لها ذلك الرجل الذي استطاع بحكمته وحزمه أن يصل بالسفينة إلى بر الأمان، فقد كان الصدّيق طرازًا فريدًا من الرجال، امتزجت فيه الشدة بالرحمة، والحكمة بالقوة، واللين بالحزم، ولعل أصدق ما يوصف به قول هيكل: "هذا الرجل الوديع السمح الأسيف، السريع إلى التأثر، وإلى مشاركة البائس في بؤسه والضعيف في ضعفه، تنطوي نفسه على قوة هائلة لا تعرف التردد ولا الإحجام، وعلى قدرة ممتازة في بناء الرجال، وفي إبراز ملكاتهم ومواهبهم، وفي دفعهم إلى ميادين الخير العام، ينفقون فيها كل ما أتاهم الله من قوة ومقدرة".

نسبه وصفاته ونشأته

إنه عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، وينتهي نسبه إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، ويلتقي في نسبه مع النبي (صلى الله عليه وسلم) عند مرة بن كعب، وينسب إلى "تيم قريش"، فيقال: "التيمي".

كان أبو بكر يُسمَّى في الجاهلية "عبد الكعبة"؛ فسماه النبي (صلى الله عليه وسلم) عبد الله، ولقّبه عتيقا؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال له: أنت عتيق من النار.

وقيل لجمال وجهه، وقيل لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به، كما سُمِّي بالصدّيق لتصديقه خبر الإسراء والمعراج.

وأمه سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم وهي بنت عم أبيه، وتُكنَّى أم الخير. نشأ أبو بكر في مكة، فلما جاوز الصبا إلى الشباب عمل في التجارة، فكان بزازًا يبيع الثياب، واستطاع أن يحقق نجاحًا كبيرًا في تجارته، فتزوج في بداية شبابه من قتيلة بنت عبد العزى، فولدت له عبد الله، وأسماء (رضي الله عنهما)، ثم تزوج بعد ذلك من أم رومان بنت عامر بن عويمر، فأنجب منها عبد الرحمن، وعائشة (رضي الله عنهما).

وكانت تجارته تزداد اتساعا وتزيد معها أرباحه وثروته، وقد هيأت له شخصيته القوية وأخلاقه الكريمة بعض أسباب نجاح تجارته، فقد كان رجلاً رضي الخلق، رقيق الطبع، رزينا لا يغلبه الهوى، ولا تملكه الشهوة، يتميز برجاحة العقل وسداد الرأي، وكان لا يشارك قومه في عقائدهم وعاداتهم، فلم يشرب خمرًا قط في الجاهلية، وكان وجيها من وجهاء قريش ورؤسائها، عارفا بالأنساب بل أعلم قريش بها، وقد كانت إليه الأشناق (الديات) في الجاهلية.

حياة أبي بكر في مكة

عاش أبو بكر في حي التجار والأثرياء في مكة، وهو الحي الذي كانت تعيش فيه خديجة بنت خويلد، ومن هنا نشأت الصداقة بينه وبين النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكان لتقاربهما في السن وفي كثير من الصفات والطباع أكبر الأثر في زيادة الألفة بينهما، فقد كان أبو بكر يصغر النبي (صلى الله عليه وسلم) بنحو عامين.

وحينما بُعث النبي (صلى الله عليه وسلم) كان أبو بكر أول من آمن به، ما إن عرض عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) الإسلام حتى أسلم ولم يتردد لحظة في الإيمان به، وشارك منذ اللحظة الأولى في الدعوة إلى الله بنفسه وماله، وكان لحب الناس له وإلفهم إياه أثر كبير في استجابة الكثيرين منهم للإسلام؛ فقد أسلم على يديه عدد من كبار الصحابة، منهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وغيرهم كثيرون من أهل مكة.

دور أبي بكر في نصرة الإسلام

كان إيمان أبي بكر قويًا عظيمًا، يتعدى كل الحدود، وتسليمه بصدق النبي (صلى الله عليه وسلم) يفوق كل وصف، ولعل أصدق ما يوصف به قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده فيه كبوة ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة، ما عكم حين ذكرت له، وما تردد".

ولعل مرد العجب هنا يكمن في شخصية أبي كبر ذاتها؛ فهو مع حكمته ورجاحة عقله وجرأته تاجر تقتضي منه تجارته أن يضع حسابا لصِلاته بالناس، وعدم مواجهتهم بما يخالف مألوف آرائهم وعقائدهم؛ خشية ما يجره ذلك على تجارته، ومعاملاته، ولكنه ارتفع بنفسه فوق ماديات الحياة، وآثر العقيدة الصحيحة على زيف الحياة وبهرج متاعها.

وكان لإسلام أبي بكر دور كبير في تثبيت دعائم الدين الجديد، والتمكين له؛ فهو لم يقف من تأييد الإسلام ونصرته عند حدود الدعوة والإقناع لكسب مزيد من الأتباع، وتعزية الأرقاء والمستضعفين من المسلمين الذين يلاقون الكثير من العنت والاضطهاد والتعذيب من الكفار والمشركين، وإنما كان يبذل من نفسه وماله؛ فقد أعتق أبو بكر سبعة ممن كانوا يُعذّبون في الله، منهم بلال بن رباح وعامر بن فهيرة.

حتى إنه أنفق ثروته التي اكتسبها من تجارته، والتي كانت تقدر بنحو أربعين ألف درهم.. أنفقها كلها في سبيل الله، فلما هاجر إلى المدينة بعد نحو عشر سنوات لم يكن معه من ذلك كله غير خمسة آلاف درهم.

وقد ذكر له النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك وأثنى عليه فقال: "ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر".

موقف الصديق من حادثة الإسراء

كانت حادثة الإسراء امتحانا حقيقيا لإيمان المسلمين في صدر الدعوة، فبعد وفاة أبي طالب عم النبي (صلى الله عليه وسلم) ووفاة خديجة زوجة النبي (رضي الله عنها)، وقد كانا نعم العون له في دعوته، وبعد ما لقيه (صلى الله عليه وسلم) من إعراض أهل الطائف وتعرضهم له وتحريضهم سفهاءهم وصبيانهم عليه -أراد الله تعالى أن يُسرِّي عن نبيه، فأسرى به إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء، ولكن الكفار والمشركين اتخذوا هذه الحادثة مثارا للتندر بالنبي (صلى الله عليه وسلم) والسخرية منه، والتشكيك في دعوته، وقد انساق وراءهم بعض ضعاف الإيمان، ممن أسلموا، وتردد آخرون، فلما جاء أبو بكر إلى المسجد واستمع إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يصف بيت المقدس وكان قد زاره من قبل صدّقه في وصفه الذي طابق ما رآه، فأخرس ذلك ألسنة المشركين، وثبّت قلوب المؤمنين وأعاد الثقة في نفوسهم، وقضى على البلبلة التي أراد هؤلاء المشركون إثارتها.

الهجرة إلى المدينة

ازداد تعرض المشركين للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، وهاجر كثير من المسلمين إلى الحبشة، ولكن أبا بكر بقي مع النبي (صلى الله عليه وسلم)، وعندما هاجر المسلمون إلى المدينة ظل أبو بكر إلى جوار النبي (صلى الله عليه وسلم) ينصره ويسانده في دعوته.

وظل أبو بكر في مكة ينتظر اليوم الذي يهاجر فيه مع النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة، بعد أن سبقهما المسلمون إليها، حتى أذن الله لنبيه بالهجرة.

وكان أبو بكر قد أعد العدة لهذا اليوم، وجهَّز راحلتين للهجرة إلى المدينة، وفي الثلث الأخير من الليل خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) من داره بعد أن أعمى الله عيون فتيان قريش المتربصين حول الدار يريدون الفتك به، وكان أبو بكر في انتظاره وهو يغالب قلقه وهواجسه، فخرجا إلى غار ثور ليختبئا فيه حتى تهدأ مطاردة قريش لهما.

ووصل المشركون إلى الغار، وصعد بعضهم أعلى الغار للبحث عنهما، ولم يدر بخلد أحد منهم أنه لا يفصلهم عن مطارديهما سوى ذلك النسيج الواهن الذي نسجته العنكبوت على فتحة الغار. ونظر أبو بكر الصديق إلى أقدام المشركين على باب الغار، فهمس إلى النبي (صلى الله عليه وسلم): لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فرد النبي (صلى الله عليه وسلم) بإيمان وسكينة: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟".

حتى إذا ما يئس المشركون من العثور عليهما انصرفوا راجعين، فخرجا من مخبئهما يكملان الطريق إلى المدينة.

أبو بكر في المدينة



عاش أبو بكر في المدينة حياة هادئة وادعة، وتزوج من حبيبة بنت زيد بن خارجة فولدت له أم كلثوم، ثم تزوج من أسماء بنت عميس فولدت له محمدًا.

وظل أبو بكر إلى جوار النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة، بل كان أقرب الناس إليه حتى تُوفي (صلى الله عليه وسلم) في (12 من ربيع الأول 11هـ = 3 من يونيو 632م).

وكان لوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) وقع شديد القسوة على المسلمين؛ فقد أصابهم الذهول ودارت الدنيا من تحت أقدامهم غير مصدقين، أو أنهم لا يريدون أن يصدقوا ذلك الخبر، حتى إن عمر بن الخطاب ذهب به الغضب مذهبا كبيرا، وراح يتوعد الذين يرددون ذلك الخبر، ويأخذ به الجزع فيقول: ما مات رسول الله، وإنما واعده الله كما واعد موسى، وليرجعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليقطعن أيدي ناس وأرجلهن.

ولكن أبا بكر برغم ما عُرف به من الرقة والوداعة، يقف قويا متماسكا يستشعر خطورة الموقف، ويستشرف الأخطار المحدقة بالإسلام والمسلمين، فيزداد تماسكا وقوة، يدفعه إيمانه الشديد بالله، وحبه وإخلاصه لنبيه إلى اتخاذ موقف إيجابي لإنقاذ المسلمين من هوة الخلف والاختلاف، والعمل على الحفاظ على وحدتهم وتماسكهم، وتتجلى قوته النفسية وبُعد نظره إلى المستقبل في تلك الساعة العصيبة التي أخذت بألباب المسلمين وعقولهم، حينما يقترب من جسد النبي (صلى الله عليه وسلم) المُسجّى، فيكشف عن وجهه، ويكب عليه يقبله، وهو يقول: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله طبت حيا وميتا".

ثم أتى المسجد فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". ثم قرأ: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين" (آل عمران: 144). فخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنها لم تنزل إلا ذلك اليوم.

الأنصار في السقيفة

ما إن علم الأنصار بوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يتشاورون ولا يدرون ماذا يفعلون، وبلغ ذلك المهاجرين فقالوا: نرسل إليهم يأتوننا، فقال أبو بكر بل نمشي إليهم، فسار إليهم ومعه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح؛ فتراجع الفريقان الكلام وكثر الجدل واللغط بين الفريقين حتى كاد الشر يقع بينهما أكثر من مرة، فقال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء؛ فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "الأئمة من قريش"، وقال: "أوصيكم بالأنصار خيرًا: أن تقبلوا من محسنهم وتتجاوزوا عن مسيئهم".

واستمر الجدل والخلاف بين الفريقين حتى قال عمر: "أنشدتكم الله هل تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أبا بكر أن يصلي بالناس؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فأيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ فقالوا: كلنا لا تطيب نفسه، ونستغفر الله.

وسارعوا جميعا بالبيعة لأبي بكر، فكان لتلك البيعة الفضل في تجميع كلمة المسلمين وتجنيبهم فتنة ضارية وانقسامًا وخيمًا وحربًا ضروسًا بين أبناء الدين الواحد لا يعلم مداها إلا الله وحده.

بعث جيش أسامة

كان أول أمر أصدره الخليفة أبو بكر الصديق بعد أن تمت له البيعة هو إنفاذ جيش أسامة الذي جهزه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبيل وفاته لغزو الروم، والذي كان يضم كبار الصحابة والمهاجرين والأنصار.

وقد أبدى بعض المسلمين عدم رضاهم لتولية أسامة قيادة الجيش لصغر سنه، وأفضوا إلى أبي بكر بمخاوفهم من أن تنقضّ عليهم بعض قبائل العرب المتربصة بالمسلمين وجماعات المرتدين الذين نفضوا أيديهم من الإسلام، منتهزين فرصة خروج الجيش من المدينة، وأظهروا له تخوفهم من أن تفترق عنه جماعة المسلمين، فقال أبو بكر بثقة ويقين: "والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته".

فلم يجد الصحابة بدًّا من الإذعان لأمر الخليفة، والامتثال له، وخرج أبو بكر يشيّع الجيش وهو ماش وأسامة راكب ليشعرهم بإمارة أسامة فيسلموا له ولا يخالفوه، وأحس أسامة بالحرج فأراد النزول عن دابته، وقال: "يا خليفة رسول الله، والله لتركبنّ أو لأنزلنّ".

فقال أبو بكر: والله لا تنزل، ووالله لا أركب، وما عليَّ أن أغبّر قدمي في سبيل الله ساعة.

وحينما حان الوداع خطب أبو بكر في رجاله قائلاً: "أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة، ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان من الطعام، فإذا أكلتم منها شيئا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليه، وتلقون أقواما قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقا، اندفعوا باسم الله، أقناكم الله بالطعن والطاعون".

تلك الوصية الخالدة التي صارت تمثل دستور المسلمين في القتال، وتعبر عن مدى ما بلغه المسلمون من تحضر وإنسانية في الحروب، في عصور ساد فيها الجهل وفشت الفوضى والغوغاء، وسيطرت الهمجية على الأمم والشعوب.

ولم يخيب أسامة رجاء الخليفة فيه، فقد استطاع أن يحرز النصر على الروم، واقتحم تخومهم، وتوغل في ديارهم ثم عاد بجيشه إلى المدينة، وقد حقق الغاية التي خرج من أجلها وهي تأمين حدود الدولة الإسلامية، وإلقاء الرهبة والهيبة في قلوب الروم، فلا يحاولون التحرش بالمسلمين، كما أدت إلى كف عرب الشمال عن محاولات التعرض للمدينة والهجوم عليها.

حرب المرتدين والتصدي للمتنبئين

انتهزت بعض القبائل التي لم يتأصل الإسلام في نفوسها انشغال المسلمين بوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) واختيار خليفة له، فارتدت عن الإسلام، وحاولت الرجوع إلى ما كانت عليه في الجاهلية، وسعت إلى الانشقاق عن دولة الإسلام والمسلمين سياسيا ودينيا، واتخذ هؤلاء من الزكاة ذريعة للاستقلال عن سلطة المدينة، فامتنعوا عن إرسال الزكاة وأخذتهم العصبية القبلية، وسيطرت عليهم النعرة الجاهلية.

واستفحل أمر عدد من أدعياء النبوة الذين وجدوا من يناصرونهم ويلتفون حولهم، فظهر "الأسود العنسي" في اليمن، واستشرى أمر "مسيلمة" في اليمامة، و"سجاح بنت الحارث" في بني تميم، و"طلحة بن خويلد" في بني أسد، و"لقيط بن مالك" في عُمان. وكان هؤلاء المدعون قد ظهروا على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولكن لم يستفحل أمرهم ويعظم خطرهم إلا بعد وفاته.

وقد تصدى أبو بكر لهؤلاء المرتدين بشجاعة وجرأة وإيمان، وحاربهم بالرغم من معارضة بعض الصحابة له، وكان بعضهم يدعوه إلى الرفق بهم والصبر عليهم، فيجيب في عزم قاطع: "والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقاتلتهم عليه، والله لأقاتلن من فرَّق بين الزكاة والصلاة".

وأرسل أبو بكر الجيوش لقتالهم حتى قضى على فتنتهم، وأعاد تلك القبائل على حظيرة الإسلام، وقد اتسم أبو بكر ببعد النظر والحكمة وذلك بإصراره على التصدي لهؤلاء المرتدين، ورفض المساومة على فرض من فروض الدين، فقد قطع بذلك عليهم الطريق إلى المزيد من المساومات، كما كان ذلك إعلانا واضحا أنه لا تهاون ولا تنازل في أمر يخص الدين أو يتعلق بالعقيدة، أمام كل من تسول له نفسه من القبائل أن يحذو حذو هؤلاء.

جمع القرآن الكريم

استشهد عدد كبير من كبار الصحابة ممن يحفظون القرآن الكريم في حروب الردة التي استغرقت أكثر عهد الصديق، وقد زاد من جزع المسلمين لاستشهاد هؤلاء الأعلام من الصحابة ما يمثله فقد هؤلاء من خطر حقيقي على القرآن الكريم والسنة المشرفة، وكان عمر بن الخطاب من أوائل الذين تنبّهوا إلى ذلك الخطر، وبعد تفكير عميق هداه الله إلى فكرة جمع القرآن الكريم، فلما عرض ذلك على أبي بكر تردد في أول الأمر، وقال: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟.

ولكن عمر ظل يراجعه ويجادله حتى شرح الله صدره لهذا الأمر، واقتنع برأي عمر فدعا زيد بن ثابت وكلفه بتنفيذ تلك المهمة الجليلة، فانطلق زيد يجمع القرآن الكريم من الرقاع والعظام وجريد النخل والحجارة الرقيقة، ثم أخذ يرتبه في آيات وسور، واتبع في ذلك طريقة عملية دقيقة مُحكّمة، فكان لا يثبت آية إلا إذا اطمأن إلى ثبوتها بشهادة العدول من الصحابة الحفاظ، ولا يمنعه من ذلك أنه يحفظ القرآن حتى أتم تسجيله وتدوينه، كما نزل على النبي (صلى الله عليه وسلم).

فكان ذلك العمل هو أعظم أعمال الصديق على الإطلاق على كثرة أعماله وعظمة إنجازاته، فقد ساهم في حفظ كتاب الله من الضياع، وصانه من الوهم والخطأ واللحن.

وفاته

وتُوفي أبو بكر الصديق يوم الجمعة (21 من جمادى الآخرة 13 هـ = 22 من أغسطس 634م)، ودفن مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في بيت عائشة (رضي الله عنها)، وقد اختُلف في سبب وفاته، فذكروا أنه اغتسل في يوم حار فحمّ ومرض خمسة عشر يومًا حتى مات، وقيل بأنه أصيب بالسل، وقيل أنه سُمّ، وقد رثاه عمر فقال: "رحم الله أبا بكر فقد كلف من بعده تعبا".

منقول

عبدالغفور الخطيب
18-07-2006, 03:53 AM
عهد الفاروق.. دولة العدل والفتوحات

(في ذكرى توليه الخلافة: 22 من جمادى الآخرة 13 هـ)


لم تتحقق الدولة الإسلامية بصورتها المثلى في عهد أيٍّ من عهود الخلفاء والحكام مثلما تحققت في عهد الخليفة الثاني "عمر بن الخطاب" (رضي الله عنه) الذي جمع بين النزاهة والحزم، والرحمة والعدل، والهيبة والتواضع، والشدة والزهد.

ونجح الفاروق (رضي الله عنه) في سنوات خلافته العشر في أن يؤسس أقوى إمبراطورية عرفها التاريخ، فقامت دولة الإسلام، بعد سقوط إمبراطورتي "الفرس" و"الروم" - لتمتد من بلاد فارس وحدود الصين شرقًا إلى مصر وإفريقية غربًا، ومن بحر قزوين شمالا إلى السودان واليمن جنوبًا، لقد استطاع "عمر" (رضي الله عنه) أن يقهر هاتين الإمبراطوريتين بهؤلاء العرب الذين كانوا إلى عهد قريب قبائل بدوية، يدبُّ بينها الشقاق، وتثور الحروب لأوهى الأسباب، تحرِّكها العصبية القبلية، وتعميها عادات الجاهلية وأعرافها البائدة، فإذا بها - بعد الإسلام - تتوحَّد تحت مظلَّة هذا الدين الذي ربط بينها بوشائج الإيمان، وعُرى الأخوة والمحبة، وتحقق من الأمجاد والبطولات ما يفوق الخيال، بعد أن قيَّض الله لها ذلك الرجل الفذّ الذي قاد مسيرتها، وحمل لواءها حتى سادت العالم، وامتلكت الدنيا.

مولد عمر ونشأته

وُلِد عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العُزَّى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزَاح بن عديّ (رضي الله عنه) في مكة ونشأ بها، وكان أبوه "الخطاب" معروفًا بشدَّته وغلظته، وكان رجلاً ذكيًّا، ذا مكانة في قومه، شجاعًا جريئا، كما كان فارسًا من فرسان العرب، شارك في العديد من الحروب والمعارك، وكان على رأس بني عدي في حرب الفجار، وقد تزوَّج "الخطاب" عددًا من النساء، وأنجب كثيرًا من الأبناء.

وحظي عمر (رضي الله عنه) - في طفولته - بما لم يَحْظَ به كثير من أقرانه من أبناء قريش، فقد تعلَّم القراءة والكتابة، ولم يكن يجيدها في قريش كلها غير سبعة عشر رجلاً.

ولما شبَّ عُمر (رضي الله عنه) كان يرعى في إبل أبيه، وكان يأخذ نفسه بشيء من الرياضة، وقد آتاه الله بسطة من الجسم، فأجاد المصارعة، وركوب الخيل، كما أتقن الفروسية والرمي.

وكان عمر (رضي الله عنه) - كغيره من شباب "مكة" قبل الإسلام - محبًّا للهو والشراب، وقد ورث عن أبيه ميلاً إلى كثرة الزوجات، فتزوَّج في حياته تسع نساء، وَلَدْن له اثني عشر ولدًا (ثمانية بنين وأربع بنات)، ولم يكن كثير المال، إلا أنه عرف بشدة اعتداده بنفسه حتى إنه ليتعصب لرأيه ولا يقبل فيه جدلاً.

وعندما جاء الإسلام وبدأت دعوة التوحيد تنتشر، أخذ المتعصِّبون من أهل مكة يتعرضون للمسلمين ليردوهم عن دينهم، وكان "عمر" من أشدِّ هؤلاء حربًا على الإسلام والمسلمين، ومن أشدهم عداء للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه.

إسلام عُمر

وظلَّ "عمر" على حربه للمسلمين وعدائه للنبي (صلى الله عليه وسلم) حتى كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة، وبدأ "عمر" يشعر بشيء من الحزن والأسى لفراق بني قومه وطنهم بعدما تحمَّلوا من التعذيب والتنكيل، واستقرَّ عزمه على الخلاص من "محمد"؛ لتعود إلى قريش وحدتها التي مزَّقها هذا الدين الجديد! فتوشَّح سيفه، وانطلق إلى حيث يجتمع محمد وأصحابه في دار الأرقم، وبينما هو في طريقه لقي رجلاً من "بني زهرة" فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدًا، فقال: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم! وأخبره بإسلام أخته "فاطمة بنت الخطاب"، وزوجها "سعيد بن زيد بن عمر" (رضي الله عنه)، فأسرع "عمر" إلى دارهما، وكان عندهما "خبَّاب بن الأرت" (رضي الله عنه) يقرئهما سورة "طه"، فلما سمعوا صوته اختبأ "خباب"، وأخفت "فاطمة" الصحيفة، فدخل عمر ثائرًا، فوثب على سعيد فضربه، ولطم أخته فأدمى وجهها، فلما رأى الصحيفة تناولها فقرأ ما بها، فشرح الله صدره للإسلام، وسار إلى حيث النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، فلما دخل عليهم وجل القوم، فخرج إليه النبي (صلى الله عليه وسلم)، فأخذ بمجامع ثوبه، وحمائل السيف، وقال له: أما أنت منتهيًا يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال، ما نزل بالوليد بن المغيرة؟ فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله، فكبَّر رسول الله والمسلمون، فقال عمر: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: بلى، قال: ففيم الاختفاء؟ فخرج المسلمون في صفين حتى دخلوا المسجد، فلما رأتهم قريش أصابتها كآبة لم تصبها مثلها، وكان ذلك أول ظهور للمسلمين على المشركين، فسمَّاه النبي (صلى الله عليه وسلم) "الفاروق" منذ ذلك العهد.

الهجرة إلى المدينة

كان إسلام "الفاروق" عمر في ذي الحجة من السنة السادسة للدعوة، وهو ابن ست وعشرين سنة، وقد أسلم بعد نحو أربعين رجلاً، ودخل "عمر" في الإسلام بالحمية التي كان يحاربه بها من قبل، فكان حريصًا على أن يذيع نبأ إسلامه في قريش كلها، وزادت قريش في حربها وعدائها للنبي وأصحابه؛ حتى بدأ المسلمون يهاجرون إلى "المدينة" فرارًا بدينهم من أذى المشركين، وكانوا يهاجرون إليها خفية، فلما أراد عمر الهجرة تقلد سيفه، ومضى إلى الكعبة فطاف بالبيت سبعًا، ثم أتى المقام فصلى، ثم نادى في جموع المشركين: "من أراد أن يثكل أمه أو ييتم ولده أو يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي".

وفي "المدينة" آخى النبي (صلى الله عليه وسلم) بينه وبين "عتبان بن مالك" وقيل: "معاذ بن عفراء"، وكان لحياته فيها وجه آخر لم يألفه في مكة، وبدأت تظهر جوانب عديدة ونواح جديدة، من شخصية "عمر"، وأصبح له دور بارز في الحياة العامة في "المدينة".

موافقة القرآن لرأي عمر

تميز "عمر بن الخطاب" بقدر كبير من الإيمان والتجريد والشفافية، وعرف بغيرته الشديدة على الإسلام وجرأته في الحق، كما اتصف بالعقل والحكمة وحسن الرأي، وقد جاء القرآن الكريم، موافقًا لرأيه في مواقف عديدة من أبرزها: قوله للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى: فنزلت الآية ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) [ البقرة: 125]، وقوله يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب: (وإذا سألتموهن متاعًا فسألوهن من وراء حجاب) [الأحزاب: 53].

وقوله لنساء النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد اجتمعن عليه في الغيرة: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن) [ التحريم: 5] فنزلت ذلك.

ولعل نزول الوحي موافقًا لرأي "عمر" في هذه المواقف هو الذي جعل النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه".

وروي عن ابن عمر: "ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر بن الخطاب، إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر رضي الله عنه".

الفاروق خليفة للمسلمين

توفي النبي (صلى الله عليه وسلم) وتولى الصديق "أبو بكر"، خلافة المسلمين، فكان عمر بن الخطاب، وزيره ومستشاره الأمين، وحمل عنه عبء القضاء فقام به خير قيام، وكان "عمر" يخفي وراء شدته، رقة ووداعة ورحمة عظيمة، وكأنه يجعل من تلك الشدة والغلظة والصرامة ستارًا يخفي وراءه كل ذلك الفيض من المشاعر الإنسانية العظيمة التي يعدها كثير من الناس ضعفًا لا يليق بالرجال لا سيما القادة والزعماء، ولكن ذلك السياج الذي أحاط به "عمر" نفسه ما لبث أن ذاب، وتبدد بعد أن ولي خلافة المسلمين عقب وفاة الصديق.

الفاروق يواجه الخطر الخارجي

بويع أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" خليفة للمسلمين في اليوم التالي لوفاة "أبي بكر الصديق" [ 22 من جمادى الآخرة 13 هـ: 23 من أغسطس 632م].

وبدأ الخليفة الجديد يواجه الصعاب والتحديات التي قابلته منذ اللحظة الأولى وبخاصة الموقف الحربي الدقيق لقوات المسلمين بالشام، فأرسل على الفور جيشًا إلى العراق بقيادة أبي عبيدة بن مسعود الثقفي" الذي دخل في معركة متعجلة مع الفرس دون أن يرتب قواته، ولم يستمع إلى نصيحة قادة جيشه الذين نبهوه إلى خطورة عبور جسر نهر الفرات، وأشاروا عليه بأن يدع الفرس يعبرون إليه؛ لأن موقف قوات المسلمين غربي النهر أفضل، حتى إذا ما تحقق للمسلمين النصر عبروا الجسر بسهولة، ولكن "أبا عبيدة" لم يستجب لهم، وهو ما أدى إلى هزيمة المسلمين في موقعة الجسر، واستشهاد أبي عبيدة وأربعة آلاف من جيش المسلمين.

الفتوحات الإسلامية في عهد الفاروق

بعد تلك الهزيمة التي لحقت بالمسلمين "في موقعة الجسر" سعى "المثنى بن حارثة" إلى رفع الروح المعنوية لجيش المسلمين في محاولة لمحو آثار الهزيمة، ومن ثم فقد عمل على استدراج قوات الفرس للعبور غربي النهر، ونجح في دفعهم إلى العبور بعد أن غرهم ذلك النصر السريع الذي حققوه على المسلمين، ففاجأهم "المثنى" بقواته فألحق بهم هزيمة منكرة على حافة نهر "البويب" الذي سميت به تلك المعركة.

ووصلت أنباء ذلك النصر إلى "الفاروق" في "المدينة"، فأراد الخروج بنفسه على رأس جيش لقتال الفرس، ولكن الصحابة أشاروا عليه أن يختار واحدًا غيره من قادة المسلمين ليكون على رأس الجيش، ورشحوا له "سعد بن أبي وقاص" فأمره "عمر" على الجيش الذي اتجه إلى الشام حيث عسكر في "القادسية".

وأرسل "سعد" وفدًا من رجاله إلى "بروجرد الثالث" ملك الفرس؛ ليعرض عليه الإسلام على أن يبقى في ملكه ويخيره بين ذلك أو الجزية أو الحرب، ولكن الملك قابل الوفد بصلف وغرور وأبى إلا الحرب، فدارت الحرب بين الفريقين، واستمرت المعركة أربعة أيام حتى أسفرت عن انتصار المسلمين في "القادسية"، ومني جيش الفرس بهزيمة ساحقة، وقتل قائده "رستم"، وكانت هذه المعركة من أهم المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي، فقد أعادت "العراق" إلى العرب والمسلمين بعد أن خضع لسيطرة الفرس قرونًا طويلة، وفتح ذلك النصر الطريق أمام المسلمين للمزيد من الفتوحات.

الطريق من المدائن إلى نهاوند

أصبح الطريق إلى "المدائن" عاصمة الفرس ـ ممهدًا أمام المسلمين، فأسرعوا بعبور نهر "دجلة" واقتحموا المدائن، بعد أن فر منها الملك الفارسي، ودخل "سعد" القصر الأبيض ـ مقر ملك الأكاسرة ـ فصلى في إيوان كسرى صلاة الشكر لله على ما أنعم عليهم من النصر العظيم، وأرسل "سعد" إلى "عمر" يبشره بالنصر، ويسوق إليه ما غنمه المسلمون من غنائم وأسلاب.

بعد فرار ملك الفرس من "المدائن" اتجه إلى "نهاوند" حيث احتشد في جموع هائلة بلغت مائتي ألف جندي، فلما علم عمر بذلك استشار أصحابه، فأشاروا عليه بتجهيز جيش لردع الفرس والقضاء عليهم فبل أن ينقضوا على المسلمين، فأرس عمر جيشًا كبيرًا بقيادة النعمان بن مقرن على رأس أربعين ألف مقاتل فاتجه إلى "نهاوند"، ودارت معركة كبيرة انتهت بانتصار المسلمين وإلحاق هزيمة ساحقة بالفرس، فتفرقوا وتشتت جمعهم بعد هذا النصر العظيم الذي أطلق عليه "فتح الفتوح".

فتح مصر

اتسعت أركان الإمبراطورية الإسلامية في عهد الفاروق عمر، خاصة بعد القضاء نهائيًا على الإمبراطورية الفارسية في "القادسية" ونهاوند ـ فاستطاع فتح الشام وفلسطين، واتجهت جيوش المسلمين غربًا نحو أفريقيا، حيث تمكن "عمرو بن العاص" من فتح "مصر" في أربعة آلاف مقاتل، فدخل العريش دون قتال، ثم فتح الفرما بعد معركة سريعة مع حاميتها، الرومية، واتجه إلى بلبيس فهزم جيش الرومان بقيادة "أرطبون" ثم حاصر "حصن بابليون" حتى فتحه، واتجه بعد ذلك إلى "الإسكندرية" ففتحها، وفي نحو عامين أصبحت "مصر" كلها جزءًا من الإمبراطورية الإسلامية العظيمة.

وكان فتح "مصر" سهلاً ميسورًا، فإن أهل "مصر" ـ من القبط ـ لم يحاربوا المسلمين الفاتحين، وإنما ساعدوهم وقدموا لهم كل العون؛ لأنهم وجدوا فيهم الخلاص والنجاة من حكم الرومان الطغاة الذين أذاقوهم ألوان الاضطهاد وصنوف الكبت والاستبداد، وأرهقوهم بالضرائب الكثيرة.

عمر أمير المؤمنين

كان "عمر بن الخطاب" نموذجًا فريدًا للحاكم الذي يستشعر مسئوليته أمام الله وأمام الأمة، فقد كان مثالا نادرًا للزهد والورع، والتواضع والإحساس بثقل التبعة وخطورة مسئولية الحكم، حتى إنه كان يخرج ليلا يتفقد أحوال المسلمين، ويلتمس حاجات رعيته التي استودعه الله أمانتها، وله في ذلك قصص عجيبة وأخبار طريفة، من ذلك ما روي أنه بينما كان يعس بالمدينة إذا بخيمة يصدر منها أنين امرأة، فلما اقترب رأى رجلا قاعدًا فاقترب منه وسلم عليه، وسأله عن خبره، فعلم أنه جاء من البادية، وأن امرأته جاءها المخاض وليس عندها أحد، فانطلق عمر إلى بيته فقال لامرأته "أم كلثوم بنت علي" ـ هل لك في أجر ساقه الله إليك؟ فقالت: وما هو؟ قال: امرأة غريبة تمخض وليس عندها أحد ـ قالت نعم إن شئت فانطلقت معه، وحملت إليها ما تحتاجه من سمن وحبوب وطعام، فدخلت على المرأة، وراح عمر يوقد النار حتى انبعث الدخان من لحيته، والرجل ينظر إليه متعجبًا وهو لا يعرفه، فلما ولدت المرأة نادت أم كلثوم "عمر" يا أمير المؤمنين، بشر صاحبك بغلام، فلما سمع الرجل أخذ يتراجع وقد أخذته الهيبة والدهشة، فسكن عمر من روعه وحمل الطعام إلى زوجته لتطعم امرأة الرجل، ثم قام ووضع شيئًا من الطعام بين يدي الرجل وهو يقول له: كل ويحك فإنك قد سهرت الليل!

وكان "عمر" عفيفًا مترفعًا عن أموال المسلمين، حتى إنه جعل نفقته ونفقة عياله كل يوم درهمين، في الوقت الذي كان يأتيه الخراج لا يدري له عدا فيفرقه على المسلمين، ولا يبقي لنفسه منه شيئا.

وكان يقول: أنزلت مال الله مني منزلة مال اليتيم، فإن استغنيت عففت عنه، وإن افتقرت أكلت بالمعروف.

وخرج يومًا حتى أتى المنبر، وكان قد اشتكى ألمًا في بطنه فوصف له العسل، وكان في بيت المال آنية منه، فقال يستأذن الرعية: إن أذنتم لي فيها أخذتها، وإلا فإنها علي حرام، فأذنوا له فيها.

عدل عمر وورعه

كان عمر دائم الرقابة لله في نفسه وفي عماله وفي رعيته، بل إنه ليشعر بوطأة المسئولية عليه حتى تجاه البهائم العجماء فيقول: "والله لو أن بغلة عثرت بشط الفرات لكنت مسئولا عنها أمام الله، لماذا لم أعبد لها الطريق".

وكان "عمر" إذا بعث عاملاً كتب ماله، حتى يحاسبه إذا ما استعفاه أو عزله عن ثروته وأمواله، وكان يدقق الاختيار لمن يتولون أمور الرعية، أو يتعرضون لحوائج المسلمين، ويعد نفسه شريكًا لهم في أفعالهم.

واستشعر عمر خطورة الحكم والمسئولية، فكان إذا أتاه الخصمان برك على ركبته وقال: اللهم أعني عليهم، فإن كل واحد منهما يريدني على ديني.

وقد بلغ من شدة عدل عمر وورعه أنه لما أقام "عمرو بن العاص" الحد على "عبد الرحمن بن عمر" في شرب الخمر، نهره وهدده بالعزل؛ لأنه لم يقم عليه الحد علانية أمام الناس، وأمره أن يرسل إليه ولده "عبد الرحمن" فلما دخل عليه وكان ضعيفًا منهكًا من الجلد، أمر "عمر" بإقامة الحد عليه مرة أخرى علانية، وتدخل بعض الصحابة ليقنعوه بأنه قد أقيم عليه الحد مرة فلا يقام عليه ثانية، ولكنه عنفهم، وضربه ثانية و"عبد الرحمن" يصيح: أنا مريض وأنت قاتلي، فلا يصغي إليه. وبعد أن ضربه حبسه فمرض فمات!!

إنجازات عمر الإدارية والحضارية

وقد اتسم عهد الفاروق "عمر" بالعديد من الإنجازات الإدارية والحضارية، لعل من أهمها أنه أول من اتخذ الهجرة مبدأ للتاريخ الإسلامي، كما أنه أول من دون الدواوين، وقد اقتبس هذا النظام من الفرس، وهو أول من اتخذ بيت المال، وأول من اهتم بإنشاء المدن الجديدة، وهو ما كان يطلق عليه "تمصير الأمصار"، وكانت أول توسعة لمسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) في عهده، فأدخل فيه دار "العباس بن عبد المطلب"، وفرشه بالحجارة الصغيرة، كما أنه أول من قنن الجزية على أهل الذمة، فأعفى منها الشيوخ والنساء والأطفال، وجعلها ثمانية وأربعين درهمًا على الأغنياء، وأربعة وعشرين على متوسطي الحال، واثني عشر درهمًا على الفقراء.

في سجل الشهداء

وفي فجر يوم الأربعاء [ 26 من ذي الحجة 23 هـ: 3 من نوفمبر 644م] بينما كان الفاروق يصلي بالمسلمين ـ كعادته ـ اخترق "أبو لؤلؤة المجوسي" صفوف المصلين شاهرًا خنجرًا مسمومًا وراح يسدد طعنات حقده الغادرة على الخليفة العادل "عمر بن الخطاب" حتى مزق أحشاءه، فسقط مدرجًا في دمائه وقد أغشي عليه، وقبل أن يتمكن المسلمون من القبض على القاتل طعن نفسه بالخنجر الذي اغتال به "عمر" فمات من فوره ومات معه سر جريمته البشعة الغامضة، وفي اليوم التالي فاضت روح "عمر" بعد أن رشح للمسلمين ستة من العشرة المبشرين بالجنة ليختاروا منهم الخليفة الجديد.

منقول

عبدالغفور الخطيب
20-07-2006, 04:01 AM
الخطيب البغدادي.. يكشف خديعة اليهود

(في ذكرى ميلاده: 24 من جمادى الآخرة 392هـ)


تطورت الكتابة التاريخية عند المسلمين تطورًا هائلاً، وشملت مناحي الحياة المختلفة وسجلت دقائقها، وترجمت لأعلامها، وكان من بين صور التأليف التاريخي التي شاعت منذ منتصف القرن الثالث الهجري ما يُعرف بالتاريخ المحلي؛ حيث يعمد المؤرخ إلى الكتابة عن مدينته، ويؤرخ لها دون غيرها من المدن؛ اعتزازًا بها، وتسجيلا لحركتها الفكرية، وبدأت تظهر سلسلة من تواريخ المدن توفر على كتابتها عدد من أبنائها، حتى أضحت كتابة هذه التواريخ البلدانية تقليدًا لدى العلماء تتوارثه الأجيال.

وتوالت الكتب التي تتناول المدن الكبيرة وحواضر الدول؛ مثل: بغداد، ودمشق، والقاهرة، ومكة، وحلب، وهي كتب تتناول تاريخ هذه المدن –لا على أساس أحداثها السياسية وخلفائها ووزرائها وولاتها-، ولكن على أساس رجالها وعلمائها الذي ملئوا مساجدها ومدارسها درسًا وتأليفًا، وصار الإطار المكاني هو الذي يربط بين علمائها، وجرى تنظيم هذه المؤلفات على أساس الترتيب الألفبائي، وكان من شأن هذه الكتب أنها حفظت لنا الحركة الحضارية وفاعلياتها داخل تلك المدن، ولم تشغل نفسها بالأحداث السياسية وأدوار رجالها.

وكان الخطيب البغدادي ممن أسهموا في هذا الجانب التاريخي بكتابه الكبير "تاريخ بغداد" الذي جمع فيه خلاصة ترجمة العلماء الذين عرفتهم بغداد حتى أواسط القرن الخامس الهجري، وأصبح مثالا احتذى به كل من تطرق إلى التاريخ للمدن مثل ابن عساكر في كتابه "تاريخ دمشق"، وابن العديم في كتابه "بغية الطلب في تاريخ حلب".

المولد والنشأة

في" غزية" من قرى الحجاز ولد أحمد بن علي بن ثابت في يوم الخميس الموافق (24 من جمادى الآخرة 392هـ = 1 من ديسمبر 1534م)، ونشأ في "درزيجان"، وهي قرية تقع جنوب غرب بغداد؛ حيث كان أبوه يتولى الخطابة والإمامة في جامعها لمدة عشرين عامًا، وعُني به أبوه عناية فائقة، فدفع به إلى من أدَّبه وحفظه القرآن، ولما اشتد عوده بدأ يتردد على حلقات العلم في بغداد، وكانت آنذاك تموج حركة ونشاطًا بعلمائها وفقهائها، فالتزم حلقة "أبي الحس بن رزقوية"، وكان محدثًا عظيمًا، له حلقة في جامع المدينة ببغداد، وتردد على حلقة أبي بكر البرقاني، وكان مبرزًا في علم الحديث، فسمع منه وأجازه، واتصل بالفقيه الشافعي الكبير "أبي حامد الإسفرائيني"، وتتلمذ على يديْه، كما التقى بالعلماء الواردين على بغداد، وأخذ عنهم.

الرحلة في طلب العلم

كانت الرحلة في طلب العلم من التقاليد عند علماء المسلمين؛ فبعد أن ينهل الطالب من علماء بلدته والبلدان المحيطة يبدأ في الاستعداد للرحلة إلى الحواضر الكبرى، وقد ألف الخطيب البغدادي رسالة في هذا الموضوع باسم "كتاب الرحلة في طلب الحديث"، أورد فيه الأحاديث والآثار التي جاءت في فضل الرحلة، وسجل رحلات الصحابة والتابعيين ومن جاء بعدهم، وبيَّن الغرض من الرحلة وهو تحصيل علو الإسناد، ولقاء الحفاظ والمذاكرة معهم.

كانت البصرة هي المدينة التي قصدها، وهو في العشرين من عمره في سنة (412 هـ= 1021م) والتقى بعلمائها الكبار وأخذ عنهم، ثم عاد إلى بغداد في السنة نفسها، وبدأ اسمه في الذيوع والانتشار، ثم عاود الرحلة بعد مضي ثلاث سنوات على رحلته الأولى، واتجه إلى نيسان بمشورة شيخه أبي بكر البرقاني سنة (415هـ=1024م)، وفي طريقه إليها مر بمدن كثيرة كانت من مراكز الثقافة وحواضر العلم، فنزل بها وأخذ عن شيوخها، حتى إذا استقر بنيسابور بدأ في الاتصال بعلمائها وشيوخها، فأخذ عن أبي حازم عمر بن أحمد العبدوي، وأبي سعيد بن محمد بن موسى بن الفضل بن ساذان، وأبي بكر أحمد بن الحسن الحرشي، وصاعد بن محمد الاستوائي وغيرهم، ثم عاد إلى بغداد.

ثم عاود الرحلة إلى أصبهان سنة (421 هـ=1030م)، واتصل بأبي نعيم الأصبهاني صاحب "حلية الأولياء"، فلازمه وروى عنه، كما روى عن عدد من العلماء والمحدثين، وأخذ عنهم رواياتهم، وكر راجعًا إلى بغداد، واستقر بها مدة طويلة.

كشف خدع اليهود

أصبح الخطيب البغدادي معقد الآمال في بغداد، ومقصد الطلاب من كل مكان، وموضع احترام الناس وتقديرهم، يلجئون إليه في الملمات، وحدث أن أظهر بعض اليهود في سنة (447هـ=1055م) كتابًا ادعوا فيه أنه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة، وذكروا أن خط علي فيه، فلما أُرسل الكتاب إلى وزير الخليفة القائم بأمر الله عرضه على الخطيب البغدادي، فتأمله ثم قال: هذا مزوَّر؛ فلما قيل له: كيف عرفت ذلك؟ قال: من شهادة معاوية؛ فهو أسلم عام الفتح سنة (8 هـ= 629م)، وفُتحت خيبر في سنة (7هـ= 628م)، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات يوم بني قريظة قبل خيبر بسنتين، فاستحسن الوزير ذلك من الخطيب، ولم يُجزهم الوزير على ما جاء في الكتاب، وأخذ منهم الجزية.

وما قام به الخطيب دليل على سعة علمه وتبحره في التاريخ، ومعرفته الدقيقة بالرجال والنقد التاريخي، والبصر الدقيق بالسند والمتن، وقد رفعت هذه الحادثة مكانته عند وزير الخليفة؛ فجعله مرجع الخطباء والوعاظ في الحديث؛ فلا يروون حديثًا حتى يعرضوه عليه؛ ليرى درجته ومبلغ صحته وضعفه؛ فإن كان صحيحًا أذاعوه، وإن كان ضعيفًا ردوه.

معاودة الرحلة

ظل الخطيب في بغداد حتى سنة (451هـ= 1059م) عاكفًا على التأليف، مشتغلا بتدريس الحديث وإملائه بمسجد المنصور، ثم غادرها إلى "دمشق" تسبقه شهرته الواسعة، وكان قد سبق له أن زارها كثيرًا قبل هذه الرحلة، لكنه في هذه المرة طالت به فترة إقامته، وكان يعقد مجلسه في الجامع الأموي؛ يحدث بمصنفاته ومروياته وسط حشد هائل من تلاميذه وطلبة العلم ومحبيه، وكانت دمشق آنذاك تابعة للدولة الفاطمية، فسعى الوشاة إلى إحداث وقيعة بينه وبين الفاطميين، واستندوا إلى أنه يحدث بكتاب "فضائل الصحابة الأربعة" للإمام أحمد بن حنبل وفضائل العباس لأبي الحسن بن رزقويه، وكادت الوشاية تؤدي إلى قتله لولا تدخل بعض العارفين لقدر الإمام، فعملوا على إخراجه من دمشق، وتوجه إلى صور سنة (459هـ=1066م) وكان يحدث بجامعها، ويزور القدس ويعود ثانية، ثم غادر "صور" بعد أن مكث بها فترة طويلة، وقصد "طرابلس" سنة (462هـ= 1069م)، ثم اتجه إلى حلب، ثم عاد في السنة نفسها إلى بغداد بعد غياب طويل عنها دام نحو أحد عشر عامًا، فوصلها في (ذي الحجة 462هـ=1069م)، واستأنف سيرته العلمية.

أستاذ لشيوخه

اشتهر الخطيب بكثرة مروياته وسعة علمه؛ فروى عنه كثيرون، بعضهم كان من شيوخه، مثل شيخه أحمد بن محمد البرقاني، وأبي القاسم الأزهري، وبعضهم من زملائه وأقرانه مثل أبي إسحاق الشيرازي، والحافظ ابن ماكولا، وأبي عبد الله الحميدي الأندلسي. أما طلابه وتلاميذه فكثيرون، منهم: عبد الكريم بن حمزة مسند الشام، وأبي بكر المرزقي، وهبة الله الأكفاني، وأبي زكريا يحيى بن علي المعروف بالخطيب التبريزي، وأبي الوفاء علي بن عقيل الفقيه المعروف.

مؤلفاته

قضى الخطيب عمره في طلب العلم، والرحلة إلى شيوخه، يأخذ عنهم مصنفاتهم ومروياتهم، وعني بالحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والأدب والتاريخ والأخبار، وإن كانت شهرته باعتباره حافظًا قد غلبت عليه؛ لأن عنايته بالحديث وعلومه قد استأثرت بمعظم جهوده، ويتضح ذلك من قائمة مؤلفاته؛ حيث تحتل كتب الحديث وعلومه المرتبة الأولى من بينها.

ويبلغ مجموع مؤلفاته ستة وثمانين كتابًا، يأتي في مقدمتها:

"الكفاية في علم الرواية"، وهو من أهم الكتب التي أُلفت في علم مصطلح الحديث؛ حيث اشتمل على فنون هذا العلم ومصطلحاته المستعملة في كتب الحديث وتحديد معانيها بدقة، وقد استفاد بالكتاب كل من تعرض لهذا العلم الجليل مثل القاضي عياض، وابن الصلاح. "الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع" تناول فيه آداب طالب علم الحديث، وهيئته وكيفية تعامله مع شيخه، وسلوكه في حضرة مجلسه، وتعرض لمظهره وكلامه ومشيه ومجلسه، وبيَّن آداب معاملة الشيخ لتلاميذه وتوقيره لهم، وتعرض لمظهره وكلامه ومشيه ومجلسه، وتحرِّيه الصدق، واختياره الرواية من أصل مكتوب، وما يلزمه معرفته من النحو والصرف؛ وذكر صفة مجلس المحدث ووقته وموضعه، وغير ذلك من مباحث الكتاب.

وله أيضًا "شرف أصحاب الحديث"، و"نصيحة أهل الحديث"، و"تقييد العلم"، و"الرحلة في طلب الحديث"، و"موضع أوهام الجمع والتفريق"، وهذه الكتب مطبوعة متداولة.

تاريخ بغداد

يُعد "تاريخ بغداد" أضخم مؤلفات الخطيب البغدادي وأهمها وأكثرها شهرة، جمع فيه تراجم لعلماء بغداد الذين من أهلها أو الذين نزلوها زائرين من العلماء والرجال البارزين في كل فن وميدان، متخذًا قاعدة "أن كل من دخل بغداد فهو بغدادي".

ولم يكن الخطيب البغدادي هو أول من طرق هذا الموضوع، ووضع فيه كتابه المعروف بل سبقه إلى التأليف في تاريخ بغداد عدد من المؤلفين، من أمثال: أحمد بن الطيب السرخسي وأبي سهل يزدجرد بن مهبندار الذي كتب كتابًا في وصف بغداد وخططها وعدد شوارعها وحماماتها، وقد وضع الخطيب مقدمة مفصلة لكتابه تناولت خطط مدينة بغداد وبناءها وأقسامها ودورها وأحياءها ومساجدها، ثم بدأ في الترجمة لأعلامها مبتدئًا بالمحمدين، تبركًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم التزم بعد ذلك الترتيب الألفبائي في إيراد الأعلام.

ويضم الكتاب المطبوع 7831 ترجمة، معظمها يخص المحدثين والفقهاء، وتبلغ تراجم رجال الحديث نحو خمسة آلاف ترجمة، وبقية التراجم تخص أرباب العلوم الأخرى ورجالات الدولة والمجتمع، واستخدم المؤلف الإسناد عند سرد الروايات سواء كانت تتصل بالحديث ورجاله أم بالتاريخ والأدب.

وقد لقي الكتاب اهتمامًا واسعا من العلماء، وصار النموذج الذي قلده المؤلفون من بعده في وضع تواريخ المدن الأخرى، ودفع المؤرخين اللاحقين إلى متابعة عمل الخطيب، فألفوا ذيولا على تاريخ بغداد، واستمر ذلك لفترة طويلة، وفي الوقت نفسه اعتمد المؤلفون على هذا الكتاب ينقلون عنه عدة قرون، وصدقت الكلمة التي قالها ابن خلكان في الخطيب البغدادي: "لو لم يكن له إلا التاريخ لكفاه".

وفاته

بعد عودة الخطيب البغدادي من الشام واستقراره سنة (462هـ=1069م) قام بالتدريس في حلقته بجامع المنصور، واجتمع حوله طلابه وأصحابه، غير أن حياته لم تطُل، فلقي ربه في (7 من ذي الحجة 463م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
21-07-2006, 01:57 AM
أبو زكريا الحفصي.. وقيام الدولة الحفصية

(في ذكرى وفاته: 25 من جمادى الآخرة 674هـ)

كانت هزيمة الموحِّدين في معركة العقاب بالأندلس سنة (609هـ = 1212م) نذيرًا بهبوط دولتهم وتدهور قوتهم، فلم تكن هزيمة تحل بدولة ثم ما تلبث أن تسترد عافيتها، ولكنها كانت كارثة مدوِّية، فقدت الدولة زهرة شبابها وخلاصة جندها الشجعان، وخسرت روحها الفتية المقاتلة وعزيمتها الماضية، وسرعان ما دب الضعف في كيان الدولة المترامي الأطراف في المغرب والأندلس، وظهر خلفاء ضعاف لا يملكون الشخصية القوية والإدارة الحازمة، فانفلت منهم زمام الأمور، وضعفت قبضتهم على إدارة الدولة، وأخفقت محاولاتهم في إعادة الأمن والاستقرار للدولة، ونشأ عن ذلك أن استغلت القبائل المغربية هذه الفرصة السانحة، وأقاموا عدة دول بسطت نفوذها وسلطانها في منطقة المغرب، فقامت دولة بني مرين بالمغرب الأقصى (668هـ – 896هـ = 1269 - 1465م)، ودولة بني زيان بالمغرب الأوسط - الجزائر وتلمسان - (637 - 962هـ = 1239 - 1555م)، والدولة الحفصية بأفريقية (تونس).

أصل الحفصيين

ينتسب الحفصيون إلى الشيخ أبي حفص يحيى بن عمرو الذي ينتمي إلى قبيلة هنتانة، أعظم قبائل مصمودة التي عاشت بالمغرب الأقصى، واتخذت المعامل والحصون، وشيَّدت المباني والقصور، وامتهنت الفلاحة وزراعة الأرض، وكان للشيخ أبي حفص مكانة سامية في دولة الموحدين التي أقامها عبد المؤمن علي الكومي، وسبق أن تناولنا قيامها في ذكرى وفاة مؤسسها في (10 من جمادى الآخرة سنة 558هـ)، وكان لأولاد أبي حفص وأحفاده منزلة رفيعة في الدولة، وعهد إليهم بمهام جليلة، وتقلَّبوا في مناصب الإدارة في المغرب والأندلس.

وبعد أن تولَّى أمر الدولة الموحدية "أبو محمد العادل بن أبي يوسف يعقوب المنصور" سنة (621 هـ = 1224م) عهد بولاية إفريقية إلى أبي محمد عبد الله بن عبد الواحد بن أبي حفص، وكان في صحبته أخوه أبو زكريا، وقام الوالي الجديد بإعادة الهدوء والاستقرار بعد أن عكَّرت صفوها الفتن والثورات، وقام بحملات على الخارجين على سلطان الدولة، وما كادت الأمور تستقر حتى قفز على منصب الخلافة الموحدية أبو العلاء إدريس المأمون سنة (624هـ = 1227م) بعد ثورة قادها ضد أخيه أبي محمد العادل، فرفض أبو محمد عبد الله الحفصي بيعته والدخول في طاعته، فما كان من الخليفة الجديد إلا أن كتب بولاية أفريقية إلى أبي زكريا يحيى، فقبلها على الفور وسارع من تونس إلى القيروان، وتغلَّب على أخيه أبي محمد عبد الله، وتولى أمر البلاد سنة (625هـ = 1228م).

أبو زكريا الحفصي مؤسس الدولة

كانت سن أبي زكريا يوم بدأ حكمه سبعا وعشرين سنة هجرية، لكن ما أظهره من أول وهلة من براعة ومقدرة كان يدل على ما يتمتع به من نضج سياسي مبكر، ومهارة إدارية فذَّة، وسبق له أن حكم في منطقة إشبيلية بالأندلس، حيث كان واليًا على بعض المقاطعات هناك.

وبعد قليل من ولايته خلع أبو زكريا طاعة أبي العلاء إدريس خليفة الموحدين، ولكنه لم يَدَع لنفسه بالأمر؛ تحسبًا للموحدين الذين كانوا في ولايته، واتخذ تونس عاصمة له، وبدأ في اكتساب محبة أهل أفريقية باتباع سياسة رشيدة، فأحسن معاملتهم، وخفَّف عنهم أعباء الضرائب، ونظر في أمورهم، وراقب عماله وولاته، واستعان بأهل الخبرة والكفاءة، وقرَّب الفقهاء إليه، فأسلت له البلاد قيادها ودانت له بالطاعة والولاء.

توسيع مساحة ولايته

ثم نهض أبو زكريا لإقرار سلطانه وبسط نفوذه في المناطق المجاورة، فزحف بجيشه إلى قسطنطينة بالجزائر، فدخلها دون صعوبة وخرج أهلها لمبايعته في (شعبان 626هـ = 1229م)، ثم اتجه إلى بجابة ففتحها ودخلت في سلطانه، وبذلك خرجت الولايتان من سلطان دولة الموحدين، وأصبحتا تابعتين لأبي زكريا، ثم طاف بالنواحي الشرقية من ولايته، واستوثق من طاعة أهلها.

وكان ردُّ الخلافة الموحدية على توسعات أبي زكريا على حساب دولتها ضعيفًا للغاية، بل يكاد يكون معدومًا، ولم يستطع الخلفاء الموحدون أن يمنعوا تفكك دولتهم، أو يقضوا على الحركات الانفصالية، فكانت الدولة مشغولة بالفتن والثورات التي تهب في الأندلس، بل في مراكش عاصمة دولتهم.

استقلال الدولة الحفصية

عاد أبو زكريا الحفصي إلى تونس بعد حملته المظفرة، وأعلن على رؤوس الملأ استقلاله بالملك، وانقطاع تبعيته للموحِّدين رسميًّا، وبايع لنفسه بيعة عامة سنة (634هـ = 1236م) وضرب السكَّة باسمه، وأمر أن يُخطب له باسمه على كل منابر بلاده، ثم بايع لابنه أبي يحيى وليًّا للعهد سنة (638هـ = 1246م).

وفي (شوال 639هـ = 1242م) قام على رأس حملة ضخمة قدرها بعض المؤرخين بستين ألف مقاتل، فدخل تلمسان، وأجبر واليها "يغمراسن" على الدخول في طاعته، والخطبة باسمه، كما أدخل في طاعته القبائل العربية والبربرية في المناطق المحيطة.

وكان من أثر ازدياد قوته واتساع نفوذه أن هادنة بنومرين في المغرب الأقصى، وأقيمت الخطبة باسمه في عدد كبير من بلاد الأندلس التي لم تقع في براثن الأسبان، واحتفظت بحريتها واستقلالها مثل: بلنسية، وإشبيلية، وشريش، وغرناطة.

علاقاته الخارجية

أصبحت الدولة الحفصية التي قام عليها مرهوبة الجانب، تسعى الدولة الأوروبية إلى كسب وُدِّها، خاصة التي تربطها بها مصالح اقتصادية وسياسية، فعقد مع البندقية، وبيزة، وجنوة معاهدات صداقة، وسلامة في الفترة ما بين سنتي (628هـ – 636هـ = 1231 -1239م)، وتضمنت هذه المعاهدات ضمان الأمن المتبادل للملاحة، ووضع لوائح للتبادل التجاري، ومنع فرص المسؤولية الجماعية بصورة آلية على النصارى ومصادرة تركاتهم، والاعتراف بقناصلهم.

مساندة مسلمي الأندلس

تطلَّع المسلمون في الأندلس إلى السلطان الحفصي؛ لحمايتهم من ضربات النصارى الأسبان، فاستنجد به (زيان من مردنيش) أمير بلنسية، بعد أن تعرضت لحصار شديد من ملك أرجونة "خايم الأول" وبعث إليه سنة (635هـ = 1238م) بسفارة على رأسها وزيره ابن الأبار الأديب الأندلس، فألقى بين يديه قصيدة مبكية، يستصرخه، فيها لنصرة الأندلس وحماية الدين، وهذا مطلعها:

إن السبيل إلى منجاتها درسا
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

فلم يزل منك عز النصر ملتمسا
وهب لها منعزيز النصر ما التمست

فطال ما ذاقت البلوى صباح مسا
عاش ما تعانيه حشاشتها

للنائبات وأمسى جدها تعسى
يا للجزيرة أضحى أهلها جرزا


وقد تأثر أبو زكريا بهذه القصيدة، وثارت في نفسه أخلاق المروءة والنجدة فبادر بتجهيز أسطول شحنه بالسلاح، والأقوات، والملابس؛ لإنجاد الثغر الأندلسي، وأقلعت على جناح السرعة من ثغر تونس متجهة إلى بلنسية.

ولو قدر لهذه النجدة أن تصل إلى المحصورين، وأن تمدهم بالسلاح والأقوات، لكان من الممكن أن تثبت أقدام الشعب المحاصر وتطول مقاومته، لكن هذه النجدة ما كادت تقترب من مياه الثغر المحاصر حتى طاردتها السفن الأرجونية، ومنعتها من دخول الميناء؛ فاضطرت هذه السفن أن تفرغ شحنتها في "دانية" وتعود أدراجها إلى تونس، ثم ما لبثت المدينة المحاصرة أن استسلمت في (17 من صفر 636هـ = 29 من سبتمبر 1238م).

ازدهار الدولة الحفصية

كان لأبي زكريا عناية بشؤون الاقتصاد بتدبير المال، فامتلأت خزانة الدولة بالأموال حتى إنه ترك 17 مليون دينار عند وفاته للدولة.

وقد استقبلت دولته مسلمي الأندلس الفارين من غزو النصارى، وكان من بينهم مهندسون وحرفيون، يحملون عناصر حضارة راقية، فنقلوا إلى الدولة الحفصية مكونات حضارتهم وثقافتهم، كما تولَّى بعض الأندلسيين المناصب القيادية في الدولة، مثل ابن الأبار الذي تولَّى الكتابة لأبي زكريا الحفصي.

فأدَّى استقرار الدولة وزيادة مواردها المالية بحسن تدبير أبي زكريا إلى العناية بالشؤون الداخلية، فأنشأ أبو زكريا جامع القصبة وصومعته الجميلة في تونس، ونقش عليها اسمه، وأذَّن فيها بنفسه ليلة تمامها في (غرة رمضان 630هـ = 11 من يونيو 1223م)، وبنى مدارس كثيرة، وأنشأ سوق العطَّارين، وأنشأ مكتبة قصر القصبة التي ضمت 36 ألف مجلد.

وفاة أبي زكريا

مما لا شك فيه أن أبا زكريا كان من أبرز رجال القرن السابع الهجري، أنشأ دولة قوية، ونشر الأمن في ربوعها، وقضى على حالة الاضطراب والفتن المزمنة التي لازمت هذه البلاد، وأقام ميزان العدل، وأحسن اختيار الرجال فطال عمرها، وتوالى على حكمها أبناؤه وأحفاده أكثر من ثلاثة قرون، وظلَّ أبو زكريا على شؤون الدولة متوفرًا عليها حتى لقي ربه في (25 من جمادى الآخرة 647هـ = 5 من أكتوبر 1249م).


منقول

عبدالغفور الخطيب
25-07-2006, 05:47 AM
في ذكرى مبايعة الأمير عبد القادر الجزائري أميرا للجهاد 29 جمادى الآخرة 1248 هـ

اعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتكال في ذلك كله".


هذه كلمات المجاهد حين يحكم، والمستضعف حين يتمكن، خرجت قوية صادقة من قلبه الأبيّ حين أُقيمت دولته، وأُعليت رايته، إنه عبد القادر الجزائري…المجاهد الذي ما وجد أهل الجزائر سواه لينصّبوه إمامًا للمجاهدين وهو ابن الخامسة والعشرين، وأرادوه "سلطانًا" فأبى أن يكون إلا "أمير الجهاد".

فهو محط أنظارنا، والجدير باعتبارنا، وهو شخصية تمتلئ حياتها بعبرة لأولى الأبصار وتذكرة لأهل الاعتبار.


من هو الأمير عبد القادر؟


هو عبد القادر ابن الأمير محيي الدين الحسيني، يتصل نسبه بالإمام الحسين بن علي ولد في 23 من رجب عام 1222هـ / مايو 1807م، وذلك بقرية "القيطنة" بوادي الحمام من منطقة "وهران" بالمغرب الأوسط أو الجزائر، ثم انتقل والده إلى مدينة وهران، ولم يكن الوالد هملاً بين الناس، بل كان ممن لا يسكتون على الظلم، فكان من الطبيعي أن يصطدم مع الحاكم العثماني لمدينة "وهران"، وأدى هذا إلى تحديد إقامة الوالد في بيته، فاختار أن يخرج من الجزائر كلها في رحلة طويلة، وكان الإذن له بالخروج لفريضة الحج عام 1241هـ/ 1825م، فخرج الوالد واصطحب ابنه عبد القادر معه، فكانت رحلة عبد القادر إلى تونس ثم مصر ثم الحجاز ثم البلاد الشامية ثم بغداد، ثم العودة إلى الحجاز، ثم العودة إلى الجزائر مارًا بمصر وبرقة وطرابلس ثم تونس، وأخيرًا إلى الجزائر من جديد عام 1828م، فكانت رحلة تعلم ومشاهدة ومعايشة للوطن العربي في هذه الفترة من تاريخه، وما لبث الوالد وابنه أن استقرا في قريتهم "قيطنة"، ولم يمض وقت طويل حتى تعرضت الجزائر لحملة عسكرية فرنسية شرسة، وتمكنت فرنسا من احتلال العاصمة فعلاً في 5 يوليو 1830م، واستسلم الحاكم العثماني سريعًا، ولكن الشعب الجزائري كان له رأي آخر.


فرّق الشقاق بين الزعماء كلمة الشعب، وبحث أهالي وعلماء "وهران" عن زعيم يأخذ اللواء ويبايعون على الجهاد تحت قيادته، واستقر الرأي على "محيي الدين الحسيني" وعرضوا عليه الأمر، ولكن الرجل اعتذر عن الإمارة وقبل قيادة الجهاد، فأرسلوا إلى صاحب المغرب الأقصى ليكونوا تحت إمارته، فقبل السلطان "عبد الرحمن بن هشام" سلطان المغرب، وأرسل ابن عمه "علي بن سليمان" ليكون أميرًا على وهران، وقبل أن تستقر الأمور تدخلت فرنسا مهددة السلطان بالحرب، فانسحب السلطان واستدعى ابن عمه ليعود الوضع إلى نقطة الصفر من جديد، ولما كان محيي الدين قد رضي بمسئولية القيادة العسكرية، فقد التفت حوله الجموع من جديد، وخاصة أنه حقق عدة انتصارات على العدو، وقد كان عبد القادر على رأس الجيش في كثير من هذه الانتصارات، فاقترح الوالد أن يتقدم "عبد القادر" لهذا المنصب، فقبل الحاضرون، وقبل الشاب تحمل هذه المسئولية، وتمت البيعة، ولقبه والده بـ "ناصر الدين" واقترحوا عليه أن يكون "سلطان" ولكنه اختار لقب "الأمير"، وبذلك خرج إلى الوجود الأمير عبد القادر ناصر الدين بن محيي الدين الحسيني، وكان ذلك في 13 رجب 1248هـ/ نوفمبر 1832م.
وحتى تكتمل صورة الأمير عبد القادر، فقد تلقى الشاب مجموعة من العلوم فقد درس الفلسفة (رسائل إخوان الصفا - أرسطو طاليس - فيثاغورس) ودرس الفقه والحديث فدرس صحيح البخاري ومسلم، وقام بتدريسهما، كما تلقى الألفية في النحو، والسنوسية، والعقائد النسفية في التوحيد، وايساغوجي في المنطق، والإتقان في علوم القرآن، وبهذا اكتمل للأمير العلم الشرعي، والعلم العقلي، والرحلة والمشاهدة، والخبرة العسكرية في ميدان القتال، وعلى ذلك فإن الأمير الشاب تكاملت لديه مؤهلات تجعله كفؤًا لهذه المكانة، وقد وجه خطابه الأول إلى كافة العروش قائلاً: "… وقد قبلت بيعتهم (أي أهالي وهران وما حولها) وطاعتهم، كما أني قبلت هذا المنصب مع عدم ميلي إليه، مؤملاً أن يكون واسطة لجمع كلمة المسلمين، ورفع النزاع والخصام بينهم، وتأمين السبل، ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهرة، وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق والعدل نحو القوى والضعيف، واعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتكال في ذلك كله".


دولة الأمير عبد القادر


وقد بادر الأمير عبد القادر بإعداد جيشه، ونزول الميدان ليحقق انتصارات متلاحقة على الفرنسيين، وسعى في ذات الوقت إلى التأليف بين القبائل وفض النزاعات بينها، وقد كانت بطولته في المعارك مثار الإعجاب من العدو والصديق فقد رآه الجميع في موقعة "خنق النطاح" التي أصيبت ملابسه كلها بالرصاص وقُتِل فرسه ومع ذلك استمر في القتال حتى حاز النصر على عدوه، وأمام هذه البطولة اضطرت فرنسا إلى عقد اتفاقية هدنة معه وهي اتفاقية "دي ميشيل" في عام 1834، وبهذه الاتفاقية اعترفت فرنسا بدولة الأمير عبد القادر، وبذلك بدأ الأمير يتجه إلى أحوال البلاد ينظم شؤونها ويعمرها ويطورها، وقد نجح الأمير في تأمين بلاده إلى الدرجة التي عبر عنها مؤرخ فرنسي بقوله: "يستطيع الطفل أن يطوف ملكه منفردًا، على رأسه تاج من ذهب، دون أن يصيبه أذى!!".

وقبل أن يمر عام على الاتفاقية نقض القائد الفرنسي الهدنة، وناصره في هذه المرة بعض القبائل في مواجهة الأمير عبد القادر، ونادى الأمير قي قومه بالجهاد ونظم الجميع صفوف القتال، وكانت المعارك الأولى رسالة قوية لفرنسا وخاصة موقعة "المقطع" حيث نزلت بالقوات الفرنسية هزائم قضت على قوتها الضاربة تحت قيادة "تريزيل" الحاكم الفرنسي.

ولكن فرنسا أرادت الانتقام فأرسلت قوات جديدة وقيادة جديدة، واستطاعت القوات الفرنسية دخول عاصمة الأمير وهي مدينة "المعسكر" وأحرقتها، ولولا مطر غزير أرسله الله في هذا اليوم ما بقى فيها حجر على حجر، ولكن الأمير استطاع تحقيق مجموعة من الانتصارات دفعت فرنسا لتغيير القيادة من جديد ليأتي القائد الفرنسي الماكر الجنرال "بيجو"؛ ولكن الأمير نجح في إحراز نصر على القائد الجديد في منطقة "وادي تفنة" أجبرت القائد الفرنسي على عقد معاهدة هدنة جديدة عُرفت باسم "معاهد تافنة" في عام 1837م.

وعاد الأمير لإصلاح حال بلاده وترميم ما أحدثته المعارك بالحصون والقلاع وتنظيم شؤون البلاد، وفي نفس الوقت كان القائد الفرنسي "بيجو" يستعد بجيوش جديدة، ويكرر الفرنسيون نقض المعاهدة في عام 1839م، وبدأ القائد الفرنسي يلجأ إلى الوحشية في هجومه على المدنيين العزل فقتل النساء والأطفال والشيوخ، وحرق القرى والمدن التي تساند الأمير، واستطاع القائد الفرنسي أن يحقق عدة انتصارات على الأمير عبد القادر، ويضطر الأمير إلى اللجوء إلى بلاد المغرب الأقصى، ويهدد الفرنسيون السلطان المغربي، ولم يستجب السلطان لتهديدهم في أول الأمر ، وساند الأمير في حركته من أجل استرداد وطنه، ولكن الفرنسيين يضربون طنجة وموغادور بالقنابل من البحر، وتحت وطأة الهجوم الفرنسي يضطر السلطان إلى طرد الأمير عبد القادر، بل ويتعهد للفرنسيين بالقبض عليه.

يبدأ الأمير سياسة جديد في حركته، إذ يسارع لتجميع مؤيديه من القبائل، ويصير ديدنه الحركة السريعة بين القبائل فإنه يصبح في مكان ويمسي في مكان آخر حتى لقب باسم "أبا ليلة وأبا نهار"، واستطاع أن يحقق بعض الانتصارات، ولكن فرنسا دعمت قواتها بسرعة، فلجأ مرة ثانية إلى بلاد المغرب، وكانت المفاجأة أن سلطان المغرب وجه قواته لمحاربة الأمير، والحق أن هذا الأمر لم يكن مفاجأة كاملة فقد تعهد السلطان لفرنسا بذلك، ومن ناحية أخرى ورد في بعض الكتابات أن بعض القبائل المغربية راودت الأمير عبد القادر أن تسانده لإزالة السلطان القائم ومبايعته سلطانًا بالمغرب، وعلى الرغم من انتصار الأمير عبد القادر على الجيش المغربي، إلا أن المشكلة الرئيسية أمام الأمير هي الحصول على سلاح لجيشه، ومن ثم أرسل لكل من بريطانيا وأمريكا يطلب المساندة والمدد بالسلاح في مقابل إعطائهم مساحة من سواحل الجزائر: كقواعد عسكرية أو لاستثمارها، وبمثل ذلك تقدم للعرش الإسباني ولكنه لم يتلقَ أي إجابة، وأمام هذا الوضع اضطر في النهاية إلى التفاوض مع القائد الفرنسي "الجنرال لامور يسيار" على الاستسلام على أن يسمح له بالهجرة إلى الإسكندرية أو عكا ومن أراد من اتباعه، وتلقى وعدًا زائفًا بذلك فاستسلم في 23 ديسمبر 1847م، ورحل على ظهر إحدى البوارج الفرنسية، وإذا بالأمير يجد نفسه بعد ثلاثة أيام في ميناء طولون ثم إلى إحدى السجون الحربية الفرنسية، وهكذا انتهت دولة الأمير عبد القادر، وقد خاض الأمير خلال هذه الفترة من حياته حوالي 40 معركة مع الفرنسيين والقبائل المتمردة والسلطان المغربي.

الأمير الأسير


ظل الأمير عبد القادر في سجون فرنسا يعاني من الإهانة والتضييق حتى عام 1852م ثم استدعاه نابليون الثالث بعد توليه الحكم، وأكرم نزله، وأقام له المآدب الفاخرة ليقابل وزراء ووجهاء فرنسا، ويتناول الأمير كافة الشئون السياسية والعسكرية والعلمية، مما أثار إعجاب الجميع بذكائه وخبرته، ودُعي الأمير لكي يتخذ من فرنسا وطنًا ثانيًا له، ولكنه رفض، ورحل إلى الشرق، حيث استنانبول والسلطان عبد المجيد، والتقى فيها بسفراء الدول الأجنبية، ثم استقر به المقام في دمشق منذ عام 1856م وفيها أخذ مكانة بين الوجهاء والعلماء، وقام بالتدريس في المسجد الأموي كما قام بالتدريس قبل ذلك في المدرسة الأشرفية، وفي المدرسة الحقيقية.

وفي عام 1276/1860 تتحرك شرارة الفتنة بين المسلمين والنصارى في منطقة الشام، ويكون للأمير دور فعال في حماية أكثر من 15 ألف من النصارى، إذ استضافهم في منازله.

وفاته

وافاه الأجل بدمشق في منتصف ليلة 19 رجب 1300هـ/ 24 من مايو 1883 عن عمر يناهز 76 عامًا، وقد دفن بجوار الشيخ ابن عربي بالصالحية.

منقول

عبدالغفور الخطيب
26-07-2006, 02:36 AM
المشد.. قصة اغتيال عالم مصري

30 من جمادى الآخرة 1400 ـ ذكرى اغتيال العالم النووي يحيى المشد

في يوم الجمعة 13 يونيه عام 1980 وفى حجرة رقم 941 بفندق الميريديان بباريس عُثر على الدكتور يحيى المشد جثة هامدة مهشمة الرأس ودماؤه تغطي سجادة الحجرة.. وقد أغلق التحقيق الذي قامت به الشرطة الفرنسية على أن الفاعل مجهول!! هذا ما أدت إليه التحقيقات الرسمية التي لم تستطع أن تعلن الحقيقة التي يعرفها كل العالم العربي وهي أن الموساد وراء اغتيال المشد..

والحكاية تبدأ بعد حرب يونيه 1967 عندما توقف البرنامج النووي المصري تماما، ووجد كثير من العلماء والخبراء المصريين في هذا المجال أنفسهم مجمدين عن العمل الجاد، أو مواصلة الأبحاث في مجالهم، وبعد حرب 1973 وبسبب الظروف الاقتصادية لسنوات الاستعداد للحرب أعطيت الأولوية لإعادة بناء المصانع، ومشروعات البنية الأساسية، وتخفيف المعاناة عن جماهير الشعب المصري التي تحملت سنوات مرحلة الصمود وإعادة بناء القوات المسلحة من أجل الحرب، وبالتالي لم يحظ البرنامج النووي المصري في ذلك الوقت بالاهتمام الجاد والكافي الذي يعيد بعث الحياة من جديد في مشروعاته المجمدة.

البداية في العراق

في ذلك الوقت وبالتحديد في مطلع 1975 كان صدام حسين نائب الرئيس العراقي وقتها يملك طموحات كبيرة لامتلاك كافة أسباب القوة؛ فوقّع في 18 نوفمبر عام 1975 اتفاقاً مع فرنسا للتعاون النووي.. من هنا جاء عقد العمل للدكتور يحيى المشد العالم المصري والذي يعد من القلائل البارزين في مجال المشروعات النووية وقتها، ووافق المشد على العرض العراقي لتوافر الإمكانيات والأجهزة العلمية والإنفاق السخي على مشروعات البرنامج النووي العراقي.

النشأة والتكوين

والدكتور يحيى أمين المشد من مواليد عام 1932، قضى حياته في الإسكندرية، وتخرج في كلية الهندسة قسم كهرباء، جامعة الإسكندرية عام 1952، بُعث إلى الاتحاد السوفيتي؛ لدراسة هندسة المفاعلات النووية عام 1956، ثم أسند إليه القيام ببعض الأبحاث في قسم المفاعلات النووية بهيئة الطاقة النووية في مصر، وسافر إلى النرويج عامي 63 و1964 لعمل بعض الدراسات، ثم انضم بعد ذلك للعمل كأستاذ مساعد ثم كأستاذ بكلية الهندسة بجامعة الإسكندرية.

وأشرف الدكتور المشد في فترة تدريسه بالكلية على أكثر من 30 رسالة دكتوراه، ونُشر باسمه خمسون بحثاً علميًّا، تركزت معظمها على تصميم المفاعلات النووية ومجال التحكم في المعاملات النووية، وكعادة الاغتيالات دائما ما تحاط بالتعتيم الإعلامي والسرية والشكوك المتعددة حول طريقة الاغتيال.

ملابسات الاغتيال

أول ما نسبوه للمشد أن الموساد استطاع اغتياله عن طريق مومس فرنسية، إلا أنه ثبت عدم صحة هذا الكلام؛ حيث إن "ماري كلود ماجال" أو "ماري إكسبريس" كشهرتها –الشاهدة الوحيدة- وهي امرأة ليل فرنسية كانت تريد أن تقضي معه سهرة ممتعة، أكدت في شهادتها أنه رفض تمامًا مجرد التحدث معها، وأنها ظلت تقف أمام غرفته لعله يغيّر رأيه؛ حتى سمعت ضجة بالحجرة.. ثم اغتيلت أيضاً هذه الشاهدة الوحيدة.

كما تدافع عنه وبشدة زوجته "زنوبة علي الخشاني" حيث قالت: "يحيى كان رجلا محترما بكل معنى الكلمة، وأخلاقه لا يختلف عليها اثنان، ويحيى قبل أن يكون زوجي فهو ابن عمتي، تربينا سويًّا منذ الصغر؛ ولذلك أنا أعلم جيدًا أخلاقه، ولم يكن له في هذه "السكك" حتى إنه لم يكن يسهر خارج المنزل، إنما كان من عمله لمنزله والعكس…".

وقيل أيضاً: إن هناك شخصاً ما استطاع الدخول إلى حجرته بالفندق وانتظره حتى يأتي، ثم قتله عن طريق ضربه على رأسه، وإذا كان بعض الصحفيين اليهود قد دافعوا عن الموساد قائلين: إن جهاز الموساد لا يستخدم مثل هذه الأساليب في القتل؛ فالرد دائماً يأتي: ولماذا لا يكون هذا الأسلوب اتُّبع لكي تبتعد الشبهات عن الموساد؟!

ودليل ذلك أن المفاعل العراقي تم تفجيره بعد شهرين من مقتل المشد، والغريب أيضا والمثير للشكوك أن الفرنسيين صمّموا على أن يأتي المشد بنفسه ليتسلم شحنة اليورانيوم، رغم أن هذا عمل يقوم به أي مهندس عادي كما ذكر لهم في العراق بناء على رواية زوجته، إلا أنهم في العراق وثقوا فيه بعدما استطاع كشف أن شحنة اليورانيوم التي أرسلت من فرنسا غير مطابقة للمواصفات، وبالتالي أكدوا له أن سفره له أهمية كبرى.

السياسة والصداقة

الغريب أنه بعد رجوع أسرة المشد من العراق؛ قاموا بعمل جنازة للراحل، ولم يحضر الجنازة أي من المسئولين أو زملاؤه بكلية الهندسة إلا قلة معدودة.. حيث إن العلاقات المصرية العراقية وقتها لم تكن على ما يرام بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وأصبحت أسرة المشد الآتية من العراق لا تعرف ماذا تفعل بعد رحيل المشد، لولا المعاش الذي كانت تصرفه دولة العراق والذي صرف بناء على أوامر من صدام حسين مدى الحياة (رغم أنه توقف بعد حرب الخليج).. ومعاش ضئيل من الشئون الاجتماعية التي لم تراع وضع الأسرة أو وضع العالم الكبير.

كما أن الإعلام المصري لم يسلط الضوء بما يكفي على قصة اغتيال المشد رغم أهميتها، ولعل توقيت هذه القصة وسط أحداث سياسية شاحنة جعلها أقل أهمية مقارنة بهذه الأحداث!!

وبقي ملف المشد مقفولاً، وبقيت نتيجة التحريات أن الفاعل مجهول.. وأصبح المشد واحداً من سلسلة من علماء العرب المتميزين الذين تم تصفيتهم على يد الموساد.. وما زال المسلسل مستمراً..!!


منقول

عبدالغفور الخطيب
28-07-2006, 02:18 AM
جالديران.. الطريق إلى المشرق الإسلامي

(في ذكرى نشوبها: 2 رجب 920هـ)


كانت معركة "جالديران" من المعارك الفاصلة في تاريخ الدولة العثمانية؛ فقد استطاع السلطان العثماني التاسع "سليم الأول" بانتصاره على "الصفويين" في سهول "جالديران" أن يحقق لدولته الأمان من عدو طالما شكل خطرًا داهمًا على وحدتها واستقرارها.

كان السلطان "بايزيد الثاني" والد السلطان "سليم الأول" ميالا إلى البساطة في حياته، محبًا للتأمل والسلام؛ ولذلك فقد أطلق عليه بعض المؤرخين العثمانيين لقب "الصوفي"، وقد تمرد عليه أبناؤه الثلاثة في أواخر حكمه، واستطاع "سليم الأول" بمساعدة الإنكشارية أن يخلع أباه وينفرد بالحكم، ثم بدأ حملة واسعة للتخلص من المعارضين والعمل على استقرار الحكم، وإحكام قبضته على مقاليد الأمور في الدولة.

وقد اتسم السلطان "سليم" بكثير من الصفات التي أهَّلته للقيادة والزعامة؛ فهو –بالإضافة إلى ما يتمتع به من الحيوية الذهنية والجسدية- كان شديد الصرامة، يأخذ نفسه بالقسوة في كثير من الأمور، خاصة فيما يتعلق بأمور الدولة والحكم.

وبرغم ما كان عليه من القسوة والعنف فإنه كان محبًا للعلم، يميل إلى صحبة العلماء والأدباء، وله اهتمام خاص بالتاريخ والشعر الفارسي.

التحول الصفوي

اهتم السلطان "سليم الأول" منذ الوهلة الأولى بتأمين الحدود الشرقية للدولة ضد أخطار الغزو الخارجي الذي يتهددها من قِبل الصفويين -حكام فارس- الذين بدأ نفوذهم يزداد، ويتفاقم خطرهم، وتعدد تحرشهم بالدولة العثمانية.

وقد بدأت الحركة الصفوية كحركة صوفية منذ أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، ولكنها انتقلت من التأمل الصوفي إلى العقيدة الشيعية المناضلة منذ أواسط القرن الخامس عشر الميلادي، حتى استطاع الشاه "إسماعيل" -ابن آخر الزعماء الصفويين- أن يستولي على الحكم، ويكوِّن دولته بمساندة قبائل التركمان التي توافدت بالآلاف للانضمام إليه.

وحظي "إسماعيل الصفوي" بكثير من الاحترام والتقدير اللذين يصلان إلى حد التقديس، وكانت له كلمة نافذة على أتباعه، ومن ثَمَّ فقد قرر أن يمد نفوذه إلى الأراضي العثمانية المتاخمة لدولته في شرقي الأناضول.

وبدأ "إسماعيل" خطته بإرسال مئات من الدعاة الصفويين إلى الأناضول، فعملوا على نشر الدعوة الشيعية في أوساط الرعاة التركمان، وحققوا في ذلك نجاحًا كبيرًا.

تصاعد الخطر

وبالرغم من شعور السلطان "سليم" بتوغل المذهب الشيعي واستشعاره الخطر السياسي الذي تحتله تلك الدعوة باعتبارها تمثل تحديًا أساسيًا للمبادئ السُّنِّية التي تقوم عليها الخلافة العثمانية، فإن السلطان لم يبادر بالتصدي لهم إلا بعد أن اطمأنَّ إلى تأمين الجبهة الداخلية لدولته، وقضى تمامًا على كل مصادر القلاقل والفتن التي تهددها.

وبدأ "سليم" يستعد لمواجهة الخطر الخارجي الذي يمثله النفوذ الشيعي؛ فاهتم بزيادة عدد قواته من الانكشارية حتى بلغ عددهم نحو خمسة وثلاثين ألفًا، وزاد في رواتبهم، وعُني بتدريبهم وتسليحهم بالأسلحة النارية المتطورة.

وأراد السلطان "سليم الأول" أن يختبر قواته من الانكشارية، فخاض بها عدة معارك ناجحة ضد "الصفويين" في "الأناضول" و"جورجيا".

سليم يقرع طبول الحرب

وبعد أن اطمأنَّ السلطان "سليم" إلى استعداد قواته للمعركة الفاصلة بدأ يسعى لإيجاد ذريعة للحرب ضد الصفويين، ووجد السلطان بغيته في التغلغل الشيعي الذي انتشر في أطراف الدولة العثمانية، فأمر بحصر أعداد الشيعة المنتشرين في الولايات المتاخمة لبلاد العجم بصورة سرية، ثم أمر بقتلهم جميعًا في مذبحة رهيبة بلغ عدد ضحاياها نحو أربعين ألفًا.

وفي أعقاب تلك المذبحة أعلن السلطان "سليم" الحرب على الصفويين، وتحرك على رأس جيش تبلغ قوته مائة وأربعين ألف مقاتل من مدينة "أدرنه" في [ 22 من المحرم 920هـ= 19 من مارس 1514م] فسار بجيشه حتى وصل "قونية" في [7 من ربيع الآخر 920= 1 من يونيو 1514م] فاستراح لمدة ثلاثة أيام، ثم واصل سيره حتى وصل "آرزنجان" في [أول جمادى الآخرة 920 هـ= 24 من يوليو 1514م]، ثم واصل المسير نحو "أرضوم"، فبلغها في [13 من جمادى الآخرة 920 هـ= 5 من أغسطس 1514].

وسار الجيش العثماني قاصدًا "تبريز" عاصمة الفرس، فلم تقابله في تقدمه واجتياحه بلاد فارس مقاومة تذكر؛ فقد كانت الجيوش الفارسية تتقهقر أمامه، وكانوا يحرقون المحاصيل، ويدمرون الدور التي كانوا يخلفونها من ورائهم بعد انسحابهم، حتى لا يجد جيش العثمانيين من المؤن ما يساعده على التوغل في بلاد فارس وتحقيق المزيد من الانتصارات، وكان الفرس يتقهقرون بشكل منظم حتى يمكنهم الانقضاض على الجيوش العثمانية بعد أن يصيبهم التعب والإنهاك.

واستمر تقدم السلطان "سليم" بقواته داخل الأراضي الفارسية، وكان الشاه "إسماعيل الصفوي" يتجنب لقاء قوات العثمانيين لتفوقها وقوتها، وقد رأى الانسحاب إلى أراضي شمال إيران الجبلية؛ حيث تمكنه طبيعتها الوعرة من الفرار من ملاحقة جيوش العثمانيين.

المواجهة الحاسمة في جالديران

وفي خِضم تلك الأحداث العصيبة فوجئ السلطان "سليم" ببوادر التمرد من جانب بعض الجنود والقادة الذين طالبوا بإنهاء القتال والعودة إلى "القسطنطينية"، فأمر السلطان بقتلهم، وكان لذلك تأثير كبير في إنهاء موجة التردد والسخط التي بدأت بوادرها بين الجنود، فتبددت مع الإطاحة برؤوس أولئك المتمردين.

وتقدم الجيش العثماني بصعوبة شديدة إلى "جالديران" في شرقي "تبريز"، وكان الجيش الصفوي قد وصلها منذ مدة حتى بلغها في [أول ليلة من رجب 920هـ=22 من أغسطس 1514م]، وقرر المجلس العسكري العثماني (ديوان حرب) الذي اجتمع في تلك الليلة القيام بالهجوم فجر يوم [2 من رجب 920هـ= 23 من أغسطس 1514].

كان الفريقان متعادليْن تقريبا في عدد الأفراد، إلا أن الجيش العثماني كان تسليحه أكثر تطورًا، وتجهيزاته أكمل، واستعداده للحرب أشد.

وبدأ الهجوم، وحمل الجنود الانكشارية على الصفويين حملة شديدة، وبالرغم من أن معظم الجنود العثمانيين كانوا عرضة للإرهاق والتعب بعد المسافة الطويلة التي قطعوها وعدم النوم بسبب التوتر والتجهيز لمباغتة العدو فجرًا فإنهم حققوا انتصارًا حاسمًا على الصفويين، وقتلوا منهم الآلاف، كما أَسَروا عددًا كبيرًا من قادتهم.

العثمانيون في تبريز

وتمكن الشاه "إسماعيل الصفوي" من النجاة بصعوبة شديدة بعد إصابته بجرح، ووقع في الأَسْر عدد كبير من قواده، كما أُسرت إحدى زوجاته، ولم يقبل السلطان "سليم" أن يردها إليه، وزوّجها لأحد كتّابه انتقامًا من الشاه.

ودخل العثمانيون "تبريز" في [14 من رجب 920 هـ= 4 من سبتمبر 1514م] فاستولوا على خزائن الشاه، وأمر السلطان "سليم" بإرسالها إلى عاصمة الدولة العثمانية، وفي خِضم انشغاله بأمور الحرب والقتال لم يغفل الجوانب الحضارية والعلمية والتقنية؛ حيث أمر بجمع العمال المهرة والحاذفين من أرباب الحرف والصناعات، وإرسالهم إلى "القسطنطينية"؛ لينقلوا إليها ما بلغوه من الخبرة والمهارة.

وكان السلطان "سليم" يشعر بما نال جنوده من التعب والإعياء بعد المجهود الشاق والخارق الذي بذلوه، فمكث في المدينة ثمانية أيام حتى استردّ جنوده أنفاسهم، ونالوا قسطًا من الراحة استعدادًا لمطاردة فلول الصفويين.

وترك السلطان المدينة، وتحرك بجيوشه مقتفيًا أثر الشاه "إسماعيل" حتى وصل إلى شاطئ نهر "أراس"، ولكن برودة الجو وقلة المؤن جعلتاه يقرر العودة إلى مدينة "أماسيا" بآسيا الصغرى للاستراحة طوال الشتاء، والاستعداد للحرب مع قدوم الربيع بعد أن حقق الهدف الذي خرج من أجله، وقضى على الخطر الذي كان يهدد دولته في المشرق، إلا أنه كان على قناعة بأن عليه أن يواصل الحرب ضد الصفويين، وقد تهيأ له ذلك بعد أن استطاع القضاء على دولة المماليك في الشام أقوى حلفاء الصفويين.

منقول

عبدالغفور الخطيب
30-07-2006, 02:12 AM
سقوط الأنبار.. الطريق إلى "دومة الجندل"

(في ذكرى فتحها: 4 من رجب 12هـ)

بعد أن أتم خالد بن الوليد فتح الحيرة انصرف إلى إخضاع أجزاء أخرى من العراق، فبدأ بالأقاليم القريبة منه، وأرسل الكتب إلى رؤساء تلك الأقاليم يخيرهم بين ثلاثة أمور: إما الإسلام، أو الجزية، أو القتال، فاختاروا دفع الجزية، وكتب لهم خالد بن الوليد العهود والمواثيق بذلك.

وكانت إمبراطورية فارس تتهاوى نحو مصيرها المحتوم بعد أن أخذت الأمور فيها تسير من سيئ إلى أسوأ، بعد دب الشقاق والنزاع بين أمراء البيت الفارسي حول أحقية كل منهم بوراثة العرش.

واستطاع خالد بن الوليد مع بدايات عام (12هـ = 633م) أن يحقق السيطرة على المنطقة الواقعة بين النهرين، ويخضعها لنفوذه ثم عمل على تنظيمها إداريا وعسكريا حتى تظل خاضعة له.

واتجه خالد ببصره نحو الشمال، حيث كانت هناك مدينتان لا تزالان خاضعتين للنفوذ الفارسي، تحت إمارة بعض أمراء الفرس، وكان لكل منهما حامية قوية من الفرس والعرب الموالين لهم تحميها وتدافع عنها.

وقرر خالد أن يفتح هاتين المدينتين: الأنبار، وعين التمر، ورأى أن يبدأ بالأنبار تلك المدينة القديمة، منيعة التحصين والتي كانت مركزا تجاريا مهما تأتي إليه قوافل التجارة من بلاد الشام وأرض فارس، وبها مخازن شهيرة للحبوب والغلال.

ومع منتصف ربيع الآخر (12هـ = 633م) سار خالد في نحو تسعة آلاف مقاتل من الحيرة تاركا بها نصف جيشه، وانطلق ليجتاز الضفة الغربية لنهر الفرات حتى وصل إلى مكان بالقرب من الأنبار، وأرسل عناصر من قواته لاستطلاع المكان واستكشاف الطريق، ثم واصل تحركه نحو الأنبار.

كانت مدينة الأنبار محصنة تحصينا قويا ومحاطة بخندق عميق مليء بالماء، يقع في مرمى الرماة من الجنود الفرس المتحصنين بأسوار حصينة عالية، بحيث يحبطون أي محاولة لاجتيازه.

وعندما رأى الفرس المسلمين يقتربون من المدينة قاموا بتدمير الجسور التي فوق الخندق، حتى لا يعبر عليها المسلمون إلى المدينة.

ووصل خالد بالقرب من أسوار المدينة حيث ضرب حصارا عليها، وبدأ يدرس تحصيناتها الدفاعية ليتعرف على نواحي القوة والضعف فيها، وكان آلاف من الجنود الفرس يرقبونه من فوق السور في ترقب وقلق.

وجمع خالد ألف رام من أمهر رماته ليسرّ إليهم بخطته العجيبة، وانطلق الرماة يتقدمون بحرص إلى طرف الخندق وهم يحملون أقواسهم وقد استعدوا للرمي دون أن يضعوا فيها السهام، بينما كان الجنود الفرس يراقبونهم من فوق السور في دهشة وتعجب، وهم في حيرة من أمر هؤلاء الرماة الذين خرجوا إليهم بأقواس فارغة.

وفجأة رفع خالد يده بالإشارة التي اتفقوا عليها، وفي الحال سارع الرماة بوضع السهام في الأقواس، وأخذوا يرشقون حامية الحصن، يسددون سهامهم نحو عيونهم فلا يكاد يخطئ سهم منها طريقه.

وفي لحظات قليلة فُقئت أعين ألف جندي من جنود الحامية الفرس، حتى سميت تلك الواقعة "ذات العيون".

جسر من الإبل

وعندما علم الحاكم الفارسي "شيرزاد" بما حل بالحامية عرض على خالد أن تستسلم الحامية، ولكنه وضع بعض الشروط لهذا الاستسلام فرفض خالد أن يضع الفرس أية شروط للاستسلام، فقرر شيرزاد الاستمرار في المقاومة وحرب المسلمين.

وعزم خالد على مهاجمة الحصن، وكان لا بد من تسلق أسواره العالية، ولكن ذلك كله لم يكن يمثل مشكلة حقيقية لخالد بقدر ما كان عبور الخندق يمثل تحديا حقيقيا بالغ الصعوبة، فقد كان الخندق عميقا وعريضا، ولم يكن لدى المسلمين أية قوارب يعبرون عليها، كما لم يكن الجنود -وهم أبناء البادية وسكان الصحراء- يجيدون السباحة.

ولكن خالد لم يستسلم لليأس أو الإحباط، وسرعان ما خطرت له فكرة مدهشة، وراح خالد يدور حول الخندق حتى اختار أضيق نقطة فيه، بالقرب من البوابة الرئيسية للحصن، فحشد جنوده من الرماة في هذا الجانب ليمنعوا الحامية من الرمي، ويرغموهم على الاختباء داخل الحصن، ثم أمر بجمع الإبل الضعيفة وكبيرة السن، فنُحِرت وألقيت في الخندق حتى صنعت جسرا في ذلك الجانب، فاستطاع عدد كبير من فرسان المسلمين العبور عليه إلى ما وراء الخندق.

اقتحام الحصن وسقوط الأنبار

وما إن شرع جنود المسلمين في تسلق السور واقتحام الحصن حتى خرجت إليهم مجموعة من الفرس من بوابة الحصن، فهاجمت المسلمين في محاولة لطردهم ودفعهم إلى التراجع إلى الجانب الآخر من الخندق، ولكن المسلين نجحوا في التصدي لهم وإجبارهم على الفرار مرة أخرى إلى داخل الحصن، وإحكام إغلاق أبوابه من الداخل قبل أن يجتازها خلفهم المسلمون إلى الحصن.

وقبل أن يتمكن الجنود المسلمون الذين عبروا الخندق من تسلق أسوار الحصن، ظهر رسول شيرزاد عند بوابة الحصن الرئيسية يحمل عرضا آخر من حاكم الفرس، ليخبر المسلمين باستعداده لتسليم الحصن للمسلمين إذا ما سمحوا له أن يغادر الحصن بأمان هو ومن معه من الجنود الفرس، فوافق خالد على طلب شيرزاد على أن يترك الفرس جميع ممتلكاتهم، وقبل شيرزاد بشروط خالد، وفي اليوم التالي خرج جنود الفرس وأسرهم من الحصن تاركين فيه أموالهم وممتلكاتهم ومتاعهم غنيمة للمسلمين.

وكان لسقوط الأنبار أكبر الأثر في استسلام جميع القبائل التي كانت تسكن منطقة الأنبار، والتي تحالفت مع الفرس ضد المسلمين.

ودخل خالد وجنود الأنبار في (4 من رجب 12هـ = 14 من سبتمبر 633م) بعد أن خرج منها جنود الفرس، وقائدهم المهزوم، وما لبث خالد أن استخلف عليها "الزبرقان بن بدر" وانطلق بجيشه مرة أخرى ليجتاز الفرات ثانية، متجها صوب الجنوب قاصدا عين التمر.

ولم تكن عين التمر بأقل تحصينا من الأنبار، وكانت تلك المدينة تخضع لأحد قادة الفرس المحنكين "مهران بن بهرام"، وتحظى بحامية فارسية كبيرة، بالإضافة إلى حلفائهم العرب من قبيلة النمر شديدة المراس، وبعض قبائل العرب الأخرى من النصارى، الذين شكلوا جبهة تحالف قوية ضد المسلمين تحت قيادة "عقة بن أبي عقة".

ولكن خالدا استطاع أسر عقة وعدد كبير من أعوانه بعد معركة سريعة حاسمة، وهرب مهران وجنوده من الفرس وتركوا الحصن ليتحصن به بعض العرب الموالين لهم، فلما بلغ خالد الحصن حاصره حتى اضطرهم إلى الاستسلام، واستطاع أن يفتح الحصن ويدخل المدينة دون أدنى مقاومة.. وبقضاء خالد على الخطر الفارسي في الأنبار وعين التمر أصبح الطريق أمام المسلمين مهيئا لمزيد من الانتصارات والفتوحات، كان من أهمها وأخطرها فتح "دومة الجندل".

منقول

عبدالغفور الخطيب
31-07-2006, 07:35 AM
معركة اليرموك.. وانحسار دولة الروم

(بمناسبة ذكراها: 5 من رجب 15هـ)



تمكنت الجيوش الإسلامية بعد معركة أجنادين التي وقعت أحداثها في (27 من جمادى الأولى سنة 13 هـ= 30 من أغسطس 643م) من أن تتابع مسيرتها الظافرة، وأن تخرج من نصر إلى نصر حتى بسطت يدها على أجزاء عظيمة من بلاد الشام ضمت "بصرى" و"بعلبك" و"حمص" و"دمشق" و"البلقاء" و"الأردن" وأجزاء من "فلسطين".

ولم يكن أمام "هرقل" إمبراطور الروم سوى الاحتشاد لمعركة فاصلة بعد أن تداعت أجزاء غالية من دولته أمام فتوحات المسلمين، فبدأ يجهز لمعركة تعيد له هيبته وتسترد له ما اقتُطِع من دولته، وتجمعت أعداد هائلة من جنوده ومن يقدر على حمل السلاح من الروم، فأخذت تتقدم من إنطاكية- حيث يقيم- إلى جنوبي الشام.

الجيوش الإسلامية في الشام

كانت القوات الإسلامية بعد فتح حمص سنة (14 هـ = 635م) تتوزع في أماكن مختلفة، فأبو عبيدة بن الجراح في حمص، وخالد بن الوليد بقواته في دمشق، وشرحبيل بن حسنة مقيم في الأردن، وعمرو بن العاص في فلسطين.

فلما وصلت أنباء استعدادات الروم إلى أبي عبيدة بن الجراح جمع القادة يشاورهم ويستطلع رأيهم، وانتهى الحوار بينهم على انسحاب القوات الإسلامية من المدن التي فتحتها إلى موقع قريب من بلاد الحجاز، وأن تتجمع الجيوش كلها في جيش واحد، وأن يبعث أبو عبيدة بن الجراح إلى المدينة يطلب المدد من الخليفة "عمر بن الخطاب".

وقبل أن يتحرك "أبو عبيدة بن الجراح" بجيوش المسلمين، دعا "حبيب بن مسلمة"- عامله على الخراج- وقال له: "اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم، فإنه لا ينبغي لنا إذا لم نمنعهم أن نأخذ منهم شيئا، وقل لهم: نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح، لا نرجع فيه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم أنَّا كرهنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم...".

فلمَّا أصبح الصباح أمر أبو عبيدة قواته بالرحيل من حمص إلى دمشق، وقام حبيب بن مسلمة برد الجزية إلى أهالي حمص، وبلغهم ما قاله أبو عبيدة؛ فما كان منهم إلا أن قالوا: "ردكم الله إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا علينا، بل غصبونا وأخذوا ما قدروا عليه من أموالنا؛ لَوِلايتكم وعَوْدُكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم".

التحرك إلى اليرموك



بعد أن أخلى المسلمون مدينة حمص، جاءت قوات الروم، فدخلت حمص، ثم تحركت جنوبا خلال وادي البقاع إلى بعلبك، ولم تتجه إلى دمشق حيث يقيم المسلمون؛ وإنما اتجهت إلى الجنوب.

رأى المسلمون الذين كانوا يراقبون تحركات الروم أن في مسارهم هذا حركة التفاف تستهدف حصار المسلمين وقطع خط الرجعة عليهم؛ فاجتمع أبو عبيدة بقادته يتباحثون الأمر، فاتفقوا على الخروج من دمشق إلى الجابية، وهناك ينضم إليهم جيش عمرو بن العاص الرابض بفلسطين، وفي الوقت نفسه ينتظرون مدد الخليفة عمر بن الخطاب.

تقدمت مجموعات من جيش الروم إلى نهر الأردن باتجاه المسلمين في الجابية، وخشي المسلمون أن يحاصروا بقوات الروم المقيمة في الأردن وفلسطين والأخرى القادمة من إنطاكية؛ فيقطعوا خطوط إمداداتهم، ويحولوا ببينهم وبين منطقة شمال الأردن والبلقاء التي تربطهم بالحجاز؛ ولهذا قررت الجيوش الإسلامية الانسحاب من الجابية إلى اليرموك.

الاستعداد للمعركة

تولَّى خالد بن الوليد القيادة العامة للجيش بتنازل كريم من أبي عبيدة بن الجراح، الذي كان له السلطة العامة على جيوش المسلمين بالشام، وكان خالد من أعظم الناس بلاء وأعظمهم بركة وأيمنهم نقيبة.

بدأ خالد في تنظيم قواته، وكانت تبلغ 46 ألف مقاتل، وقسَّم الجيش إلى كراديس، أي كتائب، وتضم ما بين 600 إلى 1000 رجل، والكردوس ينقسم إلى أجزاء عشرية؛ فهناك العرّيف الذي يقود عشرة من الرجال، وآمر الأعشار الذي يقود عرفاء (100 رجل)، وقائد الكردوس الذي يقود عشرة من أمراء الأعشار (1000) رجل.

ويُجمِع المؤرخون على أن خالد بن الوليد هو أول من استحدث تنظيم الجيوش على هذا النحو، وعُدَّ عمله فتحا في العسكرية الإسلامية؛ فقد اختار رجال الكردوس الواحد من قبيلة واحدة أو ممن يعودون بأصولهم إلى قبيلة واحدة، وجعل على كل كردوس قائدا منهم ممن عُرفوا بالشجاعة والإقدام، ثم جمع الكراديس بعضها إلى بعض وجعل منها قلبا وميمنة وميسرة، وكان على رأس كراديس القلب أبو عبيدة بن الجراح، ومعه المهاجرون والأنصار، وعلى كراديس الميمنة عمرو بن العاص ويساعده شرحبيل بن حسنة، وعلى كراديس الميسرة يزيد بن أبي سفيان.

وبلغت هذه الكراديس 36 كردوسًا من المشاة، بالإضافة إلى عشرة كراديس من الخيالة، يقف أربعة منها خلف القلب واثنان في الطليعة، ووزعت الأربعة الباقية على جانبي الميمنة والميسرة.

أما جيش الروم فكان يضم نحو مائتي ألف مقاتل، يقودهم "ماهان"، وقد قسّم جيشه إلى مقدمة تضم جموع العرب المتنصّرة من لخم وجذام وغسان، وعلى رأسها "جبلة بن الأيهم"، وميمنة على رأسها "قورين"، وميسرة على رأسها "ابن قناطر"، وفي القلب "الديرجان"، وخرج ماهان إلى المسلمين في يوم ذي ضباب، وصَفَّ جنوده عشرين صفا، ويقول الرواة في وصف هذا الجيش الرهيب: "ثم زحف إلى المسلمين مثل الليل والسيل".

رهبان بالليل.. فرسان بالنهار

دعا أحد قادة الروم رجلاً من نصارى العرب، فقال له: ادخل في معسكر هذا القوم، فانظر ما هديهم، وما حالهم، وما أعمالهم، وما يصنعون، ثم ائتني فأخبرني بما رأيت. وخرج الرجل من معسكر الروم حتى دخل معسكر المسلمين فلم يستنكروه؛ لأنه كان رجلا من العرب، لسانه عربي ووجهه عربي، فمكث في معسكرهم ليلة حتى أصبح فأقام عامة يومه، ثم رجع إلى قائده الرومي، وقال له: جئتك من عند قوم يقومون الليل كله، يصلون ويصومون النهار، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، رهبان بالليل فرسان بالنهار، لو يسرق مَلِكُهم لقطعوا يده، ولو زنا لرجموه؛ لإيثارهم الحق، واتباعهم إياه على الهوى.

فلما انتهى الرجل العربي من كلامه قال القائد الرومي: لئن كان هؤلاء القوم كما تزعم، وكما ذكرت لبطنُ الأرض خير من ظهرها لمن يريد قتالهم.

وفي فجر يوم الإثنين (5 من رجب 15 هـ = 12 من أغسطس 636م) أصبح المسلمون طيبةً نفوسهم بقتال الروم، منشرحة صدورهم للقائهم، واثقة قلوبهم من نصر الله، وخرجوا بالنظام الذي وضعه القائد العام يحملون رايتهم.

وسار أبو عبيدة في المسلمين يحثُّ الناس على الصبر والثبات، يقول لهم: يا عباد الله انصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب؛ فلا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدءوهم بقتال، وأشرعوا الرماح، واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله حتى آمركم.

وخرج معاذ بن جبل يقول للناس: يا قراء القرآن ومستحفظي الكتاب وأنصار الهدى وأولياء الحق، إن رحمة الله- والله- لا تُنال، وجنته لا تدخل بالأماني، ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدّقين بما وعدهم الله (عز وجل)، أنتم- إن شاء الله- منصورون، فأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين، واستحيوا من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم وأنتم في قبضته ورحمته، وليس لأحد منكم ملجأ من دونه.

اللقاء الحاسم ونتائجه

زحفت صفوف الروم الجرارة من مكانها إلى المسلمين، لهم دويٌّ كدوي الرعد، ودخل منهم ثلاثون ألفًا كل عشرة في سلسلة حتى لا يفروا، قد رفعوا صلبانهم، وأقبل معهم الأساقفة والرهبان والبطارقة.

وحين رأى خالد إقبالهم على هذا النحو كالسيل، وضع خطته أن يثبت المسلمون أمام هذه الهجمة الجارفة؛ حتى تنكسر وتتصدع صفوف الروم، ثم يبدأ هو بالهجوم المضاد.

وكان خالد بن الوليد رابط الجأش ثابت الجنان وهو يرى هذه الجموع المتلاحقة كالسيل العرم، لم ترهبه كثرتهم، وقد سمع جنديا مسلما قد انخلع قلبه لمَّا رأى منظر الروم، يقول: ما أكثر الروم وأقل المسلمين- فانزعج من قولته وقال له: ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، أبالروم تخوّفني؟!

تلاحم الفريقان وشد الروم على ميمنة المسلمين حتى انكشفت، وفعلوا كذلك بالميسرة، وثبت القلب لم يتكشف جنده، وكان أبو عبيدة وراء ظهرهم؛ ردءا لهم، يشد من أزرهم، وأبلى المسلمون بلاء حسنا، وثبت بعضهم كالجبال الراسخات، وضربوا أروع الأمثلة في الشجاعة وتلبية النداء، وقاتلت النساء أحسن قتال.

تحمل المسلمون هذا الهجوم الكاسح بكل ثبات؛ إذا اهتز صف عاد والتأم ورجع الى القتال، حتى إذا جاءت اللحظة التي كان ينتظرها القائد النابغة خالد بن الوليد صاح في القوم: يا أهل الإسلام، لم يبق عند القوم من الجلد والقتال والقوة إلا ما قد رأيتم، فالشدة، الشدة فوالذي نفسي بيده ليعطينكم الله الظفر عليهم الساعة.

وزحف خالد بفرسانه الذين لم يقاتلوا، وكان يدخرهم لتلك الساعة الحاسمة، فانقضوا على الروم الذين أنهكهم التعب واختلت صفوفهم، وكانت فرسان الروم قد نفذت إلى معسكر المسلمين في الخلف، فلمَّا قام خالد بهجومه المضاد من القلب حالَ بين مشاة الروم وفرسانهم، الذين فوجئوا بهذه الهجمة المضادة؛ فلم يشتركوا في القتال، وخرجت خيلهم تشتد بهم في الصحراء، تاركين ميدان القتال. ولمَّا رأى المسلمون خيل الروم تهرب أفسحوا لها الطريق ودعوها تغادر ساحة القتال.

انهار الروم تماما، وتملَّكهم الهلع فتزاحموا وركب بعضهم بعضا وهم يتقهقرون أمام المسلمين الذين يتبعونهم؛ حتى انتهوا إلى مكان مشرف على هاوية تحتهم، فأخذوا يتساقطون فيها ولا يبصرون ما تحت أرجلهم، وكان الليل قد أقبل والضباب يملأ الجو، فكان آخرهم لا يعلم ما يلقى أولهم، وبلغ الساقطون في هذه الهاوية عشرات الألوف، وتذكر بعض الروايات أنهم كانوا ثمانين ألفا، وسميت تلك الهاوية "الواقوصة"؛ لأن الروم وقصوا فيها، وقتل المسلمون من الروم في المعركة بعدما أدبروا نحو خمسين ألفا، خلاف من سقطوا في الهاوية.

ولما أصبح اليوم التالي، نظر المسلمون فلم يجدوا في الوادي أحدا من الروم، فظنوا أن الروم قد أعدوا كمينا، فبعثوا خيلا لمعرفة الأمر، فإذا الرعاة يخبرونهم أنهم قد سقطوا في الهاوية أثناء تراجعهم، ومن بقي منهم غادر المكان ورحل.

كانت معركة اليرموك من أعظم المعارك الإسلامية، وأبعدها أثرا في حركة الفتح الإسلامي، فقد لقي جيش الروم- أقوى جيوش العالم يومئذ- هزيمة قاسية، وفقد زهرة جنده، وقد أدرك هرقل حجم الكارثة التي حلت به وبدولته، فغادر المنطقة نهائيا وقلبه ينفطر حزنا، وهو يقول: "السلام عليك يا سوريا، سلاما لا لقاء بعده، ونعم البلد أنت للعدو وليس للصديق، ولا يدخلك رومي بعد الآن إلا خائفا".

وقد ترتب على هذا النصر العظيم أن استقر المسلمون في بلاد الشام، واستكملوا فتح مدنه جميعا، ثم واصلوا مسيرة الفتح؛ فضموا مصر والشمال الإفريقي.


منقول

عبدالغفور الخطيب
01-08-2006, 03:22 AM
الحريري.. ومقاماته البديعة

(في ذكرى وفاته: 6 من رجب 516هـ)

لم يبلغ كتاب من كتب الأدب في العربية ما بلغته مقامات الحريري من بُعد الصيت واستطارة الشهرة، ولم يكد الحريري ينتهي من إنشائها حتى أقبل الوراقون في بغداد على كتابتها، وتسابق العلماء على قراءتها عليه، وذكروا أنه وقَّع بخطه في عدة شهور من سنة (514هـ=1110م) على سبعمائة نسخة، وبلغ من شهرتها في حياة الحريري أن أقبل من الأندلس فريق من علمائها لقراءة المقامات عليه، ثم عادوا إلى بلادهم حيث تلقاها عنهم العلماء والأدباء، وتناولوها رواية وحفظًا ومدارسة وشرحًا.

وصاحب هذا الأثر الخالد هو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري، ولد بالمشان، وهي من ضواحي مدينة البصرة سنة (446هـ=1054م)، ولما شبَّ عن الطوق رحل إلى البصرة، وسكن في محلة بني حرام، وهي قبيلة عربية كانت تسكن البصرة، وتأدب بها، واتصل بأبي الحسن بن فضال المجاشعي، فقرأ عليه العربية، ودرس الفقه على أبي إسحاق الشيرازي، كما سمع الحديث من عدد غير قليل من الحفاظ والمحدثين.

وكان الحريري مفرطًا في الذكاء، آية في الحفظ وسرعة البديهة، غاية في الفطنة والفهم، فما كاد يفرغ من تلقيه العلم حتى جذب الأنظار إليه، وعُين في ديوان الخلافة في منصب "صاحب الخبر"، وهي وظيفة تشبه هيئة الاستعلامات في عصرنا، ولا يُعرف على وجه اليقين متى تقلدها، لكنه ظل بها إلى أن تُوفي.

وكان الحريري من ذوي الغنى واليسار إلى جانب علمه الواسع، وتمكنه من فنون العربية، وكان له بقريته "المشان" ضيعة كبيرة مليئة بالنخل، وكان له بالبصرة منزل يقصده العلماء والأدباء وطالبو العلم، يقرءون عليه ويفيدون من علمه.

مقامات الحريري

المقامات فن من فنون الكتابة العربية ابتكره بديع الزمان الهمذاني، وهو نوع من القصص القصيرة تحفل بالحركة التمثيلية، ويدور الحوار فيها بين شخصين، ويلتزم مؤلفها بالصنعة الأدبية التي تعتمد على السجع والبديع.

ويحكي الحريري عن سبب إنشائه المقامات، فيقول: "إن أبا زيد السروجي كان من أهل البصرة، وكان شيخًا شحاذًا أديبًا بليغًا فصيحًا، ورد البصرة، فوقف في مسجد بني حرام، فسلّم، ثم سأل، وكان المسجد غاصًا بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته وحسن كلامه، وذكر أسر الروم ولده، فاجتمع عندي عشية جماعة، فحكيت ما شاهدت من ذلك السائل، وما سمعت من ظرفه، فحكى كل واحد عنه نحو ما حكيت، فأنشأت المقامة الحرامية، ثم بنيت عليها سائر المقامات التي تبلغ خمسين مقامة". وقد بدأ في كتابتها في سنة (495هـ=1101م) وانتهى منها في سنة (504هـ=1110م).

البطل والراوي

وقد نسب الحريري رواية هذه المقامات إلى الحارث بن همام، فهو الذي يروي أخبارها، ويقول ابن خلكان: إنه قصد بهذا الاسم نفْسَهُ، ونظر في ذلك إلى قوله (صلى الله عليه وسلم): "كلكم حارث وكلكم همام" فالحارث: الكاسب، والهمام كثير الاهتمام بأموره، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام.

أما بطل هذه المقامات فهو أبو زيد السروجي، وهو متسول يعتمد على حسن الكلام وسحر البيان في جذب اهتمام الناس، واستلاب عواطفهم، واستمالة عقولهم ليمنحوه صدقاتهم. وتختلف الروايات في حقيقة أبي زيد السروجي، فمن قائل إنه اسم خيالي وضعه الحريري صاحب المقامات، واستوحاه من صورة الشحاذ الذي لقيه في مسجد بني حرام بالبصرة، في حين يذهب البعض أنه شخصية حقيقية، والأقرب إلى الصواب أن أبا زيد السروجي شخصية نسجها خيال الحريري، ليحوك من حولها حيل أديب متسول، مثلما اتخذ بديع الزمان الهمذاني من أبي الفتح الإسكندري بطلاً لمقاماته.

وتبدأ المقامات بلقاء بين الحارث بن همام وأبي زيد السروجي في صنعاء، وهما في ريعان الشباب وربيع العمر، حيث لقي الحارث أبا زيد خطيبًا واعظًا في جمع من الناس، ثم تبعه فعرفه مخادعًا كذابًا، وعلى هذا اللقاء بنى الحريري المقامة الأولى، وأطلق عليها "المقامة الصنعانية"، ثم أخذ الحارث يجوب البلاد ويواصل الأسفار ليلقى أبا زيد في أماكن مختلفة، في ساحات القضاء، ومجالس الولاة، وأندية الأدباء، ثم يلتقيان في مسجد البصرة، وقد تقدم بهما العمر، وهدَّ جسدهما طول الزمن، فإذا أبو زيد يقف في حشد من الناس يعلن توبته، ويندم على ما قدّم من ذنوب وآثام، ثم يعزم على العودة إلى بلده "سروج" وينصرف إلى العبادة والصلاة، أما الحارث بن همام فيتوقف عن السفر والترحال، ويجنح إلى الراحة، ويكون هذا هو آخر لقاء بينهما، وبه تنتهي المقامة الخمسون آخر المقامات.

بين القص والصنعة البيانية

تجمع المقامات التي أنشأها الحريري بين متعة القص والحكي وتحقيق الغاية البيانية البلاغية، ويذكر في مقدمة عمله مقصده بقوله: "أنشأت خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره، إلى ما وشحتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات ووضعته فيها من الأمثال العربية واللطائف الأدبية، والأحاجي النحوية والفتاوى اللغوية، والرسائل المبتكرة، والمواعظ المبكية، والأضاحيك الملهية".

غير أن الصنعة البيانية قد غلبت على القص والحكاية، وزاد من افتتان الناس بها البراعة الفائقة والقدرة الفذة التي كتب بها الحريري هذا العمل، وكأن المعجم العربي قد نُثِر كله بين يديه يختار منه ما يشاء في صنعة عجيبة وإحكام دقيق.

ولم يكتف الحريري بالسجع والمحسنات البديعية في مقاماته، وإنما أضاف إليها أمورًا أخرى غاية في التعقيد، لكنه تجاوز هذا التعقيد في براعة فائقة، فأورد في المقامة السادسة التي بعنوان "المراغية" رسالة بديعة تتوالى كلماتها مرة منقوطة ومرة غير منقوطة، منها قوله: "العطاء ينجي، والمطال يشجي، والدعاء يقي، والمدح ينقي، والحر يجزي..."، ويسمى المقامة السادسة والعشرين باسم الرقطاء، لأنها تحتوي على رسالة، تتوالى حروف كلماتها بالتبادل بين النقط وعدمه، مثل قوله: "ونائل يديه فاض، وشح قلبه غاض، وخلف سخائه يحتلب..."، وفي المقامة الثامنة يخطب أبو زيد السروجي خطبة كل كلماتها غير منقوطة، بدأها بقوله: "الحمد لله الممدوح الأسماء، المحمود الآلاء، الواسع العطاء، المدعو لحسم اللأواء، مالك الأمم، ومصور الرمم، وأهل السماح والكرم ومهلك عاد وإرم...".

عناية العلماء بمقامات الحريري

وقد حظيت مقامات الحريري منذ أن ألفها الحريري باهتمام العلماء فأقبلوا عليها يشرحونها، لما زخرت به من الألفاظ والأمثال والأحاجي والألغاز، والمسائل النحوية والبلاغية، وقد أحصى "حاجي خليفة" صاحب كتاب "كشف الظنون" أكثر من خمسة وثلاثين شارحًا، منهم: محمد بن علي بن عبد الله الحلي، ومحمد بن محمد المكي الصقلي المعروف بابن ظفر، وأبو المظفر محمد بن أسعد المعروف بابن حكيم، وعبد الله بن الحسين العكبري، وأحمد بن عبد المؤمن من موسى الشريشي.

وقد انتبه المستشرقون منذ وقت مبكر إلى أهمية المقامات فأولوها عنايتهم وترجموها إلى لغاتهم، فقام المستشرق الهولندي "جوليوس" في سنة (1067هـ=1656م) بترجمة المقامة الأولى إلى اللغة اللاتينية، ثم نقل المستشرق الهولندي نفسه ست مقامات بين سنتي (1144هـ=1731م) و(1153هـ=1740م) إلى اللاتينية.

وفي فرنسا قام المستشرق "كوسان دي برسفال" بنشر المتن العربي الكامل سنة (1337هـ=1918م)، كما قام الأستاذ "دي ساسي" بجمع مخطوطات المقامات وشروحها، وعمل منها شرحًا عربيًا، وطبع المتن والشرح في باريس سنة (1238هـ=1822م).

كما ترجمت المقامات إلى الألمانية، وقام بالترجمة المستشرق "ركرت"، وتمتعت هذه الترجمة بشهرة واسعة في عالم الاستشراق، وتُرجمت إلى الإنجليزية سنة (1284هـ=1867م).

وكانت مقامات الحريري من أوائل ما طُبع من المكتبة العربية، وتوالت طبعاتها في باريس ولندن وليدن ولكنو ودلهي بالهند، والقاهرة وبيروت.

رسائل ومؤلفات


كان للحريري رسائل أدبية إلى جانب مقاماته، لم تحتفظ بها يد الزمن، فضاعت مع ما ضاع من تراثنا الضخم، ولكن احتفظت بعض الكتب القديمة ببعض رسائله، وقد سجّل "ياقوت الحموي" في معجم الأدباء رسالتين اشتهرتا في عصر الحريري والعصور التي تلته، إحداهما عرفت بالسينية؛ لأن كلماتها جميعًا لا تخلو من السين، والأخرى اشتهرت بالشينية، لالتزام كلماتها بإيراد حرف الشين. وقد استهل الرسالة السينية التي كتبها على لسان بعض أصدقائه يعاتب صديقًا له –بقوله: "باسم القدوس أستفتح، وبإسعاده أستنجح، سجية سيدنا سيف السلطان،… السيد النفيس، سيد الرؤساء، حُرست نفسه، واستنارت شمسه، وبسق غرسه واتسق أنسه، استمالة الجليس، ومساهمة الأنيس، ومواساة السحيق والنسيب...".

وللحريري غير المقامات والرسائل ما يأتي:

* درة الغواص في أوهام الخواص، بيّن فيه أغلاط الكتاب فيما يستعملونه من الألفاظ بغير معناها في غير موضعها، وقد طُبع في مصر سنة (1272هـ=1855م).

* وملحة الأعراب في صناعة الإعراب، وهي أرجوزة شعرية وقد طُبعت في باريس وبيروت والقاهرة.

وفاته

ظل الحريري في البصرة موضع تقدير أهل العلم، وجاء وضعه للمقامات فارتفعت منزلته وازدادت مكانته حتى لقي ربه في (6 من رجب 516هـ=11 من سبتمبر 1112م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
06-08-2006, 02:14 AM
الحافظ ابن عساكر.. و"تاريخ دمشق"

(في ذكرى وفاته: 11 من رجب 571هـ)

في بيت كريم الأصل معروف بالفضل، متصل بالعلم ولد علي بن الحسن بن هبة الله، في (غرة المحرم من سنة 449 هـ = 13 من سبتمبر 1105م)، وكان أبوه تقيا ورعًا، محبًا للعلم ومجالسة العلماء ومصاحبتهم، وكانت أمه من بيت علم وفضل، فأبوها "أبو الفضل يحيى بن علي" كان قاضيا، وكذلك كان أخوها "أبو المعالي محمد بن يحيى" قاضيًا.

وقد رزق الوالدان الكريمان قبل ابنهما علي بولد كان له شأن هو أبو الحسين الصائن هبة الله بن الحسن، كان من حفاظ الحديث، رحل في طلبه إلى بغداد، وعُني بعلوم القرآن واللغة والنحو، وجلس للتدريس والإفتاء.

تنشئته وتعليمه

في مثل هذا الجو المعبّق بنسمات العلم نشأ ابن عساكر ودرج، وكانت أسرته الصغيرة هي أول من تولى تعليمه وتهذيبه، وأحاطته بعنايتها، فسمع الحديث من أبيه وأخيه وهو في السادسة، ثم تتلمذ على عدد ضخم من شيوخ دمشق وعلمائها، وكانت آنذاك من حواضر العلم الكبرى في العالم الإسلامي، وتلقى على أيديهم عددا كبيرا من أمهات الكتب في الحديث والتاريخ.

قرأ على أبي الفرج غيث بن علي الصوري تاريخ صور، وجزءا من كتاب تلخيص المتشابه للخطيب البغدادي، وقرأ على عبد الكريم بن حمزة السليم كتاب الإكمال لابن ماكولا، ومشتبه النسبة لعبد الغني بن سعدي، وقرأ على شيخه أبي القاسم النبيه كتاب المجالس وجواهر العلم لأحمد بن مروان الدينوري، وتلخيص المتشابه للخطيب البغدادي، وقرأ على أبي محمد بن الأكفاني كتاب المغازي لموسى بن عقبة، وكتاب المغازي لمحمد بن عائذ الدمشقي، وأخبار الخلفاء لابن أبي الدنيا، وغيرها.

ولم ينشغل ابن عساكر في فترة حياته الباكرة إلا بطلب العلم فانصرفت همته إليه، وانشغلت نفسه به، ولم يصرفه عنه صارف، ولم يترك عالما ذا شأن في دمشق إلا اتصل به وقرأ عليه، ولم تسنح له فرصة من وقت إلا شغلها بالقراءة والدرس، حيث كان في سباق مع الزمن حتى يحصل ما تصبو إليه نفسه من العلوم والفنون.

الرحلة في طلب الحديث

بدأ ابن عساكر رحلاته سنة (520 هـ = 1126م) إلى بغداد، ثم اتجه منها إلى الحجاز لأداء فريضة الحج وزيارة النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولم تطل إقامته في المدينتين المقدستين حيث كر راجعًا إلى بغداد؛ لمتابعة دروسه في المدرسة النظامية ببغداد.

وفي فترة إقامته التي استغرقت خمس سنوات قابل في أثنائها عددًا كبيرًا من أئمة العلم، وقرأ عليهم عشرات الكتب العظيمة ذات المجلدات الضخمة، فاتصل بأبي غالب بن البنا، وقرأ عليه كتاب نسب قريش للزبير بن بكار، وكتاب التاريخ لابن أبي خيثمة، وبعضا من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد، وقرأ على أبي القاسم بن الحصين مسند أحمد والغيلانيات، ودرس على أبي بكر محمد بن عبد الباقي الطبقات الكبرى لابن سعد، والمغازي للواقدي، ولزم أبا القاسم بن السمرقندي وسمع منه كتبًا كثيرة، منها: سيرة ابن إسحاق، وكتاب الفتوح لسيف بن عمر، وتاريخ الخلفاء لابن ماجه، ومعجم الصحابة لأبي القاسم البغوي، والمعرفة والتاريخ للنسوي، والكامل في الضعفاء لابن عدي.

عاد الحافظ ابن عساكر إلى دمشق سنة (525 هـ = 1130م)، واستقر بها فترة عاود بعدها رحلته مرة أخرى سنة (529 هـ = 1134م) إلى إيران وخراسان وأصبهان وهمذان وأبيورد وبيهق والري ونيسابور وسرخس وطوس ومرو، سمع في أثنائها عددًا كبيرًا من الكتب على كبار الحفاظ والمحدثين في بلاد المشرق، مثل: سعيد بن أبي الرحاء، وزاهر بن طاهر الشحامي، ثم عاد إلى دمشق سنة (533 هـ = 1138) وقد طبقت شهرته الآفاق، وقصده طلاب العلم من كل مكان، وانصرف إلى التأليف والتصنيف.

تاريخ دمشق

شغل أبو عساكر نفسه بالعلم مذاكرة وتحصيلا، وجعله هدفا لا يصرفه عنه شيء، ولم يجعله وسيلة لتولي منصب أو طمعًا في مال أو جاه، أعطاه نفسه ولم يبخل عليه بجهد، فكافأه الله سعة في التأليف، وصيتًا لا يزال صداه يتردد حتى الآن، ومكانة في العلم تبوأها في المقدمة بين رجالات العلم في تاريخ الإسلام.

وخلال التدريس وضع ابن عساكر مؤلفات كثيرة، لكن مؤلفًا منها قد ملك عليه فؤاده، وانصرفت إليه همته الماضية منذ أن اتجه إلى طلب العلم، فبدأ يضع مخططًا لكتابه الكبير "تاريخ دمشق"، يضاهي به عمل الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" الذي صار نموذجًا للتأليف في تاريخ المدن، يحتذيه المؤلفون في المنهج والتنظيم.

استغرق التفكير والتأليف في تاريخ دمشق وقتا طويلا من حياة مؤلفه، وصاحبه منذ فترة مبكرة من حياته، فكرة في الذهن، ثم مخططًا على الورق، وشروعًا في التنفيذ، فهو لم يؤلفه في صباه وشبابه ولم ينجزه في كهولته، وإنما شغل حياته كلها، ولم يفرغ منه إلا بعد أن وهن جسده وكلّ بصره.

وكان العمل ضخمًا يحتاج إنجازه إلى أعمار كثيرة، وكاد المؤلف ينصرف عن إنجازه وإتمامه، لولا أن خبر هذا الكتاب تناهى إلى أسماع "نور الدين محمود" حاكم دمشق وحلب؛ فبعث إلى الحافظ ابن عساكر يشحذ همته ويقوي من عزيمته، فعاد إلى الكتاب وأتمه سنة (559 هـ = 1163م)، ثم قام ولده القاسم بتنقيحه وترتيبه في صورته النهائية تحت بصر أبيه وعنايته، حتى إذا فرغ منه سنة (565 هـ = 1169م) قرأه على أبيه قراءة أخيرة، فكان يضيف شيئا، أو يستدرك أمرًا فاته، أو يصوب خلطًا، أو يحذف ما يراه غير مناسب أو يقدم موضعًا أو يؤخر مسألة، حتى أصبح على الصورة التي نراها الآن بين أيدينا.

موضوع الكتاب ومنهجه

جاء الكتاب في النهاية في ثمانين مجلدة، تبلغ حوالي ستة عشر ألف صفحة مخطوطة، خصص المؤلف القسم الأول من كتابه لذكر فضائل دمشق، ودراسة خططها ومساجدها وحماماتها وأبنيتها وكنائسها، وكان هذا كالمقدمة لكتابه الكبير، ثم أخذ في الترجمة لكل من نبغ من أبنائها أو سكن فيها، أو دخلها واجتازها من غير أبنائها من الخلفاء والعلماء والقضاة والقراء والنحاة والشعراء.

وقد تتسع حلقة دمشق في منهج ابن عساكر لتشمل الشام أحيانًا فيترجم لمن كان في صيدا أو حلب أو بعلبك أو الرقة أو الرملة، وكما اتسعت لديه دائرة نطاق المكان اتسعت دائرة الزمان، فامتدت من زمن أقدم الأنبياء والمرسلين إلى عصر المصنف.

ومنهجه في الكتاب هو منهج المحدثين، فقد اعتمد في الرواية على السند مهما طال أو تعدد، فلا يذكر خبرًا إلا ويسبقه إسناده، وقد يكرر الخبر الواحد ما دامت هناك فائدة من زيادة أو توضيح. واتبع في التراجم التنظيم الألفبائي المعروف، مراعيًا في ذلك أسماء الآباء بعد أسماء المترجمين، لكنه بدأ التراجم بمن اسمه "أحمد"؛ تيمنًا باسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبعد أن فرغ من التراجم المرتبة أسماؤها ترتيب المعجم، أورد من عُرف من الرجال بكنيته فقط، مراعيًا في ذلك الترتيب الألفبائي أيضا، ثم أعقب ذلك بالمجاهيل ممن عُرفت لهم رواية ولم يعرف لهم اسم، ثم ختم الكتاب بتراجم النساء، ملتزمًا المنهج نفسه في الترتيب والتنظيم، وقد خصهن بمجلد مستقل، اتسع لمائة وست وتسعين ترجمة من شهيرات النساء في العلم والأدب والغناء.

موارد ابن عساكر

اعتمد ابن عساكر في جمع مادة كتابه الضخمة على ثلاثة أنواع من المصادر: السماع من شيوخه وهم يعدون بالمئات روى عنهم وقرأ عليهم، ثم المكاتبة والمراسلة معهم، ثم الاعتماد على مؤلفات السابقين، ويحتاج إحصاء هذه الموارد التي نهل منها ابن عساكر إلى جهد جهيد، نظرًا لضخامة الكتاب، وحسبك أن تعلم أن المجلدة الأولى من الكتاب، أخذت مواردها عن مائة وستة وخمسين شيخًا بالسماع، وعن ستة عشر شيخًا بالمكاتبة، وأربعة عشر كتابًا من بينها كتب البلاذري والواقدي والبخاري والجشهياري.

ولعل من أهم ما صنعه ابن عساكر أنه حفظ لنا بكتابه المؤلفات والمصادر المتفرقة التي كتبها الدماشقة وغيرهم حول تاريخ دمشق في القرون السابقة ثم أتى عليها الضياع، كما رسم صورة لبلاد الشام وحركة السياسة بها، وازدهار الحضارة العربية، والنشاط الثقافي الذي كانت تموج به دمشق منذ أن فتحها المسلمون.

وقد لقي الكتاب عناية واهتمامًا بدءا من جهود القاسم ابن المؤلف، الذي ذيله وانتخب منه، ثم قام عدد من العلماء باختصار الكتاب، مثل ابن منظور المتوفى سنة (711 هـ = 1311هـ) الذي صنع مختصرًا لتاريخ دمشق، وعلى الرغم من كونه اختصارًا فقد جاء في 29 مجلدًا حين طُبع أخيرا محققًا في دمشق، وفي العصر الحديث قام "عبد القادر بدران" المتوفى سنة (1346 هـ = 1927م) بعمل تهذيب للكتاب، لكنه لم يكمله.

المؤلفات الأخرى لابن عساكر

ولابن عساكر مؤلفات أخرى كثيرة غير تاريخ دمشق، ومن ذلك:

تبيين كذب المفتري فيما نُسب إلى أبي الحسن الأشعري، والكتاب مطبوع.

الأربعون البلدانية، وقد طبع بتحقيق محمد مطيع الحافظ في دمشق.

الأربعون في مناقب أمهات المؤمنين، وقد طبع محققًا بعناية محمد مطيع الحافظ في دمشق.

الإشراف على معرفة الأطراف، والكتاب لا يزال مخطوطًا.

ترتيب الصحابة في مسند أحمد، والكتاب مخطوط لم يطبع بعد.

- وله عدة مجالس مخطوطة في ذم من لا يعمل بعلمه، وفي التوبة، وذم قرناء السوء، وفي سعة رحمة الله، وفي فضل سعد بن أبي وقاص، وفضل عبد الله بن مسعود ، وقد طبع مجلسان من هذه المجالس بتحقيق محمد مطيع الحافظ. وهذه المجالس أشبه بالرسائل الصغيرة.

أسرة ابن عساكر

كان بيت الحافظ ابن عساكر معمورًا بالعلم، فامتد إلى كل فرد من أفراده، واستطاع الإمام الحافظ بأخلاقه الكريمة وسماحه نفسه أن تقتدي به أسرته، وتسير على منواله، فابنه القاسم كان حافظًا من حفاظ الحديث، أتم عمل أبيه ونقّحه وقرأه عليه، وزوجة الإمام وأم أبنائه "عائشة بنت علي بن الخضر" كان لها شغف بالحديث، فكان الزوج الكريم يحضر لها محدثات يسمعنها الحديث، ثم يسمع منها أبناؤها ويتلقون عنها كما يتلقون عن أبيهم، وشاء الله أن تتوفى هذه السيدة الكريمة قبل زوجها في سنة (564 هـ = 1168م) فتركت في نفسه أسى وحسرة.

وظل الإمام محل تقدير الناس والولاة، فكان يحضر مجالسه نور الدين محمود سلطان دمشق الذي قربه وبنى له "دار السنة" وكان "صلاح الدين الأيوبي" يجله ويحضر مجالس تدريسه، ومكث الإمام ابن عساكر يؤدي رسالته حتى لبّى نداء ربه في (11 من رجب 571 هـ = 26 من يناير 1176م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
07-08-2006, 03:33 AM
"الزلاقة" معركة الوجود الإسلامي في الأندلس

(في ذكرى المعركة: 12 رجب 479 هـ)



سقطت الخلافة الأموية في الأندلس إثر سقوط الدولة العامرية سنة (399هـ = 1009م) وتفككت الدولة الأندلسية الكبرى إلى عشرين دويلة صغيرة يحكمها ملوك الطوائف، ومن أشهرهم: بنو عباد في أشبيلية، وبنو ذي النون في طليطلة، وبنو هود في سرقسطة، وزعمت كل طائفة من هذه الطوائف لنفسها الاستقلال والسيادة، ولم تربطها بجارتها إلا المنافسة والكيد والمنازعات والحروب المستمرة، وهو ما أدى إلى ضعف، وأعطى الفرصة للنصارى المتربصين في الشمال أن يتوسعوا على حسابهم.

وفي مقابل التجزئة والفرقة الأندلسية في عصر الطوائف كان النصارى يقيمون اتحادًا بين مملكتي ليون وقشتالة على يد فرديناد الأول الذي بدأ حرب الاسترداد التي تعني إرجاع الأندلس إلى النصرانية بدلاً من الإسلام.

وواصل هذه الحرب من بعده ابنه ألفونس السادس، حيث بلغت ذروتها مع استيلاء ألفونس على مدينة "طليطلة" سنة (478هـ = 1085م) أهم المدن الأندلسية وأكبر قواعد المسلمين هناك، وكان سقوطها نذيرًا بأسوأ العواقب لبقية الأندلس؛ ذلك أن ألفونس قال صراحة: إنه لن يهدأ له بال حتى يسترد بقية الأندلس ويُخضع قرطبة لسلطانه؛ وينقل عاصمة ملكه إلى طليطلة.

وكان أسوأ ما في هذه الكارثة المروعة أن ملوك الطوائف المسلمين لم يهبُّوا لنجدة طليطلة أو مساعدتها، بل على العكس وقفوا موقفًا مخزيًا حتى إن بعضهم عرض على ألفونس تقديم العون والمساعدة، ورأى البعض الآخر أنه لكي يستمر في حكم مملكته آمنًا يجب أن يوثق أواصر الصلة والمودة مع ألفونس ويحالفه ويقدم له الجزية السنوية، بل شاركت بعض قوات أمراء الطوائف في غزوة طليطلة، وقدم أحد هؤلاء الأمراء ابنته لتكون زوجة أو حظية لألفونس!!

ورأى ألفونس حالة الضعف والجبن التي يعاني منها أمراء الطوائف، والتي تعود في الأساس إلى ترفهم وخواء نفوسهم، وكرههم للحرب والجهد حتى إن كان ذلك هو السبيل الوحيد للكرامة والحفاظ على البقية الباقية من الدين والمروءة؛ لذا رأى ألفونس السادس ضرورة إضعاف ملوك الطوائف قبل القضاء عليهم نهائيًا؛ وكانت خطته في ذلك تقوم أولاً على تصفية أموالهم باقتضاء وفرض الجزية عليهم جميعًا، ثم تخريب أراضيهم وزروعهم ومحاصيلهم بالغارات المتتابعة، وأخيرًا اقتطاع حصونهم وأراضيهم كلما سنحت الفرصة.

ونجحت خطة ألفونس في ذلك كل النجاح، وبدا ضعف ملوك الطوائف أمامه واضحًا ملموسًا؛ فاستهان بهم واحتقرهم، وقال عنهم: "كيف أترك قومًا مجانين تسمَّى كل واحد منهم باسم خلفائهم وملوكهم، وكل واحد منهم لا يسِل للدفاع عن نفسه سيفًا، ولا يرفع عن رعيته ضيمًا ولا حيفًا"، وعاملهم معاملة الأتباع.

أصبح ألفونس بعد استيلائه على طليطلة مجاورًا لمملكة إشبيلية وصاحبها المعتمد بن عباد، وعندها أدرك المعتمد فداحة خطئه في مصانعة ألفونس ومحالفته واستعدائه على أمراء الطوائف الآخرين، ولاحت له طوالع المصير المروع الذي سينحدر إليه إذا لم تتداركه يد العناية الإلهية بعون أو نجدة غير منتظرة؛ لذا كان من الطبيعي أن تتجه أنظار ابن عباد إلى دولة المرابطين القوية الفتية بقيادة أميرها الباسل "يوسف بن تاشفين" ليستنجد به وتطلب منه النصرة ضد هؤلاء النصارى الذين تجمعوا من شمالي إسبانيا، فضلاً عن المتطوعين الذين قدموا من فرنسا وألمانيا وإيطاليا.

النزاع بين ألفونس السادس والمعتمد

بدأ النزاع بين الملكين سنة (475 هـ = 1082م) عندما وجه ألفونس سفارته المعتادة إلى المعتمد يطلب فيها الجزية السنوية، وكان على رأس السفارة يهودي يُدعى "ابن شاليب"، رفض تسلم الجزية بحجة أنها من عيار ناقص، وهدد بأنه إذا لم يقدم له المال من عيار حسن فسوف تُحتل مدائن إشبيلية.

ولمَّا علم المعتمد بما صدر عن اليهودي أمر بصلبه، وزج بأصحابه في السجن من القشتاليين، وعندما استشار الفقهاء استحسنوا ذلك الأمر؛ مخافة أن يتراجع المعتمد عن قراره بالصمود في وجه النصارى؛ أما ألفونس فقد استشاط غضبًا، وبعث سراياه وجنوده للانتقام والسلب والنهب، وأغار هو بجيشه على حدود إشبيلية وحاصرها ثلاثة أيام ثم تركها، والمعتمد يلتزم الدفاع طيلة هذه العاصفة الهوجاء من الغضب الصليبي.

الاستنجاد بالمرابطين

حشد المعتمد رجاله، وقوَّى جيشه، وأصلح حصونه، واتخذ كل وسيلة للدفاع عن أرضه بعدما أيقن أن ألفونس يعتزم العمل على إبادتهم جميعًا، وأن المسلمين بقدراتهم ومواردهم المحدودة لن يستطيعوا له دفعًا؛ لذا قرر المعتمد أن يستنصر بالمرابطين في المغرب لمقاتلة هؤلاء النصارى، وكانت دولة المرابطين دولة جهاد وحرب، غير أن هذا الرأي واجه معارضة من بعض الأمراء الذين رأوا في المفاوضات والصلح والمهادنة والسلام وسيلة للأمن والاستقرار، ورأوا في المرابطين عدوًا جديدًا قد يسلب ملكهم، وقال الرشيد لأبيه المعتمد: "يا أبت أتُدخِل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا، ويبدد شملنا"، فرد عليه المعتمد: "أي بني، والله لا يسمع عني أبدًا أني أعدت الأندلس دار كفر، ولا تركتها للنصارى، فتقوم اللعنة عليّ في الإسلام، مثلما قامت على غيري، رعي الجمال عندي- والله- خير من رعي الخنازير".

وناشد ملوك الطوائف وعلى رأسهم المعتمد بن عباد المرابطين وأميرهم يوسف بن تاشفين لنجدتهم، بل إن المعتمد عبر إلى المغرب والتقى بابن تاشفين الذي وعده خيرًا، وأجابه إلى ما طلب واشترط لإجابة الدعوة والعبور إلى الأندلس أن يسلم إليه المعتمد ثغر الجزيرة الخضراء ليكون قاعدة للمرابطين في الذهاب والإياب، فوافق المعتمد على ذلك.

العبور إلى الأندلس

حشد يوسف بن تاشفين جنده وعتاده، ثم بعث بقوة من فرسانه بقيادة داود بن عائشة فعبرت البحر، واحتلت ثغر الجزيرة الخضراء، وفي (ربيع الآخر 479هـ = أغسطس 1086م) بدأت جيوش المرابطين تعبر من سبتة إلى الأندلس، وما كادت السفن تتوسط ماء مضيق جبل طارق حتى اضطرب البحر وتعالت الأمواج، فنهض "ابن تاشفين" ورفع يديه إلى السماء وقال: "اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيرًا وصلاحًا للمسلمين فسهِّل علي جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعبه علي حتى لا أجوزه"؛ فهدأت ثائرة البحر، وسارت السفن في ريح طيبة حتى رست على الشاطئ، وهبط منها يوسف، وخرَّ لله ساجدًا.

قوبل بحفاوة بالغة هو وجنوده، وأمر قائده "داود بن عائشة" بالتقدم أمامه إلى بطليوس، كما أمر بأن توضع القوات الأندلسية كلها تحت قيادة المعتمد، وأن يكون لجند الأندلس محلتهم وللمرابطين محلتهم، وكان يوسف في تحركه شديد الحذر؛ لأنه لم يسبق له أن حارب جيشًا نصرانيًا، كما أنه لم يكن واثقًا من حلفائه الأندلسيين؛ لذا رأى أن تكون المعركة في ناحية بطليوس، وألا يتوغل كثيرًا في أرض الأندلس.

الزلاقة والنصر المبين

ولما بلغ ألفونس نبأ تقدم المسلمين لملاقاته، فك الحصار الذي كان يضربه حول مدينة سرقسطة، واستدعى قائده البرهانس من بلنسية، وبعث مستغيثًا بجميع النصارى في شمال إسبانيا وما وراء جبال البرانيس، فتقاطرت عليه فرسان النصارى من إيطاليا وفرنسا، واعتزم أن يلقى المسلمين في أرضهم حتى لا تخرب بلاده، وكانت قواته تفوق المسلمين عددًا وعدة، وقد استقرت هذه الجيوش النصرانية على بعد ثلاثة أميال من المعسكر الإسلامي ولا يفصل بينهم إلا نهر صغير يسمى "جريرو"، وانضم إلى قوات النصارى الرهبان والقسس يحملون أناجيلهم وصلبانهم، محفزين بذلك جنود النصارى.

كانت قوات المسلمين تقدر بحوالي ثمانية وأربعين ألف مقاتل، تنقسم في وحدتين كبيرتين من قوات الأندلس، وتحتل المقدمة بقيادة المعتمد، أما القوات المرابطية فتحتل المؤخرة وتنقسم إلى قسمين، يضم الأول فرسان البربر بقيادة داود بن عائشة، والقسم الثاني احتياطي، يقوده يوسف بن تاشفين.

ولبث الجيشان كل منهما في اتجاه الآخر ثلاثة أيام، وفشلت محاولة ألفونس خديعة المسلمين في تحديد يوم المعركة، وانتهى الأمر بنشوب المعركة مع أول ضوء من صباح يوم الجمعة (12 رجب 479هـ = 23 أكتوبر 1086م) بهجوم خاطف شنَّه فرسان النصارى على مقدمة المسلمين المؤلفة من القوات الأندلسية، فاختل توازن المسلمين وارتد فرسانهم نحو بطليوس، ولم يثبت إلا المعتمد بن عباد في مجموعة قليلة من الفرسان، وقاتلوا بشدة، وأُثخن المعتمد بالجراح وكثر القتل في جند الأندلس، وكادت تحل بهم الهزيمة، وفي الوقت نفسه هاجم ألفونس مقدمة المرابطين وردها عن مواقعها.

وأمام هذه المحنة التي تعرضت لها القوات المسلمة دفع يوسف بقوات البربر التي يقودها أبرع قواده وهو "سير بن أبي بكر اللمتوني"؛ فتغير سير المعركة، واسترد المسلمون ثباتهم، وأثخنوا النصارى قتلاً، وفي تلك الأثناء لجأ ابن تاشفين إلى خطة مبتكرة؛ إذ استطاع أن يشق صفوف النصارى، ويصل إلى معسكرهم، ويقضي على حاميته، ويشعل فيه النار؛ فلما رأى ألفونس هذه الفاجعة، رجع بسرعة شديدة، واصطدم الفريقان في قتال شرس، ودويّ طبول المرابطين يصم الآذان، وكثر القتل في الجانبين، خاصة في صفوف القشتاليين، ثم وجه "ابن تاشفين" ضربته الأخيرة إلى النصارى؛ إذ أمر حرسه الأسود، وقوامه أربعة آلاف مقاتل من ذوي البأس الشديد والرغبة في الجهاد بالنزول إلى أرض المعركة، فأكثروا القتل في القشتاليين واستطاع أحدهم أن يطعن ألفونس في فخذه طعنة نافذة كادت تودي بحياته.

وأدرك ألفونس أنه وقواته يواجهون الموت إذا استمروا في المعركة، فبادر بالهروب مع قلة من فرسانه تحت جنح الظلام، لم يتجاوزوا الأربعمائة، معظمهم جرحى، ماتوا في الطريق، ولم ينج منهم إلا مائة فارس فقط.

كان انتصار المسلمين في الزلاقة نصرًا عظيمًا ذاعت أنباؤه في الأندلس والمغرب، واستبشر المسلمون به خيرًا عظيمًا، غير أن المسلمين لم يحاولوا استغلال نصرهم بمطاردة فلول النصارى المتبقية والزحف إلى أراضي قشتالة، بل لم يحاولوا السير إلى طليطلة لاستردادها، وهي التي كانت السبب الرئيسي في الاستعانة بالمرابطين، ويقال إن ابن تاشفين اعتذر عن مطاردة القشتاليين لوصول أنباء إليه بوفاة أكبر أبنائه.

ونتج عن هذا المعركة الحاسمة توقُّف ملوك الطوائف عن دفع الجزية لألفونس السادس، وأنقذ هذا النصر غرب الأندلس من غارات المدمرة، وأفقدهم عددًا كبيرًا من قواتهم، وأنعش آمال الأندلسيين وحطم خوفهم من النصارى، ورفع الحصار عن سرقسطة التي كادت تسقط في يد ألفونس، وحالت هذه المعركة دون سقوط الأندلس كلها في يد النصارى، ومدت في عمر الإسلام بالأندلس حوالي القرنين ونصف القرن.

منقول

عبدالغفور الخطيب
09-08-2006, 02:19 AM
المستنصرية.. أقدم جامعة إسلامية

(في ذكرى تولي منشئها الخلافة: 14 من رجب 623 هـ)

لم يبقَ من ذكرى الخليفة العباسي المستنصر بالله سوى مدرسته الخالدة المعروفة بالمستنصرية، والتي تُعد من أقدم الجامعات الإسلامية ومن أعظم الأعمال الحضارية التي قامت بها الخلافة العباسية في أخريات أيامها، وشاء لها القدر أن تظل الأثر الوحيد الذي بقيت بعض أجزائه قائمة حتى يومنا من معاهد العلم العباسية في بغداد على كثرتها واختلاف طابعها.

وصاحب هذا العمل الحضاري هو الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور المستنصر بالله بن محمد الظاهر تولى الخلافة يوم وفاة أبيه في (14 من رجب 623 هـ = 11 من يوليو 1226م) فنهض بها أحسن نهوض، وكان مثل أبيه عادلا يريد أن يعيد للأمة بعضا من أخلاقها التي اختفت تحت قبضة الظلم والطغيان وشهوة الحكم والاستبداد، وإذا كان أبوه قد مكث في الخلافة تسعة أشهر وأربعة عشر يوما، سلك في أثنائها سنن العدل والإحسان، وبلغ من عزمه في التطبيق وإخلاصه في المضي فيه أن جعل المؤرخ الكبير ابن الأثير يقول: فلو قيل إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقا؛ فإنه أعاد من الأموال المغصوبة في أيام أبيه وقبله شيئا كثيرًا...

وإذا كان القدر لم يمهله حتى يرى الناس ثمار غرسه، فإن ابنه استكمل الطريق وسار على الضرب؛ فنودي في بغداد أن من كانت له حاجة أو مظلمة يطالع بها، تُقضى حاجته وتُكشف مظلمته.

وكان في الخليفة المستنصر بالله نزوع إلى الخير، ورغبة في إقامة المنشآت النافعة من القناطر والخانات والربط ودور الضيافة وغيرها، وقد طالت مدة خلافته 17 سنة إلا شهرًا؛ حيث توفي في (20 من جمادى الآخرة 640 هـ= 5 من ديسمبر 1243م).

إنشاء مدرسة

شرع الخليفة المستنصر بالله العباسي في بناء المدرسة ببغداد على شط دجلة سنة (625 هـ= 1227م)، وقام على بنائها وتشييدها أستاذ دار الخلافة محمد بن العلقمي، وبلغ ما أنفقه عليها 700 ألف دينار، وافتتحت للدراسة في (5 من رجب 631 هـ = 6 من إبريل 1233م) وكان يوما مشهودا أقيم فيه احتفال كبير بهذه المناسبة، خلع فيه الخليفة العباسي على محمد بن العلقمي وأخيه أحمد، وهما اللذان أشرفا على بنائها، أموالا كثيرة وذُبِحَ ألفا رأس من الغنم، وعملت الحلوى صفوفا، وأقيم سماط عظيم في صحن المدرسة كان عليه صفوف شتى وألوان مختلفة من الأطعمة الفاخرة، أكل منه الحاضرون وحُمل منه إلى سائر دروب بغداد.

المستنصرية جامعة كبرى

وقد عنيت هذه المدرسة العظيمة بدراسة علوم القرآن والسنة النبوية والفقه والطب والرياضيات على نحو لم يسبق من قبل، فقد خصص الخليفة المستنصر لدراسة الفقه الإسلامي بناية خاصة، تدرس فيها المذاهب الفقهية الأربعة مجتمعة لأول مرة في تاريخ المدارس الإسلامية، وجعل للطب بناية خاصة، ثم أضاف إلى مدرستي الفقه والطب دارين أخريين: دارًا للقرآن ودارًاًا للسنة، وبذلك جمع الخليفة النابه المذاهب الفقهية الأربعة وعلوم القرآن والسنة النبوية وعلم الطب والعربية والرياضيات والفرائض وجعلها في مكان واحد تتألف من أبنية متعددة أطلق عليها اسم المستنصرية، وكان قبل ذلك تبنى مدارس مستقلة لكل فرع من تلك الفروع؛ فيدرس الطب في مدارس مستقلة به بعيدًا عن مدارس الحديث، التي هي الأخرى مستقلة عن دور القرآن.

وقد سن الخليفة المستنصر بالله سُنة حسنة بدراسة الفقه بمذاهبه الأربعة في مدرسة واحدة، فلم يكد يمضي عشر سنوات على افتتاح المستنصرية؛ حتى أقدم الملك الصالح نجم الدين أيوب بإنشاء المدرسة الصالحية بالقاهرة سنة (641هـ= 1243م) لتدريس المذاهب الأربعة، ثم قامت زوجة الخليفة المستعصم آخر الخلفاء العباسيين المعروفة باسم "باب بشير" ببناء المدرسة البشيرية في سنة (649هـ = 1251م) بالجانب الغربي من بغداد وجعلتها وقفا على المذاهب الأربعة على قاعدة المدرسة المستنصرية، وافتتحت للدراسة في 13 من جمادى الآخرة سنة 653هـ، ثم توالى بعد ذلك إنشاء المدارس التي انتهجت هذا النهج في تدريس الفقه بمذاهبه الأربعة.

النظام الإداري

وكان يتولى إدارة المدرسة المستنصرية ناظر يختار من بين كبار موظفي الدولة يعاونه عدد من المساعدين، يأتي في مقدمتهم المشرف وهو كالمراقب المالي أو المفتش المالي والكاتب والخازن، وعدد من المستخدمين يقومون على خدمة المدرسين والطلاب، ويعد عبد الرحمن التكريتي أول من تولى منصب نظارة المدرسة المستنصرية؛ حيث عين في اليوم التاسع من رجب سنة (631 هـ = 1233م).

النظام الدراسي

اختير للتدريس بالمستنصرية كبار الشيوخ وأئمة العلم في العراق والشام ومصر وغيرها ممن حصلوا على إسناد عال، أو انتهت إليهم رئاسة العلم أو عرفوا بالبحث والدرس العميق، ويعاون هؤلاء المدرسين معيدون نابغون. أما الطلاب فكان يدقق في اختيارهم من بين الطلاب النابهين، وكان لكل مذهب من المذاهب الفقهية مدرس يعاونه أربعة معيدين، وفي القسم المخصص لكل مذهب يجلس الشيخ على مقعد مفروش بالسجاد، وقد ارتدى حلة سوداء وإلى يمينه معيدان، وعن يساره مثلهما لإعادة ما يمليه الشيخ من الدروس.

الوسائل المعينة على الدرس

وكانت المدرسة مجهزة بما يعين الطلاب على الدرس والتحصيل ويساعد الأساتذة على الشرح والتوضيح؛ فألحق بالمدرسة مكتبة عامرة أهداها الخليفة المستنصر إليها، وكانت تضم ثمانين ألف كتاب بالإضافة إلى ما حُمل عليها بعد ذلك، وكانت دار الكتب هذه يقوم عليها خزنة من العلماء الأفذاذ والمؤرخين المشهورين، وتضم عددا من الناسخين والمناولين للكتب الذين يقومون على خدمة الطلاب.

وضمت المدرسة مستشفى يدرس فيه الطب؛ حيث تقترن الدراسة النظرية بالتطبيق ومعالجة الحالات المرضية، وإجراء الفحوص والتجارب.

التفرغ للدرس والتحصيل

وأوقف الخليفة المستنصر علي مدرسته وقفا كبيرا؛ حتى يتفرغ القائمون عليها والملتحقون بها للدراسة والتحصيل، لا تشغلهم أعباء الحياة عن مواصلة البحث ولا يلههم التفكير في لقمة العيش عن متابعة التحصيل، فقد خصص لنظارها وشيوخها ومدرسيها ومعيديها وأطبائها وطلابها وكل العاملين بها ما يكفيهم من الطعام والشراب والنفقات، ورتّب لهم البيوت والمساكن، وكانت الأطعمة توزع يوميا مطبوخة على طلابها المثبتين في المدرسة، بالإضافة إلى ما كان يجهز لهم من الحصر والسراج والزيت والورق والحبر والأقلام، وكان يقدم لهم في الصيف الماء البارد وفي الشتاء الماء الساخن، وكان رجال الإدارة والتدريس يوزع عليهم كميات كبيرة من الخبز واللحم والخضراوات التي تكفيهم وتكفي ضيوفهم، بالإضافة إلى ما كانوا ينالونه من هبات وعطايا.

وكانت الأراضي والضياع التي أوقفت على المدرسة تدر دخلا يكفي للنهوض بها والقيام برسالتها، حتى قيل: إن قيمة ما وقف عليها يساوي ألف ألف دينار، وإن واردات هذه الأوقاف بلغت نيفا وسبعين ألف مثقال من الذهب في السنة، وكان القائمون على وقف المستنصرية يتقاضون في كل شهر مرتبات نقدية من الدنانير الذهبية تختلف باختلاف منازلهم وأقدارهم.

الدراسة المستنصرية

ظل التدريس قائما بالمدرسة المستنصرية أربعة قرون منذ أن افتتحت في سنة (631هـ= 1233م) حتى سنة (1048هـ= 1638م)، وإن تخلل ذلك فترات انقطاع، كانت الأولى في أثناء الاحتلال المغولي لبغداد سنة (656هـ= 1258م)، وتعطلت الدراسة فيها قليلا، ثم عاد إليها نشاطها من جديد؛ حيث استؤنفت الدراسة سنة (656 هـ= 1259م)، وظلت الدراسة قائمة بالمستنصرية بانتظام بعد سقوط بغداد نحو قرن ونصف قرن.

ثم تعطلت الدراسة بها وبغيرها من مدارس بغداد؛ بسبب تدمير تيمورلنك لبغداد مرتين، الأولى سنة (795هـ= 1392م)، والأخرى في سنة (803هـ= 1400م)؛ حيث قضى تيمورلنك على مدارس بغداد، ونكّل بعلمائها، وأخذ معه إلى سمرقند كثيرًا من الأدباء والمهندسين والمعماريين، كما هجر بغداد عدد كبير من العلماء إلى مصر والشام وغيرهما من البلاد الإسلامية، وفقدت المستنصرية في هذه الهجمة الشرسة مكتبتها العامرة بآلاف الكتب وأصبحت أثرا بعد عين، وظلت الدراسة متوقفة بعد غزو تيمورلنك نحو قرنين من الزمان حتى افتتحت للدراسة سنة (998هـ = 1589م)، ولكن لم تدم بها طويلا فعادت وأغلقت أبوابها سنة (1048هـ= 1638م).

إحياء المستنصرية

بعد توقف الدراسة بالمستنصرية اتخذت لأغراض أخرى؛ فاستعلمت تكية ودار للمكوس والضرائب وخانا للمسافرين ومسكنا لجنود إحدى الكتائب، وامتدت إليها يد الإهمال؛ فضاع كثير من بهائها ورونقها، واختفت أجزاء من مبانيها، وظل الأمر على هذا النحو من الإهمال والنسيان، حتى استطاعت مديرية الآثار العراقية أن تضع يدها على المبنى وتوليه عنايتها وتعيد إليه رونقه وجماله، وافتتح للزيارة باعتباره أثرًا في سنة (1380هـ= 1960م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
10-08-2006, 01:50 AM
ابن قتيبة.. أديب الفقهاء ومحدث الأدباء

(في ذكرى وفاته: 15 من رجب 286هـ)


لما أنشئت بغداد وأصبحت حاضرة الخلافة ومقر الحكم، أقبل الناس على سكناها، وامتد إليها العمران، فغدت في سنوات قليلة واسعة الأرجاء، جميلة البناء، زاهرة بقصورها ومساجدها وحدائقها ومرافقها، وجذبت إليها أهل العلم والفضل وذوي الأدب والمعرفة، يلقون في كنفها كل تقدير وإجلال، ويجدون من خلفائها ووزرائها وأعيانها كل عون وتشجيع، فامتلأت المساجد بحلقات الفقه والحديث واللغة والأدب وعلم الكلام، وازدهرت حلقات الجدل والمناظرة، واحتشد ببغداد أئمة العلم، ونوابغ الأدب، وجهابذة الفقه، وأعلام الحديث، وكبار الشعراء، وعباقرة الموسيقى والغناء، وتحولت بغداد إلى جامعة كبرى تظل هؤلاء جميعًا. وكان ابن قتيبة واحدًا ممن ازدانت بهم حلقات العلم ببغداد.

المولد والنشأة

لا يُعرف على وجه اليقين المدينة التي وُلد بها أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، فيذهب بعض المؤرخين إلى أنه ولد بالكوفة، في حين يذهب آخرون إلى أن مولده كان ببغداد، لكن الراجح أنه ولد بالكوفة سنة (213هـ=828م)، لكنه لم يُقم بها طويلاً، وانتقل صغيرًا إلى مدينة بغداد؛ حيث نشأ بها وتثقف على علمائها، وكانت تموج بحركة علمية زاهرة، ونشاط ثقافي خصب، فتردد على حلقاتها ولزم علماءها، فأخذ الحديث عن أئمته المشهودين وفي مقدمتهم إسحاق بن راهويه، وكان أحد أئمة الإسلام ومن أصحاب الإمام الشافعي، وله مسند معروف، وإلى جانب ذلك كان من أعلم الناس بتفسير القراءة، وحسبه منزلة أن البخاري ومسلم والترمذي كانوا من تلاميذه ورووا عنه.

وأخذ اللغة والنحو والقراءات على أبي حاتم السجستاني، وكان إمامًا كبيرًا ضليعًا في العربية، وعن أبي الفضل الرياشي، وكان عالمًا باللغة والشعر كثير الرواية عن الأصمعي، كما تتلمذ على عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، وحرملة بن يحيى، وأبي الخطاب زياد بن يحيى الحساني، وغيرهم.

العمل بالقضاء والتدريس

وبعد أن اشتد عود ابن قتيبة، ونهل من المعرفة وأخذ بقسط وافر من علوم اللغة والشرع، اختير قاضيًا لمدينة "الدينور" من بلاد فارس، وكان بها جماعة من العلماء والفقهاء والمحدثين، فاتصل بهم، وتدارس معهم مسائل الفقه والحديث، ثم عاد إلى بغداد، واتصل بأبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير الخليفة المتوكل، وأهدى له كتابه "أدب الكاتب"، وكان يجمع بينهما وشائج من العلم والأدب.

استقر ابن قتيبة في بغداد، وأقام حلقة للتدريس، يقرأ كتبه على تلاميذه الذين التفوا حوله، وكانت شهرته قد طبقت الآفاق، ومن تلاميذه: ابنه القاضي أبو جعفر أحمد بن قتيبة، وأبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه، وعبيد الله بن عبد الرحمن السكري، وغيرهم.

ثقافة ابن قتيبة

كان ابن قتيبة مرآة لثقافة عصره الواسعة، فهو محدث متمكن روى عن أئمة الحديث وحُفّاظه، وله بصر بعلم الكلام والجدل والمناظرة، وكان قد اتجه إلى حلقات المتكلمين في مطلع حياته، وأخذ عنهم، وقد أفاده اطلاعه على آراء المتكلمين في جداله معهم ومقارعتهم الحجة بالحجة، وذلك في معرض دفاعه عن أهل السُّنَّة، وهو مؤرخ عالم بتاريخ العرب وأيامهم، وتاريخ المسلمين وفتوحاتهم وغزواتهم، وضليع فيما يتصل بالفقه وعلوم القرآن، وفوق ذلك أديب لغوي تشهد مؤلفاته على علو كعبه وتميزه في عصرٍ امتلأ بالنوابغ في ميادين اللغة والأدب.

وخلاصة القول: إن "ابن قتيبة" كان من أغزر علماء المسلمين إنتاجًا، وأكثرهم تنوعًا فلم يقتصر إنتاجه على فن واحد أو اثنين، بل ضرب بسهم وافر في أكثر ميادين الثقافة العربية والإسلامية، يمده في ذلك ذكاء فطري وموهبة عظيمة، وعزيمة قوية، وهمة عالية، وشغف بالمعرفة ملك عليه نفسه، فانصرف إليه كلية.

ابن قتيبة المحدث الفقيه

لم يكن ابن قتيبة محدثًا مثل البخاري ومسلم وأضرابهما من المحدثين العظام ممن يهتمون بالرواية والتصنيف، وإنما كان معنيًا بجانب آخر يحتاج إلى ثقافة عربية واسعة، ووقوف على مناهج المتكلمين وطرائقهم في الجدل والمناظرة، هذا الجانب هو جانب الدفاع عن الحديث، وشرح غريبه، وتأويل مُختلفه، ورد الشبهات عن أهله والذود عنهم؛ ولذا لقّبه ابن تيمية بحجة الأدب المنتصب للدفاع عن أهل الحديث، ويمثل كتابه "تأويل مختلف الحديث" هذا الاتجاه في التأليف؛ حيث وضعه ليوفق بين الأحاديث التي يُدَّعى فيها التناقض والاختلاف، وله كتب لا تزال حبيسة المكتبات تدور حول الحديث، مثل: "غريب الحديث"، و"إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث".

وله فيما يتصل بالدراسات القرآنية كتابه المعروف "مشكل القرآن"، تكلم فيه عن العرب وما خصَّهم الله به من العارضة (القدرة على الكلام) وقوة البيان، واتساع المجاز، ووجوه القرآن واللحن والتناقض والاختلاف، والمتشابه من القرآن، والقول في المجاز، والاستعارة، والحذف والاختصار، وتكرار الكلام والزيادة فيه، ومخالفة ظاهر اللفظ معناه، واللفظ الواحد للمعاني المختلفة.

وتتجلى في الكتاب ثقافة ابن قتيبة الواسعة، وإلمامه الدقيق بخفايا الأسلوب العربي وأسراره إلى جانب اطلاعه على الكتب السماوية الأخرى، وقد طبع الكتاب بتحقيق السيد أحمد صقر.

وله أيضًا كتاب "غريب القرآن" تناول فيه تفسير غريب الألفاظ الواردة في القرآن الكريم، وقد جمع العلامة ابن مطرف الكناني بين هذا الكتاب وكتاب "مشكل القرآن" في كتاب سماه: القرطين، وألّف في الفقه كتاب "الأشربة"، و"الميْسر والقداح".

تناول في الكتاب الأول مسألة تحريم الخمر، والدواعي التي حرمت من أجلها، وعرج إلى مصادرها وكيفية صنعها، والأنواع التي تُصنع منها، ثم تعرض لمسألة النبيذ الذي عُرف في عصره، وهو ماء الزبيب وماء التمر دون غليان، وسُمي نبيذًا لأنه كان يتخذ وينبذ، أي يترك، وينتهي ابن قتيبة بعد استعراض لآراء الفقهاء إلى أن التحريم منصب على المسكر من الخمر بأنواعها، وإنما يجب الاحتياط بتجنب القليل مما كثيره مسكر، أو ما يُخشى من إسكاره من منقوع التمر والزبيب ومخلوطه، وإن اختلفت أسماؤه. وقد طبع الكتاب بتحقيق محمد كرد علي سنة (1366 هـ= 1947م).

وتناول في الكتاب الآخر مسألة الميسر، بعد أن طُلب إليه ذلك. يقول في المقدمة:

"أما بعد فإنك كتبت تعلمني تعلق قلبك بالميسر وكيفيته، والقداح وحظوظها، والمياسرين (المقامرين) وأحوالهم، ومعرفة ما في الميسر من النفع الذي ذكره الله في القرآن"، ولم يقتصر في تناول مسألة تحريم الميسر على الناحية الفقهية، وإنما عرض للموضوع عرضًا لغويًا وتاريخيًا واجتماعيًا. وقد طبع الكتاب بالمطبعة السلفية بتحقيق محب الدين الخطيب سنة ((1342 هـ= 1923م)).

ابن قتيبة والمعارف العامة

وضع ابن قتيبة عددًا من كتب المعارف العامة التي تمتاز بالاختصار والتنوع، والإلمام بضروب المعرفة الإنسانية، التي تحتاج الطبقة المثقفة إلى معرفتها والتزود بها، والإلمام منها بطرف، ويأتي في مقدمة تلك الكتب: "المعارف"، ويشمل كما يقول مؤلفه على فنون كثيرة من المعارف، تبدأ من مبتدأ الخلق وقصص الأنبياء، وقبائل العرب وبطونها، وأخبار النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأولاده وأزواجه ومواليه، وتراجم الصحابة المشهورين والخلفاء، ثم تراجم العلماء من فقهاء ومحدثين ونسابين ورواة، كما تعرض للمساجد المشهورة وبنائها، وتناول أيام العرب المعروفة، وفتوح المسلمين، وغير ذلك. وقد طُبع الكتاب محققًا بعناية الدكتور ثروت عكاشة، ونشرته دار الكتب المصرية.

وله في هذا الاتجاه كتابه المعروف "عيون الأخبار"، وضعه لكُتَّاب الدولة أو لمن يريد أن يشتغل بالكتابة، وألمَّ فيه بضروب المعروفة التي تعينه في عمله، من التبصر بأحوال الدنيا، والإلمام بخبايا النفس، وإدراك أمور السياسة وتدبير الحكم، وقسَّمه إلى عشرة كتب: هي كتاب السلطان، والحرب، والسؤدد، والطبائع والأخلاق، والعلم، والزهد، والإخوان والحوائج، والطعام، والنساء. وقد طُبع الكتاب محققًا بدار الكتب المصرية سنة 1348هـ=1930م.

ابن قتيبة الأديب اللغوي

كان ابن قتيبة إلى جانب علمه باللغة أديبًا واسع الاطلاع، صاحب ذوق وبيان، ناقدًا نافذ البصيرة، عالمًا ببواطن الجمال في الأدب، له مقدمات في أصول النقد الأدبي، وجمع إلى جانب ذلك كثيرًا مما يتصل بثقافة الكاتب والأديب من معارف عامة، وهو في ذلك يسير على الدرب الذي انتهجه من قبل أديب العربية الكبير أبو عثمان الجاحظ، والأديب الموسوعي أبو حنيفة الدينوري؛ ولذا كان كثير من كتبه الأدبية يدور حول تربية الملكة الأدبية، وإرشاد طبقة الكتاب وتعليمهم كما ذكرنا.

ويمثل كتابه "أدب الكاتب" هذا الاتجاه خير تمثيل، قدّم فيه ابن قتيبة قدرًا من الثقافة اللغوية الضرورية لكتاب الدواوين في زمانه خاصة، وللكتاب والأدباء عامة، ليزودهم بالأدوات التي تعينهم في الكتابة، وتعصمهم من الوقوع في الخطأ والزلل. وهذا الكتاب يعد أول كتاب منظم في هذا الموضوع، لم يسبقه إلا أقوال أو رسائل توجيهية، مثلما فعل عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكُتاب.

وقد نال هذا الكتاب إعجاب كثير من العلماء وتقديرهم، فعدَّه ابن خلدون من أمهات كتب الأدب العربي؛ حيث قال: "وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين، وهي أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها".

وقد قام بشرح الكتاب والتعليق عليه جماعة من العلماء، منهم ابن السيد البطليوسي، فقد سمَّى شرحه "الاقتضاب في شرح أدب الكتاب"، وكذلك شرحه أبو منصور الجواليقي، وسمَّى شرحه: "شرح أدب الكاتب" والشرحان مطبوعان، أما الكتاب نفسه فقد طُبع طبعات متعددة.

ابن قتيبة الناقد الأدبي

تصدَّى ابن قتيبة لفن النقد الأدبي، وأودع منهجه النقدي في كتابه المعروف "الشعر والشعراء"، ثم أردفه بكتابه "معاني الشعر"، أما الكتاب الأول فقد استهله بمقدمة في غاية الأهمية، وضع فيها أصول النقد المعروفة في عصره، وجمع قدرًا من مقاييس النقاد وأحكامهم، ثم اجتهد في بسط آرائه النقدية ومقاييسه العامة التي تلائم الشعر الجديد الذي ازدهر في عصره، بعيدًا عن المقاييس الجامدة التي درج اللغويون على تحكيمها متأثرين بمعايير أصول الشعر القديم، فتحدَّث ابن قتيبة عن ماهية الشعر وطبيعة الشاعر، وبناء القصيدة، والمطبوع من الشعراء والمتكلف، وموضوعات الشعر، وعيوبه.

وبعد المقدمة أفاض في ترجمة الشعراء المعروفين بدءًا من العصر الجاهلي حتى زمن المؤلف، وقد بدأ تراجمه بامرئ القيس أمير شعراء الجاهلية، ملتزمًا في إيراد تراجمه الترتيب التاريخي، فبدأ بشعراء الجاهلية القدماء الذين لم يدركوا الإسلام، ثم الذين أدركوا الإسلام كـ لبيد بن ربيعة والنابغة الجعدي، ثم الشعراء الأمويين فالعباسيين، وكان يطيل في الترجمة أو يقصر حسب مكانة الشاعر وما يروى من شعره وما يستجاد. وقد طُبع الكتاب محققًا بعناية الشيخ أحمد شاكر في مصر.

أما الكتاب الآخر فهو "معاني الشعر"، وهو يتناول أبوابًا من المعاني المختلفة، مثل: النساء والغزل، والسباع والوحوش، والإبل والخيل، ويذكر ما جاء فيها من الشعر، ثم يشرح غريبه، والكتاب يجمع ذخيرة أدبية قيمة من الشعر العربي القديم في موضوعات تتصل بمناح مختلفة من الحياة عند العرب، وتكشف عن عاداتهم وتقاليدهم، ويفسر كثيرًا من الألفاظ الغريبة، ويعمد إلى شرح بعض الصور البيانية من استعارة وتشبيه. وقد طُبع الكتاب في الهند سنة (1368 هـ= 1949م) في ثلاثة مجلدات.

ولابن قتيبة مؤلفات كثيرة غير ما ذكرنا، بعضها مطبوع وبعضها الآخر لا يزال مخطوطًا، أو امتدت إليه يد الإهمال فضاع مع ما ضاع من تراثنا الضخم. ومن كتبه المطبوعة:

* "المسائل والأجوبة"، وقد طُبع بمصر سنة (1349 هـ= 1930م).

* "كتاب الأنواء في مواسم العرب"، وطُبع ببغداد سنة (1408 هـ= 1988م).

* "فضل العرب والتنبيه على علومها"، وطُبع بـ "أبو ظبي" سنة (1408 هـ= 1988م).

وفاة ابن قتيبة

قضى ابن قتيبة حياته كلها في خدمة الأدب والدين، والدفاع عن عقيدة الأمة، مستغلاً ثقافته الواسعة وقوة عارضته (قدرته على الكلام) في الذود عن القرآن والحديث؛ ولذا لقي ثناء المعاصرين له وتقديرهم، كما عرف قدره من جاء بعده من علماء الإسلام، فوصفه الذهبي: بأنه من أوعية العلم، وقال عنه السيوطي: "إنه كان رأسًا في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس".

وقد لبَّى ابن قتيبة نداء ربه في (15 من رجب 276هـ=13 من نوفمبر 899م) بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال.

منقول

عبدالغفور الخطيب
14-08-2006, 02:39 AM
الحملة الصليبية الخامسة.. وغرور القوة

(في ذكرى جلائها عن مصر: 19 من رجب 618هـ)

لم يشك الصليبيون لحظة واحدة في أهمية أن تكون مصر تحت أيديهم؛ ضمانا لوجودهم بالشام، واستقرارا لنفوذهم وسلطانهم في تلك المنطقة، فسعوا للاستيلاء على مصر عقب تأسيسهم إماراتهم، فقام "جوديفري دي بوايون" أول حاكم صليبي على بيت المقدس بأول المحاولات لاستكشاف الأوضاع في مصر سنة (493هـ = 1099م)، ثم تبعه أخوه "بلدوين الأول" ملك بيت المقدس بغزو مصر سنة (509هـ = 1116م)، ووصل إلى مدينة الفرما، فوجدها خالية بعد أن هجرها أهلها من المصريين.

ويروي ابن الأثير أن "بلدوين الأول" وصل إلى مدينة تنيس جنوبي بحيرة المنزلة ثم كرَّ راجعا، ولم يستكمل حملته العسكرية لصغر قواته ولمرضه الذي حلَّ به.

واستغل الصليبيون الصراع الذي اشتعل في أواخر الدولة الفاطمية بين شاور وضرغام فتدخلوا في شؤون مصر، ووقفوا إلى جانب أحد الطرفين ضد الآخر، ولولا تدخل نور الدين محمود فلربما وقعت مصر تحت سيطرة الصليبيين، لكن نور الدين محمود حسم الصراع لصالحه بفضل قواته التي بعثها، وكان على رأسها "أسد الدين شيركوه" وابن أخيه "صلاح الدين الأيوبي"، ثم تدخلت الأقدار فانفرد صلاح الدين بحكم مصر، ثم ضم الشام بعد وفاة نور الدين محمود، وقام بحركة الجهاد الكبرى، وحقق انتصارات عظيمة على الصليبيين، وتوج جهوده باسترداد بيت المقدس.

أدرك الصليبيون- بعد هزائمهم- أن وجودهم مرهون بالاستيلاء على مصر، وأنهم لن ينعموا بالراحة ما دامت مصر ليست في قبضتهم وتحت سلطانهم، ولا أمل في الاستيلاء على بيت المقدس مرة أخرى ومصر طليقة اليد تقود حركة الجهاد ضدهم.

الحملة الصليبية الرابعة


أخذ البابا إنوسنت الثالث (1198- 1216م) على عاتقه مهمة الدعوة إلى حملة صليبية جديدة على مصر؛ لإصلاح أوضاع الصليبيين في الشرق بعد انتصارات صلاح الدين، وبدلا من أن تتجه الحملة إلى مصر اتجهت صوب القسطنطينية، واقتحموا المدينة في (10 من شعبان 600هـ = 13 من إبريل 1204م)، وأزاحوا الإمبراطورية البيزنطية، وأقاموا مكانها إمبراطورية لاتينية غربية، وقد أدان البابا إنوسنت الثالث انحراف الحملة عن هدفها، ولم يعد أمام الصليبيين في عكا سوى عقد هدنة مع العادل الأيوبي الذي خلف أخاه صلاح الدين في حكم الدولة الأيوبية سنة (600هـ = 1204هـ).

الإعداد للحملة الصليبية الخامسة


عاود البابا إنوسنت الثالث الدعوة إلى حملة صليبية جديدة لتدارك ما فات، وفي الوقت نفسه طلب "حنا (جون) دي بريان" ملك مملكة بيت المقدس في عكا من البابا إرسال حملة على مصر، وفي مجمع اللاتران الكنسي الذي عقد في روما سنة (612هـ = 1215م) حرص البابا على ضرورة إيفاد الحملة لتوفير الحماية الصليبية في الشام، وقبل أن تبدأ عجلة الحملة الصليبية في التحرك تُوفِّي البابا إنوسنت الثالث سنة (613هـ = 1216م)، وخلفه هونر يوس الثالث الذي باشر إعداد الحملة.

بدأت قوات الحملة في التوافد على عكا، واستمر ذلك أربع سنوات إلا شهرا، حتى إذا اكتملت صفوفها وعتادها اتجهت صوب مصر، وكانت خطة حنا (جون) دي بريان تستهدف دخول مصر عن طريق الإسكندرية أو دمياط، ولقيت الخطة قبولا من جمهرة الصليبيين في الشام.

التوجه إلى دمياط

خرجت الحملة الصليبية من عكا تحت قيادة حنا (جون) دي بريان في (ربيع الأول 615هـ = مايو 1218م)، واتجهت إلى دمياط، ونزلت على الضفة الغربية للنيل المواجهة لدمياط، وأقامت معسكرها على الشاطئ؛ انتظارا للهجوم ومواصلة السير عبر فرع دمياط إلى داخل البلاد.

كانت مدينة دمياط محصنة تحصينا قويا، تحميها سلسلة عظيمة تمتد عبر النيل وتحول دون دخول السفن المعادية من البحر إلى داخل مجرى النهر، بالإضافة إلى برج السلسلة الموجود وسط مجرى النهر عند مصبه؛ لحماية دمياط، ودفع أي عدوان يقع عليها.

خرج الملك الكامل أكبر أبناء السلطان العادل وخليفته للدفاع عن دمياط، ونصب معسكره جنوبي دمياط، وقد عُرف هذا المكان منذ ذلك الوقت بمنزلة العادلية؛ حتى يكون على اتصال بالمدينة، ويمنع الصليبيين من العبور إلى الضفة الأخرى.

قضى الصليبيون ثلاثة أشهر كاملة يهاجمون برج السلسلة حتى تمكنوا في نهاية الأمر من الاستيلاء عليه في (جمادى الآخرة 615هـ = أغسطس 1218م)، وقطع السلسلة التي تعترض مجرى النهر، وكان ذلك نذير خطر للقوات المصرية.

وفي أثناء هذه الأحداث تُوفِّيَ السلطان العادل، ويُقال إنه لم يحتمل سماع تلك الأخبار السيئة فمرض مرض الموت، ثم لم يلبث أن تُوفِّيَ في (جمادى الآخرة 615هـ = أغسطس 1218م).

الدفاع عن دمياط


أدرك السلطان الكامل- الذي خلف أباه- خطورة الموقف، فتحرك سريعا لإعاقة حركة عدوه حتى لا يتوغل في البلاد، فأقام جسرا ضخما بعرض النهر، لكن الصليبيين تمكنوا من قطعه، فأسرع الكامل إلى إغراق سفن كبيرة في مجرى النيل لتعوق حركة السفن الصليبية، لكن ذلك لم يَحُلْ دون تقدم الصليبيين بعد أن حفروا خليجا هناك كان النيل قديما يجري فيه، وانتهى الأمر بدخول السفن الصليبية النهر حتى موقع مقابل لمنزلة العادلية حيث معسكر السلطان الكامل.

ولم يكن أمام أبناء السلطان العادل سوى التعاون الكامل والعمل معا في مواجهة هذا الخطر الداهم الذي حلَّ بهم، فكان على الكامل طرد الصليبيين من مصر، وأن يقوم السلطان المعظم عيسى- الذي خلف أباه في دمشق- بحراسة جبهة الشام والضغط على الصليبيين لإجبارهم على ترك مصر، وأن يهبَّ ملوك الشام من بني أيوب لنجدة السلطان الكامل في مصر، وتقديم يد العون والمساعدة له.

سقوط دمياط


حاول السلطان الكامل القيام بهجوم مفاجئ على المعسكر الصليبي فعبر نهر النيل وانقض عليهم، لكنهم صمدوا في وجهه وأجبروه على التراجع، وفي الوقت الذي كان فيه الكامل أحوج ما يكون إلى التماسك وتوحيد الهدف إذا به يتعرض لمؤامرة فاشلة من أحد قادته لعزله وإحلال أخيه مكانه في حكم مصر.

ألقت هذه المؤامرة فقدان الثقة في قلبه، فغادر معسكره ليلا وجنوده في إثره، فلمَّا أشرق الصباح وجد الصليبيون معسكر المسلمين خاويا من الجند، فعبروا إلى الضفة الشرقية وهم لا يصدقون ما حدث، وغنموا ما وجدوه من سلاح ومؤونة.

ازداد موقف المسلمين سوءا، وكاد يحل اليأس في قلب الكامل وتضعف عزيمته لولا أن تداركه أخوه المعظم الذي وصل بقواته، فأعاد الثقة في نفس أخيه، وبدأ في تنظيم الجيش الإسلامي الذي رابط عند فارسكور، وتمكنت دمياط من الصمود تسعة أشهر، لكنها لم تقوَ على الاستمرار بعد أن شدد الصليبيون هجماتهم عليها، فسقطت دمياط في أيديهم في (27 من شعبان 616هـ = 5 من نوفمبر 1219م).

العرض السخي


وفي أثناء حصار الصليبيين لدمياط قبل سقوطها كان السلطان الكامل قد يئس من إمكانية صمود المدينة بعد علمه بوصول نجدات قوية للصليبيين من قبرص وغرب أوروبا، فأرسل إلى الصليبيين بعرض سخي يقترح فيه أن يجلوا عن مصر مقابل أن يمتلكوا مدينة بيت المقدس ووسط فلسطين والجليل، أي يعيد لهم مملكة بيت المقدس، على ما كانت عليه قبل معركة حطين التي خاضها جده صلاح الدين سنة (583هـ = 1187م).

كان العرض الذي تقدم به السلطان الكامل غاية في الكرم والسخاء والتخاذل المهين، فقبله الملك حنا (جون) دي بريان وأمراء مملكته في حين رفضه الكاردينال بلاجيوس الذي أرسله البابا لتزعم الحملة الصليبية كلها، وتابعه فرسان المنظمات الرهبانية العسكرية من الداوية والإسبتارية.

الزحف إلى القاهرة


كانت الظروف قد تهيأت لصالح الصليبيين عقب سقوط دمياط، لكن الأهواء والنزاع حول الزعامة عصفا بوحدة الحملة وتماسكها، فعاد الملك حنا (جون) دي بريان بقواته إلى عكا في (المحرم 617هـ = مارس 1220م)، تاركا الأمر لبلاجيوس الذي ركن إلى الراحة والهدوء في دمياط، وظل نحو عام ونصف العام دون تحرك أو عمل جاد، فلما قرر الزحف بعث إلى حنا (جون) دي بريان يسأله العودة لمساعدة الصليبيين؛ فلبَّى على الفور حتى لا يُتهم بالتخاذل والتفريط في مصر، وهو صاحب الاقتراح بغزوها، ولما اكتملت القوات الصليبية شرعت في الزحف جنوبا بمحاذاة نهر النيل في (جمادى الآخرة 618هـ = يوليو 1221م).

لم يضيع أبناء السلطان العادل وقتهم وبذلوا ما في وسعهم من طاقة لإنقاذ البلاد، فأقام الكامل قبالة طلخا منزلة على الضفة الشرقية أطلق عليها اسم "المنصورة"، واستعدوا للمعركة الحاسمة، وكان السلطان الكامل لا يفتأ يكرر عرضه السخي على الصليبيين في مقابل جلائهم، لكنهم في كل مرة كانوا يكررون رفضهم.

واصل الصليبيون زحفهم وسط مثلث من الأرض تحيط به المياه من ثلاث جهات، كما هو مبين في الخريطة: بحيرة المنزلة شرقا، وفرع دمياط غربا، وبحر أشموم طناح جنوبا؛ فلما وصل الصليبيون إلى نقطة تفرع بحر أشموم طناح البحر الصغير من فرع دمياط قطع المسلمون السدود، وكان النيل مليئا بماء الفيضان فأغرق الأرض من تحت أقدامهم، وعاق الوحل حركة سيرهم.

وفي الوقت نفسه أبحر عدد من السفن الأيوبية في بحر المحلة- كان يخرج وقتذاك من النيل قرب بنها الحالية ويلتقي به جنوبي فارسكور- فحالت هذه السفن بين الصليبيين والنجدات التي تصل إليهم من دمياط، وقطعت خط الرجعة على السفن الصليبية.

فشل الحملة والجلاء عن دمياط


انحصر الصليبيون وتبددت آمالهم في الزحف جنوبا نحو القاهرة، ولم يبق لهم سبيل سوى أن يشقوا لأنفسهم طريقا نحو قاعدتهم في دمياط، فحاولوا في استماتة، لكن الماء وعسكر المسلمين حالاً دون تحقيق آخر أمل لهم في النجاة من المصير المحتوم، فأدركهم اليأس، ولم يبق أمامهم سوى طلب الصلح والجلاء عن دمياط دون قيد أو شرط، وهم الذين رفضوا من أشهر قليلة عروض السلطان الكامل المتكررة.

كان موقف الصليبيين حرجا وبالغ السوء، ولو صبر عليهم الكامل دون أن يجيب عليهم لأخذ برقابهم جميعا ولَمَا نجا منهم أحد؛ ولذلك عارض المعظم عيسى والأشرف موسى أخوا السلطان الكامل إجابته للصليبيين إلى الصلح، ورغبا في تركهم بمأزقهم؛ حتى تنفد أقواتهم، وتنتشر بهم المجاعة، ويأكل بعضهم بعضا، لكن الكامل مال إلى الصلح، وكان معروفا بسماحته، واتفق الطرفان على هدنة مدتها ثمانية أعوام، وتم جلاء الصليبيين عن دمياط في (19 من رجب 618هـ = 8 من سبتمبر 1221م) ودخلتها القوات المصرية عصر ذلك اليوم.

منقول

عبدالغفور الخطيب
16-08-2006, 02:24 AM
السلطان الكامل.. فرّط فيما لا يملك

(في ذكرى وفاته: 21 من رجب 635هـ)

توفي صلاح الدين الأيوبي سنة (589هـ = 1193م) بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، وبمفاخر عظيمة لا يزال صداها يتردد حتى الآن، ولا تزال مدينة القدس التي حررها تنتظر من يعيد لها حريتها، ويرد لها كرامتها، بعد أن سقطت في يد الاحتلال الإسرائيلي، وكانت دولة صلاح الدين التي أنشأها موزعة عند وفاته بين أبنائه وإخوته وأبناء عمومته؛ فاختص ابنه الأكبر الملك الأفضل نور الدين محمود بدمشق عاصمة لدولته، التي ضمت مدن ساحل البحر المتوسط، وبيت المقدس وبعلبك وصرخد وبصرى حتى الداروم بالقرب من حدود مصر، وحكم ابنه العزيز عثمان مصر، في حين أخذ الابن الثالث -وهو الملك الظاهر غازي- حلب وشمال الشام، وتولى الملك العادل أخو صلاح الدين الأردن والكرك والجزيرة وديار بكر، أما بقية أبناء صلاح الدين وإخوته وآل بيته فكانت لهم إقطاعات صغيرة.

وكان صلاح الدين قد أوصى لابنه الملك الأفضل بالسلطنة من بعده، وأن تكون له السلطة العليا والكلمة النافذة في الدولة الأيوبية كلها، غير أن الأفضل لم يكن مؤهلا للنهوض بهذه المهمة، فحدث نزاع بينه وبين إخوته، واحتكم كل منهم إلى سيفه وقوته، وضاعت الوحدة والتماسك بين المطامع والمصالح، ونسوا جهد أبيهم في بناء الدولة، وتحقيق مجدها، وانتهز الملك العادل هذه الفرصة -وكان ذا أناة وصبر وعقل وحكمة- وتمكن من خلعهم واحدا إثر الآخر، وأصبح يحكم الدولة الموحدة التي كان يحكمها أخوه صلاح الدين من قبل.

وإذا كان العادل قد نجح في توحيد الدولة الأيوبية من جديد، فإن ذلك تطلّب منه إعادة تنظيم الدولة، والاستعانة بأبنائه في إدارتها، فأناب ابنه الكامل "محمد" في حكم مصر، وجعل ابنه المعظم عيسى في دمشق، وأعطى الأشرف موسى حران، واحتفظ العادل لنفسه بالإشراف التام على جميع أنحاء دولته.

الملك الكامل وحملة الصليبيين الخامسة

كان السلطان الكامل بن العادل في مصر، حين تعرضت لحملة صليبية هائلة بقيادة "حنادة برين"، تألفت من سبعين ألف فارس وأربعمائة ألف راجل، وعُرفت في تاريخ الحروب الصليبية بالحملة الصليبية الخامسة، ورست الحملة على الضفة الغربية للنيل المواجهة لمدينة دمياط في 4 من ربيع الأول 615 هـ = 1 من يونيو 1218م.

ولما علم السلطان الكامل بأخبار هذه الحملة الهائلة تحرك على وجه السرعة لدفع خطرها، واتجه بجنده إلى مكان قريب، وعسكر جنوبي دمياط؛ ليكون على اتصال بها، وكانت دمياط مدينة حصينة تحيط بها الأسوار والقلاع والأبراج، ويرتفع عند مدخل فرع دمياط النيلي برج مشحون بالجند لمنع سفن الأعداء من العبور في النيل والوصول إلى دمياط، وما كادت هذه الأنباء المحزنة يسمع بها الملك العادل في الشام حتى مَرِضَ مَرَضَ الموت، ولقي ربه تاركا لأبنائه فرصة تغيير الأوضاع، وإخراج الغازي المحتل من أرض مصر.

تمكن الصليبيون من دخول دمياط، ولم تُجْدِ محاولات الكامل في الدفاع عن المدينة، ومنع سقوطها، وأسقط في يده، وفزع إخوته في الشام، فأجمعوا أمرهم على النصرة والتصدي للصليبيين في مصر والشام، وكان يمكن للصليبيين أن يستثمروا نجاحهم في احتلال دمياط، ومواصلة السير في قلب البلاد، ولكنهم تنازعوا فيما بينهم، وبرزت أهواؤهم، وانسحب بعضهم إلى عكا، وظلوا عاما ونصفا دون تحرك.

وفي تلك الفترة قام السلطان الكامل بعمل ما في وسعه لإيقاف الزحف، وإقامة خطوط الدفاع في قبالة طلخا، وجمع جيوشه وجيوش إخوته (المعظم عيسى والأشرف موسى) استعدادا للقاء الحاسم، وفي الوقت نفسه ظل السلطان الكامل يكرر عرضه السخي للصليبيين بالجلاء عن مصر مقابل إعطائهم القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية، وجميع ما فتحه صلاح الدين من مدن الساحل، وقد رفض الصليبيون هذا العرض المتخاذل قبل سقوط دمياط في أيديهم، وتكرر رفضهم لهذا العرض بعد السقوط؛ بل إنهم تمادوا في غرورهم، وطلبوا 300 ألف دينار عوضا عن تخريب سور القديس.

تحرك الصليبيون بحشودهم الجرّارة جنوبا حتى مدينة فارسكور في ربيع الآخر 618هـ = يوليو 1221م، وكان هذا وقت فيضان النيل السنوي، الذي يشتد في شهر أغسطس من كل عام، وعبرت قوات الجيش المصري؛ لكي تحاصر الصليبيين قرب "المنزلة"، وشاء الله أن يأتي فيضان النيل عارما، ففتحت الجسور، وأغرقت كل الطرق أمام الصليبيين، وعلى صفحة النهر كانت السفن المصرية تقطع خطوط الإمداد، وتفصل الحملة الصليبية عن قاعدتها في دمياط، وتستولي على عدد من سفن العدو، وتأْسِر بَحَّارته.

ولم يكن أمام الصليبيين بعد أن فاجأتهم الكارثة، وأحيط بهم من كل مكان سوى الاستسلام دون قيد أو شرط، وضاعت أحلام البابوية في أوحال الدلتا وعلى صفحة النهر الخالد، وخرجت الحملة من دمياط في 19 من رجب 618 هـ = 8 من سبتمبر 1221 تجرّ أذيال الخيبة والفشل.

الكامل والإمبراطور فريدريك

كان لتضامن أبناء العادل الثلاثة، وتكاتفهم أثر لا يُنكر في تحقيق النصر وإفشال الحملة الصليبية الخامسة، وكان المأمول أن يبقى هذا التحالف، ويزداد مع الأيام قوة وترابطا بعد المحنة الحالكة، ولكن ذلك لم يحدث؛ فانفرط العقد، ومضى كل واحد منهم في طريقه، ينظر إلى نفسه، ويعظم من شأن مصالحه ومكاسبه دون نظر إلى مصلحة أبيه، ولم تكد تمضي سنوات معدودة حتى شبّ صراع بين السلطان الكامل وأخيه المعظم عيسى صاحب دمشق، واستعان كل منهما بمن يحقق له الظفر؛ فاستعان المعظم عيسى بالسلطان جلال الدين الخوارزمي سلطان الدولة الخوارزمية، واستنجد السلطان الكامل بالإمبراطور فردريك الثاني صاحب صقلية وإمبراطور الدولة الرومانية المقدسة في غرب أوروبا.

الإمبراطور فردريك

ولد هذا الإمبراطور من أب ألماني هو هنري السادس وأم إيطالية هي الأميرة كونستانس وريثة عرش صقلية، وتربى وتعلم في صقلية التي كانت مظاهر الحضارة الإسلامية تفرض نفسها في كل مكان فيها، فنشأ محبا للحضارة الإسلامية، مبديا تقديره وإجلاله للمسلمين، وكان واسع العلم، متبحرا في الهندسة والحساب والرياضيات، مجيدا للعربية واليونانية واللاتينية والإيطالية والألمانية والفرنسية، ولما تُوِّج على عرش الإمبراطورية سنة (612هـ = 1215م) وعد بالقيام على رأس حملة صليبية إلى الشرق ثمنا للمساعدة التي لقيها من البابوية في الوصول إلى حكم الإمبراطورية، ولكنه لم ينهض للوفاء بنذره الصليبي، وظل يماطل في تنفيذه، على الرغم من زواجه من "يولاند" ابنة الملك الصليبي يوحنا دي برين الذي جعل منه ملكا على بيت المقدس ومسؤولا عن الصليبيين في المشرق.

المراسلات بين الكامل وفردريك

أرسل السلطان الكامل مبعوثه الأمير فخر الدين يوسف إلى الإمبراطور فريدريك يعرض عليه أن يقوم بنجدته ومساعدته في حربه ضد أخيه المعظم عيسى، في مقابل أن يسلمه بيت المقدس وجميع فتوحات صلاح الدين بالساحل الشامي، ويا له من ثمن غالٍ مقابل هدف رخيص!! وقد أحسن الإمبراطور استقبال مبعوث السلطان الكامل، ورد عليه بسفارة مماثلة، واستجاب لعرضه السخي الذي قطع عليه تردده سنوات طويلة كان البابا جريجوري التاسع يستحثه للنهوض بها دون جدوى، وغادر صقلية في رجب 625 هـ = يونيو 1228م قاصدا الشام، ممنيًا نفسه بالتتويج في بيت المقدس، وبفخار يحققه يظل التاريخ الأوروبي يلهج بذكره.

الحملة الصليبية السادسة

وكانت الحملة التي عُرفت في التاريخ بالحملة الصليبية من أعجب الحملات العسكرية؛ فلم يتجاوز أفرادها 600 فارس، يصحبهم أسطول هزيل، وكان الإمبراطور الألماني قد جاء إلى الشام في نزهة جميلة مع أفراد حاشيته، أو جاء ليفاوض لا ليحارب، وعندما وصل إلى عكا وجد الأمور على غير ما تمنى؛ فقد توفي الملك المعظم عيسي، واقتسم السلطان الكامل وأخوه الملك الأشرف ممتلكاته، وعادت الأمور في البيت الأيوبي إلى الهدوء والاستقرار، ولم تعد هناك حاجة إلى جهود الإمبراطور.

كانت تلك الأخبار مفاجأة قاسية لـ"فرديريك"، فساء موقفه، ولكنه لم يفقد الأمل في تحقيق أمانيه مع سلطان اشتهر بالسماحة إلى حد التفريط، ولجأ إلى سلاح المفاوضة والاستعطاف، فبعث سفارة تطلب من السلطان الكامل الوفاء بما تعهد به من تسليمه بيت المقدس، وكان طبيعيا أن يرفض السلطان بعدما زال السبب الذي من أجله أقدم على هذا العرض، ولكن هذا الرفض زاد الإمبراطور إصرارا على إعادة المحاولة والمبالغة في استمالة قلب السلطان، وبلغ به الأمر أن كتب للسلطان الكامل في أثناء المفاوضات: "أنا مملوكك وعتيقك، وليس لي عما تأمر به خروج، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر، وقد علم البابا والملوك باهتمامي؛ فإن رجعت خائبا انكسرت حربتي بينهم، فإن رأى السلطان أن يُنعم عليّ بقبضة البلد والزيارة؛ فسيكون صدقة منه".

أفلحت هذه السياسة، ونجحت مع السلطان الكامل، ففرّط فيما لا يملك، واستسلم دون قتال إلا من سلاح الدمع، وعقد معاهدة عُرفت بمعاهدة "يافا" في 22 من ربيع الأول 626هـ = 18 من فبراير 1229م بمقتضاها تقرر الصلح بين الطرفين لمدة عشر سنوات على أن يأخذ الصليبيون بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وصيدا، ونصّت المعاهدة على أن تبقى مدينة القدس على ما هي عليه؛ فلا يجدد سورها، وأن يظل الحرم بها بما يضمه من المسجد الأقصى وقبة الصخرة بأيدي المسلمين، وتقام فيه الشعائر، ولا يدخله الفرنج إلا للزيارة.

فردريك في بيت المقدس

أثارت هذه المعاهدة المخزية حفيظة المسلمين وغضبهم في كل مكان، وأقيمت المآتم في المدن الكبرى، وشعر "الكامل" بأنه تورط مع الإمبراطور، فأخذ يهون من أمر تسليم بيت المقدس، ويعلن أنه لم يُعطِ الفرنج إلا الكنائس والبيوت الخربة، على حين ظل المسجد الأقصى على حاله، وبعد عقد الصلح اتجه فردريك إلى بيت المقدس، فدخلها في 19 من ربيع الآخر 626هـ = 17 من مارس 1229م، ويذكر المقريزي أن الإمبراطور حين رأى قسيسا بيده الإنجيل يهمّ بدخول المسجد الأقصى زجره، وطرده، وهدد كل من يدخل المسجد الأقصى بغير إذن، فقال: "إنما نحن مماليك هذا السلطان الملك الكامل وعبيده، وقد تصدق علينا وعليكم بهذه الكنائس على سبيل الإنعام منه؛ فلا يتعدَّ أحد منكم طوره".

وفي اليوم التالي دخل كنيسة القيامة؛ ليتوَّج ملكا على بيت المقدس، ولم تطُلْ إقامته في الشام، وكرّ راجعا إلى بلاده بعد أن حقق ما لم تحققه أي حملة صليبية منذ الحملة الأولى.

العلاقات بين الكامل وفردريك

أدى التقارب في الصفات بين الرجلين؛ فقد كان كلاهما سمحا ليّن الخلق إلى توثيق العلاقات بينهما وتبادل الهدايا، وكان فردريك بعد عودته إلى الغرب لا يفتأ يردد أمام أصدقائه: "إن صديقي السلطان المسلم أثمنُ لدي من أي شخص، ما عدا ولدي الملك كونارد". وقد استمرت الصداقة بين فردريك وخلفاء السلطان الكامل في مصر، ومن ذلك تحذيره الصالح أيوب سلطان مصر عندما علم بنية لويس التاسع ملك فرنسا بتوجيه الحملة الصليبية السابعة إلى مصر.

شخصية السلطان الكامل

كان السلطان الكامل ملكا جليلا حازما مهيبا يميل إلى العفو والمسامحة، عفيفا عن سفك الدماء، وكان يباشر أمور مملكته بنفسه، ويتفقد أحوالها، يذكر ابن واصل الحموي أنه كان في أول زيادة النيل يخرج بنفسه، وينظر إلى الجسور وإصلاحها، ويرتب على كل جسر من الأمراء من يتولى أمره، ويجمع الرجال لإصلاحه وعمله، ويعاقب المتهاون في عمله أشد العقاب؛ فعمرت ديار مصر في أيامه، ونعمت بالرخاء.

وكان الكامل محبا للعلماء ومجالستهم، وسماع مناظراتهم في الفقه والنحو، ويكرم وفادتهم، ويمنحهم العطايا، وعُرف عنه شغفه بسماع الأحاديث النبوية، وكان شديد العناية بالمحدثين والحفاظ؛ فبنى لهم دار الحديث الكاملية، وهي أول دار من نوعها في مصر للحديث النبوي وعلومه، أسسها سنة (621 هـ = 1224م)، وجعل عليها المحدث المعروف "أبا الخطاب عمر بن دحية"، وكان يصعد إليه في القلعة ليحدث السلطان الكامل.

وكان يبيت عنده جماعة من العلماء في بعض الليالي يأنس بهم، ويسامرونه، ويحاورونه في العلوم والآداب، وكان منهم جمال الدين اليمني النحوي، والفقيه عبد الظاهر، والأمير صلاح الدين بن شعبان الأريلي.

وفاة السلطان الكامل

لم تسلم الدولة الأيوبية من نزاع ملوكها وتنافسهم فيما بينهم على انتزاع ما تحت أيديهم من بلاد؛ فانشق الملك الأشرف موسى صاحب دمشق على أخيه السلطان الكامل، ولكن الموت عاجله في سنة (635هـ = 1237م) قبل أن تشتعل نار الحرب بينهما، ولكن أخاه الملك الصالح إسماعيل الذي خلفه في دمشق كوّن حلفا ضد السلطان الكامل من بعض ملوك الأيوبيين، فأسرع السلطان الكامل إلى وأد تلك الفتنة في مهدها، وحاصر "دمشق" حتى وقعت في يده سنة 635 هـ = 1237م، غير أن السلطان لم يلبث أن توفي بعد فتحه "دمشق" في 21 من رجب سنة 635 هـ = 9 من مارس 1238م، وولي بعده ابنه الملك العادل.

منقول

عبدالغفور الخطيب
17-08-2006, 02:05 AM
المعتمد بن عبّاد.. من المُلك إلى المنفى

(في ذكرى سقوط دولته: 22 من رجب 484هـ)


لما انهارت الخلافة الأموية بالأندلس في أوائل القرن الخامس الهجري، انقسمت الأندلس إلى دويلات صغيرة، وإمارات مستقلة، وأعلن كل أمير نفسه ملكا، ودخلت الأندلس في عصر جديد، عُرف باسم "ملوك الطوائف"، وهو اسم صادق في مسماه، دالّ على ما كانت تعانيه البلاد من تمزق وانحلال، ولم يكن يربط بين ملوك دول الطوائف رباط المودة، أو عرى الصداقة، أو وشائج المصلحة، وإنما نفخ الشيطان في روعهم؛ فهم في شقاق مستمر، يقاتل بعضهم بعضا، ينتزع القوي منهم ما في يد الضعيف، يستنصرون بالنصارى، ويحالفونهم ضد بعضهم دون وازع من دين أو ضمير.

وفي الوقت الذي تجري فيه أحوال ملوك الطوائف على هذا النحو من التفكك والضياع، كانت النصرانية في شمال الأندلس يتّحد ملوكها، وتزداد الروابط بينهم قوة ومتانة، ويجمعون أمرهم على هدف واحد، وتحقق لهم النصر في بعض المواطن، لا عن قوة منهم وحسن إعداد، وإنما عن ضعف ألَمَّ بالمسلمين، وفرّق كلمتهم، وكان يحكم أسبانيا في هذه الفترة ملك طموح عالي الهمة هو "ألفونسو السادس" الذي نجح في توحيد مملكتي قشتالة وليون، وسيطر على الممالك المسيحية الشمالية، وهدد ملوك الطوائف، وألقى الفزع في قلوبهم؛ فراحوا يتوددون إليه، ويدفعون له الجزية عن يد وهم صاغرون.

بنو عباد في إشبيلية

قامت دولة بني عباد في إشبيلية على يد القاضي أبي القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد، وكان رجلا طموحا؛ فتطلعت أنظاره إلى جيرانه المسلمين، وانتزع ما في أيديهم، فاشتبك أبو القاسم –ومن بعده ولده أبو عمرو عباد، الملقب بالمعتمد بالله (433- 461هـ = 1041 – 1068م)- في سلسلة من الحروب الطاحنة مع أمراء غرناطة ومالقة وقرطبة وإمارات ولاية الغرب، انتهت باستيلاء بني عباد على قرطبة وقرمونة وإستجة ورندة وما حولها من الأراضي، وعلى لبلة وشلب وباجة في غرب الأندلس، واتسعت بذلك مملكة إشبيلية، وغدت أعظم قوة في جنوب الأندلس.

المعتمد بن عباد

كان المعتمد بن عباد حين آل إليه حكم إشبيلية سنة (461 هـ = 1068م)، في الثلاثين من عمره، شابا فتيا، فارسا، شجاعا، شاعرا مجيدا، وأميرا جوادا، ذا خِلال باهرة، يحب الأدب ومسامرة أهله؛ فاجتمع في بلاطه نجوم ساطعة من أرباب ونوابغ القصيد من أمثال أبي بكر بن عمار، وابن زيدون، وابن اللبانة، وابن حمديس الصقلي، وكما كان المعتمد شاعرا مجيدا، كانت زوجته اعتماد الرميكية شاعرة كذلك، تجمع إلى جمالها الفاتن البراعة في الشعر والأدب، وكانت إشبيلية حاضرة دولته آية في الروعة والبهاء، تزدان بقصور بني عباد وقواده وكبار رجال دولته.

غير أن المعتمد بن عباد سلك في سبيل تحقيق أطماعه وطموحاته مسلك أبيه وجده من ممالأة ألفونسو السادس ملك قشتالة على حساب إخوانه المسلمين، ولم يجد في نفسه غضاضة، وهو يقوم بدفع الجزية للملك القشتالي.


وكان من ثمار هذه السياسة المتخاذلة التي اتبعها المعتمد بن عباد وغيره من ملوك الطوائف أن سقطت طليطلة بعد حصار قصيرة في غرة صفر سنة (478 هـ = 25 من مايو 1085م) في أيدي القشتاليين، وكان لسقوطها دويٌّ هائل، وحزن عميق في العالم الإسلامي، ولم يكن سقوطها لعجز في المقاومة، أو ضعف في الدفاع، أو قلة في العتاد؛ بل سقطت لضياع خُلق النجدة والإغاثة، وضياع شِيم المروءة والأخوة، تركها جيرانها من الممالك الإسلامية وهي تسقط دون أن يمد لها أحد يدا، أو تهب قوة لنجدتها.

صحوة ملوك الطوائف

شجعت مواقف ملوك الطوائف المخزية، وعدواتهم لبعضهم البعض، وأثرتهم، وغلبة مصالحهم الذاتية على مصالح أمتهم أن يقوم "ألفونسو" -وقد ملأ الزهو والإعجاب نفسه، واستهان بملوك المسلمين- بالتهام حواضر الأندلس الأخرى؛ فراح يهدد سرقسطة وإشبيلية وبطليوس وغيرها، وأخذت قواته تجتاح أراضي المسلمين، وتخرب مدنهم ومروجهم، واستيقظ ملوك الطوائف على حقيقة مروعة ونهاية محتومة ما لم يتداركوا أمرهم، وتتحد كلمتهم على سواء؛ فسقوط طليطلة ليس عنهم ببعيد، وأدرك المعتمد بن عباد أنه أشد ملوك الطوائف مسئولية عما حدث؛ فكان بمقدوره نجدة طليطلة، ومد يد العون إليها، ولكنه لم يفعل؛ فقد غلَّتْ يدَه معاهدةٌ مخزية عقدها مع ألفونسو، بمقتضاها يتعهد ملك قشتالة بمعاونة المعتمد ضد جيرانه المسلمين، وفي مقابل ذلك يتعهد المعتمد بأن يؤدي الجزية لملك قشتالة، وأن يطلق يده في أعماله العسكرية ضد طليطلة، دون أن يتدخل لمساعدتها، ولما سقطت طليطلة بدأ ألفونسو السادس -وكان لا خلاق له- يشتد في مطالبه المالية، ويشتد في معاملة المعتمد، ويتعمد إهانته؛ بل كاتبه بأن يسلم إليه بلاده وينذره بسوء المصير، وقرن تهديده بالعمل؛ فاجتاحت قواته بلاد المعتمد بن عباد، وخربت مدنها وقُراها.

الاستعانة بالمرابطين

لم تكن قوى ملوك الطوائف تكفي لدفع خطر ألفونسو، وحماية أنفسهم من هجماته؛ فتطلعت أبصارهم إلى الضفة الغربية من البحر المتوسط؛ حيث دولة المرابطين، وكانت دولة قوية، بسطت نفوذها بالمغرب، واشتهر سلطانها "يوسف بن تاشفين" بحبه للجهاد وإقامة حكومة على العدل والقسطاس، وكان للمعتمد بن عباد يد طولى في الاستعانة بالمرابطين في جهادهم ضد القشتاليين، بعد أن أبدى بعض ملوك الطوائف تخوّفهم من أن يطمع المرابطون في بلادهم، وأظهروا ترددا في فكرة الاستنصار بهم، وكادت الفتنة تستطير لولا أن أخمدها المعتمد بكلمته المأثورة التي سادت في التاريخ: "رعي الإبل خير من رعي الخنازير"؛ يريد بذلك أنه يفضل أن يكون أسيرا لدى أمير المرابطين يرعى إبله خير من أن يكون أسيرا لدى ملك قشتالة.

معركة الزلاقة

استجاب يوسف بن تاشفين لنداء أمراء الأندلس، فعبر إليهم بقوات ضخمة، وسارت قوى الإسلام المتحدة إلى قتال ألفونسو الذي كان مشغولا بمحاربة ابن هود أمير سرقسطة؛ فلما علم بنبأ هذه الحشود ترك محاربة ابن هود، وجمع جندا من سائر الممالك النصرانية للقاء الجيوش الإسلامية، والتقى الفريقان في سهل الزلاقة بالقرب من بطليموس في معركة هائلة في (12 من رجب 479هـ = 23 من أكتوبر 1986م) ثبت فيها المسلمون، وأبلوا بلاء حسنا، وانتهت المعركة بانتصار عظيم، عُد من أيام الإسلام المشهودة، وقتل معظم الجيش القشتالي، ومن نجا منهم وقع أسيرا، وهرب ألفونسو بصعوبة بالغة في نفر قليل من رجاله جريحا ذليلا.

سقوط دول الطوائف

شاهد أمير المرابطين عند نزوله الأندلس ما عليه أمراؤها من فُرقة وتنابذ وميل إلى اللهو والترف ورغبة في الدعة، وانصرافهم عن الجهاد والعمل الجاد، وإهمال للرعية وتقاعس عن حماية الدين والوطن من خطر النصارى المتصاعد، فعزم على إقالة هؤلاء الأمراء المترفين المنشغلين بأنفسهم عن مصالح أمتهم، وعزز من هذه الرغبة فتاوى كبار الفقهاء من المغرب والأندلس بوجوب خلع ملوك الطوائف؛ حماية للدين ووقوفا ضد أطماع القشتاليين، وكان حجة الإسلام أبو حامد الغزالي وأبو بكر الطرطوشي على رأس القائلين بهذه الفتوى.

عبر يوسف بن تاشفين بجيش ضخم إلى الأندلس للمرة الثالثة لهذا الغرض الذي عزم عليه في سنة (483هـ 1090م)، وكان قد عبر إليها قبل ذلك في سنة (481هـ = 1088م)، ولكنه لم يقم بغزوات ذات شأن، وازداد سخطا لما بدا من تقصير أمراء الطوائف في نصرته، وفي هذه المرة اتجه يوسف بن تاشفين إلى طليطلة، واجتاح في طريقه أراضي قشتالة دون أن يتقدم أحد من ملوك الطوائف لنصرته بعد أن توجسوا منه خيفة، وأدركوا ما عزم عليه، وكان أمير المرابطين يرغب في استعادة طليطلة، ولكنه لم يوفَّق نظرا لمناعتها، وقوة أسوارها، فعاد إلى إشبيلية وفي نيته أن يستخلصها هي وغيرها من مدن الأندلس وحواضرها، وازدادت عزيمته إصرارا على تنفيذ ما وقر في قلبه بسبب ما ترامى إليه من عودة ملوك الطوائف إلى عقد اتفاقيات سرية مع ملك قشتالة، يتعهدون فيها بالامتناع عن معاونة المرابطين، واستهل يوسف بن تاشفين حملته الظافرة بالاستيلاء على غرناطة، ودخلها في (10 من رجب 483هـ = سبتمبر 1090م)، وقبض على أميرها عبد الملك بن ملكين، وبعث به سجينا إلى أغمات بالمغرب.

سقوط إشبيلية

بعث أمير المرابطين بجيوشه لفتح مدن الأندلس واحدة بعد أخرى، وأرسل قائده الفاتح "سيرين" إلى إشبيلية لفتحها، وأدرك المعتمد أن معركته مع المرابطين هي معركة وجوده؛ فتهيأ لها، واستعد، وتأهب للدفاع عن ملكه وسلطانه بكل ما أوتي من قوة، واستعان بحليفه ألفونسو، فأعانه وأمده بجيش كبير، ولكن المرابطين هزموه على مقربة من قرطبة، وامتنع المعتمد بن عباد بإشبيلية حاضرة مملكته.

وفي أثناء حصاره تساقطت مدن مملكته في أيدي المرابطين واحدة بعد أخرى؛ فسقطت قرطبة، وقُتل فيها "الفتح بن المعتمد" مدافعا عنها، ثم سقطت رندة، وقُتل ولده "يزيد الراضي بالله" بعد أَسْرِه، وظل المعتمد يدافع عن حاضرته حتى اقتحم المرابطون إشبيلية عَنوة، فخرج يقاتلهم عند باب قصره غير وَجِلٍ ولا هيَّاب، ولكن ذلك لم يدفع عنه شيئا، ووقع أسيرا واستولى المرابطون على إشبيلية في (22 من رجب 484 هـ= 7 من سبتمبر 1091م).

المعتمد بن عباد في المنفى

أمر قائد المرابطين بحمل المعتمد بن عباد وآل بيته إلى منفاهم بالمغرب، وسارت بهم السفينة من إشبيلية في نهر الوادي الكبير في طريقها إلى المغرب، وخرج الناس لتوديعهم محتشدين على ضفتي النهر، وقد ملأ الدمع أعينهم، وذابت قلوبهم حسرة وألما على ملكهم الذي أدبرت عنه الدنيا؛ فخرج هو وأسرته على هذه الصورة المخزية بعد الجاه والسلطان، وقد سجل الشاعر الأندلسي الكبير ابن اللبانة هذا المشهد الحزين بقصيدة مبكية جاء فيها:

حان الوداعُ فضجّت كل صارخة

وصارخٍ من مُفداة ومن فادِي

سارت سفائنُهم والنوْحُ يتبعها

كأنها إبل يحدو بها الحادي

كم سال في الماء من دمعٍ وكم حملت

تلك القطائعُ من قطعاتِ أكبادِ

وبعد أن وصلت السفينة إلى المغرب أقام المعتمد وأسرته أياما في طنجة، ثم أُخذوا بعد ذلك إلى مكناسة، وقضوا هناك أشهرا قبل أن يرحلوا إلى منفاهم إلى أغمات، وهي مدينة صغيرة تقع على مقربة من مراكش عاصمة دولة المرابطين، وكان قد سبق المعتمد إلى هذا المنفى "عبد الله بن بلكين" أمير غرناطة.

وفي أغمات عاش المعتمد كاسف البال، كسير القلب، يُعامَل معاملة سيئة، ويتجرع مرَّ الهوان، ليس بجانبه من يخفف عنه مأساته، ويطارحه الحديث؛ فتأنس نفسه وتهدأ. ينظر إلى بناته الأقمار؛ فيشقيه أنهن يغزلن ليحصلن على القوت، ولكنه كان يتجلد ويتذرع بالصبر، ويلجأ إلى شعره، فينفس عن نفسه بقصائد مُشجية مؤثرة. تدخل عليه بناته السجن في يوم عيد، فلما رآهن في ثياب رثة، تبدو عليهن آثار الفقر والفاقة؛ انسابت قريحته بشعر شجي حزين:

فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا

فساءك العيدُ في أغمات مأسورًا

ترى بناتك في الأطمارِ جائعة

يغزلْن للناس لا يملكْنَ قِطميرا

برزْن نحوَك للتسليمِ خاشعةً

أبصارُهنَّ حسيراتٍ مكاسيرا

يطأْنَ في الطين والأقدام حافية

كأنها لم تطأْ مسكا وكافورا

واشتدت وطأة الأَسْرِ على اعتماد الرميكية زوجة المعتمد، ولم تقوَ طويلا على مغالبة المحنة؛ فتُوفيت قبل زوجها، ودُفنت بأغمات على مقربة من سجن زوجها.

وطال أَسْر المعتمد وسجنه فبلغ نحو أربع سنوات حتى أنقذه الموت من هوان السجن وذل السجان؛ فلقي ربه في (11 من شوال 488 هـ = 1095م) ودُفن إلى جانب زوجته.


منقول

عبدالغفور الخطيب
18-08-2006, 02:46 AM
يزيد بن أبي سفيان.. ملامح وبطولات

(في ذكرى خروجه لفتح بلاد الشام: 23 من رجب 12هـ)

يظن بعض الناس أن مسألة الفتوحات الإسلامية في العراق والشام ومصر وسائر البلاد كان يحركها الإيمان وحده، وتؤججها حماسة النفوس وشغفها بالشهادة، وأنهم ظفروا بالنصر لصدق إيمانهم وإخلاص نياتهم دون نظر إلى أمور لا بدَّ منها لتحقيق النصر؛ فالفوز لا يحققه الإيمان والحماسة دون التجهز والإعداد، ووضع الخطة المُحكمة والتزام الجند المدربين بها، ووجود القائد النابه الذي يقود جنده إلى النصر، ويغير من سير المعركة حسبما تقتضيه الأحوال.

وحين خرج المسلمون لفتوحاتهم كانوا يمتلكون من أسباب النصر ما لا يمتلكه غيرهم، من صدق الإيمان وخبرة الحروب وميادين القتال، ووفرة القادة الأكْفَاء، وحماسة الجند وحسن تدريبهم، ووحدة الهدف؛ فاجتمع عندهم ما يكفل النصر، وإن كانوا أقل عددا وعتادا من عدوهم؛ فما قيمة الكثرة الكاثرة من الجند إن افتقدوا إلى الإيمان الصادق والتدريب الحميد والرغبة في القتال؟! وما قيمة السيف الباتر في يد الجبان الرعديد؟! وما قيمة القائد المحنَّك إن تخلَّى عنه جنده في الميدان، ولم يلتزموا بالصبر والثبات، وتنفيذ ما يعهد إليهم من مهام؟!

والذي يثير الإعجاب والتقدير في نجاح الفتوحات الإسلامية هو اجتماع كل هذه العناصر؛ فتحقق للمسلمين من سعة الفتح في سنوات قليلة ما لا تحققه أمم في قرون عديدة، وكان من أسباب النصر التي تدعو إلى التأمل وفرة القادة الذين حملوا رايات الجهاد، فإذا أخفق قائد في مهمته عاجله الخليفة بمن يحل المشكلة، ويحقق النصر.

وكان اختيار الخليفة لقادة ألويته اختيارا دقيقا، يقدم مصلحة الأمة، وينتقي للمهمة أكفأ الناس لها، وإن كان أحدث سابقة في الإسلام، وإن ممن اختارهم أبو بكر لقيادة فتوحاته خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وفي الصحابة من هم أقدم منهم سابقة، وأكثر علما، لكنه يختار للمهمة من هو جدير بها، وكان يزيد واحدا من قادة فاتحي الشام الأَكْفَاء.

من هو يزيد؟

هو يزيد بن أبي سفيان بن حرب، أسلم في فتح مكة في العام الثامن من الهجرة، وهو أخو معاوية بن أبي سفيان من أبيه، وأخو أم المؤمنين أم حبيبة زوج النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم)، شهد مع الرسول (صلَّى الله عليه وسلَّم) غزوة حنين، وأعطاه من غنائمها مائة من الإبل، وأربعين أوقية من الفضة، وفي خلافة أبي بكر الصديق عقد له مع أمراء الجيوش التي بعثها لفتح الشام.

كان الصحابي الجليل خالد بن سعيد بن العاص أول قائد عقد له أبو بكر الصديق لواء فتح الشام، وأمره أن يعسكر بجيشه في تيماء شمالي الحجاز، وألا يقاتل إلا إذا قوتل، وكان الخليفة يقصد من وراء ذلك أن يكون جيش خالد بن سعيد عونًا ومددًا عند الضرورة، وأن يكون عينه على تحركات الروم، لا أن يكون طليعة لفتح بلاد الشام، لكن "خالد" اشتبك مع الروم التي استنفرت بعض القبائل العربية من بهراء وكلب ولخم وجذام وغسان لقتال المسلمين، فهُزم هزيمة مروعة في مرج الصفر، واستشهد ابنه في المعركة، ورجع بمن بقي معه إلى ذي مروة ينتظر قرار الخليفة أبي بكر الصديق.

لواء يزيد

ولما وصلت أنباء هذه الهزيمة إلى المدينة فزع الصديق وأهمّه الأمر، فجهَّز أربعة جيوش إلى الشام بعد أن استشار أهل الرأي والخبرة من الصحابة، واختار لها أكفأ قادته وأكثرهم معرفة بأمور الحرب وخبرة بميادين القتال، وحدد لكل جيش وِجهته ومهمته التي سيقوم بها، وكان الجيش الأول تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان، ووجهته البلقاء (المملكة الأردنية الهاشمية)، وكان الجيش الثاني بقيادة شرحبيل بن حسنة، ووجهته منطقة بصرى.

وجعل أبو بكر الصديق قيادة الجيش الثالث لأبي عبيدة بن الجراح، ووجهته منطقة الجابية، وجعل له القيادة العامة عند اجتماع الجيوش الأربعة. أما الجيش الرابع فكان بقيادة عمرو بن العاص، ووجهته فلسطين.

الخروج للوجهة

كان يزيد بن أبي سفيان أول أمراء الشام خروجا، فغادر المدينة في (23 من رجب 12 هـ = 3 من أكتوبر 663م)، وخرج أبو بكر يمشي معه، ويزيد راكب في جنده، فقال له: يا خليفة رسول الله إما أن تركب، وإما أن تأذن لي فأمشي معك، فإني أكره أن أركب وأنت تمشي، فقال أبو بكر: "ما أنا براكب وما أنت بنازل، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله"، ثم أوصاه بوصية جامعة، تبين سلوك الفاتحين المسلمين وأخلاقهم في التعامل مع أهالي البلاد التي سيفتحونها، جاء فيها:

"يا يزيد إني أوصيك بتقوى الله وطاعته، والإيثار له والخوف منه، وإذا لقيت العدو فأظفَرَكُم الله بهم؛ فلا تغْلُل، ولا تمثل، ولا تغدر، ولا تجبن، ولا تقتلوا وليدا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تحرقوا نخلا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تعقروا بهيمة إلا لمأكلة، وستمرون بقوم في الصوامع يزعمون أنهم حبسوا أنفسهم لله، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له".

سار يزيد بجيشه من "ذي مرة"، وهي من أعراض المدينة، في ثلاثة آلاف جندي، ثم أمده أبو بكر الصديق حتى بلغ جيشه سبعة آلاف وخمسمائة، واتجه بهم حتى وصل البلقاء، كما أمره الصديق.

ثم توالى وصول الجيوش الثلاثة إلى جنوبي الشام، وبلغ مجموعها نحو 24 ألف مقاتل، لكنها لم تستطع التوغل في بلاد الشام بعد أن احتشد لهم قيصر الروم بكل ما يملك من قوات وعتاد، ولما رأى قادة الجيوش الأربعة ذلك بعثوا إلى الصديق يطلبون منه المدد، فأعانهم بمدد من عنده، لكن الموقف في جبهة القتال لم يتغير؛ فهال الخليفة أن تبقى الأوضاع في الشام دون تحرك، وأن يعجز القادة المجتمعون عن تحقيق النصر في أول لقاء حاسم مع الروم، فاستدعى خالد بن الوليد من جبهة العراق؛ حيث كان ينتقل من نصر إلى نصر، والأبصار متعلقة بما يحققه من ظفر، وأمره أن يأتي بنصف جيشه معه ويتولى القيادة العامة في الشام.

وما كان لأبي بكر الصديق أن يفعل هذا إذا لم تكن لديه ذخيرة من القادة الأكفاء، فإذا أخفق واحد في مهمة فلديه من ينجزها على خير وجه، وإذا كان أربعة من قادته الأَكْفَاء عجزوا عن تحريك الموقف في بلاد الشام؛ فلا ضير؛ فعنده من يمكنه تغيير الأوضاع وإثارة الهمم، ومفاجأة العدو بما لا ينتظره، وهذا من أسباب نجاح الفتوحات التي لم تقتصر على عدد معين من القادة، وإنما أعطت وفرتهم الفرصة المناسبة لاختيار من يصلح لمعركة ما، وإن كان لا يصلح لغيرها.

في أجنادين واليرموك

جاء خالد بن الوليد إلى الشام في تسعة آلاف جندي بعد أن اجتاز صحراء السماوة، في واحدة من أعظم المغامرات العسكرية في التاريخ جرأة وإقداما، وتولى القيادة العامة للجيوش الأربعة، وبدأ في إعادة تنظيمها على نحو جديد، ونجح في تحقيق النصر في (27 من جمادى الأولى 13هـ = 30 من يوليو 634م).

ثم اشترك يزيد بن أبي سفيان في فتح دمشق سنة (14هـ = 635م)، وكان على كراديس الميسرة في معركة اليرموك التي قادها خالد بن الوليد، واستحدث نظاما جديدا، في الجيوش الإسلامية بأن جعلها كراديس -أي كتائب-، ويضم كل كردوس نحو 1000 رجل، وعلى رأسه قائد منهم ممن عُرفوا بالشجاعة، وقد جمع خالد هذه الكراديس بعضها إلى بعض، وجعل منها قلبا وميمنة وميسرة، فكان أبو عبيدة بن الجراح على كراديس القلب، وعمرو بن العاص على الميمنة، ويزيد على الميسرة.

يزيد أميرا لدمشق

بعد أن تحقق النصر في اليرموك، وأصبح المسلمون سادة الشام قام أبو عبيدة بن الجراح بتوزيع الشام على قادته، وكان يتولى السلطة العامة على جيوش المسلمين بعد عزل خالد بن الوليد، فاستخلف يزيد بن أبي سفيان على دمشق، وعمرو بن العاص على فلسطين، وشرحبيل بن حسنة على الأردن.

ومن دمشق خرج يزيد بن أبي سفيان غربا إلى ساحل الشام، ففتح صيدا وعِرْقَة وجبيل وبيروت، وكان على مقدمته أخوه معاوية بن أبي سفيان، وكان كلما فتح مدينة جعل لها حامية تكفيها.

وفاة يزيد

في العام الثامن عشر من الهجرة رُوِّع الشامُ بوباء مهلك عُرف بطاعون عمواس أفنى أعدادا هائلة من المسلمين، ومكث عدة أشهر، ومات فيه نحو خمسة وعشرين ألفًا من المسلمين، وقد بدأ الوباء من عمواس، ثم انتشر حتى عمَّ الشام كلها.

ومات في هذا الطاعون أبو عبيدة بن الجراح أمير أمراء فتح الشام، وله من العمر ثمانية وخمسون عاما، ومعاذ بن جبل، والفضل بن العباس بن عبد المطلب، وشرحبيل بن حسنة، وسهل بن عمرو. ولما أتى إلى عمر بن الخطاب خبر وفاة أبي عبيدة كتب إلى يزيد بن أبي سفيان بولاية الشام مكانه، لكن "يزيد" مرض وهو يحاصر قيسارية، فانصرف إلى دمشق حيث تُوفِّي بها في آخر سنة (18هـ = 639م)، فكتب عمر إلى معاوية بن أبي سفيان بتوليته ما كان يتولاه أخوه يزيد.


منقول

عبدالغفور الخطيب
19-08-2006, 02:09 AM
عمر بن عبد العزيز.. الأموي الراشد

(في ذكرى وفاته: 24 من رجب 101هـ)

تبوَّأ الخليفة عمر بن عبد العزيز مكانة سامقة في تاريخنا الإسلامي لم ينلها إلا الأفذاذ من القادة والفاتحين، والجهابذة من أئمة العلم، والعباقرة من الكتاب والشعراء. ويزداد عجبك حين تعلم أنه احتلّ هذه المكانة بسنتين وبضعة أشهر قضاها خليفة للمسلمين، في حين قضى غيره من الخلفاء والزعماء عشرات السنين دون أن يلتفت إليهم التاريخ؛ لأن سنوات حكمهم كانت فراغًا في تاريخ أمتهم، فلم يستشعر الناس تحولا في حياتهم، ولا نهوضًا في دولتهم، ولا تحسنا في معيشتهم، ولا إحساسًا بالأمن يعمّ بلادهم.

وهذا يجعلك تؤمن بأن القادة والزعماء يدخلون التاريخ بأعمالهم التي تغير تاريخ أمتهم لا بالسنوات التي عاشوها يحكمون؛ فالخليفة العباسي الناصر لدين الله قضى ستًا وأربعين سنة في منصب الخلافة (575هـ- 622هـ= 1179-1225م)، ومضى دون أن يحفر لنفسه مكانًا في تاريخ أمته، في الوقت الذي قضى فيه "سيف الدين قطز" سلطانًا في مصر نحو عام، نجح أثناءه في إلحاق أكبر هزيمة بالمغول في "عين جالوت"، وإعادة الثقة في نفوس المسلمين، ثم قضى نحبه على أيدي شركائه في النصر، بعد أن جذب الانتباه إليه، ونظر إليه الجميع بكل إعجاب وتقدير، وكان دوره التاريخي -على قِصَر فترته الزمنية- كبيرًا وباقيًا.

وكان عمر بن عبد العزيز واحدًا ممن دخلوا التاريخ بأعماله العظيمة وإدارته العادلة للدولة، حتى تجدد الأمل في النفوس أنه بالإمكان عودة حكم الخلفاء الراشدين واقعًا ملموسًا لا قصصًا تُروى ولا أماني تُطلب ولا خيالاً يُتصوَّر، بل حقيقة يشهدها الناس، وينعمون بخيرها.

واحتاج عمر بن عبد العزيز لإحداث هذا التغيير في حياة الأمة إلى ثلاثين شهرًا، لا إلى سنوات طويلة، ولهذا دلالته ؛ حيث إن الأمة كانت حية نابضة بالإيمان، مليئة بالرجال الذين يجمعون -إلى جانب الصلاح- القدرة والكفاءة، ولو كانت الأمة مُجدبة من أمثال هؤلاء لما استطاع عمر أن يقوم بهذا الإصلاح العظيم في هذه الفترة القصيرة، وسنحاول في هذا العدد رصد التغيير الذي أحدثه عمر بن عبد العزيز في حياة أمته.

المولد والنشأة

في المدينة المنورة وُلد لعبد العزيز بن مروان بن الحكم ولد سمّاه "عمر"، على اسم جدِّه "عمر بن الخطاب"، فأُمُّ عمر بن عبد العزيز هي "أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب". ولا يُعرف على وجه اليقين سنة مولده؛ فالمؤرخون يتأرجحون بين أعوام 59 هـ، 61هـ، 62هـ، وإن كان يميل بعضهم إلى سنة 62هـ، وأيًا كان الأمر، فقد وُلد عمر بن عبد العزيز في المدينة، وبها نشأ على رغبة من أبيه الذي تولى إمارة مصر بعد فترة قليلة من مولد ابنه، وظلّ واليًا على مصر عشرين سنة حتى توفي بها (65هـ- 85هـ= 685-704م).

وفي المدينة شبّ الفتى النابهُ بين أخواله من أبناء وأحفاد الفاروق "عمر"، واختلف إلى حلقات علماء المدينة، ونهل من علمهم، وتأدَّب بأدبهم، وكانت المدينة حاضرة العلم ومأوى أئمته من التابعين، ومَن طال عمره من الصحابة؛ فروى عن أنس بن مالك، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وسهل بن سعد، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر.

ثم انتقل عمر بن عبد العزيز من مرحلة التلقي والسماع إلى التحديث والرواية بعد أن رسخت قدمه في العلم، وتتلمذ على أئمة الحديث والفقه. وكان ممن روى عن عمر بن عبد العزيز من التابعين: أبو بكر بن حزم، ورجاء بن حيوة، والزهري، وأيوب السختياني وغيرهم.

وبعد مرحلة طلب العلم استدعاه عمه الخليفة عبد الملك بن مروان إلى دمشق حاضرة دولته، وزوّجه ابنته فاطمة، ثم عيّنه واليًا على إمارة صغيرة من أعمال حلب، وظل واليًا عليها حتى تُوفي عبد الملك بن مروان سنة (86هـ=705م).

والي المدينة

ولما تولى الوليد بن عبد الملك الخلافة بعد أبيه سنة (86هـ=705م) عيّن ابن عمه عمر بن عبد العزيز واليًا على المدينة خلفًا لواليها السابق هشام بن إسماعيل المخزومي، وكان هشام قد أساء السيرة في أهلها؛ فرغبوا عنه، ولم يرضوه حاكمًا عليهم، وقد استقبل أهل المدينة الوالي الجديد استقبالا حسنًا؛ فهم يعرفون خلقه وفضله منذ أن نشأ بينهم، وأحسنوا الظن فيه؛ فلم يخيب آمالهم، وبادر إلى العمل الجاد، واختيار معاونيه من خيرة الرجال، وأفضلهم قدرة وكفاءة، وكان من بينهم شيوخه: عروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، فجمعهم، وأخبرهم بسياسته وطريقته في الحكم، وقال لهم: "إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، ونكون فيه أعوانًا على الحق. ما أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم أو برأي مَن حضر منكم؛ فإن رأيتم أحدًا يتعدَّى، أو بلغكم عن عامل ظُلامة، فأُحِّرج بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني".

وفي فترة ولايته نعمتْ المدينة بالهدوء والاستقرار، وشعر الناس بالأمن والعدل، وقام بتجديد المسجد النبوي وتحسين عمارته، ثم عزله الخليفة الوليد عن ولايته سنة (93هـ= 711م) بعد أن ظلّ على المدينة ست سنوات، ولم يكن عزله عن تقصير وإهمال أو تقاعس عن مباشرة أحوال الناس المدينة، ولكن عُزل بسبب وشاية استجاب لها الوليد، فأخرجه من منصبه، فعاد عمر إلى الشام، ولم يتولَّ منصبًا.

وظل عمر بن عبد العزيز حتى وفاة الوليد بن عبد الملك سنة (96هـ= 714م) في الشام، فلما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة من بعده أبقى على عمر، ولم يُولِّهِ منصبًا، وجعله في بلاطه مستشارًا وناصحًا، ومعاونًا له وظهيرًا؛ فلما حضرته الوفاة أُوصى له بالخلافة من بعده؛ لما رأى فيه من القدرة والكفاءة، والتقوى والصلاح، والميل إلى الحق والعدل؛ فتولاها في سنة (101هـ= 719م)

في منصب الخلافة

اجتمع لعمر بن عبد العزيز من الصفات والمواهب ما جعله خليفة قديرًا نادر المثال، ينهض بمسئوليته على خير وجه، وشاء الله أن يعتليَ منصب الخلافة والدولة في أوج قدرتها وعظمتها، بعد أن مرّت بفترات عاصفة، وأوقات حَرِجة، وفتن مظلمة، وثورات مدمرة، لكن الدولة تجاوزت تلك المخاطر، وفرضت هيبتها وسلطانها؛ فعاد الأمن والاستقرار، واستؤنف الفتح الإسلامي، وضمت الدولة إلى أراضيها بقاعا شاسعة في الشرق والغرب، وحسبك أن تعلم أن عمر بن عبد العزيز ولي منصبه وجيوش مسلمة بن عبد الملك تحاصر القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية؛ فكان استقرار الدولة من أسباب ظهور أثر إصلاحات عمر، وسياسته الحكيمة، وإدارته العادلة.

وكان عمر إداريًا عظيمًا، إلى جانب صلاحه وتقواه، وزهده وورعه، وهو ما امتلأت به كتب السِّيَر والتراجم حتى كادت تطغى هذه الأخبار على ملامح شخصيته الثرية بجوانبها الأخرى.

سياسته الداخلية

وقبل أن يلي عمر بن عبد العزيز الخلافة تمرّس بالإدارة واليًا وحاكمًا، واقترب من صانعي القرار، ورأى عن كثب كيف تُدار الدولة، وخبر الأعوان والمساعدين؛ فلما تولى الخلافة كان لديه من عناصر الخبرة والتجربة ما يعينه على تحمل المسؤولية ومباشرة مهام الدولة، وأضاف إلى ذلك أن ترفَّع عن أبهة الحكم ومباهج السلطة، وحرص على المال العام، وحافظ على الجهد والوقت، ودقَّق في اختيار الولاة، وكانت لديه رغبة صادقة في تطبيق العدل.

وخلاصة القول أن عمر بن عبد العزيز لم يكن رجل زهد وولاية وجد نفسه فجأة خليفة؛ بل كان رجل دولة استشعر الأمانة، وراقب الله فيما أُوكل إليه، وتحمل مسؤولية دولته الكبيرة بجدٍّ واجتهاد؛ فكان منه ما جعل الناس ينظرون إليه بإعجاب وتقدير.

وكان يختار ولاته بعد تدقيق شديد، ومعرفة كاملة بأخلاقهم وقدراتهم؛ فلا يلي عنده منصبًا إلا من رجحت كفته كفاءة وعلمًا وإيمانًا، وحسبك أن تستعرض أسماء من اختارهم لولاياته؛ فتجد فيهم العالم الفقيه، والسياسي البارع، والقائد الفاتح، من أمثال أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أمير المدينة وقاضيها، والجراح بن عبد الله الحكيمي، أمير البصرة، وكان قائدًا فاتحًا، وإداريًا عظيمًا، وعابدًا قائدًا، والسمح بن مالك أمير الأندلس، وكان قائدًا فذًا، استُشهد على أرض الأندلس، وكان باقي ولاته على هذه الدرجة من القدرة والكفاءة.

وكان عمر لا يكتفي بحسن الاختيار بعد دراسة وتجربة، بل كان يتابع ويراقب، لكن مراقبته لم تكن مراقبة المتهم، بل كان يراقب تطبيق السياسة العامة التي وضعها للدولة.

وإذا كان قد أخذ نفسه بالشدة والحياة الخشنة، فإنه لم يلزم بها ولاته، بل وسّع عليهم في العطاء، وفرض لهم رواتب جيدة تحميهم من الانشغال بطلب الرزق، وتصرفهم عن الانشغال بأحوال المسلمين، كما منعهم من الاشتغال بالتجارة، وأعطى لهم الحرية في إدارة شئون ولاتهم؛ فلا يشاورونه إلا في الأمور العظيمة، وكان يظهر ضيقه من الولاة إذا استوضحوه في الأمور الصغيرة.. كتب إليه أحد ولاته يستوضح منه أمرًا لا يحتاج إلى قرار من الخليفة، فضاق منه عمر، وكتب إليه: "أما بعد، فأراك لو أرسلتُ إليك أن اذبح شاة، ووزِّع لحمها على الفقراء، لأرسلت إلي تسألني: كبيرة أم صغيرة؟ فإن أجبتك أرسلت تسأل: بيضاء أم سوداء؟ إذا أرسلت إليك بأمر، فتبيَّن وجه الحق منه، ثم أمْضِه".

سياسته المالية

عرف عمر بن عبد العزيز قيمة مال الدولة؛ فلم ينفقه إلا فيما فيه نفع الأمة، وكان يكره التصرف في المال العام بلا ضابط أو رقيب، وكأنه مال خاص للخليفة أو الوالي ينفقه كيفما شاء، ويعطيه لمن شاء؛ ولذا كان يحترز في إنفاق مال الدولة؛ لأنه أمانة يجب صيانتها، ولكل فرد في الأمة حق فيها يجب حفظه، وأعطى عمر من نفسه القدوة والمثال في حفظ مال الدولة، فتبعه ولاته، وانتهجوا طريقته.

وكان من نتائج هذه السياسة أن تدفقت الأموال إلى خزينة بيت المال من موارد الدولة المتنوعة التي حافظ الولاة عليها، ورَعَوْهَا حقَّ رعايتها، وكانت كفيلة بأن تقوم بكل مسؤوليات الدولة تجاه أفرادها، وتحسين حياتهم إلى الحد الذي جعله يكتب إلى أحد ولاته: "أن اقضوا عن الغارمين"؛ أي أدوا عنهم دَيْنَهم، فكتب إليه: "إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والأثاث"، فكتب إليه عمر: "إنه لا بد للمرء المسلم من سكن يسكنه، وخادم يعينه، وفرس يجاهد عليه.. اقضوا عنه فإنه غارم".

وبلغ من حرصه على الرفق برعيته، واحترامه لحقوق الإنسان أن جعل لكل أعمى قائدا يقوده ويخدمه، ولكل مريضين مرضًا شديدًا خادما لهما، ولكل خمسة أيتام أو من لا عائل لهم خادما يخدمهم، ويقوم على شؤونهم.

وفاضَ المال في بيت المال بفضل سياسته الحكيمة وعدله الناصع؛ فمكنه من فرض الرواتب للعلماء وطلاب العلم والمؤذنين، وفكّ رقاب الأسرى، وعالَ أسرَهُم في أثناء غيابهم، وقدم الأعطيات للسجناء مع الطعام والشراب، وحمّل بيت المال تكاليف زواج مَن لا يملك نفقاته.

لقد قام بيت المال بكل ما يحتاجه المسلمون حتى إن المنادي لينادي في كل يوم: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟… لقد اغتنى كل هؤلاء فلم تعد لهم حاجة إلى المال.

ويُذكر لعمر بن عبد العزيز أنه أسقط الجزية عن أبناء البلاد المفتوحة الذين دخلوا في الإسلام، وكان بعض عمال بني أمية لما أعوزهم المال بسبب الحروب واشتعال الثورات، أبقوا الجزية على هؤلاء، وأطلق عمر صيحته المشهورة رفضًا لهذا الإجراء: "إن الله بعث محمدًا هاديًا، ولم يبعثه جابيًا".

تدوين السنة

وكان لعمر بن عبد العزيز جانب مشرق في حياته المضيئة كلها، يكاد يخفي أهمية أعماله الأخرى، وإصلاحاته الكبرى، وعدله، ومناقبه التي امتلأت بها كتب التراجم والسير؛ فالمعروف أن الدولة الإسلامية تبنَّت تدوين السنة رسميًا في عهد عمر بن عبد العزيز بأمر منه، وكانت هذه خطوة بالغة الأهمية في عملية التدوين وظهور المصنفات الكبرى في الحديث وتنوع مناهجها، حتى بلغ بها الإمام البخاري قمة النضج في التصنيف والتبويب، وإذا كانت أعمال عمر الأخرى قد احتفظت بها كتب التاريخ آثارًا تروى، فإن قراره بتدوين السنة لا يزال أثره باقيًا حتى اليوم ينتفع به المسلمون ممثلا في كتب السنة النبوية.

وبدأ عمر الخطوة الأولى في تدوين السنة بكتابته إلى الأمصار يأمر العلماء بجمع الأحاديث وتدوينها، وكان فيما كتبه لأهل المدينة: "انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه؛ فإني خفت دُرُوس العلم، وذهاب أهله"، وكتب إلى أمير المدينة المنورة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: "اكتب إليَّ بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحديث عمرة، فإني خشيت دُرُوس العلم وذهاب أهله".

كما أمر ابن شهاب الزهري وغيره بجمع السنن فكتبوها له، وكان ابن شهاب أحد الحفاظ الذين شاركوا في جمع الحديث، ويقول في ذلك: "أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا".

السياسة الخارجية

حين تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كانت الدولة الأموية قد بلغت أقصى اتساع لها في الشرق والغرب، وجيوشها على الحدود تقوم بالفتح، وتضيف للدولة بقاعًا جديدة، وليس ثَم شك في أن تبليغ كلمة الإسلام إلى أنحاء الأرض كلها أمر محمود، وهذه الفتوحات كانت من مآثر الدولة الأموية التي لا تنكر، غير أن الخليفة كان له رأي آخر يقوم على تقديم الأولويات وإعادة تنظيم الدولة من الداخل، والاهتمام بالإنسان ومراعاة حقوقه، والحرص على دمائه؛ لذا أولى الشئون الداخلية عنايته؛ لأنها كانت في حاجة لإصلاح ومزيد من التحسين، واهتم بنشر الإسلام في البلاد التي فُتحت أكثر من الاهتمام بالفتح نفسه، وعُني بإرسال الدعاة والعلماء أكثر من عنايته بإرسال الجيوش والحملات، غير أن هذا لا يعني أنه أوقف حركة الفتوحات بل يعني أنه رشدها، وبدلا من إنفاق الأموال الطائلة على تجهيزها وإعدادها وجّه هذه الأموال إلى العناية بالإنسان، وهذا يفسر أمره برجوع جيش مسلمة بن عبد الملك الذي كان يحاصر القسطنطينية، ولم يوفَّق في فتحها، واشتد بالمسلمين الحال، وضاق بهم العيش؛ فأشفق على الجيش المنهك، وأمره بالعودة حتى يستعيد قواه وعافيته، هذا في الوقت الذي كان واليه على الأندلس "السمح بن مالك" يقوم بفتوحات في الأندلس، وأنهى حياته شهيدًا في إحدى غزواته، فضلاً عن أن حياة عمر القصيرة في الخلافة، وانشغاله بالإصلاح الداخلي لم تتح له أن يقوم بحركة واسعة للفتوحات.

وفاته

كانت خلافة عمر كالنسيم العاطر، تنسم المسلمون هواءه الطيب ورائحته الزكية، وسرعان ما انقطع الهواء العليل، وعادت الحياة إلى ما كانت عليه قبل ولايته، غير أن أهم ما قدمه عمر هو أنه جدّد الأمل في النفوس أن بالإمكان عودة حكم الراشدين، وأن تمتلئ الأرض عدلاً وأمنًا وسماحة، وأنه يمكن أن يُقوم المعوَّج، وينصلح الفاسد، ويرد المنحرف إلى جادة الصواب، وأن تهب نسائم العدل واحترام الإنسان، إذا استشعر الحاكم مسئوليته أمام الله، وأنه مؤتمن فيما يعول ويحكم، واستعان بأهل الصلاح من ذوي الكفاءة والمقدرة.

ولم تطل حياة هذا الخليفة العظيم الذي أُطلق عليه "خامس الخلفاء الراشدين"، فتوفي وهو دون الأربعين من عمره، قضى منها سنتين وبضعة أشهر في منصب الخلافة، ولقي ربه في (24 رجب 101هـ=6 من فبراير720م).


منقول

عبدالغفور الخطيب
20-08-2006, 02:15 AM
الإمام مسلم وصحيحه.. رحلة مع الخلود

(في ذكرى وفاته: 25 من رجب 261هـ)


بدأ تدوين الحديث النبوي رسميًا في خلافة عمر بن عبد العزيز بإشارة منه، فقد كتب إلى الأمصار يأمر العلماء بجمع الحديث وتدوينه، وكان فيما كتبه لأهل المدينة: انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاكتبوه، فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله، ومنذ ذلك الوقت بدأ العلماء في همة عالية وصبر جميل يجمعون أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدونونها في كتب، ولم تكن المهمة يسيرة أو المسئولية سهلة، وتكاد تفوق في عظمها وجسامة المسئولية جمع القرآن الذي تم في عهد الصديق أبي بكر، فالقرآن محفوظ في صدور الصحابة على الترتيب الموجود بين أيدينا، ويصعب أن يختلط بغيره، أما السنة فأئمتها متفرقون في البلاد، ولا يعلم عدد أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدخل الكذابون والوضاعون في الحديث ما ليس من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان هذا مكمن الصعوبة ويحتاج إلى مناهج غاية في الدقة والصرامة لتبين الحديث الصحيح من غيره، وهذا ما قام به جهابذة الحديث وأئمة العلم العظام.

وفي منتصف القرن الثاني الهجري بدأ التأليف في الحديث، فكان أول من جمع الحديث في مكة ابن جريح البصري المتوفى سنة 150 هـ = 768 ، ومحمد بن إسحاق المتوفى سنة 151 هـ = 769م، في المدينة، ومعمر بن راشد المتوفى سنة 153 هـ = 770 في اليمن، وسعيد بن أبي عروبة المتوفى سنة 156 هـ = 772م في البصرة، والليث بن سعد المتوفى سنة 175 هـ = 791م في مصر، ومالك بن أنس المتوفى سنة 179 هـ = 795م في المدينة.

وكانت معظم المؤلفات التي وضعها هؤلاء الصفوة الكرام تضم الحديث النبوي وفتاوى الصحابة والتابعين كما هو واضح في كتاب الموطأ للإمام مالك الذي ضم ثلاثة آلاف مسألة وسبعمائة حديث، ثم تلا ذلك قيام بعض الحفاظ بإفراد أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في مؤلفات خاصة بها، فظهرت كتب المسانيد التي جمعت الأحاديث دون فتاوى الصحابة والتابعين، وتجمع الأحاديث التي رواها الصحابي تحت عنوان مستقل يحمل اسمه، ويعد مسند أحمد بن حنبل هو أشهر كتب المسانيد وأوفاها فضلا عن كونه أكبر دواوين السنة.

حتى إذا كان القرن الثالث الهجري نشطت حركة الجمع والنقد وتمييز الصحيح من الضعيف، ومعرفة الرجال ودرجاتهم من الضبط والإتقان وحالهم من الصلاح والتقوى أو الهوى والميل، ولذا ظهرت الكتب التي رأى أئمة الحفاظ أن تجمع الحديث الصحيح فقط وفق شروط صارمة ومناهج محكمة، وكان أول من صنف في الحديث الصحيح الإمام البخاري ثم تبعه مسلم في كتابه صحيح مسلم وهو موضوع حديثنا.

المولد والنشأة

في نيسابور تلك المدينة العريقة التي اشتهرت بازدهار علم الحديث والرواية فيها ولد مسلم بن الحجاج سنة 206 هـ = 821م على أرجح أقوال المؤرخين، ونشأ في أسرة كريمة، وتأدب في بيت علم وفضل، فكان أبوه فيمن يتصدرون حلقات العلم، ولذا عني بتربية ولده وتعليمه، فنشأ شغوفًا بالعلم مجدًا في طلبه محبا للحديث النبوي، فسمع وهو في الثامنة من عمره من مشايخ نيسابور، وكان الإمام يحيى بن بكير التميمي أول شيخ يجلس إليه ويسمع منه، وكانت جلسة مباركة أورثت في قلب الصغير النابه حب الحديث فلم ينفك يطلبه، ويضرب في الأرض ليحظى بسماعه وروايته عن أئمته الأعلام.

وتذكر كتب التراجم والسير أن الإمام مسلم كان يعمل بالتجارة، وكانت له أملاك وضياع مكنته من التفرغ للعلم، والقيام بالرحلات الواسعة إلى الأئمة الأعلام الذين ينتشرون في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي.

رحلاته العلمية وشيوخه

ابتدأ الإمام مسلم رحلاته في طلب العلم، وكان ذلك سنة متبعة بين طلبة العلم، إلى الحجاز، ولم يتجاوز سنه الرابعة عشرة لأداء فريضة الحج، وملاقاة أئمة الحديث والشيوخ الكبار، فسمع في الحجاز من إسماعيل بن أويس، وسعيد بن منصور، ثم تعددت رحلاته إلى البصرة والكوفة وبغداد والري، ومصر، والشام وغيرها ولقي خلال هذه الرحلات عددًا كبيرًا من كبار الحفاظ والمحدثين، تجاوز المائة، كان من بينهم الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث وصاحب صحيح البخاري، وقد لازمه واتصل به وبلغ من حبه له وإجلاله لمنزلته أن قال له: "دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله".

وكان من شيوخه محمد بن يحيى الذهلي إمام أهل الحديث بخراسان، والحافظ الدارمي أحد الأئمة الحفاظ وصاحب مسند الدارمي، وعبد الله بن مسلمة المعروف بالقعنبي، وأبو زرعة الرازي محدث الري المعروف.

منزلته ومكانته

وقد أتت كل جهوده في طلب العلم ثمارها، وبارك الله له في وقته فحصل من العلم ما لا يجتمع للنابغين حيث رزقه الله ذاكرة لاقطة، وعقلا راجحًا، وفهمًا راسخًا، وقد لفت ذلك أنظار شيوخه، فأثنوا عليه وهو لا يزال صغيرًا غض الإهاب، فتنبأ له شيخه إسحاق بن راهويه في نيسابور حين رأى دأبه وحرصه فقال: أي رجل يكون هذا؟! وعده شيخه محمد بشار من حفاظ الدنيا فيقول: حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة الرازي بالري، ومسلم بنيسابور، وعبد الله الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى.

وأثنى عليه أئمة الحديث ونعتوه بأوصاف الإجلال والإكبار، ومن أجمع الأوصاف ما ذكره القاضي عياض بقوله: هو أحد أئمة المسلمين وحفاظ المحدثين، ومتقني المصنفين، أثنى عليه غير واحد من الأئمة المتقدمين والمتأخرين، وأجمعوا على إمامته وتقدمه وصحة حديثه، وتمييزه وثقته وقبول حديثه.

مؤلفاته

كان الإمام مسلم بن الحجاج من المكثرين في التأليف في الحديث وفي مختلف فنونه رواية ودراية، وصل إلينا منها عدد ليس بالقليل، وهو شاهد على مكانة الرجل في علم الحديث، وهي مكانة لم يصل إليها إلا الأفذاذ من المحدثين أصحاب الجهود المباركة في خدمة السنة، وممن رزقوا سعة الصيت ورزقت مؤلفاتهم الذيوع والانتشار.

ومن مؤلفاته الكنى والأسماء، وطبقات التابعين ورجال عروة بن الزبير، والمنفردات والوجدان، وله كتب مفقودة، منها أولاد الصحابة، والإخوة والأخوات، والأقران، وأوهام المحدثين، وذكر أولاد الحسين، ومشايخ مالك، ومشايخ الثوري ومشايخ شعبة.

صحيح مسلم

غير أن الذي طير اسم مسلم بن الحجاج وأذاع شهرته هو كتابه العظيم المعروف بصحيح مسلم، ولم يعرف العلماء قدر صاحبه ومعرفته الواسعة بفنون الحديث إلا بعد فراغه من تأليف كتابه، وبه عرف واشتهر، يقول النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: "وأبقى له به ذكرا جميلا وثناء حسنا إلى يوم الدين".

وقد بدأ تأليف الكتاب في سن باكرة في بلده نيسابور بعد أن طاف بالبلاد وقابل العلماء وأخذ عنهم، وكان عمره حين بدأ عمله المبارك في هذا الكتاب تسعًا وعشرين سنة، واستغرق منه خمس عشرة سنة حتى أتمه سنة (250 هـ = 864م) على الصورة التي بين أيدينا اليوم.

وقد جمع الإمام مسلم أحاديث كتابه وانتقاها من ثلاث مائة ألف حديث سمعها من شيوخه في خلال رحلاته الطويلة، وهذا العدد الضخم خلص منه إلى 3033 حديثًا من غير تكرار، في حين يصل أحاديث الكتاب بالمكرر ومع الشواهد والمتابعات إلى 7395 بالإضافة إلى عشرة أحاديث ذكرها في مقدمة الكتاب.

وهذه الأحاديث التي انتقاها رتبها ترتيبًا حسنًا، وجعلها سهلة التناول، فرتبها على الأبواب، وجعل كل كتاب يحوي أبوابًا تندرج تحته، وقد بلغت كتب الصحيح حسب ترقيم العالم الجليل محمد فؤاد عبد الباقي 54 كتابًا، تبدأ بكتاب "الإيمان" ويندرج تحته عدة أبواب مثل: باب إن الدين النصيحة، وباب بيان خصال المناق، بيان تحريم الكبر، وتلا كتاب الإيمان كتاب الطهارة، ثم كتاب الحيض، ثم كتاب الصلاة، وينتهي صحيح مسلم بكتاب التفسير وهو الكتاب الرابع والخمسون.

والتزم مسلم بأن جعل لكل حديث موضعًا واحدًا، جمع فيه طرقه التي ارتضاها واختار فيه أسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة، فيسهل على الطالب النظر في وجوه الحديث وما بين سنده ومتنه من فروق وقد تلقت الأمة بالقبول صحيح مسلم وقرنته بصحيح البخاري، وعدت ما فيهما من الحديث صحيحًا مقطوعًا بصحته، وقارن بعض العلماء بينهما، ومال بعضهم إلى تفضيل صحيح مسلم على نظيره البخاري، لكن الذي نص عليه المحققون من أهل العلم أن صحيح البخاري أفضل من حيث الصحة، وصحيح مسلم أفضل من حيث السهولة واليسر حيث يسوق الأحاديث بتمامها في موضع واحد ولا يقطعها في الأبواب مثلما يفعل البخاري.

وقد اعتنى العلماء بصحيح مسلم وخدموه خدمة عظيمة، فوضعوا له عشرات الشروح، ومن أشهر هذه الشروح: إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض، والمنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج للإمام النووي، وإكمال العلم لمحمد بن خليفة المعروف بالأبي، والشروح الثلاثة مطبوعة متداولة.

وامتدت العناية إلى رجال صحيح مسلم، فصنف كثير من العلماء في هذا الاتجاه، مثل كتاب رجال صحيح الإمام مسلم لابن منجويه الأصبهاني، ورجال مسلم بن الحجاج لابن شبرين الأنصاري، وتسمية رجال صحيح مسلم الذين انفرد بهم عن البخاري للذهبي.

وبلغت عناية العلماء بصحيح مسلم أن وضعوا له مختصرات، وجردوه من أسانيد وأحاديثه المكررة، مثل: مختصر صحيح مسلم للقرطبي، والجامع المعلم بمقاصد جامع مسلم للمنذري.

وجمع بعض العلماء بين الصحيحين في كتاب واحد، مثل: الجمع بين الصحيحين للجوزقي، والجمع بين الصحيحين للبغوي، وزاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم للشنقيطي، واللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان لمحمد فؤاد عبد الباقي.

وقد طبع صحيح مسلم طبعات عديدة منفردًا مرة، ومقرونًا مع شرح له مرة، غير أن أفضل طبعاته هي التي حققها محمد فؤاد عبد الباقي، ورقم أحاديثها ووضع لها فهارس تفصيلية.

وفاته

ظل الإمام مسلم بن الحجاج بنيسابور يقوم بعقد حلقات العلم التي يؤمها طلابه والمحبون لسماع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر تلاميذه الذين رحلوا إليه أبو عيسى الترمذي، ويحيى بن صاعد، وابن خزيمة وأبو بكر محمد بن النضر الجارودي وغيرهم، كما شغل وقته بالتأليف والتصنيف حتى إن الليلة التي توفي فيها كان مشغولا بتحقيق مسألة علمية عرضت له في مجلس مذاكرة، فنهض لبحثها وقضى ليله في البحث، لكنه لقي ربه قبل أن ينبلج الصباح في 25 من رجب 261 هـ = 6 من مايو 875م، وهو في الخامسة والخمسين من عمره، ودفن يوم الإثنين في مقبرته بنصر آباد في نيسابور.

منقول

عبدالغفور الخطيب
21-08-2006, 02:49 AM
الإسراء والمعراج.. قيادة جديدة للعالم*

(في ذكرى حادثة الإسراء والمعراج)

الإسراء هو الرحلة الأرضية التي هيأها الله لرسوله (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى القدس.. من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.. رحلة أرضية ليلية.

والمعراج رحلة من الأرض إلى السماء، من القدس إلى السموات العلا، إلى مستوى لم يصل إليه بشر من قبل، إلى سدرة المنتهى، إلى حيث يعلم الله عز وجل..

هاتان الرحلتان كانتا محطة مهمة في حياته (صلى الله عليه وسلم) وفي مسيرة دعوته في مكة، بعد أن قاسى ما قاسى وعانى ما عانى من قريش، ثم قال: لعلي أجد أرضًا أخصب من هذه الأرض عند ثقيف، عند أهل الطائف، فوجد منهم ما لا تُحمد عقباه، ردوه أسوأ رد، سلطوا عليه عبيدهم وسفهاءهم وصبيانهم يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه (صلى الله عليه وسلم)، ومولاه زيد بن حارثة يدافع عنه ويحاول أن يتلقى عنه هذه الحجارة حتى شج عدة شجاج في رأسه.

لماذا الإسراء والمعراج؟

خرج عليه الصلاة والسلام دامي القدمين من الطائف ولكن الذي آلمه ليس الحجارة التي جرحت رجليه ولكن الكلام الذي جرح قلبه؛ ولهذا ناجى ربه هذه المناجاة، وبعث الله إليه ملك الجبال يقول: إن شئت أطبق عليهم الجبلين، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) أبى ذلك، وقال: إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون..

ثم هيأ الله تعالى لرسوله هذه الرحلة، الإسراء والمعراج، ليكون ذلك تسرية وتسلية له عما قاسى، تعويضاً عما أصابه ليعلمه الله عز وجل أنه إذا كان قد أعرض عنك أهل الأرض فقد أقبل عليك أهل السماء، إذا كان هؤلاء الناس قد صدّوك فإن الله يرحب بك وإن الأنبياء يقتدون بك، ويتخذونك إماماً لهم، كان هذا تعويضاً وتكريماً للرسول (صلى الله عليه وسلم) منه عز وجل، وتهيئة له للمرحلة القادمة، فإنه بعد سنوات قيل إنها ثلاث سنوات وقيل ثمانية عشر شهراً (لا يعلم بالضبط الوقت الذي أسري فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم) إنما كان قبل الهجرة يقيناً، كانت الهجرة وكان الإسراء والمعراج إعداداً لما بعد الهجرة، ما بعد الهجرة حياة جهاد ونضال مسلح، سيواجه (صلى الله عليه وسلم) العرب جميعاً، سيرميه العرب عن قوس واحدة، ستقف الجبهات المتعددة ضد دعوته العالمية، الجبهة الوثنية في جزيرة العرب، والجبهة الوثنية المجوسية من عباد النار والجبهة اليهودية المحرفة لما أنزل الله والغادرة التي لا ترقب في مؤمن ذمة، والجبهة النصرانية التي حرفت الإنجيل والتي خلطت التوحيد بالوثنية، والتي تتمثل في دولة الروم البيزنطية.

كان لا بد أن يتهيأ (صلى الله عليه وسلم) لهذه المرحلة الضخمة المقبلة ومواجهة كل هذه الجبهات، بهذا العدد القليل وهذه العدة الضئيلة، فأراد الله أن يريه من آياته في الأرض وآياته في السماء.. قال الله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا} حتى يرى آيات الله في هذا الكون وفي السماء أيضاً كما قال الله تعالى في سورة النجم التي أشار فيها إلى المعراج: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى ما زاغ البصر وما طغى}.

أراد الله أن يريه من هذه الآيات الكبرى حتى يقوى قلبه ويصلب عوده، وتشتد إرادته في مواجهة الكفر بأنواعه وضلالاته، كما فعل الله تعالى مع موسى عليه السلام، حينما أراد أن يبعثه إلى فرعون، هذا الطاغية الجبار المتأله في الأرض الذي قال للناس أنا ربكم الأعلى، ما علمت لكم من إله غيري.

عندما أراد الله أن يبعث موسى إلى فرعون، أراه من آياته ليقوى قلبه، فلا يخاف فرعون ولا يتزلزل أمامه، حينما ناجى الله عز وجل، وقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى* قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى* فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى* قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى* وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى* لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى}، هذا هو السر، لنريك من آياتنا الكبرى، فإذا علمت أنك تركن إلى ركن ركين، وتعتصم بحصن حصين، وتتمسك بحبل متين؛ فلا تخاف عدواً هكذا فعل الله مع موسى، وهكذا فعل الله مع محمد (صلى الله عليه وسلم)، أراه من آياته في الأرض ومن آياته في السماء، الآيات الكبرى ليستعد للمرحلة القادمة..

الصلاة.. معراج

كان الإسراء والمعراج تهيئة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكان تكريماً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) عما أصابه من قومه في مكة وفي الطائف، وكان كذلك لشيء مهم جديد في حياة المسلمين وله أثره في حياتهم المستقبلية، هو فرض الصلاة، فرض الله في هذه الليلة الصلاة، عادة الدول حينما يكون هناك أمر مهم تستدعي سفراءها، لا تكتفي بأن ترسل إليهم رسالة إنما تستدعيهم ليمثلوا عندها شخصياً وتتشاور معهم، وهكذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يستدعي سفيره إلى الخلق، محمد (صلى الله عليه وسلم) ليسري به من المسجد الحرام، ثم يعرج به إلى السموات العلا إلى سدرة المنتهى، ليفرض عليه الصلاة، إيذاناً بأهمية هذه الفريضة في حياة الإنسان المسلم والمجتمع المسلم، هذه الفريضة التي تجعل المرء على موعد مع ربه أبداً، هذه الفريضة فرضت أول ما فرضت خمسين صلاة، ثم مازال النبي (صلى الله عليه وسلم) يسأل ربه التخفيف بإشارة أخيه موسى حتى خفف الله عنهم هذه الصلوات إلى خمس، وقال هي في العمل خمس وفي الأجر خمسون، فهي من بقايا تلك الليلة المباركة.

هي معراج لكل مسلم، إذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد عرج به إلى السموات العلا، فلديك يا أخي المسلم معراج روحي تستطيع أن ترقى به ما شاء الله عز وجل، بواسطة الصلاة التي يقول الله تبارك وتعالى فيها في الحديث القدسي: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال عبدي: الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي، فإذا قال الرحمن الرحيم، قال تعالى أثنى علي عبدي، فإذا قال مالك يوم الدين قال الله تعالى مجّدني عبدي، فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله تعالى هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر الفاتحة، قال الله تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"..

قيادة جديدة

المسلم وهو يصلي يستطيع أن يرتقي حتى يكاد يسمع هذه الكلمات من الله تبارك وتعالى، الصلاة هي معراج المسلم إلى الله تبارك وتعالى، ثم لا بد أن ننظر لماذا كان هذا الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لماذا لم يعرج برسول الله (صلى الله عليه وسلم) مباشرة من المسجد الحرام إلى السموات العلا؟ هذا يدلنا على أن المرور بهذه المحطة القدسية، المرور ببيت المقدس، في هذه الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، المرور بالمسجد الأقصى كان مقصوداً، والصلاة بالأنبياء الذين استقبلوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في بيت المقدس، وأنه أمهم، هذا له معناه ودلالته، أن القيادة قد انتقلت إلى أمة جديدة وإلى نبوة جديدة، إلى نبوة عالمية ليست كالنبوات السابقة التي أرسل فيها كل نبي لقومه، هذه نبوة عامة خالدة لكل الناس، رحمة للعالمين، ولجميع الأقاليم ولسائر الأزمان، فهي الرسالة الدائمة إلى يوم القيامة عموم هذه الرسالة وخلودها كان أمراً لا بد منه، وهذه الصلاة بالأنبياء تدل على هذا الأمر، والذهاب إلى المسجد الأقصى، وإلى أرض النبوات القديمة، التي كان فيها إبراهيم، وإسحاق وموسى وعيسى إيذان بانتقال القيادة.. القيادة انتقلت إلى الأمة الجديدة وإلى الرسالة العالمية الخالدة الجديدة..

مصير واحد

ثم أراد الله تبارك وتعالى أن يربط بين المسجدين، المسجد الذي ابتدأ منه الإسراء، والمسجد الذي انتهى إليه الإسراء، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أراد الله عز وجل لما يعلمه بعد ذلك أن يرتبط في وجدان المسلم هذان المسجدان، المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وأراد الله أن يثبت المسجد الأقصى بقوله الذي باركنا حوله، وصف الله هذا المسجد بالبركة، وهذا قبل أن يوجد مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ لأن المسجد النبوي لم ينشأ إلا بعد الهجرة، في المدينة فأراد الله أن يوطد هذا المعنى ويثبته في عقول الأمة وقلوبها، حتى لا يفرطوا في أحد المسجدين، من فرط في المسجد الأقصى أوشك أن يفرط في المسجد الحرام، المسجد الذي ارتبط بالإسراء والمعراج، والذي صلى إليه المسلمون مدة طويلة من الزمن، حينما فرضت الصلاة، كان المسلمون يصلون إلى بيت المقدس، كان بيت المقدس قبلتهم، ثلاث سنين في مكة وستة عشر شهراً في المدينة، صلوا إلى هذا المسجد إلى بيت المقدس، كان قبلة المسلمين الأولى، فهو القبلة الأولى، وهو أرض الإسراء والمعراج، وهو المسجد الذي لا تشد الرحال إلا إليه وإلى المسجد الحرام والمسجد النبوي، وبهذا كانت القدس هي المدينة الثالثة المعظمة في الإسلام بعد مكة والمدينة.

بشارة للمسلمين

هكذا ينبغي أن يعي المسلمون أهمية القدس في تاريخهم وأهمية المسجد الأقصى في دينهم، وفي عقيدتهم وفي حياتهم، ومن أجل هذا حرص المسلمون طوال التاريخ أن يظل هذا المسجد بأيديهم.

وحينما احتل الصليبيون المسجد الأقصى، حينما جاءوا إلى فلسطين بقضهم وقضيضهم وثالوثهم وصليبهم، جاءوا من أوروبا، حروب الفرنجة أو كما يسمونها الحروب الصليبية، جاء هؤلاء وأقاموا لهم ممالك وإمارات، في فلسطين واحتلوا المسجد الأقصى، هيأ الله من أبناء الإسلام، ومن قادة المسلمين من نذروا حياتهم لتحرير هذا المسجد، وكان هؤلاء القادة من غير العرب، بدأ ذلك بعماد الدين زنكي القائد العظيم، وبابنه الشهيد نور الدين محمود، الذي يلقب بالشهيد مع أنه لم يستشهد، ولكنه عاش حياته تائقاً للشهادة في سبيل الله، وكان يشبه بالخلفاء الراشدين بعدله وزهده وحسن سياسته، وتلميذ نور الدين محمود صلاح الدين الأيوبي البطل الكردي الذي حقق الله على يديه النصر، في معركة حطّين ومعركة فتح بيت المقدس.. فتح بيت المقدس ولم يرق فيها من الدماء إلا بقدر الضرورة، بينما حينما دخلها الصليبيون غاص الناس في الدماء إلى الركب، قتلت الآلاف وعشرات الآلاف، ولكن هذا هو الإسلام.

المكان لا المبنى

إن المسجد الأقصى حينما كان الإسراء لم يكن هناك مسجد مشيد، كان هناك مكان للمسجد، كما قال تعالى {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} فقوله إلى المسجد الأقصى بشارة بأن المكان سيتحول إلى مسجد وهو أقصى بالنسبة إلى أهل الحجاز، ومعنى هذا أن الإسلام سيمتد وسيأخذ هذا المكان الذي تسيطر عليه الإمبراطورية الرومية، كان هذا بشارة للمسلمين أن دينهم سيظهر وأن دولتهم ستتسع، وأن ملكهم سيمتد وسيكون هناك مسجد أقصى، وقد كان..

دخل المسلمون القدس في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، أبى بطريرك القدس سيفرنيوس أن يسلم مفتاح المدينة إلا لخليفة المسلمين، أبى أن يسلمها للقادة العسكريين، قال: أريد الخليفة بنفسه، وجاء عمر في رحلة تاريخية شهيرة مثيرة وتسلم مفتاح المدينة، وكتب عهداً الذي يسمى "العهدة العمرية"، عهداً لهؤلاء أن يأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ومعابدهم وشعائرهم وكل ما يحرص الناس عليه، وشرط اشترطوه ألا يساكنهم فيها أحد من اليهود.

وحينما دخل المسلمون إلى القدس لم يكن فيها يهودي واحد فقد أزال الرومان من سنة 135 ميلادية الوجود اليهودي تماماً؛ ولذلك لم يأخذ المسلمون القدس من اليهود أو من الإسرائيليين إنما أخذوها من الرومان، وقبل ذلك زالت الدولة اليهودية على يد البابليين، وبعد ذلك زال الوجود اليهودي نفسه على يد الرومان وزالت الدولة اليهودية منذ أكثر من 25 قرناً، سنة 486 قبل الميلاد، والآن اليهود يقولون: نحن أصحاب القدس ولنا حق تاريخي.. فأين هذا الحق؟ نحن أصحاب هذا الحق، القدس سكنها العرب، من القديم، اليبوسيون والكنعانيون قبل الميلاد بثلاثين قرناً، ثم أخذها المسلمون من أربعة عشر قرناً، أو يزيد.. فأين حقكم؟ وأين ما تدعون؟ إنه لا حق لهؤلاء، ولكنه حق الحديد والنار، تكلم السيف فاسكت أيها القلم، منطق القوة وليس قوة المنطق، نحن نرفض هذا المنطق ونتمسك بحقنا، نتمسك بالمسجد الأقصى ولا نفرط فيه، إذا فرطنا فيه فقد فرطنا في قبلتنا الأولى، فرطنا في أرض الإسراء والمعراج، فرطنا في ثالث المسجدين المعظمين، فرطنا في ديننا ودنيانا وكرامتنا وحقوقنا ولن نفرط في ذلك أبداً، سنظل نقاوم ونجاهد..

إسرائيل تريد أن ترغمنا على الأمر الواقع، هي في كل يوم تفعل شيئاً تقيم مستوطنات وتزيل بيوتاً، تهدد الناس في القدس، تخرجهم ولا تسمح لهم بالعودة، لا تسمح لأحد أن يبني بيتاً.. هكذا كل يوم مستوطنة؛ ذلك لترغمنا أن نرضى بالأمر الواقع، وهم يقولون الآن خذوا حجارة المسجد الأقصى، سنرقمها لكم، انقلوها إلى المملكة السعودية، وابنوا ما شئتم من مسجد هناك، ومستعدون أن ندفع لكم النفقات، كأن الحجارة هي المقدسة، المكان هو الذي قدسه الله، وليس الحجارة، يمكن أن نأتي بأي حجارة إنما القدسية لهذا المكان الذي بارك الله حوله، في هذه الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، لن نقبل أن يضيع المسجد الأقصى، لن نقبل أبداً ضياع المسجد الأقصى.

المسجد الأقصى ملك لجميع المسلمين

كل مسلم عليه واجب نحو هذا المسجد الأمر لا يتعلق بالفلسطينيين وحدهم، كل المسلمين مسؤولون عن القدس وعن المسجد الأقصى، أنا قلت لبعض الإخوة الفلسطينيين لو أنكم تقاعستم وتخاذلتم واستسلمتم وهزمتم نفسياً وسلمتم المسجد الأقصى، لوجب علينا أن نقاتلكم كما نقاتل اليهود، دفاعاً عن حرماتنا وعن مقدساتنا، وعن قدسنا وعن مسجدنا الأقصى، المسجد الأقصى ليس ملكاً للفلسطينيين حتى يقول بعض الناس هل أنتم ملكيون أكثر من الملك، هل أنتم فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين؟ نعم فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين، وقدسيون أكثر من القدسيين، وأقصويون أكثر من الأقصويين، هذا مسجدنا، هذه حرماتنا، هذه كرامة أمتنا، هذه عقيدتنا سنظل نوعي المسلمين، ونقف ضد هذا التهويد للأقصى ومقدساته.

وقد أراد الله تعالى أن يربط هذا المسجد بهذه الذكرى لنظل في كل عام كلما جاءت ذكرى الإسراء في أواخر رجب ويحتفل بها المسلمون في كل مكان ذكرتنا بهذا الأمر الجلل، هذه القضية الخطيرة، هذه القضية المقدسة..

لا يمكن أيها الإخوة أن نفرط فيها، إذا كان اليهود قد حلموا بإقامة دولة واستطاعوا أن يحققوا حلمهم، فعلينا أن نحلم نحن بأننا لا يمكن أن نفرط في مسجدنا حتى وإن رأينا الواقع المر يستسلم هذا الاستسلام، وينهزم هذا الانهزام، لا يجوز لنا أن نسير في ركابه منهزمين.

يجب أن نعتقد أن الله تبارك وتعالى معنا وأن الله ناصرنا وأنه مظهر دينه على الدين كله، وأنه ناصر الفئة المؤمنة، وكما روى الإمام أحمد والطبراني، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قالوا يا رسول الله وأين هم؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس".


------------------------

* نقلا عن مقال للدكتور يوسف القرضاوي (بتصرف).

عبدالغفور الخطيب
22-08-2006, 01:55 AM
القرآن التركي.. اختراع أتاتوركي

(ذكرى قرار قراءة القرآن بالتركية: 28 من رجب 1344هـ)

شهد شهر رجب واقعتين مؤلمتين على نفوس المسلمين الأتراك: الأولى كانت وقف الأذان ومنع أداء الصلاة بجامع آيا صوفيا في (16 رجب 1353هـ = 21 من فبراير 1925م)، وهو المكان الذي يحتل مكانة كبيرة جدا بنفوس الأتراك باعتباره رمزا لفتح القسطنطينية وإلحاقها بالجغرافيا الإسلامية.

أما الواقعة الثانية فكانت يوم (28 رجب 1344هـ = 21 من فبراير 1925م) حيث قررت الحكومة التركية بقيادة أتاتورك قراءة القرآن الكريم باللغة التركية بدلا من العربية التي نزل بها "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف: 2) بحيث تُرجم القرآن للغة التركية، وقرئت هذه الترجمة بدلا من النص الأصلي العربي على المسامع بالجوامع.

بداية التحويل وحججه

وقد جاء قرار الحكومة التركية بعد جدل طويل حول ترجمة معاني القرآن الكريم للتركية التي كانت قد بدأت قبل العصر الجمهوري. ومع تصاعد المد القومي التركي، وبالرغم من أن شيخ الإسلام موسى كاظم وأحمد جودت باشا أيَّدا مسألة ترجمة معاني القرآن الكريم للتركية؛ فقد ظهرت حركة معارضة في تلك الأوقات؛ حيث رفضها شيخ الإسلام مصطفى صبري، وردّ على المطالبين بها.

وكان الشاعر ضياء كوك آلب من أشد المنادين بتتريك القرآن؛ حيث كان يصيح في شعره قائلا: "الدولة التي يدرس القرآن في مدارسها باللغة التركية، والتي يُرفع صوت الأذان من مآذنها باللغة التركية، والتي تقام الصلاة في مساجدها باللغة التركية، ويفهم كل الناس معانيها.. هذه هي دولتك يا ابن الترك".

وطلب مجلس الشعب التركي من الشاعر التركي محمد عاكف أرصوي ترجمة معاني القرآن للتركية، وبالرغم من أنه قام بها بين سنوات 1927-1931م بموجب هذا التكليف؛ فإنه رفض تسليمها لوزارة المعارف خوفا من انصراف الناس عن أصل القرآن والتوجه نحو الترجمة فقط. وكتب عاكف رسالة يؤكد فيها على أنه لم يعجب بالترجمة التي قام بها، وأنه واثق من عدم إمكانية النجاح في هذا العمل، ويؤكد تراجعه عنه.

وبالرغم من هذا كله فإن الحكومة التركية أصدرت قرار قراءة القرآن بالتركية في (28 من رجب 1344هـ = 21 من فبراير 1925م)، وكان حجتها في ذلك أن الأتراك لا يستطيعون تلفظ وكتابة بعض الحروف العربية مثل حروف الضاد والعين والظاء والصاد، وأنهم ينطقون كلمة "ضياء" مثلا "ظيا" بينما يكتبونها "ضياء" وفقا للعربية، وينطقون كلمة "عائشة" "آيشا أو آيشه"، بينما كانوا يكتبونها عائشة.. وهكذا يقع الأتراك في خطأ غير مقصود بتلفظ كلمة مثل "ولا الضالين" على شكل "ولا الظالين أو الزالين" عند قراءة آيات القرآن الكريم.

وقيل أيضا تحججا: إن الأغلبية من الشعب التركي لا تعرف العربية؛ ولذا لا يفهمون معنى آيات وسور القرآن حين يُقرأ بالعربية في المنازل والبيوت والجوامع والمساجد ولكنهم سيفهمونه جيّدا حين يقرأ بالتركية!.

وكان جمال الدين أفندي أول من قرأ القرآن بالتركية، وصلى إماما بالناس بقراءة الآيات بالتركية يوم (23 من رمضان 1344هـ = 6 من أبريل 1926م) في جامع حي جوزتبه بإستانبول، حسبما ذكر الباحث التركي عبد الله مناظ في كتاب له بعنوان "Ataturk Inkilaplari ve Islam" انقلابات أتاتورك والإسلام.

مقاومة القرار

ربما كان سهلا على حكومة إينونو (توفي عام 139هـ = 1970م) أن تصدر مثل هذا القرار، ولكن لم يكن سهلا بأي حال على المسلمين الأتراك أن يقبلوه؛ حيث أعلنوا رفضهم للقرار، وانصرفوا عن سماع القرآن بغير العربية مثلما انصرفوا عن أداء الصلاة وراء إمام يقرأ القرآن بالتركية.

وشهدت مدينة بورصا في (11 من ذي القعدة 1348هـ = 4 من أبريل 1933م) أول مظاهرة شعبية ضد قراءة القرآن والأذان بالتركية، حيث اعتقل وحكم على الكثير.

وقاومت ثلة من العلماء هذا القرار أمثال شيخ الإسلام مصطفى صبري (آخر شيخ للإسلام في الدولة العثمانية نفي لمصر، وتوفي ودفن بها) ورفعت بوراكجي (توفي 1366هـ = 1947م)، والشاعر محمد عاكف (توفي 1355هـ = 1936م)، والشاعر نجيب فاضل (توفي عام 1403هـ = 1983م)، والشيخ علي يعقوب جانكيجيلر (توفي 1408هـ = 1988م).

آثار المقاومة

كانت عملية المقاومة والرفض الشعبي لقراءة القرآن بالتركية وراء قرار أتاتورك باستبدال الحرف اللاتيني بالحرف العربي المستخدم بالتركية منذ مئات السنين، وذلك في عام (1347 هـ= 1928م) لإجبار الأجيال القادمة على عدم معرفة القرآن وقراءته بالعربية، والتحول قسرا لقراءته بالتركية، وأعقب هذا قرار رفع الأذان بالتركية في عام (1353هـ = 1934م).

وحجتهم في ذلك هي نفس حجتهم في قرار قراءة القرآن بالتركية، وأضافوا أن التحول من الحرف العربي للحرف اللاتيني للاستفادة من الثقافة الغربية، وبغية بلوغ الجمهورية التركية الحديثة مصاف الحضارة المعاصرة!.

مندريس والعودة عن القرار

استمر العمل بقرار أتاتورك حتى جاءت حكومة الحزب الديمقراطي للحكم بزعامة عدنان مندريس عام (1370هـ = 1950م)، وأعادت الاعتبار للقرآن لكي يقرأ مجددا بالعربية، وكذا الأمر بالنسبة لأذان الصلاة، وقد أعدم مندريس عام (1380هـ = 1961م). وإن كان الجدل ما زال مستمرا لليوم في هذه المسألة يطرحه العلمانيون وبعض القوميين بين الحين والآخر.

يقول هدايت آيدار الباحث التركي في بحثه المشار إليه بالهامش "يجب ألا ننسى هنا أن أي ترجمة لا يمكن بحال من الأحوال أن تحل محل الأصل، كما لا يمكن أن تطابق الأصل من جميع جوانبه. ولا يمكن بحال أن نسمي الترجمة قرآنا. وقد اتفق علماء المسلمين على عدم إمكانية تسمية الترجمة قرآنا".

نماذج من الترجمة..

ونسوق هنا نماذج من التراجم التركية لمعاني القرآن لكي نقف على الفوارق بين التراجم من حيث الكلمات والتعبيرات وترتيبها بالجملة التركية، وكيف يقع المستمع لقراءة القرآن الكريم بالتركية في حيرة كبيرة جدا، فنجد مثلا أن ترجمة شيرازي محمد بن حاج دولت شاه للآية: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم" (البقرة: 7) تأتي على شكل: "كوكول لاري أوزرا قولاق لاري أوزرا كوزلاري أوزرا أورتوك تونغان أول أنلارنا".

بينما جاءت ترجمة المعنى لنفس الآية في ترجمة معاني المصحف الشريف طبعت بالتركية الحديثة بمجمع الملك فهد بالمدينة المنورة عام 1407/1987م كالآتي: "زيرا الله أونلرين قلبلرينى وقولاقلرينى مهرلمشدر أونلري جوزلرينه ده بر جشيت برده جريلمشدر وأونلر إيجين بيوك بر عذاب واردر".

وتأتي ترجمة الآية نفسها من السورة القرآنية نفسها على شكل ثالث مغاير مثلما ورد في تفسير القرآن العظيم المعاصر بالحرف اللاتيني على شكل: "Allah onlarin kalblerini ve kulaklarini muhurlemistir; gozlerine de perde inmistir.Onlar icin buyuk bir azap vardir".

وهنا نلاحظ أن كلمة "inmistir" وضعت في الترجمة بدلا من كلمة " girilmistir" التي وردت في ترجمة أخرى وبدلا من كلمة "أورتولمش": "Ortulmustur" التي استخدمت في ترجمة ثالثة.

والحق أن هناك تباينا كبيرا في المعنى بين كلمة "غشاوة" التي أوردها الحق تعالى بالآية، والكلمات التركية الثلاث التي أوردناها في الأمثلة السابقة؛ مما يعني أن التراجم القرآنية التركية في كلماتها ومعانيها تسير وفقا للظروف والمتغيرات التي تواجهها اللغة التركية، وعلى وجه الخصوص التركية المعاصرة التي تُكتب بالحرف اللاتيني، وتدخل عليها يوميا كلمات أوروبية بديلة للكلمات ذات الأصل العربي بالتركية.

ويؤكد هذا ما ذكره الكتاب السنوي عن تركيا الذي أصدرته مديرية الصحافة والنشر والإعلام عام 1424هـ = 2003م الذي ذكر أن "أهم إنجاز تحقق في مضمار تطوير اللغة التركية حتى يومنا يكمن في ارتقاء نسبة الكلمات التركية المستخدمة في الكتابة إلى 75-80% بعد أن كانت هذه النسبة قبل عام 1932م بحدود 35-40%، بمعنى الانتقال من الكلمات العربية والفارسية للكلمات التركية". وللقارئ حق تصور كيف سيكون وضع القرآن بين حروف تتغير من العربي للاتيني ومعاني وكلمات لغوية تتبدل بين يوم وآخر.

منقول

عبدالغفور الخطيب
23-08-2006, 02:46 AM
الخديوي إسماعيل.. بين الطموحات والديون

(في ذكرى عزله عن حكم مصر: 29 من رجب 1297هـ)



الخديوي إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا، من الشخصيات التاريخية الهامة والبارزة في تاريخ مصر في القرن التاسع عشر؛ فقد كان صاحب مشروع مُكمِّل لمشروع جدِّه الكبير محمد علي باشا في بناء دولة مستقلة قوية تقتبس من الغرب علومه ومعارفه لبناء نهضتها وحضارتها؛ لذا داعبت أحلامه أن تكون مصر "قطعة من أوربا"، وشهد عمره إنجازات كبيرة، في مجالات عدة، منها: زيادة الرقعة الزراعية، وشقّ الترع الضخمة، وبناء القاهرة الحديثة، والاهتمام بالآثار والتعليم، ومنها أيضا تأسيس أول مجلس للشورى النواب في تاريخ مصر.

بالإضافة إلى محاولاته بناء إمبراطورية مصرية في أفريقيا، على غرار الدول الكبرى، وهو ما رفضته أوروبا الاستعمارية؛ خوفا على مصالحها، ولذلك سعتْ في تحطيم مشروعه النهضوي، وعزله عن حكم مصر، ثم تشويه صورته وإنجازاته في إطار حملة شعواء، حاولت أن تُفقد هذا الرجل اعتباره ومكانته، وتصويره على أنه مسرف منحلٌّ مستبدٌّ طاغية، استولى على السلطة والثروة وأنفقها بلا حساب.

النشأة

وُلد إسماعيل في (1245هـ = 1830م) بالقاهرة وتلَّقى تعليمه بمدرسة خاصة أنشأها جده محمد علي بالقصر العالي بالقاهرة؛ حيث تخرج فيها على يد نخبة من الأساتذة، فتعلم مبادئ العلوم واللغة العربية واللغتين الفارسية والتركية، ولما أتمَّ السادسة عشرة من عمره أوفده جده في بعثة علمية إلى باريس؛ حيث التحق بكلية "سان سير" العسكرية الشهيرة التي تخرج فيها كثير من الأمراء والقادة العسكريين المصريين، ووصفه أحد أساتذته في الكلية بأنه طراز فريد نادر لمن وُلد ليحكم، وربما ليصنع التاريخ.

وبعد عودته إلى مصر سطع نجمه، وذاعت شهرته، وخاصة بعدما آلت إليه ولاية العهد، وعُرفت عنه كفاءته السياسية والإدارية، ومثَّلَ مصر في العديد من المهام الخارجية، ثم آل إليه حكم مصر سنة (1279هـ = 1863م) فكانت مرحلة جديدة في تاريخه وتاريخ مصر.

إسماعيل بين الحكم والحلم

كان إسماعيل يطمح في توسيع سلطانه وإقامة دولة قوية في مصر بعدما حطمت الدول الأوروبية آمال جده محمد علي باشا في إقامة دولة مصرية كبرى قبل عشرين عامًا، واستوعب الحفيد إسماعيل دروس أسلافه، وسعى إلى أن يتفادى الأخطاء والأخطار التي وقعوا فيها باتّباعه طرقا ووسائل سياسية مختلفة؛ فقرر ألا يصطدم بالدولة العثمانية، وأدرك أن المال أمضى من السيف في قضاء المصالح في الأستانة.

ونجح إسماعيل في بداية ولايته أن يقنع السلطان العثماني بزيارة مصر، وكانت أول زيارة لسلطان عثماني لمصر بعد فتحها العثماني على يد سليم الأول، وحصل إسماعيل على لقب "خديوي" (وهي كلمة فارسية تعني السيد أو المليك)، ثم صدر فرمان آخر يقضي بتغيير نظام وراثة ولاية مصر من أكبر أبناء أسرة محمد علي إلى أكبر أبناء إسماعيل، وبذلك اًصبح يتمتع بقدر كبير من الاستقلال، خاصة في النواحي الإدارية والتشريعية والمالية، ثم استصدر فرمانا آخر من السلطان يعترف بأن السودان وما يفتحه الخديوي فيه من أملاك الخديوية المصرية، ثم توالت الفرمانات التي توسّع استقلال مصر الذاتي فيما يتعلق بسنّ القوانين والنظم، وإبرام الاتفاقيات الجمركية والمعاهدات التجارية، وعقد القروض وزيادة عدد الجيش وبناء السفن الحربية.

أما العلاقات مع الدول الأوروبية فقرر إسماعيل ألا يصطدم بأوربا، وأن يستفيد من المتناقضات بينها لتحقيق مصالحه، وأن يبني دولته الحديثة بالتعاون مع أوربا وليس بالتحدي لها؛ لذا انفتح عليها جميعا بلا تميز ولا تحيز، بل وسَّع علاقاته، وأقام لأول مرة علاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية. وتفاديًّا للصدام مع أوروبا قرر أن يكون توسعه نحو الجنوب في القارة الأفريقية المجهولة. وقد ساعد القدَر إسماعيل على تحقيق حلمه؛ إذ ارتفعت أسعار القطن ارتفاعًا كبيرًا بعد نشوب الحرب الأهلية الأمريكية، واتجهت مصانع الغزل والنسيج الإنجليزية إلى القطن المصري الذي أصبح "سيد الأقطان"، وجنت مصر من وراء ذلك أرباحًا كثيرة.

إصلاحاته

بدأ إسماعيل عهده بإلغاء نظام السخرة الذي أرهق المصريين، وتحرير التجارة، والاهتمام بالتعليم؛ باعتباره أساس الرقي والتقدم؛ فشهد عصره إتمام حفر قناة السويس، واحتفل بافتتاحها سنة (1286 هـ = 1869م) احتفالاً باهرًا؛ حيث دعا إلى الحفل ملوك أوروبا، وأنفق عليه ببذخ شديد، وبمناسبة هذا الحفل أنشأ دار الأوبرا، وحديقة الأزبكية، واختط شارع الهرم، وأنشأ سككًا حديدية بطول 1085 ميلاً، وشيد مدينة الإسماعيلية.

واهتم بالجيش؛ فأعاد تنظيمه وتدريبه، وأنشأ مختلف المدارس الحربية، واهتم بتثقيف العسكريين من خلال صحيفتين متخصصتين، واستعان بالضباط الأمريكيين في تدريب الجيش المصري، ووصل تعداد الجيش حوالي 120 ألف جندي. واستنادا إلى عناصر القوة العسكرية والاقتصادية تلك تطلع إلى توسيع الممتلكات المصرية في الجنوب والجنوب الشرقي؛ حيث توغلت القوات المصرية حتى وصلت أوغندا؛ بهدف إدخال منابع النيل داخل الممتلكات المصرية من المنبع إلى المصب.

وفي مجال التعليم والثقافة أعاد ديوان المدارس، وأنشئت في عهده حوالي 4817 مدرسة، بالإضافة إلى 5 مدارس في السودان، وافتتح مدرسة للخرس والعميان، وأنشأ أول مدرسة للبنات في مصر، وأمر أن تكون اللغة العربية لغة الدواوين بدلا من اللغة التركية، وأنشأ "دار الكتب المصرية"، وأعاد صحيفة الوقائع المصرية، وازدهرت الصحافة في عهده.

وزادت الرقعة الزراعية في عهده بمقدار مليون فدان تقريبًا، ونمت ثروة مصر الزراعية، وشُقت العديد من الترع، وبلغ عدد ما حُفر وأصلح 112 ترعة، أهمها الإبراهيمية بطول 267كم، والإسماعيلية بطول 129كم، وأعيد تخطيط المدن وتجميلها في عصره، وبنيت القصور الفخمة الفارهة (حوالي 30 قصرا) كقصر عابدين الذي اتخذه مقرًّا للحكم بدلا من القلعة، وحوَّل مجرى النيل في وسط القاهرة، وأنشأ أول كوبري على النيل (كوبري قصر النيل)، وأنشأ عددًا من الميادين، وشوارع هامة في القاهرة.

ويعتبر الخديوي إسماعيل أول من وضع نواة للحياة السياسية والدستورية الحديثة في مصر؛ حيث أسس أول مجلس لشورى النواب في تاريخ مصر سنة (1283هـ = 1866م)، وأنشأ عددًا من الهيئات النيابية المحلية في المراكز والمديريات، وطوّر النظام القضائي، وأنشئت المحاكم المختلفة التي أدت إلى إضعاف فعالية الامتيازات الأجنبية.

الديون والتدخل الأجنبي

تكلّفت خزانة مصر الكثير من الأموال بسبب إصلاحات إسماعيل وتوسعاته، وتراكمت الديون عليها، خاصة بعد انخفاض أسعار القطن انخفاضًا كبيرًا بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية، وكانت الدول الغربية الكبرى تدرك أن الديون أسهل وسيلة للتدخل في شؤون الدولة المَدينة، وفرض الوصاية المالية عليها، ثم السيطرة عليها في مرحلة لاحقة. وقد تجددت مخاوف هذه الدول من قيام إمبراطورية مصرية أفريقية تؤثر على مصالح الدول الاستعمارية الغربية.

وقد حاول إسماعيل أن يسد العجز في الميزانية عن طريق الضرائب المختلفة، إلا أنه لم يفلح في ذلك، فلجأ إلى الاستدانة من الخارج، وتدافعت البنوك والمؤسسات المالية على إقراضه، ولكن سماسرة الديون وقناصل الدول أخذوا ما يقرب من 40 مليون جنيه إسترليني من قروض مصر البالغة 90 مليونًا، وكان هذا غبنًا فاحشًا؛ فتعثرت مصر عن السداد، واضطرت إلى بيع أسهمها في قناة السويس بمبلغ هزيل للإنجليز، وهو ما جعلها على حافة الإفلاس والخراب المالي، وكان ذلك ذريعة لمزيد من التدخل الأجنبي، فأنشأت الدول الدائنة "صندوق الدين"، وعينوا مراقبَين ماليين: أحدهما إنجليزيي، والآخر فرنسي؛ لمراقبة إيرادات ومصروفات البلاد، بل إن الوزارة دخلها وزيران أوربيان لأول مرة في تاريخ مصر.

وانتهى الأمر إلى طلب الدائنين فرض الوصاية المالية الكاملة على مصر، وأن يكون لسداد الديون الأولوية المطلقة. وأدى هذا التعنت الأوروبي إلى انتفاضة وطنية تلقائية في (ربيع آخر 1296 هـ = إبريل 1879م) جمعت قادة وطوائف الشعب المصري المختلفة، دعوا خلالها إلى اكتتاب عام لسداد قسط الدين الذي تعثرت الدولة في سداده، ويبلغ 1.5 مليون جنيه إسترليني، وتم تحصيله على الفور وسداده.

ودعوا أيضا إلى إقامة حياة نيابية كاملة، والعمل على سداد الديون والوقوف أمام التدخل الأجنبي، والتقوا الخديوي إسماعيل الذي أقر مطالبهم، وهو ما أثار مخاوف الدول الغربية، وقدم قنصلا بريطانيا وفرنسا إنذارا إلى إسماعيل بأن يرجع عن تأييد المشروع الوطني، وإلا فإنهما سيتخذان الأساليب المختلفة لعزله.

رفض إسماعيل إنذار القنصلين، وأصدر مرسومًا بتسوية الديون، وإزاحة الوزيرين البريطاني والفرنسي من الوزارة، وشكل شريف باشا وزارة وطنية؛ فتعالت الاحتجاجات الغربية من أصحاب الديون، وبدا المشهد أن أوروبا قد أعلنت الحرب على إسماعيل، وسعت لعزله وكسر شوكته، وكان أحد أشكال حربها هو أن تلجأ إلى الباب العالي لتحصل منه على فرمان بعزل الخديوي الذي تفاقمت ديونه بسبب إسرافه؛ فناصر إسماعيل الحركة الوطنية، وقبل بمبدأ مسؤولية الوزارة أمام مجلس النواب، وسعى لمقاومة التدخل الأوروبي.

ويبدو أن الدول الأوروبية أدركت أن سعيها لدى السلطان العثماني لعزل إسماعيل يعطي السلطان حقًّا قد فقده منذ زمن طويل، فحاولت الضغط على إسماعيل للتنازل عن عرشه، ولكنه تعامل معهم تعامل النمر الجريح، فرفض طلبهم، ورفض التنازل، وقرر أن يخوض المعركة حتى النهاية، غير أن الأوضاع لم تكن في صالحه؛ فكان يسبح ضد التيار، ولم يستطع إخراج نفسه من المأزق الذي وضع نفسه بداخله.

ولم تجد الدول الأوروبية بُدًّا من اللجوء إلى السلطان العثماني لعزل إسماعيل، ووجدت هذه الدول الطريق معبَّدًا أمامها في الأستانة؛ لأن الدولة العثمانية لم تُكنّ عطفًا له لنزعته الاستقلالية، كما أنها في حاجة إلى تأكيد هيبتها وسلطتها؛ إذ لا توجد سلطة أقوى من إسقاط صاحب العرش عن عرشه، وإقصاء الملك عن ملكه!!

وفي الأستانة التقت المصالح، وتقارب الفرقاء، وتحالف الأعداء على ضرورة عزل الخديوي إسماعيل عن حكم مصر، وأصدر السلطان العثماني فرمانه في (29 رجب 1297هـ = 8 يوليو 1879م) بعزل إسماعيل عن حكم مصر، وتنصيب ابنه الأكبر محمد توفيق باشا على مصر بعدما حكم مصر 17 عامًا بمطلق إرادته، ثم انتهى الأمر بأن فقد عرشه وملكه وماله؛ فكانت خاتمته إحدى عِبر الزمان.

يقول الرافعي –مؤرخ مصر البارز- عن عرش إسماعيل: "…كان حقا عظيما في موقفه، شجاعا في محنته؛ فشجاعته جعلته يغامر بعرشه في سبيل مقاومة الدول الأوروبية جمعاء.. فآثر المقاومة على الاستمساك بالعرش، وقليل من الملوك والأمراء من يضحُّون بالعرش في سبيل المدافعة عن حقوق البلاد؛ فالصفحة التي انتهى بها حكم إسماعيل هي بلا مراء من الصحائف المجيدة في تاريخ الحركة القومية؛ لأنها صفحة مجاهدة وإباء وتضحية، وهي لعمري تضحية كبرى، ولهذه التضحية حقها من الإعجاب والتمجيد…".

المنفى والموت

ضاقت الدنيا بإسماعيل بعد عزله، ولم يعرف أين يذهب بعدما رفض السلطان العثماني أن يعيش في الأستانة أو أي مكان في الدولة العثمانية. أما الدول الأوروبية، فأعلنت الكراهية له، وانتهى به الأمر إلى أن يعيش في نابولي بإيطاليا، فأقام فيها هو وزوجاته وحاشيته، ولم تفارقه آماله بالعودة إلى مصر وعرشها، ولكن آماله ومساعيه أخفقت، ثم انتهى به الأمر إلى أن استقر في الأستانة في قصر يملكه على البوسفور. وبعدما قضى حوالي 16 عامًا في منفاه لم يعد لمصر إلا ميتًا، حيث دفن في مسجد الرفاعي.

منقول

عبدالغفور الخطيب
24-08-2006, 02:18 AM
الشافعي.. ملامح وآثار

(في ذكرى وفاته: 30 من رجب 204هـ)



شهد القرن الثاني الهجري ظهور مدرستين أساسيتين في الفقه الإسلامي، هما: مدرسة الرأي، ومدرسة الحديث، نشأت المدرسة الأولى في العراق، وهي امتداد لفقه عبد الله بن مسعود الذي أقام هناك، وحمل أصحابه علمه وقاموا بنشره، وكان ابن مسعود متأثرًا بمنهج عمر بن الخطاب في الأخذ بالرأي، والبحث في علل الأحكام حين لا يوجد نص من كتاب الله أو سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، ومن أشهر تلامذة ابن مسعود الذين أخذوا عنه: علقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي، ومسروق بن الأجدع الهمذاني، وشريح القاضي، وهؤلاء كانوا من أبرز فقهاء القرن الأول الهجري.

ثم تزعم مدرسة الرأي بعدهم إبراهيم بن يزيد النخعي فقيه العراق بلا منازع، وعلى يديه تتلمذ حماد بن سليمان، وخلفه في درسه، وكان إمامًا مجتهدًا، كانت له بالكوفة حلقة عظيمة يؤمها طلاب العلم، وكان من بينهم أبو حنيفة النعمان الذي فاق أقرانه، وانتهت إليه رئاسة الفقه، وتقلد زعامة مدرسة الرأي من بعد شيخه، والتف حوله الراغبون في تعلم الفقه، وبرز منهم تلاميذ بررة، على رأسهم أبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وزفر، والحسن بن زياد وغيرهم، وعلى يد هؤلاء تبلورت طريقة مدرسة الرأي واستقر أمرها ووضح منهجها.

وأما مدرسة الحديث، فقد نشأت بالحجاز، وهي امتداد لمدرسة عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعائشة وغيرهم من فقهاء الصحابة الذين أقاموا بمكة والمدينة، وكان يمثلها عدد كبير من كبار الأئمة، منهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وابن شهاب الزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس. وتمتاز تلك المدرسة بالوقوف عند نصوص الكتاب والسنة، فإن لم تجد التمست آثار الصحابة، ولم تلجئهم مستجدات الحوادث التي كانت قليلة في الحجاز إلى التوسع في الاستنباط بخلاف ما كان عليه الحال في العراق.

وجاء الشافعي والجدل مشتعل بين المدرسين فأخذ موقفًا وسطا، وحسم الجدل الفقهي القائم بينهما بما تيسر له من الجمع بين المدرستين، بعد أن تلقى العلم وتتلمذ على كبار أعلامهما مثل مالك بن أنس من مدرسة الحديث، ومحمد بن الحسن الشيباني من مدرسة الرأي.

المولد والنشأة

في مدينة غزة كان مولد أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع في سنة (150 هـ=767م)، وتشاء الأقدار أن تكون هي السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة النعمان. ويلتقي الشافعي في النسب مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في عبد مناف.

نشأ الشافعي يتيما، وانتقلت به أمه إلى مكة وهو ابن سنتين حتى ينشأ على ما ينشأ عليه أقرانه من قبيلته قريش، وكانت مكة تموج بالفقهاء والمحدثين، وبعد أن حفظ القرآن -ولم يكن قد تجاوز سبع سنين- بدأ في التردد على حلقات العلم، ورزقه الله شغفًا بالعلم وحبًا في طلبه، فكان يلزم حلقات العلم ويحفظ الحديث، ويتردد على البادية حتى يفصح لسانه ويستقيم نطقه، ولزم في سبيل ذلك قبيلة "هذيل" وكانت أفصح العرب، ولقد كان لهذه الملازمة أثر في فصاحته وبلاغة ما يكتب، وقد لفتت هذه البراعة أنظار معاصريه من العلماء بعد أن شب وكبر، حتى إن الأصمعي وهو من أئمة اللغة المعدودين يقول: "صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس". وبلغ من اجتهاده في طلب العلم أن أجازه شيخه مسلم بن خالد الزنجي بالفتيا وهو لا يزال صغير الإهاب.

الرحلة في طلب العلم

كان الإمام مالك قد طبقت شهرته الآفاق، وتناقل الناس كتابه الموطأ، وسمت همة الفتى الصغير إلى الذهاب إليه في المدينة حيث يقيم، لكنه لم يرد أن يذهب دون أن يحفظ كتاب الموطأ، فلما جلس الشافعي بين يدي مالك، وقرأ عليه الموطأ أعجب الإمام مالك بقراءته وفصاحته، وكان عمر الشافعي ثلاث عشرة سنة تقريبًا، ومنذ ذلك الوقت لازم الإمام الشافعي الإمام مالكا حتى توفي سنة (179هـ=795م)، أي أنه لازمه ست عشرة سنة، وفي الوقت نفسه أخذ عن إبراهيم بن سعد الأنصاري، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، ومحمد بن سعيد بن أبي فديك وغيرهم.

ولما توفي مالك عمل الشافعي واليا على "نجران"، وسار فيهم بالعدل، غير أن ذلك لم يجد هوى عند بعض الناس، فوشوا به إلى الخليفة هارون الرشيد، فأرسل في استدعائه سنة (184هـ= 800م)، لكنه لما حضر بين يدي الخليفة أحسن الدفاع عن نفسه بلسان عربي مبين، وبحجة ناصعة قوية؛ فأعجب به الخليفة، وأطلق سراحه، ووصله بعطية قدرها خمسون ألفًا، أنفقها الشافعي وفرّقها على حجّاب أمير المؤمنين وخدّامه قبل أن يخرج من باب القصر.

وظل الشافعي في بغداد عاصمة دار الخلافة، واتصل بمحمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة ولازمه ملازمة لصيقة، وقرأ كتبه وتلقاها عليه، وبذلك اجتمع له فقه الحجاز وفقه العراق، وعلم أهل الحديث وعلم أهل الرأي، ثم عاد إلى مكة ليعقد فيها أول مجالسه العلمية في الحرم المكي، والتقى به كبار العلماء في موسم الحج، واستمعوا إليه، وفي أثناء هذه الفترة التقى به الإمام أحمد بن حنبل وتتلمذ عليه، وبدأت تظهر شخصية الشافعي ومنهجه الجديد في الفقه الذي هو مزيج من فقه أهل العراق وأهل المدينة، أنضجه عقل متوهج، عالم بالقرآن والسنة، بصير بالعربية وآدابها، خبير بأحوال الناس وقضاياهم، قوي الرأي والقياس.

الرحلة إلى بغداد

بعد أن أقام الشافعي في مكة نحوا من تسع سنوات استقام خلالها منهجه، واستوت طريقته، ورسخت قدمه، وزادت نفسه ثقة فيما ذهب إليه -رحل إلى بغداد سنة (195هـ= 810م) ومكث الشافعي هناك سنتين، نشر بها مذهبه القديم، وألف كتابه "الرسالة" الذي وضع به الأساس لعلم أصول الفقه، والتف حوله العلماء ينهلون من علمه، ويتأثرون بطريقته الجديدة التي استنها، ولازمه أربعة من كبار أصحابه، هم: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والزعفراني، والكرابيسي.

ثم رجع الإمام الشافعي إلى مكة وأقام بها فترة قصيرة، غادرها بعدها إلى بغداد للمرة الثالثة والأخيرة سنة (198هـ=813م)، لكنه لم يقم بها طويلا بعد أن صار له أتباع ومريدون ينشرون طريقته، فغادر بغداد إلى مصر، وكانت منقسمة قسمين: فرقة مالت إلى مالك وناضلت عنه، وفرقة أخرى مالت إلى قول أبي حنيفة وانتصرت له، بالإضافة إلى تلاميذ الإمام المجتهد الليث بن سعد الذي وصفه الشافعي بأنه أفقه من مالك، لكنه لم يلتق به ويتتلمذ على يديه، لضيق حاله إبّان الطلب، فعجز عن إعداد ما يلزمه في الرحلة إليه في مصر، وكان كثيرًا ما يبدي أسفه على فوات فرصة لقاء الليث.

الإقامة بمصر


قدم الشافعي مصر سنة (119هـ=814م) تسبقه شهرته وتقدير العلماء له وإجلالهم لمنزلته، وكان في صحبته من تلاميذه الربيع بن سليمان المرادي، وعبد الله بن الزبير الحميدي، ثم بدأ في إلقاء دروسه بجامع عمرو بن العاص، فمال إليه الناس، وجذبت فصاحته وعلمه كثيرًا من أتباع الإمامين أبي حنيفة ومالك.

وفي مصر وضع الشافعي مذهبه الجديد، وهو الأحكام والفتاوى التي استنبطها بمصر وخالف في بعضها فقهه الذي وضعه ببلاد العراق، وصنف كتبه الخالدة التي رواها عنه تلاميذه.

أصول مذهبه

دوّن الشافعي الأصول التي اعتمد عليها في فقهه، والقواعد التي التزمها في اجتهاده في رسالته الأصولية الشهيرة "الرسالة"، وطبق هذه الأصول في فقهه، فكانت أصولا عملية لا نظرية، ويظهر هذا واضحًا في كتابه "الأم" الذي يذكر فيه الشافعي الحكم مع دليله، ثم يبين وجه الاستدلال بالدليل وقواعد الاجتهاد وأصول الاستنباط التي اتبعت في استنباطه؛ فهو يرجع أولاً إلى القرآن وما ظهر له منه، إلا إذا قام دليل على وجوب صرفه عن ظاهره، ثم إلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى خبر الواحد، الذي ينفرد راو واحد بروايته، وهو ثقة في دينه، معروف بالصدق، مشهور بالضبط.

وهو يعد السنة مع القرآن في منزلة واحدة، فلا يمكن النظر في القرآن دون النظر في السنة التي تشرحه وتبينه، فالقرآن يأتي بالأحكام العامة والقواعد الكلية، والسنة هي التي تفسر ذلك؛ فهي التي تخصص عموم القرآن أو تقيد مطلقه، أو تبين مجمله.

ولم يشترط الشافعي في الاحتجاج بالسنة غير اتصال سند الحديث وصحته، فإذا كان كذلك وصح عنده؛ كان حجة عنده، ولم يشترط في قبول الحديث عدم مخالفته لعمل أهل المدينة مثلما اشترط الإمام المالك، أو أن يكون الحديث مشهورًا ولم يعمل راويه بخلافه. ووقف الشافعي حياته على الدفاع عن السنة، وإقامة الدليل على صحة الاحتجاج بخبر الواحد، وكان هذا الدفاع سببًا في علو قدر الشافعي عند أهل الحديث حتى سموه "ناصر السنة".

ولعل الذي جعل الشافعي يأخذ بالحديث أكثر من أبي حنيفة حتى إنه يقبل خبر الواحد متى توافرت فيه الشروط، أنه كان حافظًا للحديث بصيرًا بعلله، لا يقبل منه إلا ما ثبت عنده، وربما صح عنده من الأحاديث ما لم يصح عند أبي حنيفة وأصحابه.

وبعد الرجوع إلى القرآن والسنة يأتي الإجماع إن لم يعلم له مخالف، ثم القياس شريطة أن يكون له أصل من الكتاب والسنة، ولم يتوسع فيه مثلما توسع الإمام أبو حنيفة.

تدوين المذهب

أتيح للشافعي ما لم يتح لغيره من الأئمة الكبار، من تدوين مذهبه ونشره في كتب كتبها بنفسه، وأهم هذه الكتب:

الرسالة في أصول الفقه، وقد طبع مع الجزء الأول من كتاب الأم في المطبعة الأميرية بالقاهرة سنة (1321هـ=1903م)، ثم نشره محققا العلامة المحدث أحمد محمد شاكر سنة (1358هـ=1939م).

كتاب الأم، وهو يشمل أبواب الفقه كلها، ويمتاز بجمال الأسلوب ودقة التعبير، وبعرض آراء العلماء المخالفين ومناظرتها، وقد نُشر الكتاب كاملا بعد أن سعى الفقيه المصري أحمد الحسيني إلى جمع مخطوطاته وطبعه على نفقته، ثم قام بشرح قسم العبادات منه في (24) مجلدًا، لا تزال مخطوطة حتى الآن، وتحتفظ بها دار الكتب المصرية، وقد سماها: "مرشد الأنام لبرء أم الإمام" وصدرها بمقدمة كبيرة في تراجم الشافعية، وقد توفي أحمد الحسيني سنة (1332هـ=1914م).

وقد أُلحق بكتاب الأم كثير من كتب الشافعي التي كتبها بنفسه، وهي لا تعدو أن تكو رسائل لطيفة، مثل كتاب "جماع العلم"، وقد نشره مستقلا أحمد شاكر سنة (1359هـ=1940م) ، وكتاب "إبطال الاستحسان" الذي رد به على فقهاء الأحناف، وكتاب "اختلاف مالك والشافعي".

قام تلاميذ الشافعي بنشر مذهبه في البلاد التي ارتحلوا إليها أو التي اتخذوها وطنًا، وهناك ثلاثة من التلاميذ المصريين كان لهم أثر بالغ في نشر المذهب، فقد جالسوا الإمام وأخذوا عنه مذهبه بعد أن نضج وبلغ كماله، ورووا كتبه، وهؤلاء الثلاثة هم:

* يوسف بن يحيي البويطي المتوفى سنة (231هـ=854م).

* إسماعيل بن يحيي المزني المتوفى سنة (264هـ= 877م) وكان زاهدا عالمًا مجتهدًا مناظرًا، وصفه الشافعي بقوله: "المزني ناصر مذهبي"، وقد أخذ عنه عدد كبير من علماء خراسان والعراق والشام.

* الربيع بين سليمان المرادي، كان مؤذنًا بجامع عمرو بن العاص، واتصل بالشافعي حتى صار راوية كتبه والثقة الثبت فيما يرويه عنه، وعن طريقه وصلت إلينا كتب الشافعي، وتوفي سنة (270هـ=883م).

عن طريق هؤلاء وتلاميذهم ومن تلاهم من طبقات الشافعية شُيّد المذهب الشافعي، حتى صار ذلك التراث الضخم الذي بين أيدينا الآن.

وفاة الشافعي

اتفق العلماء من أهل الفقه والأصول والحديث واللغة على أمانة الشافعي وعدالته وزهده وورعه وتقواه وعلو قدره، وكان مع جلالته في العلم مناظرًا حسن المناظرة، أمينًا فيها، طالبًا للحق لا يبغي صيتًا وشهرة، حتى أثرت عنه هذه الكلمة: "ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان.. وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبال يبين الله الحق على لساني أو لسانه".

وبلغ من إكبار أحمد بن حنبل -وهو إمام كبير جليل- لشيخه الشافعي أنه قال حين سأله ابنه عبد الله: أي رجل كان الشافعي، فإني رأيتك تكثر الدعاء له؟-: "كان الشافعي كالشمس للنهار وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو عنهما من عوض؟!!".

وظل الإمام الشافعي في مصر لم يغادرها، يلقي دروسه في حلقته المباركة، ويلتف تلاميذه حوله، حتى لقي ربه في (30 رجب 204= 20 من يناير 820م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
26-08-2006, 02:32 AM
عبد الله بن الزبير.. وضياع حلم الخلافة

(في ذكرى مولده: 2 من شعبان 2هـ)



بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان سنة (60هـ=679م) رفض عبد الله بن الزبير مبايعة يزيد بن معاوية الذي خلف أباه في منصب الخلافة، واتجه إلى مكة وركن إلى البيت الحرام، وسمى نفسه العائذ بالبيت، ولم يعلن عن رغبته في الخلافة، وفي الوقت نفسه ظل رافضًا مبايعة يزيد بن معاوية، الذي حاول إجباره على مبايعته، لكنه لم يفلح في ذلك، وتوفي دون أن يبايعه ابن الزبير.

وبعد وفاته سنة (64هـ=683م) تعرضت الدولة الأموية للفوضى والاضطراب، وزادها اضطرابا امتناع معاوية بن يزيد عن تولي الخلافة، ولم تجد الأمة خيرا من عبد الله بن الزبير لتولي هذا المنصب لعلمه وفضله وقدرته وكفاءته؛ فبايعته بالخلافة، ولم تتخلف بلدة عن مبايعته سوى الأردن في الشام، التي انطلق منها بنو أمية لمواجهة ابن الزبير، وتحقق لهم ما أرادوا، وأعادوا الحكم إلى بيتهم، ونجحوا في القضاء على دولة ابن الزبير، موضع حديث اليوم.

المولد والنشأة

في بيت من أكرم بيوت العرب وأنبلها نسبًا وشرفًا ولد عبد الله بن الزبير في الثاني من شعبان من العام الثاني للهجرة، فأبوه الزبير بن العوام من كبار الصحابة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وهو يعد أول مولود للمسلمين في المدينة بعد الهجرة، وكان فرح المسلمين بولادته كبيرا، وسعادتهم به طاغية، لأن اليهود كانوا يقولون: سحرناهم فلا يولد لهم ولد.

ونشأ عبد الله بن الزبير نشأة طيبة، وتنسم منذ صغره عبق النبوة، وكانت خالته السيدة عائشة –رضي الله عنها- تعنى به وتتعهده، حتى كنيت باسمه، فكان يقال لها "أم عبد الله"، لأنها لم تنجب ولدًا، وكان في عبد الله منذ صغره ميل للزعامة ورغبة في القيادة، وتنبأ له عمر بن الخطاب بمستقبل باهر لما رأى من رباطة جأشه وثبات قلبه، واعتداده بنفسه، فقد مر عمر بعبد الله وهو يلعب مع رفاقه من الصبيان، فأسرعوا يلوذون بالفرار هيبة لعمر وإجلالاً له، في حين ثبت عبد الله بن الزبير، ولزم مكانه، فقال له عمر: مالك لم تفر معهم؟ فقال عبد الله لم أجرم فأخافك، ولم يكن الطريق ضيقا فأوسع لك.

جهاده

لم يكن غريبًا على من نشأ هذه النشأة الصالحة أن يشب محبًا للجهاد، فشهد وهو في الرابعة عشرة من عمره معركة اليرموك الشهيرة سنة (15هـ=636م) واشترك مع أبيه في فتح مصر، وأبلى بلاءً حسنًا وخاض عمليات فتح شمال إفريقيا تحت قيادة عبد الله بن سعد في عهد عثمان بن عفان، وأبدى من المهارة والقدرة العسكرية ما كفل للجيش النصر، كما اشترك في الجيوش الإسلامية التي فتحت إصطخر.

ولما حوصر الخليفة عثمان بن عفان في بيته سنة (35هـ=655م) كان عبد الله بن الزبير في مقدمة المدافعين عنه، وشهد موقعة الجمل مع أبيه الزبير وطلحة بن عبيد الله والسيدة عائشة –رضي الله عنها- ولما بويع معاوية بن أبي سفيان بالخلافة سنة (41هـ=661م) أحسن إلى عبد الله بن الزبير، واستماله إليه، وأكرمه، وكان هذا صنيعه مع كبار الصحابة وأبنائهم، وترتب على ذلك أن هدأت الأحوال واستقرت الأوضاع بعد الفتنة العارمة والرياح الهوجاء التي كادت تعصف بالدولة وتهدد أمنها ووحدتها، وقابل ابن الزبير هذا الإحسان والإكرام بن معاوية بحسن الطاعة والثناء عليه، واشترك في الغزوات والفتوحات التي قامت في عهده، فغزا إفريقية تحت قيادة معاوية بن حديج سنة (45هـ=665م)، وشارك في فتح القسطنطينية سنة (49هـ=669م) مع الجيش الذي قاده يزيد بن معاوية.

معارضة البيعة ليزيد بن معاوية

وظلت العلاقة بين معاوية وابن الزبير -رضي الله عنهما- على أحسن ما تكون العلاقة، حتى بدأ معاوية في أخذ البيعة بالخلافة لابنه يزيد من بعده، فقاد ابن الزبير حركة المعارضة لهذه الخطوة التي تحول الخلافة من الشورى والانتخاب إلى الملك والتوريث، ولم ينجح معاوية في إقناع هؤلاء المعارضين من أبناء الصحابة في مبايعة يزيد، فلجأ إلى الشدة والعنف في سبيل تحقيق ذلك.

ولما تولى يزيد بن معاوية الخلافة سنة (60هـ=679م) حرص على أخذ البيعة من الأمصار الإسلامية، فلبت نداءه وبايعته دون تردد، في حين استعصت عليه بلاد الحجاز حيث يعيش أبناء الصحابة الذين امتنعوا عن مبايعة يزيد، وكان في مقدمة الممتنعين الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، غير أن يزيد بن معاوية ألح في ضرورة أخذ البيعة منهما، ولو جاء الأمر قسرًا وقهرًا لا اختيارًا وطواعية، ولم يجد ابن الزبير مفرًا من مغادرة المدينة والتوجه إلى مكة، والاحتماء ببيتها العتيق، وسمى نفسه "العائذ بالبيت" وفشلت محاولات يزيد في إجباره على البيعة.

وبعد استشهاد الحسين بن علي في معركة كربلاء في العاشر من المحرم سنة (61هـ=10 من أكتوبر 680م) التف الناس حول ابن الزبير وزاد أنصاره سخطًا على يزيد بن معاوية، وحاول يزيد أن يضع حدًا لامتناع ابن الزبير عن مبايعته، فأرسل إليه جيشًا بقيادة مسلم بن عقبة، غير أنه توفي وهو في الطريق إلى مكة، فتولى قيادة الجيش "الحصين بن نمير"، وبلغ مكة في (26 من المحرم 64هـ)، وحاصر ابن الزبير أربعة وستين يومًا، دارت خلالها مناوشات لم تحسم الأمر، وفي أثناء هذا الصراع جاءت الأنباء بوفاة يزيد بن معاوية في (14 من ربيع الأول سنة 64هـ=13 إبريل 685م)، فسادت الفوضى والاضطراب في صفوف جيش يزيد.

ابن الزبير خليفة للمسلمين

توقف القتال بين الفريقين، وعرض "الحصين بن نمير" على ابن الزبير أن يبايعه قائلاً له: إن يك هذا الرجل قد هلك –يزيد-، فأنت أحق الناس بهذا الأمر، هلم فلنبايعك، ثم اخرج معي إلى الشام، فإن الجند الذين معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان" لكن ابن الزبير رفض هذا العرض، الذي لو قبله لربما تم له الأمر دون معارضة، لأن بني أمية اضطرب أمرهم بعد موت يزيد من معاوية ورفض ابنه معاوية بن يزيد تولي الأمر، ثم لم يلبث أن توفي هو الآخر بعد أبيه مباشرة.

أعلن ابن الزبير نفسه خليفة للمسلمين عقب وفاة يزيد بن معاوية، وبويع بالخلافة في (7 من رجب 64هـ=1 من مارس 648م)، ودخلت في طاعته ومبايعته الكوفة والبصرة ومصر، وخراسان، والشام معقل الأمويين، ولم يبق سوى الأردن على ولائه لبني أمية بزعامة حسان بن بحدل الكلبي، ولم يلق ابن الزبير تحديًا في بادئ الأمر، فهو صحابي جليل، تربى في بيت النبوة، واشتهر بالتقوى والصلاح والزهد والورع، والفصاحة والبيان والعلم والفضل، وحين تلفت المسلمون حولهم لم يجدوا خيرًا منه لتولي هذا المنصب الجليل.

غير أن هذه الملكات لم تكن وحدها كفيلة بحسم الأمر له على الرغم من مبايعة معظم العالم الإسلامي له، فقد كانت تنقصه أشياء لا تعيبه ولا تعيب خلقه، لكنها كانت من ضرورات عصره كاستمالة الناس وحشد الأتباع والأعوان، ببذل الأموال والإغداق عليهم جذبًا لهم، وإشاعة للفرقة وشق الصفوف بين الخصوم وهذا ما نجح فيه خصومه وعجز هو عن مجاراتهم فيه.

ابن الزبير ومروان بن الحكم

بدأ ابن الزبير خلافته في مكة وهي على قداستها وعظمتها لم تكن تصلح عاصمة لدولة مترامية الأطراف، وترك دمشق التي كانت تتوسط العالم الإسلامي وتمتلئ بالرجال والمال، ثم أقدم على خطوة كان فيها حتفه، حين أخرج معظم رجال بني أمية من المدينة، وكان فيهم: "مروان بن الحكم" وابنه عبد الملك، وهو ما أعطاهم الفرصة من التوجه إلى الشام، وجمع شمل الأنصار والأعوان الذين حضروا من كل مكان، وعقدوا مؤتمرًا في الجابية، وبايعوا مروان بن الحكم بالخلافة، ولو أن ابن الزبير أبقى بني أمية في المدينة تحت نظره ومراقبته، وكان في مقدوره أن يفعل ذلك، لما تحققت هذه الخطوة الأولى التي كان لها شأن في انطلاق بني أمية لإعادة الخلافة لهم والقضاء على ابن الزبير.

استهل مروان بن الحكم أمره باستعادة الشام التي كان معظم أقاليمها قد بايع ابن الزبير بعد أن نجح في هزيمة أنصار ابن الزبير، وقتل قائدهم الضحاك بن قيس في معركة مرج راهط في نهاية سنة (64هـ=683م)، ثم أعقب ذلك بالاستيلاء على مصر سنة (65هـ=684م) وولى عليها ابنه عبد العزيز، وزوده بالنصائح الهامة، وقفل راجعًا إلى الشام، ليواصل جهوده في الزحف نحو العراق.

وقبل أن نستطرد في تفاصيل الصراع بين ابن الزبير وخصومه يجدر بنا أن نذهب إلى ما ذهب إليه كبار الفقهاء من أن بيعة ابن الزبير كانت عن رضا وإجماع من المسلمين، وترتب على ذلك أن أرسل ابن الزبير ولاته على الأمصار الإسلامية، وأبدى المسلمون رضاهم عن هؤلاء الولاة، في حين لم يبايع مروان سوى نفر قليل من أهل الشام، فضلاً عن أن بيعة ابن الزبير كانت أسبق زمنًا من بيعة مروان التي جاءت متأخرة عنها، غير أن الرجلين تمسكا بالخلافة، وإن كانت الشرعية في جانب ابن الزبير، لكنها لم تكن لتحسم الأمر وحدها، بل كان للسياسية والدهاء واصطناع الرجال دور لا ينكر في حسم الصراع وهذا ما كان.

ابن الزبير وعبد الملك بن مروان

توفي مروان بن الحكم وخلفه ابنه عبد الملك بن مروان سنة (65هـ=684م)، وكانت الشام ومصر تحت سلطانه، على حين بقيت الحجاز والعراق تحت سيطرة ابن الزبير، وفي أثناء ذلك ظهرت دعوة المختار ابن أبي عبيد الثقفي، التي اجتذبت الشيعة، وانضموا تحت لوائه، وازداد نفوذه بالعراق بعد أن هزم جيشًا أرسله عبد الملك بن مروان بقيادة عبيد الله بن زياد في معركة الخازر سنة (67هـ=686م) وبعد تلك الهزيمة توقف عبد الملك بن مروان مؤقتًا عن فكرة استعادة العراق، لعلمه أن عبد الله بن الزبير لن يترك المختار الثقفي يستبد بالعراق، وأن الصدام بينهما آتٍ لا مفر منه، فآثر الانتظار حتى يفرغ أحد الطرفين من الآخر، فيقابله وهو منهوك القوى فيضمن لنفسه الظفر والفوز، وهذا ما كان، فاصطدم مصعب بن الزبير بالمختار الثقفي وقضى على حركته سنة (67هـ=686م)، واستعاد نفوذ أخيه في العراق.

السيطرة على العراق

عزم عبد الملك بن مروان على استعادة العراق التابعة لدولة ابن الزبير، فخرج إليها بنفسه سنة (71هـ=690م) بعد أن اطمأن إلى تثبيت أركان دولته وتوطيد حكمه، وأعد جيشًا عظيمًا لهذا اللقاء الفاصل، وحين علم مصعب بن الزبير والي العراق بهذه التحركات استعد لمواجهة عبد الملك بن مروان، وقبل اللقاء الفاصل أخذ عبد الملك يكاتب زعماء أهل العراق ويعدهم ويمنيهم بالمال، فاستجابوا له وانضموا إليه وتخلوا عن مصعب في أدق المواقف وأصعبها، فانهزم في المعركة التي دارت بين الفريقين عند دير الجاثليق في (جمادى الآخرة 72هـ=نوفمبر 691م)، وقتل في هذا اللقاء بعد أن بذل ما يمكنه من الشجاعة والبسالة، وبعد انتهاء المعركة دخل عبد الملك الكوفة وبايعه أهلها، ودخلت العراق تحت سيطرته وعين أخاه بشرًا واليًا عليها.

سقوط دولة عبد الله بن الزبير

كان ضياع العراق من يد عبد الله بن الزبير أكبر كارثة حلت به، في الوقت الذي قوي فيه خصمه بانضمام العراق تحت ملكه وسلطانه الذي أصبح يضم معظم أقطار العالم الإسلامي، وانحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز.

لم يضيع عبد الملك بن مروان الوقت في الانتظار بعد انتصاره على مصعب بن الزبير، فأعد حملة عسكرية في عشرين ألف جندي، بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي، ووجهها إلى الحجاز للقضاء على ابن الزبير المعتصم بمكة الذي لم يكن بمقدوره الصمود بعد أن فقد معظم دولته، ولم يبق له سوى الحجاز، ولم تكن بطبيعة الحال غنية بالمال والرجال، لكنه لم يسلم الراية، ولم يستسلم مهما كلفه الأمر، فطبيعته وخلقه يأبيان ذلك.

توجه الحجاج إلى الحجاز، ونزل الطائف، وأخذ يرسل بعض جنوده لقتال ابن الزبير، فدارت بينهما عدة اشتباكات كانت نتيجتها في صالح الحجاج، ثم تقدم إلى محاصرة عبد الله بن الزبير ونصب المنجنيق على جبل أبي قيس، فلما أهل ذو الحجة لم يستطع ابن الزبير أن يحج، وحج بالناس عبد الله بن عمر، وطلب من الحجاج أن يكف عن ضرب الكعبة بالمنجنيق؛ لأن الناس قد امتنعوا عن الطواف فامتثل الحجاج، وبعد الفراغ من طواف الفريضة عاود الحجاج الضرب، وتشدد في حصار ابن الزبير حتى تحرج موقفه، وانصرف عنه رجاله ومنهم ابناه حمزة وخبيب اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لنفسيهما.

فلما رأى عبد الله بن الزبير ذلك دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر حزينًا يشكو إليها ما هو فيه من هم وحزن، فشدت من أزره، وأوصته بالصبر والثبات وعدم التراجع ما دام على الحق، فخرج من عندها وذهب إلى القتال، فاستشهد في المعركة في (17 من جمادى الأولى 73هـ=4 من أكتوبر 692م)، وبوفاته انتهت دولته التي استمرت نحو تسع سنين.

منقول

عبدالغفور الخطيب
28-08-2006, 02:53 AM
محمود غازان.. مسْلمٌ بعادات المغول

(في ذكرى إسلامه: 4 من شعبان 694هـ)

غازان نقطة تحول فاصلة في تاريخ الدولة الإيلخانية التي أسسها هولاكو في إيران والعراق؛ حيث انتهت بإسلامه فترة حكم السلاطين الوثنيين للدولة، وانقطعت الروابط التي كانت تربط دولتهم ببلاط الخاقان الأعظم في الصين، وغدا الإسلام الدين الرسمي للدولة حتى انهيار أسرة الإيلخانات سنة (756هـ=1355م).

وقد سبق غازان في الدخول إلى الإسلام السلطان أحمد تكودار، ثاني سلاطين الدولة الإيلخانية، وأول إيلخان يعتنق الإسلام، لكن إسلامه لم يُحدث أثرًا كبيرًا في دولته؛ لأنه وجد معارضة شديدة من أمراء البيت الحاكم، ولم يمكث في الحكم سوى عامين وبضعة أشهر، ولم يتمكن من نشر الإسلام بين أهله وعشيرته.

ما قبل الولاية

بعد أن تولى بايدوخان حكم الدولة الإيلخانية في (جمادى الأولى 694هـ = 1295م) نازعه الأمير غازان بن أرغون السلطة، وكان يرى أنه أجدر بالسلطة منه، وأكثر كفاءة، وأعظم قدرة. وتطور النزاع إلى صراع عسكري، والتقى الطرفان في معركة حاسمة في (5 من رجب 694هـ = 21 من مايو 1295م)، وأسفرت المعركة عن رجحان كفة غازان، وأيقن بايدوخان بحلول هزيمته؛ فلجأ إلى طلب الصلح والمسالمة، لا عن اقتناع وإيمان، بل خداعا وحيلة حتى يتمكن من التخلص من غازان، لكن مؤامراته انكشفت، ولم تفلح حيلته.

وفي أثناء هذا انتهز الأمير "نوروز" الفرصة؛ فحسَّن لغازان الإسلام، وبصَّره بتشريعاته السمحة، ومبادئه السامية، وبقوانينه العادلة، وشجَّعه على اعتناقه، فشرح الله صدره للإسلام في (4 من شعبان 694هـ = 19 يوليو 1294م)، وتسمى باسم "محمود"، وكان إسلامه سببًا في التفاف الرعية حوله، واعتناق ما يقرب من مائة ألف شخص من قومه الإسلام، وقد عجّل هذا بالقضاء على خصمه الذي انفضَّ الناس من حوله، وعجز عن المقاومة، فاضطر إلى الفرار، ثم سرعان ما قُبض عليه، وقُتل في (23 من ذي القعدة 694هـ = 4 من أكتوبر 1295م) بعد حكم دام ستة أشهر.

ولاية السلطان محمود غازان

تولى السلطان محمود غازان عرش المغول عقب مقتل بايدوخان في (ذي الحجة 694هـ= 1295م)، وكان آنذاك في الرابعة والعشرين من عمره، وهو سابع حكام المغول في إيران، وكان أول عمل يقوم به إصداره مرسومًا ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، والالتزام بأحكامه وآدابه، وأمر المغول بأن يغيروا ملابسهم المعروفة، ويلبسوا العمامة دليلا على خضوعهم للإسلام.

وبلغت حماسته للدين الإسلامي أن أمر بهدم الكنائس والمعابد اليهودية والمزدكية والهياكل البوذية، وتحويلها إلى مساجد، وبارتداء اليهود والنصارى ثيابًا خاصة بهم تميزهم عن غيرهم.. وما فعله غازان ليس من الشرع في شيء، وإنما غلبته العاطفة والحماسة للدين الجديد، وحاول أن يعيد إلى أهله ما لاقوه من ضروب المهانة والمذلة على أيدي أجداده وآبائه.

وكان اعتناق غازان الإسلام عن صدق وإيمان وعاطفة وحب دافعًا له إلى القيام بألوان من الإصلاحات، وضروب من النظم في الإدارة والمال والاقتصاد والعمران، وهو ما سنفصله ونبرزه.

حملات غازان على الشام

لم تكن علاقات غازان ودية مع دولة المماليك، فسلك مسلك أسلافه في معاداة المماليك، على الرغم من إسلامه!! وقام بثلاث حملات على الشام، شاء لها القدر أن تكون كلها في عهد السلطان الناصر محمد قلاوون.

في الحملة الأولى الْتقت قوات غازان بجيش الناصر عند "مرج المروج" شرق حمص في (27 من ربيع الأول 699هـ= 22 من ديسمبر 1299م) وأسفرت عن نصر هائل لغازان وقواته؛ نظرًا لتفوق الجيش المغولي في العدد والعتاد، وترتب على هذا النصر أن استولى غازان على دمشق، وخربت قواته البلاد التي فتحتها؛ جريًا على عاداتهم القديمة، وكأن الإسلام لم يهذب شيئًا من طباعهم وأخلاقهم.

وأما الحملة الثانية فكانت في سنة (700هـ= 1300م) وحين علم أهالي الشام بقدوم المغول عمَّهم الفزع والهلع، وترك سكان حلب مدينتهم، غير أن الأقدار تدخلت في منع الحرب ولقاء المغول مع المماليك، فهطلت الأمطار بغزارة وكثُر الوحل، وهلك كثير من المغول؛ فاضطر غازان إلى العودة إلى إيران.

أما الحملة الثالثة فقد اتجه بها غازان إلى الشام، واستولى على "عانة" التي تقع على شاطئ الفرات، وكان يرافقه في هذه الحملة وزيره المؤرخ "رشيد الدين الهمذاني"، لكنه رجع إلى عاصمته تبريز، تاركًا إنجاز تلك المهمة إلى قائده "قتلغ شاه"، الذي التقى بقوات المماليك بقيادة الناصر محمد في موقعة "مرج الصفر" بالقرب من دمشق في (2 من رمضان 702هـ= 20 من إبريل 1303م)، ولقيت القوات المغولية هزيمة منكرة بعد أن أبلى المماليك بلاءً حسنًا.

إصلاحات غازان

على الرغم من أن الحياة لم تطُل بغازان، ولم يمكث في الحكم سوى تسع سنوات، فإنه قام بإصلاحات عظيمة في مختلف ميادين الحياة، خلَّدت اسمه، ورفعت منزلته بين كبار القادة والمصلحين، وكان وجود وزيره النابه "رشيد الدين" إلى جانبه من أعظم الأسباب التي جعلت غازان يتبوأ مكانه اللائق في التاريخ، وكان رشيد الدين مثلا أعلى للتفاني والإخلاص، أدار الدولة بمقدرة وكفاية، وبمهارة وحذق، وشارك السلطان غازان في تحقيق رفاهية الرعية، وإصلاح الأمور المالية، وإنشاء الأبنية الخيرية. وفوق ذلك خلد أعمال سلطانه، وسجلها في كتابه "التواريخ" الذي سجل فيه تاريخ المغول منذ أقدم الأزمنة حتى عصر المؤلف.

قام غازان بإصلاحات كثيرة كان من أبرزها إقامة محلة تقع شمال غرب تبريز عرفت باسم "شام غازان"، تفصلها عن مدينة تبريز حدائق ومتنزهات، وفي هذه المدينة أقيم بناء عالٍ تعلوه قبة كبيرة؛ ليكون مدفنًا له، وقد استمرت عمارة القبة وما حولها من مبانٍ نحو خمس سنوات، اشتملت على مسجد وخانقاه للفقراء، ومدرستين؛ إحداهما للشافعية، والأخرى للحنفية، ومستشفى، ومكتبة كبيرة، ومدرسة لتعليم المواد الطبية، وبيت لحفظ كتب القوانين التي أصدرها الإيلخان، عُرف باسم "بيت القانون".

وعلى الرغم مما اتسمت به حروب المغول من وحشية وعدم مراعاة لأي مظهر من مظاهر النبل والفروسية، فإن غازان كان رهيف الحس، نبيل النفس، يحمل بين جنبيه أرقَّ معاني الإنسانية التي اتسعت للحيوان والطير؛ حيث أنشأ الأجران الواسعة المملوءة بالحبوب، والمزودة بأحواض المياه؛ لكي تتزود منها الطيور المهاجرة من الشمال إلى الجنوب في الشهور الباردة من السنة خلال رحلتها عبر الهضبة الإيرانية التي تغطيها الثلوج.. وهو ما يبدو في رأي البعض تناقضا واضحا مع أخلاقهم في حروبهم.

القوانين الغازانية

وضع غازان قواعد وقوانين لتحقيق رفاهية الرعية، وجبى الضرائب على أساس من العدل والرحمة، ورفع الظلم عن الناس، ومنع التعدي عليهم؛ فأصلح النظم المالية لدولته، ونظّم الضرائب؛ فلا تُطالَب الرعية بدفع الضرائب أكثر من مرة في العام، وأصدر أمرًا نهى فيه عن التعامل بالربا وفوائد المال، وعقاب من يعصي الأمر.

وأمر بتوحيد سكّ العملات، حيث كانت كل ولاية تسكّ عملة يختلف عيارها من ولاية إلى أخرى؛ وهو ما سبب ضررًا للتجار، وأصدر قرارًا بجمع كل العملات المغشوشة في كل البلاد الإيلخانية؛ فلم يرُجْ وينتشر سوى العملات التي أمر بضربها، وكما وحد العملات قام بتوحيد الأوزان والمكاييل في سائر الولايات، وكان التناقض في معايير الأوزان سببًا في انتكاس التجارة وعدم رغبة الناس في أن يحملوا تجارتهم إلى سائر الولايات.

وأصدر غازان أحكامًا لتعمير ما خرب من الأراضي البوار بأن يجدد الناس العمائر والمباني، ويزرعوا المزارع البائرة لقاء محصلة خاصة، وأمر بتأمين الطرق والحفاظ على أمنها وسلامتها، والقبض على قطّاع الطرق وأن ينالوا جزاءهم وما يستحقون من التأنيب، وأصلح النظام القضائي؛ فعُني بتنظيم أمر المرافعات، واختيار القضاة والشهود.

وفاة غازان

عندما وصلت إلى غازان أنباء الهزيمة التي لاقاها جيشه في حملته الثالثة على الشام بقيادة "قتلغ شاه"، حزن حزنًا شديدًا واغتمت نفسه، واعتلت صحته، ثم لم يلبث أن توفي وهو في ريعان الشباب، لم يتجاوز الثالثة والثلاثين من عمره في (11 شوال سنة 703هـ= 17 من مايو 1303م)، ونُقل جثمانه إلى تبريز؛ حيث دُفن تحت القبة التي شيدها.

منقول

عبدالغفور الخطيب
29-08-2006, 02:57 AM
أبو الطب العربي.. احتفوا به وكفرناه

(في ذكرى وفاته: 5 من شعبان 311هـ)

كان "أبو بكر محمد بن زكريا الرازي" عالما موسوعيا من طراز فريد، وقد برز في جميع فروع العلوم؛ فكتب في الطب والفلسفة والكيمياء والرياضيات وعلم الأخلاق والميتافيزيقا والموسيقى وغيرها.

فهو في الحقيقة علامة عصره؛ حيث كانت مؤلفاته العديدة مرجعًا للعلماء والدارسين خاصة في الطب، وظلت تلك المؤلفات تدرَّس في جامعات أوروبا على مدى قرون طويلة.

الرازي والقراءة

ولد أبو بكر الرازي بالري نحو سنة 250هـ = 864م، وعُرِفَ منذ نعومة أظفاره بحب العلم؛ فاتجه منذ وقت مبكر إلى تعلم الموسيقى والرياضيات والفلسفة، ولما بلغ الثلاثين من عمره اتجه إلى دراسة الطب والكيمياء، فبلغ فيهما شأوًا عظيما، ولم يكن يفارق القراءة والبحث والنسخ، وإن جل وقته موزع بين القراءة والبحث في إجراء التجارب أو الكتابة والتصنيف.

وكان حريصًا على القراءة مواظبًا عليها خاصة في المساء، فكان يضع سراجه في مشكاة على حائط يواجهه، وينام في فراشه على ظهره ممسكًا بالكتاب حتى إذا ما غلبه النعاس وهو يقرأ سقط الكتاب على وجهه فأيقظه ليواصل القراءة من جديد.

الرازي العالم الإنسان

وعرف الرازي بذكائه الشديد وذاكرته العجيبة، فكان يحفظ كل ما يقرأ أو يسمع حتى اشتهر بذلك بين أقرانه وتلاميذه.

ولم يكن الرازي منصرفًا إلى العلم كلية زاهدًا في الدنيا، كما لم تجعله شهرته متهافتًا عليها مقبلا على لذاتها، وإنما كان يتسم بقدر كبير من الاعتدال، ويروي أنه قد اشتغل بالصيرفة زمنا قصيرا.

وقد اشتهر الرازي بالكرم والسخاء، وكان بارا بأصدقائه ومعارفه عطوفا على الفقراء والمحتاجين، وبخاصة المرضى، فكان ينفق عليهم من ماله، ويجري لهم الرواتب والجرايات حيث كان غنيا واسع الثراء، وقد امتلك بعض الجواري وأمهر الطاهيات.

وقد كانت شهرة الرازي نقمة عليه؛ فقد أثارت عليه غيرة حساده، وسخط أعدائه، فاتهمه في دينه كل من خالفهم، ورموه بالكفر ووصفوه بالزندقة، ونسبوا إليه آراء خبيثة وأقوالا سخيفة، وهي دعاوى باطلة، وافتراءات ظالمة، وللرازي نفسه من المصنفات ما يفند تلك الدعاوى، ويبطل تلك الأباطيل، ومن كتبه في ذلك كتاب في أن للعالم خالقا حكيما، وكتاب أن للإنسان خالقا متقنا حكيما، وغيرهما من المؤلفات.

وقد بلغت مؤلفات الرازي 146 مصنفا: منها 116 كتابا، و30 رسالة، وظل طوال حياته بين القراءة والتصنيف، حتى قيل إنه إنما فقد بصره من كثرة القراءة، ومن إجراء التجارب الكيميائية في المعمل.

الرازي طبيب العرب الأول

يعد أبو بكر الرازي أعظم علماء المسلمين في الطب من ناحية الأصالة في البحث، والخصوبة في التأليف، فقد ألف كتبًا قيمة في الطب، وقد أحدث بعضها أثرًا كبيرا في تقدمه، وفي طرق المداواة والعلاج وتشخيص الأمراض.

وقد امتازت مؤلفات الرازي بالموسوعية والشمول، بما تجمعه من علوم اليونان والهنود بالإضافة إلى أبحاثه المبتكرة وآرائه وملاحظاته التي تدل على النضج والنبوغ، كما تمتاز بالأمانة العلمية الشديدة؛ إذ إنه ينسب كل شيء نقله إلى قائله، ويرجعه إلى مصدره.

ويأتي الرازي في المرتبة الثانية بعد ابن سيناء في الطب، وقد صرف جل وقته على دراسة الطب، وممارسته بعد أن ضعف بصره نتيجة عكوفه على إجراء التجارب الكيميائية العديدة في معمله.

وكان الرازي ذكيا فطنا رءوفا بالمرضى مجتهدا في علاجهم وفي برئهم بكل وجه يقدر عليه، مواظبا على النظر في غوامض صناعة الطب، والكشف عن حقائقها وأسرارها، حتى أطلق عليه "أبو الطب العربي".

ويعد الرازي من الرواد الأوائل للطب ليس بين العلماء المسلمين فحسب، وإنما في التراث العالمي والإنساني بصفة عامة، ومن أبرز جوانب ريادة الرازي وأستاذيته وتفرده في الكثير من الجوانب:

أنه يعد مبتكر خيوط الجراحة المعروفة بالقصاب

أول من صنع مراهم الزئبق

قدم شرحا مفصلا لأمراض الأطفال والنساء والولادة والأمراض التناسلية وجراحة العيون وأمراضها.

كان من رواد البحث التجريبي في العلوم الطبية، وقد قام بنفسه ببعض التجارب على الحيوانات كالقرود، فكان يعطيها الدواء، ويلاحظ تأثيره فيها، فإذا نجح طبقه على الإنسان.

عني بتاريخ المريض وتسجيل تطورات المرض؛ حتى يتمكن من ملاحظة الحالة، وتقديم العلاج الصحيح له.

كان من دعاة العلاج بالدواء المفرد (طب الأعشاب والغذاء)، وعدم اللجوء إلى الدواء المركب إلا في الضرورة، وفي ذلك يقول: "مهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد، فلا تعالج بدواء مركب".

كان يستفيد من دلالات تحليل الدم والبول والنبض لتشخيص المرض.

استخدم طرقًا مختلفة في علاج أنواع الأمراض.

اهتم بالنواحي النفسية للمريض، ورفع معنوياته ومحاولة إزالة مخاوفه من خلال استخدام الأساليب النفسية المعروفة حتى يشفى، فيقول في ذلك: "ينبغي للطبيب أن يوهم المريض أبدا بالصحة ويرجيه بها، وإن كان غير واثق بذلك، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس".

كما اشتهر الرازي في مجال الطب الإكلينيكي، وكان واسع الأفق في هذا المجال، فقد فرق بشكل واضح بين الجدري والحصبة، وكان أول من وصف هذين المرضين وصفا دقيقا مميزا بالعلاجات الصحيحة.

وقد ذاعت شهرته في عصره حتى وصف بأنه جالينوس العرب، وقيل عنه: "كان الطب متفرقا فجمعه الرازي؟".

ولقيت بعض كتبه الطبية رواجا كبيرا وشهرة عظيمة، وانتقلت نظرياته العلمية إلى أوروبا، وقد ترجم العديد من كتبه إلى اللغات الأوروبية، واعتمدت عليها جامعات أوروبا، وظلت مرجعها الأول في الطب حتى القرن السابع عشر مثل كتابه الحاوي في علم التداوي والذي ترجم إلى اللاتينية وطبع لأول مرة في بريشيا في شمال إيطاليا عام 891هـ = 1486م، وهو أضخم كتاب طبع بعد اختراع المطبعة مباشرة، ثم أعيد طبعه مرارًا في البندقية في القرن 10هـ = 16م، وقسم كتاب الحاوي في الطبعة اللاتينية إلى خمسة وعشرين مجلدا.

وتتضح في هذا المؤلف الضخم مهارة الرازي في الطب، وتتجلى دقة ملاحظاته وغزارة علمه وقوة استنتاجه.

وكتابه "الجدري والحصبة" أعيدت طباعته أربع مرات بين عامي 903هـ = 1498م، و1283هـ = 1866م.

أما كتابه "المنصوري" فقد طبع لأول مرة في "ميلانو" عام (886هـ = 1481م)، وأعيد طبعه مرات عديدة، وترجمت أجزاء منه إلى الفرنسية والألمانية.

وظلت تلك المؤلفات من المراجع الأساسية لدراسة الطب في أوربا حتى القرن (11هـ = 17م)، ولا تزال جامعة "برنستون" الأمريكية تحتفظ بكتب الرازي في قاعة من أفخم قاعاتها، أطلق عليها اسمه اعترافًا بفضله ومآثره على علم الطب في العالم أجمع.

مؤلفاته الطبية

للرازي العديد من المؤلفات الطبية التي كان لها أكبر الأثر في الارتقاء بهذا العلم وتطويره، وكانت له إنجازات عديدة فيه، ومن أبرز تلك المصنفات:

الحاوي في علم التداوي.

الجدري والحصبة.

المنصوري في التشريح.

الكافي في الطب.

من لا يحضره الطبيب.

الحصى في الكلى والمثانة.

علل المفاصل والنقرس وعرق النسا.

منافع الأغذية.

دفع مضار الأغذية.

سر الطب.

المدخل إلى الطب.

القولنج (الشلل).

جهوده في الطبيعيات

كان الرازي عالمًا طبيعيًا مجدًا، يعتمد على البحث والاستقراء والتجربة والمشاهدة العلمية، بالإضافة إلى الرؤية العقلية والبصيرة الواعية وسعة الأفق.

فقد كتب الرازي عدة مؤلفات في "الهيولي" – المادة – وتوصل منذ وقت مبكر إلى أن المادة تتركب من أجزاء صغيرة، تنقسم بدورها إلى أجزاء دقيقة، تنتهي إلى أجزاء غاية في الدقة لا تقبل التجزئة، وهو ما يطلق عليه اليوم "الذرات".

ويقول الرازي: "إن تركيب الأجسام من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ، وسينتهي تفريق تركيب أجسام العالم – في آخر العالم – إلى تلك الأجزاء بعينها، وهذه هي الهَيُولَى المطلقة".

ويفرق الرازي بين الزمان المطلق والزمان المحدود، فالأول هو الأبد السرمدي، الذي لا أول له ولا نهاية، وهو ما عبر عنه بالدهر، أما الزمان بمعناه المحدود فهو الذي يقدر بحركة الأفلاك ودوران الشمس والكواكب، وما ينتج عنه من تعاقب الليل والنهار والفصول والأعوام.

ويقول الرازي: "إن الدهر هو عدد الأشياء الدائمة، والزمان هو عدد الأشياء الأمانية، وهذان العددان يعدان الأشياء فقط، أعني الحياة والحركة. فإن كل عادّ إما أن يعد جزءًا بعد جزء، وإما أن يعد الكل معًا".

فالعدد – عنده – اثنان فقط:

أحدهما: يعد الأشياء الدائمة الروحانية، وهو الدهر.

والآخر: يعد الأشياء الجزئية الواقعة تحت الزمان، وهو عدد حركات الفلك.

كذلك يميز "الرازي" بين نوعين من المكان:

- مكان مطلق: كالوعاء الذي يجمع أجسامًا.

- مكان مضاف: وهو مضاف إلى المتمكن (الجسم الذي يشغل مكانًا)، فإن لم يكن المتمكن لم يكن مكان.

وكان "الرازي" من أوائل الذين نادوا بكروية الأرض، وقال: إنها تفوق حجم القمر، وتقل كثيرًا عن حجم الشمس.

كما توصل إلى طريقة جديدة للتمييز بين المعادن عن طريق تعيين الثقل النوعي، وذلك من خلال تعيين ثقل حجم معين من المادة منسوبًا إلى نفس الحجم من الماء.

واستطاع بذلك التمييز بين معدني الذهب والفضلة بهذه الخاصية الطبيعية.

ولعل أهم إنجازات "الرازي" في مجال الطبيعيات، هو نقضه لنظرية الإبصار التي ظلت سائدة طوال القرون التي سبقته، والتي انتقلت إلى المسلمين عن الإغريق، وهي نظرية "إقليدس" القائلة بأن الإبصار يحدث نتيجة خروج شعاع من العين إلى الجسم المرئي، وقرر أن الإبصار يتم بخروج شعاع ضوئي من الجسم المرئي إلى العين، وهو ما أكده العلم الحديث بعد ذلك، وهو في ذلك أسبق من "ابن الهيثم" بعدة قرون.

* مصنفات "الرازي" في الطبيعيات:

وقد ترك "الرازي" العديد من المؤلفات الرائدة في الطبيعيات، من أبرزها:

كيفيات الإبصار.

شروط النظر.

علة جذب حجر المغناطيس للحديد.

الهيولى الكبير (المادة)

الهيولى المطلقة والجزئية.

الخلاء والملاء (الزمان والمكان).

هيئة العالم.

سبب وقوف الأرض وسط الفلك.

سبب تحرك الفلك على استدارة.

الرازي عالم الكيمياء

يعد "الرازي" من رواد علم الكيمياء، وقد أمضى شطرًا طويلاً من حياته في دراسة العلم، من خلال الممارسة العملية والتجريبية، وله فيه مؤلفات قيمة، حتى عده كثير من العلماء مؤسس الكيمياء الحديثة.

وقد اهتم "الرازي" بعلم الكيمياء؛ لأنه العلم الوحيد الذي يمكن الحصول على حقائق من خلال التجارب التي يجريها، وتقوده إلى استنتاج القوانين، ولكنه ما لبث أن ترك هذا المجال، بعد أن ضعف بصره، وتحول إلى دراسة الطب وممارسته وهو في نحو الأربعين من عمره.

وكان "الرازي" متبحرًا في ذلك العلم، واسع الاطلاع فيه، فلم يقف عند حد الاطلاع على إنتاج علماء اليونان والفرس والهنود فحسب، وإنما أضاف إلى ذلك ما وصل إليه بخبرته وممارسته وتجاربه ومشاهداته.

وقد حضَّر زيت الزاج أو الزاج الأخضر (حامض الكبريتيك) والكحول بتقطير المواد النشوية والسكرية المتخمرة.

كما عني "الرازي" بوصف المواد التي يجري عليها التجارب، والأدوات والآلات التي يستعملها، ثم طريقة العمل، كما وصف كثيرًا من الأجهزة العلمية التي كانت معروفة في عصره.

ومن الطريف أنه ربط الطب بالكيمياء، فكان ينسب الشفاء بفعل الأدوية التي يصفها الطبيب، إلى التفاعلات الكيميائية التي تتم في الجسم.

ويعد "الرازي" من تلاميذ "جابر بن حيان" العالم الكيميائي المعروف، وقد استطاع "الرازي" أن يطور كيمياء "جابر" وينظمها ويزيد عليها بما ابتكره من نظريات كثيرة ومشاهدات عديدة.

مؤلفات "الرازي" في الكيمياء

تعد مصنفات "الرازي" في الكيمياء علامة بارزة على طريق هذا العلم العريق؛ إذ تحوي الكثير من مشاهداته وملاحظاته وتجاربه واستنتاجاته، ومن تلك المؤلفات:

سر الأسرار.

التدبير.

الإكسير.

شرق الصناعة.

نكت الرموز.

الترتيب.

رسالة الخاصة.

الحجر الأصفر.

الرد على الكندي في رده على الصناعة.

الرازي الفيلسوف المغبون

كما كان "الرازي" فيلسوفًا معروفًا، وله اهتمام بالعلوم العقلية، وكان يدعو العلماء وخاصة الأطباء إلى الأخذ من العلوم الطبيعية ودراسة العلوم الفلسفية والقوانين المنطقية، ويرى أن إغفال تلك العلوم يزري بالعلماء.

واختلف "الرازي" مع المشائين المسلمين في إمكان التوفيق بين الفلسفة والدين، وتأثر بآراء "سقراط"، واتبع "أرسطو" في الكثير من أفكاره وآرائه.

كما رد في كتاباته على بعض متكلمي المعتزلة مثل "الجاحظ" و"أبي قاسم البلخي"، وكثير ممن حاولوا إدخال البراهين العلمية في الدين.

وبالرغم من الاتجاه العلمي للرازي والنزعة القلية له والتي تحكم أسلوب تفكيره ونظره إلى حقائق الأمور ومشاهدات العلوم، فإنه رفض إقحام تلك النزعة على أمور الدين؛ لأن العقل البشري يقصر عن أمور كثيرة في الكون، ومن الخطأ تحكيمه مطلقًا في أمور الدين، وقد أثار ذلك حفيظة الكثير من العلماء ضده حتى رموه بالكفر واتهموه في دينه، حسدًا منهم وغيرة بعدما بلغ مكانة لدى العامة والخاصة.

ومن أبرز مؤلفاته في المجال:

المدخل إلى المنطق.

المدخل التعليمي.

المدخل البرهاني.

الانتقام والتحرير على المعتزلة.

وتوفي "الرازي" عن عمر بلغ نحو ستين عامًا في (5 من شعبان 311هـ= 19 من نوفمبر 923م).


منقول

عبدالغفور الخطيب
31-08-2006, 02:25 AM
أبو عبيدة بن الجراح.. أمين أمة ووائد فتنة

(في ذكرى خروجه لفتح الشام: 7 من شعبان 12هـ)

في السابع من شعبان من العام الثاني عشر الهجري [17 من أكتوبر 633م] خرج "أبو عبيدة بن الجراح" إلى "الشام" قائدًا على أحد جيوش المسلمين للتصدي للروم، ونشر راية الإسلام، ودعوة الحق والعدل والتوحيد.

وكان أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح (رضي الله عنه) أحد السابقين الأولين إلى الإسلام، وقد أسلم بدعوة "أبي بكر الصديق" (رضي الله عنه)، فانطلق هو و"عثمان بن مظعون" و"عبد الرحمن بن عوف" و"أبو سلمة بن عبد الأسد" و"عبيدة بن الحارث" حتى أتوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فعرض عليهم الإسلام، وعرَّفهم بشرائعه؛ فشرح الله صدورهم للإسلام، وأسلموا جميعًا في ساعة واحدة، وكان ذلك في فجر الدعوة قبل دخول النبي (صلى الله عليه وسلم) دار الأرقم.

من مناقب أبي عبيدة

يجتمع نسب"أبو عبيدة" مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في جدِّه "فهر بن مالك بن النضر بن كنانة"، وكان أبو عبيدة أَصْبحَ الناسِ وجهًا، وأحسنهم خلقًا، وأشدَّهم حياء، وتصفه المصادر القديمة بأنه كان رجلاً نحيفًا، معروق الوجه، خفيف اللحية، طويلاً أحنى، وأنه كان أثرم الثنيتين، ويُروى أنه فقدَ ثنيتيْه في غزوة أُحد، حينما حاول أن ينزع الحلقتين المعدنيتين اللتين دخلتا في وجنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من ضربة أصابته، فانقلعت ثنيتاه، ويذكر الرواة أن ثغره حسُن بذهابهما، حتى قيل: "ما رؤي هَتَم قط أحسن من هتم أبي عبيدة". (والهتم: كسر الثنايا، ورجل أهتم: مكسور الثنايا). وقد أبلى "أبو عبيدة" يومئذ بلاءً حسنًا، وكان يتقدم الصفوف، ويقاتل المشركين بشجاعة وبطولة نادرتين، وفجأة أبصر أباه -وكان مشركًا- وهو يقاتل في صفوف المشركين، وهاله أن يجد إخوانه من المسلمين يُقتلون بسيف أبيه، فانطلق بسرعة نحو أبيه فابتدره بطعنة قاتلة بسيفه قبل أن يسبقه إلى أحد المسلمين فيقتله.

في تلك اللحظة الفريدة تصارعت في نفسه عاطفة البنوَّة مع عاطفة الأخوة في الدين والعقيدة الصادقة، ولكن سرعان ما انتصر إيمانه بالله تعالى على مشاعر البنوة، وسمت العقيدة الخالصة على كل ما عداها، فلم يتردد ولم يضعف.

وقد شهد له النبي (صلى الله عليه وسلم) بالجنة، وسمَّاه "أمين الأمة". فعن "أنس" (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "إن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح". وقال (صلى الله عليه وسلم): "ما من أصحابي أحد إلا لو شئت أخذت عليه إلا أبا عبيدة".

أبو عبيدة والخلافة

وكان "أبو عبيدة" معدودًا فيمن جمع القرآن الكريم، وقد هاجر إلى أرض الحبشة فيمن هاجروا إليها من المسلمين، إلا إنه لم يُطِل المُكْث بها؛ فقد عاد إلى مكة مرة أخرى، ثم هاجر إلى المدينة بعد ذلك.

وحينما تُوفِّي النبي (صلى الله عليه وسلم) كان أبو عبيدة من أقوى المرشحين لخلافته، فأتاه بعض المسلمين، ومنهم "عمر بن الخطاب"؛ ليبايعوه على الخلافة، إلا أنه أبى، وقال: "أتأتوني وفيكم ثالث ثلاثة"؛ يعني "أبا بكر الصديق".

وانطلق معه إلى السقيفة، حيث اجتمع الأنصار؛ ليختاروا من بينهم خليفة للمسلمين في المدينة قبل أن يذهب الأمر إلى المهاجرين، فلما عَلِم المهاجرون بذلك ذهبوا إليهم حتى لا يتحزَّب المسلمون وتقع الفتنة بينهم.

واحتدم النقاش بين الفريقين، وكاد الشر يتطاير بين المهاجرين والأنصار، ويحدث خلاف بينهم، وتشتعل الفتنة، فيتدخل "أبو عبيدة" لتسكين حدَّة النفوس، وتهدئة روع المؤمنين، وكان قد لزم الصمت طوال الوقت، فقال: "يا معشر الأنصار، كنتم أول من نَصَر وآزر؛ فلا تكونوا أول من بدَّل وغيَّر".

فنزلت تلك الكلمة الحكيمة بردًا وسلامًا على قلوب الأنصار، وكانت بمثابة النور الذي كشف للفريقين ما كادوا يقعون فيه من الفتنة والشقاق، فقال "بشير بن سعد" من زعماء "الخزرج" –وقد شرحت تلك الكلمات صدره-: "إنا والله وإن كنا أُولي فضيلةٍ في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي من الدنيا عرضًا، فإن الله وليُّ النعمة علينا بذلك. ألا إن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) من قريش، وقومه أحقُّ به وأولى".

وهنا سارع "أبو عبيدة" بمبايعة "أبي بكر" فبايعه الجميع، وهكذا قدَّر الله لتلك الفتنة أن تموت في مهدها بفضل كياسة "أبي عبيدة"، ورجاحة عقله، وتواضعه، ونفاذ بصيرته، وقوة إيمانه، وإخلاصه لله عز وجل.

الخروج إلى الشام

وحظي "أبو عبيدة" بثقة خليفة المسلمين "أبي بكر الصديق" (رضي الله عنه)، وهو الذي زكَّاه النبي (صلى الله عليه وسلم) ووصفه بـ"أمين الأمة"، فلم يجد "أبو بكر" من يقوم بأمر مال المسلمين خيرًا منه، فولاه بيت مال المسلمين، فكان يتلقى أموال الزكاة، وينظر في توزيعها على حاجات المسلمين.

وكان "أبو عبيدة" ممن استشارهم "الصدِّيق" لغزو "الشام" بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وحاجة الدولة الإسلامية الناشئة إلى تأمين حدودها من الأخطار المحدقة بها، وتأكيد قوتها أمام القوى الخارجية المتربصة بها، والحفاظ على هيبتها ومكانتها في نفوس أعدائها.

فلما فرغ "الصديق" من حرب أهل الردة، وحرب مسيلمة الكذَّاب، واستطاع تأمين الدولة من الداخل ضد القبائل العربية المتمردة، وفلول المرتدين من مانعي الزكاة ومدِّعي النبوة وغيرهم، جهَّز الأمراء والجنود لفتح الشام، ووقع اختياره على "أبي عبيدة" و"يزيد بن أبي سفيان" و"عمرو بن العاص" و"شرحبيل بن حسنة"؛ ليكونوا على قيادة الجيوش المتجهة إلى الشام، واستطاع هؤلاء القادة أن يحققوا الانتصارات تلو الانتصارات، فكانت وقعة "أجنادين" بقرب الرملة التي جاءت بالنصر المؤزر، فطارت البشرى إلى "الصدِّيق" (رضي الله عنه) وهو في مرض الموت، ثم كانت وقعة "فِحْل" ووقعة "مرج الصُّفَّر" تتويجًا لانتصارات المسلمين في الشام.

واستطاع "أبو عبيدة" أن يتوغل بجنوده في أرض الشام، مارًّا بوادي القرى وبالحجر، فلما دخل "مآب" قاومه الروم وعرب "مآب" فتصدى لهم وأخضعهم، فلما بلغ "الجابية" جاءته الأنباء بتجهيز "الروم" بقيادة "هرقل" للقاء المسلمين بجيش كبير.

تحت إمرة "خالد"

وأرسل "أبو عبيدة" إلى "أبي بكر" يستشيره في الأمر، فأمدَّه الخليفة بجيش كبير، وكتب إليه يقول: "أما بعد، فإني قد وليت خالد بن الوليد قتال الروم في الشام فلا تخالفه، واسمع له، وأطع أمره، فإني وليته عليك وأنا أعلم أنك خير منه، ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك. أراد الله بنا وبك سبيل الرشاد".

وبسماحة رحبة وتواضع عظيم يسلم "أبو عبيدة" قياده لخالد بن الوليد، فيجعله "خالد" على المشاة، وانطلق جيش المسلمين ليحاصر "دمشق"، فنزل "خالد" على الباب الشرقي، ونزل "أبو عبيدة" على باب الجابية، وبقية القوَّاد على الأبواب الأخرى.

وأحاط المسلمون بالمدينة الحصينة، وضيَّقوا عليها الحصار، وحاول أهل "دمشق" المقاومة والدفاع عن مدينتهم بكل قوة.

ووسط هذه الأحداث الصعبة جاء خطاب "عمر بن الخطاب" (رضي الله عنه) إلى "أبي عبيدة" ينعي إليه نبأ وفاة "أبي بكر"، ويخبره بعزل "خالد بن الوليد" عن قيادة الجيش، وتوليته هو القيادة بدلاً منه.

فتح دمشق وصلح أبي عبيدة

ولكن أبو عبيدة يتكتم الأمر، ويظل جنديًّا تحت إمرة "خالد" حتى لا يفتّ ذلك في عضد الجنود، وتجنبًا لما قد يثيره نبأ عزل "خالد" من فوضى واضطراب، خاصة أن المسلمين يواجهون عدوًّا قويًّا قد ضربوا حوله حصارًا محكمًا، لكنه لم يَلِن ولم يستسلم.

وسعى "أبو عبيدة" إلى إبرام صلح مع أهل "دمشق" في الوقت الذي تمكن فيه "خالد" من اقتحام الباب الشرقي ودخول دمشق عَنوة.

والتقى القائدان في المدينة، ويثور الجدل بينهما حول مصير المدينة: هل فتحت عنوة أم صلحًا؟! ويُصِرُّ "أبو عبيدة" على الوفاء بصلحه مع أهلها، فلا يملك "خالد" إلا إقرار عقد الصلح وفاءً لذمة "أبي عبيدة"، وإبراءً لعهده مع أهل "دمشق"، وينزل له طائعًا عن قيادة الجيش بعد أن يعلم بقرار الخليفة الجديد "عمر بن الخطاب" (رضي الله عنه) جميعًا.

أبو عبيدة في المدينة

وعندما يعود أبو عبيدة إلى المدينة يرسل إليه الخليفة أربعة آلاف دينار، ويقول للرسول: انظر ما يصنع بها. فيقسِّمها "أبو عبيدة" بين الفقراء المحتاجين لساعته، وعندما يعلم عمر تُشْرق نفسه بالسعادة، ويهتف في رضا: "الحمد لله الذي جعل في الإسلام مَن يصنع هذا"، ثم لم يلبث عمر أن لقي أبا عبيدة فصافحه، وقبَّل يده، وتنحيا يبكيان.

ولم تمضِ إلا سنوات قليلة حتى تُوفِّي "أبو عبيدة" في طاعون "عَمواس" – وهي قرية بين "الرملة" و"بيت المقدس" في سنة (18هـ = 639م) عن عمر بلغ ثمانية وخمسين عامًا، ولم يعقُب له ولد.

منقول

العراق الباسل
31-08-2006, 02:03 PM
شكرا جزيلا

عبدالغفور الخطيب
03-09-2006, 03:09 AM
معركة "الحُصَيْد" وانكسار الفرس

(في ذكرى نشوبها: 10 من شعبان 12هـ)

استطاع سيف الله خالد بن الوليد أن يحقق انتصارات عديدة في بلاد الشام، فاستولى على "الحيرة" بعد أن حطم مقاومة أهلها، ومن ورائهم الفرس، وأقام الفارس المنتصر بالحيرة، وجعلها مركزًا لقيادته؛ فكانت أول عاصمة إسلامية خارج بلاد العرب، وقد ترك خالد أمر إدارتها لزعمائها من أهلها، وسعى إلى نشر العدل والأمن فيها؛ فترك الفلاحين يعملون في الأرض، ولم يتعرض لرجال الدين من النصارى فيها، وصالح سكانها على الجزية، بعد أن رفع عنهم ظلم دهاقين الفرس واستبدادهم.

"ذات العيون" وجسر الإبل

ثم استولى بعد ذلك على "الأنبار" وما حولها. وكانت "الأنبار" مدينة حصينة محاطة بخندق عميق، فحاصرها زمنًا، وكان خالد قليل الصبر على الحصار، فأمر رماته أن يصوبوا سهامهم إلى عيون أعدائهم، وأن يرموهم في وقت واحد؛ فأصابوا نحو ألف عين منهم، فسُميت تلك الواقعة "ذات العيون".

وطاف خالد بالخندق، ثم تخير أضيق نقطة فيه، فأمر بنحر الإبل الضعيفة، فألقاها في الخندق حتى غطت ذلك الجانب، فصنع بذلك جسرًا عبر عليه جنوده تحت غطاء من الرماة الذين أخذوا يرشقون حامية الحصن بالنبال، حتى استطاع فرسان المسلمين اقتحام الحصن وفتح المدينة؛ فأسرع قائد المدينة "شيرزاد" الفارسي بإعلان قبوله جميع شروط "خالد" في سبيل الصلح والأمان، فأمَّنه خالد، وصالح أهلها.

وأقام خالد في "الأنبار" حتى اطمأن إلى استتباب الأمور فيها، ثم تحرك بجيشه قاصدًا "عين التمر" بعد أن استخلف "الزبرقان بن بدر" على "الأنبار".

خالد في دومة الجندل

وكان "مهران بن بهرام" حاكم "عين التمر" من قِبَل الفرس قد حشد جمعًا كبيرًا من الفرس ومن القبائل العربية الموالية لهم، وعلى رأسها "عقَّة بن أبي عقَّة"؛ فنزل عقة على الطريق ليتصدى للمسلمين، ويمنعهم من دخول الحصن، ولكن "خالد" أسره، ثم ما لبث أن قتله مع من ظفر بهم من فلول البدو الذين احتموا بالحصن بعد فرار مهران وجنوده منه.

ولما أتم خالد فتح "الأنبار" و"عين التمر" أرسل إليه الخليفة أبو بكر الصديق يأمره بالتحرك إلى "دُومَة الجَنْدَلِ" لنجدة قوات "عياض بن غنم" بها.

وكانت "دومة الجندل" إحدى المدن التجارية الكبرى في الجزيرة العربية، وهي مشهورة بأسواقها الكبيرة، كما كانت أيضًا مركزًا هامًّا للمواصلات، ونقطة التقاء الطرق القادمة من أوساط شبه الجزيرة العربية والعراق والشام. ومن ثَم فقد كانت محطَّ أنظار العرب والفرس على السواء، وكان الاستيلاء عليها غاية يسعى إليها كلا الفريقين.

الفرس يستعدون للقتال

بعد أن انصرف خالد من "عين التمر" ظن الفرس أنه قد غادر الشام متوجهًا إلى الجزيرة العربية مع القسم الأكبر من قواته، فأرادوا طرد قواته من الشام، واستعادة الأراضي التي فتحها المسلمون؛ لاسترداد هيبة الإمبراطورية الفارسية التي ضاعت مع الهزائم المتتالية التي ألحقها بها المسلمون.

وبدأ "بهمن" قائد الفرس ينظم جيشه من جديد، فراح يجمع شتات مقاتليه الذين انسحبوا من الحاميات الموجودة في أجزاء الإمبراطورية الفارسية، ويحشد إليهم المزيد من الجنود الجدد، وانضم إليهم عدد كبير من المتطوعين، ولكن ذلك جعل جيشه أقل كفاءة واستعدادًا للقتال من الجيوش الأخرى التي حاربها "خالد" من قبل، واستطاع إلحاق الهزائم بها.

وأدرك "بهمن" بحنكته نقطة الضعف تلك؛ فقرر ألا يزج بهذا الجيش في القتال قبل أن يدعمه بقوات كبيرة من العرب النصارى الموالين للفرس.

الطريق إلى الحُصيد

واستجاب له هؤلاء النصارى بعد أن وجدوا أن الفرصة أصبحت سانحة لهم للانتقام من المسلمين، والثأر لمقتل قائدهم "عقة" الذي قتله خالد في عين التمر، وبدأت تلك القبائل العربية النصرانية الاستعداد للحرب.

وقسّم "بهمن" قواته إلى جيشين كبيرين، جعل على الأول "رُوزَبَه"، ووجهه إلى الحصيد، والثاني تحت إمرة زَرْمِهْر، ووجهه إلى الخنافس.

وفي الوقت نفسه قرر "القعقاع بن عمرو" قائد المسلمين في العراق -بعد رحيل خالد- أن يرسل كتيبتين إلى الحصيد والخنافس لتأخير تقدم الفرس في هذين المكانين، واحتفظ القعقاع بباقي جيشه في حالة تأهب واستعداد لأية معركة محتملة لحين قدوم خالد بقواته من الحيرة.

خطة خالد بن الوليد

قرر خالد أن يخوض المعركة على طريقته الخاصة، وذلك بأن يبدأ بالأعمال الهجومية؛ حتى يدمر كل قوة في مكانها على حدة؛ فقسم قواته في الحيرة إلى مجموعتين: الأولى بقيادة "القعقاع بن عمرو"، والثانية بقيادة "أبي ليلى بن فَدَكي السعدي"، ثم عززهما بالقوات التي حاربت في دُومَة الجندل بعد أن نالت قسطا من الراحة بعد عناء المعركة.

وبعد أيام احتشدت جميع قوات المسلمين في عين التمر في ثلاثة ألوية، فوجّه خالد القعقاعَ إلى "الحصيد"، وأبا ليلى إلى "الخنافس"، وأمرهما أن يتصديا لجيوش الفرس، فيَهِمَّا بسرعة، وفي آن واحد؛ حتى يتمكنا من القضاء عليها.

وتحرك كل من القعقاع وأبي ليلى في طريقين منفصلتين، وكانت المسافة إلى "الحصيد" أقصر من المسافة إلى "الخنافس"، فلمَّا اقترب القعقاع من "الحصيد" سارع رُوزَبَه القائد الفارسي فيها بطلب المساعدة من زميله زرمهر في "الخنافس"، ولكن "زرمهر" لم يجرؤ على تحريك جيشه إليه قبل استئذان قائدهما "بهمن"، إلا أنه سار بنفسه إلى "الحصيد" ليقف على حقيقة الأمور بها.

هزيمة الفرس في الحصيد

وصل القعقاع بن عمرو بجيشه إلى الحصيد في (10 من شعبان 12هـ = 20 من أكتوبر 633م)، وبدأ على الفور بمهاجمة جيوش الفرس التي كانت تفوقه عددًا وعدة، وأظهر القعقاع من ضروب الفروسية ونوادر البطولة ما أشعل الحماس في قلوب جنوده؛ فانطلقوا يحصدون رؤوس أعدائهم، وشقّ القعقاع صفوف الفرس حتى وصل إلى قائدهم رُوزَبَه، فأطاح رأسه بسيفه، إلا أن ذلك لم يفتّ في عضد جنوده الذين اندفعوا إلى القتال بشراسة شديدة، ولكن المسلمين لم تكن تنقصهم القوة والشجاعة للتصدي لهم، والكرّ عليهم، وإعمال السيف فيهم قتلا وجرحًا.

وتقدم "زرمهر" صفوف الفرس، وطلب المبارزة، فاندفع إليه أحد قادة المسلمين، وسرعان ما أرداه قتيلا مُدرجًا في دمائه. فلما رأى جنود الفرس قائدهم الثاني يخر صريعًا دبت الفوضى في صفوفهم، وساد بينهم الاضطراب، وتراجعوا بسرعة، كل منهم ينشد النجاة بنفسه، ويطلب الفرار بجلده، فانسحبوا إلى "الخنافس"، تاركين وراءهم أعدادا كبيرة من القتلى.

الهروب إلى الخنافس

وصل الجنود الفارون إلى "الخنافس" قبل وصول أبي ليلى بجيوشه إليها بوقت قصير، فانضموا إلى الجيش الفارسي بها تحت لواء قائد آخر هو "مهبوزان".

وما لبثت أن جاءت الأخبار بقدوم جيش المسلمين نحو المدينة، فلما سمع قائد الفرس أنباء قدوم جيش المسلمين إلى "الخنافس" بقيادة أبي ليلى قرر الانسحاب، وعدم الدخول مع المسلمين في معركة غير مضمونة العواقب، وآثر السلامة والنجاة بجيشه، خاصة بعد الهزيمة التي لحقت بسلفيْه على أيدي المسلمين في "الحصيد"، فخرج مهبوزان بسرعة من الخنافس، وسار بجنوده إلى "المُصَيِّخ"؛ لينضم إلى قوات العرب من النصارى المحتشدين بها والموالين للفرس.

وعندما وصل أبو ليلى إلى الخنافس وجدها خالية من الفرس، فأقام بها مدة، ثم أرسل إلى خالد بن الوليد يُنهي إليه أنباء استيلائه على المدينة، ويخبره بفرار الفرس إلى "المُصَيِّخ".

منقول

عبدالغفور الخطيب
05-09-2006, 02:03 AM
ابن مالك.. صاحب الألفية

(في ذكرى وفاته: 12 من شعبان 672هـ)


"الألفية" نوع من المنظومات الشعرية في الفنون المختلفة، وقلَّما يخلو علم من علوم العربية من هذا النظم؛ حيث نجده في علم الحديث، والفقه، وأصول الفقه، والنحو، والبلاغة، والفرائض، وغيرها…، وتمتاز الألفية بأن أبياتها تبلغ ألفًا أو تقارب الألف أو تربو، ومن ذلك جاءت تسميتها بالألفية.

وصياغة العلوم نظمًا نشأت قديمًا بقصد التيسير على الدارسين للإلمام بالعلوم، وتذكر مسائلها، ومن أشهر ما عُرف من الألفيات: ألفية "ابن سينا" المتوفَّى سنة (370هـ = 980م) في أصول الطب، وألفية "ابن معط" المتوفَّى سنة (672هـ = 1273م) في النحو، وألفية "ابن مالك" المتوفى سنة (672هـ = 1273م)، وألفية "العراقي" المتوفَّى سنة (806هـ = 1404م) في علم مصطلح الحديث، وألفية "ابن البرماوي" المتوفَّى سنة (831هـ = 1427م) في علم أصول الفقه، وألفية "القباقبي" المتوفَّى سنة (850هـ = 1446م) في البلاغة، وكان للسيوطي المتوفَّى سنة (911هـ = 1505م) ألفيَّتان في علمي مصطلح الحديث والنحو.

غير أن ألفية ابن مالك في النحو هي أشهر الألفيات على اختلاف أنواعها وفنونها، وأصبح الذهن ينصرف إليها حين يُذكر اسم الألفية. وغدَت من الأصول التي لا يستغني عنها الدارسون للنحو حتى وقتنا هذا، وحسبك دليلاً على هذا أنها ما تزال حيَّة نابضة لم تضعفها كثرة السنين، وتغير الأحوال.

المولد والنشأة

في مدينة "جيَّان" بالأندلس وُلِد محمد بن عبد الله بن مالك الطائي سنة (600هـ = 1203م)، وكانت الأندلس تمرُّ بفترة من أحرج فترات تاريخها؛ حيث تساقطت قواعدها وحواضرها في أيدي القشتاليين النصارى. ولا يُعرف كثير عن حياته الأولى التي عاشها في الأندلس قبل أن يهاجر مع مَن هاجر إلى المشرق الإسلامي بعد سقوط المدن الأندلسية، ولا شك أنه حفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة قبل أن يتردد على حلقات العلم في بلده، ويحفظ لنا "المقري" في كتابه المعروف "نفح الطيب" بعض أسماء شيوخ ابن مالك الذين تلقى العلم على أيديهم، فذكر أنه أخذ العربية والقراءات على ثابت بن خيار، وأحمد بن نوار، وهما من شيوخ العلم وأئمته في الأندلس.

الهجرة إلى المشرق

هاجر ابن مالك إلى المشرق الإسلامي في الفترة التي كانت تتعرَّض قواعد الأندلس لهجمات النصارى، وكان الاستيلاء على "جيان" مسقط رأس ابن مالك من أهداف ملك قشتالة، وكانت مدينة عظيمة حسنة التخطيط، ذات صروح شاهقة، وتتمتع بمناعة فائقة بأسوارها العالية، وقد تعرَّضت لحصار من النصارى سنة (327هـ = 1230م)، لكنها لم تسقط في أيديهم. وأرجح أن يكون ابن مالك قد هاجر عقب فشل هذا الحصار إلى الشام، وهناك استكمل دراسته، واتصل بجهابذة النحو والقراءات، فتتلمذ في دمشق على "علم الدين السَّخاوي" شيخ الإقراء في عصره، و"مكرم بن محمد القرشي"، و"الحسن بن الصباح"، ثم اتجه إلى "حلب"، وكانت من حواضر العلماء، ولزم الشيخ "موفق الدين بن يعيش" أحد أئمة النحو في عصره، وجالس تلميذه "ابن عمرون".

وقد هيأت له ثقافته الواسعة ونبوغه في العربية والقراءات أن يتصدر حلقات العلم في حلب، وأن تُشَدّ إليه الرِّحال، ويلتف حوله طلاب العلم، بعد أن صار إمامًا في القراءات وعِلَلها، متبحِّرًا في علوم العربية، متمكنًا من النحو والصرف لا يباريه فيهما أحد، حافظًا لأشعار العرب التي يُستشهد بها في اللغة والنحو.

ثم رحل إلى "حماة" تسبقه شهرته واستقر بها فترة، تصدَّر فيها دروس العربية والقراءات، ثم غادرها إلى القاهرة، واتصل بعلمائها وشيوخها، ثم عاد إلى دمشق، وتصدر حلقات العلم في الجامع الأموي، وعُيِّن إمامًا بالمدرسة "العادلية الكبرى"، وولِّي مشيختها، وكانت تشترط التمكن من القراءات وعلوم العربية، وظلَّ في دمشق مشتغلاً بالتدريس والتصنيف حتى تُوفِّي بها.

تلاميذه

تبوأ ابن مالك مكانة مرموقة في عصره، وانتهت إليه رئاسة النحو والإقراء، وصارت له مدرسة علمية تخرَّج فيها عدد من النابغين، كانت لهم قدم راسخة في النحو واللغة، ومن أشهر تلاميذه: ابنه "محمد بدر الدين" الذي خلف أباه في وظائفه، وشرح الألفية، و"بدر الدين بن جماعة" قاضي القضاة في مصر، و"أبو الحسن اليونيني" المحدِّث المعروف، و"ابن النحاس" النحوي الكبير، و"أبو الثناء محمود الحلبي" كاتب الإنشاء في مصر ودمشق.

مؤلفاته

كان ابن مالك غزير الإنتاج، تواتيه موهبة عظيمة ومقدرة فذَّة على التأليف، فكتب في النحو واللغة والعروض والقراءات والحديث، واستعمل النثر في التأليف، كما استخدم الشعر في بعض مؤلفاته، ومن أشهر كتبه في النحو: "الكافية الشافية"، وهي أرجوزة طويلة في قواعد والصرف، وكتاب "تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد" جمع فيه بإيجاز قواعد النحو مع الاستقصاء؛ بحيث أصبح يُغني عن المطوَّلات في النحو، وقد عُنِي النحاة بهذا الكتاب، ووضعوا له شروحًا عديدة.

وله في اللغة: "إيجاز التصريف في علم التصريف"، و"تحفة المودود في المقصور والممدود"، و"لاميات الأفعال"، و"الاعتضاد في الظاء والضاد".

وله في الحديث كتاب "شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح"، وهو شروح نحوية لنحو مائة حديث من صحيح البخاري.

ألفية ابن مالك

والألفية هي أشهر مؤلفات ابن مالك حتى كادت تطغى بشهرتها على سائر مؤلفاته، وقد كتب الله لها القبول والانتشار، وهي منظومة شعرية من بحر "الرجز"، تقع في نحو ألف بيت، وتتناول قواعد النحو والصرف ومسائلهما من خلال النظم بقصد تقريبهما، وتذليل مباحثهما، وقد بدأها بذكر الكلام وما يتألف منه، ثم المعرب والمبني من الكلام، ثم المبتدأ والخبر، ثم تتابعت أبواب النحو بعد ذلك، ثم تناول أبواب الصرف، وختم الألفية بفصل في الإعلال بالحذف، وفصل في الإدغام.

ومن نظمه ما قاله في الكلام وما يتألف منه:

كَلامُنَا لَفْظٌ مُفِيدٌ كَاسْتَقِم

واسْمٌ وَفِعْلٌ، ثمَّ حَرْفٌ - الكَلِمْ

واحدُهُ كلِمَةٌ والقَوْل عَـمْ

وكِلْمَةٌ بها كـلامٌ قـد يُؤَمْ

بالجَرِّ والتَنْوِين والنِّدَا، وَأَلْ

وَمُسْنَدٍ للاسْم تَمييزٌ حَصَلْ

بتا فَعَلْتُ وَأَتت ويا افْعَلِي

ونُونِ أَقْبِلَنَّ فِعْلٌ يَنْـجَلِي

التزم ابن مالك في الألفية المنهج الاختياري الانتقائي، الذي يقوم على المزج بين مذاهب النحاة دون ميل أو انحياز، والتخير منها والترجيح بينها، وهو منهج التزمه في مؤلفاته كلها. كما توسَّع في الاستشهاد بالحديث النبوي، واتخذه أساسًا للتقعيد النحوي إلى جانب الاستشهاد بالقرآن الكريم بقراءاته المختلفة وأشعار العرب.

يُذكر لابن مالك أنه وضع عناوين جديدة لبعض مسائل النحو، لم يستخدمها أحد قبله من النحاة، مثل باب "النائب عن الفاعل"، وكان جمهور النحاة قبله يسمُّونه: "المفعول الذي لم يُسمَّ فاعله"، و"البدل المطلق" بدلاً من قولهم "بدل كل من كل"، و"المعرف بأداة التعريف" بدلاً من "التعريف بأل".

شروح الألفية

ولقد لقيت ألفية ابن مالك عناية كبيرة من العلماء، فقام بعضهم بشرحها وإعراب أبياتها، أو وضع حواشٍ وتعليقات عليها، وقد زاد عدد شرَّاح الألفية على الأربعين، من بينهم ابن مالك نفسه، وابنه "محمد بدر الدين" المتوفَّى سنة (686هـ = 1287م)، غير أن أشهر شروح الألفية وأكثرها ذيوعًا هي:

- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: للنحوي الكبير جمال الدين بن هشام الأنصاري المتوفَّى سنة (761هـ = 1359م)، وقد حقَّق هذا الكتاب العالم الجليل محمد محيي الدين عبد الحميد، وصنع له شرحًا باسم "عدة السالك إلى تحقيق أوضح المسالك"، في أربعة مجلدات، وقد رُزِق الكتاب وشرحه القبول، فأقبل عليه طلاب العلم ينهلون منه حتى يومنا هذا.


- شرح ابن عقيل لقاضي القضاة بهاء الدين عبد الله بن عقيل، المتوفَّى سنة (769هـ = 1367م)، وهو يمتاز بالسهولة وحسن العرض، وقد حقَّق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد هذا الكتاب، ونشره في أربعة أجزاء مع تعليقه عليه بعنوان "منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل"، وقد لقي هذا الشرح قبولاً واسعًا، ودرسه طلبة الأزهر في المرحلة الثانوية.

- "منهج السالك إلى ألفية ابن مالك" المعروف بـ"شرح الأشموني"، لأبي الحسن علي نور الدين بن محمد عيسى، المعروف بالأشموني، المتوفَّى سنة (929هـ = 1522م)، وهذا الشرح يُعَدّ من أكثر كتب النحو تداولاً بين طلبة العلم من وقت تصنيفه إلى الآن، وهو من أغزر شروح الألفية مادة، وأكثرها استيعابًا لمسائل النحو ومذاهب النحاة.

وبلغت العناية بأبيات الألفية أن قام بعض العلماء بإعرابها مثلما فعل الإمام "خالد الأزهري" المتوفَّى سنة (905هـ = 1499م) في كتابه "تمرين الطلاب في صناعة الإعراب"، كما قام بعض العلماء بشرح شواهد شروح الألفية، مثلما فعل "بدر الدين العيني" المتوفَّى سنة (855 هـ = 1451م) في كتابه "المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية".

وفاة ابن مالك

كان ابن مالك إمامًا، زاهدًا، ورعًا، حريصًا على العلم وحفظه، حتى إنه حفظ يوم وفاته ثمانية أبيات من الشعر، واشتهر بأنه كثير المطالعة سريع المراجعة، لا يكتب شيئًا من محفوظه حتى يراجعه في مواضعه من الكتب، وكان لا يُرى إلا وهو يُصلِّي أو يتلو القرآن الكريم، أو يصنف أو يُقرِئ القرآن تلاميذه، وظلَّ على هذه الحالة حتى تُوفِّي في (12 من شعبان 672هـ = 21 من فبراير 1274م) في دمشق، وصُلِّي عليه بالجامع الأموي.

منقول

عبدالغفور الخطيب
08-09-2006, 03:17 AM
ابن شهاب الآلوسي.. علامة العراق

(في ذكرى ميلاده: 15 من شعبان 1217 هـ)

تمتعت الأسرة الآلوسية بمنزلة رفيعة وتقدير عظيم لمكانة أبنائها واشتغالهم بالعلم وتصدرهم للدرس والإفتاء والقضاء في بغداد. وأصل هذه الأسرة من جزيرة آلوس في نهر الفرات، ومن هنا جاءت التسمية، وقد ارتحل عميد هذه الأسرة الكريمة السيد محمود الخطيب الآلوسي إلى بغداد واتخذها وطنًا في الثلث الأخير من القرن القرن الثاني عشر الهجري، وكان عالمًا صالحًا، أحسن تربية أبنائه وتعليمهم، فساروا في طريقه، وجلسوا للتدريس والقضاء، وتعاقب أحفاده يحملون راية آبائهم في تواصل جاد وعمل مثمر حتى يومنا هذا، غير أن الذي طير شهرة العائلة، وجعلها محط الأنظار هو الإمام أبو الثناء شهاب الدين محمود بن عبد الله صلاح الدين بن محمود الخطيب الآلوسي.

المولد والنشأة

ولد أبو الثناء محمود الآلوسي في بغداد في (15 شعبان 1217 هـ = 11 من ديسمبر 1803م).

ونشأ في بيت علم وفضل، فأبوه واحد من كبار علماء بغداد، وكان بيته كعبة للعلماء والطلاب، حيث تعقد جلسات العلم وتطرح سائله وقضاياه المختلفة في الفقه والحديث والتفسير والنحو والبلاغة والبيان وغيرها من العلوم.

وفي هذا الجو العلمي نشأ الصبي الصغير، وتعلقت عيناه بأبيه وهو يراه يتصدر تلك الحلقات مناقشًا ومحاورًا ومعلمًا، ويلقى من الحاضرين أسمى آيات التقدير والإعجاب، وسمت نفس الصبي إلى طلب العلم وتحصيله، وكان في نفسه استعداد عظيم للعلم، وحافظة قوية تلتهم ما تقرأه، وهمة عالية في المثابرة على المذاكرة، ولم تمض عليه سنوات قليلة حتى كان قد أتم حفظ المتون في الفقه والنحو والعقيدة والفرائض قبل أن يتم الرابعة عشرة من عمره.

ولم يقتصر الآلوسي في طلب العلم على والده، بل اتجه إلى حلقات غيره من أفذاذ العلماء في عصره، فاتصل بالشيخ علي السويدي، وأمين الحلي، وخالد النقشبندي، وعبد العزيز الشواف، ثم تطلعت همته إلى السفر إلى بيروت ودمشق، ليتتلمذ على علمائها.

علاقته بداود باشا

وفي تلك الفترة كانت العراق قد شهدت بواكير نهضة مباركة قام عليها داود باشا والي بغداد النابه، فاستقدم عددًا من الخبراء الأوروبيين وعهد إليهم بإنشاء المصانع وبناء المدارس، وأقام مطبعة حديدة، وأصدر صحيفة سماها جرنال العراق، وأعاد تعمير المساجد القديمة، وعين بها جماعة من العلماء للتدريس، وكان لهذه الجهود أثر لا ينكر في تحريك الحياة الراكدة، وكان من الطبيعي أن يجد الفتى النابه في داود باشا رمزًا للنهوض واليقظة، فوقف معه وعاونه.

ولما اشتد الخلاف بين داود باشا والدولة العثمانية، وكان هو واليا من قبلها وقف الآلوسي في صف الوالي وآزره، وحشد الرأي العام في تأييده ومعاونته ضد الجيش العثماني الذي أحكم الحصار على بغداد، وشاءت الأقدار أن ينتشر الطاعون في بغداد فيعصف بالأهالي في غير رحمة، وزاد الأمر سوءا فيضان دجلة بمياه كاسحة أغرقت المدينة، ولم يجد داود باشا فائدة من المقاومة فاستسلم للجيش العثماني.

وجاء قائد الحملة ليبحث عن رجال داود باشا ومعاونيه ويزج بهم في السجون، وكان الآلوسي واحدا ممن طالتهم المحنة، وحلت بهم المصيبة، وزجوا في السجون.

في كنف الوالي الجديد

غير أن نباهة الآلوسي وسعة علمه بلغت مسامع الوالي الجديد رضا باشا، فطلب بعض مؤلفاته ليقرأها وكان على حظ من المعرفة، فنالت إعجابه، وأصدر أمرًا بالإفراج عن الآلوسي وعينه خطيبًا لجامع الشيخ عبد القادر الجيلي، وكان يحضر دروسه، فأعجب بحسن بيانه وغزارة علمه، واتفق أن أنجز كتابه "كتاب البرهان في إطاعة السلطان" فقدمه إليه، فأجازه عليه بتولية أوقاف مدرسة مرجان التاريخية، وكانت لا تُعطي إلا للجهابذة من العلماء، ثم ولاه منصب الإفتاء في بغداد وهو في الثلاثين من عمره، تقديرًا لعلمه وكفايته ونبوغه وذكائه، كان يشترط فيمن يتولى هذا المنصب الجليل في الدولة العثمانية أن يكون حنفي المذهب؛ لأنه المذهب الرسمي للدولة، وعلى الرغم من كون الآلوسي شافعي المذهب فإنه استطاع في فترة قصيرة أن يدرس المذهب في أوسع كتبه ومدوناته الكبيرة، وأن يلم بقضاياه ومسائله.

ولما ظهرت نعمة الله على الآلوسي واتسع رزقه، اشترى دارًا واسعة، وجعل قسمًا منها مسكنًا لطلابه الذين يغدون إليه من أطراف العراق وكردستان لتلقي العلم عليه، ولم يكتف الآلوسي باستقبالهم في مسكنه، وإنما امتدت إليه مظلة كرمه، فكان يطعمهم ويتكفل بهم.

محنته

لم يمكث رضا باشا في ولايته على العراق طويلا، فحل مكانه محمد نجيب، ولم يجد الآلوسي في ظل ولايته ما كان يجده عند الوالي السابق من التقدير والإجلال، بل ضاق من مكانته ونفوذه العلمي في بغداد، فانتهز فرصة اشتعال مظاهرة ضده واتهم الآلوسي بأنه الذي يقف خلفها، وسارع بغزله عن الإفتاء، وحاربه في رزقه، وحال بينه وبين السفر إلى الأستانة لمقابلة الخليفة العثماني.

واضطرته هذه الظروف الصعبة إلى بيع أثاث بيته حتى يتمكن من الإنفاق على بيته وعلى العشرات من طلابه الذين يسكنون بيته، وكانت في الشيخ عزة نفس وإباء، فلم يشأ أن يعلن عن ضيق ذات يده، وفي الوقت نفسه انشغل بإكمال تفسيره للقرآن حيث كان يجد فيه السلوى عما به من ضيق، حتى إذا انقضت سنوات المحنة انطلق إلى الأستانة ومعه تفسيره (1267 هـ = 1851م).

الرحلة إلى الأستانة

وفي دار الخلافة العثمانية استقبله محمد عارف حكمت شيخ الإسلام استقبالا حسنًا، وأشار عليه أن يكتب إلى الصدر الأعظم مذكرة عن حاله وما يرجوه، فكتب إليه، فأعجب الصدر الأعظم بما كتب، ونعم برضا الخليفة عبد المجيد، الذي رتب له مالا جزيلا كل عام، وعاد إلى بغداد بعد أن مكث في دار الخلافة واحدًا وعشرين شهرًا، وخرجت بغداد كلها في استقباله.

مؤلفاته

ترك الآلوسي مؤلفات كثيرة، إذ كان ذا قلم سيال، وفكر متدفق، ومنطق منظم، وبدأ التأليف منذ فترة باكرة وهو في الثالثة عشرة، ثم تتابعت مؤلفاته تترى في حياته المديدة، ومن هذه المؤلفات:

- الأجوبة العراقية عن الأسئلة اللاهورية، وهو إجابة لأسئلة بعث بها إليه أهالي الهند يستفتونه في بعض المسائل، وقد أجازه السلطان العثماني محمود الثاني على هذا الكتاب جائزة سنية (قيمة).

- الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية، ويحتوي على ثلاثين مسألة مهمة في الفقه والتفسير واللغة والمنطق.

- نشوة الشمول في السفر إلى إسلامبول، ودون فيه رحلته إلى عاصمة دار الخلافة واصفًا ما نزل به المدن، ومن قابله من الناس، وهي تعد وثيقة تاريخية تسجل فترة زمنية من التاريخ الاجتماعي والثقافي لأمتنا.

- سُفْرة الزاد لسَفْرة الجهاد، دعا فيها المسلمين إلى اليقظة علميًا واقتصاديًا وعسكريًا، وأعلن أن الجهاد فريضة محتومة أمام اعتداءات الاستعمار.

روح المعاني

غير أن أجل إنتاج الآلوسي وأعظم آثاره التي جعلت له اسمًا مدويًا، وجلبت له الذيوع والشهرة، وأنزلته منزلة رفيعة بين كبار العلماء هو تفسيره المعروف بـ"روح المعاني" في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني، وهو تفسير جامع لخلاصة كل ما سبقه من التفاسير مثل تفسير ابن عطية وتفسير أبي حيان، والكشاف للزمخشري وتفسير أبي السعود وتفسير البيضاوي وتفسير الفخر الرازي، وصاغ من ذلك كله تفسيره بعد أن أطال النظر فيما قرأ، ووازن وقارن ورجح ما اختاره، معتمدًا على زاد كبير من الثقافة الواسعة في علوم الشرع واللغة.

وتوسع الآلوسي في تفسيره في المسائل البلاغية، وعني بمسائل النحو ولزم حدود الاعتدال في مناقشة الآراء الفقهية المخالفة للمذهب الحنفي.

وفاة الآلوسي

كان الآلوسي إمامًا لمدرسة كبيرة امتدت به، وتأثرت بطريقته ومنهجه في التأليف، ولولاه لربما تاخرت النهضة العلمية في العراق؛ لأن تلاميذه حملوا رايته ونهجوا طريقته، فاتصل تأثيره في الأجيال اللاحقة ولم ينقطع، وقد مدح في حياته ورثي بعد مماته بأشعار كثيرة لم تتح نظائرها إلا للملوك والأمراء، وقد جمع تلميذه الأديب عبد الفتاح الشواف، وابنه أبو البركات نعمان خير الدين هذه الأشعار في كتاب كبير من مجلدين سمياه: حديقة الورود في مدائح أبي الثناء محمود.

ولم تطل الحياة بعد عودة الآلوسي من عاصمة دار الخلافة، حيث لقي ربه في (25 من ذي القعدة سنة 1270 هـ = 19 أغسطس 1854م).


منقول

عبدالغفور الخطيب
09-09-2006, 02:09 AM
عبد الحميد الثاني وجدل لم ينتهِ

(في ذكرى ميلاده: 16 شعبان 1258هـ)

السلطان العثماني عبد الحميد الثاني شخصية تاريخية أثارت جدلا كثيرا خرج بأحكام متباينة على الرجل؛ حيث ينظر إليه البعض على أنه مصلح عادل، حكم دولة مترامية الأطراف متعددة الأعراق بدهاء وذكاء، ومدّ في عمر الدولة والخلافة العثمانية، ووقف ضد الأطماع الاستعمارية الغربية لاقتسام تركة "رجل أوربا المريض"، مستفيدًا من تضارب هذه الأطماع، فضلا عن موقفه الحازم والرافض لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين..

بينما ينظر إليه آخرون على أنه مستبد ظالم ديكتاتور، حكم هذه الإمبراطورية الشاسعة لمدة 33 عامًا حكمًا فرديًا، كانت كلمته هي الأولى والأخيرة؛ واضطهد الأحرار، وقتل بعضهم، وطارد البعض الآخر، ولم يسلم منه إلا من خضع له.

إلا أن القارئ والمستطلع الواعي يحتاج إلى أن ينظر بعينيه الاثنتين متفحصا وجهتي النظر السابقتين؛ حتى لا تصاب رؤيته بالأحادية فيصدر أحكامًا صارمة وجائرة على شخصيات وأحداث متعددة الجوانب والأبعاد، وفي هذا إهدار لقيمة التاريخ الذي سجّل لنا حسنات الرجل وسيئاته.

المولد والنشأة

ولد عبد الحميد يوم الأربعاء (16 شعبان 1258 هـ = 22 سبتمبر 1842م)، وهو ابن السلطان عبد المجيد الأول الذي يعد أول سلطان عثماني يضفي على حركة التغريب في الدولة العثمانية صفة الرسمية، وعُرف عهده بعهد التنظيمات، الذي يعني تنظيم شئون الدولة وفق المنهج الغربي.

أما أمه فهي "تيرمشكان" جركسية الأصل توفيت عن 33 عاما، ولم يتجاوز ابنها عشر سنوات، فعهد بعبد الحميد إلى زوجة أبيه "بيرستو قادين" التي اعتنت بتربيته، وأولته محبتها؛ لذا منحها عند صعوده للعرش لقب "السلطانة الوالدة".

تعلم عبد الحميد اللغتين العربية والفارسية، ودرس الكثير من كتب الأدب والدواوين الشعرية والتاريخ والموسيقى والعلوم العسكرية والسياسية، وكان يحب مهنة النجارة ويقضي فيها الوقت الكثير، وما تزال بعض آثاره النجارية موجودة في المتحف.

توفي والده وعمره 18 عامًا، وصار ولي عهد ثان لعمه "عبد العزيز"، الذي تابع نهج أخيه في مسيرة التغريب والتحديث، واستمر في الخلافة 15 عاما شاركه فيها عبد الحميد في بعض سياحاته ورحلاته إلى أوروبا ومصر.

التقى عبد الحميد في خلافة عمه بعدد من ملوك العالم الذين زاروا إستانبول. وعُرف عنه مزاولة الرياضة وركوب الخيل والمحافظة على العبادات والشعائر الإسلامية والبعد عن المسكرات والميل إلى العزلة، وكان والده يصفه بالشكاك الصامت.

قتل السلطان عبد العزيز في مؤامرة دبرها بعض رجال القصر، واعتلى العرش من بعده مراد الخامس شقيق عبد الحميد، ولكنه لم يمكث على العرش إلا 93 يومًا فقط، حيث تركه لإصابته باختلال عقلي.

تولي الخلافة



بويع عبد الحميد بالخلافة في (9 شعبان 1293 هـ = 31 أغسطس 1876)، وكان في الرابعة والثلاثين من عمره، وهو الخليفة السابع والعشرون في الخلفاء العثمانيين، وتولَّى العرش مع اقتراب حرب عثمانية روسية جديدة، وظروف دولية معقدة، واضطرابات في بعض أجزاء الدولة، خاصة في البلقان.

اجتمعت الدول الكبرى في إستانبول في مؤتمر "ترسخانة" في (5 ذي الحجة 1293 = 23 ديسمبر 1876م)، لمناقشة الحرب القادمة، وتزامن ذلك مع إعلان المشروطية الأولى (الدستور)، ثم افتتاح مجلس المبعوثان (النواب) المنتخب من الولايات العثمانية المختلفة، حيث بدأت الخطوات الحثيثة نحو النظام البرلماني. ومع دق طبول الحرب العثمانية الروسية سحبت الدول الكبرى سفراءها من إستانبول، وتركت العثمانيين وحدهم أمام الروس.

وقعت الحرب في منتصف عام (1294 هـ = 1877م)، وعرفت بحرب 93، وتعد من كبرى حروب ذلك الوقت، ومني فيها العثمانيون بهزيمة كبيرة، واقترب الروس من إستانبول لولا تكتل الدول الأوروبية ضد روسيا، وحضور الأسطول الإنجليزي إلى ميناء إستانبول، وأُمليت على العثمانيين معاهدتي صلح هزليتين هما: آيا ستافانوس، وبرلين، اقتطعت فيهما بعض أراضي الدولة العثمانية، وفُرضت عليها غرامات باهظة، وهُجّر مليون مسلم بلغاري إلى إستانبول.

تعطيل الدستور

شعر السلطان عبد الحميد بأنه أجبر على قرار الحرب بسبب ضغوط مدحت باشا -الصدر الأعظم - الذي حرّض طلبة العلوم الدينية العليا للقيام بمظاهرات تجبر السلطان على الحرب. تصاعد الرأي العام على إثر هذه المظاهرات داعيا إلى الحرب. رأى السلطان أن هناك قصورًا في الرأي العام ممثلا في المجلس الذي دفع بالأمة إلى الحرب في غير وقتها وبدون استعداد لها أو حاجة إليها؛ لذلك قام بتعطيل الحياة النيابية إلى أجل غير مسمى في (9 صفر 1295 هـ = 13 فبراير 1878م)، واستمر هذا التعطيل مدة ثلاثين عاما ونصف، بعد حياة نيابية استمرت عاما واحدا.

والملاحظ أن السلطان لم يلغِ الدستور أو ينحيه، بل استمر نشر الدستور في النشرة السنوية للدولة طيلة 31 عاما متوالية دون انقطاع، وإن كانت أحكامه لم تطبق. ولم يجتمع مجلس الأعيان، ولكنهم استمروا في تقاضي مرتباتهم بصورة رسمية مدى الحياة.. وعلى هذا الأساس فإن السلطان أدار دولته بصورة شخصية دون مجلس، في ظل دستور يمنع تدخل السلطان في شئون الحكومة؛ لهذا وسم السلطان بصفة المستبد والديكتاتور.

وقد استصوب السياسي الألماني بسمارك ما فعله السلطان عبد الحميد من حل مجلس المبعوثان (النواب)، وعلَّق عليه بقوله: "إن لم يكن قوام الدولة شعبًا واحدًا، فإن ضرر مجلسها يكون أكبر من نفعه".

حكم السلطان حكمًا فرديًا من مقر إقامته في قصر ييلذر، وربط جميع مؤسسات الإمبراطورية بشخصه، غير أنه لم يستعمل القوة القسرية في حكمه، حيث لم يتدخل الجيش في الشئون الداخلية، وإن اعتمد السلطان على تحريات الأمن التي قامت بالعديد من التجاوزات.

ويلاحظ أن السلطان عبد الحميد كان بعيدًا عن سفك الدماء أو أسلوب الاغتيالات وتصفية معارضيه، وكان لا يلجأ إلى عقوبة السجن إلا في القليل، ثم يغيرها بالنفي. ولم يصدّق خلال سلطته الطويلة إلا على خمس عقوبات إعدام فقط، وهي أقل عدد من عقوبات الإعدام في تاريخ تركيا كلها.

الديون العثمانية

بلغت الديون العثمانية الخارجية عند تولي السلطان عبد الحميد الثاني حوالي 252 مليون قطعة ذهبية، وهو مبلغ كبير بمقياس ذلك العصر، فأقنع السلطان الدول الدائنة بإسقاط 146 مليونًا. ولتسديد المبلغ الباقي وُضعت بعض مؤسسات الدولة تحت تصرف مؤسسة الديون العمومية، وتمكن بهذه الوسيلة من تسديد هذه الديون، وكان حريصًا طوال عهده على عدم الاستدانة من الخارج إلا في أضيق الحدود.

سياسته ومشاريعه

كان عبد الحميد الثاني يرى ضرورة العمل على توحيد القوى الإسلامية لمجابهة الروح الاستعمارية الطامعة في الدولة العثمانية؛ لذلك سعى إلى طرح شعار الجامعة الإسلامية، وجعلها سياسة عليا لدولة الخلافة، فعمل على تدعيم أواصر الأخوة بين مسلمي الصين والهند وإفريقيا، ورأى في ذلك الشعار وسيلة لتوحيد الصفوف حوله وحول دولته في الداخل والخارج؛ فاستعان بمختلف الرجال والدعاة والوسائل لتحقيق غرضه، فأقام الكليات والمدارس، وربط أجزاء الدولة بـ30 ألف كيلومتر من البرق والهاتف، وبنى غواصة وعني بتسليح الجيش.

إلا أن أعظم مشروعاته الحضارية هو سكة حديد الحجاز لتيسير الحج على المسلمين، بحيث يستعاض بهذا المشروع عن طريق القوافل الذي كان يستغرق السفر به أربعين يومًا، وانخفضت المدة بالخط الحديدي إلى أربعة أيام.

وقد خلق هذا المشروع العملاق حماسة دينية بالغة بعدما نشر عبد الحميد الثاني بيانًا على المسلمين يدعوهم فيه للتبرع، وافتتح القائمة بمبلغ كبير؛ فتهافت المسلمون من الهند والصين وبقية العالم على التبرع، باعتبار أن هذا المشروع هو مشروع المسلمين أجمعين. ووصل أول قطار إلى المدينة المنورة في (رجب 1326 هـ = أغسطس 1908م)، بعد ثمانية أعوام من الحماسة والعمل الدائبين.

عبد الحميد والدول الكبرى

كان السلطان شخصيًا غير مرغوب فيه بالنسبة للدول الأوروبية؛ لأنه يمسك في قبضته ملايين المسيحيين، وبصفته خليفة للمسلمين فإن له نفوذا وسلطانا روحيا على رعايا الدول الأوروبية المسلمين.

لم يكن من الممكن لأي من الدول الكبرى أن تقتطع أجزاء من الدولة العثمانية في أوروبا أو البلقان في ظل وجود عبد الحميد الثاني؛ لذا أخذت فكرة إسقاطه تكتسب ثقلا كبيرًا في لندن وباريس.

كما أن سياساته فيما يتعلق بالجامعة الإسلامية وسكة حديد الحجاز وبغداد، ونجاحه في تشييد سكة حديد بغداد برأسمال ألماني (وبذلك استطاع إدخال ألمانيا إلى قائمة الدول المتنافسة في منطقة خليج البصرة الغنية بالبترول، وضمن عدم اقتراب بريطانيا، وحماية السكة الحديد باعتبار ألمانيا صاحبة امتيازها) كل ذلك أقلق إنجلترا، وأثار عدم ارتياح روسيا، وخلق صلابة في التصميم الأوروبي على ضرورة التخلص من هذا الخليفة الماكر الذي استطاع بدهائه تحييد القوى الأوروبية.

عبد الحميد واليهود

كان الحادث المهم الذي أثار أوروبا ضد السلطان عبد الحميد هو رفضه إسكان وتوطين المهاجرين اليهود في فلسطين، فقد كانت أوروبا المسيحية تريد تصدير مشكلة اليهود التي تعاني منها إلى الدولة العثمانية.

وكان أول اتصال بين "هرتزل" رئيس الجمعية الصهيونية، والسلطان عبد الحميد، بعد وساطة قام بها سفير النمسا في إستانبول، في (المحرم 1319 هـ = مايو 1901م)، وعرض هرتزل على السلطان توطين اليهود في فلسطين، وفي المقابل سيقدم اليهود في الحال عدة ملايين من الليرات العثمانية الذهبية كهدية ضخمة للسلطان، وسيقرضون الخزينة العثمانية مبلغ مليوني ليرة أخرى.

أدرك السلطان أن هرتزل يقدم له رشوة من أجل تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، وبمجرد تحقيقهم لأكثرية سكانية سيطالبون بالحكم الذاتي، مستندين إلى الدول الأوروبية.. فأخرجه السلطان من حضرته بصورة عنيفة.

يقول السلطان عبد الحميد الثاني في مذكراته عن سبب عدم توقيعه على هذا القرار: "إننا نكون قد وقَّعنا قرارًا بالموت على إخواننا في الدين". أما هرتزل فأكد أنه يفقد الأمل في تحقيق آمال اليهود في فلسطين، وأن اليهود لن يدخلوا الأرض الموعودة (فلسطين) طالما أن السلطان عبد الحميد قائمًا في الحكم مستمرًا فيه.

كانت صلابة عبد الحميد الثاني سببًا رئيسًا في تأخير مشروع الصهيونية العالمية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين؛ لذلك سعى اليهود للإيقاع بالسلطان وتشويه صورته أثناء حكمه، وكذلك في التاريخ، وتغلغل بعضهم في جمعية الاتحاد والترقي التي أسقطت السلطان، وكان على رأسهم "عمانويل كراسو".

السلطان والأرمن

عاش الأرمن كغيرهم من الأجناس التي ضمتها الإمبراطورية العثمانية، واحتل بعضهم منصب الوزير، وكان تعدادهم داخل الدولة لا يزيد على مليوني شخص. ونصت معاهدة برلين على إجراء إصلاحات لصالح الأرمن في 6 ولايات عثمانية في الأناضول، ولم تكن تبلغ أكبر نسبة لكثافتهم السكانية في أي ولاية أكثر من 20%، إلا أن السلطان رفض تطبيق هذه المادة من المعاهدة؛ فقام الأرمن -بإيعاز من بعض الدول الكبرى- بارتكاب مذابح بشعة ضد المسلمين القرويين، حيث بقروا بطون الحوامل وقتلوا النساء، وقطعوا عورات الرجال وحرقوا المساجد، ولم يجد عبد الحميد بُدًا من مواجهة هذا الإرهاب الصليبي، فشنت بالتالي الصحافة الغربية حملة شعواء عليه ووصفته بالسلطان الأحمر.

كذلك عمل السلطان على تشكيل فرق من الأكراد لحماية المسلمين العزل في الأناضول عرفت بأفواج الخيالة الحميدية. ويقول أحد المؤرخين: "إن هذه السياسة حافظت على الوجود الكردي والمسلم في الأناضول حتى اليوم".

لم يكتف الأرمن بإشاعة الفوضى وارتكاب المذابح بحق القرويين، بل قاموا بأعمال شغب في إستانبول نفسها سنة (1313 هـ = 1892م) و(1314 هـ = 1896م)، وقد واجهتها القوات العثمانية بحزم، أما الدول الكبرى فتركت الأرمن لحالهم بعد أن أوقعتهم في الأزمة، فحاول الأرمن جذب انتباه الدول العظمى إليهم فخططوا لاغتيال السلطان عبد الحميد سنة (1323 هـ = 1905م) فيما عرف بحادث القنبلة، لكنهم فشلوا في اغتيال السلطان، ومات بعض الأمراء والجنود، وقبض على المتآمر البلجيكي "جوريس"، لكن السلطان عفا عنه، بل استخدمه في جمع معلومات له في أوروبا.

عبد الحميد والاتحاد والترقي

الاتحاد والترقي هو أول حزب سياسي في الدولة العثمانية، ظهر عام (1308 هـ = 1890م) كحزب سري يهدف إلى معارضة حكم عبد الحميد الثاني والتخلص منه، وبعدما اكتشف السلطان أمر الحزب سنة (1315 هـ = 1897م) نفى الكثير من أعضائه إلى الخارج، وهرب بعضهم إلى باريس، ثم اجتمع المعارضون لحكم السلطان في باريس في (ذي القعدة 1319 هـ = فبراير 1902م) في مؤتمر أطلقوا عليه "مؤتمر الأحرار العثمانية"، واتخذ قرارات مهمة، منها تأسيس إدارات محلية مستقلة على أساس القوميات، وهو ما يعني تمزيق الإمبراطورية العثمانية، غير أن هذا القرار اعترض عليه بعض الحاضرين في المؤتمر، ثم طالب المؤتمرون من الدول الأوروبية التدخل لإنهاء حكم السلطان عبد الحميد وإقصائه عن العرش.

افتتح الاتحاد والترقي فروعًا له داخل الدولة العثمانية التحق بها عدد كبير من الضباط الشباب وذوي الرتب الصغيرة، ثم تزايد عدد الضباط حتى قيل إن كل ضباط الجيش العثماني الثالث في البلقان سنة (1326 هـ = 1908م) كانوا منضمين إلى الاتحاد والترقي. وتحالفت الجمعية مع الثوار في البلقان، وأهدرت عصابات البلغار واليونانيين كثيرًا من دماء المسلمين بالاتفاق مع الاتحاديين بغرض هدم النظام الحميدي. وبدأ الاتحاديون في قتل الموظفين العثمانيين الذين لا يتعاونون معهم.

بعد كثير من الاضطرابات والوقائع قرر السلطان عبد الحميد استئناف تطبيق الدستور في جمادى الآخرة (1326 هـ = يوليو 1908م)، وتولت جمعية الاتحاد والترقي الحكم، وأعلنت تطبيقها لمبادئ الثورة الفرنسية.

والواقع أن تولي الاتحاد والترقي الحكم لم يؤسس الديمقراطية، وإنما تحول النظام إلى حزب واحد وديكتاتورية واحدة حوت جميع العناصر الراغبة في تمزيق الدولة. وكما يقول أحد المؤرخين: "لو كانت المشروطية الثانية نتيجة حركة شعبية، لأمكن تخطي الخطوة الأولى للديمقراطية"، وكان ضباط الاتحاد والترقي يقولون بأن المشروطية الثانية هي ضيعتهم وحدهم دون غيرهم، واقترن إعلان الدستور ببعض الحوادث المؤلمة للدولة العثمانية؛ إذ أعلنت بلغاريا وكريت انفصالهما عن الدولة العثمانية والانضمام لليونان، واستقلت البوسنة والهرسك.

حادث 31 مارت

رأى الاتحاديون ضرورة التخلص من السلطان عبد الحميد وإسقاط حكمه، واتفقت هذه الرغبة مع رغبة الدول الأوروبية الكبرى خاصة بريطانيا التي رأت في ذلك الخطوة الأولى لتمزيق الإمبراطورية العثمانية، وشعر اليهود والأرمن أنهم اقتربوا كثيرًا من أهدافهم؛ لذلك كانت أحداث 31 مارت (هو الشهر الأول من شهور السنة الرومية، ويقابل شهر إبريل، مع فارق بين الشهرين مقداره 18 يوما) ويوافق يوم (21 ربيع أول 1327 هـ = 13 إبريل 1909)؛ حيث حدث اضطراب كبير في إستانبول قتل فيه بعض جنود الاتحاد والترقي.

وعلى إثر ذلك جاءت قوات موالية للاتحاد والترقي من سلانيك، ونقلت إلى إستانبول، وانضمت إليها بعض العصابات البلغارية والصربية، وادعت هذه القوات أنها جاءت لتنقذ السلطان من عصاة إستانبول، وأراد قادة الجيش الأول الموالي للسلطان عبد الحميد منع هذه القوات من دخول إستانبول والقضاء عليها إلا أن السلطان رفض ذلك، وأخذ القسم من قائد الجيش الأول بعدم استخدام السلاح ضدهم؛ فدخلت هذه القوات إستانبول بقيادة محمود شوكت باشا وأعلنت الأحكام العرفية، وسطوا على قصر السلطان وحاولوا الحصول على فتوى من مفتي الدولة بخلع السلطان لكنه رفض، فحصلوا على فتوى بتهديد السلاح.

واتهم المتآمرون الثائرون السلطان بأنه وراء حادث 31 مارت، وأنه أحرق المصاحف، وأنه حرّض المسلمين على قتال بعضهم بعضًا، وهي ادعاءات كاذبة كان هدفها خلع السلطان عبد الحميد، وأعلنوا عزله.

ندب الثائرون أربعة موظفين لتبليغ السلطان بقرار العزل، وهم: يهودي وأرمني وألباني وجرجي، وهكذا أخذ اليهود والأرمن ثأرهم من عبد الحميد الثاني. واعترف الاتحاديون بعد ذلك بأنهم أخطئوا في انتخابهم لهذه الهيئة.

تنازل السلطان عبد الحميد الثاني عن العرش لأخيه محمد رشاد في (6 ربيع آخر 1327 هـ = 27 إبريل 1909م)، وانتقل مع 38 شخصًا من حاشيته إلى سلانيك بطريقة مهينة ليقيم في المدينة ذات الطابع اليهودي في قصر يمتلكه يهودي بعدما صودرت كل أملاكه وأمواله، وقضى في قصره بسلانيك سنوات مفجعة تحت رقابة شديدة جدًا، ولم يسمح له حتى بقراءة الصحف.

الوفاة

وقد تُوفِّي السلطان عبد الحميد الثاني في (28 ربيع آخر 1336 هـ = 10 فبراير 1918م) عن ستة وسبعين عامًا، واشترك في تشييع جنازته الكثير من المسلمين، ورثاه كثير من الشعراء، بمن فيهم أكبر معارضيه "رضا توفيق" الذي كتب يقول:

عندما يذكر التاريخ اسمك

يكون الحق في جانبك ومعك أيها السلطان العظيم

كنا نحن الذين افترينا دون حياء

على أعظم سياسي العصر

قلنا: إن السلطان ظالم، وإن السلطان مجنون

قلنا لا بد من الثورة على السلطان

وصدقنا كل ما قاله لنا الشيطان


منقول

عبدالغفور الخطيب
25-09-2006, 03:35 AM
بلاط الشهداء.. وتوقف المد الإسلامي بأوروبا

(في ذكرى نشوبها: 2 رمضان 702هـ)

فتح المسلمون الأندلس سنة (92 هـ = 711م) في عهد الخليفة الأموي "الوليد بن عبد الملك"، وغنموا ملك القوط على يد الفاتحين العظيمين طارق بن زياد وموسى بن نصير، وأصبحت الأندلس منذ ذلك الوقت ولاية إسلامية تابعة لدولة الخلافة الأموية، وتعاقب عليها الولاة والحكام ينظمون شئونها ويدبرون أحوالها، ويواصلون الفتح الإسلامي إلى ما وراء جبال ألبرت في فرنسا.

ولم يكد يمضي على فتح الأندلس سنوات قليلة حتى نجح المسلمون في فتح جنوبي فرنسا واجتياح ولاياتها، وكانت تعرف في ذلك الحين بالأرض الكبيرة أو بلاد الغال، وكان بطل هذه الفتوحات هو "السمح بن مالك" والي الأندلس، وكان حاكما وافر الخبرة، راجح العقل، نجح في ولايته للأندلس؛ فقبض على زمام الأمور، وقمع الفتن والثورات، وأصلح الإدارة والجيش.

وفي إحدى غزواته التقى السمح بن مالك بقوات الفرنجة في تولوشة (تولوز)، ونشبت معركة هائلة ثبت فيها المسلمون ثباتا عظيما على قلة عددهم وأبدوا شجاعة نادرة، وفي الوقت الذي تأرجح فيه النصر بين الفريقين سقط السمح بن مالك شهيدًا من فوق جواده في (9 من ذي الحجة 102 هـ = 9 من يونيو 721م)، فاضطربت صفوف الجيش واختل نظامه وارتد المسلمون إلى "سبتمانيا" بعد أن فقدوا زهرة جندهم.

مواصلة الفتح

وعلى إثر استشهاد السمح بن مالك تولّى عبد الرحمن الغافقي القيادة العامة للجيش وولاية الأندلس، حتى تنظر الخلافة الأموية وترى رأيها، فقضى الغافقي بضعة أشهر في تنظيم أحوال البلاد وإصلاح الأمور حتى تولّى "عنبسة بن سحيم الكلبي" ولاية الأندلس في (صفر سنة 103 هـ = أغسطس من 721م)، فاستكمل ما بدأه الغافقي من خطط الإصلاح وتنظيم شئون ولايته والاستعداد لمواصلة الفتح، حتى إذا تهيأ له ذلك سار بجيشه في أواخر سنة (105 هـ = 724م) فأتم فتح إقليم سبتمانيا، وواصل سيره حتى بلغ مدينة "أوتون" في أعالي نهر الرون، وبسط سلطانه في شرق جنوبي فرنسا، وفي أثناء عودته إلى الجنوب داهمته جموع كبيرة من الفرنج، وكان في جمع من جيشه؛ فأصيب في هذه المعركة قبل أن ينجده باقي جيشه، ثم لم يلبث أن تُوفِّي على إثرها في (شعبان 107 هـ = ديسمبر 725م).

وبعد وفاته توقف الفتح وانشغلت الأندلس بالفتن والثورات، ولم ينجح الولاة الستة الذين تعاقبوا على الأندلس في إعادة الهدوء والنظام إليها والسيطرة على مقاليد الأمور، حتى تولى عبد الرحمن الغافقي أمور الأندلس في سنة (112 هـ = 730م).

عبد الرحمن الغافقي

لم تكن أحوال البلاد جديدة عليه فقد سبق أن تولى أمورها عقب استشهاد السمح بن مالك، وعرف أحوالها وخبر شئونها، ولا تمدنا المصادر التاريخية بشيء كثير عن سيرته الأولى، وجل ما يعرف عنه أنه من التابعين الذين دخلوا الأندلس ومكنته شجاعته وقدراته العسكرية من أن يكون من كبار قادة الأندلس، وجمع إلى قيادته حسن السياسة وتصريف الأمور؛ ولذا اختاره المسلمون لقيادة الجيش وإمارة الأندلس عقب موقعه "تولوشة".

كان الغافقي حاكما عادلا قديرا على إدارة شئون دولته، وتجمع الروايات التاريخية على كريم صفاته، وتشيد بعدله، فرحبت الأندلس بتعيينه لسابق معرفتها به وبسياسته، ولم يكن غريبا أن يحبه الجند لرفقه ولينه، وتتراضى القبائل العربية فتكف عن ثوراتها، ويسود الوئام إدارة الدولة والجيش.

غير أن هذا الاستقرار والنظام الذي حل بالأندلس نغصه تحركات من الفرنج والقوط واستعداد لمهاجمة المواقع الإسلامية في الشمال، ولم يكن لمثل الغافقي أن يسكت وهو رجل مجاهد عظيم الإيمان، لا تزال ذكريات هزيمة تولوشة تؤرق نفسه، وينتظر الفرصة السانحة لمحو آثارها، أما وقد جاءت فلا بد أن ينتهزها ويستعد لها أحسن استعداد، فأعلن عزمه على الفتح، وتدفق إليه المجاهدون من كل جهة حتى بلغوا ما بين سبعين ومائة ألف رجل.

خط سير الحملة

جمع عبد الرحمن جنده في "بنبلونة" شمال الأندلس، وعبر بهم في أوائل سنة (114 هـ = 732م) جبال ألبرت ودخل فرنسا (بلاد الغال)، واتجه إلى الجنوب إلى مدينة "آرال" الواقعة على نهر الرون؛ لامتناعها عن دفع الجزية وخروجها عن طاعته، ففتحها بعد معركة هائلة، ثم توجه غربا إلى دوقية أقطاينا "أكويتين"، وحقق عليها نصرا حاسما على ضفاف نمهر الدوردوني ومزّق جيشها شر ممزق، واضطر الدوق "أودو" أن يتقهقر بقواته نحو الشمال تاركا عاصمته "بردال" (بوردو) ليدخلها المسلمون فاتحين، وأصبحت ولاية أكويتين في قبضة المسلمين تماما، ومضى الغافقي نحو نهر اللوار وتوجه إلى مدينة "تور" ثانية مدائن الدوقية، وفيها كنيسة "سان مارتان"، وكانت ذات شهرة فائقة آنذاك؛ فاقتحم المسلمون المدينة واستولوا عليها.

ولم يجد الدوق "أودو" بدا من الاستنجاد بالدولة الميروفنجية، وكانت أمورها في يد شارتل مارتل، فلبى النداء وأسرع بنجدته، وكان من قبل لا يُعنى بتحركات المسلمين في جنوب فرنسا؛ نظرا للخلاف الذي كان بينه وبين أودو دوق أقطانيا

استعداد الفرنجة

وجد شارل مارتل في طلب نجدته فرصة لبسط نفوذه على أقطانيا التي كانت بيد غريمه، ووقف الفتح الإسلامي بعد أن بات يهدده، فتحرك على الفور ولم يدخر جهدا في الاستعداد، فبعث يستقدم الجند من كل مكان فوافته جنود أجلاف أقوياء يحاربون شبه عراة، بالإضافة إلى جنده وكانوا أقوياء لهم خبرة بالحروب والنوازل، وبعد أن أتم شارل مارتل استعداده تحرك بجيشه الجرار الذي يزيد في عدده على جيش المسلمين يهز الأرض هزا، وتردد سهول فرنسا صدى أصوات الجنود وجلباتهم حتى وصل إلى مروج نهر اللوار الجنوبية.

اللقاء المرتقب

كان الجيش الإسلامي قد انتهى بعد زحفه إلى السهل الممتد بين مدينتي بواتييه وتور بعد أن استولى على المدينتين، وفي ذلك الوقت كان جيش شارل مارتل قد انتهى إلى اللوار دون أن ينتبه المسلمون بقدوم طلائعه، وحين أراد الغافقي أن يقتحم نهر اللوار لملاقاة خصمه على ضفته اليمنى قبل أن يكمل استعداده فاجأه مارتل بقواته الجرارة التي تفوق جيش المسلمين في الكثرة، فاضطر عبد الرحمن إلى الرجوع والارتداد إلى السهل الواقع بين بواتييه وتور، وعبر شارل بقواته نهر اللوار وعسكر بجيشه على أميال قليلة من جيش الغافقي.

وفي ذلك السهل دارت المعركة بين الفريقين، ولا يُعرف على وجه الدقة موقع الميدان الذي دارت فيه أحداث المعركة، وإن رجحت بعض الروايات أنها وقعت على مقربة من طريق روماني يصل بين بواتييه وشاتلرو في مكان يبعد نحو عشرين كيلومترا من شمالي شرق بواتييه يسمّى بالبلاط، وهي كلمة تعني في الأندلس القصر أو الحصن الذي حوله حدائق؛ ولذا سميت المعركة في المصادر العربية ببلاط الشهداء لكثرة ما استشهد فيها من المسلمين، وتسمّى في المصادر الأوربية معركة "تور- بواتييه".

ونشب القتال بين الفريقين في (أواخر شعبان 114 هـ = أكتوبر 732م)، واستمر تسعة أيام حتى أوائل شهر رمضان، دون أن يحقق أحدهما نصرا حاسما لصالحه.

وفي اليوم العاشر نشبت معركة هائلة، وأبدى كلا الفريقين منتهى الشجاعة والجلد والثبات، حتى بدأ الإعياء على الفرنجة ولاحت تباشير النصر للمسلمين، ولكن حدث أن اخترقت فرقة من فرسان العدو إلى خلف صفوف المسلمين، حيث معسكر الغنائم، فارتدت فرقة كبيرة من الفرسان من قلب المعركة لرد الهجوم المباغت وحماية الغنائم، غير أن هذا أدى إلى خلل في النظام، واضطراب صفوف المسلمين، واتساع في الثغرة التي نفذ منها الفرنجة.

وحاول الغافقي أن يعيد النظام ويمسك بزمام الأمور ويرد الحماس إلى نفوس جنده، لكن الموت لم يسعفه بعد أن أصابه سهم غادر أودى بحياته فسقط شهيدا في الميدان، فازدادت صفوف المسلمين اضطرابا وعم الذعر في الجيش، ولولا بقية من ثبات راسخ وإيمان جياش، ورغبة في النصر لحدثت كارثة كبرى للمسلمين أمام جيش يفوقهم عددا. وصبر المسلمون حتى أقبل الليل فانتهزوا فرصة ظلام الليل وانسحبوا إلى سبتمانيا، تاركين أثقالهم ومعظم أسلابهم غنيمة للعدو.

ولما لاح الصباح نهض الفرنجة لمواصلة القتال فلم يجدوا أحدا من المسلمين، ولم يجدوا سوى السكون الذي يطبق على المكان، فتقدموا على حذر نحو الخيام لعل في الأمر خديعة فوجدوها خاوية إلا من الجرحى العاجزين عن الحركة؛ فذبحوهم على الفور، واكتفى شارل مارتل بانسحاب المسلمين، ولم يجرؤ على مطاردتهم، وعاد بجيشه إلى الشمال من حيث أتى.

تحليل المعركة

تضافرت عوامل كثيرة في هذه النتيجة المخزية، منها أن المسلمين قطعوا آلاف الأميال منذ خروجهم من الأندلس، وأنهكتهم الحروب المتصلة في فرنسا، وأرهقهم السير والحركة، وطوال هذا المسير لم يصلهم مدد يجدد حيوية الجيش ويعينه على مهمته، فالشقة بعيدة بينهم وبين مركز الخلافة في دمشق، فكانوا في سيرهم في نواحي فرنسا أقرب إلى قصص الأساطير منها إلى حوادث التاريخ، ولم تكن قرطبة عاصمة الأندلس يمكنها معاونة الجيش؛ لأن كثيرًا من العرب الفاتحين تفرقوا في نواحيها.

وتبالغ الروايات في قصة الغنائم وحرص المسلمين على حمايتها، فلم تكن الغنائم تشغلهم وهم الذين قطعوا هذه الفيافي لنشر الإسلام وإعلاء كلمته، ولم نألف في حروب المسلمين الحرص عليها وحملها معهم أينما ذهبوا، ولو كانوا حريصين عليها لحملوها معهم في أثناء انسحابهم في ظلمة الليل، في الوقت التي تذكر فيه الروايات أن الجيش الإسلامي ترك خيامه منصوبة والغنائم مطروحة في أماكنها.

نتائج المعركة

كثر الكلام حول هذه المعركة، وأحاطها المؤرخون الأوربيون باهتمام مبالغ، وجعلوها معركة فاصلة، ولا يخفى سر اهتمامهم بها؛ فمعظمهم يعدها إنقاذًا لأوروبا، فيقول "إدوارد جيبون" في كتاب "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية" عن هذه المعركة: "إنها أنقذت آباءنا البريطانيين وجيراننا الفرنسيين من نير القرآن المدني والديني، وحفظت جلال روما، وشدت بأزر النصرانية".

ويقول السير "إدوارد كريزي": "إن النصر العظيم الذي ناله شارل مارتل على العرب سنة 732م وضع حدا حاسما لفتوح العرب في غرب أوروبا، وأنقذ النصرانية من الإسلام".

ويرى فريق آخر من المؤرخين المعتدلين في هذا الانتصار نكبة كبيرة حلت بأوروبا، وحرمتها من المدنية والحضارة، فيقول "جوستاف لوبون" في كتابه المعروف "حضارة العرب"، الذي ترجمه "عادل زعيتر" إلى العربية في دقة وبلاغة:

"لو أن العرب استولوا على فرنسا، إذن لصارت باريس مثل قرطبة في إسبانيا، مركزا للحضارة والعلم؛ حيث كان رجل الشارع فيها يكتب ويقرأ بل ويقرض الشعر أحيانا، في الوقت الذي كان فيه ملوك أوروبا لا يعرفون كتابة أسمائهم".

وبعد معركة بلاط الشهداء لم تسنح للمسلمين فرصة أخرى لينفذوا إلى قلب أوربا، فقد أصيبوا بتفرقة الكلمة، واشتعال المنازعات، في الوقت الذي توحدت قوة النصارى، وبدأت ما يُسمّى بحركة الاسترداد والاستيلاء على ما في يد المسلمين في الأندلس من مدن وقواعد.

منقول

عبدالغفور الخطيب
28-09-2006, 03:34 AM
فتح إنطاكية.. وانهيار الحلم الصليبي

(في ذكرى استردادها: 5 رمضان 666هـ)


بعد مقتل السلطان قطز بطل معركة عين جالوت اتفق الأمراء المماليك على اختيار بيبرس سلطانًا على مصر، وجلس في إيوان القلعة في (19 من ذي القعدة 658هـ = 26 من أكتوبر 1260م) إيذانًا ببدء فترة التأسيس والاستقرار لدولة المماليك البحرية بعد فترة التحول التي شهدتها بعد قضائها على الحكم الأيوبي في مصر، وكانت فترة قلقة مليئة بالفتن والقلاقل، وكان على بيبرس أن يبدأ عهدًا جديدًا من الثبات والاستقرار بعد أن أصبح بيده مقاليد الأمور في مصر والشام.

الاستعداد لمواصلة الجهاد

وما إن جلس بيبرس على سدة الحكم في مصر حتى قضى على الفتن والثورات التي اشتعلت ضده، وقام بتنظيم شؤون دولته، وسعى لإيجاد سند شرعي تُحكم دولة المماليك باسمه، فأحيا الخلافة العباسية في القاهرة، واستقدم أحد الناجين من أسرة العباسيين بعد مذبحة هولاكو في بغداد، ويدعى أبا العباس أحمد، وعقد مجلسًا في القلعة في (8 من لمحرم 661هـ = 22 من نوفمبر 661م) حضره قاضي القضاة وكبار العلماء والأمراء، وقرأ نسب الخليفة على الحاضرين بعدما ثبت عند القاضي، ولُقِّب الخليفة بالحاكم بأمر الله، وقام بيبرس بمبايعته على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، ولما تمت البيعة أقبل الخليفة على بيبرس وقلده أمور البلاد والعباد.

وسبق لنا أن تناولنا موضوع إحياء الخلافة العباسية في شيء من التفصيل في يوم (التاسع من المحرم).

وسعى بيبرس إلى تقوية الجيش وإمداده بما يحتاج من السلاح والعتاد، وأولى عناية بالأسطول ودور صناعة السفن المصرية في الفسطاط والإسكندرية ودمياط. وعمل على تحصين مناطق الحدود، وتنظيم وسائل الاتصال ونقل المعلومات من خلال نظام البريد. ولما اطمأن إلى ذلك قام بمواجهة القوى المتربصة بالإسلام وفي مقدمتها الصليبيون.

الصليبيون في الشام

لم يتجه "لويس التاسع" بعد إطلاق سراحه من مصر إلى فرنسا. وإنما اتجه إلى "عكا"، وكانت حملته الصليبية قد مُنيت بهزيمة مروعة في معركة المنصورة في (3 من المحرم 648هـ = إبريل 1250م) فقد فيها زهرة جنده، وأصيب الصليبيون بكارثة كبرى ظل أثرها المروع مستعصيًا على العلاج والإصلاح، وسبق لنا أن تناولناها على نحو من التفصيل في ذكرى وقوعها في الثالث من المحرم.

وقضى لويس التاسع في الإمارات الصليبية بالشام أربع سنوات يحاول جاهدًا تصفية الخلافات بين أمراء الصليبيين، والمحافظة على كياناتهم، وتنظيم الدفاع عن إماراتهم الصليبية، فعني بتحصين عكا وحيفا وقيسارية ويافا، وعمل على إعادة الصلح بين إمارة إنطاكية وأرمينية وسعى لإقامة حلف مع المغول، غير أن مسعاه لم يكلل بالنجاح، ثم غادر عكا عائدًا إلى بلاده في (5 من ربيع الأول 625هـ = 25 من إبريل 1254م).

ولم يكد لويس التاسع يرحل عن الشام حتى دبت المنازعات بينهم من جديد، وتصاعد الصراع بينهم إلى حد القتال، ولم يجدوا كبيرًا ينطوون تحت لوائه، فسادت أوضاعهم في الوقت الذي دولة المماليك بدأت في البروز بعد انتصارها العظيم في عين جالوت.

مقدمات الفتح الإسلامي

وكانت الفترة التي تلت رحيل لويس التاسع إلى أن تولى بيبرس سلطنة مصر والشام فترة هدوء ومسالمة بين الصليبيين والمسلمين لانشغال كل منهما بأموره الداخلية، على أن هذه السياسة المسالمة تحولت إلى ثورة وشدة من قبل المماليك بعد أن أخذ الصليبيون يتعاونون مع المغول ضد المماليك، ويعملون مرشدين لجيوشهم، ولم يقتصر الأمر على هذا بل استقبلت بعض الإمارات الصليبية قوات مغولية في حصونها.

وقد أصبح على المماليك أن يدفعوا هذا الخطر الداهم، وبدلاً من أن يواجهوا عدوًا واحدًا، تحتم عليهم أن يصطدموا مع المغول والصليبيين معًا، وكان بيبرس بشجاعته وسياسته قد ادخرته الأقدار لمثل هذه الفترات التاريخية الحرجة من تاريخ الأمة، فكان على قدر المسؤولية، وحقق ما عجز عشرات القادة الأكفاء عن تحقيقه.

وبدأت عمليات بيبرس العسكرية ضد الصليبيين في سنة (663هـ = 1265م)، فتوجه في (4 من ربيع الآخر 663هـ) إلى الشام، فهاجم "قيسارية" وفتحها عنوة في (8 من جمادى الأولى)، ثم عرج إلى أرسوف، ففتحها في شهر رجب من السنة نفسها.

وفي السنة التالية استكمل بيبرس ما بدأ، ففتح قلعة "صفد"، وكانت معقلاً من معاقل الصليبيين، وكان بيبرس يقود جيشه بنفسه، ويقوم ببعض الأعمال مع الجنود إثارة لحميتهم فيجر معهم الأخشاب مع البقر لبناء المجانيق اللازمة للحصار. وأصاب سقوط صفد الصليبيين بخيبة أمل، وحطم معنوياتهم؛ فسارعت بعض الإمارات الصليبية إلى طلب الصلح وعقد الهدنة.

الطريق إلى إنطاكية

تطلع بيبرس إلى الاستيلاء على إنطاكية التي تحتل مكانة خاصة لدى الصليبيين لمناعة حصونها، وتحكمها في الطرق الواقعة في المناطق الشمالية للشام، وكانت ثاني إمارة بعد الرها يؤسسها الصليبيون في أثناء حملتهم الأولى على الشام، وظلوا يسيطرون عليها مائة وسبعين عامًا.

وكان بيبرس قد استعد لهذه الموقعة الحاسمة خير استعداد، ومهد لسقوط الإمارة الصليبية بحملاته السابقة حتى جعل من إنطاكية مدينة معزولة، مغلولة اليد، محرومة من كل مساعدة ممكنة، فخرج من مصر في (3 من جمادى الآخرة 666هـ = 19 من فبراير 1268م)، ووصل إلى غزة، ومنها إلى "يافا" فاستسلمت له، ثم نجح في الاستيلاء على "شقيف أرنون" بعد حصار بدأه في (19 من رجب 666هـ = 5 من إبريل 1268م)، وبفتح يافا وشقيف، لم يبق للصليبيين جنوبي عكا التي كانت بأيديهم سوى قلعة عتليت.

ثم رحل بيبرس إلى طرابلس، فوصلها في (15 من شعبان 666هـ = 30 من إبريل 1268م) فأغار عليها وقتل كثيرًا من حاميتها، وقطع أشجارها وغور مياهها، ففزعت الإمارات الصليبية، وتوافد على بيبرس أمراء أنطرسوس وحصن الأكراد طلبًا للأمن والسلام، وبهذا مهد الطريق للتقدم نحو إنطاكية.

فتح إنطاكية

رحل بيبرس من طرابلس في (24 من شعبان 666هـ = 9 من مايو 1268م) دون أن يطلع أحدًا من قادته على وجهته، واتجه إلى حمص، ومنها إلى حماة، وهناك قسّم جيشه ثلاثة أقسام، حتى لا يتمكن الصليبيون من معرفة اتجاهه وهدفه، فاتجهت إحدى الفرق الثلاث إلى ميناء السويدية لتقطع الصلة بين إنطاكية والبحر، وتوجهت الفرقة الثانية إلى الشمال لسد الممرات بين قلقلية والشام لمنع وصول إمدادات من أرمينية الصغرى.

أما القوة الرئيسية وكانت بقيادة بيبرس فاتجهت إلى إنطاكية مباشرة، وضرب حولها حصارًا محكمًا في (أول رمضان سنة 666هـ = 15 من مايو 1268م)، وحاول بيبرس أن يفتح المدينة سلمًا، لكن محاولاته تكسرت أمام رفض الصليبيين التسليم، فشن بيبرس هجومه الضاري على المدينة، وتمكن المسلمون من تسلق الأسوار في (الرابع من رمضان)، وتدفقت قوات بيبرس إلى المدينة دون مقاومة، وفرت حاميتها إلى القلعة، وطلبوا من السلطان الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وتسلم المسلمون القلعة في (5 من رمضان 666هـ = 18 من مايو 1268م) وأسروا من فيها.

وقد غنم المسلمون غنائم كثيرة، بلغ من كثرتها أن قسمت النقود بالطاسات، وبلغ من كثرة الأسرى "أنه لم يبق غلام إلا وله غلام، وبيع الصغير من الصليبيين باثني عشر درهمًا، والجارية بخمسة دراهم".

نتائج الفتح

كان سقوط إنطاكية أعظم فتح حققه المسلمون على الصليبيين بعد استرداد صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس، وفي الوقت نفسه كان كارثة كبرى ألمت بالصليبيين وزلزلت كيانهم، ومن طرائف الفتح أن بوهيمند السادس أمير إنطاكية لم يعلم ما حدث لها؛ إذ كان في إمارته الثانية طرابلس جنوبي إنطاكية، فتكفل بيبرس بإخباره بهذه الكارثة في رسالة ساخرة بعثها إليه من إنشاء الكاتب البليغ "ابن عبد الظاهر"، ومما جاء فيها:

".. وكتابنا هذا يتضمن البشر لك بما وهبك الله من السلامة وطول العمر بكونك لم تكن لك في هذه المدة بإنطاكية إقامة، فلو كنت بها كنت إما قتيلاً وإما أسيرًا، وإما جريحًا وإما كسيرًا...".

وبينما كان بيبرس في إنطاكية وصل إليه رسل الملك هيثوم الأرميني يعرضون عليه اتفاق بمقتضاه يعيدون ما أخذوه من المدن الإسلامية في أثناء الغزو المغولي للشام، مثل بهنسا، ومرزبان، ورعبان، كما ترك الداوية من الصليبيين "حصن بغراس"، وبذلك عاد شمال الشام إلى حوزة المسلمين.

وبهذا النصر الذي فتح الباب لسقوط الإمارات الصليبية الباقية تبوأ بيبرس مكانته التاريخية، باعتباره واحدًا من أبطال الإسلام.

منقول

عبدالغفور الخطيب
03-10-2006, 03:43 AM
فتح مكة.. الخطة وعبقرية التنفيذ

(في ذكرى التحرك لفتحها: 10 رمضان سنة 8هـ)


ما تزال السيرة النبوية بحاجة إلى إعادة قراءة، وإعادة فقه لأحداثها من خلال منظور القوة والقيم التي كانت سائدة أثناء وقوع الحدث، ومحاولة ربط دروس السيرة -التي كان يحرص الصحابة على تحفيظ أحداثها لأبنائهم كما يحفظونهم آيات القرآن الكريم- بواقعنا المعاصر من خلال النظر إلى جوهر الأحداث، واستنباط فقهها في كيفية التفاعل بين النص والواقع.. ومن هذا المنطلق يأتي حديثنا عن فتح مكة الذي تم في (العاشر من رمضان سنة 8هـ= 1 من يناير سنة 630م).

ما قبل الفتح

كانت البداية الحقيقية لفتح مكة، بعد "غزوة الخندق" في السنة الخامسة من الهجرة، عندما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم عبارته الشهيرة "الآن نغزوهم ولا يغزوننا".

فبعد هذه الغزوة تفكك التحالف الذي قام بين اليهود ومشركي مكة، وكشفت أحداث الخندق استحالة قيام مثل هذا التحالف مرة أخرى؛ وبالتالي أمن المسلمون المقاتلة على جبهتين في وقت واحد.

وكانت الرؤية النبوية ذات بعد إستراتيجي في تحليل الموقف السياسي والعسكري في الجزيرة العربية بعد الخندق؛ إذ أثبتت الأحداث وتطوراتها أن رقعة الإسلام أخذت تزداد مقابل انحسار القوتين الضاربتين: اليهود والمشركين؛ حيث لم يبق لليهود تجمعات إلا في خيبر الحصينة، ولم يبق للمشركين مكان إلا في مكة وبعض القبائل والتجمعات الصغيرة التي يكفيها بعض السرايا الصغيرة لتأديبها والقضاء على خطرها.

كانت تحركات المسلمين في السنوات الثلاث الفاصلة بين الخندق وفتح مكة مدروسة بعناية فائقة، وتنطلق من رؤى إستراتيجية، وتهدف إلى تحقيق أمرين:

أولهما القضاء النهائي على قوة اليهود في الجزيرة العربية؛ لأن هؤلاء يرفضون الإسلام رغم يقينهم أنه الحق، واستمرار وجودهم وعدم تصفيته نهائيا يعني استمرار الخطر الدائم والمتفاقم على الإسلام بما يدبرونه ويكيدونه، ولذلك هدفت ضربات النبي لليهود إلى اقتلاع جذور وجودهم بين العرب، وحدث ذلك مع يهود "بني قينقاع"، ويهود "بني قريظة"، ويهود "بني النضير"، ثم كانت المعركة الفاصلة الحاسمة مع يهود "خيبر" في السنة السابعة من الهجرة، والتي أضاف انتصارها قوة إلى قوة المسلمين حتى قال قائلهم: "ما شبعنا إلا بعد فتح خيبر". وكانت السنة السابعة من الهجرة هي آخر سطر كتبه المسلمون في نهاية اليهود في الجزيرة.

وثاني الأمرين هو: حصار المشركين وسحب البساط تدريجيا من تحت أقدامهم بعد تنظيفه من الكفر والشرك، مع إعطاء مساحة لهؤلاء للدخول في الإسلام؛ لأن دواخل أنفسهم -رغم كفرهم- ليست في صدام مع الإسلام، على خلاف اليهود، ولكنهم يحتاجون إلى فترة من الجهد والجهاد لكسر عناد الكفر في نفوسهم؛ لأنهم مواد خام نقية وجيدة يمكن للإسلام صبها في قوالبه الصحيحة، ولذلك كانت الخطة الإستراتيجية النبوية للتعامل معهم هي المزاوجة بين الأساليب الدعوية والسياسية والعسكرية والنفسية لتحطيم الحواجز بينهم وبين الإسلام، مع عدم اللجوء إلى القتال إلا في حالات الضرورة القصوى، وبالقدر الذي يحقق هيبة المسلمين، وليس تحطيم الخصم نهائيا، لذلك كانت سياسة العفو النبوي عنوانا بارزا في تلك السنوات، فكان هذا العفو يأسر القلوب، ويجعل القبائل تدخل في دين الله أفواجا.

وقد أنتجت هذه السياسة النبوية وضعا فريدا في الجزيرة العربية هو أن رقعة الكفر كادت تنحصر في مكة فقط، وقضى على اليهود نهائيا، واتسعت رقعة الإسلام. وكانت روعة النبي صلى الله عليه وسلم أنه بدأ في جذب قادة مكة إلى الإسلام بحكمته، ومما يروى في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى خالد بن الوليد بطريق غير مباشر رسالة يدعوه فيه إلى الإسلام عن طريق أخيه "الوليد" الذي بعث إليه برسالة جاء فيها: "وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك، وقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي به الله، فقال: مثله يجهل الإسلام؟! ولو جعل نكايته وجدّه مع المسلمين كان خيرا له، ولقدّمناه على غيره"؛ ففتحت هذه الكلمات قلب "خالد" الذي حارب الإسلام عشرين سنة فجاء مسلما في بداية السنة الثامنة هو و"عمرو بن العاص" و"عثمان بن طلحة" رضي الله عنهم، وكان معنى ذلك أن معسكر الكفر في مكة بدأ يتخلخل من داخله ويفقد قادته الأفذاذ، وصدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها".

الفتح بين السبب والفرصة

كان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة ينظم العلاقة بين المسلمين والمشركين لمدة عشر سنوات، وكان من بنوده المهمة أنه "من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخله" فدخلت قبيلة "خزاعة" في تحالف مع المسلمين، ودخلت قبيلة "بكر" في تحالف مع قريش.

وأدت التطورات والأحداث التي أعقبت صلح الحديبية إلى تغير في ميزان القوى بين المسلمين وقريش لصالح المسلمين.. وكما يؤكد خبراء السياسة فإن المعاهدات التي تعقد في ظل اختلال موازين القوى لا بد أن تتغير عندما تتغير هذه الموازين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم -تقديرا منه لعهده وميثاقه- حافظ على ما ورد في صلح الحديبية، عالما ومدركا أنه لا بد من وقوع حادثة من جانب قريش تعصف بالصلح، وتجعل المسلمين في حل من التزاماته.

وصدقت الرؤية النبوية، حيث أغارت قبيلة بكر على خزاعة، وأمدت قريش حليفتها "بكر" بالمال والسلاح، وقتلوا أكثر من عشرين من خزاعة حليفة المسلمين، واعتدوا عليهم رغم لجوئهم إلى الحرم. وأمام هذا النقض الصريح للعهد ركب "عمرو بن سالم الخزاعي" في أربعين من قومه وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه النصرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نُصرت يا عمرو بن سالم"، وأمر المسلمين بالخروج لمناصرة خزاعة.


وقد حققت مساعدة النبي لخزاعة ووعده لها بالنصرة عدة أهداف، منها أنها فرقت بين أن يحترم المسلمون العهود والمواثيق التي وقعوا عليها، وبين أن يعيشوا في غفلة عما يدبره المهادنون لهم؛ لأن وقائع التاريخ تؤكد أن غالبية العهود ما هي إلا فترات لالتقاط الأنفاس في الصراع، كما أنها كشفت عن احترام المسلمين لتحالفاتهم حتى لو كانت مع خزاعة التي لم تكن قد أسلمت بعد، وأثبتت أن المسلمين جادون في تنفيذ بنود تحالفهم حتى لو كلفهم ذلك دخول حرب، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام القبائل العربية للتحالف مع المسلمين وليس مع قريش (الغادرة)، مع خلق رأي عام في الجزيرة العربية يذيب بعض الحواجز بين هذه القبائل والإسلام، ويجعلهم يستمعون إلى القرآن الكريم دون تحيز مسبق؛ وبالتالي يكسر الحدود الوهمية بينهم وبين الإيمان.

أدركت قريش أنها ارتكبت خطأ إستراتيجيا كبيرا بما أقدمت عليه من تقديم المال والسلاح لقبيلة بكر، وحاولت أن تعالج هذا الخطأ؛ حيث انطلق زعيمها وأكبر ساستها "أبو سفيان بن حرب" إلى المدينة المنورة طلبا في العفو عن هذا الخطأ الفادح، وتجديدا للهدنة، واستشفع بكبار المسلمين مثل أبي بكر وعمر وعلي وفاطمة، لكن علي بن أبي طالب لخص الموقف بقوله لأبي سفيان: "ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه"؛ فعاد أبو سفيان صفر اليدين إلى قريش واتهم بأن المسلمين لعبوا به.

السرية والمفاجأة

كان فشل سفارة أبي سفيان لا يعني إلا شيئا واحدا وهو الحرب، وجهز المسلمون جيشا ضخما بلغ قوامه عشرة آلاف مقاتل، وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم السرية الشديدة حتى يحقق عنصر المفاجأة لكفار مكة، فكتم وجهة الجيش في التحرك عن الجميع، بما فيهم أبو بكر، حتى إنه دخل على ابنته فسألها عن وجهة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أدري، وعندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه "اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها".

واستكمالا لعملية التوكل التي تجمع بين دعاء الرب والأخذ بالأسباب، قام النبي صلى الله عليه وسلم بعملية خداع رائعة، اقترنت بعملية تأمين للمعلومات وسرية تحرك الجيش، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية من ثمانية رجال بقيادة "أبي قتادة بن ربعي" إلى مكان يسمى "بطن إضم"، وكان هدفها الحقيقي غير المعلن هو تضليل المشركين، كذلك كانت هناك وحدات صغيرة بقيادة عمر بن الخطاب، قوي الشكيمة، تحقق في الداخلين والخارجين من المدينة المنورة، وتتحفظ على من سلك طريق المدينة- مكة، وبذلك حال دون حصول قريش على أي معلومات عن تجهيزات المسلمين.

وأحبطت محاولة كبيرة لتسريب معلومات إلى قريش حول استعدادات المسلمين، قام بها أحد الصحابة البدريين وهو "حاطب بن أبي بلتعة"؛ وتم القبض على المرأة والرسالة التي تحملها من قبله قبل أن تصل إلى قريش.

وما ارتكبه حاطب خيانة عظمى عقوبتها معلومة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الضعف الإنساني قد يصيب بعض المسلمين رغم إيمانهم العميق، لذلك رفض رغبة عمر في قطع رقبة حاطب، وقال له: "وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وأيد القرآن الكريم موقف النبي صلى الله عليه وسلم في "سورة الممتحنة" واصفا حاطبا بالإيمان رغم ما ارتكبه.

حكمة مع القلوب المغلقة

وافق خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة العاشر من رمضان من السنة الثامنة للهجرة فصام، وصام المسلمون معه، حتى إذا بلغوا مكانا يسمى "الكديد" أفطر وأفطر المسلمون معه، ولم يزل مفطرا باقي الشهر حتى دخل مكة.

واستجاب الله تعالى دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلم تعلم قريش شيئا عن تحركات المسلمين أو نواياهم، وفي هذه الأثناء خرج العباس بن عبد المطلب بأهله مهاجرا إلى المدينة، وكان العباس هو الذي يمد المسلمين بالمعلومات الاستخبارية عن نشاطات قريش منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة.

ولم يستطع زعيم قريش أبو سفيان السكون طويلا على هذا الوضع المقلق الذي خلقه نقض قومه لعهدهم مع المسلمين؛ فخرج يتحسس الأخبار ففوجئ بجيش المسلمين الضخم عند مكان يسمى "ثنية العقاب" قرب مكة، فأسرته قوة من استطلاعات المسلمين، وهمّ عمر بن الخطاب أن يضرب عنقه، إلا أن العباس أجار أبا سفيان وأركبه خلفه على بغلته ليدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسون العفو.

رفض النبي صلى الله عليه وسلم استقبال أبي سفيان في بداية الأمر، فقال أبو سفيان: "والله ليأذنن، أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهب في الأرض حتى نموت عطشا أو جوعا"، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك رق له، ورحم عزيز قوم أصابته تقلبات الدهر، وأذن له بالدخول، ولما رآه قال له: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم ألا إله إلا الله؟".

فتحت هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم قلب أبي سفيان للإسلام، وقال: "بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا"، فقال له العباس: "ويحك! أسلم واشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، قبل أن تُضرب عنقك" فأسلم أبو سفيان. ويكشف هذا الموقف عن روعة تقاسم الأدوار بين المسلمين لهداية الناس إلى الله تعالى، فإن الأقفال المغلقة للقلوب تحتاج إلى مفاتيح مختلفة تمزج بين الشدة واللين، وبين الصفح والحزم.

أسر زعيم قريش هذا المعروف النبوي؛ واللين في مواقف القوة والتملك أشد وقعا على النفوس من السيف، والأخلاق النبوية أصابت سويداء قلب هذا الزعيم القرشي بعد حرب ومناهضة للإسلام زادت على عشرين عاما.

ولم تتوقف الدروس النبوية في حق أبي سفيان عند هذا الحد، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أجلسه في مكان يرى فيه جيش المسلمين القوي وهو يمر بقواته الكثيفة أمام عينيه، حتى يزيل جميع رواسب الكفر من نفسه، وحتى يقوم أبو سفيان قائما -دون أن يشعر- بحرب نفسية لصالح المسلمين وسط قريش، تخيفهم من قوة المسلمين، وتحول كلماته عن وصف هذا الجيش الكثيف دون أي محاولة قرشية للمقاومة. وتقول روايات السيرة: إن أبا سفيان لما رأى ذلك المشهد انطلق إلى قومه وصرخ فيهم بأعلى صوته: "يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن".

لقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم نفسية هذا الزعيم بأن جعل له من الفخر نصيبا ريثما يستقر الإيمان في قلبه، فقال من "دخل دار أبي سفيان فهو آمن".

تجنب الحرب.. تكسبها

تفرق القرشيون ولزم كثير منهم دورهم، أما الباقون فلجئوا إلى المسجد، وبذلك نجحت خطة المسلمين في تحطيم مقاومة قريش، وخلق استعداد عند أهل مكة ليطبق عليهم المسلمون ما يعرف في عصرنا الحالي "حظر التجول"، وهو ما يمهد للسيطرة التامة دون مقاومة على مكة.

لقد سبق دخول النبي صلى الله عليه وسلم لمكة حرب نفسية مركزة ومتعددة الأدوات، ومنها:

- أنه أمر كل جندي في الجيش أن يوقد نارا ضخمة، فأوقد من النار عشرة آلاف حول مكة طوال الليل وهو ما أدخل الرعب في قلوبهم، وشتت أي عزيمة في المقاومة وحرمتهم النوم بالليل خوفا من المداهمة، فأضعفت استعدادهم لمواجهة المسلمين في الصباح.

- أنه فتح باب الرحمة والعفو لقريش قبل أن يبدأ في دخولها مستحضرا في ذلك عظمة البيت الحرام، فإذا فعل المنتصر ذلك فإن المقاومة تنهار.. تروي كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن "سعد بن عبادة" وهو أحد قادة الجيش قال: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحل الحرمة"، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعزل من قيادة الفيلق ويتولى ابنه "قيس بن سعد".

- كانت خطة المسلمين أن يدخلوا مكة من جهاتها الأربع في وقت واحد، وهو ما يشتت أي احتمالات لمقاومة مكية، ويهدم معنويات الخصم ويدخل اليأس إلى نفسه من جدوى المقاومة التي تعد انتحارا لا طائل من ورائه.

التواضع في قمة النصر
نجحت الخطة الإستراتيجية التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول مكة في عدم تعرض جيش المسلمين لمقاومة تذكر، وأسلم غالبية زعاماتهم.. لكن هذا الانتصار العظيم زاد النبي صلى الله عليه وسلم تواضعا، فدخل مكة وهو يركب ناقته، ويقرأ سورة الفتح، وكان يطأطئ رأسه حتى لتكاد تمس رحله شكرا لربه تعالى، ولما جاء على باب الكعبة قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".

يقول الشيخ محمد الغزالي في ذلك: "إن هذا الفتح المبين ليذكره صلى الله عليه وسلم بماض طويل الفصول كيف خرج مطاردا، وكيف يعود اليوم منصورا مؤيدا، وأي كرامة عظمى حفه الله بها هذا الصباح الميمون، وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعا وانحناء".

وعقب دخوله صلى الله عليه وسلم مكة أعلن العفو العام بمقولته الشهيرة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، ولم يمنع هذا العفو العام من إهداره لدماء بضعة عشر رجلا أمر بقتلهم حتى لو تعلقوا بأستار الكعبة، لكونهم "مجرمي حرب"، وكان الوجه الآخر لهذا الأمر أن تبقى هذه الرؤوس التي من الممكن أن تكون نواة لنمو مقاومة ضد المسلمين في حالة خوف وحذر على أنفسها تمنعها من التحرك وتفرض عليها التخفي، وكانت روعة الإسلام أن غالبية هؤلاء أسلموا وحسن إسلامهم، وقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام.

منقول

عبدالغفور الخطيب
04-10-2006, 02:31 AM
جنكيز خان.. الإعصار العاتي

(في ذكرى وفاته: 11 من رمضان 624هـ)


ليس هناك شك في أن جنكيز خان واحد من أقسى الغزاة الذين ابتليت بهم البشرية، وأكثرهم سفكًا للدماء، وأجرؤهم على انتهاك الحرمات وقتل الأبرياء، وحرق المدن والبلاد، وإقامة المذابح لآلاف من النساء والولدان والشيوخ، لكن هذه الصورة السوداء تخفي جانبًا آخر من الصورة، حيث التمتع بصواب الرأي وقوة العزيمة، ونفاذ البصيرة. فكان يجلّ العلماء ويحترمهم ويلحقهم بحاشيته، وكان له مستشارون من الأمم التي اجتاحها من ذوي الخبرة، وكان لهؤلاء أثر لا يُنكَر في تنظيم الدولة والنهوض بها والارتقاء بنواحيها الإدارية والحضارية.

المولد والنشأة

شهدت منغوليا مولد "تيموجين بن يسوكاي بهادر" في سنة (549هـ = 1155م)، وكان أبوه رئيسًا لقبيلة مغولية تُدعى "قيات"، وعُرف بالشدة والبأس؛ فكانت تخشاه القبائل الأخرى، وقد سمّى ابنه "تيموجين" بهذا الاسم تيمنًا بمولده في يوم انتصاره على إحدى القبائل التي كان يتنازع معها، وتمكنه من القضاء على زعيمهم الذي كان يحمل هذا الاسم.

ولم تطُل الحياة بأبيه؛ فقد توفِّي في سنة (561 هـ= 1167م)، تاركًا حملا ثقيلا ومسئولية جسيمة لـ"تيموجين" الابن الأكبر الذي كان غض الإهاب لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، وما كان ليقوى على حمل تبعات قبيلة كبيرة مثل "قيات"، فانفض عنه حلفاء أبيه، وانصرف عنه الأنصار والأتباع، واستغلت قبيلته صغر سنه فرفضت الدخول في طاعته، على الرغم من كونه الوريث الشرعي لرئاسة قبيلته، والتفَّت حول زعيم آخر، وفقدت أسرته الجاه والسلطان، وهامت في الأرض تعيش حياة قاسية، وتذوق مرارة الجوع والفقر والحرمان.

تأسيس الدولة

نجحت أم تيموجين في أن تجمع الأسرة المستضعفة وتلم شعثها، وتحث أبناءها الأربعة على الصبر والكفاح، وتفتح لهم باب الأمل، وتبث فيهم العزم والإصرار، حتى صاروا شبابًا أقوياء، وبخاصة تيموجين الذي ظهرت عليه أمارات القيادة، والنزوع إلى الرئاسة، مع التمتع ببنيان قوي جعله المصارع الأول بين أقرانه.

تمكن تيموجين بشجاعته من المحافظة على مراعي أسرته؛ فتحسنت أحوالها، وبدأ يتوافد عليه بعض القبائل التي توسمت فيه القيادة والزعامة، كما تمكن هو من إجبار المنشقين من الأتباع والأقارب على العودة إلى قبيلتهم، ودخل في صراع مع الرافضين للانضواء تحت قيادته، حسمه لصالحه في آخر الأمر، حتى نجح في أن تدين قبيلته "قيات" كلها بالولاء له، وهو دون العشرين من عمره.

وواصل تيموجين خطته في التوسع على حساب جيرانه، فبسط سيطرته على منطقة شاسعة من إقليم منغوليا، تمتد حتى صحراء جوبي، حيث مضارب عدد كبير من قبائل التتار، ثم دخل في صراع مع حليفه رئيس قبيلة الكراييت، وكانت العلاقات قد ساءت بينهما بسبب الدسائس والوشايات، وتوجس "أونك خان" زعيم الكراييت من تنامي قوة تيموجين وازدياد نفوذه؛ فانقلب حلفاء الأمس إلى أعداء وخصوم، واحتكما إلى السيف، وكان الظفر في صالح تيموجين سنة (600هـ= 1203م)، فاستولى على عاصمته "قره قورم" وجعلها قاعدة لملكه، وأصبح تيموجين بعد انتصاره أقوى شخصية مغولية، فنودي به خاقانا، وعُرف باسم "جنكيز خان"؛ أي إمبراطور العالم.

وبعد ذلك قضى ثلاث سنوات عُني فيها بتوطيد سلطانه، والسيطرة على المناطق التي يسكنها المغول، حتى تمكن من توحيد منغوليا بأكملها تحت سلطانه، ودخل في طاعته الأويغوريون.

الياسا الجنكيزية

بعد أن استتب له الأمر اتجه إلى إصلاح الشئون الداخلية، فأنشأ مجلسًا للحكم يسمّى "قوريلتاي" سنة (603هـ=1206م) ودعاه للاجتماع، وفيه تحددت لأول مرة شارات ملكه، ونظم إمبراطوريته، ووضع لشعبه دستورًا محكمًا يسمى "قانون الياسا" لتنظيم الحياة، بعد أن رأى أن الآداب والأعراف والتقاليد المغولية لا تفي بمتطلبات الدولة الجديدة، ولم تكن مدونة، فأعاد النظر في بعضها، وقبل بعضها الآخر، ورد ما رآه غير ملائم، وتناول الدستور أمورًا متعددة لتنظيم الحياة بالدولة الناشئة، وألزم أجهزة الدولة بتطبيق بنودها والعمل بموجبها، وشدد على معاقبة المخطئين.

إخضاع الصين

اصطدم جنكيز خان بإمبراطورية الصين التي كانت تحكمها أسرة "سونج"، وكانت لا تكف عن تحريض القبائل التركية والمغولية ضد بعضها؛ كي ينشغلوا بأنفسهم وتأمن هي شرهم، فأراد جنكيز خان أن يضع حدًا لتدخل الصينيين في شئون القبائل المغولية، وفي الوقت نفسه تطلع إلى ثروة الصين وكنوزها، فاشتبك معها لأول مرة في سنة (608هـ= 1211م)، واستطاع أن يحرز عددًا من الانتصارات على القوات الصينية، ويُخضع البلاد الواقعة في داخل سور الصين العظيم، ويعين عليها حكامًا من قِبله.

ثم كرر غزو الصين مرة ثانية بعد أن حشد لذلك جموعًا هائلة سنة (610هـ = 1213م)، لكنه لم يحرز نصرًا حاسمًا، ثم جرت محاولة للصلح بين الطرفين، لكنها لم تفلح، فعاود جنكيز خان القتال، واستدار بجيشه الذي كان عائدًا إلى بلاده، واشتبك مع جحافل الصين التي لم تكن قد استعدت للقتال، وانتصر عليها في معركة فاصلة، سقطت على إثرها العاصمة بكين في سنة (612هـ= 1215م) وكان لسقوطها دوي هائل، ونذير للممالك الإسلامية التي آوت الفارين من أعدائه، وأظهرت ما كان يتمتع به الرجل من مواهب عسكرية في ميادين الحرب والقتال.

تعقب أعدائه

بعد أن فرغ جنكيز خان من حربه مع الصين اتجه ببصره إلى الغرب، وعزم على القضاء على أعدائه من قبائل النايمان والماركييت، وكان كوجلك خان بن تايانك زعيم النايمان قد تمكن بالتعاون مع السلطان محمد خوارزم شاه سلطان الدولة الخوارزمية من اقتسام الدولة القراخطائية سنة (607هـ= 1210م)، وأقام دولة امتدت من بلاد التبت حتى حدود الدولة الخوارزمية، لكنه لم ينعم كثيرًا بما أقام وأنشأ، فقد أرسل إليه جنكيز خان جيشًا كبيرًا، يقوده أحد رجاله الأكفاء، تمكن من القضاء على كوجلك وجيشه في سنة (615هـ= 1218م)، كما أرسل ابنه جوجي لتعقب زعيم قبيلة المركيت، فتمكن من القضاء عليه وعلى أتباعه.

مقدمات الصدام مع الدولة الخوارزمية

لم يكن جنكيز خان بعد أن اتسع سلطانه، وامتد نفوذه يسعى للصدام مع السلطان محمد بن خوارزم شاه بل كان يرغب في إقامة علاقة طيبة، وإبرام معاهدات تجارية معه، فأرسل إليه ثلاثة من التجار المسلمين لهذا الغرض، فوافق السلطان محمد على ذلك، وتوجه عقب ذلك وفد تجاري كبير من المغول يبلغ نحو 450 تاجرًا، كانوا كلهم من المسلمين، يحملون أصنافًا مختلفة من البضائع، واتجهوا إلى مدينة "أترار"، وبدلا من أن يمارسوا عملهم في البيع والشراء، اتهمهم حاكم المدينة "ينال خان" بأنهم جواسيس يرتدون زيَّ التجار، وبعث إلى السلطان يخبره بذلك، فصدقه وطلب منه مراقبتهم حتى يرى رأيه في شأنهم، لكن "ينال خان" قتلهم، وصادر تجارتهم، واستولى على ما معهم، ويذكر بعض المؤرخين أن السلطان محمد هو الذي أمر بهذا، وأن واليه لم يقدم على هذا التصرف الأحمق من تلقاء نفسه.

غضب جنكيز خان، واحتج على هذا العمل الطائش، وأرسل إلى السلطان محمد يطلب منه تسليم "ينال خان" ليعاقبه على جريمته، لكن السلطان رفض الطلب، ولم يكتفِ بذلك بل قتل الوفد الذي حمل الرسالة، قاطعًا كل أمل في التفاهم مع المغول، وكان ذلك في سنة (615 هـ= 1218م).

الإعصار الهائج

استعد جنكيز خان لحملة كبيرة على الدولة الخوارزمية، وتحرك بجيوشه الجرَّارة إلى بلاد ما وراء النهر، فلما بلغها قسَم جيوشه عليها، وتمكن بسهولة من السيطرة على المدن الكبرى مثل "أترار" وبخارى، وسمرقند، ولم يجد ما كان ينتظره من مقاومة ودفاع، وأقدم على ارتكاب ما تقشعر لهوله الأبدان من القتل والحرق والتدمير، قتلت جيوشه سكان مدينة أترار عن بكرة أبيهم، وأحرق جنكيز خان بخارى عن آخرها، واستباحوا حرمة مسجدها الجامع الكبير، وقتلوا الآلاف من سكانها الأبرياء، وواصل الزحف بجيوشه متعقبًا السلطان محمد الذي زلزل الخوف قلبه، وفقد القدرة على المقاومة والصمود، فظل ينتقل من بلد إلى آخر، حتى لجأ إلى إحدى الجزر الصغيرة، في بحر قزوين، حيث اشتد به المرض، وتوفي سنة (617هـ = 1220م).

جنكيز خان وجلال الدين بن خوارزم شاه

تحمل جلال الدين منكبرتي لواء المقاومة بعد أبيه، وكان أثبت جنانًا، وأقوى قلبًا، فنجح في المقاومة، وجمع الأتباع، وحشد الأنصار، وألحق الهزيمة بالمغول في معركة "براون" سنة ( 618هـ= 1221م)، فلما سمع الناس بهذا النصر فرحوا فرحًا شديدًا بعد أن استبد بهم اليأس، وثارت بعض المدن على حاميتها من المغول، وكان يمكن لهذا النصر أن تتلوه انتصارات أخرى لو خلصت النية وصدقت العزيمة، لكن سرعان ما نشب خلاف بين قادة جيوش جلال الدين، وانسحب أحدهم بمن معه غير مدرك عظم المسئولية، فانهار حلم الدفاع، وتهاوى جلال الدين أمام جحافل المغول، وتوالت الهزائم بعدما خارت العزائم، واضطر جلال الدين إلى الانسحاب والفرار إلى الهند.

وعندما اطمأن جنكيز خان إلى ما حقق عاد إلى منغوليا لإخماد ثورة قامت ضده هناك، وتمكن من إخمادها.

وفاته

وبعد أن قام جنكيز خان دولة مترامية الأطراف مرهوبة الجانب، توفي بالقرب من مدينة "تس جو" في (11 من رمضان 624هـ = 25 من أغسطس 1227م)، ودُفن في منغوليا، وخلفه على الإمبراطورية ابنه "أوكتاي".


منقول

عبدالغفور الخطيب
05-10-2006, 03:31 AM
ابن الجوزي.. والغوص في كل العلوم

(في ذكرى وفاته: 12 من رمضان 597هـ)

حظي "ابن الجوزي" بشهرة واسعة، ومكانة كبيرة في الخطابة والوعظ والتصنيف، كما برز في كثير من العلوم والفنون، وبلغت مؤلفاته أوج الشهرة والذيوع في عصره، وفي العصور التالية له، ونسج على منوالها العديد من المصنفين على مر العصور.

هو "أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن جعفر" وينتهي إلى "أبي بكر الصديق" رضي الله عنه.

ولد ببغداد سنة [ 510هـ= 1116م] وعاش حياته في الطور الأخير من الدولة العباسية، حينما سيطر الأتراك السلاجقة على الدولة العباسية.

وقد عرف بابن الجوزي لشجرة جوز كانت في داره بواسط، ولم تكن بالبلدة شجرة جوز سواها، وقيل: نسبة إلى "فرضة الجوز" وهي مرفأ نهر البصرة.

وقد توفي أبوه وهو في الثالثة من عمره فتولت تربيته عمته، فرعته وأرسلته إلى مسجد " محمد بن ناصر الحافظ" ببغداد، فحفظ على يديه القرآن الكريم، وتعلم الحديث الشريف، وقد لازمه نحو ثلاثين عامًا أخذ عنه الكثير حتى قال عنه: "لم أستفد من أحد استفادتي منه".

شيوخه وأساتذته

تعلم "ابن الجوزي" على عدد كبير من الشيوخ، وقد ذكر لنفسه (87) شيخًا، منهم:

أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي بن عمر [ 467 ـ 550 هـ= 1074- 1155م]: وهو خاله، كان حافظًا ضابطًا متقنًا ثقة، وفقيهًا ولغويًا بارعًا، وهو أول معلم له.

أبو منصور موهوب بن أحمد بن الخضر الجواليقي [ 465- 540هـ= 1072م-1145م]: وهو اللغوي المحدث والأديب المعروف، وقد أخذ عنه اللغة والأدب.

أبو القاسم هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري المعروف بابن الطبري [ 435-531هـ=1043-1136م] وقد أخذ عنه الحديث.

أبو منصور محمد بن عبد الملك بن الحسين بن إبراهيم بن خيرون [ 454-539هـ= 1062-1144م] وقد أخذ عنه القراءات.

منزلته ومكانته

كان "ابن الجوزي" علامة عصره في التاريخ والحديث والوعظ والجدل والكلام، وقد جلس للتدريس والوعظ وهو صغير، وقد أوقع الله له في القلوب القبول والهيبة، فكان يحضر مجالسه الخلفاء والوزراء والأمراء والعلماء والأعيان، وكان مع ذيوع صيته وعلو مكانته زاهدًا في الدنيا متقللا منها، وكان يختم القرآن في سبعة أيام، ولا يخرج من بيته إلا إلى المسجد أو المجلس، ويروى عنه أنه كان قليل المزاح.
يقول عن نفسه: "إني رجل حُبّب إليّ العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به، ثم لم يحبب إلي فن واحد بل فنونه كلها، ثم لا تقصر همتي في فن على بعضه، بل أروم استقصاءه، والزمان لا يتسع، والعمر ضيق، والشوق يقوى، والعجز يظهر، فيبقى بعض الحسرات".

مجالس وعظه

بدأ "ابن الجوزي" تجربة موهبته في الوعظ والخطابة في سن السابعة عشرة، وما لبث أن جذب انتباه الناس فأقبلوا على مجلسه لسماع مواعظه حتى بلغت شهرته في ذلك مبلغًا عظيمًا، فلم يعرف تاريخ الوعظ والمجالس الدينية ـ على مر العصور ـ مجلسًا كمجلس "ابن الجوزي" يحفل بعدد هائل من المريدين يصل إلى عشرة آلاف رجل.
وكان يحضر مجلسه الخلفاء والأمراء والسلاطين والوزراء، وكان مجلسه بإزاء داره على شاطئ "دجلة" بالقرب من قصر الخليفة، فكانت الأرض تُفرش بالحصير ليجلس عليها الناس، ثم يصعد "ابن الجوزي" المنبر، ويبتدئ القرّاء بقراءة القرآن، يتناوبون التلاوة بأصوات شجية مطربة، فإذا فرغوا من التلاوة بدأ "ابن الجوزي" خطبته، فتناول فيها تفسير الآيات التي تلاها القراء، فيأخذ بألباب وعقول سامعيه، ينظم فيها عقود الحكمة ورقائق الزهد والمواعظ، بما يرقق القلوب ويحرك الأشجان، فتدمع العيون، وتخشع النفوس، وتذوب المشاعر في خشوع وجلال للخالق العظيم يحركها الشوق والوجد والإيمان.

أقوال العلماء فيه

اتفق العلماء والأدباء على الثناء على "ابن الجوزي" فمدحوا علمه وورعه ومهارته في الخطابة والفقه والحديث والتاريخ والأدب.
قال عنه "ابن كثير": "أحد أفراد العلماء، برز في علوم كثيرة، وانفرد بها عن غيره، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوًا من ثلاثمائة مصنف".

وقد وصفه "ابن الجزري" بأنه: "شيخ العراق وإمام الآفاق".

وقال عنه "ابن العماد الحنبلي": "كان ابن الجوزي لطيف الصوت حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات، لذيذ الفاكهة".

وقال عنه "ابن جبير": "آية الزمان، وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة".

وقال عنه "شمس الدين الذهبي": "ما علمت أن أحدًا من العلماء صنف ما صنف هذا الرجل".

مؤلفاته

تميز "ابن الجوزي" بغزارة إنتاجه وكثرة مصنفاته التي بلغت نحو ثلاثمائة مصنف شملت الكثير من العلوم والفنون، فهو أحد العلماء المكثرين في التصنيف في التفسير والحديث والتاريخ واللغة والطب والفقه والمواعظ وغيرها من العلوم، ومن أشهر تلك المصنفات:

أخبار الظرّاف والمتماجنين.

أخبار النساء.

أعمار الأعيان.

بستان الواعظين.

تلبيس إبليس.

تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير.

تاريخ بيت المقدس.

تحفة المودود في أحكام المولود.

الثبات عند الممات.

جواهر المواعظ.

الجليس الصالح والأنيس الناصح.

حسن السلوك في مواعظ الملوك.

ذم الهوى.

زاد المسير في علم التفسير.

سيرة عمر بن عبد العزيز.

صفوة الصفوة.

صيد الخاطر.

الطب الروحاني.

فنون الأفنان في علوم القرآن.

كتاب الأذكياء.

كتاب الحمقى والمغفلين.

لطائف المعارف فيما للموسم العام من الوظائف.

لفتة الكبد إلى نصيحة الولد.

مناقب عمر بن الخطاب.

المنتظم في تاريخ الملوك والأمم.

الناسخ والمنسوخ في الحديث.

الوفا في فضائل المصطفى.

اليواقيت في الخطب.

شعره

كان "ابن الجوزي" شاعرًا مجيدًا إلى جانب كونه أديبًا بارعًا وخطيبًا مفوهًا، وله أشعار حسنة كثيرة، منها قوله في الفخر:

مازلت أدرك ما غلا بل ما علا ** وأكابد النهج العسير الأطولا

تجري بي الآمال في حلباتـه ** جري السعيد إلى مدى ما أمّلا

لو كان هذا العلم شخصًا ناطقًا ** وسألته: هل زار مثلي؟ قال: لا

ومنها قوله في الزهد والقناعة:

إذا قنعت بميسور من القوت ** بقيت في الناس حرًا غير ممقوت

يا قوت يومي إذا ما در خلفك لي ** فلست آسي على در وياقوت

وأوصى أن يُكتب على قبره:

يا كثير العفو عمن ** كثر الذنب لديه

جاءك المذنب يرجو ** الصفح عن جرم يديه

أنا ضيف وجزاء ** الضيف إحسان لديه

وفاته

توفي "ابن الجوزي" ليلة الجمعة [ 12 من رمضان 597هـ= 16 من يونيو 1200] عن عمر بلغ سبعا وثمانين سنة بعد أن مرض خمسة أيام، فبكاه أهل بغداد، وازدحموا على جنازته، حتى أقفلت الأسواق، فكان ذلك يومًا مشهورًا مشهودًا، يشهد بمكانة "ابن الجوزي" وحب الناس له.

منقول

عبدالغفور الخطيب
10-10-2006, 04:19 AM
غزوة بدر.. الميلاد الثاني

(في ذكرى وقوعها: 17 من رمضان 2هـ)


بنت غزوة بدر التصور الإسلامي لعوامل النصر والهزيمة بطريقة عملية واقعية، وقررت أن النصر ليس بالعدد ولا بالعدة، وإنما بمقدار الاتصال بالله الذي لا يقف أمامه قوة العباد، ليوقن المسلمون في عصورهم المختلفة أنهم يملكون في كل زمان ومكان القدرة للتغلب على أعدائهم مهما كانوا هم من القلة وعدوهم من الكثرة، شريطة أن تتحقق فيهم عوامل النصر الحقيقية.

وإذا كانت الهجرة هي الميلاد الأول للدولة الإسلامية فإن هذه الغزوة تعد ميلادا ثانيا لقوة ناهضة ودولة ناشئة للمسلمين، ظنتها قريش لا تقوى على مطاولة أو مجاولة، لكن نصر الله للمسلمين في هذه الغزوة مكن للدين في النفوس، وللإسلام في جزيرة العرب، بل العالم كله.

الإعداد قبل المواجهة

سبق القتال في غزوة بدر مرحلة من الإعداد النفسي والتدريب الشاق للمسلمين حتى يكونوا مؤهلين لخوض هذه المعركة الفاصلة التي سماها القرآن يوم الفرقان، وكان هذا الإعداد بتدبير من السماء حتى ينكسر الخوف من المشركين في نفوس المسلمين، وتقوى حميتهم على القتال ويعتادوا على منازلة قوات تفوقهم عددا وعدة، وكانت أول تهيئة نفسية للمسلمين لتقبل الأمر بالقتال هي حملة الاستفزازات التي قامت بها قريش ضد المسلمين في المدينة؛ حيث اتصلت بزعيم المنافقين عبد الله بن أبي سلول ودعته إلى طرد المسلمين أو الاستعداد للقتال واستباحة النساء في المدينة؛ فأثار هذا التهديد السافر الحمية في قلوب الأنصار على وجه الخصوص، ثم تعمق هذا الاستفزاز عندما تعرض أحد سادات الأنصار وهو سعد بن معاذ لتهديد وقح من أبي جهل أثناء تأديته للعمرة، فقال سعد أمام قريش في مكة: "والله لئن منعتني هذا (يعني الطواف بالبيت) لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على أهل المدينة"، وكان هذا تهديدا إستراتيجيا لمكة في طريق تجارتها.

كان إحساس الكيان المهدد يملأ قلوب المسلمين جميعا في المدينة بما فيهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي تشير رواية في صحيح مسلم إلى أنه نام بعدما قام سعد بن أبي وقاص بحراسته مدججا بالسلاح. وذكر أبي بن كعب أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هو وأصحابه رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، وهو ما يجعل التحفز للجهاد والقتال حاضرا دائما في النفوس.

وفي هذه الأثناء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجراء تعداد سكاني للمدينة المنورة في السنة الأولى من الهجرة؛ فبلغ عدد المحاربين 1500 مقاتل، فشعر المسلمون بشيء من الطمأنينة وأنهم ليسوا قلة، ولذلك لما نزلت آية الإذن بالقتال في نهاية السنة الأولى أو بداية السنة الثانية من الهجرة كانت تجد في النفوس شوقا لهذا الإذن بالدفاع عن الإسلام، قال تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ" (الحج: 39 - 40).

وبعد هذه التهيئة للنفوس بدأت عملية التدريب الشاق للمسلمين قبل "بدر" حتى تُبنى التصورات الاعتقادية للمسلمين على أسس عملية تجريبية وليس نظريات فلسفية؛ لذا خاض المسلمون عددا من السرايا والغزوات الصغيرة المتتابعة، كان أولها سرية "سيف البحر" في رمضان من السنة الأولى للهجرة لاعتراض عير لقريش قادمة من الشام؛ فجاء "أبو جهل" في 300 مقاتل واصطف الفريقان للقتال وكان عدد المسلمين 30 مقاتلا فقط، إلا أن وساطة "مجدي بن عمرو الجهني" حالت دون حدوث القتال.

وأهمية هذه السرية أنها كسرت هيبة المشركين، وهيبة مواجهة أعداد ضخمة تفوق المسلمين عشرة أضعاف، وتكرر ذلك في عدة سرايا أخرى مثل "سرية رابغ" في شوال من نفس العام، وكان عدد المهاجرين 60 والمشركين 200، وحدثت فيها بعض المناوشات بالنبل، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في بعض هذه السرايا مثل "غزوة ذي العشيرة" في جمادى الأولى سنة 2هـ لاعتراض عير لقريش ذاهبة إلى الشام لكنها سبقت المسلمين فأفلتت منهم، وكانت هذه العير هي سبب خروج المسلمين في "بدر الكبرى" لاعتراضها في طريق عودتها.

ضرب المسلمون في هذه السرايا على وتر موجع لقريش وهو تجارتها ومصالحها الاقتصادية، وكان من الشيء اللافت للانتباه أن جميع العير أفلتت من المسلمين؛ وهو ما يقوي شوقهم وطموحهم لاعتراض العير التي كانت السبب في غزوة بدر التي كانت السماء تجهز لأحداثها لتكون قصة في العقيدة.

وأثناء هذا الجو من الإعداد النفسي والتدريب استعدادا لبدر، أمر الله تعالى بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، وكان هذا دلالة رمزية على ضرورة أن يطهر المسلمون قبلتهم من الأوثان، ويحفز على قتال قريش وإنقاذ بيت الله الحرام من الكفر والشرك.

من العير إلى النفير

خرج المسلمون إلى بدر من أجل اعتراض قافلة تجارية كبيرة بها ألف بعير وثروة تقدر بـ 50 ألف دينار ذهبي، وليس معها سوى 40 حارسا تحت قيادة "أبي سفيان بن حرب"، ومن ثم كانت صيدا ثمينا للمسلمين لتعويض بعض ما أخذه المشركون منهم في مكة. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في 12 من رمضان سنة 2هـ، وانتدب الناس للخروج، ولم يكره أحدا على الخروج، إلا أن العير التي تحمل هذه الثروة الضخمة غيرت طريقها بعدما ترامت الأبناء إلى "أبي سفيان" بما يدبره المسلمون.

ولما علمت قريش بالأمر تجهزت للقتال وخرجت في جيش قوامه 1300 مقاتل ومعهم 600 درع و100 فرس، وأعداد ضخمة من الإبل، أما عدد المسلمين فكان حوالي 314 مقاتلا، منهم 83 من المهاجرين.

وقد استطاعت "الاستخبارات الإسلامية" أن ترصد عملية هروب العير، وأرسل أبو سفيان إلى قريش أن القافلة قد نجت، ولا حاجة لهم في قتال أهل يثرب، لكن أبا جهل أبى إلا القتال، وقال قولته المشهورة: "لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم ثلاثا ننحر الجُزر، ونطعم الطعام، ونشرب الخمر، وتعزف القيان علينا، فلن تزال العرب تهابنا أبدا"، لكنّ "بني زهرة" لم تستجب لهذه الدعوة فرجعت ولم تقاتل.

خرج المسلمون بنتيجة مهمة بعد أن أفلتت العير وبعد أن جمعوا معلوماتهم عن عدوهم، ألا وهي أن القتال أصبح حتميا؛ لأن الله وعدهم إحدى الطائفتين، العير أو النفير، وما دامت العير أفلتت فلا محيص عن القتال.

عقد النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا استشاريا لبحث الموقف؛ فالشورى من مبادئ الإسلام الرئيسية في السلم والحرب، وكان هدف هذا المجلس معرفة موقف الأنصار من القتال؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم متخوفا من أن يكون الأنصار غير مستعدين للقتال ونصرة النبي خارج المدينة، إلا أن "سعد بن معاذ" حسم الموقف، ومما قاله: "... فامض يا رسول الله لما أردت؛ فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ في اللقاء".

سُرّ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "سيروا وأبشروا فإن الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين".

ورغم الشورى والبشارة فإن بعض قلوب المؤمنين كانت تكره اللقاء، والأخرى كانت تريد العير. وصور القرآن الكريم هذه الحالة النفسية للمؤمنين تصويرا دقيقا في قوله تعالى: "كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُّحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ" (الأنفال: 5 - 7).

ليلة الفرقان

نزل النبي صلى الله عليه وسلم أدنى بئر بدر عشاء ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان، فتقدم أحد مقاتلي الأنصار وهو "الحُباب بن المنذر" بمشورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حملت في طياتها الأدب الرفيع في تعامل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والخبرة العسكرية الراقية، فقال: "يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة".

فقال هذا الخبير العسكري: "يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغوّر ما وراءه من القُلُب (أي الآبار)، ثم نبني عليه حوضا، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أشرت بالرأي".. قمة الشورى والنزول على الأصوب، وقمة الإحساس بالمسئولية.

أما الرأي الثاني الذي أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من "سعد بن معاذ"؛ إذ اقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني المسلمون له مقرا لقيادته، يقوم على حراسته عدد من الشبان الأشداء ويكون مجهزا ببعض الركائب، وعلل سعد اقتراحه بقوله: "وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلّفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك، ويجاهدون معك"، وهو إدراك بأهمية الحفاظ على القيادة، فليس من الحكمة أن تكون القيادة المسلمة مكشوفة في الصراع مع أعدائها، ولذلك أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الاقتراح، وأمر بتنفيذه، وكان سعد هو قائد الحرس لهذا المقر.

دعاء حار؟!

مضى النبي صلى الله عليه وسلم يعبئ الجيش للقتال، ويشحذ معنوياته، وكان من روعة هذه التهيئة النفسية الإيمانية أن النبي صلى الله عليه وسلم مشى في ميدان المعركة وأشار إلى مصارع بعض كبار المشركين، فبدأت النفوس القلقة تهدأ وتستقر، ثم وقف صلى الله عليه وسلم يناجي ربه أن ينزل النصر على المسلمين، وأخذ يهتف بربه قائلا: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" حتى سقط الرداء عن كتفيه صلى الله عليه وسلم وهو مادٌّ يديه إلى السماء، فأشفق عليه أبو بكر الصديق، وأعاد الرداء إلى كتفيه والتزمه (احتضنه) وهو يقول: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك" فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: "سيهزم الجمع ويولون الدبر".

وأثار خوف النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء، وطمأنينة أبي بكر الصديق استشكالا عند العلماء فتعددت الآراء في تفسير هذا الموقف، فقيل: لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم؛ لأنه كان أول مشهد شهدوه، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك، وعلم صلى الله عليه وسلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقب بقوله "سيهزم الجمع"، غير أن بعضهم لم يرض بهذا التفسير، وذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مقام الخوف، لأن الوعد بالنصر لم يكن معيّنا على وجه التحديد في تلك الغزوة.

وذهب الشيخ "رشيد رضا" في تفسير "المنار" أنه "لا يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم باستجابة الله له لما وجد في نفس أبي بكر قوة وطمأنينة؛ لأن علم النبي صلى الله عليه وسلم بربه سبحانه وتعالى واستجابته له أقوى وأعلى من أن يستنبطه من حال أبي بكر، وأشار أن المقام في بدر كان مقام خوف ولم يكن مقام توكل محض، وذلك أن التوكل الشرعي بالاستسلام لعناية الرب تعالى وحده إنما يصح بعد اتخاذ الأسباب المعلومة من شرع الله، ومن سنته في خلقه. ومن المعلوم بالقطع أن أسباب النصر والغلبة في الحرب لم تكن تامة عند المسلمين في ذلك الوقت لا من الجهة المادية كالعدد والغذاء والعتاد والخيل والإبل، ولا من الجهة المعنوية لكراهة بعضهم القتال وجدالهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ولهذا خشي صلى الله عليه وسلم أن يصيب أصحابه تهلكة على قلتهم لتقصيرهم في بعض الأسباب المعنوية، فوق تقصيرهم غير الاختياري في الأسباب المادية، فكان يدعو ألا يؤاخذهم الله تعالى بتقصير بعضهم في إقامة سننه عقابا لهم".

مطر وملائكة

وفي ليلة بدر أنزل الله مطرا خفيفا على المسلمين ثبت به الأرض من تحتهم، بينما كان المطر شديدا على معسكر المشركين، وغشي المسلمين في هذه الليلة نعاسٌ، ملأ النفوس طمأنينة، والأجساد راحة واسترخاء، وكانت حالة نفسية عجيبة وهي في حقيقتها مدد من الله تعالى لهم، ثم أوحى الله تعالى إلى الملائكة أن يثبتوا الذين آمنوا، وألقى الله الرعب في قلوب الذين كفروا، ثم قلل الله تعالى عدد المشركين في أعين المسلمين، وقلل عدد المسلمين في أعين المشركين، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في منامه قلة لا قيمة لهم، ولا وزن.

وأثارت مسألة اشتراك الملائكة في بدر، أسئلة كثيرة، اختلفت حولها الآراء حول اشتراك الملائكة في القتال، غير أن ما تطمئن إليه النفس المسلمة أن مهمة الملائكة كما يشير صريح القرآن أنها كانت لتثبيت المسلمين في القتال، وليس لقتال المشركين، وذكر "ابن جرير الطبري" في تفسيره أن الروايات التي وردت في قتال الملائكة في بدر حريةٌ بألا تنقل، كما أن "ابن كثير" لم يذكر إلا رواية واحدة فقط رغم كثرة المرويات في هذا الشأن، كما أن عدد من قتلتهم الملائكة غير معروف ولا محدد، وإذا تتبعنا أسماء المقتولين في بدر لوجدنا أن غالبية من قتلهم أسماؤهم معروفة.

نصر وتمكين

"لئن كنا نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله كما يزعم محمد فما بالله من طاقة".. كلمة حق قالتها "قريش" وصدقتها أحداث بدر، فعندما أصبح يوم 17 رمضان رحلت قريش إلى أرض المعركة، أما النبي صلى الله عليه وسلم فوظف الظروف الطبيعية في أرض المعركة لصالحه، فسبق قريش إلى الميدان، وجعل الشمس في ظهره، أما قريش فكانت الشمس في أعينها.

حفز النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على القتال بعبارة قوية لا تحمل أي تردد أو خوف فقال: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة"، فقال "عمير بن الحمام": "بخٍ بخٍ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟!"، ثم سأل "عوف بن الحارث" النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا عجيبا فقال: "يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "غمسه يده في العدو حاسرا"؛ فنزع "عوف" درعا كانت عليه فقذفها ثم قاتل حتى استشهد.. كانت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم تسري في نفوس المسلمين بطريقة عجيبة، تفوق في تأثيرها من يمتلكه الكفار من عدد وعدة.

وعلى الطرف الآخر حاول أبو جهل أن يبث روحا في جنوده بالتوجه إلى الله بالدعاء!! فقال: "اللهم أقطعنا الرحم، وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم" فاستجاب الله ونصر المسلمين!!

كانت نصيحة الاستخبارات المكية التي قام بها "عمير بن وهب" ألا تقاتل قريش المسلمين، وقال لهم: "البلايا تحمل المنايا، نواضح (إبل) يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم".. ولكن إرادة الله سبقت.

بدأ القتال بمبارزة كان النصر فيها حليف المسلمين، فحمي القتال، وقتل 70 من المشركين، وأسر مثلهم، وكان من بين القتلى أئمة الكفر: "أبو جهل" و"عتبة وشيبة ابنا ربيعة" و"أمية بن خلف"، و"العاص بن هشام بن المغيرة". أما المسلمون فاستشهد منهم 14 رجلا، 6 من المهاجرين، و8 من الأنصار.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجثث المشركين فجمعت في بئر. ومن روائع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مراعاته لمشاعر أصحابه، والرفق بهم، وتقدير بعض ظروفهم الخاصة، فيروى أن المسلمين كانوا يسحبون جثة عتبة بن ربيعة لرميها في القليب (البئر)، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم تغيرا في وجه ابنه "حذيفة" فسأله عن سبب حزنه، فقال حذيفة: "يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام، فلما رأيت ما أصابه وما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك"، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالخير.

يسألونك عن الأنفال لا الأسرى

مكث النبي صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة في بدر 3 أيام، لتحقيق عدة أهداف عسكرية ونفسية، منها مواجهة أي محاولة من المشركين لإعادة تجميع الصفوف والثأر للهزيمة، وهو ما يفرض استمرار بقاء الجيش المسلم في حالة تأهب واستعداد لأي معركة محتملة؛ لأن من الأسباب التي تصيب الجيوش المنتصرة بانتكاسات هو أن يسري بين الجنود أن العمليات العسكرية والحرب قد توقفت، فتهبط الروح المعنوية إلى أدنى مستوياتها، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجنب المخاطرة بانتصاره، إضافة إلى أن البقاء في أرض المعركة هذه الفترة يتيح للجيش المسلم القيام بإحصاءات دقيقة عن خسائره وخسائر عدوه، وبعث رسالة نفسية إلى الجيش المهزوم أن النصر لم يكن وليد المصادفة.

كان من أهم الأمور التي أثيرت بعد بدر قضيتان مهمتان، هما "الأنفال" و"الأسرى"، وقد سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في الأنفال التي ساءت فيها أخلاقهم كما يقول "عبادة بن الصامت"، إذ تنازع الناس في الغنائم من يكون أحق بها؟! فنزعها الله تعالى منهم وجعلها له تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم عاتبهم بغير عتاب كما جاء في بدايات سورة الأنفال بأن ذكرهم بضرورة إصلاح ذات بينهم، وذكّرهم بصفات المؤمن الحق التي يجب أن يتحلوا بها وينشغلوا بتحقيقها في أنفسهم قبل السؤال عن الغنائم، ثم مضت 40 آية من الأنفال، قبل أن يبين الله حكم تقسيمها، والمشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قسمها بالتساوي بين الصحابة، وأعطى بعض الذين لم يشهدوا القتال لبعض الأعذار مثل عثمان بن عفان الذي كان مع زوجته رقية في مرضها الذي ماتت فيه، وأعطى أسر الشهداء نصيبهم من الغنائم.

أما الأسرى، فلم يسأل الصحابة فيهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الغالبية العظمى كانت تميل إلى أخذ الفداء باستثناء "عمر بن الخطاب" و"سعد بن معاذ" اللذين كانا يحبذان الإثخان في القتل، لكسر شوكة الكفر فلا يقوى على محاربة الإيمان.

استشار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في أمر الأسرى، فأيدوا الفداء، إلا أن القرآن الكريم أيد الإثخان في القتل، لكن روعة الإسلام أن القرآن لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرجوع عن القرار الذي اتخذ بعد الشورى حتى لا يصير الإعراض عن الشورى سنة في الإسلام، وأن يكون من قواعد التشريع الإسلامي أن ما نفذه الإمام من الأعمال السياسية والحربية بعد الشورى لا يُنقض، وإن ظهر أنه كان خطأ.

ومن روعة الإسلام أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء بعض الأسرى أن يقوموا بتعليم المسلمين القراءة والكتابة، وهو إدراك لأهمية العلم الذي يساوي الحرية والحياة.

منقول

عبدالغفور الخطيب
11-10-2006, 03:09 AM
خالد بن الوليد.. المنتصر دومًا

(في ذكرى وفاته: 18 من رمضان 21هـ)


هو "أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة"، ينتهي نسبه إلى "مرة بن كعب بن لؤي" الجد السابع للنبي (صلى الله عليه وسلم) و"أبي بكر الصديق" رضي الله عنه.

وأمه هي "لبابة بنت الحارث بن حزن الهلالية"، وقد ذكر "ابن عساكر" – في تاريخه – أنه كان قريبًا من سن "عمر بن الخطاب".

أسرة عريقة ومجد تليد

وينتمي خالد إلى قبيلة "بني مخزوم" أحد بطون "قريش" التي كانت إليها "القبة" و"الأعنة"، وكان لها شرف عظيم ومكانة كبيرة في الجاهلية، وكانت على قدر كبير من الجاه والثراء، وكانت بينهم وبين قريش مصاهرة متبادلة.

وكان منهم الكثير من السابقين للإسلام؛ منهم: "أبو سلمة بن عبد الأسد"، وكان في طليعة المهاجرين إلى الحبشة، و"الأرقم بن أبي الأرقم" الذي كانت داره أول مسجد للإسلام، وأول مدرسة للدعوة الإسلامية.

وكانت أسرة "خالد" ذات منزلة متميزة في بني مخزوم؛ فعمه "أبو أمية بن المغيرة" كان معروفًا بالحكمة والفضل، وكان مشهورًا بالجود والكرم، وهو الذي أشار على قبائل قريش بتحكيم أول من يدخل عليهم حينما اختلفوا على وضع الحجر الأسود وكادوا يقتتلون، وقد مات قبل الإسلام.

وعمه "هشام بن المغيرة" كان من سادات قريش وأشرافها، وهو الذي قاد بني مخزوم في "حرب الفجار".

وكان لخالد إخوة كثيرون بلغ عددهم ستة من الذكور هم: "العاص" و"أبو قيس" و"عبد شمس" و"عمارة" و"هشام" و"الوليد"، اثنتين من الإناث هما: "فاطمة" و"فاضنة".

أما أبوه فهو "عبد شمس الوليد بن المغيرة المخزومي"، وكان ذا جاه عريض وشرف رفيع في "قريش"، وكان معروفًا بالحكمة والعقل؛ فكان أحدَ حكام "قريش" في الجاهلية، وكان ثَريًّا صاحب ضياع وبساتين لا ينقطع ثمرها طوال العام.

فارس عصره

وفي هذا الجو المترف المحفوف بالنعيم نشأ "خالد بن الوليد"، وتعلم الفروسية كغيره من أبناء الأشراف، ولكنه أبدى نبوغًا ومهارة في الفروسية منذ وقت مبكر، وتميز على جميع أقرانه، كما عُرف بالشجاعة والجَلَد والإقدام، والمهارة وخفة الحركة في الكرّ والفرّ.

واستطاع "خالد" أن يثبت وجوده في ميادين القتال، وأظهر من فنون الفروسية والبراعة في القتال ما جعله فارس عصره بلا منازع.

معاداته للإسلام والمسلمين

وكان "خالد" –كغيره من أبناء "قريش"– معاديًا للإسلام ناقمًا على النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين الذين آمنوا به وناصروه، بل كان شديد العداوة لهم شديد التحامل عليهم، ومن ثَم فقد كان حريصًا على محاربة الإسلام والمسلمين، وكان في طليعة المحاربين لهم في كل المعارك التي خاضها الكفار والمشركون ضد المسلمين.

وكان له دور بارز في إحراز النصر للمشركين على المسلمين في غزوة "أحد"، حينما وجد غِرَّة من المسلمين بعد أن خالف الرماة أوامر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وتركوا مواقعهم في أعلى الجبل، ونزلوا ليشاركوا إخوانهم جمع غنائم وأسلاب المشركين المنهزمين، فدار "خالد" بفلول المشركين وباغَتَ المسلمين من خلفهم، فسادت الفوضى والاضطراب في صفوفهم، واستطاع أن يحقق النصر للمشركين بعد أن كانت هزيمتهم محققة.

كذلك فإن "خالدا" كان أحد صناديد قريش يوم الخندق الذين كانوا يتناوبون الطواف حول الخندق علهم يجدون ثغرة منه؛ فيأخذوا المسلمين على غرة، ولما فشلت الأحزاب في اقتحام الخندق، وولوا منهزمين، كان "خالد بن الوليد" أحد الذين يحمون ظهورهم حتى لا يباغتهم المسلمون.

وفي "الحديبية" خرج "خالد" على رأس مائتي فارس دفعت بهم قريش لملاقاة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، ومنعهم من دخول مكة، وقد أسفر الأمر عن عقد معاهدة بين المسلمين والمشركين عرفت باسم "صلح الحديبية".

وقد تجلت كراهية "خالد" للإسلام والمسلمين حينما أراد المسلمون دخول مكة في عمرة القضاء؛ فلم يطِق خالد أن يراهم يدخلون مكة –رغم ما بينهم من صلح ومعاهدة– وقرر الخروج من مكة حتى لا يبصر أحدًا منهم فيها.

إسلامه

أسلم خالد في (صفر 8 هـ= يونيو 629م)؛ أي قبل فتح مكة بستة أشهر فقط، وقبل غزوة مؤتة بنحو شهرين.

ويروى في سبب إسلامه: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال للوليد بن الوليد أخيه، وهو في عمرة القضاء: "لو جاء خالد لقدّمناه، ومن مثله سقط عليه الإسلام في عقله"، فكتب "الوليد" إلى "خالد" يرغبه في الإسلام، ويخبره بما قاله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه، فكان ذلك سبب إسلامه وهجرته.

وقد سُرَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) بإسلام خالد، وقال له حينما أقبل عليه: "الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير".

وفرح المسلمون بانضمام خالد إليهم، فقد أعزه الله بالإسلام كما أعز الإسلام به، وتحول عداء خالد للإسلام والمسلمين إلى حب وتراحم، وانقلبت موالاته للكافرين إلى عداء سافر، وكراهية متأججة، وجولات متلاحقة من الصراع والقتال.

سيف الله في مؤتة

وكانت أولى حلقات الصراع بين خالد والمشركين –بعد التحول العظيم الذي طرأ على حياة خالد وفكره وعقيدته– في (جمادى الأولى 8هـ = سبتمبر 629م) حينما أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) سرية الأمراء إلى "مؤتة" للقصاص من قتلة "الحارث بن عمير" رسوله إلى صاحب بصرى.

وجعل النبي (صلى الله عليه وسلم) على هذا الجيش: "زيد بن حارثة" ومن بعده "جعفر بن أبي طالب"، ثم "عبد الله بن رواحة"، فلما التقى المسلمون بجموع الروم، استشهد القادة الثلاثة الذين عينهم النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأصبح المسلمون بلا قائد، وكاد عقدهم ينفرط وهم في أوج المعركة، وأصبح موقفهم حرجًا، فاختاروا "خالدًا" قائدًا عليهم.

واستطاع "خالد" بحنكته ومهارته أن يعيد الثقة إلى نفوس المسلمين بعد أن أعاد تنظيم صفوفهم، وقد أبلى "خالد" – في تلك المعركة – بلاء حسنًا، فقد اندفع إلى صفوف العدو يعمل فيهم سيفه قتلاً وجرحًا حتى تكسرت في يده تسعة أسياف.

وقد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه باستشهاد الأمراء الثلاثة، وأخبرهم أن "خالدًا" أخذ اللواء من بعدهم، وقال عنه: "اللهم إنه سيف من سيوفك، فأنت تنصره". فسمي خالد "سيف الله" منذ ذلك اليوم.

وبرغم قلة عدد جيش المسلمين الذي لا يزيد عن ثلاثة آلاف فارس، فإنه استطاع أن يلقي في روع الروم أن مددًا جاء للمسلمين بعد أن عمد إلى تغيير نظام الجيش بعد كل جولة، فتوقف الروم عن القتال، وتمكن خالد بذلك أن يحفظ جيش المسلمين، ويعود به إلى المدينة استعدادًا لجولات قادمة.

خالد والدفاع عن الإسلام

وحينما خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) في نحو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار؛ لفتح "مكة" في (10 من رمضان 8هـ = 3 من يناير 630م)، جعله النبي (صلى الله عليه وسلم) على أحد جيوش المسلمين الأربعة، وأمره بالدخول من "الليط" في أسفل مكة، فكان خالد هو أول من دخل من أمراء النبي (صلى الله عليه وسلم)، بعد أن اشتبك مع المشركين الذين تصدوا له وحاولوا منعه من دخول البيت الحرام، فقتل منهم ثلاثة عشر مشركًا، واستشهد ثلاثة من المسلمين، ودخل المسلمون مكة – بعد ذلك – دون قتال.

وبعد فتح مكة أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) خالدًا في ثلاثين فارسًا من المسلمين إلى "بطن نخلة" لهدم "العزى" أكبر أصنام "قريش" وأعظمها لديها.

ثم أرسله – بعد ذلك – في نحو ثلاثمائة وخمسين رجلاً إلى "بني جذيمة" يدعوهم إلى الإسلام، ولكن "خالدًا" – بما عُرف عنه من البأس والحماس – قتل منهم عددًا كبيرًا برغم إعلانهم الدخول في الإسلام؛ ظنًا منه أنهم إنما أعلنوا إسلامهم لدرء القتل عن أنفسهم، وقد غضب النبي (صلى الله عليه وسلم) لما فعله خالد وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، وأرسل "عليًا بن أبي طالب" لدفع دية قتلى "بني جذيمة".

وقد اعتبر كثير من المؤرخين تلك الحادثة إحدى مثالب "خالد"، وإن كانوا جميعًا يتفقون على أنه أخطأ متأولاً، وليس عن قصد أو تعمد. وليس أدل على ذلك من أنه ظل يحظى بثقة النبي (صلى الله عليه وسلم)، بل إنه ولاه – بعد ذلك – إمارة عدد كبير من السرايا، وجعله على مقدمة جيش المسلمين في العديد من جولاتهم ضد الكفار والمشركين.

ففي "غزوة حنين" كان "خالد" على مقدمة خيل "بني سليم" في نحو مائة فارس، خرجوا لقتال قبيلة "هوازن" في (شوال 8هـ = فبراير 630م)، وقد أبلى فيها "خالد" بلاءً حسنًا، وقاتل بشجاعة، وثبت في المعركة بعد أن فرَّ من كان معه من "بني سليم"، وظل يقاتل ببسالة وبطولة حتى أثخنته الجراح البليغة، فلما علم النبي (صلى الله عليه وسلم) بما أصابه سأل عن رحله ليعوده.

سيف على أعداء الله

ولكن هذه الجراح البليغة لم تمنع خالدًا أن يكون على رأس جيش المسلمين حينما خرج إلى "الطائف" لحرب "ثقيف" و"هوازن".

ثم بعثه النبي (صلى الله عليه وسلم) – بعد ذلك – إلى "بني المصطلق" سنة (9هـ = 630م)، ليقف على حقيقة أمرهم، بعدما بلغه أنهم ارتدوا عن الإسلام، فأتاهم "خالد" ليلاً، وبعث عيونه إليهم، فعلم أنهم على إسلامهم، فعاد إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فأخبره بخبرهم.

وفي (رجب 9هـ = أكتوبر 630م) أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) "خالدًا" في أربعمائة وعشرين فارسًا إلى "أكيدر بن عبد الملك" صاحب "دومة الجندل"، فاستطاع "خالد" أسر "أكيدر"، وغنم المسلمون مغانم كثيرة، وساقه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فصالحه على فتح "دومة الجندل"، وأن يدفع الجزية للمسلمين، وكتب له النبي (صلى الله عليه وسلم) كتابًا بذلك.

وفي (جمادى الأولى 1هـ = أغسطس 631م) بعث النبي (صلى الله عليه وسلم) "خالدًا" إلى "بني الحارث بن كعب" بنجران في نحو أربعمائة من المسلمين، ليخيرهم بين الإسلام أو القتال، فأسلم كثير منهم، وأقام "خالد" فيهم ستة أشهر يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، ثم أرسل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يخبره بإسلامهم، فكتب إليه النبي يستقدمه مع وفد منهم.

يقاتل المرتدين ومانعي الزكاة

وبعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) شارك "خالد" في قتال المرتدين في عهد "أبي بكر الصديق" – رضي الله عنه – فقد ظن بعض المنافقين وضعاف الإيمان أن الفرصة قد أصبحت سانحة لهم – بعد وفاة النبي – للانقضاض على هذا الدين، فمنهم من ادعى النبوية، ومنهم من تمرد على الإسلام ومنع الزكاة، ومنهم من ارتد عن الإسلام. وقد وقع اضطراب كبير، واشتعلت الفتنة التي أحمى أوارها وزكّى نيرانها كثير من أعداء الإسلام.

وقد واجه الخليفة الأول تلك الفتنة بشجاعة وحزم، وشارك خالد بن الوليد بنصيب وافر في التصدي لهذه الفتنة والقضاء عليها، حينما وجهه أبو بكر لقتال "طليحة بن خويلد الأسدي" وكان قد تنبأ في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) حينما علم بمرضه بعد حجة الوداع، ولكن خطره تفاقم وازدادت فتنته بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) والتفاف كثير من القبائل حوله، واستطاع خالد أن يلحق بطليحة وجيشه هزيمة منكرة فر "طليحة" على إثرها إلى "الشام"، ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وكان له دور بارز في حروب الفرس، وقد استشهد في عهد عمر بن الخطاب.

وبعد فرار طليحة راح خالد يتتبع فلول المرتدين، فأعمل فيهم سيفه حتى عاد كثير منهم إلى الإسلام.

مقتل مالك بن نويرة وزواج خالد من امرأته

ثم سار خالد ومن معه إلى مالك بن نويرة الذي منع الزكاة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فلما علم مالك بقدومه أمر قومه بالتفرق حتى لا يظفر بهم خالد، ولكن خالدا تمكن من أسره في نفر من قومه، وكانت ليلة شديدة البرودة، فأمر خالد مناديًا أن أدفئوا أسراكم، وظن الحرس -وكانوا من كنانة- أنه أراد قتل الأسرى – على لغتهم- فشرعوا فيهم سيوفهم بالقتل، حتى إذا ما انتبه خالد كانوا قد فرغوا منهم.

وأراد خالد أن يكفّر عن ذلك الخطأ الذي لم يعمده فتزوج من امرأة مالك؛ مواساة لها، وتخفيفًا عن مصيبتها في فقد زوجها الفارس الشاعر.

القضاء على فتنة مسيلمة الكذاب

وخرج خالد – بعد ذلك – لقتال مسيلمة الكذاب الذي كان من أشد أولئك المتنبئين خطرًا، ومن أكثرهم أعوانًا وجندًا، ودارت معركة عنيفة بين الجانبين، انتهت بهزيمة "بني حنيفة" ومقتل "مسيلمة"، وقد استشهد في تلك الحرب عدد كبير من المسلمين بلغ أكثر من ثلاثمائة وستين من المهاجرين والأنصار، وكان أكثرهم من السابقين إلى الإسلام، وحفظه القرآن، وهو الأمر الذي دعا أبا بكر إلى التفكير في جمع القرآن الكريم؛ خوفًا عليه من الضياع بعد موت هذا العدد الكبير من الحفاظ.

فتوحات خالد في العراق

ومع بدايات عام (12هـ = 633م) بعد أن قضى أبو بكر على فتنة الردة التي كادت تمزق الأمة وتقضي على الإسلام، توجه الصديق ببصره إلى العراق يريد تأمين حدود الدولة الإسلامية، وكسر شوكة الفرس المتربصين بالإسلام.

وكان خالد في طليعة القواد الذين أرسلهم أبو بكر لتلك المهمة، واستطاع خالد أن يحقق عددًا من الانتصارات على الفرس في "الأبلة" و"المذار" و"الولجة" و"أليس"، وواصل خالد تقدمه نحو "الحيرة" ففتحها بعد أن صالحه أهلها على الجزية، واستمر خالد في تقدمه وفتوحاته حتى فتح جانبًا كبيرًا من العراق، ثم اتجه إلى "الأنبار" ليفتحها، ولكن أهلها تحصنوا بها، وكان حولها خندق عظيم يصعب اجتيازه، ولكن خالدًا لم تعجزه الحيلة، فأمر جنوده برمي الجنود المتحصنين بالسهام في عيونهم، حتى أصابوا نحو ألف عين منهم، ثم عمد إلى الإبل الضعاف والهزيلة، فنحرها وألقى بها في أضيق جانب من الخندق، حتى صنع جسرًا استطاع العبور عليه هو وفرسان المسلمين تحت وابل من السهام أطلقه رماته لحمايتهم من الأعداء المتربصين بهم من فوق أسوار الحصن العالية المنيعة.. فلما رأى قائد الفرس ما صنع خالد وجنوده، طلب الصلح، وأصبحت الأنبار في قبضة المسلمين.

يواصل فتوحاته في العراق

واستخلف خالد "الزبرقان بن بدر" على الأنبار واتجه إلى "عين التمر" التي اجتمع بها عدد كبير من الفرس، تؤازرهم بعض قبائل العرب، فلما بلغهم مقدم "خالد" هربوا، والتجأ من بقي منهم إلى الحصن، وحاصر خالد الحصن حتى استسلم من فيه، فاستخلف "عويم بن الكاهل الأسلمي" على عين التمر، وخرج في جيشه إلى دومة الجندل ففتحهما.

وبسط خالد نفوذه على الحصيد والخنافس والمصيخ، وامتد سلطانه إلى الفراض وأرض السواد ما بين دجلة والفرات.

الطريق إلى الشام

ثم رأى أبو بكر أن يتجه بفتوحاته إلى الشام، فكان خالد قائده الذي يرمي به الأعداء في أي موضع، حتى قال عنه: "والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"، ولم يخيب خالد ظن أبي بكر فيه، فقد استطاع أن يصل إلى الشام بسرعة بعد أن سلك طريقًا مختصرًا، مجتازًا المفاوز المهلكة غير المطروقة، متخذًا "رافع بن عمير الطائي" دليلاً له، ليكون في نجدة أمراء أبي بكر في الشام: "أبي عبيدة عامر الجراح"، و"شرحبيل بن حسنة" و"عمرو بن العاص"، فيفاجئ الروم قبل أن يستعدوا له.. وما إن وصل خالد إلى الشام حتى عمد إلى تجميع جيوش المسلمين تحت راية واحدة، ليتمكنوا من مواجهة عدوهم والتصدي له.

وأعاد خالد تنظيم الجيش، فقسمه إلى كراديس، ليكثروا في عين عدوهم فيهابهم، وجعل كل واحد من قادة المسلمين على رأس عدد من الكراديس، فجعل أبا عبيدة في القلب على 18كردسا، ومعه عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو، وجعل عمرو بن العاص في الميمنة على 10 كراديس ومعه شرحبيل بن حسنة، وجعل يزيد بن أبي سفيان في الميسرة على 10 كراديس.

والتقى المسلمون والروم في وادي اليرموك وحمل المسلمون على الروم حملة شديدة، أبلوا فيها بلاء حسنا حتى كتب لهم النصر في النهاية. وقد استشهد من المسلمين في هذه الموقعة نحو ثلاثة آلاف، فيهم كثير من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

وتجلت حكمة خالد وقيادته الواعية حينما جاءه رسول برسالة من عمر بن الخطاب تحمل نبأ وفاة أبي بكر الصديق وتخبره بعزله عن إمارة الجيش وتولية أبي عبيدة بدلا منه، وكانت المعركة لا تزال على أشدها بين المسلمين والروم، فكتم خالد النبأ حتى تم النصر للمسلمين، فسلم الرسالة لأبي عبيدة ونزل له عن قيادة الجيش.

خالد بين القيادة والجندية

ولم ينته دور خالد في الفتوحات الإسلامية بعزل عمر له وتولية أبي عبيدة أميرا للجيش، وإنما ظل خالد يقاتل في صفوف المسلمين، فارسا من فرسان الحرب وبطلا من أبطال المعارك الأفذاذ المعدودين.

وكان له دور بارز في فتح دمشق وحمص وقنسرين، ولم يفت في عضده أن يكون واحدا من جنود المسلمين، ولم يوهن في عزمه أن يصير جنديا بعد أن كان قائدا وأميرا؛ فقد كانت غايته الكبرى الجهاد في سبيل الله، ينشده من أي موقع وفي أي مكان.

وفاة الفاتح العظيم

وتوفي خالد بحمص في (18 من رمضان 21هـ = 20 من أغسطس 642م). وحينما حضرته الوفاة، انسابت الدموع من عينيه حارة حزينة ضارعة، ولم تكن دموعه رهبة من الموت، فلطالما واجه الموت بحد سيفه في المعارك، يحمل روحه على سن رمحه، وإنما كان حزنه وبكاؤه لشوقه إلى الشهادة، فقد عزّ عليه –وهو الذي طالما ارتاد ساحات الوغى فترتجف منه قلوب أعدائه وتتزلزل الأرض من تحت أقدامهم- أن يموت على فراشه، وقد جاءت كلماته الأخيرة تعبر عن ذلك الحزن والأسى في تأثر شديد: "لقد حضرت كذا وكذا زحفا وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء".

وحينا يسمع عمر بوفاته يقول: "دع نساء بني مخزوم يبكين على أبي سليمان، فإنهن لا يكذبن، فعلى مثل أبي سليمان تبكي البواكي".

منقول

عبدالغفور الخطيب
19-10-2006, 02:15 AM
تبوك.. الرسول صلى الله عليه وسلم مقاطعًا

(في ذكرى عودة النبي من تبوك: 26 رمضان 9 هـ)

في ظل الظروف التي تعيشها أمتنا العربية والإسلامية بدأ طرح المقاطعة يأخذ أبعادًا مختلفة، فلم يعد مفهوم المقاطعة مقصورًا على المقاطعة الاقتصادية فحسب، إنما تعداه إلى الجوانب الثقافية والاجتماعية... وهذا الموضوع الذي بين أيدينا يطرح جانبًا مهمًّا من جوانب المقاطعة، وهو المقاطعة الهَجْرية، وذلك من خلال وقائع غزوة تبوك.

وتبدأ وقائع غزوة تبوك عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتجهز والخروج إلى الروم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا أظهر أنه يريد غيرها، إلا غزوة تبوك فإنه قال: "أيها الناس إني أريد الروم".

وكانت هناك عقبات في طريق الخروج إلى الغزوة تتمثل في:

1- الجهد والمشقة لإتمام التمويل اللازم لتجهيز الجيش، وقد انتدب الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين للتبرع لتجهيز الجيش وحضهم على ذلك، وتسابق المسلمون في الجهاد بأموالهم، فها هو أبو بكر الصديق يأتي بكل ماله، وعمر بن الخطاب يأتي بنصف ماله، وتبارى القوم في التبرع في صورة تُظهر ما في قلوبهم من إيمان راسخ ونفوس سخية، ولم ينفق أحد أعظم نفقة من ذي النورين عثمان بن عفان الذي جهز ثلث الجيش وحده، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" قالها مرارًا.

2- الحر الشديد حيث الصحراء اللاهبة والشمس المحرقة وقلة الماء؛ وهو ما يؤدي إلى عسر المسير ومشقة الرحيل، حيث يصور لنا القرآن هذا الأمر: {وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا}.

3- ثمارهم قد أينعت وحان وقت قطافها.

4- طول المسافة، حيث تبلغ المسافة من المدينة -عاصمة الإسلام آنذاك- إلى تبوك على تخوم الروم أكثر من تسعمائة كيلومتر، والرحلة تستغرق شهرًا ذهابًا وإيابًا.

5- شدة بأس العدو، فالعدو هو الروم إحدى القوتين العظميين في العالم آنذاك، وإحدى طبقي الرحى التي تطبق على العالم احتلالاً واستغلالاً؛ فأعدادهم عظيمة، وأسلحتهم كثيرة، وجيوشهم جرارة.

ومع هذه العقبات سارع المسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز والخروج والتبرع بأموالهم لسد العجز في التمويل؛ إيمانًا منهم بقدسية الغاية وربانية الهدف.

ولطول المسافة تحتم أن يكون الجيش من الفرسان وراكبي الإبل، وبعد التجهز خرج الرسول صلى الله عليه وسلم يقود جيشًا قوامه أكثر من 30 ألفًا من المسلمين ما بين 10 آلاف فارس وبقية الجيش يتعاقب كل ثلاثة على بعير واحد.

وعانى الصف الإسلامي قبل الخروج من إرجاف المنافقين ومحاولتهم الدنيئة تثبيط همة المسلمين وشق صفهم وبذر الوهن في قلوبهم، ولكن هيهات أن يتحقق ذلك في صف ارتبط بخالقه وارتضى برسوله وآمن بعقيدته؛ ففشِلت كل محاولات الطابور الخامس -أهل النفاق والزيغ- وكانت الغزوة فرصة عظيمة لتميز الأمة في مبادئها ولتمايزها في صفها، فأصبح المجتمع كالآتي:

1- أهل السبق والإيمان من المهاجرين والأنصار الذين تباروا في الخروج للغزو والتبرع لتجهيز إخوانهم الذين لا يملكون النفقة.

2- أهل الإيمان الذين قصرت بهم النفقة لفقرهم فلم يستطيعوا الخروج وهم البكاؤون "... الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ".

3- أهل إيمان، ولكن أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخلفوا عن الخروج من غير شك ولا ارتياب منهم.

4- المنافقون أهل الزيغ والضلال الذين تعاونوا مع العدو وتجسسوا على أهل الإيمان، وقد رجع أكثرهم من الغزو واعتذر بعضهم عن الخروج مخافة الفتنة كما زعم. وخروج البعض منهم محاولين استغلال الفرص لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم.

الطريق إلى تبوك

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وبدأ التحرك بالجيش الإسلامي نحو تبوك يوم الخميس قبل منتصف شهر رجب سنة 9هـ حيث وصل إلى تبوك في شعبان سنة 9هـ وأقام فيها مدة عشرين يومًا ولم يلاق حشود الروم الذين جبنوا عن التقدم للقاء الجيش الإسلامي.

فظل الرسول صلى الله عليه وسلم مدة إقامته يعقد معاهدات مع أمراء المناطق وقبائلها، وأرسل سرية بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى دومة الجندل فأسرت أكيدر ملك دومة الجندل وقدم به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليعاهده.

وحققت الغزوة أهدافها سواء من تحدي الروم وإظهار جبنهم وإثارة الرعب في القبائل النصرانية التي تساعد الروم، ثم -وهو الأهم- إعلان ظهور دولة الإسلام كدولة قوية تستطيع تحدي الروم ومهاجمة أراضيهم.

عاد الرسول صلى الله عليه وسلم بالجيش الإسلامي قافلاً نحو المدينة حيث وصلها في شهر رمضان سنة 9هـ.

تحقيق وحساب للمخلفين

وهنا حان وقت التحقيق والحساب مع الذين تخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كما يحكيها أحد المخلفين، وهو كعب بن مالك رضي الله عنه "...غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حيث طابت الثمار والظلال وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئًا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه. فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئًا؛ فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئًا. ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئًا. فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو(فات وقته وتقدم)، وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم- فطفت فيهم - أحزنني أنني لا أرى إلا رجلاً مغموصًا (محتقرا) عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء...

فلما بلغني أنه توجه قافلاً حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدًا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل لي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادمًا زاح عني الباطل وعرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدًا فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمًا وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، فجئت فلما سلمت، تبسم تبسم المغضب ثم قال: "تعال" فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قلت بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أُعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه أني لأرجو فيه عقبى الله، لا والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. وثار رجال من بني سلمة.. ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي.

ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم، رجلان، قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا، فيهما أسوة. فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها(نحن) الثلاثة من بين من تخلف عنه".

المقاطعة.. مطلب شرعي

وحين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بمقاطعة الثلاثة الذين صدقوا حديثهم، وعدم الكلام معهم، بدأت قصة تربيتهم وصقلهم وفرض العزل الاجتماعي عليهم، فالمقاطعة التربوية التي وقعت على هؤلاء الثلاثة: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية لها منافع عظيمة وجسيمة في تربية المجتمع الإسلامي على الاستقامة وقوة الإرادة والوفاء الثابت ولمنع أفراد هذا المجتمع من التورط في المخالفات سواء كان ذلك بترك شيء من الواجبات، أو فعل شيء من المحرمات، أو كان بالتسويف في الأمر إلى حد التفريط، حيث يتوقع الذي يفعل ذلك أنه سيكون مهجورًا من جميع أفراد المجتمع؛ فلا يفكر في الفعل المخالف لأوامر القيادة قط.

فالمقاطعة التربوية هنا نوع من الهجر الديني الذي هو مطلب شرعي يثاب فاعله، وهو غير الهجر الدنيوي فهو مكروه، وإذا زاد عن ثلاثة أيام فإنه يكون محرمًا. ويحدثنا كعب بن مالك عن الآلام النفسية المبرحة التي عاناها وصاحبيه نتيجة المقاطعة التربوية التي فرضها الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم وبلغت من المدة خمسين يومًا فيقول: "... فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أَشبّ القوم وأجلدهم فكنت أخرج. فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة مع المسلمين فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك علي من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي. فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت. فعدت فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني دفع إلي كتابًا من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال لا بل اعتزلها لا تقربنها. أرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي: ألحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر".

المقاطعة.. ابتلاء وتمحيص

تمت المقاطعة التربوية لهؤلاء الثلاثة ابتلاء للصف الإسلامي ليثبت مدى استجابته للأمر والتحامه مع قيادته ومفاصله الثلاثة في أروع ما يحمل التاريخ من صور الاستجابة لدرجة أن أبا قتادة وهو ابن عم كعب وصديقه وأحب الناس إليه لا يرد عليه السلام ولا يبادله الكلام، كأننا نلحظ صراعا نفسيا داخل أبي قتادة بين قربه وحبه لكعب وصلته الإنسانية به وبين التزامه بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما ينتصر الالتزام الديني على الصلة والصداقة فلا يرد عليه سلام.

وأعظم ما في هذه المفاضلة الأمر الأخير لزوجاتهم بالمقاطعة فتسرع الزوجات بالاستجابة في علو إيمان وشدة التزام تهزم صلة الزوجية والرابطة القوية بينهم، وقد نجحت الخطة، وتحققت المقاطعة الكاملة لهم في صورة غير مسبوقة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، وقد عاش المجتمع الإسلامي مأساة إخوته الثلاثة في أشد ما يكون يقظة والتزامًا وألمًا وتأثرًا، ولك أن تتخيل أثر المقاطعة النفسي على الثلاثة الذين خلفوا وعلى المجتمع حولهم بما فيه من صلات قربى وصداقة ومودة، خاصة أن المقاطعة كانت في رمضان شهر زيادة الصلة والرابطة بين المسلمين، ويمر عليهم عيد الفطر مناسبة الود والتزاور بينهم. والمقاطعة التي تأبى على المسلمين أن يذكروا اسم كعب للنبطي، بل يكتفون بالإشارة إليه عن سؤالهم عنه؛ مما يعطينا صورة واضحة عن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي ومتانة بنائها وصفاء عناصرها ونصاعة تصورها لمعنى الجماعة ولتكاليف الدعوة ولقيمة الأوامر الصادرة ولضرورة الطاعة؛ حتى إن التوبة لما نزلت ما تمالك صارخ أن يصرخ من الفجر بأعلى صوته على قمة الجبل مبشرًا كعب، فأروع ما في الأمر تمام الانضباط مع تمام العاطفة.

وظل المخلفون يحفهم هذا الجو المكروب بالكربة واليأس والضيق لا مخرج منه إلا بالالتجاء إلى الله مفرج الكروب ثم يجيء الفرج بعد خمسين يومًا من الضيق فينزل الوحي بآيات بينات: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم" [التوبة: 118].

كيف تلقى المخلفون الثلاثة أمر نزول توبتهم؟

يحكي كعب بن مالك عن ذلك فيقول: "... فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا، قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرج وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، وذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسًا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني سمعت صوته يبشرني، نزعت ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه والله! ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنئوني بالتوبة".

إن توبة كعب وصاحبيه وما حملت في آفاقها من معاني السمو والاعتراف بالخطأ -الذي هو من أعظم الشجاعة- وتعاليهم عن الدنيا التي تتراقص لهم بدعوة ملك غسان لكعب، بل الصبر على عقوبة الله تعالى -علامة على الوفاء منهم لدعوتهم ووفاء لا يعدو عليه تلون ولا غدر- والصبر هنا ليس يومًا أو يومين، بل خمسين ليلة على هذا الحال، منها عشر ليال بمقاطعة زوجاتهم لهم إلى أن جاءهم الفرج.

ضوابط المقاطعة التربوية

فإذا علمنا أن المخلفين الثلاثة من الطبقة الثالثة في المجتمع؛ حيث يسبقهم:

أ- السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.

ب- البكاؤون الذين لا يجدون ما يحملهم.

فإذا كان هذا هو مستوى الطبقة الثالثة في الصدق والولاء لله ولرسوله والالتزام في تنفيذ أشد العقوبات عليهم واستعدادهم لطلاق زوجاتهم أدركنا ذلك المستوى الإيماني التربوي الرفيع للمجتمع المسلم آنذاك.

وقد خرج المخلفون من محنتهم أقوى إيمانًا وأصفى روحًا وأكرم أخلاقًا، وصفة أخرى في المخلفين أثناء محنتهم أن الله حاضر في ضمائرهم مع خطئهم، ومراقبة الله أقوى، وتقوى الله أعمق، والرجاء في الله أوثق.

مع وجوب ملاحظة أن تطبيق هذه المقاطعة التربوية، وهذا الهجر التقويمي يجب أن يكون مع:

1- مجتمع قوي مترابط راسخ الإيمان شديد الانضباط.

2- أفراد مؤمنين ملتزمين يؤمن عليهم من الوقوع في الفتنة.

3- قيادة حكيمة في أسلوبها بصيرة بهدفها حازمة في تطبيق قراراتها.

وتمضي قصة المخلفين عبرة للمجتمع الإسلامي عبر الزمان والمكان تحكي أسلوبًا من أساليب الإسلام -هو المقاطعة التربوية- تجاه الأخطاء التي تقع؛ فتقوِّم المعوج، وتصحح للمخطئ، فنتعلم منها كيف نتربى ونربي

منقول

عبدالغفور الخطيب
23-10-2006, 02:02 AM
الجراح الحكمي.. القائد الزاهد
(في ذكرى وفاته: 30 رمضان 112هـ)


انتشر الإسلام في شرق العالم الإسلامي على يد قواد أكفاء، أبلوا في سبيل نشر هذا الدين بلاء حسنا، ولم ينظروا في ذلك موقعهم من القيادة، فإذا كانوا قوادا فنعم القواد، وإذا عُزلوا عن القيادة واصطفوا مع الجنود فنعم الأجناد والأعوان للقواد. ومن هؤلاء القواد الذين كان لهم باع في هذه الفتوحات: أبو عقبة الجَرّاح بن عبد الله الحَكَمِيّ، الذي يقول عنه الذهبي: إنه مقدم الجيوش، فارس الكتائب، كان بطلا شجاعا مهيبا، عابدا، قارئا، كبير القدر.

اسمه ونسبه

هو أبو عقبة الجراح بن عبد الله الحكمي، ولد فى دمشق، وكان يلقب ببطل الإسلام، وفارس أهل الشام، والأمير الفاتح. ينسب إلى قبيلة بني الحَكَم أشهر وأعظم قبيلة قحطانية من (مَذْحِج)، وتعتبر قبيلة (حكم) من أقدم القبائل وأشجعها وأكرمها وأطهرها نسبا، وكانوا من آلاف السنين ذوي قوة وبأس، وأسسوا الكثير من الدول.

وقد انقسمت القبيلة إلى مِخْلاف وحَكَم، وظلوا كذلك حتى صدر الإسلام، حيث توحدوا بعد عبد الجد الحكمي الذي بايع الرسول (صلى الله عليه وسلم) في السنة العاشرة هجريا، وكان توحدهما على يد سليمان بن طرف الحكمي.

وقد اشتهرت هذه القبيلة بكون رجالها من علماء الدين، وكانوا على المذهب الشافعي. وتوجد أعداد كبيرة من قبيلة حكم في بلاد فارس، وإلى هذا الفرع ينتمي الجراح الحكمي.

ومن أعلام هذه القبيلة الفارس عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وفروة بن مسيك المرادي الذي ولاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صدقات مذحج، ومحميــة بن جزء الزبيدي الذي ولاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأخماس والغنائم يوم بدر، وعمار بن ياسر العنسي وأسرته من أوائل المؤمنين برسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مكة.

الولايات والفتوح

لمّا تولى الحجاج بن يوسف الثقفي العراق جعله نائبا عنه على البصرة (سنة 75هـ), ثم ولاه عمر بن عبد العزيز على خراسان وسجستان سنة (99هـ= 717م), ثم عزله عمر بن عبد العزيز عن إمرة خراسان.

ولما تولى يزيد بن عبد الملك الخلافة سنة (101هـ= 719م) خلفا لعمر بن عبدالعزيز, ولاه على أرمينية وأذربيجان, فانصرف إليها بجيش كثيف وغزا الخزر وغيرها وافتتح حصن (بلنجر) وحصونا أخرى.

وحين تولى الخلافة هشام بن عبد الملك عزله عنهما ثم أعاده سنة (111هـ= 720م) أميرا عليهما, فانصرف إلى الغزو, وغزا الخزر ونشبت بينه وبينهم معركة ضارية قرب مدينة (أردبيل) فاستشهد فيها، فولي هشام مكانه سعيدا الحرشي.

لماذا العزل؟

كان فى عزل عمر بن عبد العزيز للجراح عبد الله الحكمي دليل على سماحة الإسلام مع غيره من أصحاب الديانات الأخرى، ومن الأمور ذات الدلالة فى هذا السياق أن بعض ولاة الأمويين لم يرحبوا كثيرا باعتناق هؤلاء للإسلام حين لمسوا ما ترتب على ذلك من انخفاض مقدار الجزية التى كانوا يحصلونها منهم بوصفهم ذميين؛ ومن ثم اتخذ بعض ولاة الأمويين قرارا خطيرا وهو الاستمرار فى فرض الجزية على من أسلم، وهو قرار يتصادم تماما مع تعاليم الإسلام، فلا عجب أن يكون مثار شكوى مريرة من الموالي.

ومما يسجله التاريخ لعمر بن عبد العزيز فى هذا الصدد أنه أمر ولاته بإيقاف هذا الإجراء، وكان سبب عزل الجراح عبد الله الحكمى أنه كان يأخذ الجزية ممن أسلم من الكفار، ويقول: أنتم إنما تسلمون فرارا منها؛ فامتنعوا من الإسلام وثبتوا على دينهم وأدوا الجزية، فكتب إليه عمر: إن الله إنما بعث محمدا داعيا ولم يبعثه جابيا.

وركز عمر بن عبد العزيز جهوده على الدعوة إلى الإسلام بالحكمة واللين وحث ولاته على اتباع هذا الأسلوب.

وقد أسلم على يد الجراح بن عبد الله الحكمى أربعة آلاف من أهل خراسان. وكان يقول: تركت الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع.

وفاته

وفي خلافة هشام بن عبد الملك، استشهد في (30 من رمضان 112هـ= 18 من ديسمبر 730م) في قتال الخرز؛ حيث اقتتلوا قتالا شديدا وغلبت الخرز على أذربيجان، وبلغوا إلى قريب الموصل، يقول الواقدي: كان البلاء بمقتل الجراح الحكمي على المسلمين عظيما, فبكوا عليه في كل جند

منقول

عبدالغفور الخطيب
14-11-2006, 04:08 AM
سقوط قرطبة.. تآمر العدو والصديق

(في ذكرى سقوطها: 23 من شوال 633هـ)

على أنقاض دولة الموحدين التي انفكت عراها بعد هزيمتهم المدوية في معركة العقاب في (15 من صفر 609هـ= 16 من يوليو 1212م) المعروفة أمام الجيوش الإسبانية والأوروبية المتحالفة – نجح محمد بن يوسف بن هود في أن يقيم دولة كبيرة ضمت قواعد الأندلس الكبرى، مثل: إشبيلية حاضرة الحكم الموحدي، وشاطبة، وجيان، وغرناطة، ومالقة، وألمرية، وأصبح بعد هذا النجاح زعيم الأندلس وقائد حركة تحريرها والدفاع عنها أمام أطماع النصارى التي ليس لها حد؛ ولذلك دخل في معارك معهم أصابه التوفيق في بعضها، وحلّت به الهزيمة في بعضها الآخر.

ومحمد بن يوسف بن هود كان قبل أن يظهر أمره من أجناد "مرسية" ومن بيت عريق في الزعامة والرياسة، فهو سليل بني هود ملوك سرقسطة أيام حكم الطوائف، استطاع أن يجمع حوله الأتباع والأنصار، وأن يحارب بهم دولة الموحدين، وكانت تمر بظروف حرجة فلم تقو على الوقوف أمامه، فتساقطت مدنها في يده بعدما اشتد أمره وذاع ذكره.

التبعية للدولة العباسية

رأى ابن هود منذ أن استفحل أمره أن ينطوي تحت الخلافة العباسية في بغداد، ويستظل بظلها، وأن يتشح بثوب من الشرعية في انتحال الولاية، ويستقوي بها في محاربة خصومه؛ فرفع الشعار الأسود شعار العباسيين، ودعا للخليفة المستنصر بالله العباسي، وبعث إليه في بغداد يطلب منه مرسومًا بولايته على الأندلس، فبعث به إليه ومعه الخلع والرايات، واستقبل ابن هود مبعوث الخليفة سنة (630هـ= 1233م) وكان يومئذ بغرناطة.

فقرئ المرسوم على الناس، وجاء فيه أن الخليفة قلده "أمر جزيرة الأندلس وما يجري معها من الولايات والبلاد، ويسوغه ما يفتتحه من ممالك أهل الشرك والعناد تقليدًا صحيحًا شرعيًا، ثم يقدم له الخليفة بعض النصائح تتضمن التمسك بتقوى الله، والتزام كتابه وسنة نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأن يكثر من مجالسة الفقهاء والعلماء، ومشاورة العقلاء الألباب، وأن يحسن السيرة في الرعية وأن يُعنى بمجاهدة الكفار.

وبهذا المرسوم صار ابن هود أمير الأندلس الشرعي، وكان ملكه يومئذ يمتد في شرقي الأندلس من الجزيرة وشاطبة حتى ألمرية جنوبًا، وفي وسط الأندلس فيما بين قرطبة وغرناطة، ولم يخرج عن سلطانه سوى عدد قليل من قواعد الأندلس الكبرى.

صراع ومنافسة

ولم يكن ابن هود منفردًا بحكم الأندلس، ولم تتحد قواعدها الكبرى تحت سلطانه فقد نافسه في شرقي الأندلس "أبو جميل زيان بن مردنيش" وكانت بلنسية تحت يده. وفي وسط الأندلس وجنوبها نافسه "محمد بن يوسف الأحمر" وكان زعيمًا شجاعًا مقدامًا، أهلته ملكاته ومواهبه أن يشتد أمره ويضع يده على "جيان" وما حولها، وأن يتطلع إلى أن يبسط سلطانه على قواعد الأندلس في الجنوب.

واستشعر ابن هود بقوة منافسه ابن الأحمر وتوجس منه خيفة ومن تطلعاته الطموحة، فشاء أن يقضي على آمال خصمه قبل أن تتحول إلى حقيقة ويعجز هو عن إيقاف مده والقضاء على خطره، فلجأ إلى السيف لتحقيق ما يتمنى، ولم يكن خصمه القوي في غفلة عما يدبر له، فاستعد ليوم اللقاء، وعقد حلفًا مع "أبي مروان أحمد الباجي" القائم على إشبيلية التي خرجت من سلطان ابن هود.

وكان مما لا بد منه، والتقى الفريقان على مقربة من إشبيلية في معركة حامية في سنة (631هـ=1233م)، وانتصر الحليفان على غريمهما ابن هود، ودخل ابن الأحمر إشبيلية بعد ذلك، وهو يضمر في نفسه التخلص من حليفه الباجي، فدس له من يقتله، وحاول أن يبسط يده على إشبيلية فلم يتمكن، وثار عليه أهلها، وأخرجوه منها بعدما علموا بفعلته مع زعيمهم أبي مروان الباجي، وأرسلوا إلى ابن هود يسلمون له مدينتهم لتكون تحت حكمه وسلطانه.

الرجوع إلى الحق

وحدث ما لم يكن متوقعًا، فقد حل السلم والصلح بين الزعيمين المتخاصمين، ولعلهما أدركا خطر الحرب بينهما واستنزاف الأموال والدماء في معارك لن يستفيد منها سوى عدوهما المشترك ملك قشتالة، فغلّبا صوت العقل وخلق الأخوة على التنافس البغيض، وعقدا الصلح في (شوال 631هـ= يونيو 1234م)، واتفقا على أن يقر ابن الأحمر بطاعة ابن هود على أن يقره الأخير على ولايتي أرجونة وجيان.

وفي هذه الفترة لم يكن فرناندو الثالث يكف عن شن غزواته وحروبه، ولا يهدأ في إرسال جيوشه تعبث في الأرض فسادًا. وكان ابن هود يرده في كل مرة بعقد اتفاقية وهدنة، ويدفع له إتاوة عالية، وينزل له عن بعض الحصون، وكان فرناندو يهدف من وراء غزواته المتتالية أن يرهق المسلمين ويستولي على حصونهم، حتى تأتي الفرصة المواتية فينقض على قرطبة تلك الحاضرة العظيمة ذات المجد الأثيل ويستولي عليها.

ولم تكن المدينة العظيمة في أحسن حالتها، تضطرب الأمور فيها اضطرابًا، تميل مرة إلى ابن الأحمر، ومرة أخرى إلى ابن هود، لا تتفق على رأي، ولا تسلم زمامها لمن يستحق وتمكنه قدرته وكفاءته من النهوض بها، وتفتك الخصومات والأحقاد بها، ويبدو أن الملك القشتالي كان على علم بعورات المدينة، ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض عليها.

غزو قرطبة

وأواخر (ربيع الآخر 633هـ= 1236م) خرج جماعة من فرسان قشتالة المغامرين صوب قرطبة، واحتموا بظلام الليل وخيانة البعض ونجحوا في الاستيلاء على منطقة من مناطق المدينة تعرف بالربض الشرقي، وكانت قليلة السكان، ضعيفة الحراسة، وقتلوا كثيرًا من سكانها، وفر الباقون إلى داخل المدينة، وبعدما زالت المفاجأة جاءت حامية المدينة وهاجموا هؤلاء الغزاة الذين تحصنوا بالأبراج، وبعثوا في طلب النجدة والإمداد، فجاءتهم نجدة صغيرة من إخوانهم النصارى، وتحرك فرناندو على الفور صوب قرطبة، غير ملتزم بالمعاهدة التي عقدها مع ابن هود الذي تتبعه المدينة، وبدأت تتجمع قوات من النصارى تحت أسوار المدينة ويزداد عددها يومًا بعد يوم، وتتوقد قلوبهم حماسة وحمية، وبدأ الملك يضع خطته للاستيلاء على المدينة العظيمة.

موقف ابن هود

تطلع القرطبيون في هذه اللحظات الحرجة إلى ابن هود لإنجادهم والدفاع عن مدينتهم باعتباره حاكم المدينة الشرعي، فاستجاب لهم حين علم بالخطر الداهم الذي يحيط بالمدينة العريقة، وخرج في جيش كبير من بلنسية إلى قرطبة، وعسكر على مقربة منهم، وكان أهل قرطبة ينتظرون مقدمه واشتباكه مع النصارى في موقعة فاصلة، وبدلاً من أن يفعل ذلك ظل واقفًا في مكانه لا يحرك ساكنًا، ولا يتحرش بهم، ولو أنه اشتبك معهم لحقق نصرًا هائلاً وألحق بهم هزيمة كبيرة، فحشودهم لم تكن ذات شأن، جمعتها الحماسة والحمية، وفرسانهم لم يكن يتجاوزا المائتين.

ويختلف المؤرخون في السبب الذي جعل ابن هود يقف هذا الموقف المخزي، وهو الذي ملأ الأندلس كلامًا بأنه سيعمل على تحرير الأندلس من عدوان النصارى، وعلى إحياء الشريعة وسننها. يذهب بعض المؤرخين إلى أن قسوة الجو وهطول الأمطار بشدة ونقصان المؤن هو الذي حمل ابن هود على اتخاذ هذا الموقف.

وتذهب بعض الروايات أن أحد رجال ابن هود وكان مسيحيًا قشتاليًا خدعه وأوهمه بأن الملك في أعداد هائلة من جيشه، مجهزة بأقوى الأسلحة وأفتكها، وأنه لا يأمل أن يتحقق النصر على جيش مثل هذا، فانخدع له ابن هود وتخلى عن نجدة أهل قرطبة، وأيًا كانت الأسباب التي يلتمسها المؤرخون لموقف ابن هود فإن ذلك لن يغير من الحقيقة شيئًا، وهو أن ابن هود ترك قرطبة دون أن ينجدها ويضرب القوات التي تحاصرها، ولم يكن عاجزًا أو ضعيفًا، فقواته كانت تتجاوز خمسة وثلاثين ألف جندي، لكنه لم يفعل.

سقوط قرطبة


لم يعد أمام قرطبة بعد أن تركها ابن هود تلقى مصيرها سوى الصمود ومدافعة الحصار الذي ضربه حولها فرناندو الثالث، الذي قطع عنها كل اتصال عن طريق البر أو عن طريق نهر الوادي الكبير؛ فانقطعت عنها المؤن والإمدادات وكل ما يجعلها تقوى على الصمود، وظل هذا الوضع قائمًا حتى نفدت موارد المدينة المنكوبة ونضبت خزائنها، واضطر زعماء المدينة إلى طلب التسليم على أن يخرجوا آمنين بأموالهم وأنفسهم، فوافق الملك على هذا الشرط.

وفي أثناء المفاوضات علم أهل قرطبة أن الجيش القشتالي يعاني من نقص المؤن مثلما يعانون، فابتسم الأمل في نفوسهم، فتراجعوا عن طلب تسليم المدينة أملاً في أن يدفع نقص المؤن الجيش القشتالي على الرحيل ورفع الحصار، لكن أملهم قد تبدد بعد أن تحالف ملك قشتالة مع ابن الأحمر أمير جيان، فتآمر عليهم العدو والصديق، ولم يجدوا بدًا من التسليم ثانية بعد أن تعاونت الخيانة مع ضياع المروءة والشرف في هذا المصير المحتوم.

وأغرى هذا الموقف المخزي بعض القساوسة الغلاة في أن يصر الملك على فتح المدينة بالسيف وقتل من فيها، لكن الملك رفض هذا الرأي خشية أن يدفع اليأس بأهل قرطبة إلى الصبر والصمود وتخريب المدينة العامرة وكانت درة قواعد الأندلس، فآثر الموافقة على التسليم.

وفي يوم حزين وافق (الثالث والعشرين من شهر شوال 633هـ= 29 من يونيو 1236م) دخل القشتاليون المدينة التليدة، ورُفع الصليب على قمة صومعة جامعها الأعظم، وصمت الأذان الذي كان يتردد في سماء المدينة أكثر من خمسة قرون، وحُوّل المسجد في الحال إلى كنيسة، وفي اليوم التالي دخل فرناندو قرطبة في كوكبة من جنوده وأتباعه، وهو لا يصدق أن ما يحلم به قد تحقق، لا بقدرته وكفاءته وإنما بتنازع المسلمين وتفرقهم، ووطئت أقدامه عاصمة الخلافة في الأندلس لا بشجاعة جنوده وبسالتهم وإنما بجبن قادة المسلمين وحكامهم.. وهكذا سقطت المدينة التليدة التي كانت يومًا ما مركز الحكم، ومثوى العلوم والأدب، ومفخرة المسلمين..


منقول

عبدالغفور الخطيب
29-11-2006, 04:16 AM
ميسلون.. معركة الشرف العسكري والكرامة

(في ذكرى نشوبها: 8 من ذي القعدة 1338هـ)


اجتمع المؤتمر السوري في (16 من جمادى الآخرة 1338هـ= 8 من مارس 1920م)، واتخذ عدة قرارات تاريخية تنص على إعلان استقلال سوريا بحدودها الطبيعية استقلالا تاما بما فيها فلسطين، ورفض ادعاء الصهيونية في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وإنشاء حكومة مسئولة أمام المؤتمر الذي هو مجلس نيابي، وكان يضم ممثلين انتخبهم الشعب في سوريا ولبنان وفلسطين، وتنصيب الأمير فيصل ملكًا على البلاد. واستقبلت الجماهير المحتشدة في ساحة الشهداء هذه القرارات بكل حماس بالغ وفرحة طاغية باعتبارها محققة لآمالهم ونضالهم من أجل التحرر والاستقلال.

وتشكلت الحكومة برئاسة رضا باشا الركابي، وضمت سبعة من الوزراء من بينهم فارس الخوري وساطع الحصري، ولم يعد فيصل في هذا العهد الجديد المسئول الأول عن السياسة، بل أصبح ذلك منوطًا بوزارة مسئولة أمام المؤتمر السوري، وتشكلت لجنة لوضع الدستور برئاسة هاشم الأتاسي، فوضعت مشروع دستور من 148 مادة على غرار الدساتير العربية، وبدأت الأمور تجري في اتجاه يدعو إلى التفاؤل ويزيد من الثقة.

مؤتمر سان ريمو

غير أن هذه الخطوة الإصلاحية في تاريخ البلاد لم تجد قبولا واستحسانًا من الحلفاء، ورفضت الحكومتان: البريطانية والفرنسية قرارات المؤتمر في دمشق، واعتبرت فيصل أميرًا هاشميًا لا يزال يدير البلاد بصفته قائدًا للجيوش الحليفة لا ملكًا على دولة. ودعته إلى السفر إلى أوروبا لعرض قضية بلاده؛ لأن تقرير مصير الأجزاء العربية لا يزال بيد مؤتمر السلم.

وجاءت قرارات مؤتمر السلم المنعقد في "سان ريمو" الإيطالية في (6 من شعبان 1338هـ= 25 من إبريل 1920م) مخيبة لآمال العرب؛ فقد قرر الحلفاء استقلال سوريا تحت الانتداب الفرنسي، واستقلال العراق تحت الانتداب البريطاني، ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وكان ذلك سعيًا لتحقيق وعد بلفور لليهود فيها. ولم يكن قرار الانتداب في سان ريمو إلا تطبيقًا لاتفاقية سايكس ـ بيكو المشهورة، وإصرارا قويا من فرنسا على احتلال سوريا.

وكان قرار المؤتمر ضربة شديدة لآمال الشعب في استقلال سوريا ووحدتها، فقامت المظاهرات والاحتجاجات، واشتعلت النفوس بالثورة، وأجمع الناس على رفض ما جاء بالمؤتمر من قرارات، وكثرت الاجتماعات بين زعماء الأمة والملك فيصل، وأبلغوه تصميم الشعب على مقاومة كل اعتداء على حدود البلاد واستقلالها.

رفض فيصل قرارات المؤتمر

وتحت تأثير الضغط الوطني وازدياد السخط الشعبي، رفض فيصل بدوره قرارات مؤتمر سان ريمو، وبعث إلى بريطانيا وفرنسا برفضه هذا؛ لأن هذه القرارات جاءت مخالفة لأماني الشعب في الوحدة السورية والاستقلال، ولفصلها فلسطين عن سوريا، ورفض الذهاب إلى أوروبا لعرض قضية بلاده أمام مؤتمر السلم ما لم تتحقق شروطه في الاعتراف باستقلال سوريا بما فيها فلسطين، ودارت مراسلات كثيرة بينه وبين الدولتين بخصوص هذا الشأن، لمحاولة الخروج من المأزق الصعب الذي وضعته فيه قرارات مؤتمر سان ريمو، غير أن محاولاته تكسرت أمام إصرار الدولتين على تطبيق ما جاء في المؤتمر.

وفي أثناء ذلك تشكلت حكومة جديدة برئاسة هاشم الأتاسي في (14 من شعبان 1338هـ= 3 من مايو 1920م) ودخلها وزيران جديدان من أشد الناس مطالبة بالمقاومة ضد الاحتلال، هما: يوسف العظمة، وعبد الرحمن الشهبندر، وقدمت الوزارة الجديدة بيانها الذي تضمن تأييد الاستقلال التام، والمطالبة بوحدة سوريا بحدودها الطبيعة، ورفض كل تدخل يمس السيادة القومية. واتخذت الوزارة إجراءات دفاعية لحماية البلاد، ووسعت نطاق التجنيد بين أبناء الشعب استعدادًا للدفاع عن الوطن.

الإنذار الفرنسي

كان من نتيجة إصرار القوى الوطنية السورية على رفض قرارات مؤتمر سان ريمو أن اتخذت فرنسا قرارًا بإعداد حملة عسكرية وإرسالها إلى بيروت؛ استعدادًا لبسط حكمها على سوريا الداخلية مهما كلفها الأمر، وساعدها على الإقدام أنها ضمنت عدم معارضة الحكومة البريطانية على أعمالها في سوريا، وكانت أخبار الحشود العسكرية على حدود المنطقة الشرقية في زحلة وقرب حلب تتوالى، ثم لم يلبث أن وجه الجنرال "غورو" قائد الحملة الفرنسية الإنذار الشهير إلى الحكومة العربية بدمشق في (27 من شوال 1338هـ= 14 من يوليو 1920م) يطلب فيه: قبول الانتداب الفرنسي، وتسريح الجيش السوري، والموافقة على احتلال القوات الفرنسية لمحطات سكك الحديد في رياق وحمص وحلب وحماه.

وطلب الجنرال قبول هذه الشروط جملة أو رفضها جملة، وحدد مهلة لإنذاره تنتهي بعد أربعة أيام، فإذا قبل فيصل بهذه الشروط فعليه أن ينتهي من تنفيذها كلها قبل (15 من ذي القعدة 1338هـ= 31 من يوليو 1920م) عند منتصف الليل، وإذا لم يقبل فإن العاقبة لن تقع على فرنسا، وتتحمل حكومة دمشق مسئولية ما سيقع عليها.

ولما سمع الناس بخبر هذا الإنذار، اشتعلت حماستهم وتفجرت غضبًا، وأقبلوا على التطوع، فامتلأت بهم الثكنات العسكرية، واشتد إقبال الناس على شراء الأسلحة والذخائر، وأسرعت الأحياء في تنظيم قوات محلية للحفاظ على الأمن.

قبول فيصل بالإنذار

اجتمع الملك فيصل بمجلس الوزراء في (29 من شوال 1338 هـ= 16 من يوليو 1920م) لبحث الإنذار، ووضع الخطة الواجب اتباعها قبل انقضاء مهلته، وكان رأي يوسف العظمة وزير الدفاع أنه يوجد لدى الجيش من العتاد والذخيرة ما يمكنه من مقاومة الفرنسيين لكنها لم تكن كافية للصمود طويلا أمام الجيش الفرنسي البالغ العدد والعتاد، واتجه رأي الأغلبية عدا العظمة إلى قبول الإنذار الفرنسي، وبقي أمام فيصل أخذ موافقة أعضاء المؤتمر السوري على قبول الإنذار؛ فاجتمع بهم في قصره، لكن الاجتماع لم يصل إلى قرار، فاجتمع الملك فيصل مع مجلس وزرائه ثانية وأعلنوا جميعًا قبولهم الإنذار، وبدأت الحكومة في تسريح الجيش دون خطة أو نظام، فخرج الجنود من ثكناتهم بعد أن تلقوا الأوامر بتسريحهم ومعهم أسلحتهم، واختلطوا بالجماهير المحتشدة الغاضبة من قبول الحكومة بالإنذار، فاشتدت المظاهرات وعلت صياحات الجماهير، وعجزت الشرطة عن الإمساك بزمام الأمور.

معركة ميسلون

وفي ظل هذه الأجواء المضطربة وصلت الأخبار إلى دمشق بتقدم الجيش الفرنسي، بقيادة غورو في (5 من ذي القعدة 1338هـ= 21 من يوليو 1920م) نحو دمشق بعد انسحاب الجيش العربي، محتجًا بأن البرقية التي أرسلها فيصل بقبوله الإنذار لم تصل بسبب انقطاع أسلاك البرق من قبل العصابات السورية، وإزاء هذه الأحداث وافق الملك فيصل على وقف تسريح الجيش، وأعيدت القوات المنسحبة إلى مراكز جديدة مقابل الجيش الفرنسي، وأرسل إلى غورو يطلب منه أن يوقف جيشه حتى يرسل له مندوبًا للتفاهم معه حقنًا للدماء، لكن هذه المحاولة فشلت في إقناع الجنرال المغرور الذي قدم شروطًا جديدة تمتهن الكرامة العربية والشرف الوطني حتى يبقى الجيش الفرنسي في مكانه دون تقدم، وكان من بين هذه الشروط تسليم الجنود المسرّحين أسلحتهم إلى المستودعات، وينزع السلاح من الأهالي.

رفضت الوزارة شروط غورو الجديدة، وتقدم يوسف العظمة لقيادة الجيش السوري دفاعًا عن الوطن، في الوقت الذي زحف فيه الجيش الفرنسي نحو خان ميسلون بحجة توفر الماء في المنطقة، وارتباطها بالسكك الحديدية بطريق صالح للعجلات، وأصبح على قرب 25 كم من دمشق.

وفي هذه الأثناء كانت المظاهرات لا تزال تملأ دمشق تنادي بإعلان الجهاد ضد الفرنسيين، وأصدر فيصل منشورا يحض الناس على الدفاع بعد أن فشلت كل المحاولات لإقناع الفرنسي عن التوقف بجيشه.

خرج يوسف العظمة بحوالي 4000 جندي يتبعهم مثلهم أو أقل قليلا من المتطوعين إلى ميسلون، ولم تضم قواته دبابات أو طائرات أو تجهيزات ثقيلة، واشتبك مع القوات الفرنسية في صباح يوم (8 من ذي القعدة 1338هـ=24 من يوليو 1920م) في معركة غير متكافئة، دامت ساعات، اشتركت فيها الطائرات الفرنسية والدبابات والمدافع الثقيلة.

وتمكن الفرنسيون من تحقيق النصر؛ نظرًا لكثرة عددهم وقوة تسليحهم، وفشلت الخطة التي وضعها العظمة، فلم تنفجر الألغام التي وضعها لتعطيل زحف القوات الفرنسية، وتأخرت عملية مباغتة الفرنسيين، ونفدت ذخائر الأسلحة.

وعلى الرغم من ذلك فقد استبسل المجاهدون في الدفاع واستشهد العظمة في معركة الكرامة التي كانت نتيجتها متوقعة خاضها دفاعًا عن شرفه العسكري وشرف بلاده، فانتهت حياته وحياة الدولة التي تولى الدفاع عنها.

ولم يبق أمام الجيش الفرنسي ما يحول دون احتلال دمشق في اليوم نفسه، لكنه القائد المعجب بنصره آثر أن يدخل دمشق في اليوم الثاني محيطًا نفسه بأكاليل النصر وسط جنوده وحشوده.

منقول

عبدالغفور الخطيب
03-12-2006, 03:55 AM
جلولاء.. حنث مَن حلفوا بالنار

(في ذكرى وقوعها: 12 من ذي القعدة 16هـ)


لما سار كسرى (يزدجرد بن شهريار) من المدائن هاربًا إلى حلوان(مدينة من مدن الجبل على مقربة من خانقين) شرع في أثناء الطريق في جمع رجال وأعوان وجنود، من البلدان التي هناك، فاجتمع إليه خلق كثير، وجم غفير من الفرس، وأمر على الجميع مهران، وسار كسرى إلى حلوان، وأقاموا في جلولاء واحتفروا خندقا عظيما حولها، واستعدوا لملاقاة المسلمين.

كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر يخبره بذلك، فكتب إليه عمر، أن يقيم هو بالمدائن، ويبعث ابن أخيه هاشم بن عتبة أميرًا على الجيش الذي يبعثه إلى كسرى، ويكون على المقدمة القعقاع بن عمرو، وعلى الميمنة سعد بن مالك، وعلى الميسرة أخوه عمرو بن مالك، وعلى الساقة عمرو بن مرة الجهني.

ففعل سعد ذلك، وبعث مع ابن أخيه جيشًا كثيفًا يقارب اثني عشر ألفا، من سادات المسلمين ووجوه المهاجرين والأنصار، ورءوس العرب.

وبعد فراغهم من أمر المدائن ساروا حتى انتهوا إلى المجوس وهم بجلولاء قد أحاطوا أنفسهم بالخنادق، فحاصرهم هاشم بن عتبة، وكانوا يخرجون من بلدهم للقتال في كل وقت، فيقاتلون قتالا لم يسمع بمثله. وجعل كسرى يبعث إليهم الأمداد، وكذلك سعد يبعث المدد إلى ابن أخيه، مرة بعد أخرى. وحمى القتال، واشتد النزال، واضطرمت نار الحرب، وقام في الناس هاشم فخطبهم غير مرة، فحرضهم على القتال، والتوكل على الله.

وتعاقدت الفرس وتعاهدت، وحلفوا بالنار أن لا يفروا أبدا حتى يفنوا العرب. فلما كان الموقف الأخير، وهو يوم الفيصل والفرقان، تواقفوا من أول النهار، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله، حتى فنى النشاب من الطرفين، وتقصفت الرماح من هؤلاء ومن هؤلاء، وصاروا إلى السيوف والطبرزنيات. وحانت صلاة الظهر فصلى المسلمون إيماء، وذهبت فرقة المجوس وجاءت مكانها أخرى، فقام القعقاع بن عمرو في المسلمين فقال: أهالكم ما رأيتم أيها المسلمون؟ قالوا: نعم إنا كالون وهم مريحون. فقال: بل إنا حاملون عليهم، ومجدون في طلبهم حتى يحكم الله بيننا، فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى نخالطهم. فحمل وحمل الناس.

لذلك سُميت جلولاء

فأما القعقاع فإنه صمم الحملة في جماعة من الفرسان والأبطال والشجعان، حتى انتهى إلى باب الخندق، وأقبل الليل بظلامه، وجالت بقية الأبطال بمن معهم في الناس، وجعلوا يأخذون في التحاجز من أجل إقبال الليل، وفي الأبطال يومئذ طليحة الأسدي، وعمرو بن معدي كرب، وقيس بن مكشوح، وحجر بن عدي، ولم يعلموا بما صنعه القعقاع في ظلمة الليل، ولم يشعروا بذلك، لولا مناديه ينادي: أين أيها المسلمون! هذا أميركم على باب خندقهم. فلما سمع ذلك المجوس فروا، وحمل المسلمون نحو القعقاع بن عمرو، فإذا هو على باب الخندق قد ملكه عليهم، وهربت الفرس كل مهرب، وأخذهم المسلمون من كل وجه، وقعدوا لهم كل مرصد، فقتل منهم في ذلك الموقف مائة ألف، حتى جللوا وجه الأرض بالقتلى، فلذلك سميت جلولاء . وغنموا من الأموال والسلاح والذهب والفضة قريبا مما غنموا من المدائن قبلها.

وبعث هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو في إثر من انهزم منهم وراء كسرى، فساق خلفهم حتى أدرك مهران منهزما، فقتله القعقاع بن عمرو، وأفلتهم الفيرزان فاستمر منهزما، وأسر سبايا كثيرة بعث بها إلى هاشم بن عتبة، وغنموا دواب كثيرة جدا. ثم بعث هاشم بالغنائم والأموال إلى عمه سعد بن أبي وقاص، فنفل سعد ذوي النجدة، ثم أمر بقسم ذلك على الغانمين.

الخطيب المصقع

وكان المال المتحصل من وقعة جلولاء ثلاثين ألف ألف(30 مليونا)، وكان الذي ولي قسم ذلك بين المسلمين وتحصيله سلمان بن ربيعة (رضي الله عنه). ثم بعث بالأخماس من المال والرقيق والدواب مع زياد بن أبي سفيان، وقضاعي بن عمرو، وأبي مفزر الأسود. فلما قدموا على عمر سأل عمر زياد بن أبي سفيان عن كيفية الوقعة، فذكرها له، وكان زياد فصيحا، فأعجب إيراده لها عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وأحب أن يسمع المسلمون منه ذلك، فقال له: أتستطيع أن تخطب الناس بما أخبرتني به؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحد على وجه الأرض أهيب عندي منك، فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك؟ فقام في الناس فقص عليهم خبر الوقعة، وكم قتلوا، وكم غنموا، بعبارة عظيمة بليغة، فقال عمر: إن هذا لهو الخطيب المصقع. يعني الفصيح. فقال زياد: إن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا.

جاءت الدنيا فبكى عمر

ثم حلف عمر بن الخطاب أن لا يجن هذا المال الذي جاءوا به سقف حتى يقسمه، فبات عبد الله بن أرقم وعبد الرحمن بن عوف يحرسانه في المسجد، فلما أصبح جاء عمر في الناس، بعدما صلى الغداة وطلعت الشمس، فأمر فكشف عنه جلابيبه، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وذهبه الأصفر وفضته البيضاء بكى عمر، فقال له عبد الرحمن: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا لموطن شكر. فقال عمر: والله ما ذاك يبكيني، وتالله ما أعطى الله هذا قومًا إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى بأسهم بينهم. ثم قسمه كما قسم أموال القادسية.

منقول

عبدالغفور الخطيب
05-12-2006, 03:45 AM
ابن الهيثم.. عبقري في ثوب الجنون

(في ذكرى وفاته 14 ذي القعدة 430 هـ )



بحث فلاسفة اليونان القدماء وعلماؤها في علم الضوء، ولم تكن بحوثهم وافية أو عميقة، فذهب إقليدس في بحوثه إلى أن العين تحدث في الجسم الشفاف المتوسط بينها وبين المبصرات شعاعًا ينبعث منها، وأن الأشياء التي يقع عليها هذا الشعاع تُبْصَر، والتي لا يقع عليها لا تبصر، وأن الأشياء التي تبصر من زاوية كبيرة تُرى كبيرة، والتي تبصر من زاوية صغيرة ترى صغيرة، وظلت البحوث في علم الضوء تدور في هذا الفلك دون تقدم أو رقي، حتى جاء الحسن بن الهيثم فصحح هذه الأخطاء، وخطى بعلم الضوء خطوات واسعة، بلغ فيه ما لم يبلغه من قبل، ولم يتجاوزه من بعده إلا بعد مضي قرون عديدة.

وعلى الرغم من مكانة ابن الهيثم وبحوثه المبتكرة في علم الضوء، فقد ظل مغمورًا، لا يعرفه كثير من الناس، ولولا أن قيض الله له من يكشف عن جهوده ويجلي آثاره، لبقي في مجاهل النسيان، وكان العالم العربي مصطفى نظيف واحدًا من هؤلاء، فقد كتب عنه دراسة رائدة نشرتها جامعة القاهرة في مجلدين، بذل فيها جهدًا مضنيًا في قراءة مخطوطات ابن الهيثم ومئات المراجع، حتى خلص إلى حقيقة صادقة بأن ابن الهيثم هو واضع أسس علم الضوء بالمعنى الحديث.

وفي ذكرى وفاة مصطفى نظيف الذي سبق أن تناولنا حياته وجهوده العلمية في (23 من جمادى الآخرة) نعيد ذكرى الحسن بن الهيثم، بالحديث عنه؛ وفاء للرجلين وإحياء لماضٍ عظيم نحاول استلهامه في مسيرة حياتنا.

المولد والنشأة

في البصرة كان مولد أبي علي الحسن بن الهيثم سنة (354هـ= 965م)، وبها نشأ وتعلم، ولا يعرف شيء عن نشأته الأولى سوى أنه عاش في فترة مزدهرة، ظهر فيها أساطين العلم في الفلسفة والطب والكيمياء والرياضيات والفلك، فجذبته هذه العلوم فأقبل عليها بهمة لا تعرف الكلل وعزيمة لا يتطرق إليها وهن، فقرأ ما وقع تحت يديه من كتب المتقدمين والمتأخرين، ولم يكتفِ بالاطلاع عليها والقراءة فيها، وإنما عني بتخليصها ووضع مذكرات ورسائل في موضوعات تلك العلوم وظل مشتغلا بهذه العلوم، وبالتصنيف فيها فترة طويلة حتى ذاعت شهرته، وسمع بها الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، فتاقت نفسه إلى الاستعانة به، وزاد من رغبته ما نمي إليه ما يقوله ابن الهيثم: "لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص"، وكان ابن الهيثم في هذه الفترة قد تجاوز الستين من عمره، اشتهر في العالم الإسلامي باعتباره عالمًا في الهندسة له فيها آراء واجتهادات.

في القاهرة

رغّب الحاكم إلى ابن الهيثم الحضور إلى مصر والاستقرار فيها، فلما وصل أكرمه، وطلب منه تنفيذ ما قاله بخصوص النيل، فذهب الحسن إلى أسوان ومعه جماعة من الصناع المحترفين في أعمال البناء ليستعين بهم على تنفيذ فكرته التي خطرت له، غير أنه لما عاين الموقع الذي اختاره لتنفيذ مشروعه وجده لا يصلح مع ما فكر فيه، وأن تنفيذه يكاد يكون مستحيلا، فبناء جسم على النيل في ذلك الوقت تفوق إمكانات عصره وفوق طاقة رجاله، فعاد الحسن بن الهيثم خجلا إلى القاهرة، واعتذر للخليفة الحاكم، فتظاهر بقبول عذره، وولاه بعض الدواوين، فتولاها ابن الهيثم رهبة لا رغبة، ولو أنصف الحاكم لجعله في زمرة من جمعهم من العلماء في دار الحكمة ولصرفه عن الوظيفة، فما كان لمثله أن يصلح لهذا العمل، وهو الذي اعتاد حياة البحث والدراسة.

غير أن توليه هذا المنصب لم يكن ليجعله في مأمن من نزوات الحاكم الطائشة، وهو متقلب المزاج، سريع البطش والعقاب، وخشي ابن الهيثم من هذه التقلبات، وفي الوقت نفسه لم يكن قادرًا على التخلي عن عمله والانسحاب منه؛ خوفًا من غدر الحاكم بأمر الله، فلم يجد وسيلة للتخلص مما فيه إلا ادعاء الجنون وإظهار البله والعته، فلما بلغ الحاكم ذلك عزله عن منصبه وصادر أمواله، وأمر بحبسه في منزله، وجعل عليه من يخدمه، وظل العالم النابه على هذه الحالة التعسة حتى تُوفي الحاكم بأمر الله، فعاد إلى الظهور والاشتغال بالعلم، واستوطن دارًا بالقرب من الجامع الأزهر، وأقام بالقاهرة مشتغلا بالعلم والتصنيف ونسخ الكتب القديمة حتى توفي سنة (430هـ= 1038م) تقريبًا.

نشاطه العلمي واكتشافاته

كان ابن الهيثم غزير التأليف متدفق الإنتاج في شتي أنواع المعرفة، فطرق الفلسفة والمنطق والطب والفلك والبصريات والرياضيات، مستحدثًا أنماطًا جديدة من الفكر العلمي الأصيل، وقد بلغ عدد مؤلفاته مائتي مؤلف بالإضافة للرسائل الفكرية والمقالات الأخرى، ويتعجب المرء: كيف اتسعت الحياة لرجل ليؤلف فيها كل هذه الكتب المتنوعة في فروع مختلفة من العلم، مع ما فيها من الدقة وغزارة العلم والتجديد والابتكار؟ لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء.

وقد ألف ابن الهيثم في البصريات ما يقرب من أربعة وعشرين موضوعًا ما بين كتاب ورسالة ومقالة، غير أن أكثر هذه الكتب قد فُقدت فيما فقد من تراثنا العلمي، وما بقي منها فقد ضمته مكتبات إستانبول ولندن وغيرهما، وقد سلم من الضياع كتابه العظيم "المناظر" الذي احتوى على نظريات مبتكرة في علم الضوء، وظل المرجع الرئيسي لهذا العلم حتى القرن السابع عشر الميلادي بعد ترجمته إلى اللاتينية.

والحسن بن الهيثم هو أول مَن بَيَّنَ خطأ نظرية إقليدس وغيره في أن شعاع الضوء ينبعث من العين ويقع على المبصَر، وقرر عكس هذه النظرية، في أن شعاع الضوء يخرج من الشيء المبصر ويقع على العين، واستدل بالتجربة والمشاهدة على أن امتداد شعاع الضوء يكون على خط مستقيم.

وعرف ابن الهيثم الأجسام الشفافة، وهي التي ينفذ منها الضوء ويدرك البصر ما وراءها كالهواء والماء، وبيّن أن الضوء إذا نفذ من وسط شفاف إلى آخر شفاف انعطف عن استقامته.

وبحث في انكسار الأشعة الضوئية عند نفاذها في الهواء المحيط بالكرة الأرضية، وبين أن كثافة الهواء في الطبقات السفلى أكبر منها في الطبقات العليا، وأن الهواء لا يمتد من غير نهاية، وإنما ينتهي عند ارتفاع معين، فإذا مر شعاع من الضوء خلال هذه الطبقات الهوائية المختلفة الكثافة فإنه ينكسر رويدًا رويدًا وينحني تدريجيًا نحو سطح الأرض، ويترتب على ذلك أن النجم أو الكوكب الذي ترقبه العين يظهر في موضع أقرب من موضعه الحقيقي، وأشار إلى الخطأ الذي ينشأ عن ذلك في الرصد وإلى وجوب تصحيحه.

وشرح الحسن بن الهيثم كيفية حدوث الرؤية، وبين في ذلك تركيب العين، وما يؤديه كل جزء من أجزائها من الأعمال، وقد عزى حدوث الرؤية إلى تكوّن صور المرئيات على ما نسميه الآن "شبكية العين" وانتقال التأثير الحاصل بوساطة العصب البصري، وعلل رؤية الشيء واحدًا على الرغم من النظر إليه بعينين اثنتين بوقوع الصورتين على جزأين متماثلين من الشبكية، وعالج موضوع العدسات وقوة تكبيرها. ويعد ما كتبه في هذا الموضوع ممهدًا لاستخدام العدسات لإصلاح عيوب العين.

وكان لهذه الجهود أثرها في تقدم ورقي علم الضوء ونيل تقدير العلماء، فوصفه جورج ساتون وهو من كبار مؤرخي العلم بقوله "هو أعظم عالم فيزيائي مسلم، وأحد كبار العلماء الذين بحثوا في البصريات في جميع العصور"، وقد تُرجمت بحوثه في البصريات إلى اللاتينية والإيطالية، فأفادت كبلر واعتمد عليها في بحوثه، وخلاصة القول أن ابن الهيثم جعل علم الضوء يتخذ صبغة جديدة، وينشأ نشأة أخرى غير نشأته الأولى، حتى أصبح أثره في علم الضوء يشبه تأثير نيوتن العام في علم الميكانيكا، فكانت المعلومات في علم الضوء قبل ابن الهيثم متفرقة لا يربطها رابط، فأعاد البحث فيها من جيد، واتجه في بحثه وجهة لم يسبقه إليها أحد من قبله، فأصلح الأخطاء وأتم النقص، وابتكر المستحدث من البحوث، وأضاف الجديد من الكشوف، واستطاع أو يؤلف من ذلك كله وحدة مترابطة الأجزاء، وأقام الأساس الذي انبنى عليه صرح علم الضوء.

وإلى جانب ذلك كانت له مساهماته في الهندسة، وله فيها ثمانية وخمسون مؤلفًا، تضم آراءه وبراهينه المبتكرة لمسائل تواترت عن إقليدس وأرشميدس بدون برهان أو في حاجة إلى شرح وإثبات. ويوجد في مكتبات العالم في القاهرة ولندن وباريس وإستانبول أكثر من واحد وعشرين مخطوطا لابن الهيثم في هذا التخصص، وفي الحساب والجبر والمقابلة ألّف ما لا يقل عن عشرة كتب، لا يوجد منها سوى مخطوطات قليلة في مكتبة عاطف بتركيا منها: حساب المعاملات، واستخراج مسألة عددية.

وفي الفلك أبدع ابن الهيثم وأسهم فيه بفاعلية حتى أُطلق عليه "بطليموس الثاني"، ولم يصلنا من تراث ابن الهيثم في الفلكيات إلا نحو سبع عشرة مقالة من أربعة وعشرين تأليفًا، تحدث فيها عن أبعاد الأجرام السماوية وأحجامها وكيفية رؤيتها وغير ذلك.

وله في الطب كتابان: أحدهما في "تقويم الصناعة الطبية" ضمّنه خلاصة ثلاثين كتابا قرأها لجالينوس، والآخر "مقالة في الرد على أبي الفرج عبد الله بن الطيب" لإبطال رأيه الذي يخالف فيه رأي جالينوس، وله أيضًا رسالة في تشريح العين وكيفية الإبصار.

انتقال أعماله إلى أوربا

وقد عني كمال الدين الفارسي ببحوث ابن الهيثم في البصريات ودرسها دراسة وافية وألف في ذلك كتابه المعروف "تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر"، وعن طريق هذا الكتاب عرفت أوروبا الكثير عن ابن الهيثم وأعماله وجهوده في علم الضوء، حيث نشر هذا الكتاب مترجمًا في مدينة بال بسويسرا سنة (980هـ= 1572)، وإن كان قد سبق نشره قبل اختراع الطباعة من قبل "جيرار دي كريمونا" أشهر المترجمين في إسبانيا، الذي اهتم بإنشاء أضخم مجموعة فلكية سنة (676هـ= 1277م) عن العلماء العرب، وهذه الكتب استفادت منها إسبانيا والبرتغال في رحلاتهما البحرية في المحيط الأطلنطي بفضل الأزياج الفلكية (الجداول الفلكية) والمعلومات الرياضية التي خلفها العلماء العرب.

وعن طريق هذه الترجمات لأعمال ابن الهيثم تأثر روجر بيكون وجون بيكام وفيتلو في بحوثهم، فكتاب جون بكان الموسوم بالمنظور ليس إلا اقتباسًا ناقصًا من كتاب ابن الهيثم في البصريات، وأما كتاب فيتلو الذي ألفه سنة (669هـ= 1270م) فمأخوذ في قسم كبير منه عن ابن الهيثم، ولا يتجاوز النتائج التي وصل إليها.


منقول

عبدالغفور الخطيب
11-12-2006, 03:23 AM
ابن النفيس.. الكاشف والمكشوف

(بمناسبة ذكرى وفاته: 21 من ذي القعدة 687هـ)



لم يأخذ الطبيب العربي "علاء الدين بن النفيس" حقه من الذيوع والشهرة مثل غيره من أطباء المسلمين النابهين، حتى جاء "محيي الدين التطاوي" وهو طبيب مصري كان يدرس في ألمانيا، فكشف عن جهود ابن النفيس في أطروحة علمية لنيل درجة الدكتوراه سنة (1343هـ = 1924) بعنوان: "الدموية الرئوية وفقًا للقرشي". وكان هذا الطبيب النابه قد اطّلع على المخطوطات العربية بمكتبة برلين، فعثر على مخطوطة لابن النفيس بعنوان: "شرح تشريح القانون" أي قانون ابن سينا، فعني بدراسة المخطوطة جيدًا، وبصاحبها، وكتب رسالته العلمية وقدمها لجامعة "فرايبورج" بألمانيا.

غير أن أساتذته والمشرفين على الرسالة أصابتهم الدهشة حين اطلعوا على ما فيها، ولم يصدقوا ما كتبه عن ثقة ويقين، فأرسلوا نسخة من الرسالة إلى الدكتور "مايرهوف" الطبيب المستشرق الألماني الذي كان إذ ذاك بالقاهرة، وطلبوا رأيه فيما كتبه هذا الباحث النابه، فلما قرأ الرسالة أيّد ما فيها، وأبلغ حقيقة ما كشفه من جهود ابن النفيس إلى المؤرخ "جورج سارتون" فنشر هذه الحقيقة في آخر جزء من كتابه المعروف "تاريخ العلم"، ثم بادر مايرهوف إلى البحث عن مخطوطات أخرى لابن النفيس وعن تراجم له، ونشر نتيجة بحوثه في عدة مقالات، ومنذ ذلك الحين بدأ الاهتمام بهذا العالم الكبير وإعادة اكتشافه.

ويعد علاء الدين واحدا من أعظم الأطباء الذين ظهروا على امتداد تاريخ الطب العربي الإسلامي، مثل أبي بكر الرازي، وابن سينا، والزهراوي. وهو صاحب كتاب "الشامل في الصناعة الطبية"، وهو أضخم موسوعة طبية يكتبها شخص واحد في التاريخ الإنساني.

حياة ابن النفيس



في قرية "قَرْش" بالقرب من دمشق ولد "علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي" سنة (607هـ = 1210م) وبدأ تعليمه مثل غيره من المتعلمين؛ فحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة. وقرأ شيئًا من النحو واللغة والفقه والحديث، قبل أن ينصرف إلى دراسة الطب التي اتجه إليها سنة (629هـ = 1231م) وهو في الثانية والعشرين من عمره بعد أزمة صحية ألمّت به. ويقول هو عنها: "قد عرض لنا حميات مختلفة، وكانت سنّنا في ذلك الزمان قريبة من اثنتين وعشرين سنة. ومن حين عوفينا من تلك المرضة حَمَلنا سوء ظننا بأولئك الأطباء (الذين عالجوه) على الاشتغال بصناعة الطب لننفع بها الناس".

وتذكر المصادر التاريخية أنه تعلم قبل ذلك التاريخ على "المهذب الدّخوار" أحد كبار الأطباء في التاريخ الإسلامي، ودرس عليه الطب، وكان رئيسا للأطباء في عصره ويعمل في البيمارستان النوري بدمشق، وتوفي سنة (628هـ = 1230م).

وكانت دمشق في تلك الفترة تحت حكم الأيوبيين الذين كان يعنون بالعلم عامة وبالطب خاصة عناية كبيرة، وجعلوا من دمشق حاضرة للعلوم والفنون، وكانت تضم فيما تضم مكتبة عظيمة تحوي نفائس الكتب، وبيمارستانا عظيما أنشأه نور الدين محمود، واجتذب أمهر أطباء العصر، توافدوا عليه من كل مكان. وفي هذا المعهد العتيد درس ابن النفيس الطب على يد الدخوار، وعمران الإسرائيلي المتوفى سنة (637هـ = 1239م)؛ وكان طبيبًا فذًا وصفه "ابن أبي أصيبعة" الذي زامل ابن النفيس في التلمذة والتدريب على يديه بقوله: "وقد عالج أمراضا كثيرة مزمنة كان أصحابها قد سئموا الحياة، ويئس الأطباء من برئهم، فبرئوا على يديه بأدوية غريبة يصفها أو معالجات بديعة يعرفها".

في القاهرة

وفي سنة (633هـ = 1236م) نزح ابن النفيس إلى القاهرة، والتحق بالبيمارستان الناصري، واستطاع بجدّه واجتهاده أن يصير رئيسًا له، وعميدا للمدرسة الطبية الملتحقة به، ثم انتقل بعد ذلك بسنوات إلى "بيمارستان قلاوون" على إثر اكتمال إنشائه سنة (680هـ = 1281م).

وعاش في القاهرة في بحبوحة من العيش في دار أنيقة، وكان له مجلس يتردد عليه العلماء والأعيان وطلاب العلم يطرحون مسائل الطب والفقه والأدب. ووصفه معاصروه بأنه كان كريم النفس، حسن الخلق، صريح الرأي، متدينًا على المذهب الشافعي؛ ولذلك أفرد له السبكي ترجمة في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" باعتباره فقيهًا شافعيًا. وأوقف قبل وفاته كل ما يملكه من مال وعقار على البيمارستان المنصوري.

ابن النفيس والدورة الدموية

اقترن اسم ابن النفيس باكتشافه الدورة الدموية الصغرى التي سجلها في كتابه "شرح تشريح القانون"، غير أن هذه الحقيقة ظلت مختفية قرونًا طويلة، ونسبت وهمًا إلى الطبيب الإنجليزي "هارفي" المتوفى سنة (1068هـ = 1657م) الذي بحث في دورة الدم بعد ما يزيد على ثلاثة قرون ونصف من وفاة ابن النفيس. وظل الناس يتداولون هذا الوهم حتى أبان عن الحقيقة الدكتور محيي الدين التطاوي في رسالته العلمية.

وكان الطبيب الإيطالي "ألباجو" قد ترجم في سنة (954هـ= 1547م) أقسامًا من كتاب ابن النفيس "شرح تشريح القانون" إلى اللاتينية، وهذا الطبيب أقام ما يقرب من ثلاثين عاما في "الرها" وأتقن اللغة العربية لينقل منها إلى اللاتينية. وكان القسم المتعلق بالدورة الدموية في الرئة ضمن ما ترجمه من أقسام الكتاب، غير أن هذه الترجمة فُقدت، واتفق أن عالما إسبانيًا ليس من رجال الطب كان يدعى "سيرفيتوس" كان يدرس في جامعة باريس اطلع على ما ترجمه "ألباجو" من كتاب ابن النفيس. ونظرًا لاتهام سيرفيتوس في عقيدته، فقد طرد من الجامعة، وتشرد بين المدن، وانتهى به الحال إلى الإعدام حرقًا هو وأكثر كتبه في سنة (1065هـ = 1553م) على أن من عدل الأقدار أن بقيت بعض كتبه دون حرق، كان من بينها ما نقله عن ترجمة ألباجو عن ابن النفيس فيما يخص الدورة الدموية، واعتقد الباحثون أن فضل اكتشافها يعود إلى هذا العالم الإسباني ومن بعده هارفي حتى سنة (1343 = 1924م) حين صحح الطبيب المصري هذا الوهم، وأعاد الحق إلى صاحبه.

وقد أثار ما كتبه الطبيب التطاوي اهتمام الباحثين، وفي مقدمتهم "مايرهوف" المستشرق الألماني الذي كتب في أحد بحوثه عن ابن النفيس: "إن ما أذهلني هو مشابهة، لا بل مماثلة بعض الجمل الأساسية في كلمات سيرفيتوس لأقوال ابن النفيس التي تُرجمت ترجمة حرفية". ولما اطلع "الدوميلي" على المتنين قال: "إن لابن النفيس وصفا للدوران الصغير تطابق كلماته كلمات سيرفيتوس تمامًا، وهكذا فمن الحق الصريح أن يعزى كشف الدوران الرئيس إلى ابن النفيس لا إلى سيرفيتوس أو هارفي".

غير أن اكتشاف الدورة الدموية الصغرى هي واحدة من إسهاماته العديدة فالرجل حسب ما تحدثنا البحوث الجديدة التي كتبت عنه قد اكتشف الدورتين الصغر والكبرى للدورة الدموية، ووضع نظرية باهرة في الإبصار والرؤية،وكشف العديد م الحقائق التشريحي، وجمع شتات المعرفة الطبية والصيدلانية في عصره، وقدم للعلم قواعد للبحث العلمي وتصورات للمنهج العلمي التجريبي.

مؤلفات ابن النفيس

لابن النفيس مؤلفات كثيرة نشر بعضها وما يزال بعضها الآخر حبيس رفوف المخطوطات لم ير النور بعد، من هذه المؤلفات:

- شرح فصول أبقراط، وطبع في بيروت بتحقيق ماهر عبد القادر ويوسف زيدان سنة (1409هـ = 1988م).

- والمهذب في الكحل المجرب، ونشر بتحقيق ظافر الوفائي ومحمد رواس قلعة جي في الرباط سنة (1407هـ = 1986م).

- الموجز في الطب، ونشر عدة مرات، منها مرة بتحقيق عبد المنعم محمد عمر في القاهرة سنة (1406هـ = 1985)، وسبقتها نشرة ماكس مايرهوف ويوسف شاخت ضمن منشورات أكسفورد سنة(1388هـ = 1968م).

- والمختصر في أصول علم الحديث، ونشر بتحقيق يوسف زيدان بالقاهرة سنة (1412هـ = 1991م).

- شرح تشريح القانون، ونشر بتحقيق الدكتور سلمان قطابة بالقاهرة سنة (1408هـ= 1988م) وهو من أهم كتب، وتبرز قيمته في وصفه للدورة الدموية الصغرى، واكتشافه أن عضلات القلب تتغذى من الأوعية المبثوثة في داخلها لا من الدم الموجود في جوفه. ويظهر في الكتاب ثقة ابن النفيس في علمه؛ حيث نقض كلام أعظم طبيبين عرفهما العرب في ذلك الوقت، وهما: جالينوس، وابن سينا.

-غير أن أعظم مؤلفاته تتمثل في موسوعته الكبيرة المعروفة بـ"الشامل في الصناعة الطبية". وقد نهضت إليها همة الدكتور يوسف زيدان في مصر ونجح في جمع أجزاء الكتاب المخطوطة. وتطلع المجمع الثقافي في أبو ظبي إلى هذا العمل، فأخذ على عاتقه نشره محققا، فخرج إلى النور أول أجزاء هذا العمل في سنة (1422هـ = 2001م)، وينتظر توالي خروج الكتاب في أجزاء متتابعة.

وكان ابن النفيس قد وضع مسودات موسوعته في ثلاثمائة مجلد، بيّض منها ثمانين، وهي تمثل صياغة علمية للجهود العلمية للمسلمين في الطب والصيدلة لخمسة قرون من العمل المتواصل. وقد وضعها ابن النفيس لتكون نبراسًا ودليلاً لمن يشتغل بالعلوم الطبية.

وفاته

كان ابن النفيس إلى جانب نبوغه في الطب فيلسوفًا وعالمًا بالتاريخ وفقيها ولغويًا له مؤلفات في اللغة والنحو، حتى كان ابن النحاس العالم اللغوي المعروف لا يرضى بكلام أحد في القاهرة في النحو غير كلام ابن النفيس، وكان يقضي معظم وقته في عمله أو في التأليف والتصنيف أو تعليم طلابه.

وفي أيامه الأخيرة بعدما بلغ الثمانين مرض ستة أيام مرضًا شديدًا، وحاول الأطباء أن يعالجوه بالخمر فدفعها عن فمه وهو يقاسي عذاب المرض قائلا: "لا ألقى الله تعالى وفي جوفي شيء من الخمر"، ولم يطل به المرض؛ فقد توفي في سَحَر يوم الجمعة الموافق (21 من ذي القعدة 687هـ = 17 من ديسمبر 1288م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
19-12-2006, 03:28 AM
كامب ديفيد.. أحداث وأصداء

(في ذكرى إعلان رغبة الزيارة: 28 ذي القعدة 1397هـ)


ستظل زيارة الرئيس المصري أنور السادات لإسرائيل أهم انعطاف في التاريخ العربي المعاصر؛ إذ كانت مفاجأة للجميع وترتب عليها نتائج خطيرة على مجمل الصراع العربي ـ الإسرائيلي؛ إذ شقت هذه الزيارة الصف العربي في مواجهة إسرائيل بين معسكري: السلام، والصمود، وخرجت مصر من الجبهة العربية بمعاهدة سلام منفردة وقّعتها مع إسرائيل تحت الرعاية الأمريكية حصلت بموجبها على سيناء. أما العرب فلم يمتلكوا غير الصياح والضجيج ليعبروا به عن رفضهم لهذه الزيارة، ثم مرت السنون وتهاوت جبهة الصمود، وسارع المعارضون للسلام مع إسرائيل إلى مدريد وأوسلو ووادي عربة، بعدما سبقهم السادات إلى ذلك في القدس.

ورغم ذلك فما زالت مشكلة الشرق الأوسط قائمة ومشتعلة؛ لأن معاهدات السلام التي وقعت مع إسرائيل افتقدت إلى العدل وعودة الحقوق المغتصبة إلى أصحابها، وكان انطلاقها الأول من المصلحة الخاصة لكل دولة أو زعيم، وليس من المصلحة العربية الشاملة.

السلام.. ذلك الحلم الضائع

كان الأمريكيون يعلمون أن عودة سيناء إلى مصر ليست مشكلة في سبيل تحقيق سلام بين مصر وإسرائيل. ومن الناحية الأخرى فإن إسرائيل لم تكن مستعدة لإعادة مرتفعات الجولان إلى سوريا، أو إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقدس. وكان كارتر الذي صعد إلى رئاسة الولايات المتحدة في (1396 هـ= 1976م) يرغب في تحقيق إنجاز سياسي في الخارج لتعزيز مركزه في الداخل، مع إدراكه أن تحقيق السلام في الشرق الأوسط لن يكون إلا بحل المشكلة الفلسطينية، وهذا يعني اعتراف واشنطن بمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي خطوة خطيرة في ظل تعهد الولايات المتحدة لإسرائيل بألا تتفاوض مع المنظمة؛ حتى تعترف بحق إسرائيل في الوجود.

وفي أثناء زيارة السادات لواشنطن في (ربيع الآخر 1397هـ= إبريل 1977م) اقترح عليه كارتر تطبيع العلاقات مع إسرائيل في حالة انسحابها، ولم يمض شهران على هذه الزيارة حتى صعد مناحيم بيجن –زعيم حزب الليكود- ليتولى رئاسة الوزراء.

وقد شهد عام (1398هـ= 1977م] جهودًا دولية لعقد مؤتمر دولي للسلام في جنيف، فأعلن السوفيت والأمريكيون بيانًا مشتركًا لعقد المؤتمر وبمشاركة كافة الأطراف في النزاع، إلا أن إسرائيل استطاعت إفراغ هذا البيان من مضمونه بورقة العمل الأمريكية ـ الإسرائيلية. وأبلغ كارتر وزير الخارجية المصري "إسماعيل فهمي" أنه لن يستطيع ممارسة أية ضغوط كبيرة على إسرائيل؛ لأن ذلك سيكون انتحارًا سياسيًا له، وأبلغ إسماعيل هذه الرسالة إلى السادات، إلا أنها لم تغير من اعتقاده الثابت شيئًا في أن 99.9% من التسوية النهائية يكمن في أيدي الولايات المتحدة.

كان اعتراف الرئيس كارتر بعجزه عن مواجهة إسرائيل والضغط عليها يحتم على القيادة المصرية ألا تتفاوض بمفردها مع إسرائيل والولايات المتحدة أو تعتمد كليًا على الأمريكيين، وإنما الواجب عليها توسيع نطاق السلام، وضمان المساندة العربية في مواجهة إسرائيل، وتشجيع الاتحاد السوفيتي ليلعب دورًا في الحل الشامل لأزمة الشرق أوسط.

جنيف.. والاتصالات السرية

سبقت زيارة السادات للقدس مجموعة من الاتصالات السرية، حيث تم إعداد لقاء سري بين مصر وإسرائيل في المغرب تحت رعاية الملك الحسن الثاني، التقى فيه "موشى ديان" وزير الخارجية الإسرائيلي، و"حسن التهامي" نائب رئيس الوزراء برئاسة الجمهورية. وفي أعقاب تلك الخطوة التمهيدية قام السادات بزيارة لعدد من الدول ومن بينها رومانيا، وتحدث مع رئيسها شاوشيسكو بشأن مدى جدية بيجن ورغبته في السلام، فأكد له شاوشيسكو أن بيجن رجل قوي وراغب في تحقيق السلام.

وبعد هذا اللقاء استقرت فكرة الذهاب للقدس في نفس السادات، وأخبر وزير خارجيته الذي رفض هذا الأمر وقال له: "لن نستطيع التقهقر إذا ما ذهبنا إلى القدس، بل إننا سنكون في مركز حرج يمنعنا من المناورة"، كما أن سيناء لم ولن تكون في يوم ما مشكلة، وأخبره أنه بذهابه إلى القدس فإنه يلعب بجميع أوراقه دون أن يجني شيئًا، وأنه سيخسر الدول العربية، وأنه سيُجبر على تقديم بعض التنازلات الأساسية، ونصحه ألا يعطي إسرائيل فرصة لعزل مصر عن العالم العربي؛ لأن هذه الحالة تمكّن إسرائيل من إملاء شروطها على مصر. واقترح فهمي عليه عقد مؤتمر دولي للسلام في القدس الشرقية تحضره الأمم المتحدة والدول الكبرى لوضع فلسفة أساسية لمعاهدة السلام، مع استمرار مفاوضات السلام في جنيف.

من مجلس الشعب إلى الكنيست!

أبدى السادات اقتناعًا بآراء وزير خارجيته بعد مناقشات استمرت ثماني ساعات دون توقف، ثم طلب منه العمل على إيجاد جبهة عربية موحدة في مؤتمر وزراء الخارجية العرب الذي كان سيعقد في تونس في (ذي الحجة = نوفمبر)، ووافق على زيارة ياسر عرفات للقاهرة وحضوره افتتاح دورة مجلس الشعب في (ذي الحجة 1397هـ= ديسمبر 1977م)، وفي هذه الجلسة الشهيرة أعلن السادات استعداده للذهاب للقدس بل والكنيست الإسرائيلي، وقال: "ستُدهش إسرائيل عندما تسمعني أقول الآن أمامكم إنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم". وانهالت عاصفة من التصفيق من أعضاء المجلس، ولم يكن هذا الهتاف والتصفيف يعني أنهم يعتقدون أنه يريد الذهاب فعلا إلى القدس.

وبعد الخطاب أكد السادات لوزير خارجيته أن تلك المقولة زلّة لسان، وأمر الرقابة أن تمنعها، فحذفت تلك العبارة من خطابه في الصحف. وبعد أيام تم الإعلان عن نية السادات في الذهاب إلى القدس وإلقاء خطاب أمام الكنيست وسط دهشة واستغراب كبيرين. ثم قرر الذهاب إلى دمشق في (5 من ذي الحجة 1397هـ= 16 من نوفمبر 1977م)، والتقى بالرئيس السوري حافظ الأسد الذي حذره من عواقب تلك الزيارة، واعتبرها نكسة للعرب، وسينجم عنها عدم توازن إستراتيجي بين العرب وإسرائيل يجعل إسرائيل تضرب الأقطار العربية التي لا دفاع لها واحدا بعد الآخر. وبعد مناقشات طويلة عقيمة لمدة سبع ساعات عاد السادات إلى القاهرة مقتنعًا بنجاح مبادرته في حل مشاكل مصر الداخلية والخارجية؛ فاستقال وزير الخارجية "إسماعيل فهمي"، وتم تعيين "محمد رياض" وزيرًا مؤقتًا للخارجية، إلا أنه استقال بعد ست دقائق من تعيينه، وخلقت تلك الاستقالات تحديًا كبيرًا للسادات.

رحب بيجن والأمريكيون بزيارة السادات للقدس، وتحدد موعد هذه الزيارة بعد غروب يوم السبت الموافق (8 من ذي الحجة 1397هـ= 19 نوفمبر 1977م). وعشية الزيارة أعلن بيجن سياسة حكومته وهي أن إسرائيل لا يمكن أن تعود إلى حدود عام (1387 هـ= 1967م)، كما أنها لن تعترف بالدولة الفلسطينية، ولن تقبل بإجراء اتصالات مع منظمة التحرير الفلسطينية، ولم يثن هذا الإعلان السادات عن القيام برحلته، وقد اتخذ السادات قرار ذهابه إلى القدس بصورة انفرادية، واعترف كثير من المسئولين المصريين بعدم معرفتهم بالقرار قبل إعلانه، بل وصل إلى حد عدم التصديق بهذا الأمر.

خطاب الكنيست.. لغة عربية

ألقى السادات خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي في (9 من ذي الحجة 1697هـ= 20 من نوفمبر 1977م). وشدد في هذا الخطاب على أن فكرة السلام بينه وبين إسرائيل ليست جديدة، وأنه يستهدف السلام الشامل، وأقر أنه لم يتشاور مع أحد من الرؤساء العرب في شأن هذه الزيارة، واستخدم بعض العبارات العاطفية التي لا تصلح للتأثير في المجتمع الإسرائيلي، مثل: الإشارة إلى أن إبراهيم (عليه السلام) هو جدّ العرب واليهود، واقتران زيارته بعيد الأضحى.

ولم يخرج السادات في خطابه هذا عن الموقف العربي الجماعي، وحاول إظهار نفسه أمام الرأي العام العربي أنه أفضل محام للقضية العربية، غير أن عرضه المطالب العربية كاملة لم يكن يستهدف خلق مركز تفاوضي؛ حيث إن الموقف لا يتطلب مثل هذا الأسلوب؛ لأن التنازلات التي قدمت بعد ذلك كانت كبيرة.

وظن السادات أن خطوته ستحدث انقسامًا في إسرائيل فتنشأ حركة قوية تعتنق مبادئ السلام، وتنجذب أطراف عربية إلى فكرة الاتصال المباشر بإسرائيل، فزاد ذلك من تفاؤله، وبعد عودته من القدس قال للصحفيين: إن قضية الصراع العربي الإسرائيلي التي عاشوا عليها سنين حُلّت، وعليهم أن يبحثوا عن موضوع آخر ليكتبوا فيه. وعندما سئل عن القدس قال: "القدس في جيبي". أما إسرائيل، فكانت صريحة جدًا في هذا الأمر، وأعلنت أن القدس لم تكن موضوعًا للمفاوضات، ولن تعود مدينة مقسمة، وسوف تكون العاصمة الأبدية لإسرائيل.

ميناهاوس والإسماعيلية.. الحقيقة واحدة

لم يفقد السادات الأمل في إشراك أطراف عربية في مبادرته السلمية، فوجه الدعوى لاجتماع أطراف مؤتمر جنيف لعقد مؤتمر في فندق ميناهاوس بالقاهرة، ولم يحضر هذا المؤتمر سوى إسرائيل والولايات المتحدة والأمم المتحدة كمراقب، ورُفع العلم الفلسطيني على مقر الاجتماع بالفندق؛ فاحتج الإسرائيليون وهددوا بمقاطعة المؤتمر؛ فأُنزل العلم، وأصبح السادات معزولا بالكامل عن العالم العربي، وأصبحت قضية السلام مسألة شخصية إذا نجح فيها استقر له الحكم؛ لذلك استخدم آلة الإعلام لإقناع المصريين بأنه يسير في الطريق الأفضل، وبمزايا السلام، وجسامة التضحيات التي قدمتها مصر للعرب.

وحتى لا تفقد المبادرة زخمها دعا السادات بيجن لزيارة مصر، وعقد مؤتمر قمة في الإسماعيلية. يقول وزير الخارجية المصري "محمد إبراهيم كامل" بأنه ذهل أمام تخاذل السادات أمام بيجن الذي تكلم عن حق إسرائيل في الاحتفاظ بالأراضي المحتلة، وعدوان مصر على إسرائيل. وقال بيجن بحدة شديدة: "وقد كان في وسعي أن أبدأ المباحثات بالمطالبات باقتسام سيناء بيننا وبينكم، ولكني لم أفعل".

بدأ حلم السلام يتبدد لدى السادات بعد الإسماعيلية، وذهب عنه تفاؤله وقال للصحفيين: "يبدو أن إسرائيل لم تفهم أو لا تريد أن تفهم أنها حصلت من زيارة القدس على أكثر مما كانت تحلم به عند إنشائها".

وبعد اجتماع الإسماعيلية بشهر واحد اجتمعت اللجنة السياسية من وزراء خارجية مصر وإسرائيل والولايات المتحدة في القدس. وفي أثناء انعقاد تلك اللجنة شرعت إسرائيل في بناء مستوطنات جديدة في سيناء، لاستخدامها كورقة مساومة على مصر. وأراد وزير الخارجية المصري الانسحاب والعودة إلى القاهرة فطلب منه السادات التحلّي بالصبر، حتى نفد صبر السادات واقتنع بعدم جدوى المباحثات، فلم يكن بيجن مستعدًا لقبول تنازلات، وقال وزير الخارجية الإسرائيلي "موشى ديان": "إنه من الأفضل لإسرائيل أن تفشل مبادرة السلام على أن تفقد إسرائيل مقومات أمنها".

وعرض الإسرائيليون على مصر ترك قطاع غزة للإدارة المصرية مقابل تعهد بعدم اتخاذها منطلقًا للأعمال الفدائية، وكان هدفهم من ذلك عدم إثارة موضوع الضفة الغربية، وبذلك تكون إسرائيل حققت هدفًا جوهريًا من أهداف المباحثات وهو التركيز على مسألة الانسحاب من سيناء، بما يؤدي إلى صلح منفرد مع مصر، وتوسيع الهوة بين السادات والفلسطينيين، وهو ما حدث بالفعل عقب اغتيال فلسطينيين لوزير الثقافة المصري "يوسف السباعي" في قبرص.

ورفض السادات إدانة الغزو الإسرائيلي للبنان في (ربيع آخر 1398هـ= مارس 1978م) بثلاثين ألف جندي، متذرعة بعملية فدائية نفذها فدائيون فلسطينيون قُتل فيها 35 إسرائيليا. ويحكي وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل أنه اتصل بالسادات صباح اليوم التالي للغزو ليطلعه على بيان يدين إسرائيل، فسأله السادات: "هل أعطوهم العلقة ولا لسه؟" وكانت إسرائيل أبلغته ليلة الغزو بنيتها في تأديب الفدائيين.

واشنطن.. والجري وراء السراب

كانت واشنطن تريد أن تخرج قضية الشرق الأوسط من دائرة الاهتمام والمشاركة الدولية، لتتركز في يديها وتكون هي وحدها الحكَم بين العرب وإسرائيل. وزار السادات واشنطن في (ربيع أول 1979هـ= فبراير 1978م)، وخرج بيان مشترك ينص على أن قرار مجلس الأمن 242 ينطبق على جميع الجبهات، وأن قضية فلسطين يجب حلها من جميع الجهات، غير أن الرئيس كارتر بدأ بعد عشرة شهور من هذا البيان يروّج لمعاهدة سلام مصرية إسرائيلية، لا ترتبط بالقضية الفلسطينية بصورة مباشرة، أو ترتبط بها بصورة فضفاضة تحتمل عدة تأويلات. وتمّ تجاهل الاتحاد السوفيتي وسوريا.

وفي الاحتفال بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على إنشاء إسرائيل في واشنطن أكد كارتر في حديث صحفي أن التسوية في الشرق الأوسط ستتم دون إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الصفة الغربية، وأكد أن الاعتبار الأول والأهم لسياسته في تلك المنطقة هو أمن إسرائيل الذي سيستمر فوق كل شيء.

شعر السادات أن الإسرائيليين يماطلونه؛ فألقى خطابًا في (شعبان 1398هـ= يوليو 1978م) قال فيه: إن بيجن يرفض إعادة الأراضي التي سرقها إلا إذا استولى على جزء منها كما يفعل لصوص الماشية في مصر.

كامب ديفيد.. ومذبحة التنازلات


اجتمع مجلس وزراء الخارجية العرب في القاهرة (ربيع الآخر 1398هـ= مارس 1978م) بقصد تنقية الأجواء العربية، ووردت أنباء أثناء الاجتماع عن زيارة "عزرا فايتسمان" وزير الدفاع الإسرائيلي للقاهرة بناء على دعوة شخصية من السادات، وفُهم من ذلك أن السادات يتعمّد إحباط هذه المساعي العربية.

وعلى الجانب الآخر أدى التصلب الإسرائيلي إلى إحساسه بالفشل في مبادرته؛ فأنشأ الحزب الوطني الديمقراطي وتولى رئاسته، وزادت قبضته العنيفة على القوى المعارضة لتوجهاته، ثم لجأ إلى الاستفتاء الشعبي على شخصه، ولم ترغب واشنطن أن يتأزم موقف صديقها الجديد في القاهرة بعد فشل مباحثات قلعة ليذر بإنجلترا، وظهور أصوات في مجلس الوزراء المصري تنادي بالاتصال بالأطراف العربية بدلا من التركيز على الاتصالات الثنائية مع إسرائيل، وترددت مصر بين المضي في المبادرة والعودة لمكانها الطبيعي في الصف العربي.. وعندها وضع كارتر ثقله لكيلا تعود مصر إلى الصف العربي، ودعا السادات وبيجن إلى اجتماعات في كامب ديفيد بدأت في (شوال 1398هـ= 6 سبتمبر 1978م)، واستمرت (12) يومًا.

ذهب السادات إلى كامب ديفيد وهو لا يريد أن يساوم، وإنما ردد مشروع قرار مجلس الأمن رقم 242 كأساس للحل. أما كارتر والإسرائيليون فكانوا مقتنعين أن السادات لن يوافق قط على أي وجود إسرائيلي في سيناء، كما أنه لن يصر على موضوع الدولة الفلسطينية، وأدرك الأمريكيون أن السادات لا يمكنه تحمل الفشل على عكس بيجن، فإن الفشل يعني بقاء الوضع الراهن، وبقاء الوجود الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة؛ لذلك كان الموقف الإسرائيلي متصلبًا متشددًا يرفض التنازل، وهو ما جعل السادات يعلن لمرافقيه أنه قرر الانسحاب من كامب ديفيد، فنصحه وزير الخارجية الأمريكي "سايروس فانس" أن يلتقي بكارتر على انفراد، واجتمع الرئيسان نصف ساعة خرج بعدها السادات ليقول للوفد المصري: "سأوقّع على أي شيء يقترحه الرئيس كارتر دون أن أقرأه". وحاول وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل إقناعه بعدم قبول المشروع الأمريكي؛ لأنه هو ذاته مشروع إسرائيل، لكنه لم يجد منه أذنُا صاغية، فقدم استقالته في كامب ديفيد فقبلها السادات، وطلب منه تأجيلها لحين العودة إلى القاهرة.

وفي (15 من شوال هـ= 17 من سبتمبر) تم توقيع اتفاقية كامب ديفيد التي أسماها محمد إبراهيم كامل "مذبحة التنازلات" فلم تشر الاتفاقية للقدس، وتم حذف النص القائل بتحريم إنشاء مستوطنات يهودية، وطلبت إسرائيل وقتًا طويلا للانسحاب من سيناء حتى تبني الولايات المتحدة مطارات وقواعد عسكرية في النقب بدلا من التي تركتها في سيناء، كما أنها وضعت إطارًا عامًا دون النص على التفاصيل.

وساد شعور مبالغ فيه بالسعادة، رغم أن الاتفاقية وضعت شروطًا على سيادة مصر على سيناء بعد عودتها إليها؛ حيث وقّع السادات على اتفاقية تضع شروطًا قاسية على مدى تحرك الجيش المصري وقواته في سيناء، فقصرت مثلا استخدام المطارات الجوية التي يخليها الإسرائيليون قرب العريش وشرم الشيخ على الأغراض المدنية فقط.

كان بيجن خلال تلك المباحثات يعتذر للأمريكيين عن عجزه عن الموافقة على بعض الأمور؛ لأنه لا يستطيع تجاوز الكنيست، أما السادات فكان يغفل تمامًا الإشارة إلى مجلس الشعب أو المعارضة أو حتى أعضاء الوفد المصري المرافق له، وحينما اعترض بعض أعضاء مجلس الشعب على الاتفاقية قام بحل المجلس، ولم يتح للمعارضين العودة إليه ثانية. أما بيجن فاستغل الأيام التي تلت كامب ديفيد مباشرة للإعلان عن عزمه على إقامة مستوطنات في الأراضي المحتلة، ثم بلغت ذروة تصريحاته في عام (1402هـ= 1981م) عندما أقسم أنه لن يترك أي جزء من الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان والقدس.

ودخلت مصر في محادثات بعد كامب ديفيد لتصوغ روابط سلام محكمة مع إسرائيل، في ظل إصرار من بيجن لم يتزحزح عن المطالبة بحقوق خاصة في البترول المصري، رغم عروض كارتر بضمان تلبية احتياجات إسرائيل من الطاقة يقول "بريحنسكي" مستشار الأمن القومي لكارتر: "لقد أعطى السادات في الواقع لكارتر تفويضًا مطلقًا بالنسبة لمفاوضاته التالية مع الإسرائيليين"، وحصلت إسرائيل من واشنطن على ضمان بالحصول على البترول الأمريكي لمدة (15) عامًا مقابل الموافقة على إزالة بعض عقبات التفاوض. أما مصر فتخلت عن موقفها بشأن وضع ترتيبات خاصة في قطاع غزة، والموافقة على اتخاذ إجراء مبكر بشأن تبادل السفراء.

وبذلك تم توقيع معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية في احتفال مهيب في واشنطن في (26 من ربيع آخر 1399هـ= 26 مارس 1979م)، وكان جوهر العلاقة يرتكز على انسحاب إسرائيلي إلى الحدود الدولية على مراحل، وهي الحدود التي تفصل فلسطين في عهد الانتداب عن مصر، وذلك مقابل التزامات سياسية مصرية، منها المرور الحر عبر قناة السويس ومضيق تيران الذي اعترفت به مصر ممرًا مائيًا دوليًا، والتزام أطراف المعاهدة بعدم الدخول في أي اتفاق يتعارض مع المعاهدة.

وبذلك أحدثت إسرائيل شرخًا كبيرًا في النظام العربي، توالت بعده الانهيارات. وتحررت إسرائيل من إمكانية الحرب على جبهتين بتحييد مصر، ولم تعد تواجه أي ضغط دولي لحل القضية الفلسطينية. ووجد كارتر أن أهداف إسرائيل تحققت، وهي أن تحصل على سلام منفصل ومدفوعات أمريكية، وحرية التصرف في الضفة الغربية.

وأصر السادات على متابعة التسوية مع إسرائيل دون أي غطاء عربي، والمراهنة الكاملة على الدور الأمريكي في التوصل إلى تسوية سياسية مقبولة؛ فظهر شعار "مصر أولا"، وثارت تساؤلات حول جدوى الالتزام المصري بالقضايا العربية. وتضخمت التأثيرات السلبية التي نتجت عن مثل هذه الالتزامات المصرية. وصور العرب في الإعلام المصري بصورة بشعة. ودعا بعض المفكرين المصريين إلى أن تتبنى مصر خيار "الحياد" كسياسة رسمية بين العرب وعدوهم. وتشرذم النظام العربي وتناثر لعدم تكامل مقومات الزعامة والقيادة الكلية له.


منقول

عبدالغفور الخطيب
22-12-2006, 02:35 AM
استقلال إريتريا.. أعوام مديدة من التضحيات

(ذكرى استقلالها: 1 من ذي الحجة 1413هـ)


استطاعت إريتريا أن تنفصل عن إثيوبيا وتستقل سياسيًا بعد ثلاثين عاما من الكفاح السياسي والعسكري، حظيت خلاله بدعم عربي وإسلامي كبير، على أمل أن يصبح ذلك البلد -الذي تمتد سواحله على البحر الأحمر حوالي ألف كيلومتر– جزءًا من الأمة العربية وعضوا بجامعتها العربية، اتساقا مع مقتضيات الأمن القومي العربي الهادفة إلى المحافظة على هذا البحر كبحيرة عربية إسلامية.

إلا أن هذا الأمل لم يتحقق رغم أن نسبة المسلمين في إريتريا تقارب 78%؛ فقد أخذ الرئيس "أسياس أفورقي" بلاده بتوجهات بعيدة عن العروبة والإسلام لاعتبارات تتعلق بتوجهاته الماركسية التي تعززت بفرضه اللغة التيجرينية لغة رسمية للبلاد بدلا من اللغة العربية، وتجاهله لقوانين الأحوال الشخصية للمسلمين، وعلاقاته الوثيقة مع إسرائيل.

إريتريا.. المعنى والتاريخ

تقع إريتريا عل الشاطئ الغربي للبحر الأحمر في نقطة حاكمة عند مدخله الجنوبي وعلى مقربة من مضيق باب المندب ذي الأهمية الإستراتيجية البالغة؛ فهي تشبه مثلثا محصورا بين إثيوبيا والسودان وجيبوتي، وتبلغ مساحتها حوالي (120)ألف كم2 تتنوع فيها التضاريس والمناخ، وتمتلك شاطئًا يمتد ألف كيلومتر على البحر الأحمر، يمتد من "رأس قصار" على الحدود السودانية شمالا إلى باب المندب في "رأس أرجيتا" في جيبوتي جنوبًا، ويقع في هذا الساحل أهم موانئ البحر الأحمر وهما: "عصب" و"مصوع".

وتتبع إريتريا (126) جزيرة، أهمها أرخبيل (مجموعة جزر) دُهلك وبه نحو (25) جزيرة، أهمها من الناحية الإستراتيجية جزيرتا "فاطمة" و"حالب". ويزيد عدد السكان عن أربعة ملايين نسمة. 78% منهم مسلمون، والباقي ينتمون إلى تسع مجموعات دينية وعرقية ولغوية أخرى.

وترجع تسمية إريتريا إلى الرومان الذين أطلقوا تسمية "سينوس أريتريوم" على البحر الأحمر وشواطئه التي سيطروا عليها عندما خضعت "عدوليس" على الشاطئ الإريتري لسلطانهم، وعندما احتل الإيطاليون هذه الشواطئ في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي أطلقوا اسم "إريتريا" عليها إحياء للتسمية الرومانية، وذلك بمرسوم أصدره الملك الإيطالي "همبرت الأول" في (جمادي الأولى 1307هـ= يناير 1890م).

إريتريا.. والإسلام

ترجع معرفة منطقة إريتريا بالإسلام إلى البدايات الأولى لظهور الإسلام؛ حيث كانت هذه المنطقة تتبع في تلك الفترة النجاشي ملك الحبشة. فعندما اشتد إيذاء الكفار للمسلمين في مكة أمرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال لهم: "فإن لها ملكًا لا يُظلَمُ عنده أحد، وهي أرض صدق"؛ فهاجر المسلمون إلى الحبشة وهبطت سفنهم على ساحل مصوع، وتحديدًا في المكان الذي يطلق عليه "رأس مدر"، وبنوا فيه مسجدًا – ما تزال بقاياه موجودة إلى الآن– ومنذ ذلك التاريخ انتشرت الدعوة الإسلامية في إريتريا والحبشة، حيث مكث الصحابة المهاجرون بها ستة عشر عامًا متتابعة يقيمون فيها شعائر الإسلام.

وفي عهد الدولة الأموية والعباسية هاجرت بعض القبائل العربية إلى إريتريا، وأقامت بها مراكز للدعوة والتجارة فتحولت غالبية القبائل الوثنية إلى الإسلام، ونشأت بعض الممالك العربية والإسلامية في جزر دهلك، بالإضافة إلى نشأة سبع ممالك داخلية عرفت باسم "بلاد الطراز الإسلامي".

وعندما سيطر البرتغاليون على بعض سواحل البحر الأحمر ومن بينها شواطئ إريتريا في بداية القرن السادس عشر الميلادي، تدخل العثمانيون لمواجهة الخطر البرتغالي وحماية الأماكن المقدسة في مكة والمدينة من مهاجمة السفن الصليبية، وتمكنوا من الاستيلاء على "سواكن" و"مصوع" وجعلوا البحر الأحمر بحيرة عثمانية مغلقة. وخضعت سواحل إريتريا للحكم المصري بناء على فرمان أصدره السلطان العثماني سنة (1281هـ = 1865م)؛ فتحسنت أحوالها بعدما أصبح الساحل الإفريقي للبحر الأحمر في حوزة مصر.

الاستعمار الإيطالي

بدأت الأطماع الإيطالية في إريتريا مع ضعف الحكم المصري في عهد إسماعيل نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، ودخل الإيطاليون إلى تلك المنطقة عبر بوابة الشركات والمؤسسات الاقتصادية التي يتحكم فيها المنصّرون ورجالات الكنائس؛ فاستطاع المنصر "سابيتو" أن يشتري قطعة أرض في ميناء عصب سنة (1286هـ= 1869م)، ثم أصدر مجلس النواب الإيطالي في (1299هـ= 1882م) قانونا بتحويل عصب إلى مستعمرة إيطالية، وكانت سياسته فيها تقوم على العنصرية، ومحاربة اللغة العربية. واعترف الإمبراطور الحبشي "منليك الثاني" بحق إيطاليا في إريتريا حتى يستطيع مقاومة النفوذ الفرنسي والبريطاني.

واستمر الاحتلال الإيطالي (60) عاما حتى تمكنت بريطانيا وحلفاؤها من هزيمة إيطاليا ودول المحور في الحرب العالمية الثانية، وأقامت بريطانيا بها إدارة عسكرية.

هيلاسلاسي.. أطماع وأحقاد

عاد الإمبراطور الحبشي هيلاسلاسي إلى الحكم في بلاده بمساعدة الإنجليز بعدما طرده الإيطاليون، ورأى أن يستغل الظروف الدولية لجمع أسلاب إيطاليا في إفريقيا؛ فيضم الصومال وإريتريا إلى مملكته التوسعية. وساعدته على ذلك بريطانيا والولايات المتحدة، حيث اتصل ببعض رجال الكنيسة لاستمالتهم إليه، وقامت المخابرات البريطانية بإثارة العدوان والنعرات الدينية والقبلية.

ونجحت إثيوبيا في خلق حزب موال لها في إريتريا سنة (1366هـ= 1946م) عُرف باسم حزب الاتحاد مع إثيوبيا كانت قاعدته من المسيحيين. ناهض المسلمون هذا الحزب وأسسوا حزب الرابطة الإسلامية الإريترية وحددوا أهدافه بالاستقلال التام. وشهدت تلك الفترة صراعات سياسية حادة، نشأت خلالها عدة أحزاب لها ارتباطات خارجية، تبنى بعضها سياسة الاغتيالات مثل حزب الاتحاد مع إثيوبيا الذي أنشأ ميليشيا إرهابية عرفت باسم "الشفتا" اغتالت عددا من القيادات الوطنية. كما عمل هيلاسلاسي على إثارة الخلافات بين الأحزاب الإريترية فكثرت الانشقاقات بها.

الأمم المتحدة صراعات الأروقة والمصالح

عُرضت القضية الإريترية على الأمم المتحدة التي أرسلت لجنة لاستطلاع آراء الأهالي حول تقرير المصير فخرجت اللجنة بآراء مختلفة، منها ضم إريتريا إلى إثيوبيا، وهو اتجاه دعمته الولايات المتحدة، وأمام هذا الضغط الأمريكي وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في (صفر 1370هـ= ديسمبر 1950م) على أن تكون إريتريا تحت سيادة التاج الإثيوبي في اتحاد فيدرالي مع تمتعها بالحكم الذاتي، وقررت الأمم المتحدة تعيين مندوب لها يكفل تنفيذ قرارها لأول مرة في تاريخ المنظمة الدولية، وبذلك حصلت إثيوبيا على منفذ لها على البحر الأحمر.

الاستعمار الإثيوبي

وتم تشكيل جمعية تشريعية منتخبة في إريتريا أقرت الدستور الجديد للبلاد، وعلما خاصا بها، وسلطات قضائية وتشريعية خاصة بها، واعتمدت اللغتين العربية والتجيرينية لغتين رسميتين لإريتريا، وفي (ذي القعدة 1371 هـ= أغسطس 1952م) صادق الإمبراطور هيلاسلاسي على الدستور الإريتري الجديد، ثم صادق على القانون الفيدرالي، وكانت تلك الخطوة الأولى في طريق الاستعمار الإثيوبي لإريتريا، شاركت في تعبيده القوى الاستعمارية الكبرى، وفي مقدمتها بريطانيا التي انسحبت من إريتريا في (25 من ذي الحجة 1371هـ= 15 من سبتمبر 1952) بعدما سلمت كل الممتلكات الإريترية من موانئ ومطارات ووسائل مواصلات إلى الجيش الإثيوبي، ولم تترك للحكومة الإريترية ما يمكن أن تؤسس عليه دولتها الوليدة.

وتشكلت أول حكومة إريترية برئاسة "تدلا بايرو" السكرتير العام لحزب الاتحاد مع إثيوبيا، ولم يستطع هيلاسلاسي أن ينتظر طويلا ليرى تصرف الإريتريين في إطار الفيدرالية، فتعجل في تطبيق مخططه الاستعماري، وأصدر في نفس العام قرارًا يقضي بتطبيق القوانين والنظم الإثيوبية على إريتريا، كما نفذ خطة أخرى لتغيير التركيبة السكانية في إريتريا؛ فسلم الأراضي الخصبة في منطقة "وادي زولا" الإسلامية إلى نصارى الحبشة، وبنى لهم كنيسة وتكرر ذلك في المناطق الأخرى، ثم وقّع معاهدة مع الولايات المتحدة في (شعبان 1372هـ= مايو 1953م) مُنحت بموجبها واشنطن الحق في إقامة قواعد ومنشآت عسكرية على أراضي إريتريا.

واتخذت إثيوبيا مجموعة من الإجراءات التعسفية ضد المسلمين الإريتريين، ولجأت إلى سلاح الدين لخلق الفرقة في إريتريا، فألفت حزبًا سياسيًا من رجال الدين المسيحي تحت رئاسة القس ديمطروس الذي فرضته نائبا لرئيس البرلمان؛ فأثار ذلك غضب البرلمان الإريتري، ووجه إنذارا لإثيوبيا بوجوب إعطاء الضمانات لسيادة الدستور الإريتري، وإلا طالب البرلمان بتدخل الأمم المتحدة.

استبد الغضب بهيلاسلاسي فعزل حكومة تدلا بايرو، وعين مكانه إسفهاولد ميكائيل الذي استخدم أساليب إرهابية ضد الوطنيين، ومنع جميع الأحزاب من العمل، وصاغ نظاما اقتصاديا قائمًا على الإقطاع. وفي عام (1375هـ= 1956م) تم تعديل الدستور بناء على اقتراح حكومي، وألغيت اللغتان الرسميتان العربية والتجيرينية، وحلت مكانهما اللغة الأمهرية، وألغي العلم الإريتري، ونص التعديل الجديد أن يعين رئيس الوزراء الإريتري من قِبل الإمبراطور مباشرة، فقوبلت هذه الإجراءات بغضب شديد، وتبين للإريتريين أن الأمم المتحدة لا تريد أن تتدخل في حل المشكلة الإريترية الذي كان قرار الفيدرالية السبب المباشر في قيامها.

حركة التحرير الإريترية


لم يستسلم الإريتريون لحركة القمع الإثيوبية، وتمكن العمال المهاجرون (1378هـ=1958م) من تأسيس حركة تحرير إريتريا، التي كانت تنظيما سريا يتكون من خلايا تتكون من سبعة أفراد، وكان أبرز قادتها محمد سعيد نادو، وكان شعارها العنف الثوري هو الطريق الوحيد للاستقلال. وبدأت الحركة بتنظيم الخارج من المهاجرين ثم انتقلت إلى الداخل. ونشأت – أيضا – جبهة التحرير الإريترية، وحدث صراع وتنافس قوي بين التنظيمين.

ونشأت جبهة التحرير في عام (1380هـ = 1960م)، وقادها الشهيد حامد إدريس عواتي الذي أعلن الثورة المسلحة للحصول على الاستقلال التام في (ربيع أول 1382هـ= سبتمبر 1961م)، واتسع نطاق الثورة وغطت معظم مساحات إريتريا، وأصبحت حربا قومية في كافة الأقاليم؛ فأصدر الإمبراطور هيلاسلاسي قرارًا في (15 من جمادي الأولى 1382 هـ= 14 من نوفمبر 1962م) ألغى بموجبه الاتحاد الفيدرالي، وأعلن ضم إريتريا إلى إثيوبيا نهائيا، وجعلها الولاية الرابعة عشرة لإثيوبيا.

فشلت إثيوبيا في القضاء على الثورة الإريترية المسلحة، فاتجهت إلى الشعب ومارست معه العنف حتى يبتعد عن مساندة الثوار، فازداد الشعب التصاقا بالثورة التي أصبحت تتمتع بالتأييد الشعبي المطلق، وساعدها على الاستمرار ضعف الوجود العسكري الإثيوبي في إريتريا، وطبيعة التضاريس التي تساعد على حرب العصابات وتعوق تقدم الجيوش النظامية، وانضم إلى الثورة كثير من رجال الجيش والشرطة من الإريتريين.

انشقاقات وانشقاقات

كانت المشكلة التي تواجه الثورة الإريترية تكمن في تناحر قياداتها، والتوجهات اليسارية التي تسللت إلى الثورة بعد سنوات قليلة من تأسيس جبهة التحرير، فكان اليساريون والماركسيون وراء كل انشقاق وكل شرخ يحدث في صف الوطنيين؛ فالجبهة الشعبية لتحرير إريتريا تشكلت عام (1389هـ= 1969م) بعد انشقاقها على الجبهة الأم، وكان من زعمائها أسياس أفورقي وكانت توجهاته ماركسية.

وتوسعت هذه الجبهة الشعبية لتصبح أهم منظمة تحريرية في البلاد، ثم انشق أفورقي عن القيادة العامة، وشارك في تأسيس "قوات التحرير الشعبية"، وحدثت حرب أهلية بين هؤلاء الثوار انتهت عام (1394هـ= 1974م) وبعد عام عقد مؤتمر الخرطوم بين هذه الفصائل المتناحرة، لكن هذه الاتفاقية لم تصمد طويلا، بل كانت سببا في انشقاقات أخرى، وأعلن أفورقي وأنصاره من المقاتلين رفضه للوحدة الفوقية التي تمت في اتفاق الخرطوم.

وفي (صفر 1397هـ= يناير 1977م) انشق أفورقي عن قوات التحرير الشعبية، وأعلن تشكيل "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا"، وعكس هذا الانشقاق الجديد انقساما ثقافيا؛ فأفورقي ذو توجهات يسارية مع كونه من أبناء الطائفة النصرانية، واستطاعت هذه الجبهة تصفية الانشقاقات الأخرى، وانفردت بالساحة في إريتريا.

انقلاب إثيوبيا.. مراهنات خاسرة

وفي عام (1394 هـ= 1974م) تغير نظام الحكم في إثيوبيا بعد المجاعة، وتولى عسكريون ماركسيون بزعامة "مانجستو هيلاماريام" مقاليد السلطة، وراهنت الجبهة الشعبية على تحقيق تفاهم ما مع النظام الجديد نظرا للتقارب الفكري بينهما، وتمت لقاءات بين الجانبين تحت رعاية الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية، لكنها لم تتوصل إلى شيء واستمرت مقاومة الاستعمار الإثيوبي.

وسجلت تقارير حقوق الإنسان في تلك الفترة من نظام مانجستو أنه يمارس حرب إبادة ضد مسلمي إريتريا، ويعمل على تغيير هويتهم نحو الشيوعية باتباعه سياسة الأرض المحروقة وتسميم الآبار ومصادرة المواشي والقضاء على أية إمكانات للبقاء على الأرض؛ فقام الإريتريون بتوحيد جهودهم وصفوفهم عام (1399هـ= 1979م)، وخاضوا حرب تحرير مريرة لتحقيق الاستقلال حققت خلالها انتصارات كبيرة وأرهقت نُظُم مانجستو.

التحرير بعد 30 عامًا

وتحالفت الجبهة الشعبية بزعامة أفروقي مع المعارضين الإثيوبيين بزعامة ميلس زيناوي تحت رعاية الإدارة الأمريكية في مؤتمر عقد بلندن نسق له وليام كوهين مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية، وذلك لإسقاط نظام مانجستو، وانتهى المؤتمر باتفاق رعته واشنطن يقضي باعتراف إثيوبيا بحق تقرير المصير للشعب الإريتري على أن يختار بين الوحدة والانفصال، مقابل أن يلتزم أفورقي بدعم زيناوي في سعيه للتغلب على مناوئيه السياسيين وتولي السلطة، وأن تسمح إريتريا عندئذ باستخدام إثيوبيا ميناء عصب وكذا مصوع للأغراض التجارية.

ونجح الطرفان في إسقاط مانجستو، وتولى زيناوي حكم إثيوبيا، وأعلن استقلال إريتريا في (1 من ذي القعدة 1411هـ= 25 من مايو 1991م)، وتشكلت حكومة مؤقتة أجرت استفتاء عاما على الاستقلال تحت إشراف الجامعة العربية والأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية، وجاءت نتيجته 99% للاستقلال؛ فأصبحت إريتريا دولة مستقلة ذات سيادة في (1 من ذي الحجة 1413هـ= 23 من مايو 1993م)، ثم انتخب أسياس أفورقي رئيسا للبلاد.


منقول

عبدالغفور الخطيب
26-12-2006, 02:35 AM
أبو جعفر المنصور.. الحاكم الجاد

(في ذكرى وفاته: 6 من ذي الحجة 158هـ)

يعد أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية التي ظلت خمسة قرون زينة الدنيا، ومركز الحضارة، وموئل الثقافة، وعاصمة العالم. نهض إلى الخلافة بعد أن أصقلته التجارب وأنضجته المحن، وخَبِر الناس وعاشرهم ووقف على دواخلهم وخلائقهم، وما إن أمسك بزمام الأمور حتى نجح في التغلب على مواجهة صعاب وعقبات توهن عزائم الرجال وتضعف ثبات الأبطال، وتبعث اليأس والقنوط في النفوس. وكانت مصلحة الدولة شغله الشاغل، فأحكمت خطوه وأحسنت تدبيره، وفجرت في نفسه طاقات هائلة من التحدي، فأقام دولته باليقظة الدائمة والمثابرة الدائبة والسياسة الحكيمة.

مولده ونشأته

في قرية "الحميمة" التي تقع في الأردن ولد عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس سنة (95هـ = 714م)، ونشأ بين كبار رجال بني هاشم الذين كانوا يسكنون الحميمة، فشب فصيحا عالما بالسير والأخبار، ملما بالشعر والنثر. وكان أبوه محمد بن علي هو الذي نظّم الدعوة العباسية، وخرج بها إلى حيز الوجود، واستعان في تحركه بالسرية والكتمان، والدقة في اختيار الرجال والأنصار والأماكن التي يتحرك فيها الدعاة، حيث اختار الحميمة والكوفة وخراسان.

وحين نجحت الدعوة العباسية وأطاحت بالدولة الأموية؛ تولى أبو العباس السفّاح الخلافة سنة (132هـ = 749) واستعان بأخيه جعفر في محاربة أعدائه والقضاء على خصومه وتصريف شئون الدولة، وكان عند حسن ظنه قدرة وكفاءة فيما تولى، حتى إذا مرض أوصى له بالخلافة من بعده، فوليها في (ذي الحجة 136هـ = يونيو 754م) وهو في الحادية والأربعين من عمره.

الفترة الأولى من خلافته

لم تكن الدولة العباسية حين تولى أمرها الخليفة أبو جعفر المنصور ثابتة الأركان مستقرة الأوضاع، بل كانت حديثة عهد، يتربص بها أعداؤها، ويتطلع رجالها إلى المناصب الكبرى، وينتظرون نصيبهم من الغنائم والمكاسب، ويتنازع القائمون عليها من البيت العباسي على منصب الخلافة. وكان على الخليفة الجديد أن يتصدى لهذه المشكلات التي تكاد تفتك بوحدة الدولة، وتلقي بها في مهب الريح.

وكان أول ما واجهه أبو جعفر المنصور ثورة عارمة حمل لواءها عمه عبد الله بن علي الذي رأى أنه أحق بالخلافة من ابن أخيه؛ فرفض مبايعته، وأعلن التمرد والعصيان، وزعم أن "أبو العباس السفاح" أوصى بالأمر له من بعده، واستظهر بالجيش الذي كان يقوده في بلاد الشام.

لجأ الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور إلى المدينة واتباع الطرق السلمية في علاج الموقف، فبعث إلى عمه رسائل عدة تدعوه إلى الطاعة وترك العصيان، لكنه أعرض عن دعوته وركب رأسه وأعماه الغرور، فلم يجد المنصور بدًا من الاستعانة بالسيف، وأرسل له قائده "أبو مسلم الخراساني" على رأس جيش كبير، فتمكن بعد عدة معارك من هزيمة عم الخليفة المتمرد هزيمة ساحقة في (جمادى الآخرة 137هـ = نوفمبر 754م)، فاضطر إلى الفرار والاختباء عند أخيه سليمان بن علي والي البصرة، ولما علم الخليفة أبو جعفر المنصور بخبره احتال له حتى قبض عليه، وألقى به في السجن حتى توفي.

وما كاد يلتقط الخليفة العباسي أنفاسه حتى أعد العدة للتخلص من أبي مسلم الخراساني، صاحب اليد الطولى في نجاح قيام الدولة العباسية، وكان الخليفة يخشاه ويخشى ما تحت يده من عدد وعتاد في خراسان، ولم يكن الرجلان على وفاق منذ قيام الدولة. وكان أبو مسلم الخراساني يتيه بما صنعه للدولة. وتحين أبو جعفر المنصور الفرصة للتخلص من غريمه، ولجأ إلى الحيلة والدهاء حتى نجح في حمل أبي مسلم على القدوم إليه بعيدًا عن أنصاره وأعوانه في (شعبان 137هـ = فبراير 755م)، وبعد جلسة حساب عاصفة لقي القائد الكبير مصرعه بين يدي الخليفة.

وبعد مقتل أبي مسلم الخراساني اشتعلت ضد الخليفة العباسي عدة ثورات فارسية للثأر لمقتله، غير أن الخليفة اليقظ نجح في قمع هذه الفتن والقضاء عليها.

ثورة محمد النفس الزكية

غير أن أخطر ما واجه المنصور هو ثورة العلويين بقيادة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية، وأخيه إبراهيم، وكانا يعدان العدة للخروج على أبي جعفر المنصور، وينتظران الفرصة للانقضاض عليه، واختفيا عن أنظار الخليفة يبثان رجالهما وينشران الدعوة إليهما.

وكان محمد النفس الزكية يرى نفسه أحق بالخلافة من أبي جعفر المنصور، فامتنع عن بيعته، كما امتنع من قبل عن بيعة أبي العباس السفاح، فلما ولي أبو جعفر المنصور رأى في بقاء محمد وأخيه خطرًا يهدد دولته، وأيقن أنهما لن يكفا عن الدعوة إلى أحقية البيت العلوي بالخلافة، وأقلق اختفاؤهما الخليفة اليقظ؛ فبذل ما في وسعه لمعرفة مكانهما فلم ينجح في الوصول إليهما، وعجز ولاة المدينة عن تتبع أخبارهما، فاستعان بوالٍ جديد للمدينة غليظ القلب للوصول إلى مكان محمد النفس الزكية، فلجأ إلى القبض على عبد الله بن الحسن والد الزعيمين المختفيين وهدده وتوعده، وقبض أيضا على نفر من آل البيت، وبعث بهم مكبلين بالأغلال إلى الكوفة فشدد عليهم الخليفة وغالى في التنكيل بهم، فاضطر محمد النفس الزكية إلى الظهور بعد أن مكث دهرا يدعو لنفسه سرا، واعترف الناس بإمامته في مكة والمدينة، وتلقّب بأمير المؤمنين، وكان الناس يميلون إليه لخلقه وزهده وحلمه وبعده عن الظلم وسفك الدماء حتى أطلقوا عليه النفس الزكية. وحين نجحت حيلة المنصور في إجبار محمد النفس الزكية على الظهور بعد القبض على آل بيته، بعث إليه بجيش كبير يقوده عمه عيسى بن موسى فتمكن من هزيمة محمد النفس الزكية وقتله بالمدينة المنورة في (14 من رمضان 145هـ = 6 من ديسمبر 762م).

ثم تمكن من هزيمة الجيش العلوي الثاني الذي كان يقوده إبراهيم أخو محمد النفس الزكية، الذي تغلب على البصرة والأهواز وفارس، ونجح في القضاء عليه بعد صعوبة بالغة في (25 من ذي القعدة 145هـ = 14 من يناير 763م) في معركة حاسمة وقعت في "باخمرى" بين الكوفة وواسط، وبذلك زال خطر هائل كان يهدد سلامة الدولة الناشئة.

وقد أثبتت هذه الأحداث المتلاحقة والثورات العارمة، ما يمتلكه الخليفة أبو جعفر المنصور من براعة سياسية وخبرة حربية، وقدرة على حشد الرجال، وثبات في المحن، ودهاء وحيلة في الإيقاع بالخصوم، وبذلك تمكن من التغلب على المشكلات التي واجهته منذ أن تولى الحكم.

المنصور وبناء بغداد

رغب الخليفة أبو جعفر المنصور في بناء عاصمة جديدة لدولته بعيدة عن المدن التي يكثر فيها الخروج على الخلافة كالكوفة والبصرة، وتتمتع باعتدال المناخ وحسن الموقع، فاختار "بغداد" على شاطئ دجلة، ووضع بيده أول حجر في بنائها سنة (145هـ = 762م) واستخدم عددا من كبار المهندسين للإشراف على بنائها، وجلب إليها أعدادا هائلة من البنائين والصناع، فعملوا بجد وهمة حتى فرغوا منها في عام (149هـ = 766م) وانتقل إليها الخليفة وحاشيته ومعه دواوين الدولة، وأصبحت منذ ذلك الحين عاصمة الدولة العباسية، وأطلق عليها مدينة السلام؛ تيمنا بدار السلام وهو اسم من أسماء الجنة، أو نسبة إلى نهر دجلة الذي يسمى نهر السلام. ولم يكتف المنصور بتأسيس المدينة على الضفة الغربية لدجلة، بل عمل على توسيعها سنة (151هـ = 768م) بإقامة مدينة أخرى على الجانب الشرقي سماها الرصافة، جعلها مقرا لابنه وولي عهده "المهدي" وشيد لها سورا وخندقا ومسجدا وقصرا، ثم لم تلبث أن عمرت الرصافة واتسعت وزاد إقبال الناس على سكناها.

بيت الحكمة

ومن الأعمال الجليلة التي تُذكر للمنصور عنايته بنشر العلوم المختلفة، ورعايته للعلماء من المسلمين وغيرهم، وقيامه بإنشاء "بيت الحكمة" في قصر الخلافة ببغداد، وإشرافه عليه بنفسه، ليكون مركزا للترجمة إلى اللغة العربية. وقد أرسل أبو جعفر إلى إمبراطور الروم يطلب منه بعض كتب اليونان فبعث إليه بكتب في الطب والهندسة والحساب والفلك، فقام نفر من المترجمين بنقلها إلى العربية.

وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ذروته في عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية فائقة، ووهبه كثيرا من ماله ووقته، وكان يشرف على بيت الحكمة قيّم يدير شئونه، ويُختار من بين العلماء المتمكنين من اللغات. وضم بيت الحكمة إلى جانب المترجمين النسّاخين والخازنين الذين يتولون تخزين الكتب، والمجلدين وغيرهم من العاملين. وظل بيت الحكمة قائما حتى داهم المغول بغداد سنة (656هـ = 1258م).

شخصية المنصور

كان الخليفة أبو جعفر المنصور رجل عمل وجد، لم يتخذ من منصبه وسيلة للعيشة المرفهة والانغماس في اللهو والاستمتاع بمباهج السلطة والنفوذ، يستغرق وقته النظر في شئون الدولة، ويستأثر بمعظم وقته أعباء الحكم.

وكان يعرف قيمة المال وحرمته، فكان حريصا على إنفاقه فيما ينفع الناس؛ ولذلك عني بالقليل منه كما عني بالكثير، ولم يتوان عن محاسبة عماله على المبلغ الزهيد، ولا يتردد في أن يرسل إليهم التوجيهات والتوصيات التي من شأنها أن تزيد في دخول الدولة، وكان يمقت أي لون من ألوان تضييع المال دون فائدة، حتى اتهمه المؤرخون بالبخل والحرص، ولم يكن كذلك فالمال العام له حرمته ويجب إنفاقه في مصارفه المستحقة؛ ولذلك لم يكن يغض الطرف عن عماله إذا شك في أماناتهم من الناحية المالية بوجه خاص لأنه كان يرى أن المحافظة على أموال الدولة الواجب الأول للحاكم.

وشغل أبو جعفر وقته بمتابعة عماله على المدن والولايات، وكان يدقق في اختيارهم ويسند إليهم المهام، وينتدب للخراج والشرطة والقضاء من يراه أهلا للقيام بها، وكان ولاة البريد في الآفاق يكتبون إلى المنصور بما يحدث في الولايات من أحداث، حتى أسعار الغلال كانوا يطلعونه عليها وكذلك أحكام القضاء. وقد مكنه هذا الأسلوب من أن يكون على بينة مما يحدث في ولايات دولته، وأن يحاسب ولاته إذا بدر منهم أي تقصير.

ولم يكن المنصور قوي الرغبة في توسيع رقعة دولته ومد حدوده؛ لأنه كان يؤثر توطيد أركان الدولة والمحافظة عليها وحمايتها من العدوان والقلاقل والثورات الداخلية، لكنه اضطر إلى الدخول في منازعات وحروب مع الدولة البيزنطية حين بدأت بالعدوان وأغارت على بلاده، وقد توالت حملاته على البيزنطيين بعد أن استقرت أحوال دولته سنة (149هـ = 766م) حتى طلب إمبراطور الروم الصلح فأجابه المنصور إليه، لأنه لم يكن يقصد بغزو الدولة البيزنطية الغزو والتوسع بقدر إشعارهم بقوته حتى يكفوا عن التعرض لدولته.

وعلى الرغم من الشدة الظاهرة في معاملة المنصور، وميله إلى التخلص من خصومه بأي وسيلة، فقد كان يقبل على لقاء العلماء الزاهدين ويرحب بهم ويفتح صدره لتقبل نقدهم ولو كان شديدا. وتمتلئ كتب التاريخ والأدب بلقاءاته مع سفيان الثوري وعمرو بن عبيد وابن أبي ذئب والأوزاعي وغيرهم. ويؤخذ عليه شططه في معاملة الإمامين الكبيرين: أبي حنيفة النعمان، ومالك بن أنس؛ لاعتقاده أنهما يتفقان مع خصومه من آل البيت العلوي.

دامت خلافة أبي جعفر المنصور اثنين وعشرين عاما، نجح خلالها في تثبيت الدولة العباسية ووضع أساسها الراسخ الذي تمكن من الصمود خمسة قرون حتى سقطت أمام هجمات المغول. وبعد حياة مليئة بجلائل الأعمال توفي الخليفة العباسي في (6 من ذي الحجة 158هـ = 7 من أكتوبر 755م) وهو محرم بالحج والعمرة، ودُفن في مقبرة المعلاة (بئر ميمون) في أعلى مكة المكرمة.


منقول

عبدالغفور الخطيب
29-12-2006, 05:15 AM
معركة تولوز.. أمل لم يتحقق

(في ذكرى نشوبها: 9 من ذي الحجة 103هـ)


توفي سليمان بن عبد الملك في (العاشر من صفر سنة 99هـ = 22 من سبتمبر 717م) وخلفه ابن عمه عمر بن عبد العزيز، فبدأت بلاد الأندلس في خلافته عهدا جديدا؛ حيث جعلها تابعة له مباشرة، شأنها في ذلك شأن بعض الولايات الإسلامية الأخرى، وكانت الأندلس من قبل تابعة لولاية إفريقية، واختار لها واحدا من الرجال الصالحين الأكْفاء القادرين على النهوض بمسئولياتهم في إيمان ونزاهة. وكان الخليفة العادل حريصا على ذلك أيما حرص؛ فكانت أمور المسلمين شغله الشاغل.

وكان ذلك الوالي الكفء الذي اختاره الخليفة لولاية الأندلس هو "السمح بن مالك الخولاني"، تخيّره الخليفة لأمانته وكفاءته وإخلاصه. وتذكر الروايات التاريخية أن من عادة خلفاء بني أمية أنهم كانوا لا يدخلون خزائن بيت المال شيئا مما يرسله ولاتهم من أموال الخراج إلا إذا شهد 10 من عُدُول الجند في الولاية بأن هذا المال هو المستصفى الحلال لبيت المال، بعد دفع أعطيات الجند والإنفاق على مصالح الولاية وشئونها؛ فلما أقبلت أموال ولاية إفريقية في أحد أعوام خلافة سليمان، كان يصحبها 10 من العدول الذين اختارهم الوالي، وكان فيهم إسماعيل بن عبيد الله، والسمح بن مالك، فلما طلب الخليفة شهادتهم حلف 8 بصحة هذا المال، ورفض الرجلان أن يحلفا على ذلك. وكان عمر بن عبد العزيز حاضرا هذه الجلسة، فأعجب بنزاهة الرجلين وشجاعتهما، فلما ولي الخلافة استعان بهما في إدارة ولايات دولته.

ولاية السمح بن مالك

ولم يقدم الخليفة عمر بن عبد العزيز على النظر في شئون المغرب والأندلس إلا بعد مضي أكثر من عام من خلافته؛ فقد شغلته أمور الدولة الأخرى عن متابعة ما يجري في الأندلس، وكان يفكّر في إرجاع المسلمين من الأندلس وإخلائهم منها؛ فكان يخشى تغلّب العدو عليهم لانقطاعهم من وراء البحر عن المسلمين.

غير أن هذه الفكرة تبددت لديه، وعزم على إصلاح أمور الأندلس حديثة العهد بالإسلام، فاختار لولايتها السمح بن مالك، وأمره أن يحمل الناس على طريق الحق، ولا بعدل بهم عن منهج الرفق، وطلب منه أن يكتب له بصفة الأندلس، وأنهارها وبحرها، فلما استقر السمح هناك كتب إليه يعرفه بقوة الإسلام وكثرة مدائنهم، وشرف معاقلهم؛ فلما استوثق الخليفة عمر من أهمية الأندلس، وثبات أقدام المسلمين فيها أولاها من عانيته ما هي جديرة به. ولم يكد السمح بن مالك يتولى أمر الأندلس حتى ظهر أثر كفايته وصلاحه في البلاد، فانتظمت أمورها، ونعم الناس بالأمن والسلام، وتحسنت موارد الدولة، واجتمع له من المال مبلغ كبير منه، استغله في إصلاح مرافق الولاية.

وحدث أن قنطرة "قرطبة" الرومانية التي كانت مقامة على نهر الوادي الكبير للاتصال بنواحي جنوبي الأندلس قد تهدمت، واستعان الناس بالسفن للعبور، وكان في ذلك مشقة عليهم، وأصبح المسلمون في حاجة إلى بناء قنطرة متينة يستطيعون العبور عليها من الجنوب إلى قرطبة عاصمتهم الجديدة، ووجد السمح بن مالك أن خير ما ينفق فيه هذا المال هو بناء تلك القنطرة، فكتب إلى الخليفة عمر في دمشق يستأذنه في بناء القنطرة فأذن له، فقام السمح ببنائها على أتم وأعظم ما يكون البناء. وكان لهذه القنطرة أهميتها في تاريخ الأندلس السياسي والفكري، فربطت بين قرطبة بجنوبي الأندلس وشمالي أفريقيا، وكانت من الجمال والبهاء بحيث أصبحت متنزه أهل قرطبة ومدار خيال شعراء الأندلس.

الاتجاه إلى الفتح

وبعد أن اطمأن السمح بن مالك إلى أحوال أمور الأندلس، ووثق الخليفة عمر باستقرار المسلمين بها، بدأ السمح يفكر في معاودة الفتح، ورد المتربصين بولايته من أمراء ما وراء جبال ألبرت، فأعد العدة لذلك، وجهز جيوشه لهذه المهمة.

واخترقت جيوش السمح جبال ألبرت من الشرق، وسيطر على عدد من القواعد هناك، واستولى على "سبتمانيا" في جنوبي فرنسا، وأقام بها حكومة إسلامية، ووزع الأراضي بين الفاتحين والسكان، وفرض الجزية على النصارى، وترك لهم حرية الاحتكام إلى شرائعهم، ثم زحف نحو الغرب ليغزو "أكوتين".

وكانت مملكة الفرنج حينما عبر المسلمون إلى غاليا –فرنسا- تفتك بها الخلافات والحروب بين أمرائها، غير أن الأمير "أدو" دوق أكوتين كان أقوى أمراء الفرنج في غاليا وأشدهم بأسا، نجح في غمرة الاضطراب الذي ساد المملكة أن يستقل بأكوتين، ويبسط نفوذه وسلطانه على جميع أنحائها في الجنوب من اللوار إلى البرنية.

فلما زحف السمح بن مالك إلى الغرب ليغزو أكوتين قاومه البشكنس -سكان هذه المناطق- أشد مقاومة، لكنه نجح في تمزيق صفوفهم، وقصد إلى تولوشة تولوز. وفي أثناء سيره جاءت الأخبار بأن الدوق "أدو" أمير أكوتين جمع جيشا كبيرا لرد المسلمين، وإخراجهم من فرنسا، فآثر السمح بن مالك ملاقاة عدوه على كثرة عددهم عن مهاجمة تولوشة، والتقى الفريقان بالقرب منها، ونشبت بينهما معركة هائلة في 9 من ذي الحجة 102هـ = 9 من يونيو 721م، سالت فيها الدماء غزيرة، وكثر القتل بين الفريقين، وأبدى المسلمون رغم قلتهم شجاعة خارقة وبسالة وصبرًا، وتأرجح النصر بين الفريقين دون أن يحسم لصالح أحد من الفريقين، حتى سقط "السمح" شهيدًا من على جواده، فاختلت صفوف المسلمين، ووقع الاضطراب في الجيش كله، وعجز قادة الجيش أن يعيدوا النظام إلى الصفوف، وارتد المسلمون إلى "سبتمانيا" بعد أن فقدوا زهرة جندهم، وسقط عدد من كبار قادتهم.

العودة إلى الأندلس

وعلى إثر استشهاد السمح بن مالك اختار الجيش أحد زعمائه "عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي"، فبذل جهدًا خارقًا ومهارة فائقة في جمع شتات الجيش، والتقهقر به إلى الأندلس، وأقام نفسه واليًا على الأندلس عدة أشهر قليلة حتى يأتي الوالي الجديد، وفي هذه المدة القليلة نجح عبد الرحمن الغافقي في ضبط أمور الولاية، والقضاء على الفتن التي ظهرت في الولايات الجبلية الشمالية.

ثم تولى عنبسة بن سحيم الكلبي أمر الأندلس في (صفر 103هـ = أغسطس 722م)، وكان من طراز السمح بن مالك كفاءة وقدرة وورعًا وصلاحًا، له شغف بالجهاد وحرص على نشر الإسلام وتوسيع دولته، وما إن استقرت الأمور في الأندلس بعد اضطراب واختلال حتى عاود الفتح، وخرج على رأس جيشه من قرطبة، وسار نحو سبتمانيا التي فقد المسلمون كثيرًا من قواعدها، وتابع زحفه شمالاً في وادي الرون، ولم تقف هذه الجملة الظافرة إلا قرب بلدة "سانس" على بعد ثلاثين كيلومترًا جنوبي باريس، وخشي "أدو" دوق أكوتين أن يهاجمه المسلمون مرة أخرى، فسعى إلى مفاوضتهم ومهادنتهم، وبذلك بسط المسلمون نفوذهم في شرق جنوبي فرنسا.

ولما لم يكن في نية عنبسة الاستقرار في تلك المناطق، فقد عاد إلى بلاده بعد أن أعاد نفوذ المسلمين في مملكة غالة، قاطعًا نحو ألف ميل شمالي قرطبة، وفي طريق العودة داهمته جموع من الفرنجة، فالتحم معها في معركة أصيب أثناءها بجراح بالغة توفي على إثرها في (شعبان 107هـ = ديسمبر 725م)، بعد أن انفرد بين الفاتحين المسلمين بفخر الوصول برايات الإسلام إلى قلب أوروبا الغربية، ولم يدرك هذا الشأو بعد ذلك فاتح مسلم آخر.

وقد تكررت محاولات المسلمين لفتح مملكة غالة والاستقرار بها ثم التوسع في قلب أوروبا لنشر الإسلام بها، لكنها لم تلقَ نجاحًا، وكانت آخر تلك المحاولات ما قام به القائد العظيم عبد الرحمن الغافقي، لكن استشهاده في معركة بلاط الشهداء (رمضان 114هـ = أكتوبر 732م) قضى على أحلام المسلمين في الفتح والتوسع.


منقول

عبدالغفور الخطيب
06-01-2007, 04:46 AM
"الظهير البربري".. فرّق تستعمر

(في ذكرى صدوره: 17 من ذي الحجة 1340هـ)




استطاعت القوى الغربية الاستعمارية أن تجري تغييرات جذرية في التركيبة الشخصية والعقلية واللسانية في بعض الدول التي استعمرتها، ويكفي أن نشير هنا أن فرنسا الاستعمارية نجحت في مسخ الشخصية الثقافية واللغوية للمجتمعات الأفريقية التي استعمرتها، ويكاد لا يوجد اليوم مجتمع أفريقي لا تمثل "اللغة الفرنسية" لغة وطنية فيه تجمع أشتاته، وتؤلف بين عناصره.

غير أن هذه المقولة لا تؤخذ على إطلاقها، فنجاح فرنسا في المجتمعات الأفريقية ذات الشخصية الطيّعة المرنة القابلة للتشكيل السريع التي لم تكن تعتصم بدين أو لغة ذات عراقة وعمق -لم يكن ملازما لها في المجتمعات التي استعمرتها، فقد واجهت هذه الشعوب المسلمة فرنسا الساعية إلى فَرْنَستهم وتنصيرهم، بالإصرار على الإسلام واللغة العربية التي أصبحت "لغة مقدسة" في وجدانهم؛ لارتباطها بالوحي والقرآن الكريم؛ ومن ثم لم تخرج اللغة العربية من ميدان المقاومة، وظلت هي والإسلام العقبة الكئود أمام الاستعمار.

حقائق وملاحظات

ومن خلال استكناه هذه التجارب الاستعمارية يمكن أن نشير هنا إلى جملة من الملاحظات التي ينبغي أن تكون ماثلة في الأذهان، يأتي في مقدمتها أننا نحتاج إلى الوعي التاريخي؛ لأن كثيرا من الأحداث التي نعايشها اليوم سبق أن مرت علينا وعايشنا ما يشبهها في السابق، فقد سبق أن نظر إلينا على أننا مذاهب وأعراق وأقليات… إلى آخر تصنيفاته لنا؛ ليشق صفنا ويضع بذور الفتنة بل يرعاها بين أبناء الوطن الواحد ليسهل له النفاذ إلى أهدافه وتحقيقها، فضلا عن انتقاء وتقريب بعض هذه الفئات إليه لتقوم بعبء العمل وتنفيذ خططه وأهدافه.

الملاحظة والحقيقة الثانية أن الاستعمار قديمه وحديثه ينظر إلى الشعوب التي لا تتوافق مع حضارته نظرة "دونية" تعطيه "الحق" في أن يفعل بها ما يشاء؛ وهو ما يكشف عن ضمير استعماري متشابه. وما كانت تقوم به بعض الدول الكبرى من رعاية بعض حركات التحرر الوطني إنما كان يأتي في إطار التنافس والصراع بين هذه الدول، ومن ثم فنحن أمام "ضمير" واحد لا يعرف إلا لغة المصالح والمادة، ولا يطبق إلا "قانون الوحوش" مع الشعوب المنكوبة.

الحقيقة الثالثة أن "الأمة" المسلمة مهما بلغت حالتها من الضعف والتراجع فإنها تمتلك القدرة على الانبعاث والتجديد والمقاومة؛ لأنها أمة لا تعرف الموت، ويرتبط ذلك برجوعها إلى دينها الخالص بفهم صحيح وعمل دءوب.

فرنسا والجزائر العربية

كان الاستعمار الفرنسي لا يكتفي باحتلال الأرض ونهب الثروة وتسخير الشعوب المستعمرة في خدمة أهدافه فقط؛ وإنما كان يقوم بهدم استقلالية هذه الشعوب وتحطيم حصونها الثقافية والمعنوية حتى يسهل انقيادها، ويصبح السير خلف "فرنسا" نابعا من الذات التي انقطعت عن جذورها، ويقتدي المغلوب بالغالب بعدما غاب عن وعيه الحضاري.

أدرك الفرنسيون أن الاستعمار لا بد أن يأتي يوم ويرحل، ولذا كان لا بد من إبقاء السيطرة المعنوية والثقافية على هذه الشعوب، ونجحت فرنسا في أفريقيا، مستغلة غياب عوامل التوحد بها، لكن هذه السياسة فشلت نسبيا في بلاد المغرب العربي؛ نظرا لوجود الإسلام واللغة العربية، فمنذ احتلال فرنسا للشمال الأفريقي وضعت نفسها في مواجهة مع هذين الحصنين، وأفرغت جهدا كبيرا للاستيلاء على العقل والقلب واللسان، وفق إستراتيجية استعمارية تقوم على إحداث شروخ في النسيج الوطني يعطيها الفرصة للقيام بهذه العملية التي وصفت بأنها عملية "اغتصاب ثقافي" للشعوب المستعمرة.

الظهير.. بعيدا عن الشريعة والسلطان

وكان من بين الأساليب التي استخدمها الفرنسيون في "المغرب" إصدار قانون عرف باسم "الظهير البربري" في (17 من ذي الحجة 1340هـ=16 من مايو 1930م). والظهير يعني المرسوم. ونصّ هذا الظهير على جعل إدارة المنطقة البربرية تحت سلطة الإدارة الاستعمارية، فيما تبقى المناطق العربية تحت سلطة "حكومة المخزن" والسلطان المغربي، وتم إنشاء محاكم على أساس العرف والعادة المحلية للبربر، وإحلال قانون العقوبات الفرنسي محل قانون العقوبات "الشريفي" المستند إلى الشريعة الإسلامية؛ ومن ثم قام هذا القانون بنوعين من العزل تجاه المناطق البربرية؛ أولهما عزل الإدارة السلطانية عنهم، وعزل الشريعة الإسلامية عن التقاضي بينهم، على اعتبار أن العادات والأعراف البربرية كانت سابقة على الإسلام!! وكان البربر يشكلون حوالي 45% من سكان المغرب في تلك الفترة، وينتشرون في بلاد الريف وجبال أطلس.

السياسة البربرية؟

جاء إصدار هذا القانون ضمن سياسة فرنسية عرفت باسم "السياسة البربرية" التي ترتكز على أن البربر "ذوو إسلام سطحي" غير متعمق في نفوسهم؛ فهم ما زالوا محتفظين بكثير من عاداتهم القبلية، وهؤلاء يمكن "تمسيحهم وتنصيرهم" بعد خلق فجوة بينهم وبين العرب، ولهذا فمن الضروري على فرنسا أن تعطي فرصة لنمو مشاعر التمايز بين عنصري الأمة بعد إبعاد البربر عن الإسلام واللغة العربية!

وذكر محضر اللجنة المكلفة بإعداد المشروع أن الفرنسيين رأوا أنه لا ضرر من كسر وحدة التنظيم القضائي بالمنطقة الفرنسية عندما يكون الأمر متعلقا بتقوية العنصر البربري؛ وذلك لتحقيق "توازن" مع العنصر العربي؛ وتحقيق فوائد من الناحية السياسية للاستعمار؛ لأنه يضع البربر في مواجهة السلطان المغربي والشريعة الإسلامية والعرب، ويحقق التصاقا بين البربر والاستعمار.

ولم يمض وقت طويل حتى فتحت مدارس في المناطق البربرية لتشجيع النزعة الانعزالية، ومُنع الحديث فيها باللغة العربية، ودُرّس التاريخ على أن العرب "غزاة"، وأن البربر هم أصحاب البلاد الأصليون، وأنهم قريبون من الحضارة الأوربية التي تنتمي إلى الحضارة اليونانية.

العزل الاصطناعي

يقول المستشرق الفرنسي "جودفروي دومومبين" في كتابه "المهمة الفرنسية فيما يخص التعليم في المغرب" الصادر عام (1928م): "إن الفرنسية -وليست البربرية- هي التي يجب أن تحل مكان العربية كلغة مشتركة وكلغة حضارة"، ثم يقول: "وجود العنصر البربري مفيد كعنصر موازن للعرب يمكننا استعماله ضد حكومة المخزن"، "إن قوام السياسة البربرية هو العزل الاصطناعي للبربر عن العرب، والمثابرة في تقريبهم منا من خلال التقاليد"، وهذا أيضا ما قرره الكولونيل "مارتي" في كتابه "مغرب الغد" الصادر في تلك الفترة "أن المدارس البربرية يجب أن تكون خلايا للسياسة الفرنسية، وأدوات للدعاية، بدلا من أن تكون مراكز تربوية بالمعنى الصحيح"، ولذلك دعا أن يكون المعلمون فيها وكلاء لضباط القيادة ومتعاونين معهم، ودعا أن تكون المدرسة البربرية فرنسية بتعليمها وحياتها، بربرية بتلاميذها وبيئتها.

التمسيح والتنصير

صدر قانون "الظهير البربري" مع تنامي النشاطات التبشيرية في الأوساط البربرية، يقول الجنرال "بريمون" في كتابه "الإسلام والمسائل الإسلامية من وجهة النظر الفرنسية" الصادر (1932م): "يجب محو إسلام البربر وفَرْنَستهم". أما الأب "جيرو" في كتابه "العدالة الشريفة: عملها، تنظيمها المستقبلي" الصادر (1930م) فيقول: "يجب توجيه غزو معنوي للبربر. الغزاة سيكونون من الإرساليات التبشيرية. لنكلم هؤلاء الناس حول المسيح؛ أساطيرهم مليئة باسم المخلص". وحسب تقارير كنسية فرنسية؛ فإن فكرة "الظهير البربري" وتنصير البربر كانت إستراتيجية لا محيد عنها.

الظهير.. قضية لا قانون

وعلى عكس ما كان يرجو المستعمر، كان صدور "الظهير البربري" عاملا هاما في إيقاظ الروح الوطنية بين المغاربة، وتسليط الأضواء على "القضية المراكشية" بشكل غير مسبوق. يقول "دانييل ريفيه" الأستاذ بجامعة "السربون" في كتابه "المغرب أمام امتحان الاستعمار": "إن المغاربة تمسكوا بما لم يستطع الاستعمار أن ينتزعه منهم"، حيث اصطدم هذا المرسوم مع جيل بأكمله، ونهض هذا الجيل لمواجهته، واستغل هذه المواجهة لإيقاظ النزعة التحررية.

لقد كان ظهور أول حزب مغربي بعد صدور "الظهير"؛ إذ ثار المغاربة على محاولات الاستعمار المسّ بوحدتهم الوطنية، واشتعلت حركة الاحتجاج في عدد من المدن، مثل "فاس"، و"سلا"، و"طنجة"، و"تطوان".

وكان من ذكاء الحركة الوطنية في ذلك الوقت أنها ربطت الأمر بالدين؛ وهو ما وفر لها احتشادا جماهيريا كبيرا، كما أنها انطلقت من المسجد الكبير في "سلا" وبعد دعاء طويل لله ألا يفرق بين العرب والبربر؛ وبذلك حملت الهم الوطني إلى المسجد، فاشتعلت المظاهرات، وانضم التجار والصناع إلى المتعلمين.

واجه الاستعمار الحركة الوطنية الآخذة في التكون بالقمع واعتقال المحرضين، لكن المظاهرات تأججت بشكل أكبر، واستمرت في بعض المدن عدة أيام متواصلة، وتكونت أول جماعة للكفاح الوطني في منزل "أحمد المكوار"، وأخذ أعضاؤها أسماء حركية على أسماء العشرة المبشرين بالجنة، وأطلقت هذه الجماعة على نفسها اسم "الطائفة"، وفي (29 من ربيع الأول 1349هـ=23من أغسطس1930م) كتبت عريضة لتقدمها إلى السلطان "محمد الخامس" تضمنت 3 بنود أساسية وهي: إلغاء التشريعات المتعلقة بالظهير البربري، وتوحيد التشريع والإدارة في البلاد، وتركيز السلطات في يد الملك والحكومة.

المقاومة.. والصور

وبرزت "كتلة العمل الوطني" التي تعد أول تنظيم سياسي مغربي، وأصدرت جريدة ومجلة إحداهما في المغرب باسم "الشعب"، والأخرى في باريس باسم "المغرب" فكان لهما أثر كبير في إيقاظ الروح الوطنية، وبدأت قضية القومية العربية والانتماء الإسلامي تطفو بقوة في المجتمع المغربي، فألقيت محاضرات عن بلاء البربر وخدمتهم للإسلام. واهتمت الحركة بنشر التعليم لحماية الثقافة والوعي، ودخل الشعب في موجات من التظاهر والإضرابات.

لكن المهم في ذلك أن الحركة الوطنية لجأت إلى أساليب جديدة في مقاومة الاستعمار، منها مخاطبة الرأي العام بالأسلوب الذي يفهمه؛ مما وفر له التضامن الشعبي، كما أشركت الشعب في النضال الوطني من خلال اللجوء إلى مقاطعة البضائع الفرنسية بناء على نصيحة من الأمير "شكيب أرسلان" الذي قال: "إن المقاطعة هي السلاح الذي يخشاه الأوربيون؛ فهم الذين يضعون النقود فوق الله"، فبدأت حركة مقاطعة واسعة للبضائع الفرنسية شاركت فيها ربات البيوت، وامتنع الناس عن تدخين السجائر، واستخدام السكر الفرنسي، ورفضوا لبس المنسوجات الفرنسية، كما نصحهم بتصعيد قضيتهم على المستوى الدولي.

ولجأت الحركة الوطنية إلى الأدب، ونسجت أشعارا عربية وبربرية ترفض التفريق بين مكوني الأمة، ومنها:

صوت ينادي المغربي ** من مازغٍ ويعربِ

يحدو الشباب المغربي ** للموت دون الوطنِ

لا نرتضي بالتفرقةْ ** ولو علونا المشنقةْ

ولو غدت ممزقةْ ** أشلاؤنا فدى للوطن

وعلى مستوى العالم الإسلامي أظهر المسلمون تضامنا مع مسلمي المغرب ضد "الظهير البربري"، واعتبروا هذا المرسوم "سياسة صليبية"، فشارك "الأزهر" في حملة الاعتراض، وكونت "جمعية الهداية الإسلامية" لجنة مهمتها الحفاظ على إسلام البربر، وقامت جمعية "الشبان المسلمين" بدور في إثارة الاهتمام بالقضية، وزار الأمير "شكيب" المغرب، لكن الفرنسيين أخرجوه من طنجة.

إلغاء.. وبقايا

استمر هذا الظهير موجودا حتى ألغاه السلطان "محمد الخامس" في منتصف الخمسينيات. استطاعت الحركة الوطنية إفشال الأهداف الكبرى لهذا الظهير، لكن بقيت بعض رواسبه حتى الآن في بعض مظاهر الازدواجية الثقافية واللغوية بين النخبة المثقفة في المغرب.

ويلفت النظر آراء عدد من الباحثين الذين يذهبون إلى أن "الفرانكوفونية" -وهي الرابطة التي تجمع الشعوب الناطقة بالفرنسية- ما هي إلا تطوير فرنسي للظهير البربري. كما أن الإستراتيجية الفرنسية ما زالت تشجع الفصل بين العرب والبربر، ففرنسا أنشأت "الأكاديمية البربرية" سنة (1383هـ= 1963م) التي اضطلعت بكتابة الإنجيل بالأبجدية الأمازيغية. كما أن باريس كانت تشجع الهجرة البربرية إليها دون الهجرة العربية من شمال أفريقيا


منقول

عبدالغفور الخطيب
13-01-2007, 03:04 AM
الثورة الفرنسية.. في الميزان

(في ذكرى سجن لويس السادس عشر: 24 ذي الحجة 1206هـ)

تعتبر الثورة الفرنسية التي انطلقت شرارتها الأولى في العام (1204هـ = 1789م) من أهم الأحداث ليس في تاريخ فرنسا فحسب بل في تاريخ أوروبا كلها، وثمة عوامل تضافرت مجتمعة في فرنسا أدت إلى حدوث هذه الثورة يمكن التعرف عليها من خلال إطلالة سريعة على أحوال فرنسا قبيل العام (1789م = 1204هـ).

على صعيد الأحوال الاجتماعية والسياسية كانت فرنسا تعيش حالة من الاستقرار النسبي في ظل حكم لويس الرابع عشر الذي اهتم بالفنون والآداب ونال حب الشعب واحترامه، ولكن بعد وفاته، وانتقال العرش إلى رجال أقل منه شأنًا، بدأ العبء ينزلق تدريجيًا عن كاهل الملك ووزرائه إلى كاهل الطبقة المتوسطة (البرجوازية) التي كانت قد بدأت تبرز للوجود، وبخاصة في عهد لويس السادس عشر الذي اتسم بضعف الشخصية، والذي قامت في عهده الثورة وتم إعدامه فيها في (8 جمادى الآخرة 1207هـ = 21 يناير 1793م)، وكان أفراد هذه الطبقة المتوسطة في معظمهم متعلمين وميسوري الحال، ومن ثم بدءوا يشعرون بعدم الرضا عن المكانة الدنيا التي يحتلونها بالقياس إلى طبقة النبلاء، وأصحاب المقام الرفيع في الكنيسة. فكان تذمرهم وتمردهم على هذه الأوضاع من العوامل التي أشعلت فتيل الثورة بالتحالف مع العامة أو من يسمونهم بالطبقة الثالثة التي كانت ترزح في أوضاع سيئة في ظل النظام الإقطاعي السائد آنذاك.

أما عن الأحوال الاقتصادية فقد بلغت غاية السوء للدرجة التي لم تستطع فيها الحكومة أن توفر للشعب الغذاء الكافي، وكان ذلك نتيجة الحروب الطويلة، والبذخ على المستويين العام والخاص، وضعف الملوك وعجز الوزراء عن التمسك بالسياسات الموحدة، كل هذا أدى إلى حالة من الفوضى الاقتصادية في البلاد، ولم يستطع أحد علاجها حتى تفاقمت الديون على فرنسا.

اجتماع مجلس طبقات الأمة

بعد أن ساءت الأحوال الاقتصادية، وزادت الضرائب المفروضة قرر الملك عقد مجلس الطبقات في (1204هـ = 5 مايو 1789م) الذي جاء على هوى الطبقة الأرستقراطية. فقد كانت التقاليد تقضي بأن يتألف المجلس من ثلاث هيئات منتخبة تمثل إحداها "الإقليدوس" (الملك- الكنيسة)، وتمثل الثانية "النبلاء"، والثالثة تمثل "الشعب". وكان الاقتراع يتم على هيئة ثلاث وحدات منفصلة وليس طبقًا لعدد الأعضاء. وحيث كانت طبقة رجال الكنيسة خاضعة لسيطرة النبلاء الذين يتقلدون المناصب الرفيعة في الكنيسة لقاء الخدمات التي يقدمونها، فقد كانت الطبقتان الأوليان على يقين دائم من الحصول على أغلبية الأصوات، وبالتالي يقوم أبناء الطبقة الثالثة –الشعب- بتحمل عبء الضرائب المفروضة وحدهم. وقد فطن أبناء هذه الطبقة لهذا الأمر، وطالبوا بأن يكون التصويت في المجلس طبقًا لعدد الأعضاء لا طبقًا للطبقة، ثم طالبوا بأن يكون للمجلس السلطة في تنفيذ المشاريع. وطالب الشعب في أول الأمر بأن يجتمع المجلس في قاعة واحدة، وكل هذه الإجراءات سعى العامة لتحقيقها لكي يحصلوا على الأغلبية بمن ينضم إليهم ممن يعطفون عليهم وعلى حركتهم من رجال الدين والأشراف الذين كانوا يريدون انضمامهم إلى العامة ليكون لهم القيادة والنفوذ.

وقبل ذلك كان المجلس يجتمع ويعرض الملك عليه آراءه ثم ينصرف أعضاؤه إلى مدنهم قانعين. ولكن هذا المجلس طالب بأن المسائل التي تعرض عليهم يجب تنفيذها وألا يُفضّ المجلس بل يبقى بجانب الملك. أصر نواب العامة على تنفيذ مطالبهم التي رفضها الملك؛ فأضربوا عن دفع الضرائب، وكلما مر الوقت ازداد رجال العامة قوة بمن ينضم إليهم من أشراف ورجال الدين، وكلما زادت قوتهم تشددوا في مطالبهم.

وفي ذلك الوقت يظهر بين طبقة العامة نائب يدعى (سييس) وهو من رجال الدين الذين تولوا البحث في الدستور، وأعلن أنه إذا رفضت طبقة الأشراف ورجال الدين الانضمام إليهم فسيعلنون أنفسهم نوابًا للشعب ويطلقون على أنفسهم الجمعية الوطنية، وقد ووفق على هذا الاقتراح في (3 من شوال 1204هـ = 16 يونيو 1789م) ولكن الملك لم يوافق على اجتماع الطبقات في قاعة واحدة، وأصر نواب العامة على مطلبهم فاضطر الملك مرغمًا إلى الموافقة، ورأى رجال الجمعية الوطنية أن يضعوا دستورًا للدولة.


الثوار يدكون الباستيل رمز الطغيان

وتوالت بعد ذلك الأحداث حتى نجح الثوار في إسقاط سجن الباستيل رمز الطغيان في (2 من ذي القعدة 1204هـ = 14 يوليه 1789م) وبسقوطه زادت قوة الثوار حتى أصدروا الدستور الجديد الذي اتخذ من الحرية والإخاء والمساواة قواعد انطلق منها إعلان حقوق الإنسان والمواطن في (15 من ذي الحجة 1204هـ = 26 أغسطس 1789م) ثم إعلان الجمهورية وإلغاء الملكية في (5 من صفر 1207هـ = 22 سبتمبر 1892م). وقد سبق إعلان الجمهورية سجن لويس السادس عشر في (24 من ذي الحجة عام 1206هـ = 13 أغسطس 1792م) ثم إعدامه في (8 من جمادى الآخرة 1207هـ = 21 من يناير 1893م)، ثم إعدام زوجته "ماري أنطوانيت" في (10 من ربيع الأول 1408هـ = 16 أكتوبر 1793م).

شعارات الثورة في الميزان

اتخذت الثورة الفرنسية مبادئها من أفكار الفلاسفة: "جان جاك روسو" و"فولتير" و"مونتسكيه"، ورفعت عبارة: (الحرية – الإخاء – المساواة) كشعار لها، ولكن إلى أي مدى التزمت الثورة بهذا الشعار سواء على صعيد الداخل الفرنسي إبان الثورة أو على صعيد سياسة حكومتها الخارجية فيما بعد؟


لويس الـ16 وزوجته في قبضة الثوار

يعلق "روبرت دارنتون" أستاذ تاريخ أوروبا الحديث في جامعة "برنستون" في ذكرى احتفال فرنسا بمرور مائتي عام على قيام الثورة الفرنسية قائلاً: إذا كانت فرنسا تحتفل بمرور مائتي عام على سقوط الباستيل، وإزالة الإقطاع، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن، فإن الوضع في فرنسا في الفترة التي قامت فيها الثورة لم يكن في حقيقة الأمر على كل ذلك القدر من السوء كما يعتقد الكثيرون. فالباستيل كان خاليًا تقريبًا من السجناء وقت الهجوم عليه يوم (14 يوليو 1789م = 2 من ذي القعدة 1402هـ) كما أن الإقامة فيه لم تكن سيئة تمامًا كما يتصور الناس، ولكن ذلك لم يمنع الثوار من أن يقتلوا مدير السجن لا لشيء إلا لأنه من النبلاء، ثم طافوا بعد ذلك بجثته في الشوارع. كذلك كان الإقطاع قد انتهى بالفعل وقت أن أعلنت الثورة إلغاءه أو لم يكن على الأقل موجودا بمثل تلك الدرجة الفاحشة.

ويضيف قائلاً: وإذا كانت الثورة قد أعلنت حقوق الإنسان والمواطن فإنها لم تلبث أن أهدرت هذه الحقوق بما ارتكبته من جرائم ومذابح وموجات إرهاب اجتاحت فرنسا كلها بعد 5 سنوات فقط من إعلان تلك الحقوق لدرجة أن بعض المؤرخين البريطانيين مثل "ألفريد كوبان" كان يصف هذه الإعلانات (حقوق الإنسان والمواطن) بأنها مجرد أسطورة.

ويقول المؤرخ الفرنسي "بيير كارون" الذي أصدر عام (1354هـ = 1935م) كتابًا عن المذابح التي حدثت في السجون الباريسية إبان عهد الثورة في (15 من محرم 1207هـ= 2 سبتمبر 1792م).. يقول عن هذه المذابح: إن هذه المذابح كان لها طابع (شعائري) جارف، وقد بدأت بالهجوم على بعض السجون بزعم القضاء على بعض المؤامرات التي كانت تدبر فيها للإطاحة بالثورة، وأقام "الدهماء" من أنفسهم محكمين وقضاة ومحلفين في فناء هذه السجون، حيث كان السجناء يقدمون للمحاكمة واحدًا بعد الآخر فتوجه إليهم التهم ويحكم لهم أو عليهم ليس تبعًا للأدلة والشواهد؛ وإنما تبعًا لمظهرهم العام وسلوكهم وشخصيتهم بل وتكوينهم الجسدي. كما كان أي تردد أو أي اضطراب يظهر على الشخص يعد دليلاً للإدانة وعلى ثبوت التهمة فيحكم عليه بالإعدام، وكان الذي يتولى المحاكمة وإصدار الحكم شخصًا عاديًا، كما كانت أحكامه تقابل بالتصفيق والصياح من الجماهير الذين تجمعوا من الشوارع المحيطة وأصبحوا بمثابة محلفين، وكان الشخص الذي يحكم ببراءته يؤخذ بالأحضان والتهنئة والقبلات ويطوفون به الشوارع، بينما كان الشخص الذي يحكم عليه بالإدانة يتم إعدامه طعنًا بالخناجر والسيوف وضربه بالهراوات الثقيلة ثم تنزع عنه ملابسه ويلقى بجسده فوق كومة من أجساد الذين سبقوه.

والغريب أن الذين كانوا يقترفون هذه المذابح كانوا يرتكبونها باسم الحرية وحقوق الإنسان و(المواطن والعدالة والمساواة)!

منبع الإرهاب!


أما "سيرجو بوسكيرو" رئيس الحركة الملكية الإيطالية فيقول: إن الثورة الفرنسية كانت عبارة عن حركة معادية للشعب الفرنسي إبان قيامها، كما أن أسطورة السيطرة الشعبية على سجن الباستيل لم تكن سوى عملية سطو على مخزن الأسلحة في الباستيل الذي كان يستضيف 7 مساجين فقط، منهم 3 مجانين.

ويضيف قائلاً: إن الثورة الفرنسية بحق قامت بأكبر مجزرة في التاريخ أو على الأقل في الشعب الفرنسي، حيث قتلت 300 ألف فلاح، وهي بذلك تعد منبع الإرهاب العالمي؛ إذ ولدت "ظاهرة الإرهاب" من الثورة الفرنسية.

حرية أم عبودية؟

أما على صعيد السياسة الخارجية التي انتهجتها حكومات الثورة الفرنسية فقد جاءت متناقضة تمامًا مع ما أعلنته الثروة من مبادئ (الحرية والإخاء والمساواة) وبخاصة فيما يتعلق بشعوب آسيا وإفريقيا التي استعمرتها والتي تعاملت معها بمنطق السيد والعبد. ولم تمضِ فترة وجيزة من الزمن حتى جاءت الحملة الفرنسية على مصر عام (1213هـ = 1789م)، ثم بعدها بفترة جاء الاحتلال الفرنسي للجزائر والمغرب وتونس وغيرها من المناطق في آسيا وإفريقيا.

ومما يؤكد أسطورية المبادئ التي رفعتها الثورة الفرنسية من الحرية والإخاء والمساواة إلقاء نظرة سريعة على بعض أفكار الفيلسوف الفرنسي "مونتسكيه" الذي قامت الثورة على مبادئه وأفكاره، وفي ذلك تقول الدكتورة "زينب عصمت راشد" أستاذة التاريخ الحديث بجامعة عين شمس: إنه ليؤسفنا حقًا أن ينخدع العالم بوجود مفكرين راشدين بين من زعموا أنهم ثاروا لدعوة الحق والحرية والعدالة والإخاء والمساواة، وفيهم من استحل ظلم الإنسان لأخيه الإنسان لا لشيء سوى بشرته. ويعد مونتسكيه أشهر الأمثلة على ذلك، وهو من أئمة التشريع في الثورة الفرنسية، وصاحب كتاب "روح القوانين"، إذ يقول في تبرير استرقاق البيض للسود كلامًا لا يمكن صدوره من عقل مفكر، يقول مونتسكيه في بعض عباراته: "لو طلب مني تبرير حقنا المكتسب في استرقاق السود لقلت إن شعوب أوروبا بعد أن أفنت سكان أمريكا الأصليين لم تر بدًا من استرقاق السود في إفريقيا لتسخيرهم في استغلال تلك البقاع الواسعة، ولولا استغلالهم في زراعة هذه الأرض للحصول على السكر لارتفع ثمنه".

وتمضي د. زينب قائلة: يقول مونتسكيه مبررًا جرائم الاستعمار الأوروبي ما يأتي: "أولئك الذين سخروا في هذا العمل ليسوا غير أقوام من السود، فطس الأنوف لا يستحقون شيئًا من رحمة أو رشاد".

ويقول: "إنه لا يتصور مطلقًا أن الله بحكمته السامية قد وضع في تلك الكائنات السود أرواحًا يمكن أن تكون طيبة".

الثورة الفرنسية والمشرق الإسلامي

لم يحدث أن سمع المشرق العربي الإسلامي عن الثورة الفرنسية ومبادئها إلا مع قدوم نابليون بونابرت على رأس حملته على مصر للاستيلاء عليها واستعمارها عام (1213 هـ= 1798م)، وقد حاول نابليون أن يطبق في مصر ما أقرته الثورة الفرنسية من أفكار ونظم سياسية، وكان الحكم النيابي في طليعة الإجراءات التي حاول نابليون تطبيقها.

ويرى كثير من العلماء والدارسين أن هذا النوع من الحكم المتكئ في أصوله إلى الثورة الفرنسية هو بداية العلمانية في مصر؛ ومن ثم إلى معظم البلدان العربية، حيث تم تصريف الأمور وحكم الرعية بعيدًا عن الدين وتوجيه القرآن الكريم.

وقد لاحظ الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" ذلك عندما وصف الفرنسيين بأنهم "لا يتدينون". وهذه النظرة العلمانية أثرت في المجتمع المصري تأثيرًا واضحًا؛ حيث شجع الفرنسيون المصريين على البغاء، وسفور النساء وتبرجهن واختلاط الجنسين.

الثورة الفرنسية والصهيونية

ومما يتعلق بالثورة الفرنسية وحملة بونابرت على مصر وأثرهما في العالم العربي والإسلامي تبنيها للحركة الصهيونية ومساعدة اليهود في إنشاء وطن قومي في أرض الميعاد -على حد زعمهم- فقد وعد الثوار بإقامة كومنولث يهودي في فلسطين إن نجحت الحملة الفرنسية في احتلال مصر والشرق العربي.

يذكر الدكتور أمين عبد محمود مؤلف كتاب "مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى" أن الوعد الفرنسي بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين كان مقابل تقديم الممولين اليهود قروضًا مالية للحكومة الفرنسية التي كانت تمر آنذاك بضائقة مالية خانقة، والمساهمة في تمويل الحملة الفرنسية المتجهة صوب الشرق بقيادة بونابرت.


منقول

عبدالغفور الخطيب
17-01-2007, 03:48 AM
المبرّد.. أسير اللغة العربية

(في ذكرى وفاته: 28 ذي الحجة 286هـ)



عاش "المبرِّد" في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وعاصر كثيرًا من الخلفاء العباسيين الذين اهتموا بالعلم والعلماء، وساهموا في إرساء دعائم الحضارة الإسلامية ورقيِّها وصناعة نهضة حضارية عظيمة في مختلفة العلوم والفنون.

وكان "المبرِّد" واحدًا من هؤلاء العلماء الذين تشعبت معارفهم، وتنوعت ثقافاتهم لتشمل العديد من العلوم والفنون، وإن غلبت عليه العلوم البلاغية والنقدية والنحوية، فإن ذلك ربما كان يرجع إلى غيرته الشديدة على قوميته العربية ولغتها وآدابها في عصر انفتحت فيه الحضارة العربية على كل العلوم والثقافات، وظهرت فيه ألوان من العلوم والفنون لم تألفها العرب من قبل.

نشأته وشيوخه

ولد المبرد بالبصرة نحو سنة [210هـ = 825م]، واسمه محمد بن يزيد بن عبد الأكبر، وينتهي نسبه بـ"ثمالة"، وهو عوف بن أسلم من الأزد.

وقد لُقب بالمبرد قيل: لحسن وجهه، وقيل: لدقته وحسن جوابه، ونسبه بعضهم إلى البردة تهكمًا، وذلك غيرة وحسدًا.

نشأ المبرد في البصرة، وتلقى العلم فيها على عدد كبير من أعلام عصره في اللغة والأدب والنحو منهم: "أبو عمر صالح بن إسحاق الجرمي"، وكان فقيهًا عالمًا بالنحو واللغة، و"أبو عثمان بكر بن محمد بن عثمان المازني" الذي وصفه "المبرد" بأنه كان أعلم الناس بالنحو بعد "سيبويه"، كما تردد على "الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر"، وسمع منه وروى عنه حتى عُد من شيوخه، وأخذ عن "أبي حاتم السجستاني"، وكان من كبار علماء عصره في اللغة والشعر والنحو، كما تلقى عن "التوزي" -أبو محمد عبد الله بن محمد-، وكان من أعلم الناس بالشعر.

ولم تقتصر روافد ثقافة "المبرد" ومصادر علمه على ما يتلقاه عن شيوخه فحسب، وإنما كان نهم القراءة؛ فكان يقرأ كل ما يمكن أن يصل إليه من كتب السابقين.

تلاميذه

وقد تلقى عنه عدد كبير من الأدباء والأعلام، منهم: "الزَّجَّاج" و"الصولي" و"نفطويه النحوي" و"أبو على الطوماري" و"ابن السراج" و"الأخفش الأصغر" و"أبو على إسماعيل الصفار" و"أبو الطيب الوشاء" و"وابن المعتز العباسي" و"أبو الحسين بن الجزار" و"ابن درستويه" و"وأبو جعفر النحاس".

وهم جميعًا من كبار علماء العربية وأعلامها المشهورين، وقد تركوا العديد من المؤلفات القيمة والتصانيف الشهيرة في مختلف العلوم والفنون.

وكان "الزَّجَّاج" أكثرهم التصاقًا به وأغزرهم رواية عنه؛ فهو أول تلميذ للمبرد في "بغداد"، وقد ظل وفيًا له طوال حياته.

وقابل "المبرد" ذلك الوفاء بمزيد من الحب والتقدير، فكان لا يقرئ أحدًا كتاب "سيبويه" إلا إذا قرأه على "الزجاج"، ولما تقدمت به السن طلب منه الخليفة "المعتضد" تصنيف بعض الكتب، فاعتذر لكبر سنه ومرضه، وسأل الخليفة أن يقوم بذلك تلميذه "الزجاج" بدلا منه.

مكانته العلمية

بعد وفاة "المازني" صار المبرد زعيم النحويين بلا منازع وإمام عصره في الأدب واللغة من بعد شيخه، فأقبل عليه الدارسون من كل حدب وصوب، وصار بيته كعبة لطلاب العلم ورواد المعرفة من كل مكان، ومنتدى للوجهاء والعظماء والأعيان.

واختصه كثير من سراة القوم وأعيانهم لتأديب أبنائهم؛ لما عُرف عنه من العلم والفضل والأدب، وما اشتهر به من المروءة والوفاء.

وبالرغم من أنه عاصر تسعة من الخلفاء العباسيين هم: "المأمون" [ 198 ـ 218 هـ = 813- 833م]، و"المعتصم" [218 ـ 227هـ= 833ـ842م]، "والواثق" [227 - 232هـ = 842ـ 843م] و"المتوكل" [232 - 247 هـ = 847 - 861م]، و"المنتصر" [247 ـ 248هـ = 861 ـ 862م]، و"المستعين" [248 ـ 252 هـ= 862 ـ 866 هـ]، و"المهتدي" [252 ـ 256هـ= 866 ـ 870م] و"المعتمد" [256 ـ 279هـ= 870 ـ 892م]، و"المعتضد" [279ـ 290هـ= 892 ـ 905م].

فإنه لم يتصل إلا بواحد فقط منهم، هو الخليفة "المتوكل"، وقد جاء خبر قدومه عليه في قصة لطيفة، وذلك أن "المتوكل" قرأ يومًا في حضرة "الفتح بن خاقان" قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام: 109)

بفتح همزة (أن)، فقال له الفتح: إنها يا سيدي بالكسر، وصمم كل منهما على أنه على صواب، فتبايعا على عشرة آلاف درهم يدفعها من لا يكون الحق في جانبه.

وتحاكما إلى "يزيد بن محمد المهلبي"، وكان صديقًا للمبرد، ولكنه خاف أن يسخط أيا منهما، فأشار بتحكيم "المبرد، فلما استدعاه "الفتح" وسأله عنها قال: "إنها بالكسر، وهو الجيد المختار، وذكر تفسير ذلك والأدلة عليه".

فلما دخلوا على "المتوكل" سأله عنها، فقال: يا أمير المؤمنين، أكثر الناس يقرءونها بالفتح، فضحك "المتوكل" وضرب رجله اليسرى، وقال: "أحضر المال يا فتح".

فلما خرجوا من عنده عاتبه "الفتح" فقال المبرد: "إنما قلت: أكثر الناس يقرءونها بالفتح، وأكثرهم على الخطأ، وإنما تخلصت من اللائمة، وهو أمير المؤمنين"!

وتوثقت صلته بالفتح الذي أعجب بعلمه وذكائه وغزارة علمه وحسن حديثه؛ فكان كل منهما يحرص على وُدِّ صحابه، ويقدر له مكانته.

المبرد بين أنصاره وحساده

وقد عرف "المبرد" بطلاقة لسانه، وسلامة عبادته، وكان عذب الحديث حسن الفكاهة؛ ولذلك فقد حرص الولاة والأمراء على مجالسته ومسامرته.

وكان على علمه ومكانته حلو الفكاهة لطيف المداعبة، معروفًا بالأدب والظرف؛ فكان أصدقاؤه يحبون ذلك منه، ويجيبون دعاباته بلطائف دعاباتهم.

روي أن أحد الأدباء، وكان يُدعى "برد الخيار" لقي المبرد على الجسر في يوم بارد، فقال: "أنت المبرد وأنا برد الخيار، واليوم بارد، اعبر بنا سريعًا لئلا يصيب الناس الفالج" (ريح يصيب الإنسان فيرخِّي بعض البدن).

وكان المبرد إلى جانب ما عُرف به من كثرة محفوظه وقوة حافظته يتمتع ببديهة حاضرة وذهن وقّاد، وأكسبته غزارة علمه قدرة فائقة على الرد على كل سؤال، وكان ذلك مثار عجب أنصاره وحسد أعدائه، حتى إنهم اتهموه بالوضع في اللغة لكثرة حفظه وسرعة إجابته.

أقوال العلماء فيه

وقد وثقه العلماء وأصحاب الجرح والتعديل؛ فقال عنه "الخطيب البغدادي":

"كان عالمًا فاضلا موثوقًا في الرواية". وقال "ابن كثير": "كان ثقة ثَبَتًا فيما ينقله". وقال "القفطي": "كان أبو العباس محمد بن يزيد من العلم وغزارة الأدب، وكثرة الحفظ، وحسن الإشارة، وفصاحة اللسان، وبراعة البيان، وملوكية المجالسة، وكرم العشرة، وبلاغة المكاتبة، وحلاوة المخاطبة، وجودة الخط، وصحة العزيمة، وقرب الإفهام، ووضوح الشرح، وعذوبة المنطق؛ على ما ليس عليه أحد ممن تقدمه أو تأخر عنه". وقال: "ياقوت": "كان إمام العربية، وشيخ أهل النحو ببغداد، وإليه انتهى علماؤها بعد الجرمي والمازني". وقال: "الزبيدي": "كان بارعًا في الأدب وكثرة الحفظ والفصاحة وجودة الخط".

ومدحه عدد من الشعراء، منهم "البحتري" الذي دعا إلى الاقتباس من أنوار علمه، ووصفه بالكوكب:

ما نال ما نال الأميرُ محمد
إلا بيُمن محمـد بن يزيــد

وبنو ثمالةَ أنجمٌ مسعودة
فعليك ضوءُ الكوكب المسعود



المنافسة بين "ثعلب" و"المبرد"

حينما قدم "المبرد" إلى "بغداد" كان "أبو العباس أحمد بن يحيى" المعروف بثعلب على رأس علمائها ومشايخها، فخشي مزاحمة "المبرد" له، وانتزاع الرياسة منه؛ فأغرى به بعض تلاميذه يعنتونه بالأسئلة حتى يعجزوه؛ فينصرف عنه الناس، وكان "الزجاج" على رأس من أغراهم "ثعلب" به؛ لأنه كان أبرعهم حجة وأكثرهم علمًا وذكاء.

ولكن "المبرد" استطاع بعلمه وبلاغته وقوة حجته أن يأخذ بعقل "الزجاج" ويستحوذ على إعجابه؛ فترك "ثعلب" ولزم "المبرد" يأخذ عنه ويتتلمذ عليه.

وبالرغم من اشتعال المنافسة بين الرجلين واشتداد التنافر بينهما، وعنف "ثعلب" في الهجوم على "المبرد" وكثرة تعريضه به، وتعرضه له، فإن "المبرد" كان بعيدًا عن العنف به، ويأبى مواجهته بالسوء؛ فلم يُعرف عنه أنه أغرى به أحدًا من تلاميذه، أو أوعز إلى أحد أن يعنته بسؤال. بل إنه حينما سئل عن "ثعلب" قال: "ثعلب أعلم الكوفيين بالنحو"!

"المبرد" شاعرًا

كان "المبرد" مع روايته للشعر وحفاوته به قليل الشعر، ولم يصل إلينا من نظمه إلا النزر اليسير، وهو على ندرته يتسم بالجودة والرقة والعذوبة. ومن جيد شعره قوله في الغزل:

فإن تكُ ليلى قد جفتني وطاوعت
على صرْم حبلي من وَشى وتكذَّبا

لقد باعت نفسًا عليهـا شفيقـة
وقلبًا عصى فيها الحبيب المقرَّبا

فلست وإن ليلـى تولت بودِّهـا
وأصبح باقي الوصل منها تقضُّبا

بمُثنٍ سوى عرف عليها ومشمتٍ
وشاة بها حولـي شهـودًا وغيَّبا

ولكننـي لا بـد أنـي قـائـل
وذو الودّ قـوَّال إذا مـا تعقَّـبـا


وله في المدح:

جهرت بحلفة لا أتقيهـا
بشكِّ في اليمين أو ارتياب

بأنك أحسـن الخلفــاء
وأسْمحُ راحتين ولا أحابي

وأن مطيعك الأعلى مقامًا
ومن عصاك يهوى في تباب


وله في الرثاء:

لعمري لئِن غال ريبُ الزمان
فساء لقد غـال نفسًا حبيبـة

ولكن علمـي بما في الثـوا
ب عند المصيبة يُنسي المصيبة


وله في الحكمة:

ما القرب إلا لمن صحت مودتُــه
ولم يخُنك، وليس القرب في النسب

كم من قريب دوى الصدر مضطغن
ومن بعيـد سليم غيـر مغتـرب


آثار "المبرد" ومؤلفاته


بالرغم من مكانة المبرد الأدبية والعلمية، وغزارة علمه واتساع معارفه، فإنه لم يصلنا من آثاره ومؤلفاته إلا عدد قليل منها:

1- الكامل: وهو من الكتب الرائدة في فن الأدب، وقد طُبع مرات عديدة، وشرحه "سيد بن علي المرصفي" في ثمانية أجزاء كبيرة بعنوان "رغبة الأمل في شرح الكامل".

2- الفاضل: وهو كتاب مختصر يقوم على أسلوب الاختيارات، ويعتمد على الطرائف وحسن الاختيار.

3- المقتضب: ويقع في ثلاثة أجزاء ضخمة، ويتناول كل موضوعات النحو والصرف بأسلوب واضح مدعَّم بالشواهد والأمثلة.

4- شرح لامية العرب.

5- ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد.

6- المذكر والمؤنث.

كما يُنسب إليه عدد آخر من المؤلفات التي لا تزال مخطوطة، مثل:

1- التعازي والمرائي.

2- الروضة.



بالإضافة إلى بعض الكتب الأخرى التي وردت إشارات عنها في عدد من المراجع والمصادر العربية القديمة، ولكنها لم تصل إلينا، مثل:

1- الاختيار: وقد ذكره "المبرد" في "الكامل".

2- الاشتقاق: وذكره "ابن خلكان" في "وفيات الأعيان".

3- الشافي: وقد ورد ذكره في "شرح الكافية".

4- الفتن والمحن: ذكره "الصولي" في "أخبار أبي تمام".

5- الاعتناب": ذكره "البغدادي" في "خزانة الأدب".

6- شرح ما أغفله سيبويه: ذكره "ابن ولاد" في "الانتصار".

وتوفي "المبرد" في [28 من ذي الحجة 286هـ = 5 من يناير 900م].



منقول

عبدالغفور الخطيب
20-01-2007, 03:05 AM
أورخان الأول.. والاتجاه نحو أوربا

(في ذكرى مولده: الأول من المحرم 687 هـ)



نشأ أورخان في كنف أبيه السلطان "عثمان الغازي" مؤسس الدولة العثمانية التي إليه تنسب. وحرص أبوه على إعداده لتولي المسئولية ومهام الحكام؛ فعهد إليه بقيادة الجيوش التي كان يرسلها إلى حدود الدولة البيزنطية. وكان أورخان عسكريا من الطراز الأول.

لم يكد أورخان ينجح في فتح مدينة بورصة -مدينة في آسيا الوسطى- حتى استدعاه والده الذي كان في مرض الموت وأوصى له بالحكم من بعده في (21 من رمضان 726 هـ= 21 من أغسطس 1325م) وترك له وصية سجلها المؤرخ العثماني عاشق الحلبي جاء فيها:

"يا بني، أحط من أطاعك بالإعزاز، وأنعم على الجنود، لا يغرنّك الشيطان بجهدك وبمالك، وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة. يا بني، لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم، أو سيطرة أفراد؛ فنحن بالإسلام نحيا وللإسلام نموت، وهذا يا ولدي ما أنت أهل له. يا بني، إنك تعلم أن غايتنا هي إرضاء رب العالمين، وأنه بالجهاد يعم نور ديننا كل الآفاق فتحدث مرضاة الله جل جلاله".

وعلى الرغم من أورخان لم يكن أكبر أبناء عثمان الغازي فإن أخاه الأكبر "علاء الدين" لم يعلن العصيان أو يعارض وصية أبيه، بل قدم الصالح العام للدولة على الصالح الخاص والذاتية الشخصية، وجعل نفسه في خدمة أهداف الدولة العليا. وقد عين أورخان أخاه علاء الدين في الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء) فقام بتدبير الأمور الداخلية، على حين تفرغ أورخان للفتوحات العثمانية.

كان أول عمل قام به أورخان هو أن نقل عاصمة دولته إلى مدينة بورصة؛ نظرا لحسن موقعها. وأرسل أورخان قواد جيوشه لفتح ما تبقى من بلاد آسيا الصغرى الخاضعة لنفوذ البيزنطيين؛ ففتحوا أهم مدنها، وفتح السلطان بنفسه مدينة "أزميد" وهى مدينة يونانية قديمة بآسيا الصغرى. ولم يبق من المدن المهمة بتلك المنطقة سوى مدينة "أزنيك" فحاصرها وضيق عليها الحصار حتى دخلها بعد سنتين، وانتهى بذلك نفوذ البيزنطيين في بلاد آسيا الصغرى.

اتبع أورخان في البلاد المفتوحة سياسة اللين والرفق؛ وهو ما جذب إليه قلوب الأهالي، حيث لم يعارضهم في إقامة شعائر دينهم، وسمح لهم بحرية الحركة والتنقل ونحو ذلك.

وقد أدت هذه السياسية السمحة إلى أن الغالبية العظمى من الروم البيزنطيين الذين كانوا يسكنون هذه المناطق دخلوا الإسلام طوعا. وأفتى الفقهاء -الذين كان السلاطين يستشيرونهم في كل ما يتصل بتشريعات الدولة ونظمها- بأن كل من أسلم بأهله من السكان صار من أهل الدولة.

وهذه الفتوى سهلت على العثمانيين فتح إمارة "قرة سي" الواقعة على البحر سنة (736هـ= 1336م) وبهذا سيطر الأتراك العثمانيون على الركن الشمالي الغربي لآسيا الصغرى.

تسامع الأتراك في شرقي آسيا بانتصارات بني عمومتهم فتوافدوا عليهم ألوفا وانضموا إلى جيوشهم فتضاعف أعداد الأتراك العثمانيين مرات كثيرة.

أعمال نظامية حضارية

وبعد أن فتح أورخان إمارة "قرة سي" أمضى 20 سنة دون أن يخوض معارك كبيرة؛ ولذا شغل نفسه في وضع النظم المدنية والعسكرية التي تقوي من شأن الدولة وتعزز من الأمن الداخلي، وعني ببناء المساجد والمدارس ورصد الأوقاف عليها وإقامة المنشآت العامة.

ولعل من أهم الأعمال التي قام بها أورخان في تنظيم الجيوش أنه أنشأ فرق الإنكشارية بناء على اقتراح من أحد قادة الجيش يدعى "قرة خليل". ويقوم بناء فرق الإنكشارية على عزل الأولاد الصغار من أسرى الحرب وتربيتهم تربية إسلامية خالصة تقطعهم عن ماضيهم السابق فلا يعرفون أبا إلا السلطان ولا حرفة إلا الجهاد في سبيل الله.

وقد ارتقت فرق الإنكشارية في النظم وزاد عددها فيما بعد وصارت الدولة العثمانية تعول عليها في حروبها، وكانت من أكبر وأهم عوامل امتداد سلطة الدولة العثمانية وزيادة رقعتها واتساع فتوحاتها.

عبور الشاطئ الأوربي

وفي سنة (756 هـ= 1355م) استنجد الإمبراطور البيزنطي "جان باليولوج" بالسلطان أورخان طالبا الدعم والمساعدة لصد غارات ملك الصرب "إستفان دوشان" الذي أصبح يهدد القسطنطينية نفسها، وكانت مملكة الصرب التي تقع جنوبي شبه جزيرة "غاليبولي" وتعرف بمملكة "ولاشيا" الصربية قد شهدت نهضة قصيرة في أيام ملكها إستفان دوشان.

أجاب أورخان طلب الإمبراطور البيزنطي وأرسلا لدوشان جيشا كبيرا، لكن دوشان عاجلته المنية قبل وصوله بجيوشه إلى القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية فتوقفت حملته، وتخلص البيزنطيون من تهديده، وفي الوقت نفسه عاد الجيش العثماني من حيث أتى دون قتال.

غير أن العثمانيين بعد عبورهم للشاطئ الأوروبي تيقنوا من حالة الضعف التي حلت بالإمبراطورية البيزنطية؛ وبدأ أورخان يجهز الكتائب لاجتياز الحرب واحتلال بعض النقاط على الشاطئ الأوروبي لتكون مركزا لأعمال العثمانيين في أوربا؛ فاجتاز سليمان باشا أكبر أبناء السلطان أورخان مضيق الدرنديل سنة (758هـ= 1357م) وتمكن هو وجنوده من فتح مدينة غاليبولي التي تبعد عن القسطنطينية بحوالي 86.5 ميلا، واحتلوا عدة مدن أخرى منها "أبسالا" وهي تقع في شمال مضيق الدرنديل في الجانب الأوروبي، و"رودزستو" التي تقع على بحر مرمرة من الجانب الغربي؛ ولذا يعد أورخان أول سلطان عثماني يمتد ملكه إلى داخل أوربا، ويعد دخول الأتراك العثمانيين إلى البلقان والقارة الأوروبية من الوقائع التاريخية المهمة؛ حيث غيرت وجه التاريخ الأوربي ومصير الدول الأوربية، وكان ذلك بداية لتقدم تركي سريع في البلقان.

توفي السلطان أورخان سنة (762هـ= 1362م) بعد حكم دام 38 سنة، وقد بلغت مساحة الأراضي العثمانية في هذا التاريخ 95000 كم2، وهي تمثل 6 أضعاف ما كانت عليه عند جلوس السلطان أورخان على كرسي الحكم.

منقول

عبدالغفور الخطيب
22-01-2007, 04:35 AM
البهائية.. والخروج من رحم البابية

(في ذكرى مولد مؤسسها: 2 من المحرم 1233هـ)


في قرية "نور" محمد نواحي "مازندران" بإيران ولد "حسين علي بن عباس بزرك"، الملقب بالبهاء مؤسس البهائية. كان أبوه موظفا كبيرا في وزارة المالية، ومن أسرة يشغل أبناؤها المناصب المهمة في المصالح والوزارات الحكومية.

لم يتلق "حسين علي" تعليما نظاميا في مدرسة أو معهد، وإنما عهد به أبوه إلى من يعلمه في المنزل، ولما نال قسطا من التعليم اعتمد على نفسه في المطالعة والقراءة، فقرأ كتب الصوفية والشيعة، وشغف بقراءة كتب فرقة الإسماعيلية، وكتب الفلاسفة القدماء، وتأثر بأفكار بعض الأديان الوضعية كالبرهمية، والبوذية والزرادشتية، واشتهر بالقدرة على المناظرة والجدل.

الالتقاء بـ"الباب"

وفي سنة (1260هـ = 1844م) انضم حسين علي إلى دعوة الميرزا "علي محمد الشيرازي" المعروف بـ"الباب" الذي ادَّعى النبوة والرسالة، والتفّ حوله الأتباع والدعاة من غلاة الباطنية، وكان "حسين علي" من بين هؤلاء الدعاة.

وقد بدأت الدعوة البابية الفاسدة في الانتشار، مستغلة سوء نظام الحكم في فارس، والجهل بأحكام الدين وحقائق الإسلام، كما أنها نشرت دعوتها سرا ولم تواجه الناس بحقيقتها.

ولما شاع أمر "البابية" قبضت الحكومة الإيرانية على الميرزا علي محمد الشيرازي، وأودعته قلعة "ماه كو" في "أذربيجان" وذلك في (ربيع الآخر 1263هـ = مارس 1847م) غير أن هذا لم يمنع أتباعه من زيارته في سجنه والاجتماع به، وبدءوا يجهرون بالدعوة بعدما كانوا يكتمونها عن عامة الناس، واستعدوا لعقد مؤتمر يجتمع فيه أقطاب البابية لبحث إمكانية تخليص الباب من سجنه، وإعلان نسخ الشريعة الإسلامية بظهور "الباب" وإبطال العمل بها.

وفي هذا المؤتمر الذي عقد في صحراء "بدشت" بإيران في (رجب 1264هـ= يونيه 1848م) برز اسم "حسين علي"، حيث استطاع أن يؤثر في الحاضرين بهذه الفكرة الخبيثة، وأن يُلقَّب نفسه باسم "بهاء الله".

اشترك "البهاء حسين" في عملية اغتيال الملك "ناصر الدين" شاه إيران، ولما فشلت المؤامرة فر إلى السفارة الروسية التي حمته ولم تسلمه إلى السلطات الإيرانية إلا بعدما اطمأنت أنه لن يُعدم، وبعد أن اعتقل فترة نفته حكومة الشاة إلى بغداد في (جمادى الآخرة 1269هـ = إبريل 1853م) مع أخيه "الميرزا يحيى"، المعروف بـ"صبح الأزل" الذي تجمعت حوله البابية بعد مقتل الميرزا علي محمد الشيرازي بوصية منه.

وفي بغداد أصبح "البهاء حسين" وكيلا عن أخيه يحيى صبح الأزل ونائبا عنه في تصريف أمور البابية، لكنه بدأ في تنفيذ خطة للاستقلال بالزعامة، والاستئثار بالأمر دون أخيه، فحجبه عن الناس بحجة أن ذاته مقدسة لا تغيب عن الأحباب، وإن كانوا لا يرونها، وبهذه الحيلة وثق صلته بالأتباع الذين ضعف ارتباطهم بيحيى شيئا فشيئا، وفي الوقت نفسه قرَّب إليه نفرا من الأتباع المخلصين، وتخلص من الشخصيات الكبيرة التي يخشى منافستها.

إبعاد ولكن..

وفي أثناء ذلك طلبت الحكومة الإيرانية من دولة الخلافة العثمانية نقل البابيين إلى مكان بعيد عن الحدود الإيرانية لخطورتهم على أهالي إيران، فنُقلوا جميعا إلي إستانبول في (ذي القعدة 1279هـ = إبريل 1863م)، وأقام البهاء حسين في حديقة نجيب باشا خارج المدينة اثنى عشر يوما قبل الرحيل إلى "أدرنة"، وخلال هذه المدة أعلن البهاء دعوته في نطاق ضيق من أتباعه، وفي سرية تامة، حتى لا يعلم أخوه يحيى بذلك، وزعم أنه هو الوريث الحقيقي للباب علي محمد الشيرازي.

ثم نقلوا جميعًا إلى أدرنة بعد أربعة أشهر، ومكثوا هناك نحو أربع سنوات ونصف، قام البهاء خلالها بنشر دعوته بين عامة الناس، فالتف حوله مجموعة من الأتباع سموا بالبهائية، على حين بقيت مجموعة أخرى تتبع أخاه فسميت بالأزلية أو البابية، وأدى هذا بطبيعة الحال إلى وقوع الخلاف بين الأخوين، وأن يكيد كل منهما للآخر، ويحاول التخلص منه، ووصل الحال بينهما إلى أن يقوم البهاء بدس السم لأخيه.

ولما أدركت الدولة العثمانية خطورتهما على الناس قررت نفيهما، فنفت "يحيى صبح الأزل" إلى قبرص، وظل بها حتى توفي، في حين نفت "البهاء حسين" إلى عكا ومعه بعض أتباعه فنزل بها سنة (1285هـ = 1868م)، وهناك لقي حفاوة من اليهود فأغدقوا عليه الأموال، وأحاطوه بالرعاية والأمن، وسهلوه له الحركة، على الرغم من صدور الفرمانات من الباب العالي بمنع تجوله وخروجه إلى الناس أو اتصالهم به، وأصبحت عكا منذ هذا التاريخ مقرا دائمًا للبهائية، ومكانا مقدسا لهم.

شرائع وأفكار باطلة


وفي عكا بذل البهاء جهدا كبيرا في نشر دعوته وكسب الأنصار والأتباع، مطمئنا إلى حمايته، فأعلن حقيقة شخصه، وأبطل ما كان يدعيه "الباب" حتى انسلخ هو وأتباعه من شريعة الباب، ولم يبق من كلامه إلا ما كان فيه إشارة أو إيماءة تبشر بمقدم البهاء، ولم يكتف بادعاء النبوة، بل تجاوزها إلى ادعاء الألوهية، وأنه القيوم الذي سيبقى ويخلد، وأنه روح الله، وهو الذي بعث الأنبياء والرسل، وأوحى بالأديان، وزعم أن الباب لم يكن إلا نبيا مهمته التبشير بظهوره.

وجعل البهاء الصلاة ثلاث مرات: صبحا وظهرا ومساء، في كل مرة ثلاث ركعات، وأبطل الصلاة في جماعة إلا في الصلاة على الميت، وقصر الوضوء على غسل الوجه واليدين وتلاوة دعاءين قصيرين. وحدد شهر الصوم بتسعة عشر يوما من كل عام الذي هو عنده تسعة عشر شهرا. ويكون الصوم في شهر "العلاء" (21:2 مارس) وهذا الشهر هو آخر الشهور البهائية. وجعل الحج إلى مقامه في "عكا" وهو واجب على الرجال دون النساء، وليس له زمن معين أو كيفية محددة لأدائه، كما غيّر في أحكام الزواج والمواريث وبدل في أحكام العقوبات، وفرض نوعا من الضرائب على أتباعه لتنظيم شئونهم تقدر بنسبة (19%) من رأس المال وتدفع مرة واحدة فقط.

وكان من تعاليم "البهاء" إسقاط تشريع الجهاد وتحريم الحرب تحريما تاما، ومصادرة الحريات إلا حرية الاستماع إلى تعاليم البهاء، وإلغاء فكرة الأوطان تحت دعوى فكرة الوطن العام، والدعوة إلى وحدة اللغة التي لم تكن إلا وسيلة خادعة لفصل الأمم عن تراثها، وبخاصة الأمة الإسلامية حتى تنقطع عن كتابها وتاريخها.

وترك البهاء عدة كتب منها "الإيقان" و"مجموعة اللوائح المباركة" و"الأقدس" وهو أخطر كتب البهاء حيث ادعى أنه ناسخ لجميع الكتب السماوية بما فيها القرآن.

وأصيب البهاء في آخر حياته بالجنون، فاضطر ابنه عباس إلى حبسه حتى لا يراه الناس، وتحدث باسمه إلى أن هلك في (2 من ذي القعدة 1309هـ = 1892م) وخلفه ابنه "عباس عبد البهاء" في رئاسة البهائية.


منقول

عبدالغفور الخطيب
27-01-2007, 03:33 AM
الدولة العثمانية.. ميلاد خلافة

(في ذكرى ميلادها بالقاهرة: 8 من المحرم 923 هـ)



اتجه العثمانيون في الدور الأول من دولتهم إلى الميدان الأوروبي، فنجح السلطان محمد الفاتح في عام (857 هـ = 1453م) في فتح "القسطنطينية" عاصمة الدولة البيزنطية، واتخذها عاصمة لدولته، كما شرع في فتح "روما" مقر البابوية، ونزلت قواته في "أوترانت" في مملكة نابولي عام (884هـ= 1480م) استعدادًا لهذا الفتح، غير أن المنية عاجلته فتوقف هذا المشروع، كما شملت فتوحاتهم وسط أوربا.

وكانت أنباء هذه الفتوحات تُقابَل بارتياح من قبل سلاطين المماليك في القاهرة، وغيرهم من القوى الإسلامية، واتسمت العلاقة بين الدولتين في كثير من فتراتها بالود والصداقة حتى إن السلطان العثماني بايزيد الأول أرسل في سنة (797 هـ= 1394م) هدايا وتحفًا إلى الخليفة العباسي في مصر "المتوكل على الله" طالبًا منه تفويضًا شرعيًا بالسلطنة، فبعث له الخليفة بذلك، وكانت الهدايا ووسائل التهنئة تتردد بين الدولتين كلما حقق أي منهما نصرًا أو فتحًا على أعدائه، وليس أدل على ذلك من احتفال القاهرة في عهد السلطان "إينال" بنجاح محمد الفاتح في الاستيلاء على القسطنطينية.

اتجاه للشرق

غير أن العثمانيين تركوا جهادهم في الميدان الأوروبي، واتجهوا بأبصارهم ناحية المشرق الإسلامي ليضموه إلى دولتهم، مدفوعين بعاملين مهمين: أولهما تنامي الدولة الصفوية في إيران والعراق وتهديدها للعثمانيين، فضلاً عن نشاط الدعاة الشيعيين الذين أرسلهم الشاه إسماعيل الصفوي لنشر المذهب الشيعي في "الأناضول"؛ مما جذب بعض المؤيدين، وأسفر عن بعض القلاقل، فاضطرت الدولة إلى التدخل، وساءت العلاقة بين الدولتين المتجاورتين، واحتكما إلى السيف، فالتقيا في معركة "جالديران" في (2 من رجب 920هـ= من أغسطس 1514م) ونجح السلطان "سليم الأول" في تحقيق النصر، وفتح مدينة بتريز عاصمة الدولة الصفوية.

أما العامل الآخر فهو تنامي الخطر البرتغالي في الخليج العربي بعد أن احتل البرتغاليون عدن وعمان سنة (921هـ= 1516م) بالإضافة إلى تعاون المماليك في عهد السلطان "الغوري" وتحالفهم مع الدولة الصفوية في صراعها مع العثمانيين.

مرج دابق والريدانية




ولما انتشرت الأنباء في القاهرة في أوائل عام (922هـ= 1516م) بأن السلطان سليم الأول يعد العدة لمداهمة الدولة الصفوية أدرك "الغوري" سلطان مصر أن بلاده هي المقصودة بهذه الاستعدادات العسكرية، فاستعد لمحاربة العثمانيين، وحشد قواته لمواجهة هذا الخطر الداهم، وخرج بعساكره إلى "حلب" وبعدما حاول "خاير بك" أن يثنيه عن الخروج إلى الشام، ويقنعه بأن العثمانيين لا يريدون حرب المماليك وإنما يريدون الدولة الصفوية، وكان "خاير بك" قد انضم إلى "سليم الأول" سرًا ضد الغوري، وبدأ يعمل معه على تقويض دولة المماليك.

وعند "مرج دابق" بالقرب من حلب أخذ الغوري ينظم جيشه، ويصدر تعليماته استعدادًا للمعركة المرتقبة، ولم تلبث أن لاحت مقدمة الجيش العثماني، والتقى الجيشان يوم الأحد (25 من رجب 922 هـ = 24 من أغسطس 1516م)، وفي تلك المعركة أبدى المماليك شجاعة نادرة، وقاموا بهجوم خاطف زلزل أقدام العثمانيين، غير أن هذا الثبات لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما دب الخلاف بين فرق المماليك المحاربة، وانحاز بعضها إلى الجيش العثماني، كما سرت إشاعة بين المماليك أن الغوري سقط قتيلاً، ففترت عزيمتهم، وخارت قواهم، وحاول الغوري أن يستحث جنوده، وأمراءه على الثبات والصمود، لكن دون جدوى فحلت الهزيمة بالمماليك وساعدت المدافع العثمانية على تفوق الجيش العثماني، فقُتل الغوري في ساحة المعركة، وتفرق جيشه، ورحل من بقى منهم إلى مصر.

ولما وصلت أنباء هذه الهزيمة إلى القاهرة، وتحقق موت السلطان الغوري قام نائبه في مصر الأمير "طومان باي" بالأمر، واستعد لمقاتلة العثمانيين، ورغب في لقائهم بالشام قبل وصولهم إلى مصر، غير أنه لم يتمكن من ذلك، إذ استولى العثمانيون على غزة، وفي أثناء ذلك أرسل السلطان سليم الأول رسالة إلى "طومان باي" يعرض فيها الصلح وحقن الدماء، ويقره على حكم مصر شريطة أن يقر بتبعيته للسلطان العثماني، غير أن مساعي الصلح لم تكلل بالنجاح.

خرج السلطان طومان باي لمقاتلة العثمانيين، ودفع خطرهم، وأقام بالريدانية قرب صحراء العباسية بالقاهرة، إذ لم يجد استجابة من المماليك للخروج أبعد من ذلك، وبدأ في تحصين الريدانية، وحفر خندقًا على طول الخطوط الأمامية، لكن العثمانيين الذين اخترقوا الحدود المصرية وتوغلوا في أراضيها وتحاشوا الاصطدام بالمماليك عند الريدانية بعد علمهم بأنباء تحصينات المماليك، وواصلوا زحفهم صوب القاهرة، فلحق بهم طومان باي، والتحم الفريقان في معركة حامية في (29 من ذي الحجة 922 هـ= 23 يناير 1517م) وكانت الخسائر فادحة من الجانبين، وقُتل "سنان باشا" الصدر الأعظم، لكن العثمانيين حملوا حملة صادقة عصفت بالمماليك وزلزلت الأرض من تحتهم، وألحقت بهم هزيمة مدوية، واضطر طومان باي إلى الفرار وتنظيم قواته لمواجهات جديدة.

وبعد ذلك بثمانية أيام أي في يوم (8 من المحرم 923هـ= 31 يناير 1517م) دخل العثمانيون القاهرة، على الرغم من المقاومة التي أبداها المماليك، الذين قاتلوهم من بيت إلى بيت ومن شارع إلى شارع، وأبدوا ضروبًا من الشجاعة والإقدام. وقد جرت محاولات للصلح بين طومان باي وسليم الأول ولكنها فشلت، ثم لم يلبث أن وقع في أيدي العثمانيين بخيانة بعض من كان معه، ثم أُعدم بأمر من السلطان سليم الأول يوم (الإثنين 21 من ربيع الأول 923 هـ = 23 إبريل 1517م) وانتهت بذلك دولة المماليك والخلافة العباسية في مصر، وأصبحت مصر ولاية عثمانية.

منقول

عبدالغفور الخطيب
09-02-2007, 02:54 AM
غروب شمس الأندلس

(في ذكرى معاهدة تسليمها:21 من المحرم 897 هـ)


ما كان أحد يظن أن شمس الإسلام التي أشرقت على أرض الأندلس ستغرب عنها يومًا، وأن كلمات الأذان الصادح من فوق قامات المآذن ستتحول إلى أصوات أجراس من فوق أعواد الكنائس، وما كان أحد يتصور أن ستغيب عن الأندلس حلقات العلم، ودروس الحديث والفقه في جوانب المساجد، وأن الأرض التي امتلأت جنباتها شعرًا ونثرًا عربيًا ستصبح غريبة الوجه واللسان.. ولكن هذا ما كان.

أخذ الضعف يدب في أوصال دولة الإسلام منذ أوائل القرن السابع الهجري، وبدأ الغزو الأسباني يجتاح أرض الأندلس، ويلتهم قواعدها وثغورها واحدًا إثر آخر، ولم يكد ينتصف القرن السابع الهجري حتى كانت ولايات الأندلس الشرقية والوسطى قد سقطت جميعها في يد أسبانيا النصرانية، وتقلصت دولة الإسلام، في بضع ولايات صغيرة في الطرف الجنوبي من الأندلس.

مملكة غرناطة


وقامت في هذه الرقعة الصغيرة مملكة غرناطة سنة (629 هـ = 1232م) على يد "محمد بن يوسف بن نصر (ابن الأحمر)، وضمت ثلاث ولايات كبيرة هي ما بقي من أرض الأندلس للمسلمين: "غرناطة" في الوسط، وفيها العاصمة غرناطة، وولايات المرية في الشرق، وولاية مالقة في الغرب والجنوب، وامتدت حدودها حتى بلغت شاطئ البحر المتوسط ومضيق جبل طارق.

وتتابع على مملكة غرناطة اثنان وعشرون أميرًا في أكثر من قرنين ونصف من الزمان، واستطاعت في ثبات عجيب أن تستمر رغم صغرها وقلة عدد سكانها، وأن تواجه ببسالة محاولات أسبانيا لالتهامها -على ما بين الدولتين من بون شاسع في القوة والعدد، والإمكانيات والمدد- وأن تقيم بين ربوعها حضارة حافلة بأرقى نظم الحياة المادية والأدبية.

أراجون وقشتالة

اتحدت أسبانيا النصرانية باتحاد مملكتي أراجون وقشتالة، وذلك بزواج الملكة "إيزابيلا" ملكة قشتالة من "فرديناند الخامس" ملك أراجون سنة (884 هـ = 1479م)، واتحدت إرادتهما على غزو مملكة غرناطة والقضاء على الأمة الأندلسية المسلمة، وساعدهما على ذلك اشتعال الصراعات الأسرية والحروب بين أبناء البيت الحاكم في غرناطة، وتفرق كلمتهم، وتوقد نار التعصب في قلبي الملكين الكاثوليكيين.

تدفقت جيوش الملكين المتحدين على مملكة غرناطة، ونجحا في الاستيلاء على مالقة أمنع ثغور الأندلس في (شعبان 892 هـ = أغسطس 1487م) ثم على وادي آش والمنكب والمرية في أواخر سنة (894 هـ = 1489م) ثم على بسطة في (المحرم 895 هـ= ديسمبر 1489م)، ولم يبق من معاقل الإسلام التي لم تسقط سوى مدينة غرناطة.

روح المقاومة

في أوائل (صفر 895 هـ= 1490م) أرسل الملكان الكاثوليكيان إلى أبي عبد الله الصغير أمير غرناطة سفارة يطلبان فيها تسليم مدينة "الحمراء" مقر الملك والحكم، وأن يبقى مقيمًا في غرناطة في طاعتهما وتحت حمايتهما، أو أن يُقْطِعاه أي مدينة أخرى من مدن الأندلس يختار الإقامة فيها، وأن يمداه بمال وفير.

وكان جواب أبي عبد الله عدم الاستجابة لمطلب الملكين، وقام بجمع كبار رجال دولته، فأيدوا موقفه، وأعلنوا عزمهم الراسخ على الدفاع عن مدينتهم ودينهم ما وسعهم الجهد والطاقة، واشتعلت الحرب بين المسلمين والأسبان خلال سنة (895 هـ = 1490م)، في عدة معارك واسترد المسلمون عدة حصون، ثم توقفت الحرب لمجيء الشتاء.

حصار غرناطة

أيقن ملك قشتالة أنه لا بد من الاستيلاء على غرناطة حتى تستتب له الأمور في المناطق الإسلامية؛ فهي لا تزال تبث روح الجهاد في نفوس المسلمين، وتحيي الأمل في نجاح المقاومة، فخرج على رأس جيش جرار يبلغ خمسين ألف مقاتل من الفرسان والمشاة، ومزود بالأسلحة والعتاد واتجه إلى غرناطة، وضرب حصارًا شديدًا حولها في (12 جمادى الآخرة 896 هـ = 23 من إبريل 1491) وأتلف الحقول القريبة منها، ليمنع عنها المؤن والغذاء، وقطع كل اتصال لها بالخارج سواء من البر أو البحر، ورابطت السفن الأسبانية في مضيق جبل طارق على مقربة من الثغور الجنوبية لتمنع وصول أي إمداد من مسلمي الشمال الأفريقي.

لم تستسلم غرناطة ورجالها البواسل للحصار الغاشم؛ فهي لا تملك أمام الجيوش الحرارة التي تموج كالبحر الزاخر سوى الشجاعة والإقدام، فكان المسلمون يخرجون لقتال العدو المحاصر يهاجمونه ويسببون له خسائر كبيرة، ولبثت المدينة عدة أشهر تعاني شدائد الحصار وهي صابرة محتسبة، حتى دخل الشتاء ونزلت الثلوج، واشتد بالناس الجوع والبلاء، وقلت المؤن، ودب اليأس إلى قلوب الناس جميعًا، وعند ذلك لم يجد أبو عبد الله مفرًا من بحث الأمر، فدعا مجلسًا من كبار الجند والفقهاء والأعيان وتبحاثوا ما هم فيه من ضيق وحرج، وأن المؤن أوشكت على النفاد، وأنه لم يعد للناس من طاقة للدفاع، واتفق الجميع على التسليم، وضاعت في هذا الجو المتخاذل أصوات الداعين إلى الصمود والثبات، ومقاومة المعتدي حتى الموت.

مصرع غرناطة


أرسل أبو عبد الله الصغير قائده "أبا القاسم عبد الله" إلى معسكر الملكين للمفاوضة في شروط التسليم، واستمرت المفاوضات بضعة أسابيع، وانتهى الفريقان إلى وضع معاهدة للتسليم وافق عليها الملكان، ووقعت في (21 من المحرم 897 هـ= 25 من نوفمبر 1491م).

وتضمنت المعاهدة شروطًا عديدة بلغت 56 مادة خلاصتها: أن يتعهد ملك غرناطة بتسليم المدينة إلى الملكين الكاثوليكيين خلال ستين يومًا من بدء توقيع المعاهدة، وأن يُطلق سراح الأسرى من الطرفين دون فدية، وأن يؤمّن المسلمون في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأن يحتفظوا بشرائهم وقضاتهم، وأن يتمتعوا بحرية إقامة شعائرهم من صلاة وصوم، وأن تبقى المساجد حرمًا مصونة، وألا يدخل نصراني مسجدًا أو دار مسلم، وألا يُولّى على المسلمين نصراني أو يهودي، وأن يعبر إلى "أفريقيا" من شاء من المسلمين في سفن يقدمها ملك النصارى في ظرف ثلاثة أعوام.

غير أن هذه العهود لم تكن في الواقع -حسبما أيدت الحوادث فيما بعد- سوى ستار للغدر والخيانة؛ فقد تم نقض كل هذه الشروط، وأُجبر المسلمون بعد سقوط غرناطة على الهجرة خارج البلاد والتنصر.

منقول

عبدالغفور الخطيب
13-02-2007, 03:31 AM
المأمون وازدهار الحركة العلمية

(في ذكرى توليه الخلافة: 25 من المحرم 198هـ)


ولد عبد الله المأمون في [15 من ربيع الأول 170 هـ= 6 من سبتمبر 786م]، في اليوم الذي استُخلف فيه الرشيد، وقد سماه المأمون تيمنًا بذلك، وكانت أمه "مراجل" جارية فارسية، وما لبث أن توفيت بعد أيام من ولادته متأثرة بحمى النفاس.

وبالرغم من أن المأمون كان هو الابن الأكبر للخليفة هارون الرشيد، ومع كل ما كان يتميز به المأمون من نجابة وذكاء وعلو همة، وما حظي به من ثقة أبيه فيه.. فإن الرشيد آثر أن يجعل البيعة بولاية العهد للأمين، وقد كان لزبيدة أم الأمين الدور الأكبر في ذلك؛ فقد كان لها من المكانة لدى الرشيد ما لم يكن لأم المأمون، فاستغلت حظوتها لديه ومنزلة أخوال ولدها الأمين ومكانتهم لدى زوجها الرشيد في حثه على إعلان ولاية العهد لابنها الأمين وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره سنة [175 هـ = 791هـ]، ولكن الرشيد عاد فأشرك المأمون مع أخيه في ولاية العهد سنة [183 هـ = 799م].

أراد الرشيد بذلك أن تستقر الأمور بين الأخوين من بعده، فلا يثور الخلاف بينهما ولا يحدث ما كان يحدث عادة من صراع حول الحكم بعد كل خليفة، فاستوثق لكل منهما من أخيه سنة (186 هـ = 802م) وأشهد على ذلك كبار رجال دولته.

الطريق إلى العرش

توفي الخليفة هارون الرشيد وتولّى الأمين الخلافة من بعده، وبدأ الخلاف يدب بين الأخوين، خاصة بعد تراجع الأمين عما قطعه لأبيه من عهود ومواثيق، حيث جعل ابنه موسى وليًا للعهد بدلاً من أخويه المأمون و"المؤتمن"، كما رفض أن يردَّ إلى أخيه المأمون مائة ألف دينار كان والده قد أوصى بها إليه، وسرعان ما تطور الخلاف بين الأخوين إلى صراع وقتال، ودارت حرب عنيفة بين الجانبين، وقامت جيوش المأمون بمحاصرة بغداد وانتهى الأمر بمقتل الأمين عام (198هـ = 813م)، وتولى المأمون على إثر ذلك الخلافة من بعده في [25 من المحرم 198هـ= 25من سبتمبر 813م].

القضاء على الفتن والثورات

سعى المأمون منذ الوهلة الأولى للعمل على استقرار البلاد، والقضاء على الفتن والثورات، فتصدى بحزم وقوة لثورات الشيعة، وواجه بحسم وعنف حركات التمرد ومحاولات الخروج على سلطة الخلافة، فقد قضى على حركة "ابن طباطبا العلوي" سنة [199هـ = 814م]، وثورة "الحسن بن الحسين" في الحجاز، و"عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب" في اليمن سنة [207هـ = 822م].

وفي مقابل ذلك فإنه أقدم على خطوة جريئة، وأمر لم يسبقه إليه أحد من الخلفاء، فقد اختار أحد أبناء البيت العلوي وهو "علي بن موسى الرضا" ليكون وليًا للعهد من بعده، وقد أثار هذا الأمر غضب واستياء العباسيين؛ مما دفعهم إلى مبايعة "إبراهيم بن المهدي" –عم المأمون– بالخلافة سنة [202هـ =817م].

لما علم المأمون بذلك جهز جيشًا كبيرًا، وسار على رأسه من خراسان قاصدًا بغداد، فهرب إبراهيم بن المهدي من بغداد. وفي ذلك الوقت توفي علي بن موسى، فكان لذلك أكبر الأثر في تهدئة الموقف، فلما دخل المأمون بغداد عفا عن عمه.

نهضة علمية

شهد عصر المأمون نهضة حضارية كبيرة، فقد كان المأمون محبًا للعلم والأدب وكان شاعرًا وعالمًا وأديبًا، يحب الشعر ويجالس الشعراء ويشجعهم، وكان يعجب بالبلاغة والأدب، كما كان للفقه نصيب كبير من اهتمامه، وكان العلماء والأدباء والفقهاء لا يفارقونه في حضر أو سفر، وقد أدى تشجيعه للشعراء في أيامه إلى إعطاء الشعر دفعة قوية، وكان تشجيعه للعلوم والفنون والآداب والفلسفة ذا أثر عظيم في رقيها وتقدمها، وانبعاث حركة أدبية وعلمية زاهرة، ونهضة فكرية عظيمة امتدت أصداؤها من بغداد حاضرة العالم الإسلامي ومركز الخلافة العباسية إلى جميع أرجاء المعمورة، فقد استطاع المأمون أن يشيد صرحًا حضاريًا عظيمًا، وأن يعطي للعلم دفعة قوية ظلت آثارها واضحة لقرون عديدة.

لقد أرسل المأمون البعوث إلى "القسطنطينية" و"الإسكندرية" و"إنطاكية" وغيرها من المدن للبحث عن مؤلفات علماء اليونان، وأجرى الأرزاق على طائفة من المترجمين لنقل هذه الكتب إلى اللغة العربية، وأنشأ مجمعًا علميًا في بغداد، ومرصدين أحدهما في بغداد والآخر في "تدمر"، وأمر الفلكيين برصد حركات الكواكب، كما أمر برسم خريطة جغرافية كبيرة للعالم.

حركة الترجمة

وكان لتشجيعه حركة الترجمة أكبر الأثر في ازدهارها في عهده، فظهر عدد كبير من العلماء ممن قاموا بدور مهم في نقل العلوم والفنون والآداب والفلسفة إلى العربية، والإفادة منها وتطويرها، ومن هؤلاء:

"حنين بن إسحاق" الطبيب البارع الذي ألف العديد من المؤلفات الطبية، كما ترجم عددًا من كتب أرسطو وأفلاطون إلى العربية.

و"يحيى بن ماسويه" الذي كان يشرف على "بيت الحكمة" في بغداد وكان يؤلف بالسريانية والعربية، كما كان متمكنًا من اليونانية، وله كتاب طبي عن الحميات اشتهر زمنًا طويلاً، ثم ترجم بعد ذلك إلى العبرية واللاتينية.

و"ميخائيل بن ماسويه" وكان طبيب المأمون الخاص، وكان يثق بعلمه فلا يشرب دواءً إلا من تركيبه.

المأمون والروم

ولعل من أبرز الأسباب التي أدت إلى ظهور تلك النهضة الحضارية والعلمية في عصر المأمون ذلك الهدوء الذي ساد الأجواء بين الخلافة العباسية والروم، والذي استمر لأكثر من عشرة أعوام.

ولكن ما لبث أن تبدد ذلك الهدوء حينما بدأ المأمون حملاته ضد الروم عام [215هـ = 830م] ففتح عددًا من الحصون القريبة من حدود دولته، مثل حصن "قرة" و حصن "ماجدة" و حصن "سندس" وحصن "سنان" ثم عاد إلى الشام، ولكن الروم أغاروا على "طرسوس" وقتلوا نحو ألف وستمائة من أهلها، فعاد إليهم المأمون مرة أخرى، واستطاع أخوه "المعتصم" أن يفتح نحو ثلاثين حصنًا من حصون الروم.

وفي العام التالي أغار عليهم المأمون مرة أخرى، حتى طلب منه "تيوفيل" – ملك الروم- الصلح، وعرض دفع الفدية مقابل السلام.

ولم يمر وقت طويل حتى توفي المأمون في "البندون" قريبًا من طرسوس في [18 من رجب 218هـ= 10من أغسطس 833م] عن عمر بلغ ثمانية وأربعين عامًا، قضى منها في الخلافة عشرين عامًا.

منقول

عبدالغفور الخطيب
22-02-2007, 03:58 AM
سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية

(في ذكرى سقوطها: 4 من صفر 656 هـ)



نجح جنكيز خان في إقامة إمبراطورية كبيرة ضمن أقاليم الصين الشمالية، واستولت على العاصمة بكين، ثم اصطدم بالدولة الخوارزمية التي كانت تجاوره بسبب سوء تصرف حاكمها "محمد خوارزم شاه". وانتهى الحال بأن سقطت الدولة وحواضرها المعروفة مثل: "بخارى"، "وسمرقند"، و"نيسابور" في يد المغول بعد أن قتلوا كل من فيها من الأحياء، ودمروا كل معالمها الحضارية، وتوفي جنكيز خان سنة (624هـ = 1223م) بعد أن سيطرت دولته على كل المنطقة الشرقية من العالم الإسلامي.

الاستعداد لغزو الخلافة العباسية

بعد سلسلة من الصراعات على تولي السلطة بين أمراء البيت الحاكم تولى "منكوقآن بن تولوي بن جنكيز خان" عرش المغول في (ذي الحجة 648هـ = إبريل 1250م). وبعد أن نجح في إقرار الأمن وإعادة الاستقرار في بلاده اتجه إلى غزو البلاد التي لم يتيسر فتحها من قبل، فأرسل أخاه الأوسط "قوبيلاي" على رأس حملة كبيرة للسيطرة على جنوب الصين ومنطقة جنوب شرق آسيا، وأرسل أخاه الأصغر هولاكو لغزو إيران وبقية بلاد العالم الإسلامي، وعهد إليه بالقضاء على طائفة الإسماعيلية وإخضاع الخلافة العباسية.

خرج هولاكو على رأس جيش كبير يبلغ 120 ألف جندي من خيرة جنود المغول المدربين تدريبا عاليا في فنون القتال والنزال ومزودين بأسلحة الحرب وأدوات الحصار، وتحرك من "قراقورم" عاصمة المغول سنة (651هـ = 1253م) متجها نحو الغرب تسبقه سمعة جنوده في التوغل والاقتحام، وبأسهم الشديد في القتال، وفظائعهم في الحرب التي تزرع الهلع والخوف في النفوس، ووحشيتهم في إنزال الخراب والدمار في أي مكان يحلون به.

القضاء على الإسماعيلية

وعندما وصل هولاكو إلى الأراضي الإيرانية خرج أمراؤها لاستقباله وأمطروه بالهدايا الثمينة وأظهروا له الولاء والخضوع، ثم عبر هولاكو نهر جيحوم واتجه إلى قلاع طائفة الإسماعيلية، ودارت بينه وبينها معارك عديدة انتهت بهزيمة الطائفة ومقتل زعيمها "ركن الدين خورشاه".

وكان لقضاء المغول على طائفة الإسماعيلية وقع حسن عَمَّ العالم الإسلامي على الرغم مما عاناه من وحشية المغول وتدميرهم؛ وذلك لأن الإسماعيلية كانت تبث الرعب والفزع في النفوس، وأشاعت المفاسد والمنكرات، وأذاعت الأفكار المنحرفة، وكان يخشى بأسها الملوك والسلاطين.

رسائل متبادلة

نجح هولاكو في تحقيق هدفه الأول بالقضاء على الطائفة الإسماعيلية وتدمير قلاعها وإبادة أهلها، وبدأ في الاستعداد لتحقيق هدفه الآخر بالاستيلاء على بغداد والقضاء على الخلافة العباسية؛ فانتقل إلى مدينة "همدان" واتخذها مقرا لقيادته، وكان أول عمل قام به أن أرسل إلى الخليفة العباسي المستعصم بالله رسالة في (رمضان 655 هـ = مارس 1257 م) يدعوه فيها إلى أن يهدم حصون بغداد وأسوارها ويردم خنادقها، وأن يأتي إليه بشخصه ويسلم المدينة له، وأوصاه بأن يستجيب حتى يحفظ مركزه ومكانته ويضمن حريته وكرامته، وإن أبى واستكبر فسيحل بأهله وبلاده الدمار والخراب، ولن يدع أحدا حيا في دولته.

جاء رد الخليفة العباسي على كتاب هولاكو شديدا ودعاه إلى الإقلاع عن غروره والعودة إلى بلاده، ثم أرسل هولاكو رسالة ثانية إلى الخليفة ذكر له فيها أنه سوف يبقيه في منصبه بعد أن يقر بالتبعية للدولة المغولية، ويقدم الجزية له؛ فاعتذر الخليفة العباسي بأن ذلك لا يجوز شرعا، وأنه على استعداد لدفع الأموال التي يطلبها هولاكو مقابل أن يعود من حيث أتى.

كان رد هولاكو على رسالة الخليفة أشد إنذارا وأكثر وعيدا وفي لهجة عنيفة وبيان غاضب وكلمات حاسمة؛ فحل الفزع في قلب الخليفة؛ فجمع حاشيته وأركان دولته واستشارهم فيما يفعل؛ فأشار عليه وزيره "ابن العلقمي" أن يبذل الأموال والنفائس في استرضاء هولاكو وأن يعتذر له، وأن يذكر اسمه في الخطبة، وينقش اسمه على السكة، فمال الخليفة إلى قبول هذا الرأي في بداية الأمر غير أن مجاهد الدين أيبك المعروف بـ"الدويدار الصغير" رفض هذا الاقتراح، وحمل الخليفة العباسي على معارضته متهما ابن العلقمي بالخيانة والتواطؤ مع هولاكو؛ فعدل الخليفة عن رأيه السابق ومال إلى المقاومة.

حصار بغداد

يئس هولاكو من إقناع الخليفة العباسي بالتسليم؛ فشرع في الزحف نحو بغداد وضرب حولها حصارا شديدا، واشتبك الجيش العباسي الذي جهزه الخليفة العباسي بقيادة مجاهد الدين أيبك بالقوات المغولية فكانت الهزيمة من نصيبه، وقتل عدد كبير من جنوده لقلة خبرتهم بالحروب وعدم انضباطهم، وفر قائد الجيش مع من نجا بنفسه إلى بغداد.

كان الجيش المغولي هائلا يبلغ حوالي 200 ألف مقاتل مزودين بآلات الحصار، ولم تكن عاصمة الخلافة العباسية تملك من القوات ما يمكنها من دفع الحصار ودفع المغول إلى الوراء، في الوقت الذي كان يظن فيه هولاكو أن ببغداد جيشا كبيرا، ثم تكشفت له الحقيقة حين اشتد الحصار، ونجحت قواته في اختراق سور بغداد من الجانب الشرقي، وأصبحت العاصمة تحت رحمتهم.

سقوط بغداد
أحس الخليفة بالخطر، وأن الأمر قد خرج من يديه؛ فسعى في التوصل إلى حل سلمي مع هولاكو، لكن جهوده باءت بالفشل؛ فاضطر إلى الخروج من بغداد وتسليم نفسه وعاصمة الخلافة إلى هولاكو دون قيد أو شرط، وذلك في يوم الأحد الموافق (4 من صفر 656 هـ= 10 فبراير 1258م) ومعه أهله وولده بعد أن وعده هولاكو بالأمان.

كان برفقه الخليفة حين خرج 3 آلاف شخص من أعيان بغداد وعلمائها وكبار رجالها، فلما وصلوا إلى معسكر المغول أمر هولاكو بوضعهم في مكان خاص، وأخذ يلاطف الخليفة العباسي، وطلب منه أن ينادي في الناس بإلقاء أسلحتهم والخروج من المدينة لإحصائهم، فأرسل الخليفة رسولا من قبله ينادي في الناس بأن يلقوا سلاحهم ويخرجوا من الأسوار، وما إن فعلوا ذلك حتى انقض عليهم المغول وقتلوهم جميعا.

ودخل الغزاة الهمج بغداد وفتكوا بأهلها دون تفرقة بين رجال ونساء وأطفال، ولم يسلم من الموت إلا قليل، ثم قاموا بتخريب المساجد ليحصلوا على ذهب قبابها، وهدموا القصور بعد أن سلبوا ما فيها من تحف ومشغولات قيمة، وأتلفوا عددا كبيرا من الكتب القيمة، وأهلكوا كثيرا من أهل العلم فيها، واستمر هذا الوضع نحو أربعين يوما، وكلما مشطوا منطقة أشعلوا فيها النيران، فكانت تلتهم كل ما يصادفها، وخربت أكثر الأبنية وجامع الخليفة، ومشهد الإمام موسى الكاظم، وغيرها من البنايات التي كانت آية من آيات الفن الإسلامي.

وبالغ المؤرخون في عدد ضحايا الغزو المغولي حين دخلوا بغداد، فقدرهم بعض المؤرخين بمليون وثمانمائة ألف نسمة، على حين قدرهم آخرون بمليون نسمة، وفي اليوم التاسع من صفر دخل هولاكو بغداد مع حاشيته يصحبهم الخليفة العباسي، واستولى على ما في قصر الخلافة من أموال وكنوز، وكانت الجيوش المغولية أبقت على قصر الخلافة دون أن تمسه بسوء، ولم يكتف هولاكو بما فعله جنوده من جرائم وفظائع في العاصمة التليدة التي كانت قبلة الدنيا وزهرة المدائن ومدينه النور، وإنما ختم أعماله الهمجية بقتل الخليفة المستعصم بالله ومعه ولده الأكبر وخمسه من رجاله المخلصين الذين بقوا معه ولم يتركوه في هذه المحنة الشديدة.

وبمقتل الخليفة العباسي في (14 من صفر 656 هـ = 20 من فبراير 1258م) تكون قد انتهت دولة الخلافة العباسية التي حكمت العالم الإسلامي خمسة قرون من العاصمة بغداد لتبدأ بعد قليل في القاهرة عندما أحيا الظاهر بيبرس الخلافة العباسية من جديد.

منقول

عبدالغفور الخطيب
08-03-2007, 05:29 AM
المغول.. من الهمجية إلى الإسلام

(في ذكرى محاولتهم الاستيلاء على الشام: 18 من صفر 712هـ)





عرف العالم المغول في طورهم الأول شعبًا همجيًا؛ أباد الناس، وهدم الحضارة، وأفسد في الأرض، وألقى الرعب والفزع في الأفئدة والقلوب، وعانى العالم الإسلامي من جراء عاصفة هذا الطور خرابًا وتدميرًا، ثم لم تلبث هذه العاصفة أن هدأت وسكنت، وجاء الوقت الذي تأثر فيه المغول الهمج بحضارة المسلمين؛ فاعتنقوا دينهم، وشرعوا في إصلاح ما أفسده آباؤهم، وأقبلوا يسهمون في الحضارة الإسلامية.

السلطان محمود غازان

بتولي السلطان محمود غازان عرش الدولة الإيلخانية سنة (694هـ= 1295م) بدأ عصر جديد في تاريخ المغول؛ حيث كان أول مرسوم يصدره ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وبإسلامه أسلم أكثر من مائة ألف شخص في فترة قصيرة، وانقطعت الروابط التي كانت تربطه ببلاط الخاقان الأعظم للمغول في الصين.

وأدى اعتناق محمود غازان الإسلام عن إيمان وإخلاص إلى قيامه بعدد من الإصلاحات، تناولت شئون الإدارة والمال والاقتصاد والقضاء والعمران والتشييد في بلاده، وأفسحت لاسمه مكانًا بارزًا في أبطال التاريخ وكبار المصلحين وصناع الحضارة.

واشتهر غازان بحبه للثقافة والمعرفة، وشغفه بالتاريخ، وإتقانه للفارسية، وعنايته بالفنون والصناعات اليدوية، واشتغل في فترة من حياته بالكيمياء، وكان له معمل في قصره يقضي فيه أوقاتًا طويلة بين كتبه وتجاربه، ومن أعماله التي تدل على حبه للعمارة والبناء قيامه بتجميل عاصمة مملكته "تبريز" بأبنية فخمة تشمل مسجدًا عظيمًا، ومدرسة كبيرة، ودارا للكتب، ودارًا لحفظ الدفاتر والقوانين التي استنها، ومرصدا فلكيًا، وبستانًا، ومستشفى وخانقاة للمتصوفة.

وتوفي غازان، وهو لا يزال في ريعان الشباب سنة (703هـ = 1303م)، وعمره لم يتجاوز الثالثة والثلاثين.

السلطان محمد أولجايتو

اعتلى أولجايتو العرش الإيلخاني خلفًا لأخيه السلطان محمود غازان، وذلك في (15 من ذي الحجة 703هـ = 21 من يوليو 1304)، ولم يكن عمره قد تجاوز الرابعة والعشرين، وتسلم قيادة الدولة وهي في أوج بهائها وعظمتها؛ فإصلاحات غازان قد أصابت كل أنحاء الدولة، ودفعت بها خطوات واسعة نحو الحضارة والمدنية والإنسانية.

وبعد ثلاثة أيام من الحكم أصدر (أولجايتو) مرسومًا بإقامة شعائر الإسلام، واحترام القوانين الشرعية التي أصدرها أخوه محمود غازان، وإلزام المغول كافة باعتناق الإسلام، وأبقى "رشيد الدين فضل الله الهمداني" في منصب الوزارة كما كان في عهد أخيه، وكان عالمًا كبيرًا ومؤرخًا عظيمًا، صاحب الكتاب المعروف (جامع التواريخ)، وهو يعد أهم كتاب تناول تاريخ المغول في هذه الفترة.

سار أولجايتو على نهج أخيه غازان خان في حسن معاملة رعاياه، وإقامة العدل بينهم، ونصرة المظلومين منهم، ومنع تعدي المغول على الناس، واستمر في تشييد المؤسسات الاجتماعية التي تنهض بالناس من بناء المدارس والمستشفيات والحمامات والملاجئ، وأعاد بناء مرصد مراغة الذي بناه هولاكو. وأما عن سياسته الخارجية، فقد نجح في فتح إقليم جيلان وبسط سيطرته عليه، ولم يكن المغول قد تمكنوا من السيطرة عليه من قبل، وحافظ على علاقات ودية مع دول أوروبا المسيحية.

أولجايتو ودولة المماليك

تأثرت العلاقات بين الدولتين نتيجة لاعتناق الإيلخان المذهب الشيعي، وهو يُعد أول حاكم مغولي يعتنق المذهب الشيعي، وأمر به الجند وألزمه أهل مملكته، وذلك في سنة (709هـ= 1301م) بعد أن كان سنيًا يلتزم المذهب الحنفي ثم الشافعي.

وحاول أولجايتو أن يوثق عرى الصداقة بين دولته والمماليك، وتودد إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون سلطان دولة المماليك، ثم لم تلبث أن ساءت العلاقة بين الدولتين؛ فقام أولجايتو بتجهيز حملة على بلاد الشام في (18 من صفر 712 هـ = 26 من يوليو 1312م) مستعينًا باثنين من كبار قادة السلطان الناصر، كانا قد فرا إليه، وزيَّنَا له الاستيلاء على بلاد الشام التي كانت خاضعة لسلطة دولة المماليك، غير أن تلك الحملة التي خرج على رأسها السلطان أولجايتو اصطدمت بأول قلعة مملوكية على الحدود الشامية، وهي قلعة الرحبة الواقعة على نهر الفرات، وفشل في اقتحامها وإخضاعها؛ فقرر العودة إلى بلاده في (26 من رمضان سنة 712هـ = 1 من فبراير 1313)، ولم يحاول بعد ذلك أن يغزو الشام، وأقلع تمامًا عن هذه الفكرة.

بناء سلطانية

كان من أماني السلطان غازان أن يبني مدينة بموضع بستان سلطانية الواقعة شمال شرقي العراق في البلاد الواقعة بين نهري زبخان وأبهر، وشرع في تنفيذ ذلك لولا أن وافاه الأجل المحتوم، فحال بينه وبين إتمام المدينة.

وكان المغول يطلقون على موضع سلطانية الحالي اسم (قنغورألانك)، وكانت مرعى لأغنامهم ينزلون به في طريقهم من العراق إلى أذربيجان، وجاء السلطان محمود غازان واتخذ من هذا المكان أساسًا لمدينته.

ثم بدأ أولجايتو في استكمال ما بدأه أخوه؛ فأتم بناء المدينة في عشر سنوات، وأطلق عليها اسم سلطانية واتخذها عاصمة لدولته، واستغرق بناؤها الفترة ما بين سنتي (704هـ=1304م وسنة 714هـ = 1314م)، وتحول الموضع الذي كان مرعى خاليًا من العمران إلى مدينة عظيمة تضم العمائر الفخمة، والمدارس الكبيرة، والمساجد الرائعة، والحمامات والأسواق، وامتلأت بالناس من كل الطبقات.

وأنشأ أولجايتو حولها حصنًا مربع الشكل، بلغ طوله نحو ثلاثين ألف قدم، ويسمح عرض جداره بأن يتحرك عليه أربعة فرسان جنبًا إلى جنب، وجعل في منتصف السور قلعة كبيرة تشبه المدينة في ضخامتها، وبنى فيه ضريحًا لنفسه بالغ الارتفاع تعلوه ثماني مآذن ليدفن فيه، ويُعد هذا الضريح من أهم نماذج العمارة في العصر المغولي.

نهاية أولجايتو

يعد السلطان أولجايتو من ملوك المغول الإيلخانيين الذين نهضوا بإيران نهضة عظيمة؛ نظرًا لملكاتهم الممتازة في الحكم والإدارة وعنايتهم بالعلم والثقافة، وحبهم للبناء والتعمير، وعزز من ذلك النجاح حسن إدارة الوزير العالم "رشيد الدين فضل الله الهمداني".

وفي (28 من رمضان 716هـ= 16 من ديسمبر 1316م) تُوفي أولجايتو، وهو في السادسة والثلاثين من عمره، ودفن في ضريحه الذي بناه لنفسه، بعد أن ترك ذكرى طيبة في تاريخ إيران، عبر عنها المؤرخ الكبير ابن الفوطي بقوله: "لم يَلِ من ملوكهم –أي المغول- أعدل منه ولا أكرم، ولا أجمع لصفات الخير وأسباب الصلاح".

منقول

عبدالغفور الخطيب
15-03-2007, 04:51 AM
سيف الدولة.. لمحات تاريخية وثقافية

(في ذكرى وفاة سيف الدولة: 25 من صفر 356هـ)



ترجع الجذور الأولى للحمدانيين إلى تغلب بن وائل بن قاسط رأس قبيلة تَغْلِب الشهيرة، والذي ينتهي نسبه إلى ربيعة بن نزار.

وكانت تغلب من أعظم قبائل ربيعة شأنا في بلاد العرب قبل الإسلام لعهدها القديم، فلما أشرق نور الإسلام على الجزيرة العربية، وسارعت قبائل العرب إلى الدخول في الإسلام، كانت قبيلة تغلب من القبائل التي ناصبت الإسلام والمسلمين العداء، بل إنها ناصرت سجاح حينما ادعت النبوة، وساندتها وأتباعها في حربهم المسلمين، وحتى عندما انتهى أمرها وتبددت دعوتها بعدما تصدى أبو بكر الصديق للمرتدين، وقضى على أدعياء النبوة، فإن تغلب لم تستطع أن تُخفي عداءها للمسلمين، فوقفت في صف الروم في حربها ضد المسلمين سنة 12هـ = 637م.

بنو تغلب عبر التاريخ

ومع اتساع الدولة الإسلامية وانتشار الإسلام في الجزيرة العربية وما حولها، لم يتغير موقف بني تغلب كثيرا؛ فلم يدخل منها في الإسلام إلا قليل، وبقي معظمهم على نصرانيتهم، ومع ذلك فإن الخليفة الثاني الفاروق "عمر بن الخطاب" لم يفرض عليهم الجزية التي كانت تؤخذ من أهل الكتاب، وإنما اكتفى بأن أخذ منهم الصدقة التي كانت تؤخذ من المسلمين، ولكنه ضاعفها عليهم.

وفي عصر الدولة الأموية حظي أبناء تغلب من الشعراء بمكانة عظيمة، فظهر الأخطل والقطافي -وهما شاعران نصرانيان-، وكان لهما حظ وفير من المجد والشهرة في بلاد الأمويين.

فلما جاءت الدولة العباسية، كان لبني تغلب مكانة مرموقة في كنف الأسرة العباسية، وتمكنوا من إنشاء دولتهم المستقلة التي كان لها دورها الكبير في حركة التاريخ، وساهمت بشكل فعال في إرساء نهضة حضارية وفكرية عظيمة.

ظهور وتغلغل

ولكن البداية الحقيقية لظهور الحمدانيين على مسرح الأحداث ترجع إلى مؤسس هذه الأسرة "حمدان بن حمدون التغلبي" صاحب قلعة "ماردين" القريبة من "الموصل"، وذلك عندما خاض حمدون على رأس جنوده عدة معارك قوية ضد الروم، إلا أن بداية علاقتهم الفعلية بالعباسيين لم تتحدد إلا بعد عام (272هـ=885م)، عندما تحالف مع "هارون الشاري" الخارجي، واستطاعا غزو الموصل والاستيلاء عليها، وقد أدى ذلك إلى ثورة الخليفة العباسي المعتضد وغضبه عليه، فقبض عليه وحبسه.

ومع استفحال أمر "الشاري" ظلّ الخليفة يفكر في وسيلة للقضاء عليه، ووجدها "الحسين بن حمدان" فرصة لإظهار قدراته واكتساب ثقة الخليفة وإطلاق سراح أبيه من الحبس، واستطاع الحسين هزيمة الشاري بعد معركة قوية، وأسره وقدّمه إلى الخليفة يرسف في أغلاله؛ فسر الخليفة بذلك، وأطلق سراح أبيه، وبدأ مرحلة جديدة من التعاون مع بني حمدان؛ فاستعان بهم في محاربة القرامطة والتصدي لخطرهم، كما وجههم إلى العديد من الفتوحات في فارس ومصر والمغرب.

وهكذا استطاع الحمدانيون الوصول إلى أخطر المراكز، وتقلدوا أعلى المناصب، وشاركوا مشاركة فعلية في الحياة السياسية في بغداد لفترة غير قصيرة، واستطاعت الأسرة الحمدانية أن توثق صلاتها بالعباسيين، وأخذ نفوذهم يزداد، وتوغلوا في جميع مرافق الدولة، بالرغم من الدسائس والمؤامرات المستمرة التي ظلت تحاك ضدهم من بعض العناصر غير العربية في بلاط العباسيين، وبرز عدد كبير من أبناء هذه الأسرة كان في مقدمتهم الأمير "سيف الدولة الحمداني".

سيف الدولة.. الأمير الفارس

وُلد الأمير "سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدون التغلبي" في (303هـ = 915م) في مدينة "ميافارقين" -أشهر مدن ديار بكر- على إثر تولي أبيه إمارة الموصل.

وقد عُني أبوه بتعليمه وتنشئته على الفروسية منذ نعومة أظفاره، وأظهر سيف الدولة استعدادا كبيرا ومهارة فائقة في القنص والرمي وركوب الخيل منذ صغره.

ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى صار فارسا لا يُشَقّ له غبار، وخاض العديد من المعارك الطاحنة ضد أعداء الدولة والمتمردين عليها؛ سواء في الداخل أو في الخارج.

واستطاع الأمير الشاب أن يحقق انتصارا عظيما على البريدين الذين اقتحموا بغداد عام (330هـ = 942م) ودفعوا الخليفة العباسي "المتقي لله" إلى الخروج منها، واللجوء إلى الموصل للاستنجاد بالحمدانيين، فلما حقّق الأمير الشاب "علي بن أبي الهيجاء" النصر على البريدين بعد أن تعقبهم إلى المدائن، أنعم عليه الخليفة بلقب "سيف الدولة"، وأمر أن تُضرب باسمه الدنانير والدراهم.

الانتصار على البيزنطيين

وبدأ نجم سيف الدولة يعلو ويسطع منذ ذلك الحين؛ فحقق المزيد من الانتصارات على الروم والبيزنطيين، واستطاع أن يصدّ هجماتهم، كما تمكن من المحافظة على حدود الدولة الإسلامية ضد غاراتهم، واستطاع أن يتوغل داخل حدود الدولة البيزنطية.

وقد عُني سيف الدولة بتسليح جيشه في مواجهة استعدادات الجيش البيزنطي العسكرية القوية وتنظيمه الجيد، وتنوع تسليحه، فاتجه إلى توفير المال اللازم لتجهيز الجيش وتسليح الجنود، واهتم بتدريب رجاله وتربية جنوده تربية عسكرية صارمة.

واتخذ سيف الدولة مدينة "حلب" مركزا ليبدأ منها مرحلة جديدة من حياته؛ حيث أعلن إمارته على مناطق حلب والجزيرة الفراتية وإقليم الثغور والعواصم، وبدأ يدخل في مرحلة جديدة من الصراع مع الروم البيزنطيين والحروب الطاحنة معهم، واستطاع خلالها أن يحقق عدة انتصارات عليهم، ووجه إليهم العديد من الضربات المتلاحقة الموجعة، وألحق بهم سلسلة من الهزائم المتتالية.

الصراع مع الإخشيديين

وقد أثارت انتصارات سيف الدولة على الروم البيزنطيين حفيظة والإخشيديين الذين وجدوا عليه تلك البطولات والأمجاد، وخشوا من تعاظم نفوذه وقوة شوكته؛ فتحركوا لقتاله، ولكنهم ما لبثوا أن آثروا الصلح معه بعد أن لمسوا قوته وبأسه.

وبدأ الروم البيزنطيون يعيدون ترتيب صفوفهم وتنظيم قوتهم، وراحوا يهاجمون الثغور العربية في سنة (336هـ = 947م)، ولكن الأمير سيف الدولة الحمداني تصدّى لهم وتعقبهم، وجدد البيزنطيون هجماتهم مرة أخرى بعد عام، فتعقبهم سيف الدولة، وقتل منهم عددا كبيرا.

ولكن هجمات الروم البيزنطيين لم تتوقف؛ مما دفع سيف الدولة إلى تجهيز حملة كبيرة قوامها ثلاثون ألف فارس، وانضم إليهم جيش طرطوس في أربعة آلاف مقاتل، واستطاع اقتحام حدود الدولة البيزنطية، والتوغل داخل أراضيها، وفتح عددا من حصونها، وألحق بالبيزنطيين هزيمة منكرة، وأسر عددا من قادتهم؛ مما دفع البيزنطيين إلى طلب الهدنة منه، بعد أن ضاقوا ذرعا بالحروب الطاحنة التي كبدتهم العديد من الخسائر وأصابتهم بالوهن.

نهضة شاملة

وبالرغم من الطابع العسكري والحربي لدولة الحمدانيين بصفة عامة، وإمارة سيف الدولة على نحو خاص، فإن ذلك لم يصرف الأمير "سيف الدولة" عن الاهتمام بالجوانب الحضارية والعمرانية.

فقد شيّد سيف الدولة قصره الشهير بـ"قصر الحلبة" على سفح جبل الجوشن، وتميز بروعة بنائه وفخامته وجمال نقوشه وزخارفه، وكان آية من آيات الفن المعماري البديع، كما شيّد العديد من المساجد، واهتم ببناء الحصون المنيعة والقلاع القوية.

وشهدت الحياة الاقتصادية ازدهارا ملحوظا في العديد من المجالات؛ فمن ناحية الزراعة كثرت المزروعات، وتنوعت المحاصيل من الحبوب والفاكهة والثمار والأزهار، فظهر البُرّ والشعير والذرة والأرز والبسلة وغيرها. كما ظهرت أنواع عديدة من الفاكهة كالتين والعنب والرمان والبرقوق والمشمش والخوخ والتوت والتفاح والجوز والبندق والحمضيات. ومن الرياحين والأزهار والورد والآس والنرجس والبنفسج والياسمين. كما جادت زراعة الأقطان والزيتون والنخيل. وظهرت صناعات عديدة على تلك المزروعات، مثل: الزيتون، والزبيب، كما ظهرت صناعات أخرى كالحديد والرخام والصابون والكبريت والزجاج والسيوف والميناء.

ونشطت التجارة، وظهر العديد من المراكز التجارية المهمة في حلب والموصل والرقة وحران وغيرها.

وشهدت الحياة الفكرية والثقافية نهضة كبيرة ونشاطا ملحوظا في ظل الحمدانيين؛ فظهر الكثير من العلماء والأطباء والفقهاء والفلاسفة والأدباء والشعراء.

وكان سيف الدولة يهتم كثيرا بالجوانب العلمية والحضارية في دولته، وظهر في عصره عدد من الأطباء المشهورين، مثل "عيسى الرَّقي" المعروف بالتفليسي، و"أبو الحسين بن كشكرايا"، كما ظهر "أبو بكر محمد بن زكريا الرازي" الذي كان أعظم أطباء الإسلام وأكثرهم شهرة وإنتاجا.

ومن أبرز الفلكيين والرياضيين الذين ظهروا في عصر الحمدانيين في بلاد الشام "أبو القاسم الرَّقي"، و"المجتبى الإنطاكي" و"ديونيسيوس" و"قيس الماروني"، كما عُني الحمدانيون بالعلوم العقلية كالفلسفة والمنطق، فلَمع نجمع عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين الإسلاميين في بلاط الحمدانيين، مثل: "الفارابي"، و"ابن سينا".

أما في مجال العلوم العربية؛ فقد ظهر عدد من علماء اللغة المعروفين، مثل "ابن خالويه"، و"أبو الفتح بن جني"، و"أبو على الحسين بن أحمد الفارسي"، و"عبد الواحد بن علي الحلبي" المعروف بأبي الطيب اللغوي.

كما لمع عدد من الشعراء المعروفين، مثل "المتنبي"، و"أبو فراس الحمداني"، و"الخالديان: أبو بكر، وأبو عثمان"، و"السرى الرفاء" و"الصنوبري"، و"الوأواء الدمشقي"، و"السلامي" و"النامي".

وظهر كذلك عدد كبير من الأدباء المشهورين، وفي طليعتهم "أبو الفرج الأصفهاني" صاحب كتاب "الأغاني" الذي أهداه إلى سيف الدولة؛ فكافأه بألف دينار، و"ابن نباتة"، وظهر أيضا بعض الجغرافيين، مثل: "ابن حوقل الموصلي" صاحب كتاب "المسالك والممالك"…

ولم يلبث سيف الدولة أن عاجله المرض، ثم تُوفي في (25 من صفر 356هـ = 10 من فبراير 966م)، وقيل في رمضان، وهو في الثالثة والخمسين من عمره.

وقد ظلت آثار تلك النهضة الثقافية والحضارية ذات أثر كبير في الفكر العربي والثقافة الإسلامية على مدى قرون عديدة وأجيال متعاقبة.

منقول

عبدالغفور الخطيب
31-03-2007, 03:19 AM
ميلاد النبي: الحدث.. وطرق الاحتفال

(في ذكرى مولده: 12 ربيع الأول من عام الفيل)


كانت "مكة" على موعد مع حدث عظيم كان له تأثيره في مسيرة البشرية وحياة البشر طوال أربعة عشر قرنًا من الزمان، وسيظل يشرق بنوره على الكون، ويرشد بهداه الحائرين، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

كان ميلاد النبي "محمد" صلى الله عليه وسلم أهم حدث في تاريخ البشرية على الإطلاق منذ أن خلق الله الكون، وسخر كل ما فيه لخدمة الإنسان، وكأن هذا الكون كان يرتقب قدومه منذ أمد بعيد.

وفي (12 من ربيع الأول) من عام الفيل شرف الكون بميلاد سيد الخلق وخاتم المرسلين "محمد" صلى الله عليه وسلم.

وقد ذهب الفلكي المعروف "محمود باشا الفلكي" في بحث له إلى أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولد يوم الإثنين (9 من ربيع الأول الموافق 20 من أبريل سنة 571 ميلادية).

نسبه الشريف

هو "أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة"، ويمتد نسبه إلى "إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان"، وينتهي إلى "إسماعيل بن إبراهيم" عليهما السلام.

وأمه "آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة"، ويتصل نسب أمه مع أبيه بدءًا من "كلاب بن مرة".

ورُوي في سبب تسميته أن أمه أُمرت أن تسميه بذلك وهي حامل، وروي أن جده عبد المطلب رأى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره، لها طرف في السماء وطرف في الأرض، وطرف في المشرق وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة منها نور، وإذ بأهل المشرق والمغرب يتعلقون بها؛ فتأولها بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل السماء فسماه "محمد".

وتبدو أسباب التهيئة والإعداد من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم في مهمته الجليلة ورسالته العظيمة، جلية واضحة منذ اللحظة الأولى في حياته، بل إنها كانت قبل ذلك، وقد تجلى ذلك حتى في اصطفاء اسمه صلى الله عليه وسلم، فليس في اسمه أو اسم أبيه أو جده ما يحط قدره وينقص منزلته، وليس في اسمه شيء محتقر، كما أنه ليس اسمه اسمًا مصغرًا تستصغر معه منزلته، وليس فيه كبرياء أو زيادة تعاظم يثير النفور منه.

ابن الذبيحين

ويعرف النبي صلى الله عليه وسلم بابن الذبيحين، فأبوه "عبد الله" هو الذبيح الذي نذر "عبد المطلب" ذبحه ثم فداه بمائة من الإبل، وجده "إسماعيل" – عليه السلام- هو الذبيح الذي فداه ربه بذبح عظيم.

وقد اجتمع للنبي صلى الله عليه وسلم من أسباب الشرف والكمال ما يوقع في نفوس الناس استعظامه، ويسهل عليهم قبول ما يخبر به، وأول تلك الأسباب كان شرف النسب "وأشرف النسب ما كان إلى أولي الدين، وأشرف ذلك ما كان إلى النبيين، وأفضل ذلك ما كان إلى العظماء من الأنبياء، وأفضل ذلك ما كان إلى نبي قد اتفقت الملل على تعظيمه".

ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يهوديًا ولا نصرانيًا ولا مجوسيًا، لأنه لو كان من أهل ملة لكان خارجًا عن دين من يدعوهم فيكون عندهم مبتدعًا كافرًا، وذلك ما يدعوهم إلى تنفير الناس منه، وإنما كان حنيفًا مسلمًا على مله آبائه: "إبراهيم" و"إسماعيل" عليهما السلام.

مولد النبي صلى الله عليه وسلم إيذان بزوال الشرك

كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم نذيرا بزوال دولة الشرك، ونشر الحق والخير والعدل بين الناس، ورفع الظلم والبغي والعدوان.

وكانت الدنيا تموج بألوان الشرك والوثنية وتمتلئ بطواغيت الكفر والطغيان، وعندما أشرق مولد سيد الخلق كانت له إرهاصات عجيبة، وصاحبته ظواهر غريبة وأحداث فريدة، ففي يوم مولده زلزل إيوان "كسرى" فسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار "فارس" ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة "ساوة".

وروى عن أمه أنها قالت: "رأيت لما وضعته نورًا بدا مني ساطعًا حتى أفزعني، ولم أر شيئًا مما يراه النساء". وذكرت "فاطمة بنت عبد الله" أنها شهدت ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: "فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن عليَّ".

وروى أنه صلى الله عليه وسلم ولد معذورًا مسرورًا -أي مختونًا مقطوع السرة- وأنه كان يشير بإصبع يده كالمسبّح بها.

محمد اليتيم

فقد محمد صلى الله عليه وسلم أباه قبل مولده، وكانت وفاة أبيه بالمدينة عند أخوال أبيه من "بني النجار" وهو في الخامسة والعشرين من عمره.

وعلى عادة العرب فقد أرسله جدُّه إلى البادية ليسترضع في "بني سعد"، وكانت حاضنته "حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي"، فلم يزل مقيمًا في "بني سعد" يرون به البركة في أنفسهم وأموالهم حتى كانت حادثة شق الصدر، فخافوا عليه وردوه إلى جده "عبد المطلب" وهو في نحو الخامسة من عمره.

لم تلبث أمه "آمنة" أن توفيت في "الأبواء" – بين "مكة" و "المدينة" – وهي في الثلاثين من عمرها، وكان محمد صلى الله عليه وسلم قد تجاوز السادسة بثلاثة أشهر.

وكأنما كان على "محمد" صلى الله عليه وسلم أن يتجرع مرارة اليتم في طفولته، ليكون أبًا لليتامى والمساكين بعد نبوته، وليتضح أثر ذلك الشعور باليتم في حنوّه على اليتامى وبره بهم، ودعوته إلى كفالتهم ورعايتهم والعناية بهم.

محمد في كفالة جده وعمه

عاش "محمد" صلى الله عليه وسلم في كنف جده "عبد المطلب" وكان يحبه ويعطف عليه، فلما مات "عبد المطلب" وكان "محمد" في الثامنة من عمره، كفله عمه "أبو طالب"، فكان خير عون له في الحياة بعد موت جده، وكان أبو طالب سيدًا شريفًا مطاعًا مهيبًا، مع ما كان عليه من الفقر، وكان "أبو طالب" يحب محمدًا ويؤثره على أبنائه ليعوضه ما فقده من حنان وعطف.

وحينما خرج "أبو طالب" في تجارة إلى "الشام" تعلق به "محمد" فرقّ له "أبو طالب" وأخذه معه، فلما نزل الركب "بصرى" -من أرض "الشام"- وكان بها راهب اسمه "بحيرى" في صومعة له، فلما رآه "بحيرى" جعل يلحظه لحظًا شديدًا، ويتفحصه مليًا، ثم أقبل على عمه "أبي طالب" فأخذ يوصيه به، ويدعوه إلى الرجوع به إلى بلده، ويحذره من اليهود.

محمد في مكة

وشهد "محمد" صلى الله عليه وسلم حرب الفجار – الذين فجّروا القتال في شهر الله الحرام رجب- وكان في السابعة عشرة من عمره.

وحضر "حلف الفضول" وقد جاوز العشرين من عمره، وقد قال فيه بعد بعثته: "حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما يسرني به حمر النعم، ولو دُعيت إليه اليوم لأجبت".

وقد عُرف النبي صلى الله عليه وسلم – منذ حداثة سنه – بالصادق الأمين، وكان موضع احترام وتقدير "قريش" في صباه وشبابه، حتى إنهم احتكموا إليه عندما اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة، حينما أعادوا بناءها بعدما تهدّمت بسبب سيل أصابها، وأرادت كل قبيلة أن تحظى بهذا الشرف حتى طار الشرُّ بينهم، وكادوا يقتتلون، فلما رأوه مقبلاً قالوا: قد رضينا بحكم "محمد بن عبد الله"، فبسط رداءه، ثم وضع الحجر وسطه، وطلب أن تحمل كل قبيلة جانبًا من جوانب الرداء، فلما رفعوه جميعًا حتى بلغ الموضع، أخذه بيده الشريفة ووضعه مكانه.

وعندما بلغ "محمد" صلى الله عليه وسلم الخامسة والعشرين تزوج السيدة "خديجة بنت خويلد"، قبل أن يُبعث، فولدت له "القاسم" و"رقية" و"زينب" و"أم كلثوم"، وولدت له بعد البعثة "عبد الله".

من البعثة إلى الوفاة

ولما استكمل النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة كانت بعثته، وكانت "خديجة" أول من آمن به من النساء، وكان "أبو بكر الصديق" أول من آمن به من الرجال، و"علي بن أبي طالب" أول من آمن من الصبيان.

وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين يكتم أمره، ويدعو الناس سرًا إلى الإسلام، فآمن به عدد قليل، فلما أمر بإبلاغ دعوته إلى الناس والجهر بها، بدأت قريش في إيذائه وتعرضت له ولأصحابه، ونال المؤمنون بدعوته صنوف الاضطهاد والتنكيل، وظل المسلمون يقاسون التعذيب والاضطهاد حتى اضطروا إلى ترك أوطانهم والهجرة إلى "الحبشة" ثم إلى المدينة.

ومرّت الأعوام حتى عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحًا –في العام العاشر من الهجرة- ونصر الله المسلمين بعد أن خرجوا منها مقهورين، ومكّن لهم في الأرض بعد أن كانوا مستذلّين مستضعفين، وأظهر الله دينه وأعز نبيه ودحر الشرك وهزم المشركين.

وفي العام التالي توفي النبي صلى الله عليه وسلم في (12 من ربيع الأول 11هـ = 7 من يونيو 632م) عن عمر بلغ (63) عامًا.

بدايات الاحتفال بالمولد النبوي

لعل أول من أحدث الاحتفال بذكرى المولد النبوي هو الملك المظفر "أبو سعيد كوكبري بن زيد الدين علي بن بكتكين" صاحب إربل، وكان أحد الملوك الأمجاد، وكان يحتفل به احتفالاً هائلاً يحضره الأعيان والعلماء ويدعو إليه الصوفية والفقراء.

وقد اختلف العلماء حول شرعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وانقسموا بين مؤيد ومعارض، وكان من أشد المنكرين لذلك المعارضين له؛ باعتباره بدعة مذمومة الشيخ "تاج الدين اللخمي" الذي يقول: "لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطّالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكّالون".

وقد انبرى الإمام "السيوطي" للرد عليه وتفنيد مزاعمه وإبطال حججه، وإذا كان بعض الناس يرتكبون أفعالاً منكرة في الاحتفال بالمولد، من لهو وصد عن ذكر الله وغير ذلك، فإن تعظيم هذا اليوم إنما يكون بزيادة الأعمال الصالحة والصدقات وغير ذلك من ألوان القربات إلى الله تعالى.

وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم؛ فصامه موسى. قال: فأنا أحق بموسى منكم؛ فصامه وأمر بصيامه.. (بخاري: كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء، رقم 2004).

ولعل في إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى فضيلة هذا اليوم حينما سأله سائل عن صوم يوم الإثنين فقال: "ذلك يوم ولدت فيه"؛ ففيه تشريف لهذا اليوم الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم.

كيف نحتفل بالمولد؟

يميل أكثر العلماء إلى شرعية الاحتفال بالمولد النبوي، ووجوب إحياء هذه الذكرى بالذكر والعبادة، والتماس مواطن القدوة في حياة صاحب الذكرى صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به وإحياء سننه، والسير على نهجه وشرعته.

يقول الإمام "ابن حجر العسقلاني": "أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرّى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة".

ويقول الإمام "السخاوي": "لو لم يكن في ذلك إلا إرغام الشيطان، وسرور أهل الإيمان من المسلمين لكفى، وإذا كان أهل الصليب اتخذوا مولد نبيهم عيدًا أكبر، فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر".

ويقول العلامة "فتح الله البناني": "إن أحسن ما ابتُدع في زماننا هذا ما يُفعل كل عام في اليوم الذي يوافق مولده صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك –على ما فيه من الإحسان إلى الفقراء- مشعر بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك".


منقول

عبدالغفور الخطيب
17-04-2007, 05:02 AM
دمشق بوابة صلاح الدين إلى الوحدة

(في ذكرى دخول صلاح الدين دمشق: 29 ربيع الأول 570هـ)


مرّت الأمة العربية والإسلامية بمرحلة شديدة من الضعف والانقسام قبيل ظهور "صلاح الدين الأيوبي" على مسرح الأحداث، وأصبح العرب والمسلمون مطمعًا لدول أوروبا، وصارت بلاد المسلمين نهبًا للصليبيين المتربصين بالأمة الإسلامية، فقد كانت الخلافة العباسية تؤذن بالزوال، وأصبح الخليفة العباسي بلا أي سلطان، بل لقد صار هو نفسه تحت وصاية القادة الأتراك الذين ازداد نفوذهم وأصبحت لهم السطوة والسلطة في الخلافة، وصارت وظيفة إمرة الأمراء يفوق سلطانها سلطان الخلافة، حتى أطلق المؤرخون على الخلفاء العباسيين في ذلك الوقت المستضعفين.

ظهور أسرة الأيوبيين

وفي ظل تلك الأجواء المشحونة بالتفكك والتخاذل ظهرت أسرة صلاح الدين، تلك الأسرة الكردية التي أسلمت منذ وقت مبكر، وكان لها من البأس والقوة ما مكّنها من السيطرة على عامة أرض فارس في عهد الدولة الأموية.

واشتدت قوتهم وازداد نفوذهم مع ضعف الخلافة العباسية، إلا أن ظهور السلاجقة في العراق قضى على تلك الدويلات الصغيرة التي أنشأها الأكراد، خاصة في الأجزاء الغربية من جبال إيران.

وتذكر المصادر التاريخية أن "شادي" جد صلاح الدين هاجر مع أسرته من أذربيجان إلى العراق التي كان يسيطر عليها السلاجقة، واستطاع أن يتصل ببعض رجال الدولة السلجوقية، وكان متميزا بالجرأة والشجاعة وشخصيته القوية فمنحوه حكم قلعة "تكريت"، فلما تُوفي شادي ورثه ابنه الأكبر "أيوب"، وأصبح حاكما عليها، وكان يعاونه أخوه الأصغر "شيركوه".

وفي تلك القلعة وُلِد "صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي" في سنة (532هـ=1137م).

في بلاط الأتابكة

واضطر أبناء شادي إلى ترك القلعة واللجوء إلى الأتابكة في الموصل فرارا من السلاجقة بعد أن قتل شيركوه قائدا سلجوقيا كاد يبطش بامرأة هناك، ولقي الأخوان أيوب وشيركوه الحفاوة والتكريم من "عماد الدين زنكي" حاكم الموصل الذي ألحقهما بالعمل معه، وجعل أيوب أميرًا على "بعلبك"، فلما قتل "عماد الدين" على يد غلمانه سنة (541هـ=1146م) ظل الأخوان إلى جانب ابنيه "نور الدين محمود" و"غازي"؛ فاتسع نفوذهما وقوى سلطانهما.

دمشق في حياة صلاح الدين

لعلَّ أولى ذكريات دمشق في وعي صلاح الدين ووجدانه ترجع إلى فترة مبكرة من صباه، وهو غلام صغير لم يتجاوز الحادية العشرة، عندما غزا الصليبيون دمشق في حملتهم الثانية إلى المشرق وحاصروها في (ربيع الأول 543هـ=يونيو 1148م)، فتصدى لهم أبوه "أيوب" مع "معين الدين أنر" حاكم دمشق ـ استمات أهل دمشق في الدفاع عنها في ملحمة بطولية رائعة حتى اضطر الصليبيون في النهاية إلى قبول العرض الذي طرحه "أنر" عليهم بتسليمهم حصن "بانياس" مقابل رفع الحصار عن دمشق، خاصة بعدما علموا بخروج الأميرين الزنكيين نور الدين وأخيه غازي لنجدة أنر، ولكن خروج الصليبيين من دمشق على هذا النحو بعد مصالحة "أنر" لهم دفع نور الدين إلى أن يفكر جديا في الاستيلاء عليها وضمها إلى أملاكه، وقوي هذا العزم في نفس نور الدين بعد أن توفي أخوه غازي وأصبحت مقاليد الأمور كلها في يده.

وقد ساهم الأخوان أيوب وشيركوه بقدر كبير في تحقيق أمنية نور الدين، فلما آلت إليه دمشق سنة 549هـ=1154م نقل إليها مركز حكمه، وعيّن أيوب حاكما عليها وجعل شيركوه نائبا عنه، واتخذ صلاح الدين رئيسا للشرطة، وكان في السابعة عشرة من عمره.

نور الدين والفاطميون

واتسعت دولة "نور الدين" لتمتد من حلب إلى دمشق، وكان لجهود الأخوين "أيوب" و"شيركوه" أكبر الأثر في توطيد أركان تلك الدولة الفتية، وفي الوقت الذي كان نجم دولة "نور الدين" في الشام آخذا في الصعود كانت أوضاع دولة الفاطميين في مصر في تدهور مستمر، خاصة بعدما تفاقم الصراع بين كل من "شاور" و"ضرغام" على الوزارة، والذي انتهى بانتصار "ضرغام" وطرد "شاور" من مصر سنة (558هـ=1163م).

ولجأ "شاور" بعد هزيمته إلى "نور الدين" في الشام فاستنجد به، وأطمعه في مصر، ووعده بثلث خراجها، وتعهد أن يكون تابعًا مخلصًا له.

فأرسل "نور الدين" حملة عسكرية كبيرة جعل على رأسها "شيركوه"، وخرج معه ابن أخيه "صلاح الدين" ـ وكان في الخامسة والعشرين من عمره ـ حتى دخلوا القاهرة، وألحقوا بضرغام وجنوده هزيمة منكرة، وقُتل مع من بقي من أتباعه.

ولكن "شارو" ما لبث أن نكث بعهوده، وأظهر الغدر، بعد أن استعاد الوزارة، واستعان بالصليبيين لمحاربة "شيركوه" و"صلاح الدين".

واستمر الصراع بين الجانبين عدة سنوات حتى استطاع "شيركوه" ومعه "صلاح الدين" دخول "مصر" في (ربيع الأول 564 هـ-ديسمبر 1168م)، وأراد "شاور" تدبير مؤامرة للخلاص من "شيركوه" ومن معه، وإخراج جيشه من مصر، ولكن شيركوه أسرع بالقبض عليه، فأمر الخليفة الفاطمي "العاضد" بإعدامه، فأعدم في (17 من ربيع الآخر 564هـ=19 من يناير 1169م)، وبموته استقرت الأمور في البلاد، وتقلّد شيركوه الوزارة إلا أنه تُوفي بعد نحو شهرين من تقلده الوزارة، فخلفه عليها صلاح الدين وكان عمره (31) عامًا.

صلاح الدين وزيرًا

وكان الخليفة الفاطمي يظن أن "صلاح الدين" سيكون أداة طيعة في يده لصغر سنه، ولكن الوزير الشاب خيب ظنَّ الخليفة، وعمل منذ الوهلة الأولى على استمالة قلوب الناس إليه، وأنفق في سبيل ذلك أموالاً طائلة، حتى سيطر سيطرة تامة على الجند، واستطاع القضاء على الجنود السودان الذين كان الخليفة الفاطمي يعتمد عليهم.

وما لبث الخليفة "العاضد" أن تُوفي في (المحرم 567هـ= سبتمبر 1171م)، فانتهت بوفاته الدولة الفاطمية، وقضى صلاح الدين على كل أثر لها في مصر.

بداية الوحدة الإسلامية


كان الخطر الصليبي لا يزال يحدق بالأمة العربية والإسلامية، وأدرك "صلاح الدين" أنه لا مجال لصد ذلك الغزو الصليبي إلا بالوحدة الإسلامية، ولمِّ شتات الإمارات المختلفة تحت لواء واحد قوي.

وقد لاحت له الفرصة حينما علم بوجود بعض القلاقل والاضطرابات في الشام، فاستخلف أخاه "العادل" على مصر، واتجه على رأس جيشه إلى الشام فدخل دمشق في (آخر ربيع الأول 572 هـ = 29 من أكتوبر 1174).

وبدخول صلاح الدين مدينة دمشق بدأت أولى خطواته نحو تحقيق الوحدة الإسلامية الكبرى التي عاش يحلم بها، وتمكن ـ بعد ذلك ـ من الاستيلاء على عدة مدن من أهمها "حمص"، و"حماة"، و"حلب"، واستطاع أن يحقق الأمن والاستقرار للبلاد، وأحسن تدبير أمور الدولة، حتى أصبحت بلاد الشام التي فتحها خاضعة له، واستطاع "صلاح الدين" أن يحظى باعتراف الخليفة العباسي "المستضيء" بسيادته على مصر والشام واليمن.

وعاد "صلاح الدين" إلى مصر، ليبدأ التخطيط والإعداد للقضاء على النفوذ الصليبي في المشرق، بعد أن حقق حلمه بقيام الواحدة الإسلامية الكبرى بين مصر والشام، والذي توجّه ـ بعد ذلك ـ بانتصاره الساحق على الصليبيين في حطين.


منقول

عبدالغفور الخطيب
25-04-2007, 02:29 AM
الجامعة العربية بيت العرب

(في ذكرى إنشائها: 7 ربيع الآخر 1364هـ)

تعد جامعة الدول العربية رمزًا لوحدة الأمة العربية، فعلى الرغم من أن الدعوة إلى قيام وحدة بين شعوب العالم العربي ظلت مطلبًا عربيًا يلح على الأمة العربية منذ أمد بعيد، في حلمها ويقظتها وفي ضعفها وقوتها، فإن قيام تنظيم عربي واحد يجمع شمل الحكومات العربية لم يتبلور إلا خلال الحرب العالمية الثانية.

ويرى بعض الباحثين أن فكرة إنشاء الجامعة العربية كانت بإيعاز من بريطانيا، فقد جاء على لسان وزير خارجيتها "إيدن" في [3 من جمادى الأولى 1360هـ = 29 من مايو 1941م]:

"لقد خطا العالم العربي خطوات واسعة في طريق الرقي، وهو يطمح الآن إلى تحقيق نوع من الوحدة يجعل منه عالمًا متماسكًا، ويرجو أن تساعده بريطانيا العظمى في بلوغ هذا الهدف، ويسرني أن أعلن باسم حكومة صاحبة الجلالة عن ترحيب بريطانيا بهذه الخطوة، وعن استعدادها لمساعدة القائمين بها".

وبعد هذا التصريح بأقل من عام تم إجراء عدة مباحثات بين رئيس الوزراء المصري "مصطفى النحاس باشا" ورئيس وزراء سوريا "جميل مردم"، والشيخ "بشارة الخوري" الذي صار رئيسًا للجمهورية اللبنانية فيما بعد، وطُرحت لأول مرة فكرة إقامة جامعة عربية لتوثيق عرى التعاون بين الدول العربية.

وبدأت –على إثر ذلك- المشاورات مع بقية الحكومات العربية لإخراج الفكرة إلى حيز التنفيذ، ثم ما لبثت أن شُكّلت لجنة تحضيرية لمؤتمر عربي عام، اجتمعت لأول مرة في [6 من شوال 1363هـ = 25 من سبتمبر 1944م]، وضمت ممثلين من كل من مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق، واتفق المجتمعون على إنشاء رابطة تجمع شمل البلاد العربية، وتدعم التعاون بين أعضائها، واستقر الأمر على تسمية تلك الرابطة "جامعة الدول العربية".

وفي [2 من شوال 1363هـ = 7 من أكتوبر 1944م] عقدت اللجنة التحضيرية اجتماعًا في "الإسكندرية" اختتم بإصدار "بروتوكول الإسكندرية" الذي سجل الاتفاق على إنشاء "جامعة الدول العربية".

وفي [7 من ربيع الآخر 1364هـ = 22 من مارس 1945م] وقّعت كل من مصر والسعودية والأردن والعراق ولبنان وسوريا واليمن على ميثاق الجامعة في القاهرة، وخرجت الجامعة إلى حيز الوجود.

أجهزة الجامعة


تتكون "جامعة الدول العربية" من عدة أجهزة تنظم أعمالها، وتكفل لها القيام بوظائفها، وتحقيق مهامها، وهناك ثلاثة أجهزة رئيسية أُنشئت بمقتضى ميثاق الجامعة، وهي:

* مجلس الجامعة: وهو أعلى سلطة بها، ويُعدّ الأداة الأولى لتنفيذ سياساتها، ويتكون من ممثلي الدول الأعضاء في الجامعة، وهو يُعقد بصفة دورية مرتين كل عام في شهري: مارس وسبتمبر، ويجوز عقد دورات استثنائية بناء على طلب الأعضاء.

* الأمانة العامة: وهي الهيئة الإدارية الدائمة أو الجهاز الإداري للجامعة، ويتكون من الأمين العام والأمناء المساعدين.

* اللجان الدائمة: وهي التي تعمل على تحقيق أهداف الجامعة، ويبلغ عددها (12) لجنة، وهذه اللجان هي أجهزة فرعية، لا تتمتع بالشخصية القانونية المستقلة.

الدول الأعضاء في الجامعة

بلغ عدد الدول الأعضاء في "جامعة الدول العربية" (23) دولة، وهي:

الدولة............ تاريخ الانضمام


وهم الأعضاء المؤسسون لميثاق إنشاء الجامعة في [8 من ربيع الآخر 1364هـ = 22 من مارس 1945م].
مصر والسعودية وسوريا والأردن ولبنان والعرق واليمن

وقد انضمت ليبيا في [10 من رجب 1372هـ = 28 من مارس 1953م].


وانضمت السودان في [5 من جمادى الآخرة 1375هـ = 19 من يناير 1956م].


تونس والمغرب وقد انضمتا في [17 من ربيع الآخر 1378هـ = 1 من سبتمبر 1958م].


االكويت نضمت في [3 من المحرم 1380هـ – 20 من يوليو 1961م].


الجزائرانضمت في [15 من ربيع الآخر 1382هـ = 16 من أغسطس 1962م].


ا اليمن الشعبية نضمت في [9 من رمضان 1387هـ = 12 من ديسمبر 1967م].


البحرين وقطر انضمتا في [19 من رجب 1391هـ = 11 من سبتمبر 1971م].


عُمان انضمت في [7 من شعبان 1391هـ = 29 من سبتمبر 1971م].


الإمارات انضمت في [18 من شوال 1391هـ = 6 من ديسمبر 1971م].


موريتانيا انضمت في [غرة ذي القعدة 1393هـ = 26 من نوفمبر 1973م].


ا الصومال نضمت في [2 من المحرم 1394هـ = 14 من فبراير 1974م].


فلسطين انضمت في [14 من رمضان 1396هـ = 9 من سبتمبر 1976م].

جيبوتي انضمت في [19 من رمضان 1397هـ = 4 من سبتمبر 1977م].


جزر القمر انضمت في [3 من ربيع الآخر 1414هـ = 20 من سبتمبر 1993م].



الأمين العام

الأمين العام لجامعة الدول العربية هو الموظف الأعلى في الأمانة العامة، وتكون له درجة أعلى من درجة الوزير، وذلك لدعم نفوذه السياسي في المنظمة.

ويتم تعيينه من خلال مجلس الجامعة الذي ينعقد على مستوى وزراء الخارجية، ويُشترط لتعيين الأمين العام أن يحظى بأغلبية ثلثي الأصوات، إلا أنه في التطبيق الفعلي لاختيار منصب الأمين العام يحدث تشاور بين الأعضاء، ويتم الاتفاق على مرشح واحد دون أن يُعرض على التصويت.

ولا يحدد ميثاق الجامعة مدة معينة لولاية الأمين العام، ولكن استقر العرف على أن يكون التعيين لمدة خمس سنوات، وليس هناك حد لتجديد المدة.

وقد تولى أمانة المجلس ست أمناء حتى الآن، وهم:


الأمين............... الدولة............ المدة




عبد الرحمن عزام.......... مصر

تولّى في الفترة [1364-1372هـ = 1945-1952م].

عبد الخالق حسونة........... مصر

تولى في الفترة [1372-1392هـ = 1952-1972م].

محمود رياض................... مصر

تولى في الفترة [1392-1399هـ = 1972-1979م].

الشاذلي القليبي................... تونس

تولى في الفترة [1399-1409هـ = 1979-1989م].

عصمت عبد المجيد............. مصر

تولى في الفترة [1409-1422هـ = 1989-200e1م].

عمرو موسى................... مصر

الأمين الحالي [1422هـ-… = 2001م-…].


معاهدة الدفاع المشترك

نظرًا لأهمية التعاون العسكري والاقتصادي بين الدول العربية في مواجهة التحالفات والتكتلات العسكرية والاقتصادية الغربية، فقد قررت الدول العربية السبع الموقّعة على ميثاق الجامعة توقيع معاهدة للدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بينها، إذ لم ينص ميثاق الجامعة على ذلك صراحة، وقد تم توقيع تلك المعاهدة في [5 من جمادى الآخرة 1369هـ = 13 من إبريل 1950م].

وأنشئت –بناءً على ذلك- بعض الأجهزة المتعلقة بالأمن الجماعي مثل:

- مجلس الدفاع المشترك: الذي يتكون من وزراء الخارجية والدفاع العرب.

- القيادة العربية المشتركة: وتتكون من قادة جيوش الدول العربية.

- اللجنة العسكرية الدائمة: والتي تضم ممثلي أركان جيوش الدول الأعضاء.

الجامعة والمنازعات العربية

من المهام الرئيسية لجامعة الدول العربية التي نص عليها ميثاقها تسوية المنازعات بين أعضائها، حيث نص في مادته الخامسة على أنه:

"لا يجوز الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين أو أكثر من دول الجامعة، فإذا نشب بينهما خلاف لا يتعلق باستقلال الدولة أو سيادتها أو سلامة أراضيها ولجأ المتنازعون إلى المجلس لفض هذا الخلاف كان قراره عندئذ نافذًا وملزمًا، وفي هذه الحالة لا يكون للدول التي وقع بينها الخلاف الاشتراك في مداولات المجلس وقراراته. ويتوسط المجلس في الخلاف الذي يخشى منه وقوع حرب بين دولة من دول الجامعة وبين دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها للتوفيق بينهما.

وتصدر قرارات التحكيم والقرارات الخاصة بالتوسط بأغلب الآراء".

الجامعة والوساطة

وعندما أعلن الملك "عبد الله" إقامة دولة هاشمية موحدة تحت رئاسته، وتتكون من ضفتي الأردن في [6 من رجب 1369هـ = 24 من إبريل 1950م] أثار الوفد الفلسطيني مسألة ضم الحكومة الأردنية لجزء من أراضي فلسطين إليها، فنجحت الوساطة الثنائية من جانب العراق ولبنان –بناءً على توصية المجلس- في احتواء الموقف، وإنهاء الأزمة –ولو مؤقتًا- وتحقيق المصالحة بين الأطراف المعنية.

وحينما اشتعل النزاع بين العراق والكويت في أعقاب إعلان الكويت استقلالها في [5 من المحرم 1381هـ = 19 من يونيو 1961م]، وتقدمها بطلب للانضمام إلى جامعة الدول العربية في اليوم التالي، ومسارعة حكومة العراق في [11 من المحرم 1381هـ = 25 من يونيو 1961م] بإعلان أن الكويت جزء أصيل من الدولة العراقية، ولاحت بوادر احتمال الغزو العسكري العراقي للكويت -أصدرت الجامعة عدة توصيات لاحتواء تلك الأزمة في [6 من صفر 1381هـ = 20 من يوليو 1961م] دعت فيها الحكومة العراقية إلى الالتزام بعدم استخدام القوة في ضم الكويت إلى العراق، وتأييد كل رغبة تبديها الكويت للوحدة أو الاتحاد مع أي من الدول العربية، ثم أعلن المجلس عن قبول الكويت عضوًا في "جامعة الدول العربية".

كما ساهمت الجامعة العربية في تخفيف التوتر بين مصر وسوريا في أعقاب الانفصال بعد فشل مشروع الوحدة بينهما في [ربيع الآخر 1381هـ = سبتمبر 1961م].

وساهمت كذلك في إنهاء الحرب الأهلية في اليمن والتي بدأت بوادرها منذ عام [1382هـ = 1962م] عقب اغتيال الإمام أحمد، وتولي ابنه "البدر" منصب الإمام، والإطاحة به بعد أسبوع واحد في الانقلاب العسكري الذي تزعمه "عبد الله السلال" القائد العام للحرس الملكي، في [27 من ربيع الآخر 1382هـ = 26 من سبتمبر 1962م]، وتفاقم الصراع بعد تدخّل بعض القوى الخارجية ومساندتها للفريقين المتنازعين؛ حيث قامت السعودية والأردن بمساعدة المَلَكيين، وساعدت مصر الجمهوريين.

وظلت الجامعة تبذل جهودًا متواصلة لاحتواء تلك الأزمة حتى انتهت بعد حرب [ربيع الأول 1387هـ = يونيو 1967م].

إلا أن الجامعة فشلت في احتواء الأزمة بين الجزائر والمغرب على الحدود بين الدولتين في عام [1383هـ = 1963م].

كما أخفقت أيضًا في تسوية النزاع الدائم والمتجدد بين كل من: الجزائر والمغرب وموريتانيا حول إقليم الصحراء المتنازع عليه بينهم.

الجامعة ومعاهدة السلام المصرية

ومع تداعيات معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية تعرضت جامعة الدول العربية لأزمة كبيرة بسبب نقل مقرها من القاهرة إلى تونس، وتعليق عضوية مصر فيها، وظلت الجامعة في تونس لمدة أحد عشر عامًا حتى عادت إلى القاهرة مرة أخرى في [شعبان 1410هـ = مارس 1990م]، ولكنها ما لبثت أن تعرضت لأزمة جديدة نجمت عن الانقسام العربي الخطير الذي حدث في أعقاب الاجتياح العراقي للكويت في [المحرم 1411هـ = أغسطس 1990م].

منقول

عبدالغفور الخطيب
29-04-2007, 05:04 AM
أحمد بن حنبل.. إمام أهل السنة

(في ذكرى وفاته: 12 من ربيع الآخر 241هـ)



كان أحمد بن حنبل واحدًا من أئمة الهدى الذين ازدانت بهم القرون الهجرية الأولى، يلوذ بهم الناس حين تدلهمّ بهم الطرق، وتتشعب بهم السبل، فلا يجدون إلا يدًا حانية، ونورًا هاديًا يأخذهم إلى جادة الطريق، ويلقي بهم إلى بر النجاة.

ينظر الناس إليهم فيجدون دينهم فيهم، وخلقهم وآدابهم ماثلة بين أيديهم، وسنة نبيهم حية ناطقة، كأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال حيا بين ظهرانيهم، وأصحابه المهديين يعيشون بينهم، فيطمئنون إلى سلامة المنهج، وصدق التطبيق.

وكانت حلقاتهم في ساحات المسجد منازل للوحي ومجامع للأفئدة، وملجأ للعقول، يتحلق حولهم تلاميذهم ومن يرغب في سماع تفسير آية أو بيان حديث، أو طلب فتوى، ينزلهم الناس من أنفسهم المحل الأسمى، ويقتدون بهديهم كمن يطلب النجاة لنفسه من خطر داهم، ويستقبلونهم بالبشر والترحاب أينما حلوا كما يُستقبل القادة والفاتحون.

المولد والنشأة

في بيت كريم من بيوت بني شيبان في بغداد وُلد أحمد بن حنبل في (ربيع الأول 164هـ = نوفمبر 780م)، وشاء الله ألا يرى الوالد رضيعه؛ فقد توفي قبل مولده، فقامت أمّه برعايته وتنشئته، وحرصت على تربيته كأحسن ما تكون التربية، وعلى تعليمه فروع الثقافة التي كانت سائدة، فحفظ القرآن الكريم، وانكبّ على طلب الحديث في نهم وحب، يسرع الخطى إلى شيخه قبل أن يسفر الصباح؛ حتى يكون أول من يلقاه من تلاميذه، حتى إذا شبّ عن الطوق انتقل إلى حلقة "أبي يوسف" تلميذ أبي حنيفة، وأول من اعتلى منصب قاضي القضاة، وكانت حلقته آية في السمو والرقي، يؤمها طلاب العلم والعلماء والقضاة على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، وقد لزم أحمد بن حنبل حلقة أبي يوسف أربع سنوات، كتب ما سمعه فيها ما يملأ ثلاثة صناديق، كما لزم حلقة "هشيم بن بشير السلمي" شيخ المحدثين في بغداد، ولا يسمع بعالم ينزل بغداد إلا أقبل عليه وتتلمذ له، فسمع من "نعيم بن حماد"، و"عبد الرحمن بن مهدي"، و"عمير بن عبد الله بن خالد".

رحلاته في طلب العلم

كانت الرحلة في طلب العلم وسماع الحديث من سمات طالبي العلم في هذه الفترة، وكان كبار الفقهاء وشيوخ المحدثين موزعين في أنحاء العالم الإسلامي، لا يختص بهم قطر أو إقليم؛ ولذا كان الطلاب النابهون يقومون بالترحال إليهم، لا يعوقهم عن ذلك قلّة المال أو بُعد المكان.

بدأ أحمد بن حنبل رحلته الميمونة في طلب الحديث سنة (186هـ = 802م) وهو في الثانية والعشرين من عمره، واتجه إلى البصرة، والكوفة والرقّة، واليمن، والحجاز، والتقى بعدد من كبار علماء الأمة وفقهائها العظام، من أمثال: يحيى بن سعيد القطان، وأبي داود الطيالسي، ووكيع بن الجراح، وأبي معاوية الضرير، وسفيان بن عيينة، والشافعي الذي لازمه ابن حنبل وأخذ عنه الفقه والأصول، وكان يقول عنه الإمام الشافعي: "ما رأيت أحدًا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى القرشي".

وكان شغف ابن حنبل بطلب الحديث يجعله يستطيب كل صعب، ويستهين بكل مشقة، لم تمنعه إمامته وعلوّ قدره من الاستمرار في طلبه العلم، ولا يجد حرجًا في أن يقعد مقعد التلميذ بعد أن شهد له شيوخه أو أقرانه بالحفظ والإتقان، يراه بعض معاصريه والمحبرة في يده يسمع ويكتب، فيقول له: "يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين "، فيكون جواب الإمام: "مع المحبرة إلى المقبرة".

جلوسه للتدريس

كان من تصاريف القدر أن يجلس الإمام أحمد للفتيا والتدريس في بغداد سنة (204هـ – 819م) وهي السنة التي توفي فيها الشافعي فكان خلفًا عظيمًا لسلف عظيم، وكان له حلقتان: واحدة في بيته يقصدها تلاميذه النابهون، وأخرى عامة في المسجد، يؤمها المئات من عامة الناس وطلاب العلم، وتُعقد بعد صلاة العصر، وكان الإمام يهش للذين يكتبون الحديث في مجلسه، ويصف محابرهم بأنها سُرُج الإسلام، ولا يقول حديثًا إلا من كتاب بين يديه، مبالغة في الدقة، وحرصًا على أمانة النقل، وهو المشهود له بأن حافظته قوية واعية، حتى صار مضرب الأمثال.

ولزم الإمامَ عدد من تلاميذه النابهين، نشروا علمه، وحملوا فقهه إلى الآفاق، من أشهرهم: أبو بكر المروزي، وكان مقربًا إلى الإمام، أثيرًا عنده، لعلمه وفضله، وصدقه وأمانته، حتى قال عنه الإمام أحمد: "كل ما قاله على لساني فأنا قلته"، ومن تلاميذه: أبو بكر الأثرم، وإسحاق بن منصور التميمي، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وبقي بن مخلد.

مذهب الإمام أحمد

لم يدون الإمام أحمد مذهبه الفقهي، ولم يصنف كتابًا في الفقه، أو أملاه على أحد من تلاميذه، بل كان يكره أن يُكتب شيء من آرائه وفتاواه، حتى جاء أبو بكر الخلال المتوفى سنة (311هـ = 923) فقام بمهمة جمع الفقه الحنبلي، وكان تلميذًا لأبي بكر المروزي، وجاب الآفاق يجمع مسائل الإمام أحمد الفقهية وما أفتى به، فتيسرت له منها مجموعة كبيرة لم تتهيأ لغيره، وقام بتصنيفها في كتابه: "الجامع الكبير" في نحو عشرين مجلدًا، وجلس في جامع المهدي، ببغداد يدرّسها تلاميذه، ومن هذه الحلقة المباركة انتشر المذهب الحنبلي، وتناقله الناس مدونًا بعد أن كان روايات مبعثرة.

ثم قام أبو القاسم الخرقي المتوفى سنة (334هـ = 946م) بتخليص ما جمعه أبو بكر الخلّال في كتاب اشتهر بـ"مختصر الخرقي"، تلقاه الناس بالقبول، وعكف عليه فقهاء الحنابلة شرحًا وتعليقًا، حتى كان له أكثر من ثلاثمائة شرح، كان أعظمها وأشهرها "كتاب المغني" لابن قدامة المقدسي المتوفى سنة (620هـ = 1233م)، ولم يكتف مؤلفه فيه بالشرح وإنما تعداه إلى بيان اختلاف الروايات وذكر الأدلة الفقهية، مرجحًا بينها، وصاغ ذلك في عبارة سلسلة دقيقة المعنى.

ثم جاء الإمام ابن تيمية الجد "عبد السلام بن عبد الله" المتوفى سنة (652هـ = 1254م)، فحرر مسائل المذهب، وألّف كتابه "المحرر" في الفقه، ثم تعددت بعد ذلك كتب المذهب وانتشرت بين الناس.

ويجدر بالذكر أن المذهب الحنبلي هو أوسع المذاهب الإسلامية في إطلاق حرية التعاقد، وفي الشروط التي يلتزم بها الطرفان؛ لأن الأصل عند الإمام أحمد هو جعل معاملات الناس على أصل الإباحة حتى يقوم دليل شرعي على التحريم؛ ومن ثمّ كان في الفقه الحنبلي متسع لنظام المعاملات، يمتاز بالسهولة واليسر وتحقيق المصلحة للناس.

محنة الإمام أحمد

كان الإمام أحمد على موعد مع المحنة التي تحملها في شجاعة، ورفض الخضوع والتنازل في القول بمسألة عمّ البلاء بها، وحمل الخليفة المأمون الناس على قبولها قسرًا وقهرًا دون دليل أو بيّنة.

وتفاصيل تلك المحنة أن المأمون أعلن في سنة (218هـ = 833م) دعوته إلى القول بأن القرآن مخلوق كغيره من المخلوقات، وحمل الفقهاء على قبولها، ولو اقتضى ذلك تعريضهم للتعذيب، فامتثلوا؛ خوفًا ورهبًا، وامتنع أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح عن القول بما يطلبه الخليفة، فكُبّلا بالحديد، وبُعث بهما إلى بغداد إلى المأمون الذي كان في طرسوس، لينظر في أمرهما، غير أنه توفي وهما في طريقهما إليه، فأعيدا مكبّلين إلى بغداد.

وفي طريق العودة قضى محمد بن نوح نحبه في مدينة الرقة، بعد أن أوصى رفيقه بقوله: "أنت رجل يُقتدى به، وقد مدّ الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك؛ فاتق الله واثبت لأمر الله".

وكان الإمام أحمد عند حسن الظن، فلم تلن عزيمته، أو يضعف إيمانه أو تهتز ثقته، فمكث في المسجد عامين وثلث عام، وهو صامد كالرواسي، وحُمل إلى الخليفة المعتصم الذي واصل سيرة أخيه على حمل الناس على القول بخلق القرآن، واتُّخذت معه في حضرة الخليفة وسائل الترغيب والترهيب، ليظفر المجتمعون منه بكلمة واحدة، تؤيدهم فيما يزعمون، يقولون له: ما تقول في القرآن؟ فيجيب: هو كلام الله، فيقولون له: أمخلوق هو؟ فيجيب: هو كلام الله، ولا يزيد على ذلك.

ويبالغ الخليفة في استمالته وترغيبه ليجيبهم إلى مقالتهم، لكنه كان يزداد إصرارًا، فلما أيسوا منه علّقوه من عقبيه، وراحوا يضربونه بالسياط دون أن يستشعر واحد منهم بالخجل وهو يضرب إنسانًا لم يقترف جرمًا أو ينتهك عرضًا أو أصاب ذنبًا، فما بالك وهم يضربون إمامًا فقيهًا ومحدثًا ورعًا، يأتمّ به الناس ويقتدون به، ولم تأخذهم شفقة وهم يتعاقبون على جلد جسد الإمام الواهن بسياطهم الغليطة، حتى أغمي عليه، ثم أُطلق سراحه، وعاد إلى بيته، ثم مُنع من الاجتماع بالناس في عهد الخليفة الواثق (227-232هـ = 841-846م)، لا يخرج من بيته إلا للصلاة، حتى إذا ولي المتوكل الخلافة سنة (232هـ = 846م)، فمنع القول بخلق القرآن، ورد للإمام أحمد اعتباره، فعاد إلى الدرس والتحديث في المسجد.

مؤلفات الإمام أحمد
ترك الإمام أحمد عددًا من المؤلفات يأتي في مقدمتها "المسند"، وهو أكبر دواوين السُّنّة؛ إذ يحوي أربعين ألف حديث، استخلصها من 750 ألف حديث، وشرع في تأليفه بعدما جاوز السادسة والثلاثين.

أما كتبه الأخرى فهي كتاب "الزهد"، وكتاب "السُّنّة"، وكتاب "الصلاة وما يلزم فيها"، وكتاب "الورع والإيمان"، وكتاب "الأشربة"، وكتاب "المسائل"، وكتاب "فضائل الصحابة" وكلها مطبوعة ومتداولة.

وبعد حياة حافلة بجلائل الأعمال توفي الإمام أحمد في (12 من ربيع الآخر 241هـ = 30 من أغسطس 855م) عن سبعة وسبعين عامًا، ودُفن في بغداد.

منقول

عبدالغفور الخطيب
09-05-2007, 03:02 AM
عبيد الله المهدي.. مؤسس الدول الفاطمية

(في ذكرى تأسيس الدولة الفاطمية في المغرب 21/ ربيع الآخر 297هـ )

بدأ الضعف يدب في أوصال الخلافة العباسية السُّنّية، وظهرت أمارات الإعياء على جسدها الواهن، ولاحت آيات الضعف في ملامح الوجه والقسمات، وذلك في مطلع القرن الرابع، بعد أن تفككت الدولة، وصارت دولاً وممالك صغيرة، لا يربطها بدولة الخلافة سوى الاسم والدعاء للخليفة على المنابر.

وشهد هذا القرن بزوغ ثلاث خلافات، تنازعت السلطة في العالم الإسلامي: الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في إفريقية، والخلافة الأموية في قرطبة، وأصبح للعالم الإسلامي -لأول مرة- ثلاثة من الخلفاء في ثلاثة أماكن مختلفة، يقتسمون الحكم، ويتنازعون فيما بينهم.

قيام الدولة الفاطمية

نجح أبو عبد الله الشيعي داعية الإسماعيلية في إعلان قيام الدولة الفاطمية في "رقادة" عاصمة دولة الأغالبة في (21 من ربيع الآخر 297هـ= 8 من يناير 910م)، ومبايعة عبيد الله المهدي بالخلافة، وجاء هذا النجاح بعد محاولات فاشلة قام بها الشيعة منذ قيام الدولة الأموية للظفر بالخلافة.

وقد نجح أبو عبد الله الشيعي منذ أن وطأت قدماه بلاد "كتامة" في المغرب العربي في منتصف ربيع الأول (288هـ= فبراير 901م) في جمع الأتباع، وجذب الأنصار إلى دعوته، مستغلاً براعته في الحديث، وقدرته على الإقناع، وتظاهره بالتقوى والصلاح، ثم صارح بعض زعماء كتامة بحقيقة دعوته بعد أن اطمأن إليهم، وأنه داعية للمعصوم من أهل البيت، ولمَّح إلى أنهم هم السعداء الذين اختارهم القدر ليقوموا بهذه المهمة الجليلة.

وبعد أن أحسن أبو عبد الله الشيعي تنظيم جماعته، والتزموا طاعته، بدأ في مرحلة الصدام مع القوى السياسية الموجودة في المنطقة، فشرع في سنة (289هـ = 901م) في مهاجمة دولة الأغالبة، ودخل معها في عدة معاركة، كان أشهرها معركة "كينوتة" في سنة (293هـ=906م) وعُدَّت نقطة تحوّل في ميزان القوى لصالح أبي عبد الله الشيعي؛ حيث توالت انتصاراته على دولة الأغالبة، فسقطت في يده قرطاجنة، وقسنطينة، وقفصة، ودخل "رقادة" عاصمة الأغالبة في (أول رجب 296هـ = 26 من مارس 909م).

عبيد الله المهدي

لا يستطيع أحد القطع برأي حاسم في نسب "عبيد الله المهدي"، فالشيعة الإسماعيلية يؤكدون صحة نسبه إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، في حين يذهب المؤرخون من أهل السُنّة وبعض خصوم الفاطميين من الشيعة إلى إنكار نسب عبيد الله إلى علي بن أبي طالب.

ولكن على أية حال نحن أمام رجل يسمى عبيد الله، ويدّعي أنه صاحب الحق في إمامة المسلمين، وأنه من سلالة الإمام جعفر الصادق، وقد نجح أحد دعاته في إقامة دولة باسمه في إقليم إفريقية، وجزء كبير من المغرب الأوسط.

خرج عبيد الله المهدي من مكمنه في "سلمية" من أرض حمص ببلاد الشام في سنة (292 هـ = 905م)، واتجه إلى المغرب، بعد الأنباء التي وصلته عن نجاح داعيته أبي عبد الله الشيعي في المغرب، وإلحاح كتامة في إظهار شخصية الإمام الذي يقاتلون من أجله، وبعد رحلة شاقة نجح عبيد الله المهدي في الوصول إلى "سجلماسة" متخفيا في زي التجار، واستقر بها.

ومن ملجئه في سجلماسة في المغرب الأقصى أخذ عبيد الله المهدي يتصل سرًا بأبي عبد الله الشيعي الذي كان يطلعه على مجريات الأمور، ثم لم يلبث أن اكتشف "اليسع بن مدرار" أمير سجلماسة أمر عبيد الله؛ فقبض عليه وعلى ابنه "أبي القاسم" وحبسهما، وظلا في السجن حتى أخرجهما أبو عبد الله الشيعي بعد قضائه على دولة الأغالبة.

وكان أبو عبد الله الشيعي حين علم بخبر سجنهما قد عزم على السير بقواته لتخليصهما من السجن، فاستخلف أخاه "أبا العباس" واتجه إلى سجلماسة، ومر في طريقه إليها على "تاهرت" حاضرة الدولة الرسمية فاستولى عليها، وقضى على حكم الرّستميين، وبلغ سجلماسة فحاصرها حتى سقطت في يده، وأخرج المهدي وابنه من السجن.

ويذكر المؤرخون أن أبا عبد الله الشيعي حين أبصر عبيد الله المهدي ترجّل وقابله بكل احترام وإجلال، وقال لمن معه: هذا مولاي ومولاكم قد أنجز الله وعده وأعطاه حقه وأظهر أمره.

وأقام أبو عبد الله الشيعي وعبيد الله المهدي في سجلماسة أربعين يوما، ثم رحلوا عائدين فدخلوا رقادة في يوم الخميس الموافق (20 من شهر ربيع الآخر 297هـ= 7 من يناير 910م).

وخرج أهل القيروان مع أهل رقادة يرحبون بالإمام المهدي، وفي يوم الجمعة التالي أمر عبيد الله أن يُذكر اسمه في الخطبة في كل من رقادة والقيروان، معلنا بذلك قيام الدولة الفاطمية.

خلاقة عبيد الله الفاطمي

استهدف عبيد الله الفاطمي منذ أن بويع بالخلافة واستقامت له الأمور أن يدعم مركزه، وأن تكون كل السلطات في يديه، وأن يكون السيد المطلق على الدولة الناشئة والدعوة الإسماعيلية، وكان لا بد من أن يصطدم مع أبي عبد الله الشيعي مؤسس الدولة، ولم يجد غضاضة في التخلص منه بالقتل في سنة (298هـ= 911م) بعد أن أقام له دعائم ملكه، وأنشأ دولة بدهائه وذكائه قبل سيفه وقوته.

أثار مقتل أبي عبد الله الشيعي فتنة كبيرة قام بها أتباعه من أهل كتامة، وقدّموا طفلا ادعوا أنه المهدي المنتظر، وامتدت هذه الدعوة وقويت، واضطر عبيد الله إلى إرسال حملة قوية إلى أرض كتامة بقيادة ابنه لقمع هذه الفتنة، فألحق بهم الهزيمة وقتل الطفل الذي ولّوه باسم المهدي.

بناء المهدية

خاب أمل أهل المغرب في عبيد الله المهدي، وساء ظنهم به بعد أن ذهبت الوعود التي وعدهم بها أبو عبد الله الشيعي سُدى، فلم ينقطع الفساد بخلافة المهدي، ولم يحل العدل والإنصاف محل الظلم والجور، بالإضافة إلى السياسة المالية المتعسفة التي انتهجها الفاطميون في جمع الضرائب، والتفنن في تنويعها حتى فرضوا ضريبة على أداء فريضة الحج.

وزاد الأمر سوءا قيام عبيد الله المهدي ودعاته بسبّ الصحابة على المنابر فيما عدا علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، والتغيير في صيغة الأذان، وهو ما لا يمكن أن يقبله شعب نشأ على السنة، وتعصّب لمذهب الإمام مالك.

وكان من نتيجة ذلك أن اشتعلت عدة ثورات ضد عبيد الله المهدي، ولكنه وإن نجح في إخمادها فإنه أصبح غير مطمئن على نفسه في مجتمع يرفض مذهبه ويقاطع دولته مقاطعة تامة؛ ولذا حرص على أن يبعد عن السكنى في رقادة مركز المقاومة السُنّي، وأسس مدينة جديدة عُرفت باسم "المهدية" في سنة (303هـ= 915م) على طرف الساحل الشرقي لإفريقية (تونس) فوق جزيرة متصلة بالبر، ولم ينتقل إليها إلا في سنة (308هـ= 920م) بعد أن استكمل بناءها وتشييدها، وأقام تحصيناتها ومرافقها المختلفة، وأصبحت المهدية قلعة حصينة للفاطميين بالمغرب ومركزا لعملياتهم الحربية والبحرية، وظلت حتى مطالع العصر الحديث أكبر مركز إسلامي للجهاد في البحر المتوسط.

التفكير في غزو مصر

تطلع المهدي إلى فتح مصر والأندلس؛ لأنه رأى أن المغرب لم تسلس له قيادتها، وتشتعل فيها الثورات من وقت لآخر، كما أنها قليلة الموارد، وبدأ في التأهب لفتح هذين الإقليمين؛ فوجه أولى حملاته إلى مصر بقيادة "حباسة بن يوسف" في سنة (301هـ = 913م) فدخل مدينة "سرت" بالأمان، ثم زحف إلى "أجدابية"، واستولى عليها بالأمان، ثم دخل "برقة".

وفي أثناء إقامته ببرقة التقى بالجيوش العباسية، ودارت بينهما عدة معارك انتهت بهزيمة العباسيين، وزحف حباسة نحو الإسكندرية، وأدركه "أبو القاسم بن عبيد الله المهدي" بجيش كبير فدخلا الإسكندرية معا، بعد أن غادرها أهلها، وواصلا الزحف حتى الفيوم، لكن الحملة اضطرت إلى الرجوع والانسحاب بعد ظهور قوات العباسيين بقيادة "مؤنس الخادم"، ثم تكررت المحاولة سنة (307هـ= 919م) ولكن لم يُكتب لها النجاح، كما أن محاولات المهدي لفتح الأندلس باءت بالفشل.

وقد نبهت هذه المحاولات الخلافة العباسية إلى أن استمرار هذه المحاولات يتطلب وجودا عسكريا قويا في مصر، بعد أن اكتشف القائد مؤنس الخدام الذي تصدّى لهذه المحاولات وجود موالين للفاطميين في مصر؛ فأسند العباسيون إلى "ابن طغج الإخشيد" ولاية مصر، بالإضافة إلى ولايته على الشام؛ حتى يتمكن من مواجهة خطط الفاطميين.

وفاة عبيد الله المهدي

وبعد فترة حكم ناهزت ربع قرن من الزمان توفي المهدي في (15 من ربيع الأول 322 هـ= 5 من مارس 934م) وخلفه ابنه أبو القسام محمد، وكانت فترة عبيد الله المهدي بمثابة عهد التأسيس وإرساء القواعد، بعد عهد التمهيد والإعداد على يد الداعي أبي عبد الله الشيعي.


منقول

عبدالغفور الخطيب
28-05-2007, 03:18 AM
أبو حنيفة.. الإمام الأعظم

(في ذكرى وفاته: 11 من جمادى الأولى 150هـ)


نزل الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود مدينة الكوفة عقب إنشائها على عهد عمر بن الخطاب سنة 17 هـ ليعلّم الناس ويفقّههم في دينهم، فالتف الناس حوله، وكان بحرا زاخرا من بحور العلم، وكان متأثرا بطريقة عمر بن الخطاب في الاستنباط والبحث، والأخذ بالرأي عند افتقاد النص، مع الاحتياط والتحري في قبول الحديث النبوي.

وبرز من تلامذة ابن مسعود عدد من الفقهاء الأفذاذ، يأتي في مقدمتهم عبيدة بن قيس السلماني، وعلقمة بن قيس النخعي الذي قال عنه شيخه ابن مسعود: لا أعلم شيئا إلا وعلقمة يعلمه، بالإضافة إلى شُريح الكندي الذي ولي قضاء الكوفة في عهد عمر، واستمر على القضاء اثنتين وستين سنة.

وحمل أمانة العلم من بعدهم طبقة لم يدركوا ابن مسعود، ولكن تفقهوا على يد أصحابه، وكان أبرز هذه الطبقة إبراهيم بن يزيد النخعي، فقيه العراق دون منازع، فضلا عن تمكنه الراسخ في علوم الحديث، وهو ينتمي إلى أسرة كريمة، اشتهر كثير من أفرادها بالنبوغ والاشتغال بالفقه.

وعلى يد إبراهيم النخعي تتلمذ حمّاد بن سليمان، وخلفه في درسه، وكان إماما مجتهدا، كانت له بالكوفة حلقة عظيمة، يؤمها طلاب العلم، وكان من بينهم أبو حنيفة النعمان الذي فاق أقرانه وانتهى إليه الفقه وتقلد زعامة مدرسة الرأي من بعد شيخه، والتفّ حوله الراغبون في الفقه، برز منهم تلامذة بررة، على رأسهم أبو يوسف، ومحمد، وزُفر، وعملوا معه على تكوين المذهب الحنفي.

المولد والنشأة

استقبلت الكوفة مولودها النعمان بن ثابت بن النعمان المعروف بأبي حنيفة سنة (80 هـ 699م) وكانت آنذاك حاضرة من حواضر العلم، تموج بحلقات الفقه والحديث والقراءات واللغة والعلوم، وتمتلئ مساجدها بشيوخ العلم وأئمته، وفي هذه المدينة قضى أبو حنيفة معظم حياته متعلما وعالما، وتردد في صباه الباكر بعد أن حفظ القرآن على هذه الحلقات، لكنه كان منصرفا إلى مهنة التجارة مع أبيه، فلما رآه عامر الشعبي الفقيه الكبير ولمح ما فيه مخايل الذكاء ورجاحة العقل أوصاه بمجالسة العلماء والنظر في العلم، فاستجاب لرغبته وانصرف بهمته إلى حلقات الدرس وما أكثرها في الكوفة، فروى الحديث ودرس اللغة والأدب، واتجه إلى دراسة علم الكلام حتى برع فيه براعة عظيمة مكّنته من مجادلة أصحاب الفرق المختلفة ومحاجّاتهم في بعض مسائل العقيدة، ثم انصرف إلى الفقه ولزم حماد بن أبي سليمان، وطالت ملازمته له حتى بلغت ثمانية عشر عاما.

شيوخه

وكان أبو حنيفة يكثر من أداء فريضة الحج حتى قيل إنه حج 55 مرة، وقد مكنته هذه الرحلات المتصلة إلى بيت الله الحرام أن يلتقي بكبار الفقهاء والحفّاظ، يدارسهم ويروي عنهم، وممن التقى بهم من كبار التابعين: عامر الشعبي المتوفى سنة (103 هـ= 721م)، وعكرمة مولى ابن عباس المتوفى سنة (105 هـ = 723م)، ونافع مولى ابن عمر المتوفى (117هـ= 735م)، وزيد بن علي زين العابدين المتوفى سنة (122هـ = 740م)، ويصل بعض المؤرخين بشيوخ أبي حنيفة إلى 4 آلاف شيخ، وتذكر بعض الروايات أنه التقى ببعض الصحابة الذين عاشوا إلى نهاية المائة عام الأولى، وروى عنهم بعض الأحاديث النبوية وهو بذلك ترتفع درجته إلى رتبة التابعين، على أن الراجح أنه وإن صح أنه التقى بعض الصحابة الذين امتدت بهم الحياة حتى عصره فإنه لم يكن في سن من يتلقّى العلم، ولا سيما أنه بدأ العلم في سن متأخرة وأنه انصرف في بداية حياته إلى العمل بالتجارة.

رئاسة حلقة الفقه

وبعد موت شيخه حماد بن أبي سليمان آلت رياسة حلقة الفقه إلى أبي حنيفة، وهو في الأربعين من عمره، والتفّ حوله تلاميذه ينهلون من علمه وفقهه، وكانت له طريقة مبتكرة في حل المسائل والقضايا التي كانت تُطرح في حلقته؛ فلم يكن يعمد هو إلى حلها مباشرة، وإنما كان يطرحها على تلاميذه، ليدلي كل منهم برأيه، ويعضّد ما يقول بدليل، ثم يعقّب هو على رأيهم، ويصوّب ما يراه صائبا، حتى تُقتل القضية بحثا، ويجتمع أبو حنيفة وتلاميذه على رأي واحد يقررونه جميعا.

وكان أبو حنيفة يتعهد تلاميذه بالرعاية، وينفق على بعضهم من ماله، مثلما فعل مع تلميذه أبي يوسف حين تكفّله بالعيش لما رأى ضرورات الحياة تصرفه عن طلب العلم، وأمده بماله حتى يفرغ تماما للدراسة، يقول أبو يوسف المتوفى سنة (182هـ = 797م): "وكان يعولني وعيالي عشرين سنة، وإذا قلت له: ما رأيت أجود منك، يقول: كيف لو رأيت حمادا –يقصد شيخه- ما رأيت أجمع للخصال المحمودة منه".

وكان مع اشتغاله يعمل بالتجارة، حيث كان له محل في الكوفة لبيع الخزّ (الحرير)، يقوم عليه شريك له، فأعانه ذلك على الاستمرار في خدمة العلم، والتفرغ للفقه.

أصول مذهبه

نشأ مذهب أبي حنيفة في الكوفة مهد مدرسة الرأي، وتكونت أصول المذهب على يديه، وأجملها هو في قوله: "إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فيها أخذت بقول أصحابه من شئت، وادع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب فلي أن أجتهد كما اجتهدوا".

وهذا القدر من أصول التشريع لا يختلف فيه أبو حنيفة عن غيره من الأئمة، فهم يتفقون جميعا على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة لاستنباط الأحكام منهما، غير أن أبا حنيفة تميّز بمنهج مستقل في الاجتهاد، وطريقة خاصة في استنباط الأحكام التي لا تقف عند ظاهر النصوص، بل تغوص إلى المعاني التي تشير إليها، وتتعمق في مقاصدها وغاياتها.

ولا يعني اشتهار أبي حنيفة بالقول بالرأي والإكثار من القياس أنه يهمل الأخذ بالأحاديث والآثار، أو أنه قليل البضاعة فيها، بل كان يشترط في قبول الحديث شروطا متشددة؛ مبالغة في التحري والضبط، والتأكد من صحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التشدد في قبول الحديث هو ما حمله على التوسع في تفسير ما صح عنده منها، والإكثار من القياس عليها حتى يواجه النوازل والمشكلات المتجددة.

ولم يقف اجتهاد أبي حنيفة عند المسائل التي تعرض عليه أو التي تحدث فقط، بل كان يفترض المسائل التي لم تقع ويقلّبها على جميع وجوهها ثم يستنبط لها أحكاما، وهو ما يسمى بالفقه التقديري وفرص المسائل، وهذا النوع من الفقه يقال إن أبا حنيفة هو أول من استحدثه، وقد أكثر منه لإكثاره استعمال القياس، روي أنه وضع ستين ألف مسألة من هذا النوع.

تلاميذ أبي حنيفة

لم يؤثر عن أبي حنيفة أنه كتب كتابا في الفقه يجمع آراءه وفتاواه، وهذا لا ينفي أنه كان يملي ذلك على تلاميذه، ثم يراجعه بعد إتمام كتابته، ليقر منه ما يراه صالحا أو يحذف ما دون ذلك، أو يغيّر ما يحتاج إلى تغيير، ولكن مذهبه بقي وانتشر ولم يندثر كما اندثرت مذاهب كثيرة لفقهاء سبقوه أو عاصروه، وذلك بفضل تلاميذه الموهوبين الذين دونوا المذهب وحفظوا كثيرا من آراء إمامهم بأقواله وكان أشهر هؤلاء:

أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم المتوفى (183هـ = 799م) وهو يعدّ أول من دوّن الكتب في مذهب أبي حنيفة، ووصل إلينا من كتبه "الآثار"، وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، وساعده منصبه في القضاء على أن يمكّن لمذهب أبي حنيفة الذيوع والانتشار.

محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة (189هـ = 805م) وهو يعد صاحب الفضل الأكبر في تدوين المذهب، على الرغم من أنه لم يتتلمذ على شيخه أبي حنيفة إلا لفترة قصيرة، واستكمل دراسته على يد أبي يوسف، وأخذ عن الثوري والأوزاعي، ورحل إلى مالك في المدينة، وتلقى عنه فقه الحديث والرواية.

تدوين المذهب

وصلت إلينا كتب محمد بن الحسن الشيباني كاملة، وكان منها ما أطلق عليه العلماء كتب ظاهر الرواية، وهي كتب المبسوط والزيادات، والجامع الكبير والجماع الصغير، والسير الكبير والسير الصغير، وسميت بكتب ظاهرة الرواية؛ لأنها رويت عن الثقات من تلاميذه، فهي ثابتة عنه إما بالتواتر أو بالشهرة.

وقد جمع أبو الفضل المروزي المعروف بالحاكم الشهيد المتوفى سنة (344هـ = 955م) كتب ظاهر الرواية بعد حذف المكرر منها في كتاب أطلق عليه "الكافي"، ثم قام بشرحه شمس الأئمة السرخسي المتوفى سنة (483هـ = 1090م) في كتابه "المبسوط"، وهو مطبوع في ثلاثين جزءا، ويعد من أهم كتب الحنفية الناقلة لأقوال أئمة المذهب، بما يضمه من أصول المسائل وأدلتها وأوجه القياس فيها.

انتشار المذهب

انتشر مذهب أبي حنيفة في البلاد منذ أن مكّن له أبو يوسف بعد تولّيه منصب قاضي القضاة في الدولة العباسية، وكان المذهب الرسمي لها، كما كان مذهب السلاجقة والدولة الغرنوية ثم الدولة العثمانية، وهو الآن شائع في أكثر البقاع الإسلامية، ويتركز وجوده في مصر والشام والعراق وباكستان والهند والصين.

وفاة أبي حنيفة

مد الله في عمر أبي حنيفة، ورزقه الله القبول، وهيأ له من التلاميذ النابهين من حملوا مذهبه ومكنوا له، وحسبه أن يكون من بين تلاميذه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر، والحسن بن زياد، وأقر له معاصروه بالسبق والتقدم، قال عنه النضر بن شميل: "كان الناس نياما عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبيّنه"، وبلغ من سمو منزلته في الفقه أن قال الشافعي: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة".

كما كان ورعا شديد الخوف والوجل من الله، وتمتلئ كتب التاريخ والتراجم بما يشهد له بذلك، ولعل من أبلغ ما قيل عنه ما وصفه به العالم الزاهد فضيل بن عياض بقوله: "كان أبو حنيفة رجلا فقيها معروفا بالفقه، مشهورا بالورع، واسع المال، معروفا بالأفضال على كل من يطيف به، صبورا عل تعليم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام، فكان يحسن أن يدل على الحق، هاربا من مال السلطان".

وتوفي أبو حنيفة في بغداد بعد أن ملأ الدنيا علما وشغل الناس في (11 من جمادى الأولى 150 هـ = 14 من يونيو 767م).

منقول

عبدالغفور الخطيب
18-06-2007, 03:04 AM
محمد الأمين ضحية الفتنة الثالثة

(في ذكرى توليه الخلافة 3 من جمادى الآخرة 193 هـ)





كان "محمد الأمين" ضحية فتنة من أكبر الفتن التي شهدها التاريخ الإسلامي على مر العصور، وهي ثالث فتنة يتعرض لها المسلمون بعد الفتنة الكبرى، التي ثارت في عهد الخلفاء الراشدين، والتي انتهت بمقتل الخليفة "عثمان بن عفان"، وكانت الفتنة الثانية في عهد الأمويين، وذلك بعد وفاة "معاوية بن أبي سفيان".

سقط محمد الأمين ضحية نظام ولاية العهد الثنائي، الذي ذهب ضحيته الخليفة "الوليد" من قبل، وكانت النتيجة واحدة في الحالتين: حياة قلقة مضطربة لخليفة مضطهد، تنتهي بصورة درامية مفزعة بحز رأسه، ثم لا يبقى من ذكراه سوى سطور مبهمة وأقوال متضاربة في سجل التاريخ.

ميلاده ونشأته

ولد محمد الأمين بن هارون الرشيد سنة (170 هـ = 786م)، وهي السنة نفسها التي استُخلف فيها أبوه الرشيد، وكان مولده عقب مولد أخيه المأمون بنحو ستة أشهر، وكان المأمون قد ولد في الليلة التي استُخلف فيها الرشيد.

وأم الأمين هي "زبيدة بنت جعفر بن المنصور"، بينما كانت أم أخيه المأمون جارية فارسية تُدعى "مراجل"، ما لبثت أن تُوفيت بعد أيام من ولادته متأثرة بحُمّى النفاس.

نشأ الأمين في ظلال بيت ترف عليه أبهاء الخلافة وجلالها، يرفل في النعيم والسعادة، وينعم بطفولة مرحة سعيدة، ويتمتع برعاية أمه زبيدة، وقد اجتمع له ما لا يجتمع لأحد من أبناء الخلفاء؛ فقد كان هاشمي الأبوين، كما جمع بين سلطان أبيه، وجاه أخواله، وثراء أمه.

واتخذ له أبوه المربين والمعلمين لتأديبه وتعليمه، وكان ممن اختارهم "قطرب" النحوي، و"حماد عجرد" راوية العرب الشهير.

وعُرف الأمين منذ حداثة سنه بتوقد الذهن وفصاحة اللسان، وخفة الروح؛ وكان سريع البديهة، حاضر الجواب، ظريف النكتة، حلو التندر، لطيف الدعابة، كما كان سخيا، بل يصفه الكثيرون بأنه كان مسرفًا في السخاء، غير أنه كان يميل إلى العبث والاستهتار.

وقد ذكر الطبري وغيره أخبارًا ترميه بالسفه والجهل والإهمال، وهو ما لا يقبله العقل، ولا يتفق مع ما عُرف به الرشيد من الحكمة والحزم حتى يجعل أمر المسلمين من بعده لسفيه أو أحمق.

البيعة للأمين بولاية العهد

لم يكد الأمين يبلغ الخامسة من عمره حتى اجتهدت أمه زبيدة وأخواله في أن تؤول إليه ولاية العهد، لتكون الخلافة له من بعد أبيه.

وبالرغم من أن الرشيد كان يتوسم النجابة والرجاحة في "عبد الله المأمون"، ويقول: "إن فيه حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو شئت أن أقول الرابعة مني لقلت"- فإنه قدَّم محمدا بن زبيدة على أخيه الأكبر المأمون، مع علمه أن متبع هواه. ولعل رغبة أمراء البيت لعباسي واجتماعهم على تولية الأمين كانت وراء نزول الرشيد على رأيهم، وتحقيق تلك الرغبة التي اجتمعوا عليها.

وكانت حجتهم في ذلك أن الأمين هاشمي الأبوين، وأن ذلك لم يجتمع لغيره من خلفاء بني العباس، وكان يؤجج تلك الرغبة كرههم لـ"آل برمك" الذين استأثروا بالرشيد، ونالوا لديه حظوة ومكانة كبيرة.

استدعى الرشيد الأمراء والقواد ورجال الحاشية، وطلب الفقهاء ليُشهدهم على قراره الخطير الذي عقد عليه العزم، وهو البيعة لابنه الثاني "محمد الأمين". وفي يوم الخميس (6 من شعبان 175 هـ = 8 من ديسمبر 791 م) عقد الرشيد مجلس البيعة، وأخذت لمحمد البيعة، ولقبه أبوه بـ"الأمين"، وولاه في الحال على بلاد الشام والعراق، وجعل ولايته تحت إدارة مربيه "الفضل بن يحيى البرمكي".

دور البرامكة في ولاية العهد للمأمون

وبالرغم من عدم معارضة البرامكة في مسألة ولاية عهد الرشيد لابنه الأمين وسعيهم- في أول الأمر- إلى تزكية هذا الاختيار وتزيينه للرشيد ودفعهم له إلى إتمامه، فإنهم ما لبثوا أن شعروا بأنهم أساءوا الاختيار، وخصوصًا عندما أصبح الأمين شابًّا يافعًا، وبعد ظهور نفوذ أمه "زبيدة"، التي أصبحت تنقم على البرامكة ما صاروا إليه من النفوذ والسلطان في بلاط الرشيد، وتسعى إلى استقطاب العنصر العربي في مواجهة تصاعد النفوذ الفارسي ممثلا في البرامكة. وتفاقم الصراع الذي اتخذ صورة قومية داخل البلاط بين العرب والفرس.

عندئذ بدأ البرامكة يعيدون النظر في مسألة ولاية العهد، فاستخدموا نفوذهم، واستغلوا قربهم من الرشيد ومنزلتهم عنده في إيجاد منافس للأمين وأمه زبيدة، ووجدوا بغيتهم في شخص "المأمون" الأخ الأكبر، خاصة أن أمه فارسية.

واستطاع البرامكة أن يجعلوا الرشيد يعقد البيعة لولده "عبد الله المأمون"، على أن تكون ولاية العهد له من بعد أخيه الأمين، وذلك في سنة (182 هـ = 798م)، بعد مضي نحو ثماني سنوات من بيعته الأولى للأمين.

وأخذ "الرشيد" على ولديه "الأمين" و"المأمون" المواثيق المؤكدة، وأشهد عليهما، ثم وضع تلك البيعة في حافظة من الفضة، وعلقها في جوف الكعبة.

بعد ذلك بأربعة أعوام في سنة (186 هـ = 802م) عقد الرشيد ولاية العهد لابنه "القاسم" من بعد أخويه، ولقبه بـ"المؤتمن".

نكبة البرامكة والطريق إلى العرش

وإزاء تعاظم نفوذ البرامكة، واحتدام الصراع بين الفريقين، بدأت الأمور تتخذ منحىً جديدًا، بعد أن نجحت الدسائس والوشايات في إيغار صدر الرشيد على البرامكة، وذلك بتصويره بمظهر العاجز أمام استبداد البرامكة بالأمر دونه، والمبالغة في إظهار ما بلغه هؤلاء من الجرأة على الخليفة، وتحكُّمِهم في أمور الدولة؛ حتى قرر الرشيد التخلص من البرامكة ووضع حد لنفوذهم.

ولم يكن ذلك بالأمر الهين أو المهمة السهلة؛ فقد تغلغل البرامكة في كل أمور الدولة، وصار لهم كثير من الأنصار والأعوان، فاتبع الرشيد سياسة الكتمان، واستخدم عنصر المفاجأة؛ حتى يلحق بهم الضربة القاضية.

وفي ليلة السبت (أول صفر 187 هـ = 29 من يناير 803م)، أمر رجاله بالقبض على البرامكة جميعًا، وأعلن ألا أمان لمن آواهم، وأخذ أموالهم وصادر دورهم وضياعهم. وفي ساعات قليلة انتهت أسطورة البرامكة وزالت دولتهم، وتبدت سطوة تلك الأسرة التي انتهت إليها مقاليد الحكم وأمور الخلافة لفترة طويلة من الزمان، تلك النهاية المأساوية التي اصطُلح على تسميتها في التاريخ بـ"نكبة البرامكة".

وكان لتلك النكبة أكبر الأثر في إثارة شجون القومية الفارسية، فعمدت إلى تشويه صورة الرشيد ووصفه بأبشع الصفات، وتصويره في صورة الحاكم الماجن المستهتر الذي لا همّ له إلا شرب الخمر ومجالسة الجواري، والإغراق في مجالس اللهو والمجون؛ حتى طغت تلك الصورة الظالمة على ما عُرف عنه من شدة تقواه وحرصه على الجهاد والحج عامًا بعد عام، وأنه كان يحج ماشيًا ويصلي في كل يوم مائة ركعة.

وفي أواخر سنة (192 هـ = 808م) خرج الرشيد لحرب "رافع بن الليث"، واستخلف على بغداد ابنه الأمين، وفي الطريق مرض الرشيد، وما لبث أن اشتد عليه المرض، وفاضت روحه في (3 من جمادى الآخرة 193م = 24 من مارس 809م)، فتولى الخلافة من بعده ابنه "محمد الأمين".

خلافة الأمين والصراع بين الأخوين

تولى الأمين الخلافة وعمره ثلاث وعشرون سنة، ولكن لم تتم له البيعة إلا في (منتصف جمادى الآخرة 193م = 4 من إبريل 809م).

وقد أدى تولي الأمين الخلافة إلى إثارة الفتنة بينه وبين أخيه المأمون، ومما زكّى نار هذه الفتنة وقوع التنافس بين رجلين قويين كان أحدهما الوزير "الفضل بين الربيع"، الذي يسيطر على الأمين، والآخر هو "الفضل بن سهل"، الذي يسيطر على المأمون، بالإضافة إلى اتخاذ العنصر العربي والفارسي من ابني الرشيد رمزًا للصراع بين العرب والعجم، والتفاف كل فريق حول صاحبه.

واستطاع الفضل بن الربيع إقناع الأمين بعزل أخيه المأمون من ولاية العهد، وأن يجعلها في ابنه "موسى بن الأمين"، ثم ما لبث أن خلع أخاه المؤتمن من ولاية العهد.

ومن ناحية أخرى عمل الفضل بن سهل على توسيع هوة الخلاف بين الأخوين، وحرص المأمون على الاستقلال بخراسان.

وأعلن الأمين البيعة بولاية العهد لابنه موسى وسماه "الناطق بالحق"، وأمر بالدعاء له على المنابر بعده، وقطع ذكر المأمون والمؤتمن. وبذلك يكون قد نكث عما أخذه عليه أبوه الرشيد من عهود ومواثيق.

وقد أثار موقف الأمين من أخيه غضب أهل خرسان؛ فانحازوا إلى المأمون ضد أخيه، وكان على رأس المؤيدين "هرثمة بن أعين" قائد الجند، و"طاهر بن الحسين" الذي خرج على رأس جيش كبير معظمه من الفرس من خراسان. وفي المقابل جهز الأمين جيشًا مكونا من ثمانين ألف مقاتل معظمهم من عرب البادية، وجعل عليه "علي بن عيسى"، وكان يكره أهل خراسان؛ لأنهم دسوا عليه عند الرشيد، فعزله من ولاية خراسان وحبسه، حتى أطلقه الأمين واتخذه قائدًا لجيشه.

والتقى الجيشان على مشارف "الري"، ودارت بينهما معركة عنيفة، كان النصر فيها حليفًا لجيش المأمون بقيادة "طاهر بن الحسين"، وقُتل "علي بن عيسى" قائد جيش الأمين.

وأعلن طاهر بن الحسين خلع الأمين، ونادى بالبيعة للمأمون بالخلافة؛ فأرسل الأمين جيشًا آخر قوامه عشرون ألف مقاتل، وجعل على رأسه "عبد الرحمن بن جبلة الأبنادي"، لكنه لقي هزيمة منكرة وقُتل الكثير من جنوده، وما لبث أن قُتل.

وأرسل الأمين جيشًا ثالثًا بقيادة "أحمد بن مزيد" على رأس أربعين ألف مقاتل من عرب العراق، ولكن طاهر بن الحسين استطاع أن يبث جواسيسه داخل ذلك الجيش فأشاعوا الفرقة بين قواده وجنوده حتى اقتتلوا وانسحبوا عائدين قبل أن يلقوا خصومهم.

ولم يستطع الأمين أن يجهز جيشًا آخر لملاقاة أهل خراسان، بعد أن رفض الشاميون السير معه، وانضم عدد كبير من جنوده وأعوانه إلى خصومه، وفر كثير منهم إلى المدائن.

حصار بغداد وسقوط الأمين

وقد سادت الفوضى والاضطراب "بغداد" عاصمة الخلافة؛ حتى قام "الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان" بانقلاب ضد الأمين، وأعلن خلعه من الخلافة، وحبسه هو وأمه زبيدة في قصر المنصور في (رجب 196 هـ = مارس 812م)، وأعطى بيعته للمأمون، لكن فريقًا من أنصار الأمين استطاعوا تخليصه من الأسر، وأعادوه إلى قصر الخلافة.

وتقدم جيش المأمون نحو بغداد فحاصرها خمسة عشر شهرًا، وضربها بالمجانيق حتى أصيبت بأضرار بالغة، وتهدمت أسوارها، وأصابها الخراب والدمار، وسادت فيها الفوضى، وعمت المجاعات حتى اضطر الأمين إلى بيع ما في خزائنه للإنفاق على جنوده وأتباعه.

وبدأت المدينة تتهاوى حتى سقطت أمام جنود المأمون، وتم القبض على الأمين ووضعه في السجن. وفي ليلة (25 من المحرم 198 هـ = 25 من سبتمبر 813م) دخل عليه جماعة من الفرس في محبسه، فقتلوه ومثّلوا بجثته.

وانتقلت الخلافة إلى أخيه المأمون بعد نحو خمسة أعوام من الصراع المرير والدامي بين الأخوين، أزكت نيرانه العصبية القومية، وأججته تلك القوى الخفية التي سعت إلى بث الفرقة وزرع الشقاق بين أبناء الأمة، وخلق بؤر متجددة للصراع بين أبناء الدين الواحد.


منقول

عبدالستار الراشدي
25-06-2009, 03:59 PM
جهد عظيم بارك الله في جهود الخيرين منكم ووفقهم